القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية فراشة في سك العقرب الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم ناهد خالد حصريه

 


رواية فراشة في سك العقرب الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم ناهد خالد حصريه 




رواية فراشة في سك العقرب الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم ناهد خالد حصريه 




- فُل, فُل يا باشا. 

نظر من نافذة سيارته نحو مصدر الصوت مقررًا صرفها فلا خُلق له للباعة المتجولين هؤلاء والآن تحديدًا لا يحتمل النفس الخارج منه حتى, لكنه ابتلع كلماته حين أبصر فتاة ببشرة سمراء جميلة وشعر غجري مجعد يصل لمنتصف ظهرها, وعينان بنيتان بدرجة فاتحة تجذب الأنظار لها ليخر الناظر صريعًا بهما, ملامح جميلة ينقصها فقط بعض النظافة, هكذا حدث نفسه قبل أن يستفيق على صوتها تقول بابتسامة ودودة:


- خدلك فُل يسعد نهارك. 


ابتسم جانب فمه ابتسامة ساحرة رغم نظرته الثعلبية وهو يغمغم:


- لا مهو نهاري اتسعد خلاص, اسمك ايه يا حلوة؟ 


قطبت ما بين حاجبيها بضيق بعدما اختفت ابتسامتها وهي تردد مستهجنة:


- وتعرف اسمي ليه؟ لو معجبكش مش هتشتري!؟ 


ضحك بخفوت عليها ونظر لها بعينيه البندقيتين وهو يجيبها بهدوء:


- لا, الموضوع ملوش علاقة بالفُل. 


فُتحت إشارة المرور, ليُجبر على التحرك بعد تعالي أصوات زمور السيارات خلفه, ليتحرك فورًا بالسيارة لكن عيناه لم تفارق المرآة الخلفية ليرى لأين ذهبت, حتى صف السيارة بجانب الطريق, وترجل منها على الفور راكضًا للجهة الأخرى حيث تقف في الإشارة المعاكسة تمارس عملها, وصل لها فجذبها من كفها بغتة جعلتها تنتفض وهي تصرخ بهِ:


- ابعد ايدك يا جدع انتَ, انتَ اتجننت؟


رفع كفيهِ مستسلمًا وقال:


- مقصدش, انتِ بس كنتِ هتمشي فوقفتك مانا معرفش اسمك. 


تجاهلت حديثه ورفعت عقود الفُل أمام عينيه تسأله:


- عاوز عقد ولا اتنين؟ 


ضيق عينيه ناظرًا للعقد في يدها قبل أن يسألها:


- بتبعيه بكام؟ 


ابتسمت بسعادة وهي تراه على وشك الشراء, فهي اليوم كان حظها عاثر ولم تبيع عقدًا واحدًا, وقالت ببهجة:


- العقد ب 50 جنية, بس ده عقد بلدي وريحته فواحة حتى شم. 


قالتها مقربة العقد من وجهة ليصدمه عبيره الرائع, ليبتسم لها بلامبالاة لِمَ تعرضه, وقال بنبرة جادة هادئة:


- واللي يديكي 50 الف جنية؟ 


امتعضت ملامحها واختفت ابتسامتها وهي تنهره:


- انتَ جاي تهزر يا بيه, روح شوف حالك الله لا يسيئك. 


كادت تتحرك من أمامه ليتحرك فورًا واقفًا أمامها يقول بجدية:


- انا مبهزرش, مصلحة... مصلحة هتطلعي منها ب 50 الف جنية. 


التمعت عيناها لوهلة بالشغف, لكن سرعان ما انطفاء وهيجها وهي تسأله بسخرية:


- وايه المقابل؟ غرضك ايه؟ 


- غرضي شريف, مش أي حاجه ممكن تيجي في بالك, انا ضابط على فكرة. 


انهى جملته وأخرج هويته من محفظته ورفعها أمامها يكمل:


- يعني مفيش مني قلق. 


تمايلت في وقفتها ساخرة:


- مفيش منك قلق؟ طب ده انا كده قلقت اكتر. 


- اسمعي بس, كل الحكاية مصلحة خفيفة ممكن تاخد منك قولي أسبوعين او شهر, انتِ وشطارتك, وبعدها الفلوس تكون في ايدك, واقولك هديكي 50 الف مقدم, و50 الف بعد ما المصلحة تتم. 


جحظت عيناها وهي تردد بفاه فاغر:


- 100 الف؟؟ ليه كل ده؟! انا هفتح عكا! 


- لا, اهم, هبعتك لواحد كل مهمتك تجيبلي منه اللي هطلبه منك, من غير ما يحس بيكي, ولا يكشفك, وعلى فكرة ده مجرم, يعني انتي كمان بتعملي عمل وطني.


شردت بنظرها بعيدًا تردد مشدوهة:


- عمل وطني!!


"

المقدمة:

السكُّ هو المسكن أو الجحر, مكان ضيق جدًا لا يتعدى سنتيمترات قليلة جدًا, وسكُّ العقرب هو جحره الذي يقضي فيهِ معظم وقته ولا يخرج منه سوى لاصطياد فريسته والذي غالبًا ما يكون في شقوق تحت الأرض, لا يمكن الوصول إليها سوى برغبته حين يصطاد فريسته وإن أراد أن يصطحبها معه للسكُّ للاستمتاع بتناولها.


وهو عقرب, لا يدخل لجحره سوى من اصطادها فريسة, ولا يصل لدهاليزه سوى ضحاياه, ولأن جحره لا يعلم أحد مخابئه غيره, فحركة نملة صغيرة بهِ يستطيع هو رصدها.


والعقرب اسمًا وليس فقط صفة, اسمًا عُرف بهِ وسط اعدائه وحلفاؤه, اسمًا يهتز له البدن, ويرتبك له العقل, والجميع يتحاشاه, حتى اعدائه يحاربونه في الخفاء, وكل حرصهم ألا يعرف من أين أتت الضربة.


وهي فراشة, ليست في رقتها, لكنها في ضعفها, وهشاشتها, فراشة لا يمكنها أبدًا أن تدلف لسكُّ العقرب وتخرج بخير, ولن يكن مصيرها سوى الالتهام وليتها تكون وجبة, بل ستكون تحلية بعد وجبة دسمة لذيذة.


فراشة إن كانت تدرك حقيقة ما تورط نفسها بهِ لِمَ فعلت ابدًا, لكن الجهل نقمة.


#فراشة_في_سكُّ_العقرب



الفصل الأول 

"فراشة في سكُّ العقرب" 

تسوقك الأقدار إلى حيثُ لا تدري, وأحيانًا تظن أن الأمر كان باختيارك, لكن الحقيقة أنك مسير ولست مخير, فالتقاء شخصين لا يخضع ابدًا لجهود مبذولة منهم, بل يخضع تمامًا للقدر وترتيباته, هو من سوريا وهي من العراق والتقوا في لبنان, أين الجهد المبذول؟ هي ترتيبات قدرية, ساقت أبناء الدولتين الضحيتين لوطأة الحرب, ولمصالح أشخاص عدائية ونفوس مريضة, لدولة ثالثة تقع ضمن قائمة الضحايا لنفس السبب, والثلاثة لهم الله حين تغيب رحمة خلقه.


 دعس عقب سيجارته المتبقي تحت قدمه وبحذائه الرياضي ذو اللون الأبيض, قبل أن يزفر نفسه المحمل بالدخان بحده وقوة, وعيناه تحمل غضبًا وشرًا لا يحتمله, فمنذُ أخبره أحد رجاله بخبر فشل الإخبارية التي جاءته عن صفقة أسلحة سيقوم الأخير بها وهو يأكل نفسه, لا يتحمل خسارة جديدة أمامه غريمه, رنين هاتفه أخرجه من شروده ليتجه لمكتبه يلتقط الهاتف لتجهم ملامحه وهو يرى الاسم المدون عليه, بالطبع المكالمة غرضها الوحيد والأوحد هو الشماتة, لكنه لن يهرب من مواجهة خسارته, فلا ينقص أن يظهر أمامه جبانًا. 


- كنت مستني مكالمتك على فكرة.


اغمض جفونه بقوة معتصرًا إياهم على صوت ضحكات الأخير الساخرة قبل أن يسمع صوته الذي يمقته وهو يقول:


- مانا قولت اتصل اطمن عليك بعد الصدمة, لاحسن تكون جاتلك ذبحة ولا حاجة. 


فتح عينيه والنيران تأكلهما, وقال محاولاً أن تكن نبرته باردة:


- الجايات اكتر, مرة ليك ومرة ليا.


أتاه رد العابث وهو يقول:


- بس هي على طول ليا, نفسي في مرة اشوفها ليك. 


أطاح بكفه دباسة الأوراق الموجودة فوق مكتبه يفرغ فيها غضبه, وغمغم بهدوء عكس اشتعاله:


- أصل المرة اللي هتكون ليا هتكون الأخيرة.


سخر منه يقول:


- احلى حاجة فيك إن ثقتك في نفسك مبتتهزش رغم خسارتك كل مرة, وانا بحب الناس دي جدًا خلي في علمك. 


احتدت نبرته وهو يجيبه:


- ميهمنيش تحبني, يهمني تعرف إن الشاطر هو اللي بيضحك في الآخر, وانا اللي هضحك يا بن المنشاوي.

قهقه عاليًا وهو يبادله القول:


-  وانا منتظر يا بن عمران, بس منتظر خسارتك حتى في النهاية, عشان لا عاش ولا كان اللي يقف في وش شاهين المنشاوي ويكسب... قصدي ويضحك في الآخر. 


وانتهت المكالمة بينهما, ليلقي بالهاتف فوق المكتب وبعدها تكسر يده كل ما تطوله حتى أصبحت غرفة المكتب كأنها أصيب بزلزال, قبل أن يلتقط سلاحه يضعه في حزامه وهو يتجه للخارج تاركًا شقته قاصدًا الذهاب لعمله, يجب أن يتحدث مع اللواء كي لا يغلق القضية بعد فشل اخباريته حول الصفقة, ويستعد لقائمة طويلة من التعنيف الذي سيحل بهِ. 


************* 

حملت عقود الفُل وخرجت من المنزل قبل أن تستيقظ والدتها, فهي تخرج في السابعة صباحًا لتلحق دورها في إشارة المرور, فالقانون هكذا, من يصل أولاً هو من يحق له الوقوف والآخر يذهب لإشارة أخرى, وهي ليست حمل التنقل فهي متعبة منذ يومين بعد أن أصابها دور انفلونزا مكثت على أثره يوم كامل بالمنزل, والمنزل ليس كم تتوقع, فهو مجرد غرفتان فوق سطح أحد البنايات المتهالكة والتي عفى عليها الزمن, غرفة تأويها هي ووالدتها وغرفة للمطبخ وتحوي الصالون الذي يتمثل في كرسيين متهالكين وطاولة صغيرة وتلفاز يرجع صنعه للتسعينات, وركن ضئيل يتمثل في الحمام, وهذه هي كل الشقة.. 

نزلت من البناية التي تتكون من ثلاث طوابق, وحملت عقود الفل على كتفها, تسير بوجه مبتسم رغم الهموم, وبشاشة لا تناسب ظروفها البائسة, لكنها تعلم أن الهم والنكد لن يحسن ظروفها ولن يزيل همومها. 


وقفت أمام عربة الفول التي تأكل منها يوميًا وابتسمت وهي تقول:


- صباح الفل يا عم محمود.


رد الرجل البشوش:


- يسعد صباحك يا فلة طلبك هحضره حالاً.


"فلة" ليس اسمها الحقيقي لكن كنية أطلقوها عليها نسبة لعملها, تبسمت وهي تلتقط منه طبق الفول والبصلة الخضراء ورغيفان الخبز, ثم سألته:


- زودت الشطة؟ 


- عيب عليكي, ملهلب. 


- تسلم ايدك يا عم محمود. 


رددتها بشهية وهي تلتقم أول لقمة طعام, وهمهمت بتلذذ رغم حرقان فمها من الشطة, لكن هذا هو زوقها, انهت طعامها وركضت سريعًا حتى وصلت للإشارة, وبعد ثواني أتت فتاة في نفس عمرها تقريبًا, لتقول بضيق:


- ايه يا فلة هو انتِ كل يوم هنا؟ 


نظرت لها "فلة" بعلياء وهي تقول:


- وانا كنت في بيتكوا, ايه كل يوم هنا دي؟ بعدين انا جيت قبلك يا حلوة, اجري شوفيلك مكان تاني. 


اشتعل الغضب فيها وهي تشيح بذراعها مرددة بصوت عالي:


- انتِ كمان لسه واصلة زيي, يبقى انتِ اللي تمشي عشان بقالك 4 أيام هنا.


رفعت حاجبها وهي تستنكر:


- مين قالك اني لسه واصلة زيك؟ انا بقالي ساعة هنا. 


- بقالك ساعة ازاي؟ انا شيفاكي وانا بعدي الطريق لسه راصة فرشتك. 


- اصل انا خدتلي لفة الأول قولت الحق ساعة الصبحية بعدين فرشت الفرشة, عندك مانع؟ 


قطبت ما بين حاجبيها بغضب تردد:


- بس انتِ مبتلفيش بالعقود على كتفك كده, انتِ كدابة, بلاش تعمليهم عليا يا فلة. 


رفعت "فلة" حاجبها الأيسر بتحدي وهي تقول:


- كدابة كدابة, ناقص تقوليلي اللي بيكدب بيدخل النار! احنا في فصل يا ابلة! انا بقولك انا هنا قبلك, يبقى تتكلي بقى قبل خلقي ما يضيق وانتِ عرفاني دماغي ضربة واحب الشَكل زي عنيا.


وهي فعلاً تعلمها, لا أحد يدخل معها في جدال إلا ويخرج خاسرًا, فلسانها سوط يجلد كل من يحاول الاقتراب منها قولاً او فعلاً, بلعت غضبها وكرهها لها وهي تتحرك من أمامها متجهة لمكان آخر بعيد, فهذه قواعد باعة المنطقة, من يقف في مكان لا يقف فيه شخص يبيع نفس الشيء. 


زفرت بضيق وهي تعاود رص العقود وتكتفي بحمل عدد قليل لتطوف بهِ بين السيارات وتدندن ببال رائق وكأنها لم تنتهي من مشاجرة للتو:


- يا حلو صبح يا حلو طُل... يا حلو صبح نهارنا فُل.


 ********** 

خرجت "مديحة" والدتها للسوق لتجلب بعض الخضروات بعد أن نفذت من عندهم, قابلتها سيدة تحدثها بلهفة:


- بنت حلال يا مديحة, وفرتي عليا المشوار كنت هجيلك بعد الضهر. 


- خير يا ام مها؟ محتاجه حاجه؟ 


- كنت محتجاكي تيجي بكره تطبخيلي لعزومة عملاها, اصل بكره جايين اهل عريس مها, واحنا كلنا كده يجيلنا 20 نفر وانا معرفش اطبخ اكل لده كله. 


ابتهجت "مديحة" ما إن علمت بأن الأمر يتعلق بعمل, وقالت بفرحة:


- عنيا ليكي وليهم, قوليلي ناوية تعملي ايه؟ 


- يعني صنيتين مكرونة بشاميل على رقاق باللحمة وشوية محاشي كده غير الطيور. 


قالت "مديحة" مقدرة الوقت:


- لا يبقى كده اجيلك من بدري, على 9 كويس؟ 


- اللي تشوفيه, انتي اللي عارفه الاكل يخلص في قد ايه, هم عموما هيكونوا عندنا على الساعة 3 العصر, قوليلي بقى هتاخدي كام؟ 


ابتسمت لها بسماحة تقول:


- خلينا نتكلم في الفلوس بعد ما ياكلوا ويتهنوا, ومش هنختلف, ده احنا جيران.


ابتسمت "ام مها" وهي تنهي الحوار:


- ده العشم يام فُلة. 


سارت بعض الوقت وهي تشتري الأشياء بسعادة هذه المرة, فلن تحمل هم أنها نزلت بآخر أموال كانت تملكها, فغدًا ستحصل على أموال أخرى, حدثت نفسها تقول:


- هروح اجيب كيلو سمك البت فُلة نفسها فيه بقالها ياما. 


وقفت حين رأته أمامها يقول بابتسامة واسعة:


- صباح الخير يا حماتي. 


ابتسمت له بيأس تقول:


- حماتي بردو! مش بدري عليها دي, ده حتى البت لسه ماوفقتش. 


حرك يده بمعنى ان تسرع:


- ما تشدي حيلك معانا يا حماتي, بقالك شهرين تقوليلي ماوافقتش, هتوافق امتى طيب ونكتب الكتاب ونعلي الجواب. 


ضحكت "مديحة":


- ياه نكتب الكتاب! مش لما توافق بخطوبة الأول!


