رواية دمعات قلب الفصل التاسعة والعشرون والثلاثون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)
رواية دمعات قلب الفصل التاسعة والعشرون والثلاثون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)
الدمعة التاسعة والعشرون والثلاثون
29 -
فتح (طارق) باب غرفة مكتبه في عصبية واضحة لم تخف على عيني صديقه، ودلف إليه قبل صديقه قائلاً بضيق ـ"ماذا تريد يا (سامي)؟"
جلس (سامي) أمامه عبر المكتب البسيط قبل أن يسأله بمكر واضح ـ"ماذا بها (سمر)؟"
سأله (طارق) في حيرة ـ"ماذا بها؟ ما الذي يدفعك إلى هذا السؤال؟"
هز (سامي) كتفيه وهو يقول ببساطة متعمدة ـ"أبداً...لقد لمحتها تخرج مسرعة من غرفة ابن أخيك، وأعتقد أنها كانت تكبت دموعها. فقد كانت عيناها حمراوين".
عقد (طارق) حاجبيه للحظات قبل أن يقول بلا مبالاة ـ"ربما ضايقتها العدسات اللاصقة. أحياناً تُلهب عينيها وتدفعها إلى التعامل بعصبية".
رفع (سامي) حاجبيه في دهشة مصطنعة قائلاً ـ"العدسات اللاصقة؟ عجباً. إنها طبيبة عيون".
تأمله (طارق) للحظات وهو يدرك في قرارة نفسه أن صديقه يرمي إلى شيء آخر، لكنه اكتفى بتبادل نظرات صامتة قطعها (سامي) بقوله ـ"لماذا لا يكون سبب عصبيتها مشهد رأته ولم يرقها؟"
حاول (طارق) التزام الهدوء وهو يسأله ببرود ـ"أي مشهد تقصد؟"
باغته صديقه بسؤال سريع ـ"هل تسمح بتفسير علاقتك بأرملة أخيك؟ حينما دخلت الغرفة وجدتك قريب منها بشكل غير لائق، وأسلوبك الهامس معها أيضاً. أتريد من زوجتك أن تراك هكذا مع غيرها وتسكت؟"
عاد (طارق) إلى نظراته الباردة وهو ينتظر من صديقه إنهاء لائحة الاتهامات ضده، و(سامي) يتابع في حنق ـ"ماذا حدث يا (طارق)؟ كيف تتغير أخلاقك هكذا؟ كيف تتحرش بمن حملت يوماً اسم شقيقك وتربي أبنائه الأيتام الآن؟"
لاحت ابتسامة جانبية ساخرة على وجه (طارق) وهو يسال صديقه في تهكم ـ"هل أنهيت قائمة الاتهامات؟"
فتح (سامي) فمه ليرد على صديقه الذي تابع بنفس اللهجة التهكمية ـ"هل تصورت أن صديق عمرك الذي نشأ معك ولم يفترق عنك لأكثر من ثلاثين عاماً قادر على التحرش بأنثى أياً كانت؟"
حاول (سامي) تبرير موقفه لولا أن رفع (طارق) كفه ليشير له بالصمت ليكمل هو قائلاً بهدوء لا يشي بالقنبلة التي سيلقيها في وجه صديقه ـ"السيدة التي تتهمني بالتحرش بها هي زوجتي يا (سامي)".
اتسعت عينا (سامي) وتدلت فكه السفلى بشكل مضحك وهو يحدق بوجه صديقه الذي ألقى قنبلته شديدة الإنفجار ووقف يشاهد رد فعله ببرود.
وبصوت متحشرج من أثر الصدمة قال (سامي) ـ"زوجتك؟ هل تزوجت على (سمر) بهذه السرعة؟"
فرك (طارق) عينيه في إرهاق وهو يجيبه بنفس الهدوء القاتل ـ"(هالة) زوجتي الأولى، و(سمر) كانت تعلم ذلك".
بدا أن الصدمات المتتالية على أسماع (سامي) في هذه الدقائق العشر أكبر من استيعابه، فهز رأسه كمن يتأكد أنه لا يحلم وهو يقول كالتائه ـ"(هالة) زوجتك قبل (سمر) وأنا آخر من يعلم؟ والمفترض أني صديقك الوحيد؟"
ثم تابع في سرعة كمن تذكر شيئاً ـ"ما دامت (سمر) تدرك أن (هالة) زوجتك، فلماذا خرجت من الغرفة بهذا الشكل وكأنها لا تحتمل البقاء أكثر من ذلك؟"
خلل (طارق) شعره الغزير بأصابعه قبل أن يسند جبهته على راحتيه قائلاً ـ"لأنك يا صديقي الوحيد السبب في كل ما أنا فيه من مشاكل الآن".
