رواية دمعات قلب الدمعة الدمعة الخامسة والثلاثون والسادسة والثلاثون الاخيره بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)
رواية دمعات قلب الدمعة الدمعة الخامسة والثلاثون والسادسة والثلاثون الاخيره بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)
35 -
انطلقت(هالة) تهرول في طرقات المستشفى التي يعمل بها(طارق) بحثاً عن حميها والفزع يرتسم على محياها, وحينما وجدت بغيتها أخيراً, وما أن وقع بصرها عليه حتى انخلع قلبها من موضعه في عنف وهبط إلى قدميها...
فحميها ذو البنيان القوي-رغم سني عمره الستون- كان شاحب الوجه حتى الهزال وعيناه منتفختان بشكل عجيب يوحي بكثرة بكائه, وهو الصلب رابط الجأش.
وابتدرته(هالة) بسؤالها المنفعل المذعور قائلة ـ"ماذا بك يا عمي؟ لقد أتيت فور أن هاتفتني. كيف تشعر؟"
استند الرجل إلى ذراعها وقال في ضعف وهي تساعده في الجلوس على أقرب مقعد ـ"أنا على وشك الإصابة بذبحة صدرية ثانية."
شهقت في عنف قائلة ـ"لا تقل هذا يا عمي؛ ستكون بخير إن شاء الله. أين أطباء هذا المستشفى؟ ألا يعلمون من أنت؟"
تشبث حميها بذراعها وهو يقول بصوت مختنق ـ"(طارق)."
عقدت حاجبيها في ضيق حينما سمعت اسمه, ثم ما لبثت أن ازدردت لعابها وقالت في هدوء ـ"سأستدعيه لك حالاً و..."
قاطعتها ضغطة قوية من يد حميها رغم ضعفه الواضح وهو يهتف بها في ألم ـ"(طارق) في خطر؛ إنه يموت, ولا أستطيع تحمل مثل هذه الصدمة."
اتسعت عيناها في هلع رغماً عنها وهي تهتف بدورها ـ"ماذا به؟ ماذا حدث؟"
طفرت عينا العجوز بالدمع وهو يقول بحنان أبوي ـ"لا أدري, إنه ينزف. لقد اتصل بي زميله وأخبرني بما حدث, وهو الآن في غرفة العمليات. أخشى ألا يستطيعوا إسعافه."
وضعت يدها على فمها في ذعر بالغ قبل أن تسأله والدموع تخنق صوتها ـ"هل فقد الكثير من دمائه؟ وما هو سبب النزيف من الأساس؟"
قلب الرجل كفيه في حيرة قائلاً ـ"لا أدري؛ لم أره منذ أسبوع منذ كان لدي في القرية. وصديقه يقول إنه كان جالساً معه وفجأة وجده ينزف من أنفه في غزارة قبل أن يفقد اتزانه ويقع فاقداً الوعي, ولا أعرف أكثر من ذلك."
ارتفعت دقات قلب(هالة) حتى صارت كدقات الطبول في أذنيها وهو تهمس في ضراعة قائلة ـ"يا إلهي...اللهم الطف بنا في قضائك وقدرك."
لم تكد تتم دعائها حتى لمحت أحد زملاء(طارق) قادماً نحوهما فابتدرته في لهفة قائلة ـ"كيف هو الآن؟"
ارتسمت ابتسامة مرهقة على وجه الطبيب وهو يطمئنها قائلاً ـ"الحمد لله, لقد أعطيناه دماً بدلاً عما فقده وقمنا بكي الشعيرات الدموية التي كانت السبب في النزيف. لا داعي للقلق. إنه الآن في غرفته ويمكنكم الاطمئنان عليه بعد حوالي ساعة من الآن."
شكره والد(طارق) بحرارة وهو يدعو له بالنجاح في حين سألته(هالة) بقلق ـ"ماذا حدث بالضبط؟ أنت صديقه الذي أجرى معه جراحة ابني(هيثم). دكتور (سامي) أليس كذلك؟ أصدقني القول... هل هو في خطر؟"
قال (سامي) بهدوء شديد ـ"لا تخافي؛ سيكون بخير إن شاء الله, وإذا لم يكن لديك ما يمنع أريد التحدث معك بعيداً عن والده."
رمقت حميها بنظرة جانبية مترددة وهي تشعر بتسارع دقات قلبها من التوتر، قبل أن تمط شفتيها قائلة ـ"وهو كذلك. أنا بحاجة لمعرفة ما حدث له."
أشار إليها بأن تتبعه إلى مكتبه حيث جلسا وقال بهدوء يميز شخصيته ـ"أنا(سامي طولان) زميل دراسة وعمل لـ(طارق) وتقريباً صديقه الوحيد. صداقتنا تعود إلى الطفولة لأننا كنا جيران أيضاً, على اعتبار أن منازل الأرياف كلها جيرة واحدة. وأنت بالطبع تعلمين أن(طارق) كتوم للغاية فيما يتعلق بحياته الخاصة, لذا لم يخبرني بأمر زواجكما إلا يوم جراحة(هيثم) ابنك. بالطبع كان الخبر مفاجئاً لي خاصة وأنني أنا من شجعه على العودة إلى(سمر) وقربت وجهات النظر بينهما."