رفع كفيهِ بمحاذاة كتفه يقول:


- لا يا ام فُلة مانا مليش في حكاية الخطوبة دي, هو احنا لسه هنعرف بعض, انا وهي يجيلنا خمس سنين اهو, تشوفني واشوفها في الداخلة والطالعة, ده انا ورشتي في نفس بيتها, يعني شايفاني وعرفاني, ايه لزمتها خطوبة بقى! 


ردت "مديحة" متحيرة:


- مش عارفة يا مجد, اصل هي لسه ماوافقتش عليك أصلا, هتوافق تكتبوا كتاب على طول كده! 


رد "مجد" وهو يخرج بعض النقود من جيبه:


- ما هي دي مهمتك بقى, وهمتك معانا يا ام فُلة, امسكي دول هاتيلها علبة بسبوسة وانتِ مروحة انا عارف انها بتحبها. 

رفضت باصرار تقول:


- لا, كفاية اللي عملته المرة اللي فاتت لما خدت منك اكلة الكفتة, دي بهدلت الدنيا وحلفت عليا ما خد منك حاجه تانية, وممدتش ايدها فيها, وكانت حالفة لتنزل ترجعهالك لولايا قولتلها ميصحش تكسفي الراجل ووقفتلها. 


أعاد الأموال لجيبه يردف حانقًا:


- هي بتعمل كده ليه بس؟ هو انا اتعايب؟ ده انا حتى عاوز استتها بدل البهدلة اللي هي فيها دي. 


تنهدت "مديحة" وهي تنظر له, هو بالفعل شاب لا يعيبه شيء, طوله مناسب وجسده ضعيف قليلاً لكثرة تحركه وعمله, بشرته قمحية فاتحة وشعره اسود كثيف بذقن مماثلة, وعينان بنيتان, ملامح مصرية أصيلة, لا يمكن أن توصف سوى أنه متوسط الجمال, وعمله جيد يكسب منه بشكل يومي فهو يملك ورشة لتصليح السيارات. 


- ابدًا والله ما تتعايب, ده انت زي القمر, بس هي تقولي الجواز قبول, وانا مش حاسة اننا ننفع لبعض. 


تحمست نبرته يقول:


- خليها تجرب, قوليلها نعمل شبكة حتى, انا موافق يا ستي. 


- ربنا يقدم اللي فيه الخير.


قالتها بقلة حيلة وهي لا تعرف هل ستستطيع اقناع ابنتها للمرة التي لا تعلم عددها, ام ستفشل ككل مرة. 


*********** 

فُل, فُل يا باشا. 

نظر من نافذة سيارته نحو مصدر الصوت مقررًا صرفها فلا خُلق له للباعة المتجولين هؤلاء والآن تحديدًا لا يحتمل النفس الخارج منه حتى, لكنه ابتلع كلماته حين أبصر فتاة ببشرة سمراء جميلة وشعر غجري مجعد يصل لمنتصف ظهرها, وعينان بنيتان بدرجة فاتحة تجذب الأنظار لها ليخر الناظر صريعًا بهما, ملامح جميلة ينقصها فقط بعض النظافة, هكذا حدث نفسه قبل أن يستفيق على صوتها تقول بابتسامة ودودة:


- خدلك فُل يسعد نهارك. 


ابتسم جانب فمه ابتسامة ساحرة رغم نظرته الثعلبية وهو يغمغم:


- لا مهو نهاري اتسعد خلاص, اسمك ايه يا حلوة؟ 


قطبت ما بين حاجبيها بضيق بعدما اختفت ابتسامتها وهي تردد مستهجنة:


- وتعرف اسمي ليه؟ لو معجبكش مش هتشتري!؟ 

ضحك بخفوت عليها ونظر لها بعينيه البندقيتين وهو يجيبها بهدوء:


- لا, الموضوع ملوش علاقة بالفُل. 


فُتحت إشارة المرور, ليُجبر على التحرك بعد تعالي أصوات زمور السيارات خلفه, ليتحرك فورًا بالسيارة لكن عيناه لم تفارق المرآة الخلفية ليرى لأين ذهبت, حتى صف السيارة بجانب الطريق, وترجل منها على الفور راكضًا للجهة الأخرى حيث تقف في الإشارة المعاكسة تمارس عملها, وصل لها فجذبها من كفها بغتة جعلتها تنتفض وهي تصرخ بهِ:


- ابعد ايدك يا جدع انتَ, انتَ اتجننت؟


رفع كفيهِ مستسلمًا وقال:


- مقصدش, انتِ بس كنتِ هتمشي فوقفتك مانا معرفش اسمك. 


تجاهلت حديثه ورفعت عقود الفُل أمام عينيه تسأله:


- عاوز عقد ولا اتنين؟ 


ضيق عينيه ناظرًا للعقد في يدها قبل أن يسألها:


- بتبعيه بكام؟ 


ابتسمت بسعادة وهي تراه على وشك الشراء, فهي اليوم كان حظها عاثر ولم تبيع عقدًا واحدًا, وقالت ببهجة:


- العقد ب 50 جنية, بس ده عقد بلدي وريحته فواحة حتى شم. 


قالتها مقربة العقد من وجهة ليصدمه عبيره الرائع, ليبتسم لها بلامبالاة لِمَ تعرضه, وقال بنبرة جادة هادئة:


- واللي يديكي 50 الف جنية؟ 


امتعضت ملامحها واختفت ابتسامتها وهي تنهره:


- انتَ جاي تهزر يا بيه, روح شوف حالك الله لا يسيئك. 


كادت تتحرك من أمامه ليتحرك فورًا واقفًا أمامها يقول بجدية:


- انا مبهزرش, مصلحة... مصلحة هتطلعي منها ب 50 الف جنية. 


التمعت عيناها لوهلة بالشغف, لكن سرعان ما انطفاء وهيجها وهي تسأله بسخرية:


- وايه المقابل؟ غرضك ايه؟ 


- غرضي شريف, مش أي حاجه ممكن تيجي في بالك, انا ضابط على فكرة. 


انهى جملته وأخرج هويته من محفظته ورفعها أمامها يكمل:


- يعني مفيش مني قلق. 


تمايلت في وقفتها ساخرة:


- مفيش منك قلق؟ طب ده انا كده قلقت اكتر. 


- اسمعي بس, كل الحكاية مصلحة خفيفة ممكن تاخد منك قولي أسبوعين او شهر, انتِ وشطارتك, وبعدها الفلوس تكون في ايدك, واقولك هديكي 50 الف مقدم, و50 الف بعد ما المصلحة تتم. 


جحظت عيناها وهي تردد بفاه فاغر:- 


-100 الف؟؟ ليه كل ده؟! انا هفتح عكا! 


- لا, اهم, هبعتك لواحد كل مهمتك تجيبلي منه اللي هطلبه منك, من غير ما يحس بيكي, ولا يكشفك, وعلى فكرة ده مجرم, يعني انتي كمان بتعملي عمل وطني.


شردت بنظرها بعيدًا تردد مشدوهة:


- عمل وطني!! هو خطر كده؟ 


أجابها بلامبالاة:


- هتفرق خطر ولا لا؟ هو في النهاية مجرم, وخارج عن القانون. 


ضيقت عيناها وهي تسأله:


- هو انتَ يا بيه عاوزني اسرقه؟ 


ابتسم ثغره بهدوء قائلاً:


- لا يا... 


صمت وهو يتذكر انها لم تخبره باسمها:


- مش ناوية تقولي اسمك؟ 


زفرت بضيق من الحاحه وأخيرًا قالت:


- فُلة. 


عاود الابتسام يقول:


- اسمك حلو زيك. 


احتدت ملامحها تقول:


- ما تخلص يا بيه هو احنا هنقضيها معاكسة ما تدخل في الموضوع عندي شغل. 


هز رأسه متقبلاً طريقتها الحادة ليصل لغرضه:


- ماشي يا فُلة, قصدي اقولك ان الشخص ده مش شخص عادي عشان تدخلي تسرقي اللي عاوزه وتجري, الموضوع اكبر واخطر من كده, عشان تدخلي بيته او شركته مستحيل تعمليها الا وانتِ معاه, يعني هو اللي يدخلك, غير كده مستحيل, وإلا كنت شوفت أي حد يروح يسرق اللي عاوزه, لكن بيته ملغم, مليان حراسة وكاميرات مراقبة مبتعديش النملة, وشركاته كذلك. 


قطبت ما بين حاجبيها بتعجب وسألته:


- اومال انا هدخل ازاي لا مؤاخذه؟ 


عاد ليبتسم بمكر هذه المرة:


- هو اللي هيدخلك. 


شهقت بقوة وهي تطالعه باستنكار وقالت:


- هو اللي يدخلني!؟ وده ازاي بقى؟ 


- مهو ده اللي احنا عاوزين نتكلم فيه, بس اعتقد مش هينفع هنا. 


قالها وهو ينظر حوله للسيارات المتراصة خلف بعضها تنتظر فتح الإشارة واصوات الباعة المتجولين المتعالية تزامنًا مع زمور السيارات بضوضاء, نظرت له بتفكير ثم سألته بحذر:


- اومال فين؟ 


فهم سؤالها القلق والمتحفز لرده لتطلق للسانها العنان إن لم يعجبها:


- في مكتبي, في قسم الشرطة. 


رفعت حاجبها بذكاء تقول:


- قولي قسم ايه وانا هروحه بعد ما اخلص شغلي, وقولي لما اروح اسأل عن مين. 


أُعجب بذكائها الذي سيفيده حتمًا, وابتسم يجيبها:


- قسم ****, هتركبي من هنا أي تاكسي وتقوليله الاسم هيوصلك لحد الباب, ومتقلقيش انا هدفعلك أجرته, هتروحي وتسألي على الرائد "مازن عمران", هستناكي. 


اومأت موافقة, وهي ترميه بنظرة أخيرة محذرة قبل أن تبتعد مكملة عملها, ليغمغم بشرود وهو ينظر لظهرها:


- دي احلوت اوي يا بن المنشاوي. 


********** 

بفيلا كبيرة, أمامها مساحة شاسعة مليئة بالخضرة والورود في جانب منها, ونافورة مياه ضخمة في المنتصف, وعلى بوابتها طاقم حراسة يبلغ العشر رجال ضخام الجسد, يرتدون بدل سوداء ويحملون أسلحة متخفية في ثيابهم, وعلى باب الفيلا حارسان آخران يقفا على الجانبين, وبداخلها أثاث فخم, ومرتبة بعناية وحرص, فصاحبها أكثر ما يكرهه الفوضى, وبأحد غرفها والتي تشبه صالة شقة كبيرة يجلس هو حيث غرفة مكتبه, نهض واقفًا بعدما انهى اعماله, رفع سماعة الهاتف الموجود فوق المكتب والمتصل بهاتف خارجي على بوابة الفيلا. 


- أمرك يا باشا. 


أردف بصوته الأجش:


- ابعتلي حد ياخد ورق يوصله الشركة لمعاز. 


ووضع السماعة محلها, ملتقطًا الأوراق خارجًا بها من المكتب حتى قابل الحارس يدلف من باب الفيلا ليعطيه الأوراق قائلاً بتحذير:


- وصل دول لمكتب معاز. 


احنى الرجل رأسه بطاعة:


- أمرك يا باشا. 


- وأنتَ خارج بلغ مرسي إني خارج كمان ساعة خليه يجهز العربية. 


وتحرك صاعدًا درجات السلم الموصلة للطابق العلوي والتي تحتل منتصف الصالة الضخمة, توقف على صوت مدبرة المنزل تسأله:


- شاهين بيه حضرتك مش هتتغدى؟ 


أجاب وهو يكمل صعوده:


- لما اصحى يا صفاء. 


تحركت السيدة التي ترتدي ثوب كحلي أنيق والتي ربما تعدت الخمسين نحو المطبخ لتقول لباقي الخادمات:


- اقفلوا على الاكل الباشا هينام الأول.


اقتربت منها احدهن تقول بصوت منخفض:


- هم مش ناويين يخرجوا الراجل اللي محبوس في المخزن؟ ده بقاله ييجي 3 ايام, او حتى على الأقل ندخل لقمة ياكلها. 

 

برقت عيني "صفاء" تقول بحدة:


- خليك في حالك يا مستكة, وبلاش تتدخلي في اللي ملكيش فيه عشان متزعليش. 


وانسحبت من أمامهم, لتقول أخرى:


- شكلك مش هتهدي يا مستكة غير لما الباشا يشدك. 


التفت لها بضجر:


- الراجل صعبان عليا, كل ما اروح ناحية المخزن اسمع صريخه واستنجاده. 


وقالت ثالثة بهمس:


- سمعت انه خان الباشا وكان بيسرب اخباره لواحد عدوه. 


لتجيب أخرى بشهقة:


- يالهوي, ده يبقى في عداد الميتين خلاص, ده كله الا الخيانة والكدب عند الباشا. 


زفرت "مستكة" أنفاسها بحزن وهي تلتمس العجز في مساعدة ذلك المسكين الذي يلقي الويلات منذ عدة أيام. 


********* 

وصلت لقسم الشرطة بعدما انهت عملها, وطول الوقت رأسها مشغول بعرضه, بين نارين, القبول والذي سيجني لها أموال لا تحلم ان تملكها يومًا, والرفض الذي سيضيع الفرصة من يدها, وما يرددها من القبول هي أنها تسعى نحو المجهول, ولا تعلم ما سيقابلها, وإن كان ذلك الشخص الذي قابلته صادق أم لا. 


وصلت لمكتبه بسهولة فيبدو انه معروف في القسم, دلفت فابتسم لها وهو يقول:


- كنت متأكد انك هتيجي. 


نظرت لملامحه الوسيمة لوهلة, فهو ابيض البشرة بشعر بني اللون وذقن وشارب مماثلين, واعين زرقاء غامقة تظهر من بعيد كأنها سوداء, وبنيان قوي, نفضت رأسها من تأمله واتجهت بخطوات حثيثة تجلس على الكرسي أمام مكتبه وقالت:


- بص يا بيه انا مقررتش لسه, بس جايه اسمع اللي عندك, ويا اقبل يا ارفض. 


نظر لها بمكر للحظات قبل أن يفتح درج مكتبه ثم وضع عدة رزم من الأموال فوق المكتب أمامها ليبتسم حين رأى لمعة عيناها وهي تنظر للأموال دون صرف نظرها عنها, كصائم يرى وليمة طعام أمامه في عصر رمضان, ليقول:


- هقول اللي عندي, قبلتِ الفلوس هتكون معاكي وانتِ ماشية, رفضتِ يبقى...


ولصدمته حقًا, وبحركة غير متوقعة, وجدها تجذب الأموال ناحيتها وترفع عيناها له تسأله بجدية تحت اتساع حدقتيهِ بذهول:


- معاك كيس اسود؟ ولا هاخدهم في ايدي؟..


********* انتهى الفصل******** 


اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك

الفصل الثاني♥️


"الفرصة تأتي مرة واحدة، فما عليك سوى أن تغتنمها، وما لم تعطيهِ لكَ الحياة طوعًا خذه بالقوة، فالحياة التي لم تبتسم لك منذ البداية لن تفعل في منتصف الطريق أو آخرة، فهكذا هي الحياة إما أن تعطي دومًا إما أن تحرم دومًا"


هقول اللي عندي, قبلتِ الفلوس هتكون معاكي وانتِ ماشية, رفضتِ يبقى...


ولصدمته حقًا, وبحركة غير متوقعة, وجدها تجذب الأموال ناحيتها وترفع عيناها له تسأله بجدية تحت اتساع حدقتيهِ بذهول:


- معاك كيس اسود؟ ولا هاخدهم في ايدي؟..


رفع حاجبه باعجاب وهو يقول:


- واضح إنك مبتضيعيش الفرصة. 


ابتسمت متهكمة وهي تقلب الأموال بين يديها:


- وهي الفرصة بتيجي كام مرة للي زينا عشان يبقى في مجال نضيعها؟ 


هز رأسه بإعجاب بمنطقها الذي سيخدمه بالطبع وغمغم:


- حلو, عمومًا الشاطر هو اللي ميسبش فرصة تعدي من تحت ايده, قوليلي بقى اسمك وسنك وحياتك ماشية ازاي؟ 


رفعت نظرها عن الأموال تطالعه بتساؤل:


- وده هيفيد في الموضوع؟ 


اومأ بثبات:


- ايوه طبعا, اومال هنشتغل مع بعض ازاي؟ مش لازم اعرف كل حاجه عنك, او على الأقل الحاجات المهمة والباقي هعرفه بمعرفتي, ولا أنتِ فاكرة ان أي واحده هجيبها واتفق معها وادخلها شغلي؟ انا لسه هعمل عنك تحريات. 