أشار (سامي) إلى نفسه وهتف مستنكراً ـ"أنا؟ وكيف ذلك؟"
رفع (طارق) وجهه لتلتقي عيناه بعيني صديقه وهو يقول بجدية ـ"ألم تكن أنت وزوجتك سبباً في عودة (سمر) إلى عصمتي؟"
دافع (سامي) عن نفسه بقوله ـ"لقد فعلتها من أجلك...حينما أخبرتني (ضحى) بأن (سمر) كانت حائضاَ وقت الطلاق لم أستطع السكوت عن الحق".
شرد (طارق) بذهنه بعيداً إلى ذلك اليوم قبل نحو أسبوعين حينما دعاه (سامي) إلى المقهى الذي اعتادا الجلوس عليه على ضفاف نهر النيل، وابتدره بسؤال بدا عادياً لا يحمل في طياته أي مضمون خفي ـ"ماذا تنوي بعد انتهاء عدة (سمر)؟ "
ارتشف (طارق) قليلاً من شرابه الساخن وهز كتفيه قائلاً ـ"لا شيء..سأمنحها كل منقولاتها في الشقة وباقي حقوقها لدي..صحيح هي التي طلبت الطلاق ولكنني لن أظلمها".
تظاهر (سامي) باللعب في فنجان الشاي أمامه وهو يسأله بهدوء ـ"هل تعلم ما هو الطلاق البدعي؟"
عقد (طارق) حاجبيه وهو يجيبه ـ"بدعي؟ لأول مرة أسمع بهذا المصطلح".
تنهد (سامي) في عمق وهو يواجهه ويحاول أن يشرح المفهوم ببساطة قائلاً ـ"الأساس في الطلاق هو أن يتم في طهر لم يُجامع فيه الزوج زوجته. أما إذا كانت الزوجة حائضاً أو حدث اتصال بين الزوجين قبل الطلاق مباشرة يصبح الطلاق بدعياً...أي أنه لا يلتزم بالشروط الشرعية، وهناك اختلاف بين الفقهاء حول مدى صحته، فبعضهم يقول إنه يُحسب طلقة بينما يقول الآخرون إنه لا يُعتد به".
حاول (طارق) استيعاب المعلومة قبل أن يهز رأسه متسائلاً ـ"بغض النظر عن هذه المعلومة التي اسمعها للمرة الأولى...ما علاقتها بي؟"
تنحنح (سامي) في حرج وخفض وجهه أرضاً وهو يجيبه "(سمر) كانت حائضاً وقت طلاقكما...هي أخبرت (ضحى) بذلك عرضاً ولم تكن تعلم بموضوع الطلاق البدعي..كانت تتساءل عن كيفية حساب العدة وأخبرت (ضحى) في سياق الحديث أنها كانت حائضاً وهذا سبب عصبيتها معك وقتها".
هب (طارق) واقفاً متناسياً وجوده في مكان عام وهو يهتف بعصبية ـ"ماذا تعني؟ أتعني أنها لا زالت زوجتي؟"
جذبه (سامي) من كم سترته ليجلس وهو يتلفت حوله قائلاً بحرج ـ"اجلس ولا تفضحنا...قلت لك إن هناك خلاف فقهي حوله. اتصل أنت ب (سمر) وخذها إلى دار الإفتاء حتى تتأكد من موقفكما".
وضع (طارق) رأسه بين كفيه وهو يقول بذهول ـ"يا إلهي...كيف يحدث هذا؟ لقد أوشكت العدة على الانتهاء وظننت أنني طويت هذه الصفحة للأبد".
عقد (سامي) حاجبيه وهو يسأله مستنكراً ـ"طويت الصفحة للأبد؟ ألهذا الحد صرت لا تطيقها؟ أين ذهب حبكما يا (طارق)؟"
رفع (طارق) وجهه إلى صديقه واكتسى صوته بنبرة قاسية وهو يجيبه ـ"حبنا؟ لقد باعت (سمر) هذا الحب بكل بساطة وكأنه لم يكن..لم تأبه لي ولا لتمسكي بها وإصراري على استمرار حياتنا دون أطفال...حبيبتي التي تتحدث عنها أهانتني أمام الجميع لتجبرني على طلاقها. أهذه من تريد مني العودة إليها؟"
حاول (سامي) الدفاع عن (سمر) بقوله ـ"أنت تعلم كيف كانت جريحة باكتشاف أمر عقمها وكيف كانت ترفض الحياة معك بدافع من الشفقة عليها. أنت أدرى بكبريائها وأسلوب تفكيرها، أضف إلى ذلك التغيرات الهرمونية التي...."