عقدت حاجبيها وحاولت ألا تبدو الغيرة في صوتها وهي تسأله ـ"بالمناسبة, أين هي؟ أليس من المفروض أن تكون مع(طارق) الآن؟"
ازدرد(سامي) لعابه قبل أن يقول ـ"لقد انتقلت(سمر) للعمل في مستشفى آخر منذ حوالي أسبوع."
أومأت برأسها متفهمة في صمت لم يعكس علامات الاستفهام الكثيرة بداخلها، ثم ما لبثت أن سألته في اهتمام ـ"ماذا حدث لـ(طارق)؟"
تنهد(سامي) في عمق وهو يقول بحرج ـ"اسمحي لي يا سيدتي أن أتطرق لموضوع شخصي إلى حد ما. لقد كنت آخر من تحدث إلى(طارق), وما رواه لي يعطيني الشجاعة لأن أحدثك بصراحة."
عدلت(هالة) من وضع حجابها حول رأسها بحركة عفوية وهي تسأله ـ"أي موضوع؟"
تنحنح(سامي) في تردد ثم ما لبث أن سألها ـ"في البداية...احم...إنه سؤال خارج الموضوع الأساسي لكن...هل عرفت يوماً أن ضغط دم(طارق) مرتفع؟"
عقدت(هالة) حاجبيها ثانية وهي تسأله في حيرة ـ"ضغطه؟! لقد كان دوماً يقول لي أن ضغط دمه معتدل على عكسي تماماً؛ هذا عندما كان يفحص ضغطي في بدايات الحمل وكان يقول أن عصبيتي هي سبب ارتفاع ضغطي وبالتالي نوبات الصداع التي كانت تداهمني, ولكن ما السر وراء هذا السؤال؟"
أجابها بهدوء قائلاً ـ"كل ما حدث لـ(طارق) اليوم كان سببه ارتفاع ضغط دمه المفاجيء؛ ارتفاع غير عادي كان من الممكن أن يؤدي إلى انفجار في المخ لا قدر الله, لكن نزيف الأنف أنقذه والحمد لله."
سألته وحيرتها تتزايد ـ"وما سبب ارتفاع ضغطه إلى هذا الحد؟"
تنهد في عمق قبل أن يجيبها قائلاً ـ"مدام(هالة), أنت تعرفين جيداً مدى حساسية(طارق)؛ فهو لا يحب أن يجرح أحداً ولا أن يجرحه أحد. وقبل أن ينزف كان يحكي- أو بالأحرى يشكو- من الضغوط النفسية القوية المحيطة به؛ وصدقيني أكثر شيء كان يؤلمه هو ابتعادك عنه".
ثم تابع في سرعة ـ"كما أخبرتك من قبل ف(طارق) كان يخفي عني زواجكما كعادته الكتومة، ولم يكن ليتحدث معي اليوم إلا لأنه لم يعد يحتمل كبت ضيقه ومشاعره أكثر من ذلك، وهذا يعني أن (طارق) بالفعل وصل حداً لا يتحمله بشر. لا تتخيلي مدى حزنه حين كان يروي لي ما حدث في زياراته الأخيرة لمنزلكم. في المرة الأولى حينما فصلت صورته عن صورتكم في الكعكة، والمرة الثانية أمس عندما أتى كما وعد الأطفال ليراجع معهم دروسهم كعادته كل أسبوع وطلب رؤيتك ولكنك رفضت, بل وأدرت وجهك بعيداً عنه حينما دخل حجرتك, ولم تنطقي بحرف واحد رداً على أي مما قاله. موقفك هذا كان يمزقه من الداخل".
لاحظ بعض الضيق على وجه (هالة) الذي تضرج بحمرة حرج خفيفة زاد من وضوحها حجابها الأسود الأنيق الذي عدلته بارتباك حول وجهها الذي خفضته أرضاً، فتنحنح بحرج هو الأخر قائلاً ـ"لا أدري هل من حقي أن أقول هذا أم لا..لكن(طارق) يشعر بالذنب الذي ارتكبه في حقك وضميره يؤرقه في كل وقت؛ لقد كان منهاراً للغاية وهو يحدثني حتى أنني لاحظت شيئاً غريباً أخافني, لقد كانت يداه ترتجفان بشكل...بشكل مرعب. من الممكن أن يفقد مستقبله كجراح لو استمرت هذه الحالة طويلاً معه."
أعادت كلماته إلى ذهنها مشهد(طارق) حينما كان منهاراً بعد طلاقه(سمر), ووجدت نفسها ترفع وجهها لتسأله بغتة ـ"هل عاد للتدخين؟"
اتسعت عيناه في دهشة وهو يسألها ـ"كيف عرفت؟ لقد كان يدخن بشراهة بالفعل قبل أن ينزف."
مطت شفتيها قائلة ـ"إنه يعود دوماً للتدخين كلما واجه موقفاً صعباً."
هز رأسه في أسف قبل أن يقول ـ"أرأيت كم هو بحاجة إليك إلى جواره؟ بل إلى أبنائه أيضاً؟ إنه بحاجة للشعور بأن لديه أسرة خاصة به تحبه كما يحبها."