عادت تنظر للأموال بحسرة هل هذا يعني انها لن تأخذها معها الآن؟ حولت بصرها له ليقرأ مخاوفها فقال مبتسمًا باتساع:


- متقلقيش الفلوس هتاخديها معاكي, عمومًا التحريات هتخلص في ظرف ساعة او ساعتين, وانا واثق انك مش هتكوني لحقتي تصرفي الفلوس لو الاتفاق فشل واكتشفت حاجه في التحريات, فعادي خديها انا هعرف ارجعها ازاي لو مطلعتيش مؤهلة للدور اللي عاوزك له. 


حاولت الفهم أكثر فقالت:


- طيب بص يا باشا, انا الحمد لله لا عليا قضية ولا عمري دخلت قسم قبل النهاردة, ايه بقى اللي ممكن يخليني مش مؤهلة غير كده؟ 


شبك كفيهِ فوق المكتب ومال بجسده قليلاً يحدثها:


- بصي يا فُلة, انا لازم الأول قبل ما اقرر انك الشخص المناسب اتحرى عن شوية حاجات تخصك, مش بس القضايا, ما ياما ناس عملت بلاوي موصلتش للاقسام, فمتشغليش بالك بشغلنا, وعرفيني عن نفسك. 


تنهدت حائرة وهي لا تفهم معنى حديثه, وقالت معرفة عن ذاتها:


- فُلة ده اسمي الحركي يعني, المعروفة بيه بين الناس, عشان ببيع فُل وكده, وانا اللي طلعته على نفسي عشان مش كل من هب ودب يعرف اسمي الحقيقي. 


- وايه هو اسمك الحقيقي؟ 


- اسمي "فيروز يسري" اصل امي كانت تحب فيروز المغنية اوي كانت دايما تسمعها في الراديو، عندي 24 سنة, معايا دبلوم تجارة.... 


لم يخفي دهشته وهو يسألها مقاطعًا:


- انتِ متعلمة؟ 


قطبت ما بين حاجبيها بضيق تجيبه بفخر:


- اومال فكرتني جاهلة؟ لا انا معايا دبلوم.. ابويا الله يرحمه كان حريص انه يعلمني, ولم مات امي صممت اني اكمل تعليمي, الله يرحمه مات وانا في تانية اعدادي, له معاش اصله كان شغال تمرجي كده في مستشفى حكومي, بس المعاش مكانش كبير, ومكانش بيكفي اكل وشرب وادوية ولا دكاترة لو حد فينا تعب, غير الكهربا والمايه ومدرستي والكتب, فأمي اشتغلت يعني تطبخ كده للناس اللي عندهم مناسبة ولا حاجة, اصلها شاطرة اوي في الطبخ, والدنيا مشيت لحد ما خلصت تالته اعدادي, ووقتها قولت لازم اشتغل, الظروف كانت صعبة اوي, فاضطرت امي توافقني, قعدت كام شهر الطش, اشتغل في محل ويطلع صاحبه راجل مش تمام فامشي, ولا اقف ابيع حاجه على ناصية فالبضاعة متتباعش كلها واخسر, وكده, لحد ما وقع في طريقي حوار الفُل ده فجأة, ومن وقتها بقالي 9 سنين ملقتش شغلانه تانيه غيره تنفعني. 


هز رأسه متفهمًا ثم قال:


- ماشي يا فيروز, عاوزك بقى تنسي اسم فُلة ده خالص, دربي نفسك على كده, عشان هتعيشي باسم وشخصية انا اللي هخلقهالك, ولازم تتأقلمي معاها. 


سألته ببوادر فهم لِمَ يريده منها:


- يعني انا هروح للراجل ده باسم غير اسمي؟ 


اومأ برأسه مؤكدًا وهو ينهض من فوق كرسيه ويطوف حول المكتب حتى أصبح أمامها:


- وشخصية غير شخصيتك, يعني اول حاجه هنعملها اننا هنغير استايل لبسك ده. 


انهى جملته مشيرًا لثيابها, نظرت لنفسها لتذم شفتيها برفض لِمَ ترتديه, فهي نفسها لا ترضى بهِ ليرضى هو, ولكن ما باليد حيلة فهذا هو ما تمتلكه, فقد كانت ثيابها عبارة عن بنطالون واسع من الجينز الأزرق الذي شحب لونه حتى قارب على الثلجي, وكنزة تصل لبعض أردافها من الوردي الباهت بأزرر من الأمام لبعد صدرها, ووشاح رأس صغير تلم بهِ خصلاتها للخلف كسيدات التسعينات, وحذاء مهترئ قديم, ابتلعت ريقها بحرج ورفعت نظرها له تقول:


- هو فعلا اللبس مش قد كده, اصله قديم, عندي من زمان. 


نفى برأسه موضحًا:


- مش فكرة قديم ولا جديد, الاستايل نفسه مينفعش, لما هتشوفي الاستايل الجديد هتفهمي قصدي. 


فركت كفيها بتوتر والتزمت الصمت, لتسمعه يقول وهو يمد كفه لها بهاتفه بعدما عاد يحتل مقعده:


- شوفي الصورة دي كده. 


التقطت الهاتف تنظر بهِ, لتتسع عيناها رويدًا وهي تسأله:


- مين ده؟ 


- ده الراجل اللي بحكيلك عنه, شاهين المنشاوي. 


اهتزت حدقتيها, وتذبذبت نظراتها وهي تطالع الصورة أمامها, صورة تصرخ بجاذبية من بها, وهالته الجميلة التي تحيط بهِ, ملامحه كنجم سينمائي لامع, بعدستيهِ التي تحمل مزيجًا بين اللونين الأزرق والأخضر, وذقن وشارب وشعر يلمعون باللون البني المناسب تمامًا لبياض بشرته, وانفه المستقيمة كخط هندسي, تمتمت بذهول ومازالت تنظر للصورة:


- ده ولا نجوم السيما!


تحمحم "مازن" ليلفت انتباهها ويشتتها عن الصورة, فنظرت له باضطراب وهي تدرك للتو ما تفوهت به, ليقول لها بتحذير:


- بصي, اهم بقى من انك متكشفيش نفسك والهري ده, انك متتفتنيش بأي شيء هتشوفيه, يعني هتشوفي فيلل وعربيات ومطاعم وأماكن عمرك ما اتخيلتيهم حتى, هتشوفي بردو شاهين ورجالته, مينفعش تسيبي نفسك للاندهاش يبان عليكي ولا تسيبي اعجابك بحاجه يبان عليكي زي ما حصل دلوقتي.


قال جملته الأخيرة بحنق واضح, لتبتلع ريقها مبتسمة ببلاهة, فزفر أنفاسه يكمل:


- حطي في راسك دايما ان شاهين مجرم, مجرم مهمتك تجيبيلي منه اللي هطلبه منك, مجرم اخره السجن, يعني لا يفتنك شكله ولا غناه ولا الهيلمان اللي هو فيه ولا قوته وذكائه اللي هتشوفيهم, فهمتي؟


اومأت برأسها بقوة:


- فهمت يا باشا, ان شاء الله مش هخيب ظن سعادتك وهنفذ بالحرف. 


التوى جانب ثغره بابتسامة صغيرة هازئة قبل أن يقول:


- معندكيش مجال تخيبي ظني... تخييب ظني هيكون بموتك. 


تجمدت ملامحها, واهتزت جفونها بقلق وخوف طبيعي, قبل أن تبتلع ريقها بصعوبة وهي تشعر بخطورة القادم. 


******* 


رفعت رأسها لأعلى بنزق, وزفرت أنفاسها باختناق من تكرار والدتها لنفس الحديث دون توقف, وكأنها تقوله لأول مرة, أصدرت صوتًا معترضًا من حنجرتها قبل أن تقول:


- يووه, خلاص بقى يا ماما, انتِ قولتي الكلام ده الف مرة, وهقولك نفس الجواب, مجد لأ.. انا وهو مننفعش لبعض.


تشدقت والدتها بغضب:


- مجد لأ ليه ياختي؟ انتِ يا بت كان حد عبرك غيره! قاعده مستنية مين يا خايبة؟ 


حركت ذراعيها بعصبية من حديث والدتها:


- مش مستنية حد, بس مش معنى كده أوافق على مجد وانا مبشفوش ينفع جوزي. 


وضعت والدتها ذراعها في خصرها باعتراض وتهكم واضحين:


- وده ليه بقى؟ مش مناسب للعزب والاطيان اللي عند ابوكي؟ 


ضغطت على اسنانها بغيظ من تهكم والدتها, ونظرت لها تجيبها من بين اسنانها:


- مش مناسب ليا, من وانا لسه في ابتدائي كنت بشوفه واقف مع ابوه في الورشة, وطول الوقت قدامي, عمري ما حسيت ناحيته بحاجه, وانا بقى متجوزش حد مبحبوش, على الأقل أكون معجبه بيه, عشان احبه بعد الجواز, لكن مجد انا لا معجبه بيه ولا حبيته, هم مش بيقولوا الجواز قبول! 


- يا بت بطلي خيابة! حب ايه ونيلة ايه؟ المهم انه هيعرف يعيشك ويصرف عليكي, والواد حلو وغلبان وميتعايبش! 


رفعت حاجبها الأيسر ساخرة وهو تقول:


- انتِ عوزاني أكون زيك؟ اتجوز واحد واعيش معاه سنين عمري وانا مبحبوش, أعيش معاه عشان بس عيالي وعشان هو كويس ومش مقصر, لكن الحب عمره ما يزورني, انا مش اقل من أي بنت, عاوزه احب واتحب, ومش ناوية أعيش اللي عشتيه ياما. 

اقتربت منها "مديحة" تضرب بكفها على كتف الأخرى عدة ضربات متتالية وهي تقول:


- خليكي, خليكي يا عين امك لحد ما تعنسي وانتِ مستنية اللي تحبيه ويحبك. 


وانسحب من امامها دالفه للغرفة الأخرى تاركة "صفاء" في شرودها, وتأرجحها ما بين تفكير والدتها وتفكيرها, وأيهما أصوب؟ 


********** 

رفع السيجارة الفخمة بنية اللون عن فمه, ليخرج بعدها دخان كثيف يزفره هو بمهل وتأني, غير عابئًا بالجالس على الطرف الآخر للمكتب, يتابع تحركاته عن كثب, يبتلع ريقه بصوت مسموع وهو يخشى ما طلبه فيه, يتصبب عرقًا في الخفاء كلما اصطدمت اعينهما, حتى رحمه "شاهين" أخيرًا وهو يسأله بهدوء تام:


- انتَ مش عارف يا سمير ان المنطقة دي بتاعتي؟ وممنوع حد يوزع فيها حتة سلاح واحده من غير ما يرجعلي؟ 


والآن فهم "سمير" ما جاء من اجله, وسر الطلب العاجل له, لقد اكتشف "شاهين" فعلته, ولن يمررها بخير, زاغت نظراته بين "شاهين" و "مرسي" رجله المخلص الواقف بمنتصف الغرفة, ابتلع ريقه الجاف وهو يرى نظرة "مرسي" العابثة والمستمتعة كأنه يشاهد كيف يرقص الأسد على انغام الموسيقى بالسيرك! 


- ايوه يا باشا, عارف. 


ذم "شاهين" شفتيهِ باستغراب وهمي, وأخذ نفس اخر من لفافة التبغ خاصته وهو يقول مع زفر الدخان من فمه:


- ولما انتَ عارف, السلاح اللي خرج من عندك ده خرج من غير اذني ليه؟


حاول النجاة بالكذب, فاصطنع الثبات ورسم الصدمة الكاذبة على ملامحه:


- من عندي انا؟ اقسملك يا باشا اني معرفش, ولو فعلا خرج من عندي يبقى ...


قاطعه "شاهين" وهو يهز له رأسه بالنفي ويرفع سبابة كفه الذي يحمل اللفافة مشيرًا له بالتحذير:


- تؤ  تؤ, لو بتفكر تنكر وتلبسها لرجالتك وانه حصل من ورا ضهرك, تبقى غبي, عشان وقتها هقولك اللي رجالته تلعب من ورا ضهره يبقى خروف, والخروف عندنا نهايته الدبح, اصلنا مبنشغلش معانا خرفان. 


و "الذبح" معناه الاقصاء تمامًا عن عملهم, وتجريده من المال والسلطة, فيخرج خاسرًا بكل المقاييس, شحب وجه "سمير" وهو يدرك انه كاد ينهي على نفسه بنفسه, وما ظنه مخرجًا كان هلاكًا محتم, توتر, ومسد مؤخرة رأسه وشعره الأبيض بارتباك, واخيرًا قرر الاعتراف لينجو بأقل الخسائر وقال:


- باشا والله العظيم... 


قاطعه للمرة الثانية وهو يطفأ سيجارته بالمطفأة:


- متحلفش عشان حلفانك ملوش لازمة, مش هو اللي هيخلني اصدقك. 


وعقب "مرسي" خارجًا عن صمته بسخرية:


- مظبوط يا باشا, وعلى رأي المثل قالوا للحرامي احلف.. قال جالك الفرج. 


  نظر له "سمير" بغيظ خفي, قبل أن يعود بنظره ل "شاهين" وهو يقول:


- يا باشا انا بس كانت الدنيا واقفة معايا بقالي شهرين مبعتش حتة سلاح واحده, وفي ناس قصدوني ابيعلهم 15 حتة, فقولت يعني... 


انتفض جسده حين ضرب "شاهين" بكفه على المكتب بقوة هزته, ونظر له بملامحه التي بدت خطرة رغم وسامتها, وجهر قائلاً بقوة:


- مش انتَ اللي تقول يا روح امك, حد قصدك زي ما بتقول ترجع لكبير المنطقة اللي انا معينه هناك, وهو هيرجعلي واقوله السلاح يطلع من عند مين من التجار, مش تقرر بكيفك, غلط ولا مغلطش يا سمير؟ 


احنى رأسه وهو يقول بطواعية كارهه:


- غلط يا باشا, واللي تأمر بيه انفذه. 


اراح "شاهين" ظهره على كرسيه وابتسم ببرود, بينما يوجه حديثه ل "مرسي":


- تاخد منه تمن الحتت اللي باعها, وتديهم لسيد قوله ده تعويض من سمير عن انه خد دورك. 


رفع "سمير" رأسه يسأله:


- وانا هاخد الحتت من عنده؟ 


نظر له "شاهين" بجانب عينيه, تحت ابتسامة "مرسي" الساخرة, وقال:


- الحتت مانتَ بعتها, ولا هنروح نجيبهالك من اللي اشتروها؟ 


وضح قصده:


- لا يا باشا, انا قصدي مادام سيد هياخد الفلوس يبقى اخد انا الحتت اللي بعتها من عنده. 


وبملامح جامدة ونبرة قاطعة كان يقول:


- وقتك خلص يا سمير. 


فغر فاه "سمير" بصدمة وهو ينقل بصره بين "شاهين" و "مرسي"  تباعًا كالمجذوب, حتى قال "مرسي":


- يلا يا سمير. 


فنهض مضطرًا وسار معه, حتى خرجوا من المكتب, فخرج سؤاله المصدوم:


- يعني ايه؟ هرجع الفلوس والسلاح مش هيرجعلي؟ بس انا كده هخسر. 


صدر صوت هازئ من حنجرة "مرسي" وهو يقول:


- لسه مفهمتش عقابك يا سمير! احمد ربنا بدل ما الباشا كان يعاقبك بجد, ده العقاب ده لعب عيال عشان بس دي اول مرة تعملها. 


سار تائهًا وهو يردد بحسرة:


- لعب عيال! ده انا كده هخسر 180 الف جنيه وانا بقالي شهرين ما اشتغلتش! 


ابتسم "مرسي" بهدوء وهو يصر على حديثه:


- احمد ربنا انها جت في خسارة فلوس, وصدقني كده الباشا رحيم بيك, بعدين ما نتَ قبل الشهرين دول الباشا باعتلك صفقة عملت منها 700 الف, لحقت تصرفهم! متبقاش طماع يا سمير عشان متخسرش حياتك.  


*********** 

استيقظت على صوت هاتفها الصغير من النوع "نوكيا" ذو الأزرار, فتحت عينيها بضجر لتنظر لساعة الحائط من ضوء المصباح الصغير المضيء, لتجدها الحادية عشر ليلاً, فتحت الخط بعدما اعتدلت:


- الو مين؟


اتاه صوت رجولي ميزته يقول:


- حد يرد على التليفون بالطريقة دي! انتِ داخلة خناقة؟ 


تحمحمت وزفرت نفسها بتوتر قبل أن تقول:


- معلش يا باشا اصل الوقت اتاخر, ومش متعودة حد يكلمني في وقت زي ده الا لو كان بيغلس يعني. 


- عمومًا انا بكلمك عشان اقولك اني خلصت التحريات بتاعتي, وطلعتي تمام, ينفع تقومي بالمهمة اللي طالبها منك, قوليلي بقى عندك مانع تبدأي من بكره؟ 


صدمها سرعة الأمر, فسألته بدهشة:


- اروحله بكره؟ 


ضحكة صغيرة صدرت عنه تسللت لها عبر الهاتف, لتبتسم تلقائيًا على أثرها وتبعها يقول:


- تروحي لمين لا طبعا, لسه بدري على ما تروحيله, بس هنبدأ الأول في كام نقطة عشان اهيئك للمهمة. 


