رواية فراشة في سك العقرب الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ناهد خالد حصريه
رواية فراشة في سك العقرب الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ناهد خالد حصريه
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
الفصل السادس
فراشة في سكُّ العقرب
جلست تنقل بصرها بينهما وابتسامة ودودة تزين ثغرها طوال الوقت, لطيفة هذه "نورهان" ويبدو أنها سعيدة بوجودها فتفعل كل ما بوسعها لتعلن تقبلها لها, نهضت فجأة وهي تخبرهم بأنها ستجلب العصير وتعود, حافظت على ابتسامتها حتى اختفت "نورهان" خلف أحد الحوائط فاختفت معها ضحكتها وهي تنظر له بغيظ حقيقي بينما تسأله باستخفاف:
- هي الحكاية بتقلب جد ولا حاجه؟
نظر لها بابتسامة باردة وسألها بهدوء:
- ليه بتقولي كده؟
اغتاظت وهي تقطب جبينها:
- بجد؟ ممكن تفهمني ايه لازمة اننا نيجي لاختك وتعرفها ان في علاقه ما بينا؟ بتكدب عليها ليه اصلاً؟
حافظ على بسمته وهو يجيبها:
- عشان شاهين زمانه عرف اني جبتك بيتي, وما دام جبتك هنا يبقى خلاص علاقتنا اكيده مش كده وبس, ده معناه اننا هنتخطب او نتجوز قريب, هو عارف ان لو في علاقة جادة اول واحده هعرفها بيها هي اختي, هو متأكد اني مبخبيش عليها حاجه مهمة زي دي.
نظرت له لثواني بصمت وعقلها تعبث بهِ الالف الأسئلة, وأخيرًا حدجته بنظرة شك وهي تسأله:
- هو يعرف منين انك مبتخبيش حاجه عن اختك؟
اختفت ابتسامته وظهر الضيق جليًا على وجهه وهو يسألها مستنكرًا:
- هتفيدك الإجابة بحاجة؟ ثم إن مش كل شيء ضروري تعرفيه.
ونفس الصمت ونفس النظرة مرة أخرى وأنهتها بقولها:
- طب خد بالك إنك دايمًا بتعمل الحاجة اللي قولتلك انها بتضايقني, وبردو جبتني هنا على عمايا ومعرفتنيش جايين ليه ولا لمين.
اتسعت عيناه ورفع حاجبيهِ بذهول بينما قال ضاحكًا بمرح:
- هو انتِ فكرتيني خطيبك بجد وبتنكدي! احنا في مهمة ولا نسيتِ!
ظن ان جملته ستخجلها كالعادة فتصمت ويخرجها من صلب الموضوع لكنها كانت أذكى فابتسمت بسماجة وهي تجيبه:
- لا فاكره, بس عاوزه اقولك اني مش مرتاحة.
وقبل أن ينطق خرج صوت "نورهان" وهي قادمة من الداخل بينما تحمل صينية فوقها ثلاثة أكواب من العصير:
- قوليلي بقى عرفتي مازن ازاي؟
وضعت الصينية وناولت "فيروز" كوبًا لتبتسم لها بلطف وأجابت سؤالها:
- في النادي, اصل انا بروح هناك كتير وهو كمان, وكان عندي قضية لما حكيتله عنها تطوع انه يتابعها معايا ومن هنا خدنا ارقام بعض وبدأت العلاقة.
ونظرت له لتجده يومأ لها بعينيه بأنها على الطريق الصحيح, فعادت بنظرها ل"نورهان" التي ابتسمت بهدوء وهي تقول:
- تعرفي دي اول مرة مازن يحب ويرتبط, ودي بالنسبالي حاجه غريبة جدا, انا كنت قربت اصدق انه معقد.
وضحكت في كلمتها الأخيرة لتنظر لشقيقها الذي هز رأسه يائسًا منها, فابتسمت "فيروز" وهي تعلم حقيقة أولى عن حياته التي لا تدرك منها شيئًا, وشعور بالسعادة تسلل إليها وهي تعلم بأنه لم يسبق أن زاره الحب ولم يكن له أي علاقة بجنس حواء من قبل, فإن حدث لكانت شقيقته على عِلم فهو لا يخفي عنها شيئًا كما أخبرها منذ قليل.
- مش يمكن عشان نصيبه فيا.
قالتها على استحياء وهي تجاري حديث شقيقته, لتنظر له تلقائيًا فوجدته يلقي لها بغمزة من عينه اليسرى اختضبت لها وجنتيها وهي تشيح بنظرها عنه, ليبتسم هو من خجلها المبالغ الذي يظهر من أقل كلمة أو حركة تصدر منه.
❈-❈-❈
استقلت السيارة لجواره ليخبرها:
- هنروح نتغدا في مطعم الأول, وبعد كده هضطر اوصلك عشان عندي لسه شوية شغل في المديرية.
اومأت بصمت دام طوال الطريق ولم تجد ما تتحدث فيه, لكنها انتظرت أن يتحدث هو لكنه أيضًا لم يفعل, فزفرت بإحباط وهي تتابع الطريق بصمت.
وصلا لأحد المطاعم ودلفا للداخل ليجذب لها الكرسي في حركة معتادة منه لكنها دومًا ما تجعلها تبتسم وهي تلقى منه التقدير بفعلة بسيطة كهذه.
جلس أمامها وابتسم لها وهو يقدم لها قائمة الطعام قائلاً:
- يلا ابهريني واطلبي حاجه اسبشيال.
ابتسمت له وهي تفتح القائمة بثقة وتنقل بصرها بين الأصناف حتى قالت له أخيرًا:
- هاخد pasta white sauce , grilled meat, يعني مكرونة بالصوص الأبيض, ولحمة مشوية.
رفع حاجبيه بانبهار لم يخفيه وهو يرفع كفيه يصفق بهما تصفيقه خافتة وقال:
- واو, ابهرتيني, بس مش متفاجأ لأني من مدة أدركت ذكائك وشطارتك.
ابتسمت وهي تضع القائمة جانبًا وقالت:
- مش هشكر في نفسي, بس انا فعلاً ذكية, حتى كل المدرسين أيام الاعدادي كانوا يقولولي كده, وكانوا يقولوا لماما دي لازم تدخل طب, بس نصيب بقا.
- اكيد جبتِ مجموع كويس في اعدادي.
اومأت بلمعة حماس لمعت بمقلتيها:
- ايوه, جبت 95% يعني كنت ادخل ثانوي مرتاحة جدًا, بس مصاريفه كانت هتبقى كتير اوي علينا بعد وفاة بابا, وانا قررت ما اتقلش الحمل على ماما, فدخلت تجارة وخدت الدبلوم.
وبتلقائية منه مد كفه يربط على كفها القريب وهو يقول:
- ربنا هيعوضك اكيد.
انتفضت بخفة على لمسته وابعدت كفها فورًا, ورجعت بظهرها للوراء كأنها تحمي نفسها من أي لمسة مفاجأة منه, فانتبه لفعلته, فاستغرب واستنكر في الوقت ذاته, فهو دومًا ما يتحكم في أفعاله, لكن لربما أثارت عاطفته لا أكثر! هكذا برر لنفسه قبل أن يتحمحم بحرج وهو يقول:
- أسف, أنا بس حبيت اقولك إن كل حاجة في حياتنا لها حكمة, واكيد ربنا شايلك الخير في حاجه تانيه.
اومأت برأسها عدة مرات وهي تتجنب النظر له قبل أن تسأله مغيرة الموضوع:
- ليه بتقول ان شاهين ده هتجمعني بيه مطاعم واني هكون قريبة منه لدرجة اني اشوف المبالغ الكبيرة اللي بيدفعها في حاجات تافهه؟ هو اصلاً لما يحب يقرب مني هيعملها ازاي؟
رفع كفيهِ أمام منكبيهِ وهو يقول جاهلاً:
- مبقدرش أتوقع تصرفاته, بس الأكيد ان هيجمعكوا أماكن كتير, لأنه هيبذل كل جهده عشان تبقي معاه, لكن هيعملها ازاي, معرفش.
نظرت له بفضول مميت وأردفت:
- هموت واعرف ايه اللي بينكوا يخليه يقرب من بنت انتَ على علاقة بيها ويحاول يعمل علاقة معاها.
ابتسم ابتسامة هازئة قبل أن يقول وهو يشير بعينيه للنادل:
- الويتر جه هسيبك تكملي شطارتك وتمليه الاوردر.
حدجته بغيظ وهي تدرك تهربه من الإجابة وأشاحت بنظرها للنادل قبل أن تمليه طلباتهما بثقة وما إن انتهت حتى نظرت له بحاجب مرفوع غرورًا بشكل أثار ضحكته.
❈-❈-❈
مساء اليوم التالي..
ابتسمت بحب حين رأت رقم "شاهين" يزين شاشة هاتفها, فأسرعت بالرد استغلالاً لوجود "مازن" بالخارج فهو لم يعود بعد.
- شاهين عامل ايه؟
أتاها صوته المحبب لقلبها:
- انا بخير, طمنيني عنك يا نور.
- أنا الحمد لله طول ما نتَ كويس.
وظلا يتحدثان لقليل من الوقت في أمور عِدة حتى قالت فجأة:
- اه تخيل, النهاردة لقيت مازن بيعرفني على بنت وبيقول انه هيخطبها.
وعلى الجانب الآخر ابتسم ثغره بمكر ولمعت عيناه العابثة وهو يقول بعدم اهتمام ظاهري:
- بجد!
تحمست وهي تكمل سرد الأمر:
- ايوه, شكله بيحبها, وهي كمان.
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يسمع ما يطربه وقال:
- عرفها امتى دي؟
أجابته بجهل:
- مش عارفه, بس هي كانت في لندن ولسه راجعة مصر من قريب, عرفوا بعض في النادي, وبتقول انها كان عندها قضية وقربوا لبعض من خلالها, بس باين عليها بنت محترمة, حبيتها.
تجاهل ما أخبرته بهِ, وهو يقول بمزاح:
- حبيبتي انتِ كل الناس عندك محترمين وطيبين وبتحبيهم, مش جديد يعني.
تذمرت وهي تهتف باسمه بنزق:
- شاهين!
ضحك ضحكة خافتة وصلت لها فابتسمت على أثرها ليقول:
- خلاص سِكت.
❈-❈-❈
وأسبوع مرَ دون أن يقوم "شاهين" بأخذ خطوة واحدة, فقط يراقب من بعيد دون التدخل.
أسبوع عمق شعوره تجاهها, وجعله يتأكد أن هناك شيء ما يجتاحه ناحيتها, شيء يجهله أو ربما يرفض الاعتراف بهِ! شيء يجعله ينظر لها مبتسمًا, ويشرد بها أحيانًا, ويتحمس للقائها أحيانًا أخرى!
ورغم كل ما يشعر بهِ يخلق الف مبرر لشعوره بعيدًا عن الاعجاب بها حتى.
وهي ما زالت في نعيم تجربة كل شيء حُرمت منه, ونعيم أخر يكمن في مشاعر جديدة وجميلة تغزوها تجاهه, لكنها هي أيضًا لا تريد الاعتراف مباشرةً أو تفسير مشاعرها, فقط تترك نفسها للتيار.
❈-❈-❈
وفي صباح هذا اليوم..
كانت في المطبخ تعد لها كوب قهوة بعد تناول افطارها, لتسمع رنين جرس الباب, استغربت وهي تنظر لساعة الحائط المعلقة في المطبخ فوجدتها الثامنة, اتجهت للباب لتقف خلفه وهي تسأل بحذر:
- مين؟
أتاها صوت رجل يقول:
- انا من طرف مازن باشا افتحي.
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب, فظنت ان مازن قد بعث لها باحتياجات جديدة من طعام وشراب, فقالت:
- لحظة.
- طب بسرعة الموضوع خطير.
انتابها القلق فاتجهت سريعًا للغرفة لترتدي سترة منامتها البيتية المكونة من سروال وكنزة داخلية بدون أكمام, والسترة التي بأكمام وسحاب من الأمام, وعادت للباب لتفتحه, فوجدته يقول لها فورًا:
- مازن باشا عمل حادثة وفي المستشفى وطالب يشوفك فورًا.
جحظت عيناها ذهولاً وهي تسأله بصدمة:
- حادثة! هو كويس؟
اجابها الرجل بتلهف:
- لا مش كويس, وعاوز يشوفك بسرعة قبل ما يدخل العمليات, يلا نلحقه.
نظرت لثيابها بارتباك وللشقة من الداخل لتقول بتوتر وعيناها تجمعت بها دموع لا تعلم مصدرها:
- لبسي و...
- مفيش وقت يا هانم, يلا.
ولأن منامتها كانت قريبة للملابس الرياضية فحسمت أمرها وهي تغلق باب الشقة وتتبع ركضه للأسفل وقد توقف المصعد الكهربائي بالطابق الأول فلم ينتظروه.
ركبت بجواره السيارة, ليسير بها بعض الوقت تحت اسئلتها عن حالة "مازن" وبعد دقائق وجدت الرجل يناديها فجأة:
- فيروز.
وما إن نظرت له بتعجب لذكر اسمها حتى فاجئها برشة من بخاخ غريب في وجهها, أشاحت الرزاز بكفها وهي تصرخ بعصبية:
- ايه يا حيوان انتَ ده؟ نزلني..ن...
ولم تجمل جملتها حين حاولت فتح الباب ففي نفس الوقت طاحت رأسها وسقطت مغشيًا عليها ..
❈-❈-❈
فتحت عيناها فجأة وكأنها تستيقظ من نوم مجهول, لتظل لثواني غير مستوعبة ما مرت بهِ قبل أن يغشى عليها, حتى انتفضت فور تذكرها لتجد نفسها في غرفة كبيرة أنيقة, وهي جالسة على أحد كراسيها الوثيرة, انتفضت واقفة ليصيبها دوار مفاجئ, فمسكت رأسها وهي تعود جالسة بتأوه قطعته حين استمعت لصوت يقول:
- براحة على نفسك عشان لسه فايقة.
نظرت لمحل الصوت لتجده يقف على باب الغرفة, "شاهين المنشاوي" لقد عرفته, لم يُغلق فاهها التي فتحته لتقول شيء, بل ظل مفتوح وهي تطلع له باندهاش, فالصورة شيء والواقع شيء آخر, لم تكذب حين وصفته بأنه أحد نجوم السينما! يقف بشموخ وهالة من القوة تطوف حوله, يرتدي بدلة كلاسيكية كحلية اللون وحذاء من نفس اللون, مع قميص أسود بدى رائعًا, افاقت نفسها من شرودها وهي تنتفض واقفة وتهتف بغضب حقيقي لهذه الطريقة الوضيعة التي جلبها بها:
- ايه الجنان ده؟ انتَ مين وانا بعمل هنا ايه؟
اقترب بخطوات حثيثة منها وعلى ثغرة ابتسامة بالكاد تُرى وهي تثبت قدميها بصعوبة وتمنعها من الارتداد للخلف برهبة, ففارق الطول بينهما يزداد كلما اقترب منها, أعجبه شجاعتها وصمودها رغم اقترابه منها ورفعها لرأسها بكبرياء وقوة واضحين, وقف على بُعد قريب منها ثم قال بتعريف سخيف لذاته:
- شاهين المنشاوي, يمكن سمعتي عني قبل لو انتِ مواطنة عادية, واكيد سمعتي عني لو بتابعي مجال البيزنس.
التقطت غروره بنفسه على الفور, فرفعت حاجبها بغرور مماثل وهي تقول:
- انا مواطنة عادية وبتابع مجال البيزنس أحيانًا بس عمري ما سمعت عنك, ويا ريت تقولي انا بعمل ايه هنا؟
اختفت ابتسامته البسيطة فابتسمت وهي ترى نفسها تنجح في استفزازه, هز رأسه عدة مرات مع هز قدمه برتابة قبل أن يرفع رأسه لها وهو يقول بجدية:
- أنتِ هنا عشان تعملي اللي هطلبه منك, ومش هتخرجي من هنا غير لما تعمليه.