هتف به (طارق) مقاطعاً ـ"لا يوجد ما يبرر إهانتها لي أمام الجميع...أين احترامها لي؟"
تابع (سامي) وكأنه لم يسمع اعتراض صديقه ـ"وربما كانت هذه إشارة إلهية بأنه لم يحن وقت فراقكما بعد، ولا يعلم الحكمة مما حدث لكما سوى الله سبحانه وتعالى".
رمقه (طارق) بنظرة نارية قبل أن يُخرج جواله في سرعة فيتأكد من الوقت أولاً ثم يطلب رقم (سمر) المسجل عنده، لكنه فوجئ برسالة مسجلة تخبره بأن الرقم لم يعد موجوداً بالخدمة.
زادت هذه الرسالة من غيظه فالتفت إلى صديقه وسأله من بين أسنانه ـ"هل غيرت (سمر) رقم جوالها؟"
قلب (سامي) كفيه قائلاً في حيرة ـ"لا أدري...لحظة سأتأكد من (ضحى)".
وبالفعل اتصل بزوجته وطلب منها الرقم الذي أملاه ل (طارق). وقبل أن يُنهي (سامي) مكالمته مع زوجته كان (طارق) ينهض بعيداً وهو يقول بصوت حاول أن يحافظ على هدوئه ـ"ألو...(سمر)؟ أنا (طارق)".
أتاه صوتها مرتبكاً على الطرف الآخر وهي تسأله بحرج ـ"كيف عرفت رقمي؟"
أجابها بحنق ـ"سؤال لا داعي له..المهم الآن هل ما سمعته من (سامي) صحيح؟ هل كنت حائضاً يوم طلاقنا؟"
شعر بنبرة خجل غير مألوفة تغلف صوتها وهي تجيبه بصوت خفيض ـ"أجل صحيح..أتذكر يوم حصلنا على نتيجة التحاليل والأشعة؟ يومها اعتذرت لك بعد عودتنا من العشاء بسبب عذري الشرعي..هل تذكرت؟"
عقد (طارق) حاجبيه محاولاً التذكر ثم ما لبث أن قال في ضيق ـ"تذكرت..ولكن الطلاق الفعلي حدث بعد ذلك بخمسة أيام".
ازداد الخجل في صوتها وهي تغمغم ـ"ماذا بك يا (طارق)؟ مدة الحيض أسبوع في الغالب".
شعر (طارق) باختناق شديد بعد عبارتها فزفر في قوة واستغفر ربه قبل أن يقول في سرعة ـ"استعدي..سنذهب إلى دار الإفتاء الآن. أين أنت لأمُرك؟"
سألته في دهشة ـ"الآن؟ حسناً أنا مستعدة لأنني عدت لتوي من العمل. أنتظرك في بيت أمي".
وما أن أنهى (طارق) الاتصال معها حتى عاد إلى صديقه الذي كان يراقبه بصمت ويراقب ردود أفعاله العصبية، وابتدره (طارق) بقوله ـ"آسف على انفعالي يا (سامي)..سأمر على منزل أهل (سمر) وأصطحبها إلى دار الإفتاء الآن. لن يهدأ لي بال حتى أنتهي من هذا المأزق، ف...".
خرج من ذكرياته على صوت (سامي) وهو يحرك كفه أمام عينيه قائلاً ـ"أين ذهبت؟"
هز (طارق) رأسه وأشاح بكفه قائلاً ـ"لا عليك...هل قلت شيئاً؟"
مط (سامي) شفتيه للحظات ثم سأله ـ"لماذا لم تخبرني بزواجك من (هالة)؟ بل ولماذا أخفيته عني حينما أخبرتك عن (سمر) وموضوع الطلاق البدعي؟"
تنهد (طارق) وأجابه بضيق ـ"لم أخبرك في البداية بناء على طلب (سمر)..لم يكن زواجي معلناً سوى أمام والدي ووالدة (هالة) وسكان العمارة التي نعيش بها؟ وبالطبع كان زواجنا معروفاً لدى أقاربنا في القرية عملاً بالتقاليد التي تعرفها. وقد سعت (هالة) إلى رد الجميل بمساعدتي في الزواج من (سمر) وإقناع أبي بهذه الزيجة".