صمتت لثواني تفكر ثم قالت:


- بس بكره صعب, ارتب بس دنيتي هنا, هو حضرتك يعني هتحتاجني كام ساعه في اليوم؟


- مش كام ساعه, انا هحتاجك على طول, لما تجيلي مش هينفع خالص ترجعي عندكوا تاني غير لما المهمة تنتهي, اعتبري نفسك مسافرة بره مصر. 


شردت بتفكيرها في تأزم الأمر وقالت معبرة عما تفكر به:


- كده هوقف شغلي, ولازم اعرف امي اني هبعد فترة, ولازم اظبط الدنيا هنا قبل ما اجي لسعادتك, محتاجه وقت, اديني يومين حتى. 


جاءها صوته يقول:


- معاكي بكره, معتقدش هتحتاجي اكتر من كده, بعد بكره الساعة 10 الصبح هتلاقيني عند الإشارة بعربيتي. 


وانتهت المكالمة, لتتسطح كما كانت ونظرها شارد في سقف الغرفة تفكر في حديثه, وفيما هي مقبلة عليه, لتسمع صوت والدتها النائمة بجوارها يسألها:


- مين ده يا بت؟ ومحتاجك في ايه؟ 


اعتدلت جالسة تسألها:


- انتِ صاحية ياما؟ 


اعتدلت "مديحة" هي الأخرى مجيبة:


- صاحية من اول ما رن, ايه الحكاية؟ 


ولأنها اعتادت ألا تخفي عنها شيئًا فسردت لها كل شيء بصراحة تامة, لتفاجئها حين صرخت بها بعدما انتهت:


- بكره ترجعيله كل فلوسه, وتقوليله يشوف حد غيرك للي عاوز يعمله ده, احنا مش ناقصين مصايب, كفاية اللي احنا فيه, احنا لا قد الحكومة ولا قد المجرمين. 


حاولت اقناعها فقالت:


- ايوه ياما بس دول 100 الف جنيه. 


أصرت على رفضها تقول:


- يكش يكونوا مليون, احنا ماشيين جنب الحيط يا بنتي خلي ربنا يسترها علينا, اسمعي اللي بقولك عليه ربنا يرضى عنك. 


وقضت ليلتها تفكر محاولة الوصول للقرار الأنسب, حتى اجتمع رأيها برأي والدتها وقررت تجنب المخاطر ورفض المهمة كي تسلم أي أذي قد يلحق بها. 


********* 


اليوم التالي مساءً... 


طلبت رقمه بتوتر لا تعرف ماذا سيكون رد فعله حين تخبره أنها لن تكمل وتنسحب من الاتفاق الذي تم بينهما, أتاها صوته لتقول على الفور:


- الو, ايوه يا باشا, انا كنت بس عاوزه ابلغ سعادتك بحاجه مهمة. 


- قولي, بس مش هنأجل الميعاد أتمنى تكوني خلصتي امورك النهاردة. 


نظرت لوالدتها التي حثتها بعينيها على التكملة, فقالت متنهدة:


- لا سعادتك انا مش بكلمك عشان نأجل, انا بكلمك عشان اقولك اني مش هقدر اعمل اللي طلبته مني, يعني الموضوع خطر, انا بصراحة بعد ما فكرت لاقيت اني خيبه وهتكشف بسهولة وهبوظ الدنيا, وفلوسك هرجعهالك بكره مش ناقصين مليم. 


والصمت ساد لبعض الوقت تحت توترها, وأخيرًا أتاها صوته الهادئ بغرابة يسألها:


- ده أخر كلام عندك؟ 


- ايوه يا باشا, انا اسفة بس مش هقدر. 


- مفيش مشكلة, تعالي بكره مكتبي ومعاكي الفلوس ونخلص الموضوع. 


ابتسمت براحة حين سمعت تقبله للأمر وقالت:


- الله يباركلك يا باشا يا رب, عنيا, بكره من النجمة هكون عند سعادتك, سلام عليكم. 


وأغلقت المكالمة, لتقول والدتها:


- الحمد لله كده ارتحنا. 


اومأت برأسها وقد شعرت بحمل قد ازاحته عن كتافها:


- الحمد لله. 


********* 


اغلق معها المكالمة ليظل ينظر للهاتف قليلاً بصمت, قبل أن يفتر ثغره عن ابتسامة واسعة وهو يهمس لذاته بحيرة:


- يا ترى خافت من صورته وحست انها قدام شخص خطير, ولا لقت نفسها مش هتعرف تقاوم وسامته وخافت تتفتن بيه زي ما حذرتها؟ 


لم يستطع أن يصل لإجابة واضحة, نهض من فوق فراشه متجهًا للشرفة وفتحها واقفًا بها يستقبل نسمات الهواء الباردة, وهز رأسه بابتسامة ساخرة هذه المرة بينما يردد:


- عمرك ما كنت عدو سهل يا شاهين, دايمًا تبوظلي كل حاجه برتبها حتى من غير ما تتدخل.. 


احتدت نظراته وغامت عيناه بسحاب الكره:


- بس ورحمة أمي لييجي يوم وانتصر عليك وبعدها مش هيقوملك قومة يا بن المنشاوي. 


******** 

الخامسة صباحًا...


بالكاد انكشحت الغيوم وتفتح النهار من ظلمة الليل.. والشمس لم تعلن عن نفسها بعد.. 

انتهت من ارتداء ثيابها, والتي كانت جيبة بنية منقوشة بالورود, وكنزة بيضاء تصل لأول الجيبة, ولم تنسى ابدًا وشاح رأسها البني والذي ربطته للخلف, خرجت والدتها من المرحاض لتسألها:


- خلصتِ؟ هتنزلي دلوقتي؟ 


اومأت تقول:


- هروح افطر الأول, واطلع على الشغل الحق ساعتين الصبحية دول, انتِ عارفه اني هاجي على الساعة 10 كده عشان اخد الفلوس واروح ارجعها للضابط, ودي فيها عطلة ساعة ولا اكتر فخليني اعوضها. 


اقتربت "مديحة" تربط على ظهرها وهي تحمل عقول الفُل:


- ربنا يرزقك يا بنتي ويقويكي. 


استقامت واقفة وقبل أن تنطق سمعت دقة بسيطة فوق باب الغرفة, نظرا لبعضهما باستغراب وقلق, فمن سيأتي في هذه الساعة الباكرة جدا؟ وبالأخير تحركت "مديحة" وتبعتها هي حتى فتحت الأولى الباب ليصدمهما رجلان غريبان يرتديان اقنعة وجه يقفان أمامهما, وقبل أن تسرع "مديحة" بغلق الباب كان يضرب ليفتح على مصرعيه وقبل أن تحاول "فيروز" الصراخ أو القيام بأي رد فعل كانا يقتحمان المكان أحدهما ضرب "مديحة" على رأسها لتفقد الوعي فورًا, والآخر كمم "فيروز" بقماشة بيضاء بها مخدر لتخفت مقاومتها وتخر ساقطة أرضًا بجوار والدتها...  


وبعد ساعات لا تحسب..


استيقظت "فيروز" اولاً لتتأوه بوجع, وما إن انتبهت لِمَ حولها حتى نهضت لتفيق والدتها, التي استجابت لها بعد ثواني, فسألتها بلهفة:


- انتي كويسة يا ماما؟ 


اومأت بوجع بسيط وقالت:


- كويسة, ايه اللي حصل؟ 


ارتعش جسدها وهي تتذكر ما مرت به, لتقول بجهل:


- مش عارفة, هو خدرني ووقعت جنبك على طول. 


نظرت لها "مديحة" تسألها بخوف:


- مين دول؟ وكانوا عاوزين منا ايه؟ 


طافت بنظرها في المكان لتجده كما هو, فقالت بحيرة:


- معرفش, حتى مسرقوش حاجه. 


وصمتت لثواني حين أتى بعقلها الأموال, فانتفضت كالملسوعة تبحث عن ظرف المال الذي من المفترض أن تعيده اليوم للضابط, حتى وقفت بمنتصف الغرفة تضرب وجنتيها بكفيها مرددة بصرخة حية:


- يالهوي سرقوا الفلوس... 


************ انتهى الفصل**********


اللهم إني اسألك حسن الخاتمة

الفصل الثالث

" النجاة في طريقين, أحدهما واعرًا ومحفوف بمخاطر معلومة, والآخر ليس أقل وعورة لكن مخاطره مجهولة, فإن كان متاح لك الاختيار أيهما ستختار؟"


تجلس وكأن على رأسها الطير, منذُ إدراكها لسرقة الأموال وهي تجلس هكذا, تسند رأسها على كفها الثابت كوعه على فخذها, تستمع لحديث والدتها الذي لم ترد على حرف منه, ورأسها غارقة في مستنقع من الأفكار المتداخلة, من وراء سرقة الأموال؟ وهل هي مدبرة أم سرقة عادية؟ وهل للضابط دخل بالأمر؟ وما الحل الآن؟ كيف ستذهب له بدون الأموال وهل سيصدقها أنها قد سُرقت أم سيشك بأنها طمعت بها؟ 


- ردي يا بنتي هو انا بكلم نفسي!


استفاقت على صوت والدتها لتنظر لها باختناق زافرة:


- معاكي يا ماما, انا بس مش عارفه افكر, ايه الحل دلوقتي؟ 


حركت والدتها ذراعيها بحيرة وعقبت:


- والله مانا عارفة, هتعملي ايه مع الضابط ده؟ ولو روحتي قولتيله الفلوس اتسرقت هيعمل ايه؟


نظرت لها مضيقة عيناها وقالت بشك:


- الاه من امتى يا ما وبنسمع عن حرامية في المنطقة؟ واشمعنا النهاردة بالذات ييجوا يسرقونا, ويسيبوا البيت كله ويطلعوا يسرقوا اوضتين على السطح! لا ويسرقوا الفلوس بس! 


صمتت والدتها بتفكير ثم قالت حائرة:


- من ناحية السرقة فاحنا سمعنا الشهر اللي فات عن سرقة حصلت في الشارع اللي جنبنا, من ناحية انهم سرقوا الفلوس بس, وهيسرقوا ايه تاني يا حسرة! هو احنا حيلتنا ايه يتسرق؟ 


رفعت انفها بكبرياء زائف:


- عندنا التليفون بتاعي, و130 جنية في البوك اللي كان في ايدي, اللي مخدوش منهم جنية! 


لوت "مديحة" فمها يمينًا ويسارًا في حركة شعبية معروفة وهي تقول متهمكة:


- تليفون ايه يام تليفون! التليفون المعفن أبو زراير ده! يا بت ده هتلاقي الحرامي نفسه شايل تلفون من اللي كله شاشه بيلمسوها ده, هيبص لتليفونك! وواخدين ظرف في رزمة فلوس قد كده, هيبصوا للبوك بتاعك اللي اصغر من كف الايد ده ليه, و130 ايه دول اللي ياخدوهم, هياخدوهم مواصلاتهم! دول هتلاقوهم سبوهم شفقة. 


انتفضت واقفة بجبين مقطب وقد ضرب حديث والدتها كرامتها في مقتل, لتردد نزقة:


- خلاص يا ما ده انتِ شردتيني! طب يعني تفتكري الضابط ده له يد في الموضوع؟ 


قطبت ما بين حاجبيها بتعجب تقول:


- وهو ايه مصلحته؟ 


نفضت شعرها للخلف بقلق وهي تجيبها:


- يمكن عشان يجبرني اشتغل معاه واعمل اللي هو عاوزه. 


- وهو الموضوع مهم للدرجادي! ولا مفيش غيرك يعمل ده, ما يقدر يجيب مية واحدة غيرك. 


طالعتها بتشتت ثم قالت:


- مش عارفه... مجرد شك. 


- طب هتعملي ايه هتروحيله؟ 


التقطت هاتفها وحافظتها وهي تجيبها:


- لازم اروح, واشوف يمكن اعرف إجابات لأسئلتي, المهم انتِ متأكده انك تمام؟ راسك مش وجعاكي نروح المستوصف! 


مسدت على مؤخرة رأسها بألم طفيف وقالت:


- شوية وجع زي الصداع كده شوية وهيروحوا لحالهم, متشغليش بالك بيا, روحي انتِ مصلحتك يلا, وارجعي على هنا عشان تعرفيني اللي حصل ابقي انزلي الشغل بعد العصر. 


اومأت موافقة وهي تفتح الباب متجهة للخارج وهي تخطو نحو إجابات اسئلتها. 


******** 

بقسم الشرطة...


- تعالي يا فيروز. 


قالها وهو يجلس خلف مكتبه بعد أن قابلها بطرقة القسم بالخارج وأمرها أن تتبعه, ظلت تنظر له بانبهار لم تستطع اخفائه وهي تراه ببذلته الرسمية البيضاء لأول مرة, فقبل كانت تراه بملابس شبابيه عادية, جلست فوق الكرسي المقابل له وهي تمشطه بعينين ولهتين, لم تخفي لمعتهما عنه حين نظر لها بعد أن استقر فوق كرسيه, فابتسم ثغره تلقائيًا وهو يسألها:


- مالك؟ مبلمة ليه كده؟ 


رفرفت بأهدابها لتخرج نفسها من حلقة الوله التي حُشرت بها, وقالت وقد غزت حمرة طفيفة وجهها:


- ابدا, بس اصل سعادتك يعني البدلة لايقه عليك. 


وصمتت لا تعرف كيف تفوهت بهذه الجملة من الأساس, لتشيح ببصرها بعيدة عنه وتململت في جلستها بغير راحة, ليبتسم هو لإرتباكها الواضح, وأراد صرفه عنها فسألها عابثًا:


- معقول دي اول مرة تشوفي ضابط لابسة البدلة الرسمية؟ 


وبنفس التهور والإندفاع كانت تنظر له مجيبة بتلقائية:


- لا, بس اصل كل اللي شوفتهم ناس ميتبصلهاش, يعني اللي كرشه قدامه مترين, واللي عامل زي البطة البلدي, غير بقى اللي تبصلهم تحس وشهم نازل عليه غضب من ربنا من تكشيرتهم وقلبة وشهم, واللي....


صمتت وهي تشعر أنها قد استرسلت بحد زائد, لتبتسم بارتباك تنهي الحديث:


- كده يعني, لكن سعادتك ولا نجوم السيما لما بيطلعوا بدور ضباط. 


انطلقت ضحكته تصل لمسامعها فتثير مشاعر غريبة بها اكثر, وتجد نفسها تبتسم تلقائيًا وقال:


- ايه حكاية نجوم السيما اللي واكلين عقلك دول؟ وبعدين اللي قولتيه ده يعتبر تنمر على الزملا. 


أسرعت توضح:


- مش تنمر والله, انا مش بتكلم عن شكلهم اللي ربنا خلقه, هم اللي بيظهروا نفسهم كده, يعني ازاي ضابط وجسمه مليان وكرشه قد كده, المفروض يحاولوا يتدربوا حتى لو مش طول الوقت, لازم الشخص يعدل شكله بما يناسب وظيفته مش كده؟ يعني لو روحت لدكتور رجيم ولقيته تخين وجسمه قد كده, هتثق فيه ازاي؟ 


ضيق عينيه يسألها باعجاب واستغراب في آنٍ:


- أنتِ متأكده ان معاكي دبلوم بس؟ ساعات بحس في كلماتك وتعبيرك عن الأمور ان في حتة ثقافة مش عارفه أوصل لمصدرها! 


ابتسمت باتساع وهي تخبره بفخر: 


- اصل انا بقى غاوية قراية جرايد, طالعه لأبويا الله يرحمه, في راجل في شارع جنبنا عنده كشك صغير وبيبع جرايد مع الحاجه, كان ابويا كل يوم يعدي عليه وهو رايح الشغل يشتري جرنال ولما يرجع البيت بليل اخده من واقرأه, ومن يوم ما مات والراجل الله يكرمه بيخليني اقف عنده اخر اليوم اقرأ في الجرايد اللي عوزاها واحطها تاني مكانها, بدل يعني ما اشتري وتكلفة عليا. 


كان مبتسم طوال حديثها, ومعجب, معجب بشخصية هذه الفتاة التي تبهره في كل لقاء بينهما وتفاجئه, فهو من البداية لم يتوقع انها متعلمة والآن تخبره انها مثقفة, وتفاجئه في ردودها الغير متوقعة وتصرفاتها التي تحمل نفس الطباع, شخصية مركبة غريبة لا يسعها سوى أن تدهشك دومًا. 