قطبت ما بين حاجبيها غاضبة وهي تقول بضيق واضح على ملامحها:
- ده اسمه خطف بقى!
ابتعد عنها حتى وصل لكرسي وثير فجلس فوقه مادًا إحدى قدميهِ والأخرى ثبتها على الأرض واستند بكوعه على يد الكرسي باسترخاء وهو يقول بلامبالاة:
- سميها زي ما تسميها, المهم في النهاية تعملي اللي أنا عاوزه.
جلست على كرسي آخر مقابل له ووضعت رجل فوق أخرى, ونظراته تتابعها محاولاً كبت غضبه وغيظه معًا, وقالت بهدوء تام:
- ويا ترى ايه اللي انتَ عاوزه؟
ثبت نظراته عليها لثواني وكأنه ينفذ لداخلها محاولاً فِهم الشخصية التي أمامه, فدومًا ما يرى الانبهار والخوف معًا في اعين النساء, لكنها مختلفة, رأى سِهام الانبهار تمر بسحابة عينيها في الوهلة التي رأته بها وبعدها اختفت تلك السهِام وكأنها عقدة معاهدة سلام معهم لتخفيهم عن عينه المترصدة, وهذا مبرر أفضل له من أن يعترف باحتمالية زوال انبهارها بهِ, لربما رأي سِهام الانبهار لكنه لم يلمح ظل للخوف, بل يرى قوة ولامبالاة واضحين, ضيق عيناه وهو يقول باستمتاع بالحوار معها وهو يراها ندًا له:
- علاقتك بمازن عمران تنقطع.
رفعت حاجبها الأيسر باندهاش حقيقي فور وقوع جملته على مسامعها, سرعان ما تحول لسخرية وضحت بملامحها وهي تذم شفتيها بحزن وشفقة مصطنعين:
- يعيني ربنا يشفيك يا كابتن.
تجمدت ملامحه واحتدت عيناه وهو ينظر لها ببوادر غضب يخفيه ثم قال من بين أسنانه:
- ربنا يشفيني ليه انا مش تعبان.
ضحكت ضحكة خفيفة ساخرة وهي تقول بدهشة مصطنعة:
- بجد! غريبة رغم ان اعراض المرض ظاهره عليك خالص, ده مرض نفسي على فكرة اسمه جنون العظمة, ده بقى بيخليك تعتقد انك تقدر تتحكم في كل حاجه وأي حد حواليك ومفيش حاجه تستعصى عليك, ده طبعًا مش واقعي, لان محدش يقدر يتحكم في حاجه ولا في حد غير ربنا, وكونك واثق للدرجادي فده اسمه جنون.. فاقترح على حضرتك تحجز في أسرع وقت عند دكتور لأحسن المرض ده خطير خالص.
يُعرف بأنه بارد الطِباع, ولا شيء يثير استفزازه مهما كان, لكنه الآن يتحكم في نفسه بالكاد كي لا يقوم ويصفعها حتى تطبع أصابعه على وجنتها, أغمض عينيه لثواني يستدعي بروده المعتاد, وقال بعدها بهدوء مصطنع:
- واضح انك متعرفنيش كويس, بس احب اقولك ده مش جنون عظمة, دي ثقة, ان اللي انا عاوزه هو اللي هيحصل في الآخر, ومتفكريش ان مازن بيه هيقدر ينقذك مني لو حطيتك في دماغي, لاني لو حبيت أأذيه هو نفسه مش هيقدر يحمي نفسه مني.
لن تنكر الخوف الذي تسلل لها, ولن تنكر أن مقلتيها اهتزت للحظة قبل أن تحاول رسم الجمود على ملامحها, ولكنه التقط تلك اللحظة التي بدى فيها اهتزازه وخوفها, فالتوى جانب ثغره بابتسامة مغترة وهو يتابع حركاتها الانفعالية التي بدأت تظهر:
- انتَ بتهددني!؟
وبهدوء تام كان يومأ برأسه لها:
- اه.
اتسعت عيناها لتبجحه واعترافه البارد ونهضت واقفة تصرخ بهِ:
- بقولك ايه يا أستاذ انتَ, اتفضل زي ما جبتني هنا رجعني لبيتي, وكفاية جنان لحد هنا.
نهض هو الآخر ليصبح مقابلاً لها ووضع كفيهِ في جيبيه وهو يقول:
- لا انتِ مشرفة معانا شوية لحد ما تقرري القرار اللي انا عاوزه.
فغر فاهها وبرقت مقلتيها وهي لا تستوعب جنانه وافعاله الغريبة وكأنه حقًا يعاني من جنون العظمة!
❈-❈-❈
ابتسمت بشدة حين رأته يقبل عليها, ولأول مرة هو من يأتي لها, فلطالما هي من ركضت ناحيته حين تلمحه يمر بالقرب, عدلت "مستكة" من خصلاتها الغير مرتبة, وشدت كنزتها القديمة وعيناها تنتظر اقترابه كانتظار قلبها, اقترب منها "مجد" حتى وقف أمامها فنطق مبتسمًا:
- ازيك يا مستكة.
حافظت على ابتسامتها البلهاء وهي تجيبه:
- الحمد لله, وانتَ؟
- بخير, قوليلي هي فُلة بقالها كذا يوم مبتنزلش الشغل؟
اختفت ابتسامتها فورًا, وتهجم وجهها وهي تسمع سؤاله, إذًا فلقد أت لها من أجل تلك الحقيرة وليس من أجلها!
كبحت حزنها كي لا يظهر عليها, وحاولت أن تخرج نبرة صوتها طبيعية وهي تجيبه:
- اه, بقالي فترة مشوفتهاش.
رأت القلق واضحًا على ملامحه وهو يسألها:
- متعرفيش ليه؟ دي حتى مبتنزلش من البيت باين, مبشفهاش خالص.
زفرت أنفاسها بضيق وأجابت باقتضاب:
- لا معرفش.
هز رأسه باحباط وقال:
- ماشي يا مستكة معلش عطلتك.
والتف ليغادر, فلم تستطيع منع نفسها مما تريد قوله فصدح صوتها يقول:
- ما تفكك من فُلة بقى, انتَ ناوي تقضي عمرك كله بتجري وراها وهي مش شيفاك اصلاً.
التف لها مرة أخرى, لتظهر ملامحه غاضبة وهو يقول:
- وانتِ مالك! هو انتِ اللي بتجري ولا انا!
التمعت عيناها بالدموع لتقول بحزن واضح:
- الحق عليا همي عليك, اصل انا بت وافهم البت اللي زيي انتَ مش في دماغ فُلة يا مجد, ولا عمرها هتبصلك, مادام من الأول مشفاتكش يبقى مش هتشوفك..
ابتلعت ريقها ومعه تلك الغصة التي انتابت حلقها وقالت:
- بص حواليك, فتح عينك المعميه بيها يمكن تشوف حد غيرها يكون ينفعك بجد.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه وهو يسألها بينما يدرك مبتغاها:
- قصدك ابص حواليا ولا ابص قدامي؟
هزت رأسها يائسة منه وهي تقول بصدق:
- مش فارق المهم تبص بعيد عنها, صدقني نصيحتي دي مش عشان تاخد بالك مني, انا عارفه انك عارف كويس اللي جوايا ليك, فمش محتاجه الفت نظرك, بس انا بنصحك عشان صعبان عليا عمرك اللي بتضيعه على الفاضي ده, الحب مش بالعافية يا مجد, زي مانا مقدرتش اخليك تبصلي حتى او تاخد بالك مني, انت بردو متقدرش تعمل ده مع فُلة.
وتركته وانسحبت لتكمل عملها في بيع الفُل الذي قاربت على كرهه لأنه يذكرها باسمه بها, هي لا تكره فُلة لذاتها, هي تكرهها لأسباب عِدة, اولهم أنها تستحوذ على تفكير مجد ولا يرى غيرها, ورغم علمها بأن هذا ليس ذنبها لكنها لا تستطيع التخلص من الضغينة التي تحملها تجاهها.
❈-❈-❈
فتح باب الشقة بالمفتاح البديل الذي كان معه ولكنه لم يخبر فيروز عنه كي لا تقلق, هو فقط احتفظ بهِ تحسبًا لأي ظروف مثل هذه, فهو منذُ ساعتين يطلبها هاتفيًا ولم تجيب, وحين أتى لشقتها وظل يرن جرس الباب لم يتلقى ردًا, ففتح الباب ودلف يبحث عنها, لكنه وجد كل شيء عداها, فانتابه القلق حيال الأمر, لابد ان شيء ما قد حدث, نزل للأسفل بعدما احتفظ بهاتفها وسأل حارس العمارة عنها ليجيبه:
- نزلت من كام ساعة كده مع راجل اول مره اشوفه, وكانت لابسة ترينج بيتي ومستعجله, حتى سألتها في ايه مردتش عليا.
وقف يقلب هاتفها بين يده بتفكير لدقائق, فلديهِ احتمالان إما والدتها حدث شيء لها وذهبت, إما الأمر يخص "شاهين", ولحسم أمره, طلب رقم والدتها وتحدث معها دون أن يُثير قلقها, ليغلق الهاتف بضيق شديد وهو ينظره أمامه مرددًا من بين أسنانه:
- شاهيـــــن!
❈-❈-❈
بلغ غضبها أشده, وسئمت الوضع القائم, فصرخت بهِ وهي تشيح بذراعها بغضب:
- على فكره انا اول ما اطلع من هنا هقدم فيك بلاغ, وهحبسك, عشان دي قضية خطف واضحة وتهديد كمان.
نظر لها بجمود خارجي وكأنه لا يسمعها, لكنه في حقيقة الأمر يتأملها, سمارها اللطيف الذي يغزوه حُمره لذيذة من غضبها, عيناها المشابهتان بشعاع الشمس فتبدو متوهجة دومًا, وخصلاتها المتجعدة الثائرة على كتفيها وظهرها بحرية, رغم أن جمالها ليس خاطف لكن إن تمعنت بهِ يجذبك وتدرك تميزه.
خرج من تدقيقه بها على تحركها لباب المكتب لتفتحه فارتدت للخلف بفزع مما رأته...
يتبع
اللهم قنا شر أنفسنا
الفصل السابع
فراشة في سك العقرب
ارتدت للوراء حين اصطدمت بحائط بشري واقفًا أمام الباب يسد فتحته, ابتلعت ريقها وهي تركض بنظرها على جسده في محاولة منها لقياس ابعاده, اشاحت بنظرها عنه وقد أدركت أنها خاسرة بلا شك, نظرت للواقف خلفها تخرج غضبها بهِ:
- وده ايه بقى ده؟ كلب بوليسي؟ موقفه على الباب على أساس اني مش هعرف اخرج منه؟
أنهت حديثها بوجه متعصب وهي تشيح بذراعها تجاه الرجل, عاد "شاهين" يجلس فوق الكرسي الذي يقبع خلفه واسترخى بجلسته وهو ينظر لها بنظرة ماكرة بينما يجيبها:
- ده مش واقف مخصوص عشانك, لأني كفيل مخلكيش تمشي من هنا, هو ده مكان حراسته, بس عمومًا لو قدرتي تخرجي منه مش هتقدري تخطي خطوة بره بوابة الفيلا.
اتجهت لباب الغرفة لتجذبه بغيظ وهي تقول للرجل الذي لم يتحرك أو يهتف بشيء يبرهن أنه انسان وليس جماد:
- عن اذنك بقى عشان الكلام اللي هيتقال عيب تسمعه.
وأغلقت الباب بقوة في وجهه تحت استمتاع الآخر بما تفعله والذي يتفاجأ بأفعالها الغريبة, عادت بكل شموخ زائف لتجلس على الكرسي أمامه مره أخرى, ورفعت رأسها بأنفه وهي تضع ساق فوق الأخرى وتقول بجدية:
- هتستفاد ايه لما ابعد عن مازن؟
مع تجمد ملامحه أجاب باقتضاب:
- مش شغلك.
رفعت حاجبها بتحدي واسترخت هي الأخرى في جلستها مستندة بظهرها على ظهر الكرسي, وقالت ببرود يماثل نبرته:
- يبقى ملكش تتدخل بيني وبينه, ولا تقولي اقطع علاقتي بيه ولا مقطعهاش.
احتدت ملامحه وهو يعتدل في جلسته ساندًا كوعيهِ على فخذيهِ وهو يقول ببوادر غضب خفي:
- بصي يا اسمك ايه انتِ...
- فيروز, اسمي فيروز يا اسمك ايه انتَ.
قالتها مبتسمة بسماجة اغاظته, لينتفض واقفًا وقد سمح لغضبه بالخروج وهو يهدر بها بصوت أجش أخافها:
- اسمعي يا بت انتِ, انا معنديش وقت اقعد اتناقش معاكي, انا قولتلك حلين تختاري منهم.. يا تقطعي علاقتك بيه من غير ما تحاولي تلعبي بيا, يا تتحملي اللي هيحصلك وهيحصله, وهتشرفينا هنا لحد ما نشوف قرارك ايه, سيد..
صرخ بالأخيرة صرخة جعلتها تنتفض فوق كرسيها وتبتلع ريقها بتوجس, فُتح الباب على الفور ونطق الجماد الواقف أمامه يقول:
- أمرك يا باشا.
لم يحيد بنظره عنها وهو يأمره:
- نادي صفاء توصل الآنسة لأوضة الضيوف..
صمت للحظة قبل أن يقول قاصدًا اهانتها:
- مش أنسة بردو!
ورغم غضبها واشتعال داخلها من جملته ومعناها لكنها أدركت أن الواقف امامها إن وصل لمبتغاه في إغضابها سيتمادى, فابتسمت ببرود زائف وهي تسأله غير منتظرة إجابة:
- هتفرق في حاجة!؟
لم يجيبها فقط ظل ينظر لها واشتعال مقلتيهِ أوشيا لها بمدى غضبه, فابتسمت بانتصار, ولم يقطع حرب النظرات بينهما سوى صوت صفاء تقول:
- أمرك يا شاهين بيه.
نظرت تجاه صوت المرأة الذي صدح لتجدها سيدة كبيرة بالعمر فقد ظنتها فتاة من عمرها, أنيقة ويبدو عليها الجدية والصرامة, استمعت له يأمرها بينما يخرج من الغرفة:
- خديها لأوضة الضيوف, وممنوع تخرج منها غير بأذني.
لم تلقي بالاً لحديثه ولا لنظرات "صفاء" المشفقة لا تعلم علام! تجاهلت كل هذا وهي تبتسم لها بينما تقول بلطف:
- شكلك حلو يا مدام صفاء, مش مدام بردو؟
ذُهلت "صفاء" من حديثها وبقت تنظر لها دون رد وكأنها ترى كائن فضائي أمامها! تحركت "فيروز" من أمامها سابقة إياها بالخروج من الغرفة لتلحق بها فورًا بعدما انتبهت لتحركها, خرجت من الغرفة لتُذهل من المساحة الواسعة والتي من المفترض انها صالة المنزل, لكنها اشبه بفناء ميدان عام! بعد وقوفها لثواني متجمدة من رقي ووسع الفيلا ضرب في رأسها جملة "مازن" التي تحذرها من الانبهار أو إظهاره, فتنحنحت وهي تنظر ل"صفاء" المجاورة لها وقالت بمرح:
- اسبقيني انتِ بقى اصل معرفش مكان الأوضة.
سبقتها "صفاء" التي شكت بقواها العقلية, فأي فتاة تقبل أن تقع في براثن العقرب وتدلف لحجره بكل هذه الرحابة واللامبالاة!