ثم تابع وهو يخلل شعره بأصابعه كعادته ـ"ولم تصبح (هالة) زوجتي فعلياً إلا بعد طلاق (سمر) بأكثر من شهر. بالطبع لم اخبر (سمر) بذلك، كما لم أخبر (هالة) بعودة (سمر)".
قالها ورفع عينيه إلى صديقه ثانية وهو يسأله ـ"أعلمت الآن لماذا كانت (سمر) عصبية؟ لأنها علمت مني بأن (هالة) حامل في طفلي، ولا أستبعد أن يكون سبب ضيق (هالة) مني ومعاملتها الجافة معي هو معرفتها بشكل ما أن (سمر) عادت إلى منزلي".
ازداد اتساع عينا (سامي) وهو يهتف بصديقه ـ"حامل؟ تزوجت وزوجتك حامل وكل هذا وصديقك الوحيد لا يعلم شيئاً؟ إنك تربكني بكل هذه المفاجآت".
تابع (طارق) أسئلته وكأنه لم يسمع كلمات (سامي) ـ"أعلمت الآن لماذا أنت سبب المشاكل؟ لأنك السبب في عودة (سمر) وبالتالي غضب (هالة)".
هب (سامي) من مقعده وهتف به مستنكراً ـ"أنا السبب ثانية؟ لماذا لم تصارح أنت (هالة) بما حدث؟ أي زوجة في موقفها ستسيء فهمك وربما اتهمتك بالخيانة وأنك مثلت عليها حتى تحمل طفلك قبل أن تُعيد زوجتك الأولى إلى عصمتك وكأن شيئاً لم يكن".
تراجع (طارق) في مقعده وشبك كفيه خلف رأسه وهو يقول بقلق ـ"هذا ما أخشاه بالفعل...لقد كانت تتحدث بلهجة مختلفة عما اعتادت مخاطبتي به من قبل...بل إنها قالت لي مرتين إن محبتها لطفلنا القادم لن تكون قدر محبتها لابنها البكر. أتدري ما يعنيه هذا؟ إنها تخبرني بطريق غير مباشر أنها لا تريدني ولا تريد طفلنا. طفلنا الذي كانت تتحدث عنه بكل هيام حتى الأمس وكأنه أول طفل لها".
هم (سامي) بالرد عليه حينما سمع كلاهما طرقات سريعة على باب الغرفة أعقبها ظهور ممرضة شابة مرتبكة تحدثت إلى (طارق) في سرعة قائلة ـ"دكتور (طارق)..السيدة التي أجريت لطفلها الجراحة قبل قليل فقدت الوعي".
هب (طارق) من مقعده كالملسوع وهو يهتف بذعر ـ"ماذا؟ كيف ذلك؟"
قالها وهو يهرع إلى خارج الغرفة مع صديقه ويستمع إلى الممرضة التي تجري إلى جواره قائلة بأنفاس متقطعة ـ"ل..لقد ذهبت لأطمئن على الصغير كما طلبت مني ووجدتها ملقاة على أرضية الغرفة فاقدة الوعي، فنقلتها أنا والممرضة (فاتن) إلى الفراش المجاور لطفلها وأتيت لأخبرك".
كان (طارق) قد وصل إلى الغرفة حينها، فعبر بابها المفتوح في سرعة وعيناه معلقتان بوجه (هالة) الشاحب والممرضة تحاول إفاقتها فهتف بها ـ"جهاز الضغط بسرعة".
ناولته الممرضة جهاز الضغط في سرعة وقد أدهشتها لهفته وعصبيته التي لم ترها من قبل.
أما هو فكشف ذراعها وأحكم جهاز الضغط حوله بأصابع مرتجفة ووضع السماعة الطبية في أذنيه وهو يحاول سماع نبضها.
لكن صوت نبضات قلبه المتسارعة كان أعلى من نبضها، فنزع السماعة عن أذنيه في توتر وناولها لصديقه قائلاً ـ"لا أستطيع سماع نبضها...قس أنت الضغط يا (سامي)".