كاد لسانها يقول في سخرية ’لديه أسرة أخرى بالفعل', وضغطت فكيها كي لا تنطق. لكنها لم تستطع منع نفسها عن الانفجار وهي تقول بتهكم ـ"ألا ينبغي أن تكون زوجته الأخرى إلى جواره الآن؟ فهما على الأقل متحابان".
تنهد (سامي) في ضيق قائلاً ـ"للأسف لست مخولاً بأن أخبرك الأسباب الحقيقية خلف عودتهما، أو بأن أخبرك بوضعهما الآن. فهذه أسرار (طارق) وله وحده حق الإفصاح عنها. كل ما استطيع قوله هو إنني لم أكن اعلم بزواجه منك حينما سعيت وزوجتي لإعادتهما وظننا أننا نسديهما صنيعاً سيدركانه فيما بعد. حتى حينما كنت أرى ضيق (طارق) من العودة إليها لم أتخيل أن هذا بسبب زواجكما. وصدقيني هو لم يعترف لأي شخص بأسباب العودة الحقيقية حتى لا يجرح (سمر)".
رفعت احد حاجبيها قائلة في كبرياء جريح ـ"واضح أنه لم يرد جرح مشاعرها، أما مشاعري أنا فلا بأس أن يجرحها، بل لا داعي للاهتمام بها من الأساس".
تنهد (سامي) في عمق وهو ينظر إلى كفيه للحظات قبل أن يرفع وجهه إليها قائلاً ـ"هذا ما تظنينه. لو أن مشاعرك لا قيمة لها عند (طارق) لما كان بين الحياة والموت اليوم".
ثم عدل من وضع نظارته الطبية على أنفه بارتباك وهو يحاول السيطرة على مشاعر جاش بها صدره ودفعت بالدموع إلى مقلتيه وهو يقول بصوت مهزوز مختنق ـ"لقد كنت على وشك فقدان صديقي الوحيد اليوم وأنا أقف عاجزاً مشلولاً من الصدمة. لم أتصور أن غياب امرأة من حياته قد يدمره هكذا، حتى حينما ترك (سمر) لم يكن بهذا الضعف. ألا يعني هذا لك شيئاً؟ ألا يعكس أهميتك في حياته؟"
شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها وهي ترى الصدق واضحاً في عينيه وصوته فتنحنحت لتجد صوتها وهي تقول بارتباك ـ"أنا لا انتقم منه، ولكن جراح قلبي منه أعمق من أن أتغاضى عما فعل بي".
ثم تابعت وهي تعتصر كفيها في توتر قائلة ـ"لقد اهتزت صورته في عيني وأخشى ألا تعود لسابق عهدها أو أن يلحظ أبنائي ذلك في عيني. لذا أتجنب لقاؤه".
قال بخفوت حزين ـ"ألا تخشين أن تفقديه إلى الأبد؟ وقتها كيف ستواجهين نفسك وأولادك وطفلكما القادم؟ ربما اخطأ (طارق) في حقك، ولكنه نادم. بل إن ندمه يأكله من الداخل ويقضي عليه. ألا يستحق منك أن تمنحيه فرصة ثانية؟ ألا يستحق أطفالك هذه الفرصة في بيت طبيعي بين أب وأم كسائر الأطفال؟ أنا لا أتدخل في حياتكما، لكنني أقول ما يمليه علي ضميري كانسان وكصديق لا يحتمل رؤية صديقه يتعذب".
ثم رفع عينيه وهو يضيف بحزم ـ"ولست في حاجة لأن أنبهك إلى أن(طارق) كان في حالة موت مؤكد اليوم, ومن الممكن أن يتعرض لنفس الحالة مرة أخرى وتكون نهايته, خاصة مع استمرار الضغوط النفسية المحيطة به."
خفق قلبها في قوة وهي تسمعه باهتمام حتى أنها نهضت تهتف في لهفة دون أن تشعر قائلة ـ"أريد أن أراه الآن."
تأملها قليلاً ثم أشار لها بيده قائلاً ـ" وهو كذلك, لكن أرجو ألا تحدثيه في أي من أمور الخلاف بينكما. من المهم أن يبقى في حالة هدوء أعصاب تام كي لا يرتفع ضغط دمه ثانية. أهذا صعب عليك؟"
هزت رأسها نفياً وتبعته إلى غرفة(طارق) ودقات قلبها تتزايد, وفي داخلها تتصارع قوتان؛ بل في داخل قلبها لو أردنا الدقة.
فقد كان أحد شطري قلبها يهتف باسم(طارق) في لوعة, بينما يرفض الشطر الآخر مجرد دخول الغرفة ومبرره في ذلك أنه لا يستطيع أن يسامح من تسبب في جرحه في عمق.
كانت حالة فريدة من نوعها؛ فالمعتاد أن يتصارع العقل والقلب, لا أن يتصارع القلب مع نفسه.
لكن(هالة) اعتادت أن تكون مختلفة فلم تعر بالاً لهذه الحالة النادرة, ربما لأنها لم تعتبرها نادرة كما نراها نحن.
فقلبها هو الذي أحب(طارق) وكان ضحية هذا الحب.
قلبها هو الذي ذرف دمعاته حين كان(طارق) بعيداً عنه وذرفها أكثر حين اقترب.
قلبها هو الذي عشق(طارق) حين لم يكن له ويرفض الآن أن يكون له شريك فيه.