اتبعت خطاها لتجدهما قد بدأ بالنزول والصعود بمنحنيات وانفاق غريبة, وبالأخير وصلت لمكان غريب يشبه السرداب الذي انتهى ببوابة ضخمة دقت "صفاء" عليها لتُفتح ويظهر من خلفها رجل يشبه الذي بالأعلى, لتستدير "صفاء" عائدة أدراجها بعدما رمتها بنظرة أخيرة التقطت فيها فيروز شفقتها الواضحة, لتبتلع ريقها بخوف حقيقي وهي تنادي بخفوت:
- صفاء! انتِ رايحة فين هو قالك اوضة الضيوف!
ودون كلمة من الرجل كان يخطو ناحيتها خطوة واحده وجذبها لتدخل من البوابة الضخمة تحت محاولاتها للتملص منه, دلفت لتجد المكان عبارة عن عدة غرف متفرقة وبالساحة المتوسطة لهم تقبع كراسي وشاشة تلفاز واشياء أخرى للحراس والذي أدركت الآن ان عددهم أربعة بعدما رأت الثلاثة الآخرين الجالسين فوق الكراسي, قام أحدهم ليفتح باب أحد الغرف ودفعها الذي خلفها ناحية الغرفة حتى دلفت وأغلق الباب وسمعت بعدها صوت المفتاح يُدار..
الغرفة ليست مليئة بالحشرات ولا مظلمة كتلك التي تسمع عنهم في الأفلام والتي تمثل غرف تعذيب من نوع خاص, لكنها اسوء بالحقيقة.. فرغم المصباح المضيء ونظافتها, إلا أنها تقريبًا لا تتعدى مساحتها متر في مترين, وما بها من معالم حياة مجرد مرتبة ملقاه أرضًا, وزجاجة مياه فقط لا غير..
جلست فوق المرتبة مهمومة الحال وهي تدرك خطته الدنيئة لإرغامها على القبول بطلبه, زفرت أنفاسها بضيق وهي تنظر لجوانب الغرفة بسخرية:
- دي تُربة! وانا اللي كنت بتبتر على الأوضتين بتوعي انا وامي!
أسندت رأسها على كف يدها وهي تقول بتفكير:
- يا ترى مازن عرف اني اتخطفت؟
انتفضت بفزع على صوت صراخ صدح فجأة لا تعلم مصدره, عاد الصوت يتكرر لتتلفت حولها كالمجنونة وتحركت خطوة لتصبح ملتصقة بالباب فوضعت رأسها عليه تسترق السمع ليعود الصوت وحينها ادركت انه يأتي من الخارج, وعاد يتكرر للمرة الرابعة وصوت رجل يصرخ قائلاً بجملة القت الرعب في قلبها:
- ارحموني ابوس ايديكوا.
شهقت بخوف وهي ترتد تلقائيًا للوراء وادمعت عيناها وهي تهزي برعب:
- هم بيعملوا فيه ايه!
❈-❈-❈
عادت "ًصفاء" للمطبخ فوجدت الفتيات تتهامس وتعلم جيدًا فيما يتهامسون فصدح صوتها عاليًا بتعنيف:
- انتوا جايين تشتغلوا ولا تتكلموا.
انتفضن على صوتها لتتابع كل واحدة منهن عملها ونطقت احداهن تسأل بفضول:
- ميس صفاء هي مين البنت اللي عند الباشا في المكتب دي؟
وشاركتها أخرى في الحديث تقول ما رأته:
- ده انا شوفت الحرس وهم داخلين وواحد منهم شايلها كان باين مغمى عليها.
تابعت "صفاء" ثرثرتهم بضيق كبتته بصعوبة لتوجهها حديثها لتلك الصامتة ولم تشارك في حديثهم لتسألها ساخرة:
- وانتِ يا ست مستكة معندكيش حاجه تقوليها؟
خرجت "مِستكة" عن صمتها وهي تقول باختناق:
- هقول ايه, اهو كل يوم حد شكل ييجي هنا وياخدوه منعرفش على فين ومنشفوش بعدها.
طالعتها "صفاء" بتفحص قبل أن تسألها بأعين ضيقة شكًا:
- انتِ مش مرتاحة معانا في الشغل يا مِستكة؟
احتارت في الجواب, فهي تعمل هنا في مكان انظف وارقى من منازل منطقتها بأكملها وبثياب نظيفة وطعام لم تحلم يومًا بأن تشم رائحته لا أن تتناوله, والعمل في مجمله ليس بهِ عناء, بل بالعكس عمل مرفه بالنسبة لعملها في بيع الفُل, ولكن تشعر بالخطر من هذا المكان, والخوف من الذي يحدث بهِ, فركت كفيها بقلق واضح وهي تجيب:
- والله يا ميس صفاء الشغل معاكي ومع البنات مريح جدا ومكنتش احلم بيه في يوم, بس... بس ساعات كده بخاف من الباشا.
قالت لها "صفاء" بثقة:
- طول ما نتِ شايفة شغلك وماشية صح الباشا مش هيبصلك اصلاً.
امتعضت ملامحها وهي تقول بشعور بالذنب:
- ايوه بس يعني الناس اللي بيختفوا ولا بنسمع صريخهم دول مش هنشيل ذنبهم واحنا عارفين انهم...
قاطعتها "صفاء" بحدة وهي تكمل حديثها نيابة عنها:
- انهم غلطوا في حق الباشا وبيتعاقبوا, وملناش دعوة... انا لسه قيلالك ايه!
تنهدت بعجز وهي تعاود مباشرة عملها وشعورها بالاختناق في هذا المكان وأن الخوف يحوم حولها لا يفارقها, تشعر باحتمالية وقوعها في الخطأ في أي لحظة وحينها سيكون مصيرها كمن تراهم يوميًا لثواني قبل أن يختفوا بواسطة حرس
الباشا ولا يظهر لهم طيفًا مرة أخرى.
❈-❈-❈
بمنزل مازن عمران...
تابعته وهو يتحرك ذهابًا وإيابًا بلا هوادة, منذ عاد من الخارج وهو على هذا الوضع, ولا تعرف ما بهِ, كان يعبث بهاتفه ويبدو القلق والتوتر جليًا على وجهه فسألته باستغراب:
- في ايه يا مازن مالك؟
أجابها دون النظر لها بانشغال:
- مفيش.
استنكرت اجابته فسألته باصرار:
- مفيش ازاي وانتَ من وقت ما رجعت من بره وعمال رايح جاي وباين انك قلقان!
زفر بقوة وهو يغلق شاشة هاتفه ونظر لها ليخبرها في حزم:
- قولتلك مفيش يا نورهان, حاجات تخص الشغل.
تفهمت حالته فنهضت تضع كفها فوق كتفه بمؤزرة وقالت:
- اهدى يا حبيبي وكل حاجه هتتحل بس بلاش تضغط على نفسك, وانا هروح اعملك فنجان قهوة يعدل مزاجك.
تحركت للمطبخ لصنع قهوته, وفور مغادرتها رن هاتفه بالرقم الذي طال انتظاره, فتحرك فورًا لشرفة المنزل وهو يفتح الخط:
- باشا, تحت امر سعادتك.
أتاه الصوت الآخر يقول:
- خير يا مازن رنيت عليا كذا مرة بس كنت في اجتماع مهم.
أخبره "مازن" باختفاء "فيروز" ليعقب الآخر:
- تمام يا مازن ما ده اللي احنا كنا عاوزينه, هي اكيد دلوقتي دخلت جحر العقرب.
وضح "مازن" قلقه يقول:
- بس يا سيدة اللواء اللي عمله كان مفاجأة, انا متخيلتش ابدًا يخطفها, وكده انا فقدت أي وسيلة اتصال معاها, هتواصل معاها ازاي وهعرف ازاي التطورات اللي بتحصل عندها.
- كان لازم يا مازن تعمل كل احتياطاتك.
ضرب سور الشرفة بقبضته غاضبًا وهو يعترف للمرة التي لا يعلم عددها بأن "شاهين" يسبقه بخطوة, ورغم كل الاحتياطات التي اتخذها في وضع خطته لكنه لم يتوقع خطوته تلك فلم يضعها في الحسبان:
- للأسف يا باشا متوقعتش اللي عمله, كنت مفهمها ان هيكون معاها جهاز ارسال صغير هتتواصل معايا بيه, لكن طبعًا ملحقتش تاخده معاها ولقيته في الشقة.
وبخه اللواء وهو يسخر منه:
- متوقعتش! ليه هو انتَ فاكر انه كان هيستأذنها قبل ما ياخدها عنده! ولا يستأذنك انتَ؟ اسمع يا مازن, انا من الأول ضد الخطة دي وشايفها مجرد تضييع وقت, لكن انتَ اللي أصريت واتعهدت ليا ان الخطة دي هتنجح وهنقدر نطلع بالأدلة اللي عاوزينها ضده, فمتجيش دلوقتي وتقولي الحقني يا سيادة اللواء, زي ما حطيت الخطة لازم يكون عندك حلول لعقباتها.
جز على أسنانه وغضبه يتصاعد حتى أضرم النيران في كل خلاياه:
- تمام... تمام يا باشا انا هتصرف, بعد اذن سعادتك.
اغلق الهاتف ودلف لداخل المنزل لتقابله "نورهان" بفنجان القهوة وهي تقول:
- عملتلك فنجان قهوة على نار هادية.
- مش عاوز يا نورهان.
قالها باقتضاب واضح وهو يدلف لغرفته لتنظر لأثره بضيق وهي تتمتم حانقة رافضة لعمله الذي يضغط على أعصابه بهذا الشكل:
- شغلك ده هيجيب أجلك يا مازن.
❈-❈-❈
في شركة العقرب...
كان يجلس فوق كرسيه الوثير يتابع اعماله ويتحدث عبر الهاتف باللغة الفرنسية مع أحد عملائه المميزين, دقات خافتة فوق الباب تبعها دلوف شاب في أوائل الثلاثينات من عمره يرتدي بدله رمادية أنيقة, وجسده يقارب جسد "شاهين" وإن كان الأخير يتفوق عليهِ في بضعة سنتيمترات قليلة, أشار له "شاهين" بذراعه ليجلس فجلس أمام المكتب منتظرًا ان ينهي الأخير مكالمته.
قال "شاهين" بنبرة قاطعة:
- سيد ماركوس أنتَ تعلم جيدًا انني لا أذهب لأحد لأبرم صفقات, إن كنت بحاجة لصفقة كبيرة مثل هذه التي تحدثني عنها, فانا بانتظارك في مقر شركتي.
- سيد ماركوس أنا البائع ولستُ الشاري, ولم أسمع من قبل أن البائع هو من يذهب للشاري, وحتى إن سمعت فالعقرب له قواعده الخاصة التي لا يتنازل عنها لأجل من كان.
- اعلم انك عميل مميز, ولا أنكر هذا, لكن القواعد تسري على الجميع.
وأخيرًا انهى مكالمته وهو يقول بكياسة:
- حسنًا وانا بانتظارك.
اغلق المكالمة ليقول الذي أمامه بثقة:
- من غير ما اسألك عملت ايه معاه اكيد كلامك اللي مشي وهييجي.
استند على ظهر كرسيه يقول بغرور لاق بهِ في هذه اللحظة:
- عيب عليك.
سأله الآخر بفضول:
- قولي بقى, ايه الحوار اللي قولتلي على الموبايل انه يخص مازن عمران.
سرد له ما فعله, تحت صدمة الأخير الذي قال باعتراض واضح بعدما انتهى "شاهين" مما قاله:
- لا يا شاهين, مينفعش تدخل الحريم في مشاكلكوا.
وكما توقع نظرة ساخرة وبسمة مقتضبة تبعها قوله المستنكر:
- ده بجد! تصدق ياخي ده انا وحش اوي.
اغمض عينيه بنفاذ صبر وهو يقول مصرًا على اعتراضه:
- شاهين مش لازم تكون زيه, انتَ لسه قايل لماركوس انتَ عندك قواعد ومبادئ مبتتخطهاش.
نظر له ببرود تام وهو يقول بابتسامة سِمجة تخفي خلفها الكثير:
- وانا مقولتش ان ده من ضمن مبادئي, فبالتالي مبتخطهاش.
حاول اثنائه عن موقفه ليقول بحذر قدر المستطاع لأنه يعلم جيدًا كم يثير الموضوع الذي على وشك الحديث فيه غضبه:
- يا شاهين اسمعني, مازن زمان كان....
وكما توقع تمامًا خرج شيطان غضبه وهو يضرب المكتب بكفه فاهتز ما فوقه, وعيناه تطق شرارًا بينما هدر بهِ:
- معاذ يا بن مصطفى المصري.. على مكتبك.
وما إن ذكر اسم والده فمعناها ان الحديث معه الآن كالقفز في فوهة بركان نشط, لذا نهض منسحبًا في صمت كي يتجنب ثورته.
وما إن خرج "معاذ" حتى رن هاتفه ليجد رئيس حرس المنزل يبدو أن هناك حدث جلل و بفطنته الحديث يخص تلك الفتاة التي دلفت لوكره اليوم فقط ومنذ ساعات قليلة..
❈-❈-❈
وبفيلا شاهين المنشاوي..
تسللت "مِستكة" على أطراف أصابعها وهي تتلفت خلفها بخوف من أن يراها أحد, فضولها وشعورها بالذنب قاداها بعد جلد للذات لساعات لأن تسلك طريق الخطر, علّها تستطيع نجدة أحد, ورغم خوفها وارتجافها, لكن ضميرها يحركها بأن تجد هؤلاء المساكين وتعلم مكانهم وبعدها تُبلغ الشرطة لتأتي وتنقذهم وتسجن ذلك المتجبر "شاهين" ولن يعلم أحد أنها من فعلت, هكذا حدثت نفسها لتقبل على التنفيذ..
رأت باب غريب يبدو أنه يؤدي لمكان لم تسلكه من قبل, فاتجهت صوبه لتفتحه وتكتشف ما خلفه...
❈-❈-❈
وبالأسفل...
تحديدًا حيث تمكث "فيروز" شعرت بأن الغرفة تضيق عليها فجأة وكأنها فجأة باتت في قبر حقًا, تشعر أن الحوائط تقترب وتطبق على أنفاسها, لتمسك رقبتها باختناق وعيناها تذرف انهار من الدموع وصوت صراخها يعلو وكأن الحوائط تقترب حقًا...
يتبع
لايك وكومنت فضلاً❤️
الفصل الثامن اهو👇
بس رجاء توصلوه ١٠٠ لايك لأن جايلي تحذيرات كتير بسبب تفاعل البيدج
وكمان عشان تحمسوني انزل الفصل التاسع النهارده♥️
اللهم اعفوا عنا واغفر لنا وارحمنا
الفصل الثامن
فراشة في سك العقرب
وصلت للباب فدفعته بحذر كي لا تصدر صوتًا, وترجلت الدرجات القليلة حتى وصلت لطرقة المخبأ كما تسميه, فهو يشبه المخبأ السري الذي يحوي بداخله الكثير من الأسرار المرعبة, ابتلعت ريقها بتوجس وهي تتخذ طريقها للطرقة التي ستصل بنهايتها لباب كبير آخر سيصل بها لهم, دقت فوق الباب ليُفتح بواسطة الحارس من الداخل يحدقها باستفسار عن سبب وجودها فقالت بثبات زائف:
- أنا جيت اخد صينية الغدا.
ابتعد عن الباب يشير لها لتدلف وهو يأمرها بحدة:
- انجزي.