تناول (سامي) السماعة في هدوء وقد هاله مرأى صديقه بهذه الدرجة من التوتر وهو المعروف بهدوئه واتزانه، وحاول تهدئته قائلاً برفق ـ"لا عليك يا دكتور (طارق)...أنت منهك منذ الصباح".
قالها وعيناه تشيران إلى وجود ممرضات بالغرفة وضرورة تمالك أعصابه حتى لا يثير القيل والقال.
أدرك (طارق) مغزى نظرات صديقه فحاول تمالك أعصابه والتظاهر بفحص (هيثم) ريثما أنهى (سامي) قياس الضغط مرة، ثم مرة أخرى، ثم مرة ثالثة، وفي كل مرة يزداد القلق بداخله.
وفي قلق التفت إلى (طارق) قائلاً ـ"(طارق)...ضغط دمها مرتفع بشكل خطر على حياتها...ضغطها 160 على 100..ما الحل؟"
شعر (طارق) لحظتها بتبخر كل المعلومات الطبية التي درسها طيلة السنوات الماضية، فأزاح شعره إلى الخلف قائلاً بتوتر لم يستطع إخفاؤه ـ" لا أدري...لا يمكننا إعطاؤها محلول ملحي، ولا....".
ثم التفت إلى الممرضات وهتف بهما ـ"من طبيبة النساء اليوم؟ أريد طبيبة الآن".
ولم تكد الممرضتان تخرجان حتى رفع وجهه وكفيه إلى السماء قائلاً بتضرع ـ"نجها يا الهي..فلا معنى لحياتي بدونها".
وكان صادقاً في تضرعه.
***************************
الدمعة الثلاثون
30 -
تظاهر (هيثم) بمتابعة قنوات التلفاز في غرفته بالمستشفى، بينما كان في الحقيقة يراقب أمه التي أمسكت بالمصحف الشريف بين كفيها وكأنها تقرأ منه، لكنه كان متأكداً أنها شاردة في وادي ثاني تماماً. فهي لم تغير الصفحة التي تقف عليها منذ أكثر من ربع الساعة، بل ولا يبدو أن عينيها تنظران إلى الصفحة أمامها، وإنما إلى مكان آخر.
وفي رصانة تفوق عمره سألها ـ"أماه..ماذا بك؟"
رفعت (هالة) إليه عينين ساهمتين وهي تسأله في حيرة ـ"هل طلبت شيئاً يا حبيبي؟"
ابتسم في هدوء ذكرها بوالده وهو يقول بذكاء ـ"كنت أسألك عما بك. تبدين شاردة بعيداً عن هنا، رغم أنني بخير".
منحته ابتسامة منهكة وهي تنهض لتحكم الغطاء على جسده الصغير وتداعب شعره الأسود قائلة ـ"لن أشعر بالراحة وأتخلص من قلقي قبل أن أراك تنير غرفتك في منزلنا".
تناول كفها الأيمن يقبله في حنان قائلاً بصدق ـ"أحبك يا أمي".
احتضنت رأسه بحنان وقبلت شعره قائلة بصوت مختنق ـ"أنا الأخرى أحبك..أنت أول فرحة في حياتي. أول من ناداني أمي، وأول مصادر بهجتي وفخري. حفظك الله لي أنت وأخوتك".
لف ذراعيه النحيلين حول وسطها وهو يغوص بأحضانها أكثر ويستشعر دفئها الذي يعشقه حينما قطع عليهم اللحظة صوت طرقات سريعة على باب الغرفة أعقبه دخول (طارق) الغرفة وهو يقول بمرح مفتعل ـ"ما هذا؟ تعانق زوجتي أمامي؟ أنا احتج".
رمقته (هالة) بنظرة عدائية وشددت من احتضان ابنها وهي تقول ببرود ـ"أنا أمه قبل أن أكون زوجتك".
شعر (طارق) بالحرج من كلماتها الباردة، فاقترب من الفراش موجهاً حديثه إلى ابن شقيقه ـ"سامحتك هذه المرة لأنك في فترة النقاهة..عامة ستنتهي نقاهتك قريباً. هيا استعد لأننا سنعود إلى بيتنا الآن".
التفتت إليه بحركة حادة قبل أن تحاول أن تبدو هادئة وهي تقول ـ"الممرضة أخبرتني قبل قليل أننا سنمكث يومين آخرين".