يااه, إنه قلبها ثانية, قلبها ثانية يوقعها في المشاكل, بل هو أصل المشاكل.
هو أصل الخلاف بينها وبين(حازم) رحمه الله,
والآن...هل ستتركه يعمق المشاكل بينها وبين(طارق) حتى يصير هو الأخر في رحمة الله؟
وفي حزم شديد فتحت باب الغرفة لتنهي الصراع, صراع قلبها.
***********************************
الدمعة السادسة والثلاثون (الاخيره)
36 -
رغم برودة مقبض الباب المعدني, لم تشعر بها(هالة),
ربما لأن كفها كان أكثر برودة منه وهي تدلف إلى غرفة(طارق) تقدم خطوة وتؤخر أخرى, ورائحة مطهر قوية تزكم أنفها وتثير أعصابها.
واستغرقتها مشاعرها للحظات جعلتها تجفل حين همس(سامي) قائلاً ـ"كما اتفقنا, حافظي على هدوء أعصابه وسأنتظرك بالخارج."
أومأت برأسها في صمت وبصرها معلق بفراش(طارق), أقصد بوجه(طارق).
فالوجه الذي طالما عشقت عيناه وابتسامته الصافية كان شاحباً مسبل الأجفان.
لم يكن شاحباً فحسب, بل ناحلاً أيضاً.
لم يكن ذات الوجه المضيء,
كان وجهاً آخراً وضعته الهموم والأحزان بدلاً من وجهه المألوف.
واليد التي طالما استعذبت لمستها الحانية كانت راقدة إلى جواره وقد غُرست فيها أنابيب المحلول والدم لتعيد إليه بعضاً مما فقده.
وقفز إلى عينيها مشهده وهو يضع أنبوب المحلول بهدوء ورقة في ذراعها حينما فقدت الوعي آخر مرة أمامه.
لقد حملها بين ذراعيه إلى فراشها وظل إلى جوارها حتى أفاقت.
كان يتعامل معها بكل رقة وحنان رغم عنفها معه.
الحنان....
طالما كان الحنان نقطة ضعفها
كما كان نقطة ضعفها أمامه
طالما افتقدت حنان الأب واعتادت ذلك، وكان أملها في زوج حنون
لكنها لم تجد مبتغاها في (حازم)
وحينما أقنعت نفسها بأن تكون مصدراً للحنان بدلاً من أن تتلقاه،
اقتحمها (طارق) بحنانه الفطري وقلبه الكبير
اقتحم كل حصونها دون أدنى مقاومة منها
ووجدت نفسها فجأة أسيرة حنانه وصوته الدافئ
وجدته نبعاً صافياً تنهل منه دون ارتواء
نبعاً عوضها حنان كل الرجال
حنان الأب والأخ والصديق
وجدت في حنانه عوضاً عن ابتعاده عنها كرجل وارتضت ذلك
وتأقلمت معه
بل وساعدته بطيب خاطر كي يحقق حلمه في زوجة تخصه وحده
وظلت طيلة زواجه المرفأ الذي يلجأ إليه كلما كان ضائق الصدر
لم تحاول اجتذابه إليها والحصول على حقوقها كاملة رغم حاجتها إليه
وارتضت أن تكون أخته وصديقته والكتف الذي يتكئ عليه كما كان هو الكتف الذي تتكئ عليه
وأخيراً أتاها
أتاها معترفاً بحبه وحاجته إليها
ولمحت الصدق في عينيه
وحتى لو لم تلمحه كانت ستستجيب له
كيف لا وحلمها يتحول إلى حقيقة
كيف لا وهو يطلب منها أن يكون زوجاً وحبيباً، وهو في الأساس حبيبها الوحيد
كيف لا وهي تتوق إلى أن يصبح نبع حنانه ومعين قلبه ملكاً لها وحدها
هل كانت أنانية؟
ألا يحق لها أن تستمتع بحبه ودفء قلبه؟
أليس زوجها وأول من أحكم سيطرته على قلبها؟
ليس قلبها فحسب
بل قلب أبنائها أيضاً
قفزت ذاكرتها إلى يوم بعيد...في بداية زواجهما
يومها كان صراخ ابنتها الصغيرة يرج أرجاء المنزل وهي لا تدري ما بها
حاولت هي وأمها إسكات الصغيرة بشتى الطرق دون جدوى
حتى شقيقاها ظلا يتقافزان أمامها لإلهائها عن البكاء دون جدوى
إلى أن وصل (طارق)