دلفت تلملم اطباق الطعام من هنا وهناك فهم عشوائيون بطبعهم وكأنهم يمكثون في الشارع, وعيناها تترصد أي حركة هنا أو هناك, استمعت لصوت صراخ تلك الفتاة مرة أخرى, يصدح بقوة ذبذبت قلبها وأسرت فيه رجفة مفزعة, ارتعشت أصابعها وهي تحمل الأطباق لتضعها فوق المائدة, ولم تستطع كبت سؤالها وهي تسأل بعشوائية ليس موجهًا لأحد منهم بعينه:
- هي بتصرخ ليه كده؟
وانتفض جسدها بخضة حين صرخ بها أحدهم وهو يلكزها من الخلف في كتفها:
- خلصي يا بت وامشي.
دارت عيناها مرة أخيرة في المكان الذي تراه للمرة الثالثة في يومين لتستكشف الغرف المغلقة فوجدت ثلاثة منها مضاءة إذًا فالسجناء ثلاثة, هكذا همست لنفسها وأكملت وهي تسير بصينية الطعام للخارج:
- منهم البت اللي شوفناها والراجل اللي جه قبلها بكام يوم, مين التالت؟
والسؤال تُرك مُعلق دون إجابة ترضي فضولها, وقبل انسحابها حدث ما لم تتوقعه حين سمعت صوت أحد الأقفال يُفتح وباب الغرفة يصدر صوته بصرير مزعج, فتجمدت بأرضها وعيناها تنتظر أن ترى من بالداخل, ليخرج رجل معالمه غير واضحة من شدة الضرب والدماء تغطيهم, لا يقوى على الوقوف ليسقط أرضًا فسقطت معه الصينية من يدها وصرخة تلقائية خرجت منها وهي ترى المشهد أمامها, سبة بذيئة خرجت من فاه أحد الحرس قبل أن يتجه لها يدفعها للوراء:
- غوري يا بت انتِ من هنا وابعتي حد غيرك ينضف مكان الزفت اللي كسرتيهم, غوري انتِ هتنحي! ولا تحبي تشرفي معاهم لو صعبانين عليكي!
هزت رأسها عدة مرات بهستيرية خائفة والتفت تركض للأعلى وبداخلها تقرر, يحدث ما يحدث بهم, لن تخطو بقدميها المكان مرة أخرى لن تجعل فضولها يتسبب في قتلها أو ينتهي بها الحال تصرخ كالمجذوبة التي بالأسفل..
❈-❈-❈
خرج بخطواته من الشركة فاردًا ظهره كالطاووس المغرور وقد أطربه ما سمعه من حارسه عبر الهاتف "الرجل انتهى أمره وإن أزادوا الأمر معه سيسقط صريعًا بين يديهم, وهي قد نجحوا بأقل مجهود أن يوصلوها للحالة المرجوة, فلا تنفك عن الصراخ والعويل" إذًا عصفوران بحجر واحد, صراخ الرجل أثناء تلقينه الدرس أعاد بالضرر على تلك المحبوسة في غرفة مجاورة لتشعر بالخطورة أكثر, ويصير الأمر إرهاب نفسي لها, تباطأت خطواته وهو يرى غريمه يدلف من باب الشركة, العقرب في مقابلة نمر شرس, هكذا شابه الأمر, وبشاهدة الجميع معركة خاسرة فالنمر بسهولة يمكنه أن يلتهم العقرب, ولكن العقرب أسرع فحين يلدغ لا يستغرق الأمر لحظات ولدغته تأتي فجأة دون أي مقدمات, وربما هذا ما يكتب للعقرب الغلبة دائمًا, أنه أسرع...فقط, هكذا حدث "مازن" نفسه وهو يتجه له ليصبحا وجهًا لوجه لأول مرة من سبعة أشهر مضت, والكره كان ينبثق من أعين "مازن" ويفيض, واللامبالاة والتحدي زينا أعين "شاهين" الماكر.
- ياااه, ابن عمران هنا في الشركة بعد كل الغيبة دي! وشك ولا وشك القمر.
وبملامح جامدة ونبرة مقتضبة كان يجيب "مازن":
- مالي وجاي اتابعه, عند سعادتك مانع؟
والموظفين جميعًا يختلسون النظر خفية لرئيس مجلس الإدارة "شاهين المنشاوي" و المدير التنفيذي " مازن عمران" وهما يقفان وجهًا لوجه في مشهد نادر.
ابتسامة باردة ونظرة مبهمة قبل أن يعقب:
- بالعكس ده شيء يسعدني, ده حتى مكتبك العنكبوت عشش عليه.
خطوة واحدة اقتربها منه ليميل على أذنه من بعيد يهمس له بكره:
- أصل لما باجي بشوف اشكال مبحبش اشوفها, فنفسي بتتسد.
وابتعد ينظر لتعابير وجه الآخر بعد جملته, ليجد البرود حليفه وهو يرفع منكبيهِ ببراءة زائفة كأنه ينصحه حقًا:
- خد فاتح شهية.
وتركه يبتعد تاركًا إياه يغلي خلفه من الغضب وقد نجح في إثارة استفزازه وبراكينه, أما عنه فمزاجه أصبح رائق أكثر بكثير من قبل.
❈-❈-❈
فُتحت بوابة الفيلا على مصراعيها لتستقبل السيارة التي تقل السيدة وولدها, نزلت من السيارة تدق الأرض بكعبها العالي, تسير بخيلاء تليق بها, وخصلاتها الصفراء ثائرة خلفها, توقفت للحظة تمد كفها لمن ركض يحتضن كفها بسعادة وابتسامته واسعة تنم عن حماسه, سارت للداخل فقابلتها "صفاء" ترحب بها:
- حمد الله على سلامتك يا شدوى هانم.
أزالت نظارتها الشمسية عن عينيها ليظهرا بلونهما الأخضر بفعل العدسات اللاصقة وقالت بترفع واقتضاب فهي أبدًا لم تحب "صفاء" يومًا:
- مرسيه.
دارت بنظرها في أرجاء الفيلا للحظة قبل أن تقول بتوقع:
- شاهين لسه في الشركة.
- ايوه البيه زمانه على وصول, عشان ميعاد غداه بعد ساعة ونص.
- وحشتيني يا صافي.
هكذا نطق الصغير بعفوية وكاد يتجه لها يحتضنها وفتحت ذراعيها تستقبله لكن حال بينهما يد "شدوى" التي جذبته بضيق وهي تعنفه:
- تيم! انا قولتلك ايه؟
وتذكر الصغير تحذير والدته له من أن يقترب من "صفاء" وأن يحجم علاقته بها, ورغم انه لم يفهم تحديدًا ما أرادت منه فعله, لكن استشف المضمون, فتوقف بحزن وهو ينظر أرضًا حتى جذبته خلفها وهي تصعد درجات السلم بينما تأمر "صفاء" بعنجهية:
- ابعتيلي سوسن.
لوت "صفاء" فمها بعد أن صعدت لتعقب حانقة:
- سوسن! يبقى الإرسال بدأ.
واتجهت للمطبخ لترمق تلك التي تطهي الطعام بمساعدة زميلتها وهي تخبرها:
- سوسن الهانم عوزاكِ.
حماس وابتسامة متسعة قبل أن تترك ما بيدها وتنظف كفيها جيدًا تقول:
- هي الهانم وصلت!
لتتهكم "صفاء" قائلة:
- لا ياختي عوزاكِ تقابليها في الطريق!
لم تلقي لتهكمها بالاً وهي تتجه لباب المطبخ خارجة, فأوقفتها "صفاء" للحظة تقول لها بأعين محذرة:
- افتكري ان البيه لو قلب عليكِ الست هانم نفسها مش هتقدر تنجد نفسها عشان تنجدك منه.
وكانت رسالتها واضحة, صريحة, إن تأمرت مع السيدة على شيء فالإثنين سيلاقين العقاب ولن يجدا من ينجدهما.
ابتعلت ريقها بتوجس وهي تسحب نفسها خارجة وحديث "صفاء" يدور في عقلها ومال "شدى" يلمع أمام عينيها.
❈-❈-❈
لم تعد تطيق المكوث لحظة أخرى, ما تعرضت له في الساعات القليلة الماضية لم تتعرض له من قبل, بدءً من الصراخ والرجاء الذي كانت تسمعه بصوت رجل, لسماعها لحديث رجلين بالخارج من رجاله عن تعذيب من يقع في قبضته, ومن أحاديثهم التي سمعتها شعرت أنها تُعرض لكل ما وصفوه في اللحظة, شعرت وكأنها تمر بكل حرف تسمعه, وتعجبت لوجع جسدها واحتراقه وكأنها بالفعل تلاقي ما يقع على مسامعها, ولم تكن تعلم أنهما قصدا التحدث أمام باب غرفتها وغرضهما الإرهاب النفسي, وبعدها مع صرخات الرجل التي لم تتوقف, واعتيادها المكان, تخيل لها أن جدران الغرفة تقترب منها حتى كادت تحصرها بينها, لتصرخ هي الأخرى ويندمج صراخها بصراخ الآخر ولم تعد تشعر بنفسها, حتى أنها لم تشعر بقدوم "مستكة" ولا صوتها مع الرجال.
ومرت عليها ليلة كاملة لن تنساها ما حيت.. ولو كانت تعلم أن الصباح يحمل الأسوأ لقتلت نفسها قبل أن يحل عليها.
❈-❈-❈
عاد للمنزل لتخبره "صفاء" بقدوم السيدة وولدها, وانتظرت ان ترى رد فعله, لكنه كما عهدته, جامد ولا يُظهر مشاعره أبدًا, فقط قال:
- بلغيها تنزل على الغدا.
وبعد نصف ساعة كان يدلف لغرفة الطعام ليجدها تجاور كرسيه وولدها يجاورها, والذي ركض فور رؤيته يتعلق بأحضانه ليقبله "شاهين" بحب ويحتضنه باحتواء لم يعد يعرفه سوى معه وهو يخبره بصدق:
- وحشتني يا تيم.
ليجيبه الصغير بحب متبادل:
- وأنتَ كمان, أنا قولت لمامي لازم اجي اعمل بارتي عيد ميلادي الsix هنا معاك.
مسد على خصلاته بلطف وهو يجلسه فوق الكرسي المجاور له وجلس فوق كرسيه يقول:
- وانا اوعدك هعملك بارتي محصلتش.
صاح الصغير بحماس, ليخبره بعدها "شاهين" أن ينهي طبقه الذي وضعه أمامه بأكمله, قبل أن ينتبه للمسة فوق ذراعه مصدرها من تجلس على الجهة الأخرى منه, لينظر لها بملامح غير مفهومة قبل أن يسمعها تقول بينما تبتسم بلطف:
- كنت ناوية اعرفك, بس قولت اعملهالك مفاجأة, انا عارفه إننا وحشناك.
عاد برأسه للطاولة الكبيرة, والتقط شوكته وسكينه ثم قال بمغزى:
- فعلاً تيم كان واحشني.
لم تختفي ابتسامتها ابدًا, بل حافظت عليها وهي تزيل كفها من فوق ذراعه وقالت:
- محتاجين نقعد نرتب لبارتي تيم.
أتاها صوته الجامد يقول:
- مش محتاجين نرتب حاجة, متولي هيتكفل بكل شيء.
وهنا قطبت جبينها رافضة, وغاضبة في آنٍ وهي تقول:
- متولي! بس متولي ميعرفش في أمور بارتي الأعياد ميلاد, متولي يرتب بارتي لشركتك ولا لبزنس يخصك, مش شيء يخص ابني.
القى نظرة جانبية لها, جعلتها تتوتر وهي تحاول إصلاح ما نطقت بهِ:
- مش بعترض على كلامك يا شاهين, بس انا حابة اشرف على البارتي بنفسي, بعد اذنك.
واتخذت معه أسلوب النعومة لأنها تدرك جيدًا أنها لا يأتي بالعِناد, وبالفعل حصلت على مبتغاها وهي تسمعه يقول:
- تمام, بس انا مليش في الأمور دي.
ورغم ضيقها من عدم مشاركته معها, لكنها كظمت شعورها وقالت:
- اوكي.
❈-❈-❈
وانتهت ليلة عصيبة على بعضهم
وليلة هادئة على البعض الآخر
صعدت "سوسن" من القبو وهي تلتقط أنفاسها التي ضاقت بها بالأسفل, وإشفاقها عاد على الفتاة التي لم يتوقف صراخها ونُبح صوتها من كثرة الصراخ.
دلفت المطبخ ووضعت الأطباق بهِ لتخبرها فتاة تعمل معها:
- الست هانم كانت طلباكِ من شوية.
اومأت برأسها تتجه للخارج:
- هطلعلها.
دقت باب غرفتها ليأتيها أذن الدخول فدلفت للغرفة الواسعة والمرتبة بعناية فائقة, وأثاث باهظ, لتجدها تجلس فوق الفراش تمد ساقيها وتحمل هاتفها تتصفحه بحركات رتيبة فاترة, أغلقته ما إن أبصرت "سوسن" وسألتها باستجواب:
- كنتِ فين؟
ترددت في إخبارها فهي بالأمس لم تخبرها وكأن حديث "صفاء" كان راهبًا لها, وذبذب عقلها, فلم تعد تعرف ما عليها فعله, ولكن اليوم لم تجد مخرجًا من سؤالها سوى أن تخبرها الحقيقة:
- كنت باخد صينية الأكل من تحت.
قطبت جبينها تسألها بعدم فهم:
- تحت فين؟
- المكان اللي البيه بيحجز فيه الناس اللي بيعذبهم.
رفعت "شدوى" حاجبها معترضة بتحذير:
- اسمها بيعاقبهم, عشان غلطوا يا سوسن.
اومأت برأسها سريعًا تقول:
- اه بيعاقبهم.
همهمت وهي تلتقط مبرد الأظافر لتبرد أظافرها بينما تسألها:
- ومال وشك لونه مخطوف ليه؟ هي دي اول مرة تنزلي تحت!؟
نفت تقول:
- لا, بس أصل....
رفعت "شدوى" نظرها لها تسألها بترقب:
- أصل ايه؟
أجابتها بتردد:
- في بت كده جت امبارح, وعمالة تصرخ من وقت ما جت.
صبت "شدوى" كامل اهتمامها معها تسألها:
- مين البت اللي جابها شاهين دي؟ وازاي متعرفنيش بوجودها!
تلعثمت وهي تبحث عن إجابة حتى قالت بتبرير:
- والله يا هانم هي يا دوب لسه جايه امبارح وانا قولت حضرتك جايه و النهارده أعرفك، ومعرفش هي مين، اهي واحده زي اللي البيه بيجبهم عشان يعاقبهم.
ظهر عدم الاقتناع جليًا على وجهها وهي تقول:
- بس شاهين عمره ماجاب ست! يمكن وجودها له سبب تاني.
استنكرت "سوسن" التوقع وهي تقول:
- بس لو له سبب تاني وداها اوضة الضيوف ليه! ده البيه بيلاعبها بكل الاعيبه هو ورجالته دي البت من امبارح بس ونزلت اودي الغدا للرجالة سمعت صريخها زي المجنونه.
نظرت لها مضيقة عينيها بتساؤل:
- بيعذبها؟ "
نفت "سوسن" برأسها وأجابت بثقة:
- ولا حد بيلمسها بس انتِ عارفه البيه يعرف ازاي يخلي الواحد يموت في جلده من قبل ما يقربله حتى، ما تسألي صفاء يا هانم اكيد تعرف.
تهكمت "شدوى" على ذِكر اسم "صفاء" وقالت وهي تنهض من فوق الفراش تلتقط مئزرها:
- صفاء! صفاء دي كلبة البيه حتى لو تعرف عمرها ما هتقول، انا عاوزه اشوف البت دي، لازم افهم منها سبب وقوعها في ايد شاهين، يلا وديني ليها بس من غير حد ما يحس بينا.
عارضتها "سوسن" تقول برعب ظهر عليها:
- ازاي بس, ده مستحيل, الرجالة كلهم مبيفارقوش المكان تحت, ابوس ايدك يا هانم متودنيش في داهية, شاهين بيه لو عرف إني بنقلك الأخبار هيقطع خبري.