رفع عينيه يواجهها، والتقت أعينهما للحظات قليلة لم يستطع خلالها سبر أغوار زوجته التي تظاهرت باللعب في شعر ابنها، فتنهد في عمق قبل أن يقول ـ"لا داعي للبقاء في المستشفى..لقد قبلوا طلبي للأجازة طيلة الأسبوع القادم وسأتابع علاجه من المنزل طالما ترفضين البقاء مع الصغار هناك. لا يُعقل أن نترك أبنائنا لدى الجيران أكثر من ذلك. ومع رفضك المستمر للراحة أو تناول الغذاء الصحي فالحل الأفضل هو أن نعود جميعاً إلى منزلنا".
لم تجادله لعلمها بأنه على حق.
فقد أجبرها في اليوم السابق على العودة إلى المنزل لرعاية الصغار بعدما أفاقت واطمأنت على حالة (هيثم)..
واليوم تركت الصغيرين لدى جارتها ثانية منذ الصباح حتى الآن
ربما كان الوضع سيختلف في وجود أمها ورعايتها للصغيرين
لكن الآن..
الحل الأفضل للجميع بالفعل هو العودة إلى المنزل
ولكن كيف تعود معه إلى نفس المنزل بعد ما فعل؟
كيف تطيق التواجد معه تحت نفس السقف؟
كيف تستطيع النظر في عينيه؟
كيف تتحمل أن تراه ولا تستطيع أن تدفن نفسها في أحضانه؟
وكيف تتحدث معه دون أن تفلت أعصابها أو يشعر أبنائها بتوترهما؟
كيف تحفظ لسانها وقت الغضب من أن تتهور وتهينه؟
كيف ترعى الله فيه رغم النيران التي تستعر في كيانها كله كلما لمحت طيفه؟
بل كيف تنظر إليه دون أن تبدو في عينيها نظرات الاحتقار؟
احتقار ضعفها واستسلامها لحبه
واحتقار غبائها الذي جعلها تصدقه في سذاجة
تصاعدت دماء الغضب في رأسها، كما يحدث معها كلما تذكرت الخديعة التي تعرضت لها، ودفعت معدتها إلى الانقباض في عنف، فهرعت إلى الحمام الملحق بالغرفة وهي تحاول منع نفسها من القيء الذي ألهب حلقها وبلعومها من مرارة العصارة المعدية
وحينما خرجت كان أمامها (طارق) وعيناه تحملان قلقاً عارماً، لكنها تجاهلته وهي تتجه نحو صوان الملابس لتفتحه وتلتقط منه حقيبة ملابس ابنها هامسة ـ"جهز سيارتك ريثما نستعد".
تأملها للحظات وبداخله حنين بالغ لها ولحركاتها وابتسامتها بعيداً عن برودها وجمودها معه، ثم مالبث أن تنحنح ليمنح صوته بعض القوة وهو يقول ـ"السيارة بالقرب من الباب الرئيسي..هيا سأساعدكما".
تابعته بعينيها في صمت وهو يساعد (هيثم) في ارتداء ملابسه ويحمل الحقيبة عنها، ثم غادروا المستشفى معاً.
لم تحاول أن تتبادل معه الحديث طيلة رحلتهم إلى المنزل، واحترم (طارق) ذلك، ربما تفادياً لتوتيرها أكثر من ذلك أو أن يدرك صغيرها مدى التوتر بينهما.
وما أن أوقف السيارة أمام بوابة المنزل حتى ترجلت (هالة) منها وفتحت لصغيرها الباب الخلفي وساعدته في النزول دون أن تنتظر مساعدة (طارق) الذي تابعها بنظره صامتاً وهو يفتح حقيبة السيارة ويلتقط الحقائب منها ويتبعهما إلى داخل المبنى.
فتح(طارق) باب الشقة وأفسح المجال لـ(هالة) وابنها للدخول,
وفي صمت صحبت(هالة) ابنها إلى غرفته وساعدته في خلع ملابسه والاستلقاء على الفراش, ثم خرجت بعدما أحكمت إغلاق باب الغرفة خلفها.
وفي طريقها للخارج ثانية لتحضر(هاني) و(هند) من شقة الجيران وقف(طارق) أمامها وسألها في حيرة قائلاً ـ"(هالة)! ماذا بك؟! إنك لم تنظري في وجهي منذ يوم جراحة(هيثم)؛ إنك حتى لا تخاطبيني بشكل مباشر. ماذا حدث؟"
رمقته بنظرة حادة وهي تسأله بحنق ـ"أتسأل عما بي؟ وماذا يهمك من أمري؟ آه نسيت.أنت قلق على ابنك وليس على الحاوية التي تحمله."