شعر بصمته الطويل ونظراتها المستفسرة له, فتحمحم يخرج نفسه من دائرة أفكاره وقال بجدية عملية:


- طيب انتِ جاية ترجعي الفلوس صح؟ 


لقد نست ما جاءت من اجله, وانتشلها هو الآن من اللحظات الهادئة التي مرت ليلقي بها في فوهة البركان مرة أخرى, تعرق جبينها وهي تحاول الحصول على مبتغاها بطريقة غير مباشرة, فقالت بريق جاف:


- هو يعني يا باشا لو اتعذرت في الفلوس ده يسببلك مشكلة؟ 


قطب ما بين حاجبيه بغير فهم:


- اتعذرتِ فيهم يعني محتاجاهم؟ 


اومأت بصمت, فاستكمل متعجبًا:


- ماشي, بس لقد ايه؟ وبعدين انتِ لحقتي تصرفيهم!؟ 


عضت على شفتها السفلى بحرج وسألته بأعين هاربة:


- لقد ايه؟ هو... هو انا لازم ارجعهم صح؟ 


ضحكة خافتة متعجبة صدرت منه وهو يرمقها بغرابة:


- اومال انتِ شايفة غير كده؟ 


همست لنفسها بتأنيب:


- وانتِ يا عبيطة فاكراه هيسبلك مبلغ زي ده لوجه الله! حتى لو مبلغ قليل بالنسباله بردو مش هيسبهولك من غير مقابل. 


ولكن همسها وصل له, فكتم ضحكته على تفكيرها العجيب, وقال موضحًا:


- هو اولاً المبلغ مش قليل بالنسبالي, انتِ فاكرة مرتبي كام عشان 50 الف يبقى مبلغ عادي اسيبه لأي حد! انا لو حبيت اجمع المبلغ ده بعد مصاريفي الشهرية محتاج ولا 10 شهور, ثم إن المبلغ ده مسترد ليا في حالة نجاحك في المهمة. 


- هو انتَ سمعتني!؟ 


رددتها بصدمة واعين متسعة, ليرفع كفيهِ باستسلام مضحك:


- ورديت, فاعتبريني مسمعتش حاجه وتعالي نجيب الكلام من الأول, ها هترديهم في وقت قد ايه؟ 


التوى فمها بمرارة ساخرة وهي تقول بينما تنظر بعيدًا للنافذة المفتوحة:


- لو حضرتك محتاج 10 شهور عشان تجمعهم, فانا ولا 10 سنين. 


عقب ببساطة:


- خلاص رجعي الفلوس لو لسه معاكي. 


نظرت له بأعين ترقرقت الدموع بها وصارحته:


- ولو قولت انهم اتسرقوا هتصدقني؟ 


اتسعت عيناه بصدمة مرددًا:


- اتسرقوا؟ ازاي؟!


ابتعلت مرارة حلقها تجيبه بتنهيدة حزينة:


-  ناس دخلوا علينا الصبح ضربوا امي وخدروني, ولما فوقنا ملقناش الفلوس. 


ضيق عينيه يسألها:


- انتوا المنطقة عندكوا منتشر فيها السرقة؟ 


نفت برأسها مجيبة:


- لا, يعني كل فين وفين على ما ده يحصل.


اومأ برأسه متفهمًا, والتقط ورقة وقلم وهو يقول:


- قوليلي تفاصيل الواقعة, واوصاف العيال دي هحررلك محضر, وفي ظرف يومين هنجيبهم ان شاء الله. 


نظرت له بحيرة تقول:


- بس انا معرفش حاجه عنهم. 


- مواصفاتهم؟


نفت برأسها بيأس:


- معرفهاش, اصل الكلام ده كان الفجرية, الدنيا كانت ضلمة وهم كانوا لابسن اقنعة, وأول ما دخلوا خدروني, انا حتى معرفش كانوا اتنين ولا اكتر. 


سألها مرة أخرى محاولاً الوصول لأي معلومة:


- طب قوليلي في كاميرات في الشارع عندكوا؟ يعني محل ولا بيت حاطط كاميرات قدامه؟ 


نفت مرة أخرى تجيبه متهكمة:


- كاميرات ايه يا باشا كل اللي في  الشارع ناس غلابة مش هيروحوا يصرفوا فلوسهم على كاميرات وكلام فارغ. 


ترك القلم من بين أصابعه ونظر لها ذامم شفتيهِ بأسف:


- مانا كده مش هعرف اساعدك, مفيش أي معلومة تساعدنا منك! 


تنهدت متفهمة وقالت:


- انا عارفه, وإلا كنت اول ما جيت قولت اني عاوزه اعمل محضر.


قطب ما بين حاجبيهِ يسألها بترقب:


- والحل؟ 


نظرت له تستشف رد فعله وهي تبادله السؤال:


- حضرتك شايف ايه؟ 


اراح ظهره على كرسيه وأجابها بوضوح:


- مقدمكيش غير حلين, يا اديكي مهلة ترجعي فيها المبلغ, يا تقبلي بالمهمة وتكملي فيها. 


السير في طريق معلوم المخاطر والآخر مجهول..! 

هي تعلم يقينًا أنها لن تستطيع رد الأموال مهما فعلت, وإن تلاعبت واعطته موعد لردهم فيه ولم تفعل لربما سيسجنها حينها! 


- ولو يعني معرفتش ارد المبلغ وفي نفس الوقت مش هقبل بالمهمة دي!


تساءلت لتقطع شك افكارها باليقين, لتسمع تنهيدته قبل أن يقول بأسف لم تفهم هل هو حقيقي أم مزيف:


- يبقى ساعتها هتضطريني اخد حقي بالقانون.. 


جحظت عيناها وهي تسأله:


- ازاي؟ 


شبك كفيه فوق مكتبه بعد ان مال بجسده عليه, واستفاض موضحًا:


- بصي يا فيروز, انا ضابط, يعني شغلي مش لعبة, ولا انا بعترف بالعواطف والكلام ده, قصدي اقولك, مانكرش اني متعاطف معاكي, ولو همشي ورا عواطفي هقولك خلاص مترديش المبلغ ومسامحك فيه, بس لو همشي ورا اللي علمهولي شغلي, فهقولك اني مش هطلع خسران.. المهمة اللي محتاجك فيها مهما حكتلك مش هتتخيلي أهميتها عندي, لو انتِ مش هتعمليها تمام, هشوف واحده غيرك.. بس الواحدة دي هتحتاج فلوس, وانا حاليا مش معايا اديها.. يبقى لو سامحتك في المبلغ هضطر استنى كام شهر على ما اجمع مبلغ واشوف حد غيرك يقوم بالمهمة, وانا الحقيقة معنديش استعداد استنى يوم حتى, فبناء عليه.. 


صمت يراقب تعابير وجهها, والتي تتقلب ما بين الحزن, والهم, والتيه, وأخيرًا القلق للقادم.. 


- يا الفلوس تيجي, يا تكملي المهمة... لو الفلوس مجاتش, هعملك قضية نصب, وقضية نصب على ضابط يعني مفيش مجال تطعني فيها عشان هظبطها كويس اوي.


وما خشته أصبح واقع يتجسد في كلماته, الطريق المعلوم المخاطر, تتمثل أسوء مخاطره في السجن.. أما الطريق الآخر فلا تعلم ما هي مخاطره من الأساس لتحدد أسوئهم! 

والآن خذلان لا تعرف مصدره, ونظرة متألمة أصابته بالضيق مما قاله لكنه مرغم, فنهض عن كرسيه ملتفًا حول المكتب حتى جلس مقابلاً لها وأكمل بنبرة هادئة:


- بصي يا فيروز انا عمري ما هسببلك أذى عشان مصلحة ليا, يعني لما تروحي لشاهين انا هكون في ضهرك, ليه رفضتي بعد ما وافقتي؟ 


ابتلعت ريقها بصعوبة, وأجابت بنبرة مهتزة:


- خوفت, انتَ قولت انه راجل مش سهل. 


اومأ موافقًا واكمل:


- وقولتلك اني مش هسيبك, وهكون معاكي خطوة بخطوة, المفروض تطمني, وطول مانتِ ماشية على اللي بقول عليه وبتنفذيه مش هتتأذي ابدًا, ثقي فيا. 


وهل لديها حلول؟ وهل ترك لها فرصة للنجاة غير التي أرادها هو؟ أخذت نفسًا عميقًا وهي تلقي بتحذيرات وحديث والدتها عرض الحائط, فماذا ستخسر؟ ليس لديها ما تخسره! وإن كانت أسوء مخاطر الطريق المجهول هو الموت, فيا مرحبًا به! ليست متمسكة بالحياة لهذا القدر. 


- موافقة. 


طالعها بشك يسألها:


- بجد؟ ولا زي المرة اللي فاتت؟ 


نفت برأسها تجيبه بجمود:


- بجد. 


نهض عن كرسيه واتجه لدرج مكتبه واخرج منه بعض الأموال وضعهم أمامها لتتسلط أنظارها عليهم, ولكن ليس بمشاعر المرة السابقة, لا تراهم وليمة صائم, بل تراهم طعم لسمك... والفرق معلوم! 


- دول 20 الف من ال 50 اللي اتفقت معاكي عليهم بعد العملية, خديهم مادام خسرتي التانيين, ويا ستي ربنا يسهل واديكي ال 50 بعد العملية هم هم ومخصمش دول منهم. 


لم تلمسهم كالمرة السابقة, بل رفعت رأسها له بهدوء تسأله:


- هنبدأ امتى؟ 


- بكره, بكره الصبح هكلمك بليل اقولك على عنوان تروحي عليه هتلاقيني مستنيكي هناك. 


نهضت واقفة والتقطت ظرف الأموال بفتور وهي تقول مقررة الانسحاب:


- هنتظر مكالمة سعادتك. 


وانسحبت في هدوء, ليجلس على كرسيه ينظر للباب الذي أغلقته بشرود وعقله قِلق من أن يفقد زمام الأمور أمام عدوه اللدود وتكون هي الضحية..

انهى تفكيره وهو يقول بدافع جديد خفي:


- مش هيحصل, حتى لو في اسوء الأمور وكشفها والمهمة باظت مش هسمحله يأذيها هي ملهاش ذنب.  


*********** 

عادت لمسكنها لتجد والدتها تطبخ الطعام في صالة المنزل التي يحتل جزء منها الموقد وأدوات المطبخ لتجلس فوق الكرسي المتهالك بصمت قطعه سؤال والدتها وهي تقلب الاناء:


- ها عملتي ايه؟ 


تجعدت ملامحها بضيق رافض وهي تسألها ساخرة:


- هو انتِ فاكره انه ممكن يسامحني في الفلوس صحيح؟ 


تشدقت "مديحة" ساخرة:


- يسامحك في الفلوس ليه كنتِ بنت اخته! 


تنهدت تسألها:


- اومال ايه الحل لو مكانش هيسامحني فيهم, هيطلب مني ايه؟ 


- يديكي مهلة تجمعيهم. 


تهكمت تسألها:


- مهلة! وانا هعرف اجمعهم؟ يا ترى هيديني مهلة كام سنة عشان الحق المهم! 


تركت الملعقة الكبير من يدها واستدارت لها نزقة:


- ما تخلصي يا بت وقولي اتفقتي معاه على ايه؟ 


نهضت تخلع وشاح رأسها وتلملم خصلاته بمشبك, وهي تستعد للدلوف للغرفة الأخرى لتغير ثيابها:


- وافقت على المهمة, وهنبدأ فيها من بكرة, واداني 20 الف كمان من فلوسي اللي المفروضة كانت تبقى بعد العملية, قدر ظروفي يعني, ومش عاوزه كلمة زيادة الله يسترك, إلا لو عندك حل تاني. 


اتجهت للغرفة تبدل ثيابها ووقفت "مديحة" على بابها تقول بتردد:


- عندي حل بس انتِ هتوافقي؟ 


توقفت تنظر لها بفضول:


- حل؟ حل ايه؟ 


اتجهت لها تقف أمامها تقول بابتسامة:


- مش انتِ لو رجعتيله الفلوس هتنهي الموضوع معاه؟ 


اومأت برأسها مؤكدة, لتتسع ابتسامة "مديحة" وهي تقول:


- يبقى مفيش غير الحل اللي هقولك عليه, تقبلي بمجد, ونطلب منه ال50 الف مهرك, وهو عمره ما هيرفض, وفي خلال شهرين هيكون دبرهملك, تديهم للضابط وتخلصي منه. 


اغمضت عينيها بنفاذ صبر وابتسمت ابتسامة صفراء تسألها:


- ومجد؟ هخلص منه ازاي؟ 


- وتخلصي منه ليه يا عبيطة؟ يا بت والله مهما لفيتي مش هتلاقي حد شاريكي وبيحبك زيه. 


امتعضت ملامحها تبرر:


- بس انا مبحبوش. 


تنهدت "مديحة" بضيق وقالت ناصحة:


- يا بنتي, هو الحب ده بيأكل ولا يشرب ولا يعيش حتى! يعني لو بتحبيه وشخص قليل الأدب ومبهدلك معاه حبك هينفعك؟ ولا مش قادر يصرف عليكي ويعيشك, الحب هيعيشك! يا بنتي انا مش ضد الحب, بس كله بالعقل بيمشي, هو شخص كويس وطيب وغلبان وايده مليانة, والاهم من كل ده شاريكي وبقاله سنتين مستني موافقتك. 


كادت تتحدث لتقاطعها "مديحة" وهي تقول:


- ورحمة ابوكِ ما تردي دلوقتي, فكري, معاكي اليوم بحاله اهو فكري فيه وشوفي هتقبلي بمجد ولا هترمي نفسك في سكة يا عالم ايه اخرتها, وانتِ بتفكري خلي بالك, ما دام قبلتي تساعدي الضابط ده مرة, يمكن متكونش اخر مرة ويسوق فيها. 


وتركتها خارجة من الغرفة, بعدما القتها في دوامة من التفكير الذي لن ينقطع الا بقرار نهائي. 


********* 

منزل مازن عمران... 


دلف لمنزله بعد يوم انتهى فيه عمله, وكله شغف لغد الذي سيأتي محملاً بأول خطواته نحو نهاية غريمه, طاف بنظره في الأرجاء ليقابله هدوء غريب, قطب ما بين حاجبيهِ مستغربًا وهو ينادي:


- نور... نور انتِ فين؟ 


خرجت فتاة من أحد الغرف بابتسامة مشرقة تلائم ملامحها الجميلة, ولمعة عيناها الرمادية الساحرة, وبنبرة صوتها الهادئة قالت:


- ايه يا سيادة الرائد عامل غاغة ليه؟ 


القى اشيائه الخاصة فوق طاولة مستديرة تقبع بجوار الباب واتجه لها يقول مبتسمًا:


- اصل لقيت الجو هادي فقلقت تكوني لسه مرجعتيش من الشغل. 


- لا يا سيدي رجعت من ساعة, وجبت اكل وانا جاية كمان. 


تنهد بيأس مرددًا:


- بردو اكل مطاعم, مش ناوية ترحمي معدتي وتطبخي. 


قالها وهو متجهًا لغرفته ليبدل ثيابه فأوقفته تسأله:


- انتَ لابس ميري ليه؟ بعدين انا مبطبخش غير يوم اجازتي. 


وقف على اعتاب غرفته واجابها:


- كان عندي مأمورية الصبح, ويارب يوم اجازتك ييجي بسرعة بقى. 


ضحكت بلطف تعقب:


- هانت خلاص ده بعد بكره, ادخل خد شاور وغير هدومك عشان ناكل. 


أدى التحية العسكرية مازحًا تحت ضحكتها التي انطلقت تصدح في المكان:


- تمام يا فندم. 


دلفت لغرفتها على رنين صوت هاتفها, اتجهت تلتقطه بابتسامة اختفت حين رأت اسم المتصل, وركضت تنظر بحرص من باب الغرفة على غرفة شقيقها لتجد الباب موصد, فأغلقت بابها هي الأخرى ودلفت لشرفة الغرفة تحاول الابتعاد قدر الإمكان كي لا يسمعها "مازن" وفتحت المكالمة تقول:


- وحشتني اوي كل دي غيبة, بقالك كام يوم مكلمتنيش. 


********* 

فيلا شاهين المنشاوي.. 


دلف لغرفته بعد يوم طويل وشاق, فكان لديه الكثير من الأعمال في شركته, بالإضافة لاجتماع طارئ مع التجار بأحد المناطق البعيدة عن الأعين, فتح هاتفه ليجد مكالمتان فائتتان من شخص محدد, خلع سترته وجلس فوق الفراش بإرهاق طالبًا الرقم, ثواني واتاه الرد ليبتسم ثغره بحب واضح وهو يعتذر:


- حقك عليا, عارف اني مقصر معاكي بقالي كام يوم, بس بجد كان عندي شغل كتير, وأول ما شوفت اتصالك كلمتك قبل ما اغير هدومي حتى. 


وعلى الجهة الأخرى عقبت "نورهان" بابتسامة ولمعة حزينة:


- شاهين بلاش تغيب عني, مش كفاية مقدرش اشوفك, هيبقى كمان مقدرش اكلمك, انا يومي مبيعديش ومبطمنش لو مكلمتكش. 