تراجعت "شدوى" ليس خوفًا على "سوسن" ولا إستجابة لرجائها بل خوفًا على نفسها, فشاهين لن يمرر فعلتها ابدًا إن وصلت له, لذا التزمت الصمت مؤقتًا وهي تفكر في طريقة تصل بها لتلك الفتاة دون معرفة العقرب.
❈-❈-❈
نائمة فوق الأرضية الباردة, لا تهتم إن كانت فوق الفراش أم لم يدرك جسدها منه شيئًا, فهي تقريبًا لا تشعر بنفسها لتشعر بحر أو برد, فمنذُ دقائق ألقوا بها في الغرفة بعد أن تهاوى جسدها بين أيديهم من شدة الرعب مما رأته, حين أفاقت صباحًا بعد قضائها ليلها في الصراخ, ولم تنام سوى ساعة وحيدة, وجدتهم يفتحون غرفتها يجذبونها للخارج, ويدلفون بها لغرفة أخرى مجاورة, مشابهة لغرفتها, لترى ما هالها وأفزعها, رجل لم يعد سوى مجرد جثة, الجروح بشعة, وجسده دامي بشكل مقرف, وأنينه فقط هو ما يصدر عنه, لا يشعر بهم ولا بأحد! إذًا لم يكن هو من يصرخ معها بالأمس طالبًا الرحمة!! بل هو ضحية ثالثة! وما خُفي كان أعظم..
اقترب الحارس منها, يقف خلفها تمامًا, فمه كاد يلتصق بأذنها وهو يقول:
- شايفه الراجل ده! هو كمان وقف في وش الباشا, واللي يقف في وش العقرب يتحمل لدغته.
وابتعد ليقترب الثاني يهمس لها بتلذذ مريض من ذعرها الذي هو هدفهم:
- تعرفي هو بقاله قد ايه هنا؟ تقريبًا شهر.. وغالبا مش هيتحمل يومين كمان.
وتعالت ضحكاتهما تحت ارتجاف جسدها وقد وصلها المعنى جيدًا, فالرجل لم يتحمل سوى شهر وأصبح هذا حاله فماذا عنها كفتاة!
وتحت ضغطهما والمشهد أمامها لم تشعر سوى بجسدها يتهاوى وقد أصبحا قدميها هلامًا..
ليحملها جرًا للغرفة مرة أخرى والقياها بها مغلقين الباب دون اهتمام, تاركين إياها تصارع هواجسها ورعشة جسدها لا تخفت..
❈-❈-❈
جلس في مكتبه يتابع بعض أعماله قبل ذهابه للشركة, وبالطبع لم ينسى أن يسأل عنها ليرضيه ما سمعه من رجاله, تعالا رنين هاتفه فالتقطه ليبتسم حين رأى اسم المتصل, فأجاب بهدوء:
- صباح الورد يا نورهان هانم.
ضحكة ناعمة صدرت من الأخرى قبل أن تقول:
- ايه الروقان ده يا شاهين بيه, شكلك رايق النهاردة!
ابتسامة بالكاد زينت ثغره وهو يجيبها بعبث:
- من امبارح, أصل هلال مازن بيه هل علينا في الشركة.
أتاه صوتها المندهش تسأله:
- مازن؟ راح الشركة كده من غير مناسبة؟ غريبة اوي, قولي ايه اللي حصل؟ شاهين اوعى تكون ضايقته ارجوك, يا حبيبي انا والله بحاول اصلح الوضع بينكوا عشان مخنوقة من علاقتنا بالشكل ده وخوفي طول الوقت انه يعرف اني على تواصل بيك.
- متقلقيش يا نور, صدقيني انا بمسك اعصابي معاه عشانك, لولا كده كان تصرفي معاه هيبقى بشكل تاني.
صدح صوتها بحزن وهم واضحين وهي تقول بدموع ترقرقت في عينيها لم يراها "شاهين" لكنه شعر بها:
- شاهين أنا تعبت... تعبت والله مبقتش متحملة الوضع ده, بيضغط على نفسيتي ومشتتة بينكوا, بحبكوا انتوا الاتنين ومقدرش استغنى عن حد منكوا.
وقبل أن يواسيها بكلماته دلف عليهِ "تيم" يركض وهو يقول بسعادة جملة لم تصل لمسامع "نورهان" لكنها سمعت صوته, فسألت "شاهين" باستغراب:
- هو مين ده؟
وقبل أن يأتي الرد من "شاهين" سمعت صوت "تيم" يقول بجملة وصلت لمسامعها واضحة:
- يلا يا بابي بقى انتَ وعدتني تاخدني لسهيل.
و "سهيل" كان فرسه الجامح, ومع انتهاء جملته سمع صوت "نورهان" تردد بصدمة:
- بابي!!...
يتبع
فضلا لايك وكومنت ♥️
الفصل التاسع
فراشة في سكّ العقرب
- بابي!
رددتها "نورهان" بصدمة وتبعها قولها الذي أظهر تفاجئها:
- هو تيم رجع؟
التقطه يجلسه فوق فخذه وهو يفتح مكبر صوت الهاتف يجيبها:
- ايوه رجعوا امبارح, سلم على طنط نورهان يا تيمو.
صاح الصغير مرحبًا بحماس:
- نور ازيك؟ هتحضري البارتي بتاعي صح؟
وقبل أن تجيبه "نور" صدر صوت معترض من "شاهين" الذي قطب ما بين حاجبيهِ يوبخه بلطف:
- تيم وبعدين! مش قولنا اسمها طنط نور.
- بابي هي اللي قالتلي مقولش طنط.
برر الصغير ببراءة, لتصدح ضحكة "نورهان" وتبعها قولها المرح:
- الواد ده مبيكدبش, طنط ايه انتَ عاوز تكبرني يا شاهين باشا.
تجاهل "شاهين" جملتها, ومسد بكفه على وجنة الصغير وهو يخبره بنصح:
- حبيبي انا عارف انها فاسدة أخلاقك, بس الغلط غلط, ونور اكبر منك عيب تقولها نور من غير طنط.
أطاعه الصغير برحابة صدر:
- حاضر يا بابي.
صدرت زمجرة الأخرى عبر الهاتف تقول بتهكم:
- بابي بيحاول يعلمك الاحترام اللي هو...
وقبل أن تكمل صدح صوت "شاهين" محذرًا بزمجرة غضب:
- نورهان!
وحين ينطق أسمها كاملاً عليها أن تقلق, فغيرت مجرى الحديث وهي تحادث الصغير:
- قولي يا تيمو, بارتي ايه يا حبيبي؟
أخبرها الصغير بحماس:
- بارتي عيد ميلادي.
- يا ماشاء الله كبرت يا صغنن, happy birthday يا روحي.
أعرب الصغير عن شكره يقول:
- ثانكس, هتحضري؟
ودعمه "شاهين" يسألها منتظرًا معرفة موقفها هل سيكون ككل عام أم سيختلف هذه المرة:
- ولا هتعملي زي كل سنة؟
زفرة قوية خرجت منها وصلت لمسامعهما تبعها جملتها التي توقعها "شاهين":
- شاهين انتَ عارف مش هينفع احضر.
نظر للصغير يخبره في لطف:
- تيم ممكن تروح تلعب بره شوية, هتكلم مع طنط في كلام كبار.
- اوك.
قالها قبل أن ينزله "شاهين" أرضًا فركض الصغير للخارج تاركًا باب غرفة المكتب مفتوح, أغلق مكبر الصوت ووضع الهاتف فوق أذنه يسألها باستخفاف:
- يا ترى خوف من أخوكِ ولا مش عاوزه تشوفي شدوى.
- الاتنين.
قالتها بصراحة واضحة, والتقطت أنفاسها بعدما بدأت تشعر بالاختناق جراء التطرق للحديث في هذه المواضيع التي تستنفذها:
- مش هينفع احضر لأن اكيد مازن هيعرف, وانا مش عاوزه مشاكل معاه, وغير كده انا مبحبش شدوى ولا عمري هتقبلها بينا, ومعرفش انتَ مستني ايه عشان تطلقها!؟
وسؤالها الأخير خرج منفعلاً يعبر عن مقتها لاستمرار زوجه بتلك السيدة التي تراها ماكرة, ولعوبة, كالحرباء المتلونة, تحصل على ما تريد بسهولة وبأفعال ملتوية تصلها في النهاية لمبتغاها, رغم ظهورها بصورة سيدة المجتمع الراقية, وتقمسها للشخصية الارستقراطية, لكنها لا ترى فيها أيًا من هذا, بل تراها مجرد حية متصنعة البراءة, ولا تعلم إن كانت نظرتها بها صحيحة أم لا, لكنها تصر عليها.
مسد جبينه بأصابع كفه بتعب وقد بدأ يشعر بالصداع الدائم له يداهمه:
- يا نور الموضوع مش بالسهولة دي, متنسيش إن في طفل وتيم متعلق بيا جدًا, مقدرش ابعد عنهم فجأة كده, ده لما بيسافر أسبوع ولا اتنين لجدته بيفضل يزن على شدوى ويكلمني عشان عاوز يرجع.
سألته حانقة:
- ايوه و امتى هتبعد؟ ولا هتفضل عمرك كله مضيعه معاها واسمك متجوز!
أخرج لفافة تبغه من علبة أنيقة تجمعهم, وأشعلها بقداحته الذهبية اللامعة, أخذ نفسًا عميقًا وزفره على مهل ثم أجابها شاردًا بالدخان المتصاعد:
- يمكن لما يوعى شوية ويفهم الكلام اللي هنقولهوله, لكن دلوقتي هيكون في ألف سؤال عن ليه هيسيبوا البيت, وليه مبقتش عايش معاهم في بيت واحد, وأسئلة تانية كتير مش هيفهم إجابتها دلوقتي, جوازنا مجرد رخصة لوجود شدوى في البيت, وأنتِ عارفة ده.
خرج حديثها من بين أسنانها وهي تضغط على نفسها كي تكبح مقتها تجاه تلك السيدة:
- انا مش مرتحالها, ودايمًا حاسه إنها ممكن في أي وقت تأذيك عشان مصلحتها, انتَ ناسي إن لو جرالك حاجه هتكون واصية على تيم! تيم اللي كل أملاكك هتتنقل له تلقائي.
ضحك خافتة صدرت منه ووصلتها لتلوي فمها بسأم من اقتناعه بحديثها, قبل أن يقول مستخفًا:
- مكبرة الموضوع اوي ودخلتِ في جو المسلسلات التركي! شدوى عمرها ما تفكر تأذيني, أولاً لأنها عارفة كويس إني مصدر حمايتها ومن غيري تضيع هي وتيم, وثانيًا لأنها بتحبني.
- وأنتَ بتحبها؟
سألته بغيظ وضح في نبرتها كوضوح الشمس, ليتلاعب بحديثه معها وهو يبادل سؤالها بسؤاله:
- أنتِ شايفه ايه؟
- شايفه إنك تقفل, دمي اتحرق والله.
وأغلقت الهاتف دون كلمة زائدة, لينظر لشاشة الهاتف التي تعلن عن انتهاء المكالمة بحاجب مرفوع وهز رأسه ملقيًا الهاتف فوق المكتب:
- مجنونة.
دقة فوق الباب المفتوح تبعها دلوف أحد حراس القبو وهو يحييه باحترام بحركة من رأسه تبعها قوله:
- باشا.
- في حاجه حصلت؟
سأل "شاهين" بانتظار سماع شيء يطربه كالعاده منذ الأمس, ليقول الحارس:
- البت عاوزه سعادتك, بتقول عندها كلام عاوزه تقوله.
رفع حاجبه مستمتعًا وهو يسأله:
- سلِمت!
وابتسامة سمجة زينت ثغر الواقف يجيبه:
- يدوب من شوية شافت الضيف التاني, طبعًا هو في حالة هستيرية من وقت ما وقع في أيدينا, فشكله خوفها اكتر من ضيف الصبح.
اومأ برأسه راضيًا تمام الرضا عما يسمعه, وأخبره بأمر:
- الواد بتاع الصبح كفاية عليه كده, خدوه ارموه في أقرب مكان للكلب اللي كان باعته, ووصله معاه رسالة إن المرادي اللي شال الليلة الراجل بتاعه, لكن المرة الجاية اللي هيشيل الليلة الكلب نفسه, يعتبر اللي حصل في الراجل بتاعه تحذير له.
ومدحه الرجل وهو يقول بكياسة:
- ده كرم أخلاق منك يا باشا, من امتى وشاهين باشا بيدي تحذيرات.
لم يلتفت لحديثه وهو الذي لم يرضيه يومًا تلك الأشياء التي قد ترضي غيره, لا يلتفت لتأييد غرضه التقرب, ولا لفعل غرضه التودد وأخذ نقطة إضافية, وقال مسترخيًا على كرسيه:
- سيبها شوية.
تردد الرجل فيما يريد قوله لكنه في النهاية قال:
- باشا بس البت ممكن تتصرع, دي بتقعد تصرخ وكأن حد جوه بيعذبها!
نظر له بجمود دون كلمة واحدة فشعر أن الكلام لم يرضيه, فكاد يتراجع مخبرًا إياه أنه سيجعلها تنتظر فلا بأس, لكنه استمع لكلمته أخيرًا:
- ماشي..
ولم يفهم معنى الجملة تحديدًا, فصمت منتظر بقية الحديث الذي توقع أمره له بأن يجلبها, ولكن اتسعت عيناه ذهولاً وهو يقول بعدما اطفأ لفافة تبغه ونهض متجهًا للخارج:
- ابقى طلعها بعد الغدا.
بعد الغداء! نظر الحارس في ساعته ليجدها تشير للواحدة ظهرًا وغدائه في تمام الثالثة ونصف ساعة حتى ينتهي إذًا عليها الانتظار لساعتين ونصف بعد, إذًا فستنتظر! يا له من لعوب! دومًا في النهاية يصل لِمَ أراده, نفس النهاية لكن بطريقة ملتوية.
❈-❈-❈
كانت تتابع عملها في الشركة التي تعمل بها, لتقترب منها صديقتها "جميلة" والتي بنفس الوقت زميلتها في العمل, ولكن تجمعهما صداقة قديمة قبل العمل, فهي تعرفها منذُ الثانوية العامة وقد كانت زميلتها في الصف, والتحقا بنفس الجامعة, وجاء قدرهما بأن يجدا عمل لهما معًا, جلست "جميلة" على كرسي مقابل لمكتب "نورهان" ومالت عليها تسألها بهمس:
- فكرتِ؟
أغمضت عينيها بنفاذ صبر, ولوت فمها بعدها وهي تنظر لها ساخطة:
- أنتِ تاني؟ قولتلك يا جميلة ردي من يومها.
برقت عيني "جميلة" وهي تنصحها:
- يا بنتي متبقيش عبيطة! الواد عينه هتطلع عليكي, ويتمنالك الرضا ترضي, يا هبلة ده ابن اخو صاحب الشركة.
تهكمت وهي تسألها:
- اتجوزه عشان عمه صاحب الشركة يعني؟ ويا ترى ده هيفدني في إني اترقى مثلا!
تنهدت "جميلة" بهدوء ووضحت مقصدها:
- لا, بس قصدي ان مستقبله مضمون, وحالته المادية كويسة, ومحترم, وحلو شكلاً, وذوق, ناقصه ايه؟
حركت رأسها بيأس من أن تفهمها "جميلة", فهي دومًا تحسب الأمور من الناحية العقلية ولا تضع حسابات القلب والمشاعر في الحسبان.
- ناقصه احبه, وانا مستحيل احبه.
اقترحت عليها وكأنها تبيع لها ثوب فتقنعها بأنه سيليق بها:
- طب ما تجربي, يمكن تحبيه.