حينما لمحت انعقاد حاجبيه بمجرد دخوله المنزل هوى قلبها بين ضلوعها
توقعت أن يهتف بها أن تخرس طفلتها وتتوقف عن إزعاجه
أو أن يتأفف ويلعن حظه السيئ الذي أوقعه في أرملة وثلاثة أطفال
أي أب في موقفه سيفعل ذلك، فما بالك بزوج الأم، حتى وإن كان الزواج صورياً
لكنه لم يفعل ذلك
يومها اكتفى بدخول غرفتهما وتغيير ملابسه في هدوء
ثم عاد إليها ومد كفيه ليلتقط الصغيرة من بين ذراعيها
لا تدري لم انقبض قلبها في هذه اللحظة وهي تحاول مقاومته
لكن نظرة عينيه الباسمة جعلتها ترخي ذراعيها عن الطفلة التي أصبحت فجأة بين ذراعيه وهي لا تزال تصرخ
وابتعد عن ناظريها
للحظات ظلت مشدوهة في مكانها وهي ساهمة في نظراته
لكن شيطانها دفعها إلى الإسراع إلى غرفتهما خلفه، لاسيما بعدما اختفى صوت الصغيرة
لا تدري لماذا تخيلته ألقى بالصغيرة من الشرفة
وزادت هواجسها قبل أن تصل إلى الغرفة حينما شعرت بلفحة هواء بارد تستقبلها
حينها أسرعت بدخول الغرفة ثم الشرفة ذات الباب المفتوح لتجد (طارق) يعطيها ظهره ويقف في هدوء
لم تستطع التماسك وهي تهتف به في انهيار ـ"أين ابنتي؟"
قفزت ذاكرتها إلى يوم بعيد...في بداية زواجهما
يومها كان صراخ ابنتها الصغيرة يرج أرجاء المنزل وهي لا تدري ما بها
حاولت هي وأمها إسكات الصغيرة بشتى الطرق دون جدوى
حتى شقيقاها ظلا يتقافزان أمامها لإلهائها عن البكاء دون جدوى
إلى أن وصل (طارق)
حينما لمحت انعقاد حاجبيه بمجرد دخوله المنزل هوى قلبها بين ضلوعها
توقعت أن يهتف بها أن تخرس طفلتها وتتوقف عن إزعاجه
أو أن يتأفف ويلعن حظه السيئ الذي أوقعه في أرملة وثلاثة أطفال
أي أب في موقفه سيفعل ذلك، فما بالك بزوج الأم، حتى وإن كان الزواج صورياً
لكنه لم يفعل ذلك
يومها اكتفى بدخول غرفتهما وتغيير ملابسه في هدوء
ثم عاد إليها ومد كفيه ليلتقط الصغيرة من بين ذراعيها
لا تدري لم انقبض قلبها في هذه اللحظة وهي تحاول مقاومته
لكن نظرة عينيه الباسمة جعلتها ترخي ذراعيها عن الطفلة التي أصبحت فجأة بين ذراعيه وهي لا تزال تصرخ
وابتعد عن ناظريها
للحظات ظلت مشدوهة في مكانها وهي ساهمة في نظراته
لكن شيطانها دفعها إلى الإسراع إلى غرفتهما خلفه، لاسيما بعدما اختفى صوت الصغيرة
لا تدري لماذا تخيلته ألقى بالصغيرة من الشرفة
وزادت هواجسها قبل أن تصل إلى الغرفة حينما شعرت بلفحة هواء بارد تستقبلها
حينها أسرعت بدخول الغرفة ثم الشرفة ذات الباب المفتوح لتجد (طارق) يعطيها ظهره ويقف في هدوء
لم تستطع التماسك وهي تهتف به في انهيار ـ"أين ابنتي؟"
وكم كانت دهشتها في اللحظات التالية
فقد استدار إليها بهدوء ونفس النظرة الباسمة لتجد صغيرتها مختبئة بين ذراعيه وقد أسندت رأسها الصغير على صدره واستكانت كأنها تستمع إلى دقات قلبه
وخرجت من دهشتها على صوته الهامس ـ"ششش...لقد نامت".
سألته والدهشة تملأ خلجاتها ـ"كيف نامت بهذه السرعة"؟
أجابها بهمس كمن ينقل سراً ـ"سأخبرك ولكن لا تضحكي".
بدا الاهتمام على ملامحها وهي تقترب لتسمعه يهمس بجذل ـ"لقد غنيت لها".
تراجعت بحدة وكادت تهتف بشيء ما لولا أن تابع بابتسامة ساخرة ـ"وبالطبع اضطرت المسكينة إلى النوم هرباً من صوتي النشاز".