تنهد "شاهين" بضيق وقال:


- قولتلك نتقابل واخوكِ لو أتكلم هـ...


قاطعته بلهفة قلِقة:


- لا بالله عليك يا شاهين متحاولش حتى, انا مش عاوزه مشاكل بينك وبين مازن, كفاية اللي بينكوا, كمان... ده ممكن يقاطعني لو عرف علاقتي بيك. 


******** انتهى الفــــــــــصل******* 



صلوا على من بكى شوقًا لرؤيتنا "اللهم صلي وسلم وبارك عليه" 

الفصل الرابع ❤️‍🔥


- شاهين بلاش تغيب عني, مش كفاية مقدرش اشوفك, هيبقى كمان مقدرش اكلمك, انا يومي مبيعديش ومبطمنش لو مكلمتكش. 


تنهد "شاهين" بضيق وقال:


- قولتلك نتقابل واخوك لو أتكلم ه...


قاطعته بلهفة قلِقة:


- لا بالله عليك يا شاهين متحاولش حتى, انا مش عاوزه مشاكل بينك وبين مازن, كفاية اللي بينكوا, كمان... ده ممكن يقاطعني لو عرف علاقتي بيك. 


استمعت لدقات فوق باب غرفتها تبعها صوت "مازن" يقول:


- نور.. انتِ جوه؟ 


اسرعت تنهي المكالمة وهي تقول بصوت منخفض:


- طيب سلام دلوقتي يا شاهين هكلمك بعدين.


وأغلقت المكالمة فورًا قبل رد الآخر, لتتجه مسرعة للباب تفتحه بالمفتاح لتجده واقفًا أمامها يطالعها بتعجب وما لبث أن أطلق سراح سؤاله المتوقع:


- قافلة الباب بالمفتاح ليه؟ 


ابتسمت له بتوتر ثم قالت:


- كنت بعدل هدومي, كنت لابسة بادي تحت التيشرت بس حسيت الجو حر فقولت اقلعه. 


انسحب من امامها متجهًا للأريكة وجلس فوقها يقول بلهفة جائع:


- طب اخلصي بقى هاتي الأكل هموت من الجوع. 


تحركت فورًا للمطبخ وهي تقول:


- ثواني بس هسخنه في الميكرويف. 


دلفت للمطبخ لتلتقط أنفاسها براحة وهمست لنفسها بتأنيب:


- بعد كده مينفعش اجازف وارد على شاهين ومازن في البيت لازم اخد حذري اكتر من كده, مش ناقصة مشاكل لو مازن عرف... مشاكل!


رددت كلمتها الأخيرة باستنكار ثم أكملت بخوف:


- دي هتبقى كارثة مش مشاكل بس..! 


فشقيقها بينه وبين "شاهين" مصانع الحداد كما يقولون, والعداوة بينهم منذُ خمس سنوات مضت لم تخفت نيرانها يومًا, ولم يحاول أحدهما تجنب طريق الآخر حتى, بل يقفون ندًا لند, وكلاهما يبحث عن أي وسيلة تثير استفزاز وغضب الآخر, ومهما حاولت أن تقنع "شاهين" أن يحل أموره وديًا مع "مازن" بعيدًا عن عملاهما, لا يقتنع ابدًا خاصًة بعد ما فعله "مازن" من عامين مضوا, وضربته المميتة التي سددها ل "شاهين" في حياته الشخصية وبعيدًا عن العمل, ومن حينها والأخير لا ينفك عن ضرباته الخفية للأول وإعلان انتصاره دومًا وهو يعلم انه بهذا يشعل جحيم مستتر بداخل الآخر. 


********** 

اليوم التالي... 

الحادية عشر صباحًا.. 

وصلت للمكان الذي أخبرها عنه في اتصاله لها بليلة أمس, فوجدته مول تجاري ضخم, لم تعرف أوله من آخره, دلفت  ووقفت بعد دلوفها من الباب تنظر بأعين مبهورة بالمساحة الواسعة للمكان, والمحلات التجارية الفخمة التي تنير أضوائها بشدة لامعة رغم النهار بالخارج, والسلم العالي الموجود بمنتصف الطابق الأول والذي يجاوره سلم آخر كهربائي يصعد عليه البعض, انتفضت على صوته القريب منها وهو يقول:


- وبعدين مش قولنا بلاش انبهارك يبان! 


نظرت له لتجده يرتدي ثياب شبابية عصرية كما اعتادت رؤيته دومًا, والابتسامة البسيطة تزين ثغره فبدى لطيفًا, فابتسمت بارتباك وهي تعيد خصلاتها للخلف وتمسد بكفها على وشاح رأسها الصغير مغمغمه بثرثرة بينما تنظر في اتجاه أحد المحلات:


- اصل المكان هنا واسع اوي, ده ولا 10 بيوت في بعض, بعدين المحلات قايده انوار كتير واحنا لسه بالنهار حتى, طب ده المحل فيهم يستهلك كهربا اكتر من  شارعنا كله. 


 أشار لها لتسير معه وهو يقول مازحًا:


- اكتر من شارعكوا, على كده انتوا بتعيشوا على ضو الشموع! بعدين ده طبيعي, ده مول تجاري كبير لازم كل محل يجذب الأنظار, غير انهم لو طفوا الانوار هتلاقي الدنيا ضلمت شوية والبضاعة مش هتكون بتلمع كده. 


سارت بجواره وعيناها تطوف هنا وهناك وقالت مؤيدة:


- دي بتلمع خالص.


صمتت قليلاً اثناء سيرهما ثم سألته:


- بس احنا بنعمل ايه هنا؟


أجابها وهو يسبقها بخطوة أثناء سيره:


- شوية تعديلات محتاجاهم لزوم المهمة. 


قطبت ما بين حاجبيها مرددة الكلمة باستنكار, ثم رفعت صوتها تسأله:


- تعديلات زي ايه؟ هو انا هعمل عملية تجميل! لا انا مبحبش الحاجات دي. 


نظر لها من فوق كتفه نظرة عابرة ثم عاد ينظر امامه مرددًا بسخرية:


- هتعملي عملية تجميل في مول! ثم إنك مش محتاجة تجميل اصلاً. 


استمعت لجملته الأخيرة لتبتسم على استحياء, وينبض قلبها فرحًا وهي تسمع لثناء أحد على جمالها لأول مرة, وهل فعل من الأساس!! 


توقف بها أمام أحد المحلات والتف لها يقول موضحًا:


- ده بيوتي سنتر, مش هينفع أكون معاكي جوه, بس انا اتواصلت معاهم وفهمتهم كل حاجة هم مستنيينك وهيعملوا اللازم, هتدخلي وتسيبي نفسك ليهم, وانا هستناكي في كافية هنا في المول اول ما تخلصي ترني عليا هجيلك. 


نظرت له وللمحل بتردد وقلق, قرأه هو في عينيها فقال مطمئنًا:


- متقلقيش مجرد تنضيف بشرة وتعديلات في شعرك وباديكير وحاجات البنات دي. 


ابتلعت ريقها بتوجس ولكنها اومأت برأسها له ليشير لها بالدلوف, فتحركت تدفع الباب الزجاجي وقلبها ينبض بارتباك جلي... 


- صباح الخير اقدر اساعدك؟ 


نظرت للفتاة الجالسة خلف مكتب صغير بجوار الباب, لتجيبها وهي تلاحظ نظراتها المستغربة والمستنكرة لملابسها ومظهرها, فرفعت رأسها بكبرياء زائف:


- انا فيروز يسري, في حجز باسمي. 


تفقدت الفتاة الحاسوب الموجود أمامها لثواني ثم قالت:


- مظبوط يا فندم, لحظة هطلبك مديرة البيوتي لان الحجز كان معاها هي شخصيًا. 


وبعد ثواني خرجت سيدة ربما في أوائل الاربعينات من أحد الغرف, مرتدية ثياب أنيقة وشعرها اكتسب لون أشقر "كبعض ممثلات السينما" هذا ما رددته "فيروز" بداخلها وهي تستقبل السيدة وبعد القاء التحية كانت تصطحبها لأحد الغرف وهي تقول:


- الحقيقة ان حضرة الرائد موصي عليكِ جدًا, فانا هعملك جلسة شاملة هتطلعك واحدة تانية. 


وصدقت, فبعد ثلاث ساعات قضتهم تتبع تعليماتهم, وتتنقل من غرفة لغرفة, ومن جهاز لجهاز, كانت تقف أمام المرآة تنظر لانعكاس صورتها بصدمة وفاه فاغر, لا تصدق ان هذه هي! 

بدت بشرتها أكثر رونقًا ونقاءً وشعرها لامعًا ورغم احتفاظه بتجعده لكنه أصبح مرتبًا وكأن تجعيده مفتعل بمجرد تغيير في طبيعته, تخلوا عن وشاح رأسها وصففوا شعرها بطريقة جديدة أظهرت طوله وثقله, حتى حواجبها أعادوا رسمها بشكل منمق أكثر, لم يتركوا شيء فيها إلا وأجروا عليه تغييرات وأضافوا لمستهم. 


- حلو اوي.


هكذا رددت ولم تجد كلمة أكثر توصف الأمر, لتبتسم لها السيدة وهي تقول:


- ملامحك جميلة يا انسة, كانت محتاجه اهتمام بس, عمومًا الباشا دافع الحساب مقدمًا, تقدري تتفضلي. 


اومأت برأسها وهي تنسحب خارجة, لتطلب رقمه, وبعد دقائق قليلة كان يقبل عليها بابتسامة ظهرت حين رآها, وقف أمامها مقيمًا ليكتفي بقول:


- جميل, يلا بقى نكمل مشوارينا. 


والتالي كانت محلات الثياب, وقد انتقى لها بنفسه الكثير منهم, واخيرًا طلب منها أن ترتدي فستان من ضمن المشتريات, وخرجت له بهِ فرأت لمعة غريبة في عينيه وردد:


- روعة... لايق عليكِ جدًا. 


نظرت للفستان الأسود بنقوش حمراء تتمثل في رسومات للفراولة, يصل لبعد ركبتيها وبنصف أكمام وفتحة صدر ضيقة, ضيق للخصر ثم ينسدل باتساع, مسدت على قماشته بارتباك وهي تغمغم بعدم راحة:


- بس ده قصير, وبنص كم, انا مش متعودة على الحاجات دي. 


قيم الفستان بنظرة سريعة ثم عاد لها يسألها مستغربًا:


- هو انتِ محجبة؟ 


نفت برأسها ليكمل:


- طيب, يعني انا جايبلك حاجة طويلة, ومقفول, اعمل ايه اكتر من كده! لبسك اللي كنتِ بتلبسيه ده لبس المحجبات, مينفعش هنا إلا في أوقات قليلة, لكن في العموم لازم تتعودي على اللبس ده, وانا احترمت استايلك في اللبس وجبت حاجه تكون مناسبة. 

ثم نظر لحذائها القديم الذي لا يتناسب ابدًا مع الثوب ومظهرها الجديد, وردد:


- يلا عشان لسه هنشتري الشوز. 


وبعد ساعة كانا يخرجان من باب المول, بمظهر متكامل, بعد أن بدلت حذائها لحذاء بكعب قصير وبربطة لطيفة تزينه من الأمام, وحقيبة يد "كروس" بلون أحمر أنيق يماثل لون الحذاء, وعُقد لامع بفصوص ماسية مماثلة للقرط الذي ارتدته بلون فضي جميل, وضع الحقائب في سيارته وفتح لها الباب لتجلس لجواره, ثم التف يجاورها وهو يقول بينما يبدأ بالتحرك بالسيارة:


- انا كده جبتلك كل اللي هتحتاجيه, اللبس معاه كل الاكسيسورز, حتى البرفيوم وحاجات الميكاب, ياريت لما تحبي تلبسي حاجه منهم توظفي الطقم صح عشان تطلعي بشكل شيك, هنروح دلوقتي على مطعم نتغدا, اكيد جوعتي.. وبعدها هوديكي الشقة اللي أجرتها ليكي. 


خرجت عن صمتها تسأله بعدم فهم: 


- هو انا هعمل ايه؟ يعني هروح الشقة وبعدين؟ هروح للراجل ده امتى ولا ازاي؟ 


نظر لها بجانب عينه نظرة سريعة ثم عاد ينظر للطريق أمامه وهو يقول:


- مين قالك انك هتروحيله؟ 


قطبت ما بين حاجبيها بعدم فهم وقالت:


- يعني ايه؟ مش المفروض هروحله عشان اجيب منه الحاجات اللي سعادتك محتاجها! مش هي دي المهمة؟ 


التوى جانب فمه التواء بسيط بابتسامة هازئة ثم ردد بغموض:


- لا مش هي دي المهمة, انتِ مش هتروحي لشاهين اصلاً. 


لم تفهم فعادت تسأله:


- اومال؟ 


زفر نفس قوي بحماس واضح ثم حرك رأسه بمرح وقال:


- هو اللي هيجيلك, او بمعنى ادق هو اللي هياخدك لحد عنده. 


رمشت بأهدابها بعدم استيعاب ورددت:


- مش فاهمة! 


نظر لها مبتسمًا وقال:


- مش مهم, فكري بقى هتتغدي ايه؟ 


- أي حاجه. 


رددتها بفتور وقد شعرت بالتخبط إثر حديثه والجهل, وهي أكثر ما تكرهه أن تفعل أمر دون أن تفهم كل تفاصيله وتكون على دراية كاملة بكل نواحيه, تشعر نفسها كالحمار الذي يحمل أسفار ولا يعلم لأين ينقلها ولا يدرك وجهته فلا يفعل شيء سوى أنه يسير خلف صاحبه, زفرت باختناق حين أتى هذا التشبيه في مخيلتها, ليقطب "مازن" جبينه يسألها باستغراب:


- مالك؟ 


وانفجرت بهِ وهي تقول بعصبية ذكرته بلقائه الأول بها:


- انا مبحبش ابقى زي البهيمة كده ماشيه وانا مش فاهمه حاجه, الموضوع ده بيخنقني, مفيش حاجه اسمها مش مهم, انا اللي بقوم بالدور الأهم في المهمة دي, وبناءً عليه لازم افهم كل التفاصيل, واعرف كل خطواتي هتكون ايه, محتاجه منك بقى توضحلي كل حاجه لأني مبقدرش اتحمل الوضع ده. 


ذُهل من انفجارها هكذا وكأنه سبها! لِمَ تأخذ الأمر بكل هذه العصبية! قال بهدوء محاولاً كبح غضبها:


- اهدي طيب انا مقصدش اللي فهمتيه, انا بس قولت بلاش اشغل بالك باللي هيتم, كده كده انتي هتعرفي الخطوة قبلها. 


أشاحت برأسها تنظر من النافذة وهي تردد بضيق حقيقي:


- لا لو سمحت مبحبش كده, كفاية انك خدتني المول وجرجرتني للكوافير والمحلات من غير ما تعرفني قبلها, دول كانوا بيتعاملوا معايا جوه كأني عيله, عمالين ياخدوني من جهاز لجهاز ومن اوضه لأوضه, واقعدي هنا, ونامي هنا.. وانا ولا فاهمه حاجه, وانا مبحبش كده, انا طول عمري صوتي من دماغي واي حاجه بعملها بكون انا اللي مقرراها مش حد تاني. 


لم يمنع ضحكته الخافتة التي صدرت منه وهو يقول بمرح:


- يا ستار عليكي شايلة كل ده في قلبك وساكتة! 


- انا بتكلم بجد, لو سمحت محتاجة افهم كل حاجه قبل ما نعملها. 


قال بجدية وهو يصف سيارته جانبًا أمام أحد المطاعم:


- مش كل حاجه هينفع تعرفيها, لكن اوعدك اني هحترم رغبتك واللي ينفع ابلغك بيه هقوله. 


نزلا ودلفا للمطعم سويًا, لتتفاجأ من فخامة ورقي المكان, جلست بتوتر تنظر للجميع حولها, ليطلب منها بعد أن جلس أمامها أن تفتح قائمة الطعام وتختار شيئًا, فتحتها لتتسع عيناها بصدمة وجميع ما بها باللغة الإنجليزية التي تعرف فيها بعض الكلمات التي لن تساعدها ابدًا الان, ولكن صدمتها الحقيقية كانت في الأسعار, وضعتها فوق الطاولة ونظرت له بينما تشير بإصبعها لشيء معين وسألته:


- هو ده سعرها! 


نظر لِمَ تشير له ليومئ مجيبًا, لتشهق بخفوت وهي تعيد النظر للصنف:


- ب 850 جنية! ليه؟ هي دي ايه؟ 


اخبرها موضحًا:


- ده ميكس جريل. 


ونظراتها وتجعد ملامحها اوشت له بأنها لم تفهم, فتنهد شارحًا:


- ده بيكون 2 كفتة, و2 طرب, و2 كباب, وربع فرخة مشويين مع سلطة وعيش أو مع رز حسب ما بتطلبي. 