قطبت ما بين حاجبيها بحدة:
- احبه ازاي وأنا بحب غيره يا جميلة؟!
اغاظها ردها وهي تعلم جيدًا من المقصود ب"غيره" وتعلم القصة من البداية لحتى هذه اللحظة, صديقتها الغبية التي تصر على إضاعة عمرها هباءً مع شخص لا يناسبها ولا يلقي لها بالاً من الأساس, ولطالما نصحتها بأن تصرف تفكيرها عنه وجملتها الدائمة "يعني أخوكِ مبيقبلوش, وأنتِ وهو مبتتقابلوش ولا بتلمحيه حتى من وقت ما قطع علاقته بأخوكي, وبردو تقولي بحبه! طب هو انتِ بتشوفيه أصلاً عشان تعرفي هو كمان بيحبك ولا لأ" ودومًا كانت إجابتها الصمت, ونظرة حارقة تجعل "جميلة" تبتلع باقي حديثها.
- وغيره بيحبك يا نن عين جميلة؟!
هي تسخر منها, الأمر واضح, تنهدت والتزمت الصمت كعادتها, لتنتفض "جميلة" واقفة وهي تقول من بين أسنانها محافظة على نبرتها المنخفضة:
- هتعنسي وانتِ مستنياه يا بنت عمران, وبكره تاخدي قلم على قفاكِ لما تلاقيه اتجوز وخلف وانتِ قاعدة على الأطلال.. اقولك حاجه؟
وكان سؤالها الأخير يحمل جدية جعل "نورهان" تظن أن الإجابة ستحمل نفس الجدية, ولكن تبخر ظنها والأخرى تهتف بطريقة جعلتها تضحك رغم همها:
- يتك خيبة.
تنهدت بحزن حل عليها بعد انصراف "جميلة" ووجدت ذاتها تردد حانقة:
- منك لله يا جميلة دايمًا تقلبي عليا المواجع.
كاذبة هي, تتحدث وكأنها تتناسى مواجعها أساسًا.. !
❈-❈-❈
- يا مازن اقعد بقى خيلتني!
قالها "مدحت" صديق "مازن" بالعمل بعدما سأم من فرط حركته منذُ أتى صباحًا, يركض هنا وهناك, ولا يعرف ما يفعله, جلس أخيرًا والغضب يتأكله وساقيهِ لم تتوقف عن الاهتزاز بينما يقول:
- هتجنن, مش عارف اوصلها, اوصلها ازاي وهي جوه قصره.
نظر له "مدحت" يرى رد فعل حديثه عليه, فسأله بحذر:
- أقول اللي انا شايفه؟
نظر له "مازن" بقوة يحثه على القول, فذم شفتيهِ أسفًا يقول ما يراه من الوضع القائم:
- مش هتعرف توصلها غير لما هي تقدر توصلك.
- لا كتر خيرك.
قالها باختناق ساخر ونهض يعيد دورته في أرجاء غرفة المكتب, ليعقب "مدحت" بجدية وحكمة:
- أنا بتكلم من الواقع, قولي هتوصلها ازاي وهي في قصره, شاهين المنشاوي عنده حرس ولا الحرس الجمهوري, هتوصلها ازاي جوه؟
تجمد في أرضه, ونظر له بقتامة يردد بهدوء يسبق العاصفة:
- يعني ابن المنشاوي بيهزمني في أول جولة في لعبتي أنا! أنا اللي خطت وصنعت اللعبة في الآخر هو اللي يكسب في أول جولة!
- مش مهم اول جولة يا مازن, المهم الجولات الجاية, بعد ما تقدر تتواصل معاك لازم تبقى انتَ المتحكم في اللعبة.
ضرب المكتب بقبضته بقوة هزته, وهدر متخليًا عن هدوئه:
- يعني هحط ايدي على خدي واستنى هي تكلمني! هقعد واستناها هي اللي تتصرف؟ وافرض معرفتش تتصرف, انا عارف هو بيعمل فيها ايه دلوقتي؟ افرض في خطر! هستناها تنقذ نفسها! ده انا كده ابقى**** مش راجل.
ضرب "مدحت" كف بآخر غاضبًا:
- يا بني الموضوع مش فتحة صدر ولا فهلوة! العقل بيقول انك مش هتعرف توصلها جوه قصره, كل اللي بتقوله ده بقى ملوش معنى, لو عندك طريقة توصلها قولي وايدي على كتفك.
جلس مهمومًا وقد سقط على كرسيهِ خلفه شاعرًا بعجز يمقته, تتكرر هزيمته أمام غريمه, لا يُكتب له الانتصار ابدًا, مرة وحيدة منذُ زمن كُتب له الانتصار ومن بعدها والآخر ينتقم فلا يترك جولة إلا وينتصر فيها.
❈-❈-❈
انتهوا من تناول الغداء, لينهض فورًا مغادرًا مائدة الطعام فلحقت بهِ على عجالة تهتف محاولة جذب انتباهه:
- أنا طلبت بدلة تيم اونلاين, وطلبت ليك نفس البدلة قولت يعني تعملوا ماتشنج هيكون شكلكوا حلو.
توقف والتف لها محافظًا على جموده:
- بس انا عندي بدل كتير مكنتش محتاج بدلة جديدة.
ابتسمت له بلطف وهي تقول محاولة سبر أغواره:
- بس انا اخترتلك نفس ديزاين بدلة تيم.
رفع حاجبيهِ بملل وقال محاولاً إنهاء الحديث:
- ماشي.
ولكنه لم ينجح حين فتحت معه حديثًا آخر وهي تقول:
- شاهين احنا محتاجين نتكلم في تفاصيل ال...
قاطعها وهو يقول بضجر واضح:
- شدوى! قولتلك التفاصيل دي مليش دعوة بيها, انا مش فاضي لحواراتك دي.
امتعضت ملامحها وتخضن جبينها بحزن واضح وهي تردد كلمته بألم:
- حواراتي! كل ده عشان بشاركك تفاصيل البارتي, شاهين انا بحاول اوجد لغة حوار بينا, انتَ مش ملاحظ إن مفيش بينا أي كلام! حتى لما بحاول اشركك في حاجه تقولي مش فاضي.. ولا مليش دعوة بيها!
تجمدت نظراته عليها وهو يسألها مستخفًا بحديثها:
- نوجد حوار بينا! وده ليه؟ احنا في ايه بينا عشان نوجد حوار فيه!
تغيرت ملامحها وكأنها أصبحت امرأة أخرى, وقالت بتملك محاولة الحفاظ على مكانتها وأحقيتها في حياته:
- أنا مراتك! ولا عشان متنازلة عن كل حقوقي فكرت إني مليش حقوق عندك؟
وها قد ظهر جانبها الشرس حين بدأت تدافع عن حقوقها, جانبها الذي يراه دومًا ويراها تخفيه خلف الشخصية المسالمة التي ترسمها, لكنه الوحيد الذي يراه مهما حاولت إخفائه, لم تظهر على ملامحه أي تغيير وقال متهكمًا رغم جدية نبرته:
- مراتي, صح أنتِ مراتي أنا ازاي نسيت! ماشي يا مراتِ.. خير بقى محتاجه ايه بعد كل اللي قولتيه ده وحقوقي وحقوقك!
اقتربت منه خطوتين رافعة حاجبها الأيسر بتحدي وثقة وقالت بنفس نبرته المتهكمة:
- اقولك انا, مراتك يعني حقي اشاركك في كل حاجه في حياتك, حقي أكون دايمًا جنبك مش وراك, نتفاهم ونتكلم زي أي اتنين متجوزين مش كل كام شهر يجمعنا كلمتين يخلصوا لما حضرتك تزهق, مراتك يعني أكون مشاركك اوضتك وسريرك مش مرميه مع ابني وقدام الخدم عارفين ان علاقتنا منقطعة!
طالعها بقوة وهو يسألها مستخفًا بكل حديثها المعاد للمرة الألف:
- أنتِ هتعيدي نفس الكلام كل كام شهر؟ هم البوقين دول مش لسه قيلاهم من فترة!
أصدرت صوتًا ساخرًا من حنجرتها واتبعها تساؤلها رغم علمها للإجابة:
- وفرقوا؟
ابتسامة صفراء زينت ثغره وهو يجيبها ببرود:
- ولا هيفرقوا, مش معنى كده انك كل شوية تعيديهم! احنا بقالنا 6 سنين كده, والخدم مش مستغربين بالعكس دول هيستغربوا لو شافوكي في يوم نايمه في أوضتي, ونظرتهم لينا مش هتكون تمام, وأنا اهم حاجه نظرة الناس ليا.
وانسحب من أمامها تاركًا إياها في خضم ذهولها من جوابه, "نظرة الناس"! ومن يقولها "شاهين المنشاوي"! الطاووس المغرور الذي لا يهتم لأحد غيره! لا يفرق معه نظرة الناس إليه حتى وإن سار عاريًا.
صعدت درجات السلم ركضًا وهي تكاد تحفر فيها محل قدميها من شدة الغضب ولسانها يردد:
- نظرة الناس يا شاهين! والناس مش هتتكلم وانت هاجر مراتك من سنين! ماشي يابن المنشاوي, ماشي.
❈-❈-❈
فتحت الباب بلهفة وقد ظنت أن تلك الدقات التي سمعتها فوقه تعود لابنتها الغائبة, لكن خاب ظنها وهي ترى "مجد" يقف أمامها مبتسمًا بحرج واضح, تنهدت بإحباط وهي ترحب بهِ:
- اهلاً يا مجد, ازيك يا بني؟
اجابها مبتسمًا ببشاشته المعهودة:
- الحمد لله يا ام فُلة, ازيك انتِ؟
- نحمد الله يا بني.
وصمتت وصمت هو الآخر ليشعر بالحرج من وقفته هكذا بلا حِراك كالبلهاء, فتنحنح بتوتر وهو يقول محاولاً صياغة سؤاله:
- انا يعني... بقالي مدة مبشوفش فُلة وقولت يعني اجي اطمن لتكون فيها حاجه بعيد الشر.
نفت برأسها وقالت بثبات:
- فُلة عند ناس قرايبنا من أسيوط, قاعده معاهم فترة كده.
قطبت ما بين حاجبيهِ مستغربًا وسألها بفضول لم يستطع كبحه يشوبه قلق على غيابها:
- خير؟
ارتبكت "مديحة" قليلاً في إجابتها ولكنها حاولت أن تبدو مقنعة كي لا تثير شكه وكي لا يعاود السؤال مرة أخرى:
- هم يعني... هم قرايبنا و... وشايفين لها شغلانه حلوه هناك, قالت تروح تجرب شهر ولا اتنين ولو عجبتها تستمر فيها بدل بهدلة الإشارات.
- مانا قولتلك يا ست مديحة, اقنعيها نتجوز وانا استتها وارحمها من البهدلة.
حاولت التهرب من حديثه هذه المرة وهي تقول:
- سيب كل حاجه لأوانها يا بني.
وفهم تهربها من الموضوع ورغبتها في إغلاق الحديث فيه لحين إشعار آخر, فهز رأسه بإحباط ظهر جليًا على وجهه وقال منهيًا اللقاء:
- ماشي يام فُلة, ربنا يردها بالسلامة.
وانسحب من أمامها يسأل نفسه سؤالاً واحدًا لمتى؟ لمتى سيظل معلقًا هكذا بين السماء والأرض, والسماء تعني موافقتها والأرض سيسقط فيها صريعًا إن رفضته بقرار نهائي لا رجعة فيه، والسؤال الأكثر إلحاحًا لِمَ لم يذق من الحب سوى مرارته؟ وهل سيُكتب له تذوق نعيمه؟
❈-❈-❈
وأخيرًا...
هل انتهى عذابها أم مازال له بقية؟ رأت شعاع الأمل حين أخرجوها من تلك الغرفة المقيتة, شعرت وكأنها تسترد روحها وهي تصعد من ذلك القبو المشابه للقبر, لن تعود له مرة أخرى مهما كلفها الأمر, ستنجو بنفسها تحت أي خسارة أخرى, لن تتحمل, إن عادت له مرة أخرى ستموت رعبًا وقهرًا, واختناقًا, لن تتحمل ثانية جديدة في ذلك المكان الذي أطبق على أنفاسها.
وأخيرًا أصبحت أمامه, وأمنيتها كانت شيء واحد وهي تراه يجلس باسترخاء تام فوق كرسي مكتبه ينفس دخان لفافته الفاخرة صانعًا سحابة دخانية حوله, ونظراته... وآهٍ من نظراته, منتصرة, شامتة, وكأنه يخبرها بصمت أنها هنا لتخبره بخضوعها لرغبته, وأمنيتها كانت أن تلتقط مطفأة السجائر الدخانية وتهوي بها على رأسه حتى ترى دمائه, ومجرد تخيلها للمشهد شعرت براحة!
لم ينطق, ولم تستطع الوقوف على قدميها أكثر, فاتجهت بخطى بطيئة, وجسد مرهق لتجلس فوق الكرسي المقابل له, ورغم شحوب وجهها وانكسارها الواضح لكن رأسها مرفوعة بعزة زائفة, وأخيرًا قطعت هي الصمت وقالت بجمود:
- مازن اللي عاوزني اقطع علاقتي بيه أنا معرفوش اصلاً, عمري ما جمعتني بيه علاقة, لا بحبه ولا بيحبني, هو عمل كل ده عشان يوقعك انتَ, كان عارف انك هتجبني هنا, او هتحاول تقربلي, والمفروض اني وقتها اكسبك في صفي... لو سألتني ليه هقولك معرفش, بس اللي اعرفه انه كان هيستفيد بيا بعدين.
أخرجت ما في جعبتها وزفرت أنفاسها وقد انتهت دون أن تهتم برؤية معالمه وأثر حديثها وهي تردد في داخلها
"كسبت نفسي
نجوت بنفسي
وليحترق الجميع
لن أخسر طاقتي لأجل أحد
لن أضحي لأجل أحد فلا أحد يستحق
ولا شيء يستحق
أنا أولاً ثم... لاشيء بعدي..
يتبع
#فراشة_في_سكُّ_العقرب
#ناهد_خالد
الفصل العاشر
قطعت هي الصمت وقالت بجمود:
- مازن اللي عاوزني اقطع علاقتي بيه أنا معرفوش اصلاً, عمري ما جمعتني بيه علاقة, لا بحبه ولا بيحبني, هو عمل كل ده عشان يوقعك انتَ, كان عارف انك هتجبني هنا, او هتحاول تقربلي, والمفروض اني وقتها اكسبك في صفي... لو سألتني ليه هقولك معرفش, بس اللي اعرفه انه كان هيستفيد بيا بعدين.
أخرجت ما في جعبتها وزفرت أنفاسها وقد انتهت دون أن تهتم برؤية معالمه وأثر حديثها وهي تردد في داخلها
"كسبت نفسي
نجوت بنفسي
وليحترق الجميع
لن أخسر طاقتي لأجل أحد
لن أضحي لأجل أحد فلا أحد يستحق
ولا شيء يستحق
أنا أولاً ثم... لاشيء بعدي.."
اقتضاب بسيط ظهر بين حاجبيهِ كان هذا رد فعله على ما سمعه منها الآن, وسألها مرددًا:
- أنتِ قولتِ ايه؟
أكدت على حديثها بإعادته وهي تقول بتعب جعل نبرتها خافتة بعض الشيء:
- زي ما سمعت, أنا مفيش علاقة تربطني بمازن, كل الحكاية منفعة متبادلة.
ضيق عينيهِ الحادتين وهو ينظر لها كالثعلب الذي ينظر لفريسته ويقيمها قبل الانقضاض عليها:
- منفعة متبادلة!