أمسكها من مرفقها قائلاً في دهشة ـ"ما هذا الذي تقولين؟ وما الداعي لقوله؟"
جذبت ذراعها من قبضته قائلة بخشونة ـ"الداعي هو أن رائحة الكذب والخيانة فاحت وزكمت أنفي ولم أعد أستطع تحملها أكثر من ذلك؛ لذا أطلب منك وبكل هدوء أن تطلقني."
عقد حاجبيه قائلاً ـ"ماذا تقولين؟ وماذا تعنين بالكذب والخيانة؟ لو أنك تقصدين عودة(سمر) إلى عصمتي, فأقسم لك أنني أعدتها قبل مرض(هيثم) بأسبوع واحد فقط بعد وساطة أصدقاء مشتركين. ولكن لماذا تصفين عودتها بالخيانة؟ أنسيت أنك كثيراً ما طلبت مني إعادتها لعصمتي؟"
أشاحت بذراعيها في عصبية هاتفة ـ"أجل طلبته، ولكن هذا في الماضي...حينما كنت (هالة) أختك أو صديقتك. حينما رضيت بك زوجاً على ورق وكان همي إسعادك. وأنت طالما تحججت برفضها العودة وأخبرتني أنك نادم على كل يوم قضيته بعيداً عني, ألم يكن ذلك كذباً؟"
وتابعت بانهيار _"لماذا لم تخبرني بأنك ستعيدها؟ ولا تقل أنك نسيت أو أنك كنت في انتظار الوقت المناسب؛ لقد كذبت علّي وادّعيت سفرك في مؤتمر بالإسكندرية بينما كنت معها؛ وكذبك وحده أكبر خيانة."
أمسكها من كتفيها ونظر في عينيها قائلاً ـ"وأنا بالفعل نادم على كل يوم قضيته بعيداً عنك, وعودة (سمر) إلى عصمتي كان لسبب قهري صدقيني؛ لكنني لم أقصد خيانتك, لقد..."
قاطعته في حدة وهي تتملص من قبضته هاتفة ـ"لست بحاجة لسماع تبريراتك, لقد انتهى كل ما بيننا, هدمته بيديك ولم يعد من الممكن إصلاحه. فأنا لا أقبل أن تكون لي ضرة. لذا سأطلبها منك ثانية...طلقني يا(طارق)".
ثم التقطت نفساً عميقاً لتمنح صوتها بعض الهدوء قبل أن تقول ـ"لو ما زلت تخاف على ابنك وأبناء أخيك طلقني وسيظل في إمكانك رعاية الأولاد وسيظل البيت بيت أخيك وأولاده. لو كنت تحمل بين ضلوعك ذرة حب تجاهي حقق لي أمنيتي وطلقني."
آلمه طلبها ووصفها إياه بالأمنية,
ألهذا الحد أصبح عبئاً عليها تتمني الخلاص منه؟
ألهذا الحد تسبب في جرحها دون أن يدري؟
جرحها بمحاولته حمايتها من معرفة الحقيقة وما دفعه إلى العودة إلى من ظنها طليقته
ومن أعماقه أطلق زفرة حارة وهو يتأمل الدموع التي تترقرق في مقلتيها قبل أن يقول بصوت حاول أن يجعله هادئاً ـ"(هالة)..أدري أنني تسببت بجرحك دون قصد وأنك ترفضين الاستماع إلى مبرراتي. لذا لن أعقب على حديثك إلا بعد أن تهدأ أعصابك وتعيدي التفكير فيما تريدين".
ثم تابع بابتسامة جاهد ليرسمها على شفتيه قائلاً ـ"ولكن حتى حينما تهدئين_ ولأن قلبي لا يوجد به سواك_ فلن أستطع تلبية طلبك, للأسف أنا أناني مثل كل المحبين. يمكنك قول ما تريدين كي تخرجي ما بداخلك لكني لن أطلقك ما دام في صدري نفس يتردد. كل ما سأفعله هو أنني سأترك لك البيت عندما تعود أمي من الحج بسلامة الله. هذا أقصى ما يمكنني عمله في الوقت الحاضر."