يومها ظلت تحدق فيه وقد عقدت الدهشة لسانها وعقلها يهتف بها معنفاً ‘أين غابت عنك هذه الفكرة’؟
وعادت تتأمله وهو يحيط الصغيرة بذراعيه بحنان دافق وقد أخبأ قدميها الصغيرتين في جيبي معطفه الصوفي ليقيها البرد
هكذا وبكل سهولة توصل إلى ما لم يخطر ببالها وهي أم لثلاثة أطفال وهو لم يجرب الأبوة بعد
هكذا هداه تفكيره إلى ما كان والد (هالة) يفعله معها في صغرها، رغم أنها لم تخبره بذلك
غريزة الأبوة فيه كانت أقوى مما تخيلت
إذا كان هذا هو المسمى الصحيح
دائماً كان يتعامل مع أبنائها بأسلوب عفوي يجعلهم يتعلقون به في كل دقيقة أكثر من سابقتها
دائماً كان حنانه الغريزي يحركه معهم
يومها تنازعتها مشاعر متضاربة تجاهه
لكن هذا الموقف رفع رصيده في قلبها
وتوالت المواقف
وتزايد الرصيد
تزايد حتى أصبحت لا تطيق تنفس هواء لم يمر على رئتيه أولا
تزايد حبه في قلبها حتى أعمتها الغيرة وتناست أنه كان لغيرها قبل أن يكون لها
وأن هذه الأخرى لها في قلبه مكانة خاصة شاءت أم أبت
وبسبب هذه الغيرة ابتعدت عن قلبه الحنون وتفننت في عقابه انتقاماً لكرامتها الجريحة
ولكن هل انتقمت؟
هل انتقمت منه أم من نفسها؟
فإذا كان هو يتألم في غيابها درجة...فكيف بها وهي التي اعتادت على وجوده كطفل لا يفارق أباه
كيف بها وهي التي أصبحت تتلمس رائحته في صوان ملابسه وزجاجة عطره ووسادته المجاورة لها
عادت إلى الحاضر وهي تتأمل حبيبها
ودون أن تدري انسابت الدموع من عينيها وهي تراه عاجزاً هكذا أمامها؛
يا الله... من أين أتتها هذه القسوة؟
كيف تحملت غيابه عنها كل هذه الفترة؟
وكيف وصل به الحال إلى ذلك؟
ألهذا الحد فقد رغبته في الحياة حتى نحل جسده وذبلت نضارته؟
ألهذا الحد يحبها؟
‘كلا, إنه يحب طفله القادم ويخاف عليه حتى الموت وليس عليك. أنت بالنسبة إليه حاوية فقط’
هتف شطر قلبها المعارض بهذه العبارة لها وكاد ينجح في تحويل موقفها, لولا أن هتف شطر قلبها الثاني قائلاً ـ"المهم أنني أنا أحبه, ولا يهمني سوى سلامته. إنني لن أتبعك ثانية حتى أفقد زوجاً آخر."
وفي رد فعل سريع اتجهت إلى(طارق) تتأمله في صمت ومدت يدها تتناول كفه اليسرى لتضغطها في رفق وهمست قائلة ـ"(طارق) هل تسمعني؟"
لم يصلها رد يوحي بأنه في وعيه بأي حال فالتقطت نفساً عميقاً قبل أن تقول بصوت مختنق وعيناها لا تفارقان وجهه ـ"هل من عادتكم أن ترحلوا دون وداع؟ لقد تركني(حازم) فجأة وظللت لفترة لا أصدق أنني لن أراه ثانية أمامي, وها أنت ذا تكرر فعلته؟! تتركني فجأة؟ حتى لو فعلتها فلن أصدق أبداً. ستظل أمامي وفي قلبي. ستظل لأنني أحبك. قد لا أسامحك لكنني سأظل أحبك. لن أسامحك لأنك تركتني, ولن أسامحك لأنك أهملت في صحتك حتى أصبحت هكذا. لو كان أبنائي بحاجة إليّ قيراطاً, فهم بحاجة إليك أربعة وعشرون قيراطاً. ماذا أقول للقادم؟ (حازم) ترك أولاده رغماً عنه, لكنك أنت تفعل هذا بنفسك, أنت لا تريد أن ترى ابنك الذي انتظرته طويلاً, أنت تريد أن تهزمك السجائر والضغوط رغم انك أقوى منها. نعم أقوى منها وستنتصر عليها, من أجلي وأجل أطفالنا, من أجل ابنك القادم."
وهنا غلبتها دموعها واندفعت تسيل على وجهها في غزارة وشعرت بالأرض تميد تحت قدميها فاستندت بحركة عفوية إلى منضدة مجاورة للفراش. ويبدو أن حركتها كانت عنيفة حتى أنها صدمت المنضدة بالحائط وسقط من فوقها شيء معدني تدحرج حتى توقف أمام قدم(هالة).
وفي سرعة مسحت(هالة) وجهها وعينيها كي ترى جيداً ما هو موضوع على المنضدة, فقد كانت ساعة يد(طارق) وهاتفه الخلوي؛ وحينها خفضت عيناها أرضاً لترى ما وقع, كانت دبلته الفضية. لا بد وأن الممرضة خلعتها من يده مع الساعة حينما كان في غرفة العمليات.
وانحنت لتحضر الدبلة وتعيدها إلى المنضدة ثانية.
شيء ما جعلها تنظر في داخل الدبلة قبل أن تضعها في مكانها القديم,
ربما الفضول, وربما غيرتها الأنثوية.
المهم أنها نظرت, ثم أعادت النظر, ثم دققت النظر جيداً, وفي كل مرة كانت ترى ما يزيد دهشتها.
فحصت الدبلة من الخارج وأعادت الفحص,
إنها هي نفس الدبلة التي يرتديها(طارق) حول إصبعه منذ زواجه من(سمر), لا يمكن أن تخطئها عيناها لأن شكلها غير تقليدي ولا يوجد الكثير منها.
أما مصدر دهشتها فقد كان الاسم المحفور بداخلها,
فعلى عكس توقعها لم يكن اسم(سمر),
بل اسم(هالة).
تأملت الدبلة ثانية في ذهول وهي تنقل بصرها بين وجه(طارق) الهاديء ودبلته وعقلها يعمل بسرعة الصاروخ في جميع الاتجاهات.
ما معنى هذا؟!
أكان يحبها منذ البداية؟
وماذا عن(سمر)؟
لقد صارحها بأنه يحب(سمر) ولا يرى غيرها زوجة له, فلماذا كتب اسمها هي على دبلته إذاً؟
أيكون كتبها بعد انفصاله عن(سمر)؟
لكن الدبلة لا تحمل أثراً لاسمها في أي اتجاه؛
وازدادت حيرتها والأسئلة تتصارع بداخلها, وكل سؤال يناقض ما قبله.