ذم شفتيهِ يكمل بتساؤل باهتمام زائف ظهر فبدى مستفزاً لها:
- ويا ترى هي ايه؟
زفرت أنفاسها على مهل وهي ترتب أفكارها قبل أن تنطق موضحة توصل له ما يريد سماعه:
- انا عندي شقة ورثي من امي, عليها مشاكل كتير بيني وبين اهل امي, وطبعًا بما إني بنت فهم لهم يورثوا معايا ونصيبهم مش قليل ابدًا, وبيضغطوا عليا عشان اتنازل عنها لهم مقابل انهم يراضوني بالفلوس, وانا الفكرة مش في الفلوس ابدًا, الفكرة انها أخر حاجة من ماما, قابلت مازن صدفة وعرفت انه ضابط اتعرفنا على بعض في النادي اللي بنروحه انا وهو, وبعد كام يوم كنت بحكيله عن القضية اللي رافعينها عليا عشان يتمكنوا من حقهم الشرعي في الشقة, وده لو حصل, مش هيخلوني اقعد فيها لحظة من اللي ممكن يعملوه فيا, ووقتها قالي انه عندي الحل وممكن يساعدني وهو عارف ازاي يضغط عليهم عشان هم اللي يطلبوا حقهم فلوس ويسيبولي الشقة..
وصمتت تلتقط أنفاسها وتترقب ردود أفعاله, فوجدتها لا شيء! هو يستمع وكأنه يشاهد فيلمًا في التلفاز, والفيلم.. ممل, ولا يلاقي اهتمامه!
وهذا ما جعلها تتساءل ألا يصدقها؟ ولكن على كل حال يجب أن تكمل اعترافها, ربما يغير رأيه ما إن تكمل باقي القصة.
- طبعًا طلبت مساعدته, فوقتها قالي مصلحة قصاد مصلحة, مفهمتش مصلحة ايه ممكن يحتاجها مني, بس فهمت لما حكالي ان في شخص مجرم عاوز يوقعه بس مش معاه أي أدلة تدينه, وقالي ان الأدلة دي ممكن يحصل عليها لو قدر يزرع حد جوه بيته, حد يكون قريب له ويكون عينه لحد ما تيجي الفرصة المناسبة وياخد اللي هو عاوزه من خلال الشخص ده, سألته وانا ممكن اعمل ده ازاي, مفهمتش غير انه قالي اننا هنمثل ان في علاقة بيني وبينه, وان في راجل من رجالتك بيراقبه وهيوصلك ده, ووقتها انت هتتدخل وهتوصلي, حاولت افهم منه ليه انتَ ممكن تتدخل لما تعرف انه مرتبط ببنت لا وتقرب من البنت دي كمان بس مقاليش حاجه تانية, الحقيقة هو صورلي الموضوع اسهل من كده بكتير...
وابتسمت ساخرة تداري مرارتها:
- صورلي ان المهمة كلها ممكن تخلص في أسبوعين, وإني بمجرد دخولي بيتك في خلال كام يوم هقدر أوصل للي هو عاوزه واخرج منها زي الشعرة من العجين.. هو صحيح مكدبش عليا وقالي إنك شخص مش سهل, بس كمان مقاليش إنك بتأذي الشخص من غير ذنب! هو حذرني من أذيتك لو كشفتني وعرفت إني جاسوسة عليك, بس مقاليش إنك هتأذيني من غير ما اعملك حاجة ومن أول ما تخادني عندك! أنا مكنش عندي مشكلة لسببين, أولاً انتَ شخص مجرم وباللي كنت هعمله مش هأذيك بالعكس انتَ كده هتاخد جزائك وهخلص الناس من أذيتك, والسبب التاني إني في نفس الوقت هستفيد, لكن لما يتعلق الموضوع بحياتي... المعادلة هتختلف.
نقر بأصابعه القوية فوق مكتبه بنقرات ثابتة أثارت اضطرابها وهي تنظر أمامها متجنبه النظر له, لتسمع صوته بعدما نهض من فوق كرسيه وأشعل لفافته منفخًا دخانها من أنفه ثم قال وهو يقف أمامها بطوله الفارع فلم يدرك نظرها على مستواه غير بطنه من جلستها هذه:
- وأنا المفروض اصدق اللي قولتيه ده؟
رفعت رأسها تنظر له باندهاش من رد فعله, وسألته مستنكرة:
- وليه متصدقش؟ معقول هكدب في حاجة زي دي؟
رفع شفته العليا محركًا رأسه برتابة بينما يجيبها:
- وليه لأ! مش يمكن فكرتي وخطرت على بالك القصة دي عشان تنجيكِ.
التوى فمها بابتسامة هازئة وهي تقول بجدية:
- كل ده عشان مابعدش عن مازن! يعني اعترف على نفسي إني كنت ناوية أأذيك, ومزقوقة عليك, وانا عارفه ان ده ممكن يخليك تاخد موقف عدائي ضدي, وهألف كل الفيلم ده عشان ماقطعش علاقتي بمازن!؟ على فكرة كلامك ده فيه إهانة لذكائي, لأني لو بكدب مانا لما هخرج هستمر على علاقتي بيه, طب ما بدل اللفة دي كلها كنت قولتلك سمعًا وطاعة وخرجت عملت اللي انا عوزاه!
سندَ بجانبه على حافة المكتب الخشبي ليميل جسده يسارًا وهو يسألها باستفهام:
- وليه تحكيلي الحقيقة! فرضًا طبعًا إن دي الحقيقة! ليه تحكيها مادام ملكيش علاقة بيه, كنتِ قولتيلي هقطع علاقتي بيه وخرجتِ من هنا نفذتِ, والموضوع أسهل مادام مفيش علاقة بينكوا أصلاً, ليه تحكيلي كل ده وتحطي نفسك في خطر إني ممكن أأذيكِ لإنك فكرتِ واتفقتِ معاه على أذيتي.
صمتت لثواني تفكر, تفكر في حديثه فلن تستطيع إخباره بأنها إن خرجت وابتعدت عن "مازن" لن يبتعد هو عنها! والفعل المتوقع منه أنه سيسجنها كما هددها لأنها لم تنفذ المهمة, لن تستطيع إخباره بهذا لأنها إن فعلت ستكون قد كشفت نفسها تمامًا له, التمعت إجابة منطقيه في رأسها لتجيبه بثبات:
- عشان انا لسه محتاجه حد يساعدني في حوار الشقة, ومادام هخسر دعم مازن, يبقى ممكن اكسب دعمك.
رفع حاجبه الأيسر وهو يميل برأسه يمينًا متفاجئ من إجابتها, فيبدو أن التي أمامه امرأة لا تهتم سوى لمصالحها الشخصية حتى في أسوء الظروف:
- وأنا ايه يخليني أقبل! مفيش منفعة متبادلة بينا!
ابتسمت ما إن وصلها مغزى حديثه, لتلتمع عيناها بمكر تعرفه علمه لها الشارع والاختلاط مع ناس يجري الشر والتلاعب في دمائهم:
- منفعتك إن اللعبة تتقلب لصالحك, يعني بدل ما أكون جاسوسة لمازن عمران, أكون جاسوسة عليه... تعرف تحركاته من خلالي, وكل اللي يوصله عنك يكون بس اللي انتَ عاوز توصلهوله.. عرض مغري مش كده!
حسنًا يعترف أنها أيضًا تجيد التلاعب, اعتدل في وقفته وأصدر صوتًا ضاحكًا بسخرية من حنجرته وهو يعقب بينما يعود بخطواته لكرسيه:
- شكلك شاطرة في اللعب, والأكيد إنك مش أول مرة تلعبي.
تنهدت وهي تقول متهكمة:
- مستغرب ليه! الحياة نفسها لعبة كبيرة, وأنا وقت طويل قضيته لوحدي سواء هنا أو في لندن, وقابلت كتير, وابقى غبية لو بعد كل ده ماتعلمتش اتعامل بذكاء.
- مش كنتِ بتقولي إني مجرم وإني باللي هتعمليه هاخد جزائي! نسيتِ كل ده وعاوزه تتحالفي معايا!؟
_ الحقيقة يا أستاذ شاهين الغبي هو اللي يلعب على حياته، أو يدخل في معركة خسرانة، واقصد بالخسارة هنا إن المكسب ميستاهلش التضحية اللي ممكن تقدمها في المعركة، يعني تفتكر أنتَ مكسبي في الحرب اللي بينك وبين مازن بيه لو حبيت اكون طرف فيها مجزي؟ مكانتش شقة دي اللي تخسرني حياتي، ومهما كانت غالية عندي فحياتي وكرامتي
أغلى بكتير أوي، وحياتي وكرامتي مش محفوظين مع مازن، وده اكتشفته لما جيت هنا.
استرخى بجلسته وعاد بظهره مستندًا لكرسيه وهو يقول بملل:
- ماشي, هعمل نفسي مصدقك إلى أن يثبت العكس, بس خدي بالك عيني هتكون عليكِ.
ابتهج وجهها فجأة وسعدت ملامحها وهي تسأله بفرحة داخلية للتخلص من هذا المكان المريب وسم العقرب الذي يجلس أمامها والذي لم ترى منه إلا القليل:
- يعني همشي؟
قطب ما بين حاجبيهِ بضيق وهو يعقب:
- شكلي هغير رأيي فيكِ, فين ذكائك! تمشي ازاي يعني؟ ده هيخلي مازن يشك فيكِ, مهو مش طبيعي اخطفك واسيبك بالسهولة دي, وبعدين لما تمشي هاخد منفعتي ازاي؟
فهمت ما يرمي إليه بحديثه, فقالت عابسة الوجه:
- ايوه مانا لو قعدت بردو مش هنستفيد حاجه, مازن كان سايبلي تليفون صغير اتواصل معاه بيه لو في خطر, والتليفون ده مش معايا دلوقتي هتواصل معاه ازاي!؟
أطفأ لفافته أخيرًا بعد أن امتلأت الغرفة برائحة الدخان الذي تكرهه لكن وهل ستعبر عن هذا! واستند على مكتبه بذراعيهِ وهو يقول لها:
- ماتشليش هم التواصل, أنا هعرف ازاي اخليكِ تتواصلي معاه, المهم ان ضيافتك هنا مستمرة لحد مانا كمان أخد اللي انا عاوزه, ووقتها هشوفلك حوار شقتك وهمشيكِ.
ارتعبت وشحب وجهها وهي تستمع لحديثه, هل ستبقى هنا مجبرة؟ هل فشل مخططها ولم تنجِ بما أخبرته بهِ كما توقعت؟ وعن أي ضيافة يتحدث؟ هل يقصد تلك الضيافة التي كادت تصيبها بالهلع والجنون وهي تمكث في تلك الغرفة التي تطبق جدرانها عليها وأصوات الصراخ لا تنقطع بها!؟
- لا, ضيافة ايه أنا...
رفع كفه يوقفها عن الحديث وابتسم بتلاعب وهو يخبرها:
- متقلقيش مش ضيافة زي اللي فاتت, المرادي ضيافة شاهين المنشاوي على حق.
نظرت له بقلق لم تستطيع التخلص منه رغم حديثه المطمئن, لكنه لم يبالي بحديثها وهو ينادي بعلو صوته الأجش على "صفاء" ليرتجف جسدها خوفًا وكل الأحداث تُعاد أمامها كما حدث أمس, دلفت "صفاء" لتسمعه يقول لها بنظرة تعلمها:
- خدي الأنسة خليها ترتاح فوق.
وزفرت "فيروز" أنفاسها المحبوسة حين سمعت كلمة "فوق", لتطمئن وهي تصدق حديثه السابق بأنها لن تذهب لذلك المكان مرة أخرى.
نهضت تتحامل على تعبها والدوار الذي أصابها فور وقوفها كي لا تُظهر ضعفها أمامه, جرت قدميها لتخرج من الباب وما إن خرجت حتى أمر "صفاء" قائلاً:
- ابعتي حد يجيبلها كام طقم يناسب اقامتها هنا مدة.
أومأت برأسها بطاعة وخرجت لتجدها واقفة على بُعد سنتيمترات من الباب تنتظر قدومها, وما إن سبقتها حتى أتبعتها وهي تنظر لظهرها بغيظ, صعدا الدرج الطويل حتى وصلا لطرقة بها عدة غرف ودلفت "صفاء" لأحدهم لتتبعها "فيروز" ناظرة لأرجاء الغرفة الفاخرة كباقي المنزل, اثاث أنيق وألوان هادئة مريحة للعين ومساحة واسعة, إن لم تكن قد سبق لها رؤية مثل هذه الفخامة في الشقة التي نقلها إليها "مازن" لفغر فاهها ذهولاً مما تراه, ولكنها لا تنكر أن الفخامة هنا تفوق, وقفت في منتصف الغرفة بفتور لتلتفت لها "صفاء" بابتسامة بسيطة مجاملة:
- ارتاحي حضرتك والبيه أمرني أبعت اشتريلك لبس يناسبك عشان تغيري هدومك.
الغيظ يمتلكها تجاه هذه السيدة المقيتة أو التي أصبحت مقيتة لها منذُ اصطحبتها لذلك المكان المريع, فلم تتمالك نفسها وهي تسألها بابتسامة صفراء:
- أنا قولتلك قبل كده إن شكلك حلو يا مدام صفاء؟
اومأت "صفاء" متذكرة مدحها لها أمس, لتختفي ابتسامة "فيروز" السِمجة وهي تخبرها:
- بسحب كلامي, شكلك عادي على فكرة, أنا بس كنت بجاملك فكرتك شخص كويس قولت اجبر بخاطرك, لكن مادام شغالة مع راجل زي ده يبقى خسارة فيكِ المجاملة.
فغر فاه "صفاء" بصدمة وهي تستمع لحديثها المهين لها, وكادت تتحدث مدافعة عن نفسها بأنها فقط تنفذ الأمور, ولكن رفعت "فيروز" كفها أمامها تمنعها من الحديث مشيرة لها بالخروج:
- اقفلي الباب وراكِ.
ولم تجد "صفاء" حيز للحديث فخرجت وقد أشعرتها كلمات "فيروز" ببعض الذنب تجاهها, لكنها سرعًا ما نفضته وهي تهمس لنفسها:
- اكيد غلطت وتستاهل عقاب الباشا, الباشا مبيأذيش حد من غير سبب.
ولا تدري هل هي تبرر لنفسها لتُخرص ضميرها أم تبرر لرب عملها لأنها لا تراه مخطئ مهما فعل!
رمت نفسها فوق الفراش بتعب والآن سمحت لدموعها بعودة الإعلان عن نفسها, فتهاوت بكسل وكأنها متعبة كتعب صاحبتها, وعقلها بدأ يفكر فيما فعلته, وما عليها فعله, هي لم تخرج من اللعبة كما أخبرت "شاهين" بل لقد غمست نفسها بها أكثر, والآن أصبحت طرفًا فيها, وتتلاعب بخيوطها التي تملكها للآن, ولكن السؤال المهم لمتى ستملكها؟ متى ستنقطع الخيوط وتسقط العرائس مُعلنة فساد العرض!
تخشى أن تخرج هي الوحيدة الخاسرة, تخشى أن تصل في النهاية لطريق مسدود وتعض أصابعها ندمًا لأنها هي من أدخلت نفسها في هذا الطريق من البداية, هل تخطو خطوات واثقة نحو نهاية مضمونة؟ أم تخطو نحو الهاوية!؟
تقوقعت على نفسها فوق الفراش تحتضن جسدها ببرودة تجتاح أواصرها, وخواء مريب تشعر بهِ, وضعت كفها فوق أذنها تغلقها والأخرى دفنتها في الفراش لتُسكت أصوات الصراخ الذي لازمها يومًا كاملاً, تريد النوم... وبالأدق تريد الهروب لترتاح قليلاً فالمعركة لم تبدأ بعد, وعليها أن تتسلح بالقوة والثبات وأن تكون بكامل عقلها فذلة قادرة على أن تطيح بها.