رمقته بعينين دامعتين وخُيل إليها أنها ترى(حازم) على قيد الحياة ثانية؛
ففي هذه اللحظة كان(طارق) نسخة من أخيه بنفس التعنت والكبرياء والصرامة,
نفس التحكم والتمسك بالرأي حتى لو كان خطئاً.
وللحظات اعتراها الندم لمجرد أنها ظنته يومأً مختلفاً عن أخيه وأنها أعطته قلبها عن طيب خاطر.
مجرد التفكير فيما فعلت و جعلها في مثل هذا الموقف جعل معدتها تقفز إلى فمها ثانية فهرعت من أمامه إلى الحمام تفرغ معدتها في عصبية علها تخفف من توترها.
وحين عادت إلى الردهة وجدته حيث تركته عاقداً ذراعيه أمام صدره, وما أن رآها حتى اقترب هامساً بتوسل ـ"(هالة)! أرجوك حاولي تهدئة أعصابك وإيقاف هذا القيء المستمر. لقد كان في البداية بسبب الوحام، لكنك الآن تقتلين نفسك بهذا القيء الهستيري. على الأقل تناولي شيئاً و إلا ستموتين...إنك..."
قاطعته بإشارة من يدها وهي تبتعد عنه قائلة في ضيق ـ"لا تأمرني. أنت تعرف جيداً سبب هذا القيء؛ ابتعد عني وسأشفى و..."
وفي الثانية اللاحقة لكلمتها الأخيرة أظلمت الدنيا أمام عينيها للحظات لم تدر مداها,
وعندما أضاءت ثانية وجدت(هالة) نفسها على فراشها وأنبوب الجلوكوز معلق بوريدها ليمدها بقليل مما فقده جسمها في الفترة الماضية.
أول ما لفت انتباهها كانت رائحة عطره المميزة وهو ينحني عليها ويحتضن كفها الخالي من المحلول في حنان ويمسد شعرها بكفه الأخرى والحزن يطل من عينيه وهو يتأملها عن قرب قبل أن يقول بلهجة مؤنبة ـ"إنك تقتلين نفسك ببطء, وتقتليني معك. لو لم أكن أنا بحاجة إليك فهناك ثلاثة أبناء يفتقدونك والرابع لا يريد أن يأتي إلى العالم بعد رحيل أمه. لقد فقدت الكثير من وزنك بسبب القيء الهستيري الذي تعانين منه, والأهم أن ضغط دمك مرتفع وقد يؤذيك هذا؛ ولا أستطيع إعطاءك أية أدوية لخفضه و إلا آذت الجنين, وأنت لا تفعلين سوى ما يضركما."
ورغم حاجتها إلى قربه ذلك واشتياقها له، شعرت بدمائها تفور وهي تتنفس أنفاسه ممزوجة بعطره، فأشاحت بوجهها في الاتجاه الآخر علها تتنفس هواءاً لا يحوي رائحته وجذبت كفها من كفه في ضيق
كانت تشعر وكأنها على حافة الجنون
فكيف تعشقه وتتمنى قربه إلى هذا الحد، بينما لا تطيق لمساته وهمساته؟
كيف تشكوه إلى نفسه، وتلقي همومها منه على عاتقه؟
كيف تشكوه وهو الخصم والحكم؟
لم تجد حلاً سوى أن تشكو بثها وحزنها إلى الله العلي القدير..فهو الحكم العدل
تناجيه بدموعها وقلبها وهي ترفع طرفها نحو السماء وتدعوه سراً أن يفرج كربها ويخرجها مما هي فيه،
وثقتها في عدله واسعة.
أما (طارق) فشعر بخنجر يمزق جنباته وهو يراها تشيح بوجهها عنه، ويشعر بنشيجها الخفيض، لكنه تمالك نفسه وهو يتابع ـ" هذا المحلول سيعيد إليك بعضاً من قواك الخائرة شريطة أن تريحي نفسك. لقد أضفت إليه دواء لمنع القيء حتى تهدأ معدتك قليلاً، وطلبت لنا جميعاً بيتزا احتفالاً بعودة (هيثم)، ستصل ريثما ينتهي محلولك. أرجو أن تحاولي التماسك أمام الأولاد وأن تتناولي العشاء معنا، وسأنام مع(هيثم) والأولاد في الغرفة المجاورة, فلا تقلقي عليهم. مازلت أستطيع العناية بهم وبك أنت أيضاً."
وتركها وخرج في هدوء يخفي الكثير من الآلام والأحزان... والدموع.
************************
تعليقات
إرسال تعليق