وفي يأس وضعت الدبلة على المنضدة وهمست لنفسها قائلة ـ"أياً كان ما تعنيه الدبلة, فأنا أحبه ولن أخسره هو الآخر. لقد احتملت موت(حازم) لأنني كنت أظن نفسي قوية, أما الآن فلا أظنني قادرة على تحمل فقد(طارق), ليس بعد أن أشعرني بحاجتي إليه بجواري, ليس بعد أن أعاد لي ثقتي في أن الدنيا أجمل من أن نراها بمرآة داكنة."
قالتها وعادت ببصرها إلى وجه(طارق) المستكين, وعادت تحتضن كفه اليسرى بين كفيها قبل أن ترفعها إلى شفتيها وتلثمها في حنان وعيناها لا تفارقان وجهه.
وبعد برهة من الصمت همست ثانية لزوجها ـ"(طارق), أما زلت لا تسمعني؟على أية حال يمكنك اعتبار ما قلته بعد جراحة(هيثم) لاغياً. لقد عفوت عنك ولن أطلب الطلاق. لا تتخيل مدى حزن الأولاد لأنك لا تقيم معهم كما اعتادوا. (هند) تسأل عنك طوال الوقت, و(هاني) واثق من عودتك حسب ما وعدته.(هيثم) هو الوحيد الذي يخشى أن تفعل مثل أبيه, أن تتركه دون وداع."
ورغماً عنها انسابت دموعها ثانية وهي تقول بصوت مختنق ـ"لقد صُدمنا جميعاً بوفاة(حازم) وكانت الصدمة قوية على(هيثم) لتعلقه الشديد بوالده, وهذا ما جعله ينضج قبل الأوان. كان من الممكن أن تظل عمهم فقط وألا تتطور علاقتكم هكذا, لكن بعد ما حدث وتعلق الأولاد بك, لو تركتهم أنت الآخر ستهتز صورة العالم أمامهم, لن يحتملوا فقدانك, لن يحتملوا فقدان الأب مرتين. والدك هو الآخر لن يحتمل فقدان ابنه الثاني, ولا تتخيل حالته الآن من قلقه عليك. وأنا, أنا دفنت زوجاً ودعوت الله ألا أدفن حبيباً آخر, وما زلت أدعو الله أن أموت قبل أن أفقد أحداً من أحبائي, وأنت أولهم. لو كنت تسمعني ستتعجب مما أقول, لكن الحقيقة هي أنك ذكرتني كم هي قصيرة حياتنا لنضيعها في خلاف لا طائل وراءه. ولهذا أريد أن نعيش جميعاً كأسرة واحدة كبيرة, أنا وأنت وأولادنا و أهلنا و(سمر). لا بد وأن..."
قاطعتها ضغطة من أصابع(طارق) لكفها فمسحت دموعها في سرعة وهي تهتف في سعادة ـ"(طارق)!! كيف حالك الآن يا حبيبي؟"
فتح(طارق) عينيه في تهالك وهو يقول بصوت متحشرج ـ"ماذا حدث؟ هل كنت أحلم؟"
داعبت وجنته بأناملها قائلة بابتسامة عذبة ـ"ما حدث ليس مهماً, المهم أنك بخير. حمداً لله على سلامتك."
فتح عينيه عن آخرهما في ذهول وحاول النهوض وهو يهتف بانفعال ـ"أهذا حقيقي؟ أنت معي يا(هالة)؟"
دفعت كتفيه برفق ليعود ثانية إلى وضعه الأول قائلة ـ"نعم أنا وأنت لا تحلم, وأرجوك لا داعي للانفعال."
حدق في وجهها بعينين ذاهلتين وهو يقول مشدوهاً ـ"لقد كنت معي في الحلم, كنت تبكين وأنت تحتضنين كفي بين راحتيك وقلت كلاماً كثيراً, كلاماً لم أتوقع أن أسمعه منك. والأهم أنك قلت لي حينها إنك تحبينني وإنك..."
وضعت أناملها على شفتيه لتمنعه من الكلام وهمست هي قائلة ـ"لم يكن حلماً يا(طارق), كان حقيقة. كل ما سمعته كان حقيقياً. لقد قلت إنني أحبك بالفعل."
لثم أطراف أناملها قبل أن يزيحها عن فمه قائلاً ـ"أيعني هذا أنك سامحتني؟"
جلست على طرف الفراش قائلة بدلال ـ"لقد تنازلت عن حقي في مقابل أن تغادر هذا الفراش."
ثم تابعت بابتسامة خاصة ـ"ولا تظن أنك من الممكن أن تتركنا هكذا بسهولة, لن أسمح لك."
تأمل ملامحها بتمعن وكأنه يراها لأول مرة ثم قال بثقة ـ"لن يبعدني عنكم سوى الموت."
وضعت أناملها على فمه ثانية وهي تشهق في عنف قائلة ـ"لا تقل هذا, لا أريد أن أسمع هذه الكلمة ثانية. مازال أمامنا مشوار طويل لنقطعه سوياً, وليس كل منا على حدة؛ ونحن مازلنا في البداية."