❈-❈-❈
ضرب المكتب بقبضته بقوة وهو يصرخ بمن يجلس أمامه:
- يعني ايه؟ يعني رجالته كلهم أوفياء! مفيش واحد منهم عارفين نغريه بالفلوس ولا التهديد نافع معاهم!
ضجر "مدحت" من صراخه منذُ أتى له, ليقول بضيق:
- في ايه يا مازن ماحنا حاولنا اهو! لحد الجنايني حاولنا معاه من بعيد ومحدش فيهم قابل يخونه حتى لو الخيانة دي مجرد انه يوصلنا بيها او يعرفنا بيحصلها ايه جوه.
دار وطاف في مكتبه باختناق مرددًا وهو يشعر نفسه على وشك الجنون:
- ليه؟ وازاي! مش معقول يكونوا كلهم كلاب له كده!
عقب "مدحت" بتفسير:
- يمكن خايفين, مش شرط يكونوا أوفياء.
نفى "مازن" برأسه يردد:
- لا, مش خوف, انتَ مسمعتش كلام المخبر, بيقولك ردوا عليه قالوله احنا منخونش شاهين بيه ولو على رقبتنا.
- شاهين مش سهل يا مازن, واحنا عارفين ده من البداية, المهم نفكر دلوقتي هنعمل ايه مادام خطوتنا دي فشلت.
التقطت علبة سجائره وأخرج واحدة يشعلها بالقداحة بحركات عصبية ظهرت جلية عليه, أخذ نفس منها وزفره بقوة قبل أن يقول:
- محتاج افكر تاني, معرفش ممكن اوصلها ازاي وهي...
قطع حديثه وهو ينظر ل"مدحت" بنظرة غريبة, ليجعد الآخر حاجبيهِ يسأله:
- ايه؟ سكت ليه؟
ضم قبضة يده بقوة وهو يغمغم بكره وحديثه كان مجرد لغز ل "مدحت":
- مضطر الجأ لها, هي الوحيدة اللي هتقدر توصلني بيها.
سأله "مدحت" بفضول متلهف:
- هي مين؟
لم يجيبه فقط شرد بنظره وهو يرى نفسه مرغمًا على سلك طريق مخزي مثل هذا والتواصل مع من قطع علاقته بها منذُ سنوات من أخر موقف جمعه بها, وكل هذا فقط من أجل الوصول لها "فيروز".
❈-❈-❈
دقات فوق باب غرفتها دفعتها للاستيقاظ من غفوتها المؤقتة, لتنهض بإرهاق تفتح الباب لتجد "صفاء" أمامها وهي تحمل عدة حقائب ورقية أنيقة, قدمتهم لها وهي تخبرها مبتسمة وكأنها لم تقذف بكلماتها في وجهها منذُ قليل:
- الهدوم وصلت يا هانم, لو في أي مشكلة في المقاسات بلغيني.
التقطتهم منها وما كادت تغلق الباب في وجهها بضجر حتى قالت حين شعرت بجوعها وقرصة معدتها من خوائها:
- هاتيلي أكل, بس يكون نضيف مش زي البواقي اللي كنتوا بتقدموهالي تحت.
حافظت "صفاء" على ابتسامتها الباردة وهي تجيبها باحترام:
- أوامرك يا هانم, دقايق والأكل يكون عندك.
أغلقت الباب بوجهها للمرة الثانية ودلفت للغرفة تفتح الحقائب لترى ما جلبوها لها, مطت شفتيها بمقت حين رأت الثياب منحلة من وجهة نظرها, فهي رغم تغييرها لثيابها الرثة التقليدية لكنها لم ترتدي ثياب ضيقة أو قصيرة, وطبعًا ما جلبوه يخالف تمامًا مبادئها, ولكنها مضطرة, فهل ستمثل أنها قضت أعوامًا في لندن وبنفس الوقت تعترض على ثياب أقل من الطبيعي لمثيلاتها!
حاولت انتقاء أفضلهم وكان بنطال أسود يلتصق بجسدها وكنزة زرقاء فاتحة بدون أكمام فقط حمالة رفيعة بفتحة صدر واسعة تبين عظمتي الترقوة لكنها لم تصل لمقدمة صدرها, كان لونًا جميلاً ملائمًا لبشرتها السمراء, وحذاء رياضي أبيض وجدته بين المشتريات, وبالطبع كل هذا كان بعد استحمامها لتتخلص من أثار الليلة السابقة, ولم تمشط شعرها فقط اكتفت بتجفيفه وتركه ثائرًا مثلها.
وقفت أمام المرآة تنظر لمظهرها بغير رضى وهي ترى نصفها العلوي ظاهرًا بسخاء هكذا, لكنها مضطرة, فما إن قبلت الدخول لهذا العالم عليها وبكل أسف أن تصبح شبههم.
- بيرتاحوا ازاي في الهدوم العريانة دي! لا والواحده منهم تبقى ماشية ولا كأنها لابسة نقاب!
هكذا عقبت ناقمة على تلك الثياب وعلى مرتديها, قبل أن تتجه لشرفة الغرفة وتقف فيها بعدما أزاحت الستار ليظهر أمامها المنظر الخارجي للفيلا, مساحة واسعة يتخللها أشجار وحشائش خضراء وطريق مرصوف للسيارات, وبوابة ضخمة يقف على حراستها ثلاث رجال ضخام الجثة, وشخص ذو بنية متوسطة وثياب تختلف عن ثيابهم الرسمية وقد خمنت أن مهمته تنحصر في فتح البوابة, المنظر في مجمله مريح للنفس بعيدًا عن البوابة ومن يقفون أمامها.
فتركت لعينيها حرية الركض بينا أرجاء المكان مركزة على الخضرة ونافورة المياه ذات المظهر الجذاب الذي يزين المنتصف.
❈-❈-❈
مكان ما... لكنه في نفس المحافظة.
فيلا عالية الفخامة تشبه القصر, مكتظة بالحرس, والخدم, وبداخل أحد غرفها والمخصصة كمكتب ضخم, كان يجلس هذا الرجل ذو الأربعة وخمسون عامًا بخصلاته البيضاء في أغلبها وملامحه التي يبدو عليها الجمود والخطورة, مشعلاً لفافة بنية أنيقة منفخًا دخانها وأعقب يقول للشخص الجالس أمامه:
- الشحنة هتوصل المينا بكره الساعة 2 بليل, جهز رجالتك وأول ما تستلمها وتعدي المينا شاهين هيكون مستنيك برجالته على طريق الصحراوي عشان يتصرف فيها.
سأله الجالس أمامه وهو يضيق عينيهِ بسوادهما الكحيل:
- وليه شاهين يستلمها على طول كده ومن الطريق؟ مش بيستلمها من مخزن الجبل؟
- اليومين دول في عوء, والحكومة مفتحة عينها, خلينا نخلص من الشحنة على طول عشان منلفتش نظر, وكمان في رجاله مستنياها لأنها اتأخرت كام يوم بسبب ظروف الموردين والناس مصالحها متعطله.
دقات خافتة فوق الباب تبعها دلوف أحد رجاله وهو يقول:
- مختار باشا, وصلني معلومات عن شاهين ب...
وقبل أن يكمل ويسترسل في حديثه رفع "مختار" كفه له يوقفه وهو يحدقه بنظرات حارقة, لينتبه الآخر لنفسه وأنه لم يكن عليه الحديث أمام الجالس.
خرج بعدما أشار "مختار" له بالخروج مؤجلاً أي حديث لوقت لاحق, أردف الجالس بعدما خرج الرجل:
- لسه بتراقبه؟ معرفش ليه مقلق من شاهين كده.
أردف "مختار" كاشفًا عن الحقيقة وهو ينهض من فوق كرسيه ليستند على ظهره وهو يقول بمغزى:
- مش شاهين بس, أنا عيني على الكل, ولازم تكون على الكل, أنا مش هسمح يحصلي زي اللي حصل للي قبلي, أنا من وقت ما قعدت على الكرسي ده وانا مش ناوي اسيبه ولو على موتي.
قالها وهو يضرب على ظهر الكرسي الطويل بكفه مرتين, وأكمل:
- دياب الحلاوني, ومراد وهدان, وطارق حربي, كل دول كانوا سبب إن اللي قبلي يسيب الكرسي ده, لكن أنا مش هبقى غبي واقرر الغلطة, لازم تبقى عيني عليهم عشان ميفكروش حتى يهربوا زي اللي قبلهم, بس مقدرش انكر انهم فادونا, يعني لولاهم مكنتش هبقى قاعد على الكرسي ده وبقى ليا مكانة كبيرة في المنظمة, وانتَ كمان يا غسان, لولا هروب دياب مكانش زمانك مكانه.
طرق "غسان البلتاجي" بأصابعه على المكتب وهو يقول:
- معاك حق, مصائب قوم عند قوم فوائد, بس مش ده السبب الرئيسي لمراقبتك لشاهين, انتَ قلقان علاقته بمازن عمران ترجع.
ولم يراوغه "مختار" وهو يقول:
- صح, شاهين مينفعش ترجع علاقته بمازن, وانا هفضل واقف بينهم زي الشوكة في الزور, مش هسمح يرجعوا تاني, مازن بيأثر على شاهين وبحسه مذبذب, وغير كده.. انا دلوقتي مستفيد من الاتنين, لكن لما بيتكلموا وعلاقتهم بتكون كويسة, بقلق مازن يشك فيا.
رفع "غسان" حاجبه بمكر يعقب:
- عشان طول ما مازن ميعرفش عن شغلك انتَ في آمان, وشاهين هو اللي في وش المدفع ومازن مركز معاه هو.
اومأ مؤكدًا وهو يقول:
- وشاهين كمان هادي ومكمل في اللي بيعمله, بس شاهين مش سهل ونابه أزرق ولو عرف إنك مستغل مازن لمصالحك مش هيسكت.
- طول ما شاهين ومازن الدنيا والعة بينهم مش هيعرف, عشان كده مينفعش الدنيا تهدى بينهم.
قالها باصرار وهو ينظر ل "غسان" بقوة ليدرك الأخير أنه لن يتوقف عن زرع الفتنة بين "مازن وشاهين" لتستمر الحرب بينهما.
" غسان البلتاجي من شخصيات رواية بكِ أحيا اللي حابب يعرف قصته عشان يبقى فاهم معانا سير الأحداث يقرأ الرواية"
❈-❈-❈
تابعت تمشيط خصلاتها ببطء وهي تستمع لحديث "سوسن" عن ما فعله "شاهين" مع الفتاة المجهولة التي أخرجها من القبو وأمر صفاء أن توصلها لأحد غرف المنزل, بل والأدهى هي بعث "صفاء" لأحد الحرس ومعه إحدى الخادمات ليشتريا بعض الثياب للضيفة, غمغمت "شدوى" بضيق وهي تتابع ما تفعله:
- وليه بيعمل معاها كل ده؟ وحوار الهدوم ده معناه انها قاعدة هنا شوية.
أكدت له "سوسن" حديثها:
- ايوه اكيد, هي لما طلعت من تحت غابت في مكتب الباشا شوية وبعدها خدتها صفاء للأوضة, بس شكل حوار البت دي كبير.
رمت مشاطة الشعر بضيق مصدر صوت عالي, ونهضت تواجه "سوسن" تقول بغضب:
- لازم اعرف ايه حكايتها البت دي, وكويس انها طلعتلي عشان اعرف اوصلها بسهولة, هي لسه في الأوضة؟؟
اومأت "سوسن" تقول:
- لسه صفاء طالعلها بشنط الهدوم.
هزت رأسها عدة مرات وهي تغمغم بترقب:
- ماشي... يبقى لازم ارحب بالضيفة دي مهما كانت في بيتي.
وشددت على جملتها الأخيرة وكأنها بهذا تقنع نفسها وتؤكد بأنها صاحبة المنزل وستظل هكذا.
❈-❈-❈
هتفت "صفاء" وهي تتابع رص الأطباق فوق المائدة الطويلة, وما إن رضت عن شكلها وتأكدت من وجود جميع ما يحتاج له أفراد الأسرة, حتى قالت بأمر ل "مستكة" و "سوسن":
- يلا على المطبخ كده السفرة جاهزة.
تحركا فورًا للداخل, فوجودهم بالمنزل ينحصر في المطبخ إلا لو كان لهم عمل خارجه وسرعان ما يدلفوا له, فهذه إحدى قواعد المنزل الذي فرضها "شاهين" وقاعدة أخرى كانت تنص على أن الطعام لا يؤكل سوى على المائدة وفي غرفة الطعام, وهذا ما جعل "فيروز" تنزل مرغمة للأسفل وتجلس فوق الطاولة الضخمة لتتناول طعامها بعدم أخبرتها "صفاء" بعدم إمكانية صعود الطعام لها في الأعلى.
نظرت للطاولة التي تحوى كراسي عديدة تكفي لأسرة بأكملها, وهي تشغر كرسي واحد منها, لتشعر بالفراغ الغريب وهي تنظر لباقي الكراسي, فغمغمت حانقة:
- بقى عشان اكل لقمة اقعد على السفرة دي كلها لوحدي! ايه التخلف اللي عندهم ده! فيها ايه لما اكل في الأوضة!
صمتت عن حديثها لذاتها حين استمعت طرقات كعب حذائي يقترب من الغرفة, لتظهر بعد لحظات فتاة ترتدي فستان يصل لركبتيها وبدون أكمام ويلتصق بجسدها بشدة حتى سألت "فيروز" نفسها معلقة عليه "كيف استطاعت ارتدائه؟" خطت نحو المائدة وهي تنفض خصلاتها الصفراء الناعمة وجلست بغطرسة فوق الكرسي المقابل ل "فيروز" تنظر لها بتمعن قوي قبل أن يبتسم ثغرها المطلي بالحمرة القانية وتقول:
- عرفت إن في ضيفة في بيتي فقولت لازم ارحب بيها.
قطبت "فيروز" ما بين حاجبيها تسألها مستغربة:
- بيتك؟ هو انتِ مين؟
تحولت ابتسامتها المجاملة لأخرى ساخرة وهي تجيبها:
- المفروض انتِ اللي تجاوبي على السؤال ده, انتِ مين؟ وبتعملي ايه في بيتي؟ وايه علاقتك بشاهين؟
رفعت "فيروز" رأسها لأعلى بإدراك وقد عرفت تقريبًا هويتها:
- ااااه, انتِ مراته؟
- ايوه مراته, وأم ابنه, انتِ بقى مين؟
سألتها الأخيرة بتعالي واضح أغاظها ونظراتها تصعد وتهبط مقيمة "فيروز" باستخفاف واضح, فتناولت الشوكة ورشقتها في قطعة الدجاج الصغيرة لتتناولها باستمتاع ثم قالت لها ببرود تام:
- مش المفروض تكوني عارفة انا مين من غير ما تسأليني؟ يعني ازاي جوزك يستضيف حد في بيتكوا وانتِ متعرفيش! بصراحة حركة مش لطيفة, إلا لو أنتِ مش مسيطرة....!
وغمزت لها في جملتها الأخيرة ليشتعل وجه "شدوى" غضبًا وتبتسم "فيروز" وهي تدرك أنها ردت لها الصاع صاعين ونجحت في استفزازها..!
ولكن "شدوى" ليست بهينة, فقالت لها وهي تكظم غيظها وتسترخي في جلستها, وعيناها بها نظرة فهمتها "فيروز":
- لو مش عاوزه تقولي عادي مش مهتمة اعرف, انا لما نزلت اشوفك فكرتك واحدة أقلق على جوزي منها, لكن الحقيقة شاهين عمره ما هيبصلك, انتِ مش نوعه خالص, ولا فيكِ حاجة ممكن تشد راجل... بالعكس.
وكلمتها الأخيرة كانت إهانة واضحة ل"فيروز"...!
انتهى الفصل...
تعليقات
إرسال تعليق