سألته مضيقة عيناها:


- 2 كيلو! 


اجابها ساخرًا:


- 2 كيلو ايه! 2 صابع. 


علت شهقتها هذه المرة وهي تقول بصدمة:


- ليه! صابعين كفتة وطرب وربع فرخة ب 850 جنية! دي الفرخة كلها ب 200 جنية! وتعملها على اربع مرات, قوم بينا من هنا.


برق بعينيه لها وهو يحرك رأسه مشيرًا لها لتجلس:


- اقعدي, ووطي صوتك, وبطلي تتنيلي تندهشي, مش قولتلك مهما تشوفي حاجه او تنبهري بيها متبينيش! أيه اللي بتعمليه ده! 


حرك رأسها رافضة الصمت او البقاء هنا لتقول:


- اصل الأسعار دي حرام, دي فلوس ندفعها في وجبه! دي الفلوس دي تعيش أسره أسبوع كامل, يالهوي ده انا اليوم كنت بجمع فيه 300 جنيه بالعافية, وكنت بروح بيهم طايره من الفرحة, اجي ادفع في وجبة 850 جنية اللي كنت اجمعهم في 3 او 4 أيام شغل عادي كده! 


تفهم شعورها, وتفهم دهشتها واستنكارها لأسعار ومعيشة الطبقة المرفهة والذي هو منهم, ليقول بهدوء:


- بصي يا فيروز, كل واحد فينا بيعيش على قد دخله وظروف حياته, يعني انتِ اكبر مبلغ ممكن تدفعيه في وجبة كام؟ 


ردت سريعًا:


- 25 جنية, يجيبوا طبق كشري ولا ساندوتش كبدة, ولا فول وطعمية. 


تبسم ثغره تلقائيًا على مدى بساطتها وعفويتها, وقال معقبًا:


- اهو ال 25 جنية دول سعر ازازة ماية في المطاعم اللي زي دي, انا مثلا اقولك اكبر مبلغ ممكن ادفعه في وجبة 1000 جنية لو باكل لوحدي, في ناس تانيه بقى اللي مستوى معيشتهم اعلى مني ومنك يدفعوا في الوجبة لحد 5000 ولا 7000 جنية عادي خالص, ودي مش ارقام فلكية دي بجد, يعني انا اعرف مطعم سعر طبق السلطة فيه 300 جنية, تخيلي لو حبيتي تطلبي لحمة مثلا هتكون بكام! 


صمت لثواني ثم نظر لها يقول بمغزى واضح:


- يعني واحد زي شاهين لو جمعتكوا صدفة تاكلوا في مطعم, لما تلاقيه بيدفع الحساب 5000 جنية ولا اكتر متتفاجئيش ولا تبيني الصدمة اللي شايفها على وشك دي. 


ابتلعت ريقها الذي توقف طوال حديثه, وعقبت بضيق صادق:


- بس ده حرام! ليه مهما كان قدرتك المالية تدفع الوفات في اكلة! يعني طبق السلطة اللي ب 20 جنية في أي مطعم يفرق ايه عن اللي ب 300! ايه عاملين للطماطم مساج! 


ضحك مرتدًا بجسده للوراء ليستريح على ظهر الكرسي, وهز رأسه يقول:


- فرق مستويات مش اكتر, يعني ايجار المحل من اللي الطبق فيهم ب300 ده تلاقيه غالي جدا, وتلاقي الاستف عنده كبير, وهكذا.. فبالتالي يزود الأسعار والناس اللي بتروحه مبيفرقش معاهم ومتعودين على الأسعار دي. 


قلب صفحات القائمة بين يده ثم رفع عينه يسألها:


- اختارتي ايه؟ 


- اختارلي. 


واغلقتها بفتور ونزق تردد لنفسها:


- اما نشوف الاكل ده هيتبلع ازاي أصلا. 


املى للجرسون طلباته ثم نظر لها يسألها:


- ها يا ستي عاوزه تعرفي ايه؟ 


نظرت له بحماس ظهر في مقلتيها:


- يعني ايه هو اللي هياخدني؟ 


تنهد وقد توقع سؤالها وقال بحذر:


- انا وانتِ هنتقابل كتير ونخرج مع بعض, عشان نظهر للي بيراقبوني اننا في علاقة, ووقتها شاهين هيوصلك عشان يضمك لصفه. 


قطبت ما بين حاجبيها بتعجب:


- يعني لو عرف انك على علاقة ببنت هيقربلها هو عشان ياخدها منك, ده قصدك؟ ومعنى كده انه حاطط ناس بتراقبك! 


ذكية, ومستمرة في مفاجأته بفطنتها, أومأ برأسه وقال:


- ده بالضبط اللي هيحصل ومش مسموحلك تسألي عن السبب, واه حاطط ناس بتراقبني زي مانا حاطط ناس بتراقبه عشان كده بعتلك عنوان المول عشان لو كنت خدتك ودخلتي معايا كانوا هيعرفوكي لكن كده انتي دخلتي شخص وخرجتي شخص تاني، المهم انك تركزي معايا لان الأيام الجاية هعلمك كل حاجه عشان لما تكوني معاه متغلطيش وميشكش فيكي, وهنبدأ بقايمة الاكل دي اعرفك على اصنافها عشان وارد تخرجي معاه في مطعم مينفعش متفهميش المنيو ومتعرفيش تطلبي. 


ابتلعت ريقها بحرج وهي تدرك فهمه انها لم تستطيع قراءة أصناف الطعام, انتهى من القائمة بعد نصف ساعة كاملة, وقد اخبرته انها استوعبت البعض والبعض الآخر نسته, فأخبرها أنه لا بأس فمعهم عدة أيام سيعيد فيها التردد على المطاعم كي تستطع التأقلم وفهم كيف يجب أن تتصرف بالخارج ويعطي لها الفرصة في التعامل مع أصحاب الطبقة الراقية والتي تختلف تمامًا عن التعامل مع الطبقة الشعبية. 


- من النهاردة تنسي فيروز وفُلة خالص. 


أخرج من جيبه هاتفه الشخصي وفتحه وهو يقول لها:


- اتعدلي كده وبصي للكاميرا عشان هاخدلك صوره للبطاقة الجديدة. 


فعلت والتقط الصورة لتسأله:


- هي صوره البطاقة بتتاخد بكاميرا موبايل! 


نظر لها ساخرًا:


- ده على أساس انها بطاقة حقيقية وهتروح السجل المدني ولا ايه! دي بطاقة مضروبة بس بطريقة بروفيشنال استحالة حد يشكك في صحتها. 


سألته بابتسامة متحمسة وهي تستند بكوعها على الطاولة مائلة برأسها على كف يدها:


- هيكون اسمي الجديد ايه؟ 


نظر لها ليخبرها بهدوء:


- اتعدلي واقعدي كويس. 


اختفت ابتسامتها وهي تعتدل فارده ظهرها كما اخبرها منذ قليل بأن هذه هي الجلسة الراقية! 


- انتِ عاوزه اسمك ايه؟ 


قالت بتردد:


- هو يعني اسم فيروز هيسبب مشكلة! انا بقول انه اسم متعودة عليه ومحدش أصلا يعرفني بيه. 


نظر لها مفكرًا لثواني ثم قال:


- ماشي... مفيش مشكلة, بس هنغير اسم الاب, هيكون اسمك "فيروز عامر الحديدي" باباكي مسافر لندن لان شغله هناك ومستقر هناك, لما بتحبي تشوفيه بتروحيله زيارة, ومامتك متوفية, وملكيش صحاب لان معظم حياتك كانت في لندن ورجعتي مصر من سنه بس, عندك اتيلية تجاري وده اللي اشترتيه لما رجعتي مصر عشان تشغلي وقتك فيه, بتقضي يومك بين الجيم, والاتيليه والغدا في مطعم, واوقات بتروحي نادي مشتركة فيه, الشقة اللي ساكنة فيها ورث والدتك بس عليها مشاكل مع اهل والدتك, ورافعة قضية عشان يكونلك حق امتلاكها, والقضية دي هي اللي عرفتنا ببعض, بعد ما قابلتك في النادي اللي انا بردو مشترك فيه وحكتيلي عن القضية وقررت اني اتابعها معاكي ودي اللي قربت العلاقة بينا. 


- ايوه بس الاتيليه والنادي والقضية كل دول لو دور وراهم هيلاقي...


قاطعها مبتسمًا يقول بثقة:


- هيلاقي كل دول مظبوطين, الاتيليه ملكك بعقد مزور احنا عاملينه, واشتراك النادي هيلاقيه مظبوط لاني اشتركتلك فيه النهاردة بالفعل ناقص بس البطاقة عشان ياخدوا الاسم, والقضية هو مش هيعرف يوصل لحد عشان يسأل عنها.. والمحامي اللي بيتابعها هيكون حد من رجالتي اللي هيظهر وقت الضرورة... حتى الشقة بواب العمارة حافظ هو هيقول ايه لو أي حد سأله.


فغر فاهها مرددة بصدمة واعجاب في آنٍ:


- مش سايب وراك هفوة!


- كل حاجه مترتبة فوق ما تتخيلي لأن شاهين مش عدو يستهان بيه ابدا..


*********** 

"شركة العقرب لتجميع السيارات"..


كان يجلس "شاهين" بمكبته يتابع اعماله منذ مدة, شعر ببعض التعب فحرر أزرار قميصه ورجع بظهره يستند على ظهر كرسيه واسند رأسه بالمثل مغمض عينيه بإرهاق, استمع لدقات فوق الباب فسمح بالدخول وهو على وضعه, فدلفت من باب مكتبة وابتسمت حين رأت وضعه, فاقتربت من كرسيه ليشعر هو بأصابعها الرفيعة تلمس كتفه بنعومة واغراء وصوتها يهمس بإغواء:


- اسمحلي اعملك مساج يريحك..!  


********** انتهى الفصل********* 




اللهم أعتق رقابنا من النار 

الفصل الخامس 

فراشة في سكُّ العقرب

فتح عينيهِ على حركة أصابعها على كتفه وتتسلل لصدره نظر لها بصمت لتتشجع أكثر وهي تقترب بجسدها مردده بهمس:


- بقالك كتير مبتسألش فيا, يا ترى في جو جديد؟ 


مسك كفها بقسوة اخفت ابتسامتها عن وجهها ولمع القلق في عينيها, ليبتسم ابتسامة باردة وهو يقول:


- اولاً محدش يسألني بعمل ايه ولا مع مين, ثانيًا ايه جو دي انتِ شيفاني عيل *** واخيرًا بقى انتِ عارفه اني بكره الحركات دي في الشغل. 


ابتسمت بارتباك جلي وتوتر حاولت اخفائه:


- اانا مش قصدي.. اانا بس... 


- يا ترى داخله عشان شغل ولا عشان لعب العيال ده! 


حاولت استعادة توازنها وابتعدت عنه خطوات عدة وقالت:


- لا كنت جايه ابلغ حضرتك ان في اجتماع بعد ساعة مع شركة المقاولون. 


- فاكره. 


رددها باقتضاب لتبتلع ريقها بحرج وهي تنسحب بصمت كي تتجنب غضبه, ليوقفها حين كادت تفتح باب الغرفة وهو يقول بجدية:


- هنتعشي سوا الليلة. 


لتعود الابتسامة تزين ثغرها وهي تلتفت ناظرة له بسعادة واضحة لكنها وجدته يتابع اعماله وكأنه لم يقول شيء, لتنسحب وهي تكاد تطير من فرط سعادتها مفكرة في عشاءهم المنتظر في شقته! 

---- 

خرجت معه من المطعم بعدما انهوا طعامهم لتقف معه امام سيارته حين قال:


- يلا عشان اوصلك الشقة. 


اتسعت عيناها من الصدمة تسأله بتفاجئ: 


- الشقة! هو انا مش هروح؟ 


قطب ما بين حاجبيه باستغراب وتشدق ساخرًا:


- اومال انا بحكي في ايه من الصبح! 


رفرفت بأهدابها وكأنها استوعبت الأمر للتو:


- ايوه بس انا مقولتش لامي, انا فكرت اني راجعه! 


رفع كتفيه بلامبالاة:


- كلميها عرفيها. 


- مش معاها تليفون. 


مد كفه لها يقول:


- هاتي تليفونك. 


فتحت حقيبة يدها الباهظة الثمن لتخرج الهاتف العتيق واعطته له, ليضعه في جيبه وهو يخبرها:


- هبعت حد بيه لها, وانتِ انا كده كده جايبلك موبايل جديد في العربية ابقي استخدميه رني عليها وكلميها. 


انصاعت لرغبته قسرًا واستقلت معه السيارة ليعطيها الهاتف الذي نظرت له بجهل وهي تقلبه بين يدها وقالت:


- بس انا مش هفهم فيه. 


ابتسم له ابتسامة لطيفة هكذا رأتها قبل أن يقول بابتسامة جانبية:


- هعلمك, اومال انا لزمتي ايه!؟ 


ابتسمت على جملته وهي تنظر من نافذة السيارة تنظر للطريق بسعادة فدومًا كانت ترى السيارات الفارهة تمر من أمامها وتقف على نافذتها لتبيع بضاعتها لكن ولأول مرة تكون بداخلها وتستقلها, شعور جديد ونظرة مختلفة وهي تنظر للعالم من داخل سيارة حديثة مثل هذه, ولكن انثرت ابتسامتها فور أن تذكرت أن كل هذا مؤقت, وبعد فترة طالت أو قصرت ستعود لترى السيارات من الخارج دون أن تجرأ على الاقتراب منها إلا لبيع الفُل! 


❈-❈-❈


ضيق عينيه وهو يستمع لِمَ يُقال عبر الهاتف, وما لبث أن سأل المتصل:


" مين البت دي؟ ظهرت معاه قبل كده؟ "


" اممم, يعني شكلها مش مألوف ليك!" 


" تمام عمومًا عاوز اعرف كل حاجه عنها, وتنقلي كل اللي بيحصل عندك" 


أغلق معه الهاتف وهو يفكر فيما وصله من أخبار, ليبتسم شدقه ساخرًا وهو يهمس لذاته:


- معقول يكون في علاقة غرامية! 


صمت يفكر مرة أخرى فقط لو كان الأمر حقيقيًا ليقول ثانيًة وقد تبدلت ابتسامته لأخرى ماكرة:


- ده لو كده يبقى لازم اتدخل.


وشرد بنظره في الفراغ يتذكر تلك الضربة القاسية التي سددها له "مازن" منذ عامين وعدة أشهر, تلك الضربة التي نجحت ولأول مرة بهزه, وزعزعت ثباته لكنه سريعًا ما ثبت وهو يستعيد نفسه كي لا يسمع لعدوه بالانتصار والرقص على جثته, ولكن بينه وبين نفسه يعترف انه قد خسر تلك الجولة, وكانت بئس الخسارة. 


❈-❈-❈

دلفت للشقة تنظر لأرجائها بصدمة لم تبرح وجهها, وفاهها فاغر كعادتها, لا تصدق أنها ترى شقة كتلك التي تراها في التلفاز, كتلك التي رأتها في فيلم "لرشدي أباظة" بعدما ابتاعها ليسكن بها هو وزوجته والتي أدت دورها الفنانة "شادية", لم تمنع لسانها وهي تغمغم بينما تستكشف المكان:


- دي زي اللي كانت في الفيلم بالضبط! 


هز رأسه يائسًا منها وهو يقول بتعجب:


- انتِ الأفلام لحست مخك! كل حاجه في الدنيا بتشبهيها بالافلام وابطالها! 


نظرت له تبتسم بحرج وهي تبرر:


- هو يعني الحاجات دي هشوفها فين غير في الأفلام يا باشا. 


- مازن. 


قطبت جبينها بعدم فهم, ليقول موضحًا:


- قوليلي مازن, اعتقد ده هيسهل علينا اكتر نبان قدام اللي بيراقبونا اننا في علاقة فعلا.


ارتبكت وظهر هذا على تحركات جسدها وكفها الذي ارتفع يمسد جبهتها بحرج, واكتفت بعدها بقول:


- هحاول اصل مش متعودة يعني. 


ليقول بابتسامة مرحة:


- لا اتعودي بقى. 


طافت في أرجاء الشقة ذات الردهة الواسعة والاثاث الفاخر التفت له تسأله بحيرة:


- بس الشقة فيها اربع اوض نوم هعمل بيهم ايه؟


- بصي انا كنت بدورلك على شقة تكون مناسبة مستواكي, فاكيد مفيش شقة اوضة واحدة, اقعدي في واحده منهم وسيبي الباقي فاضيين عادي, المهم الشنط اللي معايا في العربية مش هينفع اطلعهم لاني لاحظت الكلب اللي بيراقبني تحت ولو شاف كل الشنط دي هيشك, هبقى ابعتهملك مع حد ومعاهم حاجات اكل لزوم القعدة. 


- هتمشي؟ 


سألته بقلق واضح ليضحك عليها:


- اومال هفضل؟ احنا هنظهر بينا علاقة مش متجوزين! 


اختضبت وجنتها بحمرة الحرج والخجل في آنٍ, وابتسم هو مكتشفًا خجلها واحمراها الدائم والذي يزين سمرتها فتبدو جميلة بحق, جمال فريد ومميز, وقالت بارتباك:


- مش قصدي.. بس قلقانة من المكان, جديد عليا والليل دخل. 


تفهم خوفها, فقال يطمئنها:


- متقلقيش, الدنيا هنا امان, في تحت بواب وحارس, وغير ان الباب له قفلين, وكمان انا سجلت رقمي عندك, أي حاجه تحصل كلميني هكون عندك, مش انتِ بقيتِ تتعاملي مع الموبايل؟ 


- يعني على قد الاتصال اللي ورتهولي.


- مش هتحتاجي اكتر من كده حاليًا, لحد ما بكره اقعد معاكي وافهمك حاجات اكتر فيه. 


غمغمت بهدوء:


- ماشي. 


انسحب للباب الخارجي وهو يخبرها:


- اقفلي ورايا كويس, هبعتلك الحاجة كمان ساعة مع حد من رجالتي. 


خرج فاغلقت الباب خلفه, ووقفت تنظر للشقة برهبة, رغم سعادتها, لكنها تشعر بالرهبة من مكان جديد وحياة جديدة وكل هذا وهي بمفردها بدون والدتها التي اعتادت على وجودها معها دومًا. 


❈-❈-❈

ارتدت ثياب بيتية مريحة وجميلة, وجلست فوق الفراش وقد احتلتها سعادة لا يمكنها وصفها, الآن بالفعل تشعر بجمال الحياة الجديدة, وهي تنظر للمقرمشات التي تملأ الاطباق امامها وكوب القهوة الساخنة التي تضعها أمامها, والتلفاز الألوان الذي تراه لأول مرة, رفعت هاتفها تطلب رقم والدتها لتجيب بعد ثواني, فقالت بلهفة:


- ماما عامله ايه؟ 


- انا كويسة, طمنيني عليكِ انتِ يا فيروز, كده تمشي فجأة من غير ما تعرفيني, وتقبلي مهمة الراجل ده من غير ما نتكلم. 


عقبت "فيروز" بحزن:


- يا ماما احنا اتكلمنا امبارح, وانتِ اقترحتي فكرة مجد, لكن انا مش هقبل بكده, مجد فعلاً شخص كويس, يبقى يستحق اني اخدعه واقبل بيه عشان مصالح شخصية ليا! مش هقدر أكون زوجة كويسة له, انا اخترت الحل اللي لو أذى مش هيأذي حد غيري. 


اتاها صوت والدتها القلقة:


- طب طمنيني بتعلمي ايه ولا عملتي ايه؟ 


سردت لها كل ما حدث على مدار اليوم وأنهت حديثها قائلة ببهجة كالطفل الصغير:


- الشقة حلوه اوي, والهدوم تجنن, انا قاعدة على السرير وقدامي كوباية قهوة وحاجات كده انا مش عارفه هي ايه بس طعمها حلو. 


تحمست أكثر وهي تنظر للتلفاز امامها وتنقل الصورة لوالدتها:


- ماما هنا في تلفزيون من الملون ده, الصورة فيه تحفة, احسن من الأبيض واسود بكتير, تحسي انك قاعدة معاهم, كان نفسي تكوني معايا وتشوفي كل الحاجات دي. 


أردفت أخر جملتها بحزن حقيقي التمس قلب والدتها التي ابتسمت وهي تخبرها:


- لما انتِ تتمتعي كأني انا معاكِ بالضبط, بس المهم تخلي بالك يا بنتي, ركزي وخدي بالك من نفسك يا فيروز, لو جرالك حاجه بعد الشر مفيش حاجه هتنفعنا ولا حتى البية اللي اهم حاجه مهمته تخلص. 


- متقلقيش, وبصي انا سبت ال20 الف عندك, اصرفي منهم ومتبخليش على نفسك, وانا أي فلوس هتيجي في ايدي هبعتلك منها. 


- يا بنتي فلوس ايه بس, ده ال 20 الف دول يعيشوني سنه, المهم خلي بالك من نفسك ودايما كلميني طمنيني عنك. 


- حاضر يا ماما, عاوزه حاجه؟ 


- لا يا حبيبتي تصبحي على خير. 


أغلقت معها المكالمة, وأنهت ما امامها, مع انتهاء الفيلم, فنظرت للساعة لتجدها تشير للحادية عشر مساءً, فردت ذراعيها بتعب وقد حضر سلطان النوم, لتحمل الاطباق وتضعهم في المطبخ, ثم عادت تغلق التلفاز والاضواء لتتسطح فوق الفراش الوثير لتشعر وكأنها تنام على بساط, لكنها شعرت في الوقت ذاته بالخوف, وأصوات الهواء بالخارج كانت تثير رعبها رغم خفوتها, ظلت هكذا لمدة لكنها لم تستطع النوم, فنهضت تفتح الأضواء ثم التلفاز وأتت بقناة للقران الكريم, وتسطحت فوق الفراش تستمع لها حتى غلبها سلطان النوم بسرعة, وقد كان كلام الله خير ونيس. 


❈-❈-❈

ثلاثة أيام مروا...


لم ينفكوا عن الخروج, بين المطاعم والمقاهي وأماكن عِدة, والمراقب يترصد كل شيء يحدث وينقله لسيده, ألحت عليه أن يذهبوا للسينما ورغم رفضه لكنه انصاع اخيرًا, وقد كان يوم رائع وتجربة اسعدتها حقًا, خرجا من السينما, لتبتسم بفرحة عارمة, وتفتح ذراعيها بحماس وهي تردد:


- تحفـــــــــة, السينما دي طلعت ممتعة اوي اوي. 

ابتسم تلقائيًا على رد فعلها, وسعد أنه لم يرفض عرضها للقدوم لتجربة كهذه, نظرت له وهي تسير بظهرها مرددة بسعادة:


- المرة الجاي نروح الملاهي. 


ارتفع حاجبيه بدهشة سرعان ما تحولت لضحكة عالية صدرت منه وهو يقول:


- فيروز احنا قولنا في علاقة يعني بنحب بعض, مقولتش انك بنت اختي! 


ضحكت بانطلاق وهي تقول بمرح:


- يعني هترفض بردو زي السينما وفي الاخر طلعت ممتعة وانت اتبسط. 


أردف بلهفة وهو يجذبها من ذراعها له حين رآها على وشك الاصطدام برجل يسير غير منتبها خلفها:


- حاسبي.. 


ارتطمت بصدره على أثر جذبه لها, لتنظر خلفها بخضة لتجد رجل يسير باتجاههما, انتبهت لوضعها فنظرت له وهي بهذا القرب الخطير, لينتفض قلبها ويتجمد جسدها بين ذراعيه, منذ رأته وهي تشعر بمشاعر غريبة تجاهه, مشاعر بدت تغزوها اكثر بكل موقف يجمعهما, وكل قرب بينهما رغمًا عنها تشعر بشيء يغزوها جديد عليها ولا تستطع تفسيره.

وعنه فنظر لها بعد أن رفعه يده للرجل بمعنى لا شيء, وعاد ينظر لها ليتحدث فرُبط لسانه وهو يراها بهذا القرب, عيناها قريبة جدا له, حتى بات يرى نفسه فيهما بعد أن رفعت رأسها لتنظر له, عيناها جميلة بها شيء مميز, كلونها وملامحها, تشبه المزج بين البندق وحبات البُن, شيء جعله ينظر فيهما صامتًا لثواني قطعتهما هي حين استوعبت لوضعهم, فابتعدت بخجل ظهر على وجهها, ونظرت لجهة أخرى متفادية النظر له, ليتحمم هو الآخر بارتباك قبل أن يقول وهو يسبقها:


- يلا خلينا نروح كفاية كده. 


اتبعته وهي مازالت تحت وطأة الخجل والحرج من الموقف لتتمنى أن تغمض عينيها وتفتحهما لتجد نفسها في الشقة وقد انفردت بنفسها بعيدًا عن نظراته. 


❈-❈-❈

ولم تنم ليلتها بسهولة, ابدًا... بل ظلت تتقلب على فراشها كالذي يتقلب على الجمر, وعقلها لا ينفك عن تذكر اوقاتهما معًا, تارة تعنف نفسها بأن كل هذا مجرد مهمة وليس حقيقي, وتارة تترك نفسها لخيالها ومشاعرها التي تشعر بها لأول مرة, وبين هذا وذاك ضاعت وتأرجحت على حبال الحيرة, فقط ما تدركه أنها تتحمس لغد رغم خجلها منه بعد موقف اليوم, تتحمس لقضاء جولة أخرى وذكريات جديدة. 


❈-❈-❈

وهو لم يسهد ليله مثلها, لكنها شغلت باله لفترة ليست بقليلة, وظل يفكر بها بشكل مختلف بعيد عن مهمتهم الرسمية, يتذكر عيناها, ولونهما الذي ضاع بهما, وشعوره وهي بين يديهِ, يتذكر سعادتها بأقل الأشياء التي كان يفعلها او يجلبها لها, وفرحتها كالطفلة الصغيرة بكل تجربة جديدة, لتبدأ الحيرة بالتسلل له..! 

❈-❈-❈


وقف امامه بعدما سرد له كل ما حدث في الفترة السابقة, تفصيلاً! وانهى حديثه منتظر تعليماته, كان جالسًا فوق كرسيه ينفث دخان لفافته بهدوء مصنعًا غمامة من الدخان حوله, وملامحه جامدة, كأنه لم يستمع أو لم يهتم! وأخيرًا خرج عن صمته يسأله:


- يعني معرفتش علاقتهم ايه بالضبط؟ 


أجابه حائرًا:


- والله يا باشا مش عارف, انا جبت لحضرتك كل المعلومات عنها, بس يعني مشوفتها شمعاه قبل كده, فبقول لو بينهم علاقة ازاي ظهرت فجأة كده؟ 


سأله بتروي:


- صورتهم زي ما قولتلك؟ 


اومأ سريعًا واخرج هاتفه يعبث به ثواني ثم رفع رأسه يقول:


- بعت لحضرتك الصور. 


التقط هاتفه وفتح الصور, ليجد خمس صور بوضعيات وملابس مختلفة, وتوقف عند أحدهم وهي بين أحضانه بهذا القرب! دقق بالصور جيدًا ولم يظهر بها وجهها فكان ظهرها للصورة, والصور الأخرى كانت تظهر بنصف وجه, فلم يتبين ملامحها جيدًا, تمعن في الصورة لثواني قبل أن يقول ساخرًا وابتسامة ثعلبية تزين ثغره:


- يا حمار بقى بعد الصور دي ومش متأكد من العلاقة بينهم! مش مهم بدأت ازاي وامتى, المهم ان في علاقة. 


- اللي تشوفه يا باشا سعادتك أدرى. 


رفع عينيه الماكرتين وهو يقول بتلذذ:


- سيبهم شوية كمان, خليهم يستمتعوا بحياتهم, بس مش هنسيبهم كتير. 


- أمرك يا باشا بعد اذنك. 


وانسحب لتستقر رأس "شاهين" على كرسيه وهو ينفخ دخانه باستمتاع ولذة غريبة انتابته فور تأكده من شكوكه, وقال بعبث:


- وقعت تحت ايدي يا بن عمران, والمرادي هعلن انتصاري كالعادة بس هتكون نهاية الفورة. 


❈-❈-❈

بدأ اليوم.. 


وكانت ما زالت تلبس رداء الخجل في بدايته حتى وجدته يتعامل كأن شيء لم يحدث, فتعاملت هي الأخرى بطبيعتها, وفازت بإصرارها حين ذهبا لمنطقة الألعاب, ليخبرها بحزم ما إن دخلاها:


- بصي أي لعبة هتركبيها هتكوني لوحدك, انا مش ناقص هبل. 


نظرت له بخبث واومأت ببراءة زائفة موافقة على حديثه فقط ليبدأ المرح وبعدها ستوقعه في الفخ..


وقد كان فبأول لعبة وقفت تنظر لها برهبة حقيقية لأنها تجربها لأول مرة, وما تراه أمامها يخيف, فحثها صاحب اللعبة على الإسراع للركوب فهي على وشك البدء, لتنظر له حينها بخوف حقيقي وهي تقول:


- ممكن تركب معايا؟ 


برقت عيناه وهو يقول بحدة:


- احنا قولنا ايه! 


بدلت نظراتها بينه وبين اللعبة لتقول بتمني وخوف في آنٍ:


- نفسي اجربها بس خايفة؟ 


احتدت نبرته اكثر وهو يسألها ساخرًا:


- وما دام خايفة بتيجي ليه من الأول!؟


نظرت له ببراءة صادقة هذه المرة وبررت بحزن خفي لكنه أدركه:


- اصل انا طول عمري وانا صغيرة اشوف الملاهي واعدي عليها اقف بره اتفرج على اللي بيلعبوا, بس عمر ما كان عندي رفاهية اني ادخل واجرب, انا عارفة ان كل اللي بنعمله شغل, وكل ده جزء من المهمة, بس مش هكدب عليك, انا خدتها وسيلة احقق بيها كل حاجه اتحرمت من اني اجربها, بس خلاص لو مش عاوز خلينا نمشي. 


زفر أنفاسه بضيق وقد لمسه شعورها, ليصمت لثواني قبل أن ينظر للرجل بضيق وهو يقول:


- هركب معاها وابقى اقطع التذكرة بعد ما انزل. 


وافق الرجل, ليتجه للعبة يسبقها, لتضحك بسعادة بالغة وهي تصفق بكفيها, واتبعته حتى جلست جواره بعد أن اغلق الرجل المانع الحديدي الحامي لهما, ولم تمنع نفسها من النظر له بابتسامة مردفه:


- شكرا. 


اكتفى بهز رأسه لتبدأ اللعبة ويبدأ صراخها المستمتع والذي تحول لصراخ خائف حين ارتفع مستوى الصعود, لتتمسك بذراعه بخوف وهي تصرخ به ان يوقف اللعبة وكأنه المتحكم! فانطلقت ضحكاته عليها وهو يتابع رد فعلها وحركاتها التي لم تزده الا ضحكًا. 


نزلا من اللعبة وهي تترنح بينما ذراعه يسندها وضحكاته لا تتوقف عليها, لتقول بتعب:


- يلا نروح.


رفض بشدة ضاحكًا:


- نروح ايه والله ما يحصل, ده انا حبيت الألعاب  اوي تعالي نجرب حاجه تانيه.


وتكرر صراخها وتكرر ضحكه عليها واستمتاعه بأفعالها ولم يتوقف إلا حين شعر بتعبها حقًا. 


وبنهاية اليوم كانت تخبره بابتسامة صادقة:


- انا عارفة ان كل ده شغل, بس مش شغلك انك توديني أماكن حابة اروحها, ونجرب حاجات كان نفسي اجربها, فحابه اقولك شكرًا. 


ابتسم لها ابتسامة صافية واحنى رأسه بطريقة مسرحية:


- العفو يا آنسة. 


ضحكت باتساع وهي تنوي الهبوط من سيارته فأوقفها يقول:


- بكره عندنا مشوار مهم, هعدي عليكي الساعة 2 الضهر. 


اومأت دون أن تسأله عن ماهية المشوار وترجلت وابتسامتها تزين ثغرها لليوم الرابع على التوالي وبسببه...حتى وإن كان عملاً.


❈-❈-❈


باليوم التالي... 


توقفت معه امام باب شقة لم تدرك ماهيتها ولا لِمَ أتيا لهنا, لكنه أخبرها أنهم سيزورون أحدهم, ورغم قلقها لكنها أعدت نفسها للفرار في أي لحظة غدر, فتح الباب بمفتاحه وهذا جعلها تستغرب أكثر وارتدت خطوات قليلة للخلف بعدم اطمئنان, فابتسم على فعلتها وغاب بالداخل قليلاً وهي يأكلها القلق في الخارج, حتى خرج لها ومعه فتاة بعمر صغير لتتسع عيناها ذهولاً وقد ظنت أنها زوجته, فامتعضت ملامحها وأحست بضيق يطبق على صدرها, سرعان ما زال وانفرجت اساريرها حين قال معرفًا:


- نورهان أختي... 


ولكن سؤال لاح في أفق ذهنها لماذا يعرفها على شقيقته؟!


- ودي يا نورهان فيروز تقدري تقولي اننا بنحضر لخطوبة قريب.


وهنا طاح عقلها أكثر وهي لا تفهم ما يفعله ولِمَ يفعل؟؟!

تكملة الرواية من هناااااااا


تعليقات

التنقل السريع