عاد يتأملها بوله ويتناول كفيها بين يديه وهو يسألها باشتياق ـ"كيف حالك؟ وكيف حال الأولاد وأمي؟ لقد افتقدتكم جميعاً في الفترة الماضية, فالبعد عنكم أقوى من احتمالي."
منحته ابتسامة عذبة وهي تقول ـ"من اليوم لن نبتعد عنك ولن تفتقدنا ثانية. سنعود إلى نظامنا القديم, ثلاثة أيام عندي وثلاثة عند(سمر), والغذاء عندي في أيامها وعندها في أيامي و..."
قاطعها هو هذه المرة وهو يضع أصابعه على شفتيها قائلاً بهدوء ـ"لا عودة لهذا النظام ثانية, لقد ألغيته."
رفعت حاجبيها في دهشة فتابع هامساً بصدق ـ"لم يعد هناك سواك, بل لم يكن هناك سواك من الأساس. لقد كنت أنت من خفق قلبي باسمها حين عرف معنى الحب الحقيقي. لقد كانت(سمر) على حق, لقد حاولت أن أجعلها نسخة منك حين ظننتك لا تحبيني. كذلك إحساسي أنك كنت لأخي من قبل جعلني أحاذر في الاقتراب منك. كان بداخلي هاجس أنك ستسيئين فهمي إذا صارحتك بميلي لك بعد سنة واحدة من وفاة أخي, أحسست بأني سأبدو كمن كان بانتظار وفاة شقيقه ليخلو له الجو مع أرملته. كل هذه المشاعر جعلتني أرى(سمر) كمحاولة للتمرد على أبي, محاولة ساعدتني أنت فيها حينما ظننت أن سعادتي بها, وجعلتني أراك في صورة مختلفة. لقد أحببتك ولكني كنت أنكر هذا الحب؛ والآن لم يعد هناك فائدة من الإنكار, فانا متلبس بحبك ومستعد لتلقي أقصى عقوبة تحددينها, حتى لو كانت الموت تقبيلاً."
ازدردت(هالة) لعابها في صعوبة وهي تسأله ـ"وماذا عن(سمر)؟هل...؟"
قاطعها قائلاً بثقة ـ"(سمر) صفحة طويتها قبل أربعة أشهر حينما طلقتها لأول مرة، وحان الوقت لتعرفي سبب عودتها إلى بيتي".
حاولت جذب كفيها من راحتيه وهي تقول بصوت مختنق ـ"لا أريد أن أعرف".
شدد قبضته على كفيها واعتدل جالساً بمساعدتها وهو يقول بحنانه الذي يسري في عروقه مسرى الدم ـ"بل لابد أن تسمعيني. لقد حاولت مراراً وكنت ترفضين الإنصات، لكنك ستنصتين الآن. لقد أعدت (سمر) إلى بيتي كي يكون الطلاق نهائياً ولا رجعة فيه".
عقدت حاجبيها في دهشة فتابع في سرعة ـ"كان طلاقاً بدعياً لأنها كانت حائضاً، وزوجة (سامي) هي من اكتشفت الأمر وطلبت منا مراجعة دار الإفتاء. كان هناك خلاف فقهي حول وضعنا وكان الأسلم أن تعود إلى بيتها معي إلى أن تتوافر شروط الطلاق الصحيح، وهذا ما كان".
ثم ركز بصره في عينيها قائلاً بصدق ـ"لكن أقسم بأنني لم ألمسها طيلة وجودي معها بمنزلنا. صحيح هي زوجتي، لكنني شعرت بأنني أخونك إذا جلست معها في نفس الغرفة. لذا كنت أنام في غرفة الضيوف بعيداً عنها حتى طلبت الطلاق ثانية ومنحتها إياه في هدوء، وللمرة الأخيرة منذ أسبوع".
حدقت في ملامحه لثوان وهي تجاهد لتجد صوتها، ثم ما لبثت أن قالت بحرج ـ"وماذا عن حبكما"؟
دفن وجهه في كفيها وهو يتنسم رائحتها ليملأ رئتيه بعبيرها الذي اشتاق إليه، ثم رفع وجهه إليها هامساً ـ"لقد ظلمنا أنفسنا-أنا وهي- بالجري وراء أكذوبة حبنا. أنا لم أحب سواك, وهي لم تحب بعد. لابد وأنها ستقابل الرجل المناسب يوماً ما, الرجل الذي يستطيع إسعادها ويكون لها وحدها؛ مثلي الآن, أنا لك وحدك."
اغرورقت عيناها ثانية بالدموع وهي تحتضن وجهه بين كفيها قائلة بصوت مختنق ـ"سامحني حبيبي...لقد ظلمتك كثيراً".
احتواها بكل جوارحه وهو يدفن وجهه في كتفها ويهمس في أذنها بعمق ـ"بل سامحيني أنت لأنني أذيتك دون قصد. كنت أحاول أن أرضي الجميع لكنني فشلت. أدري أنني كنت فظاً في بعض الأحيان، وربما عنيداً، ولكن الحمد لله أنني لم أستجب لمحاولاتك المستميتة الانفصال عني".
غاصت في أحضانه وتجاهلت رائحة المطهر التي زكمت نفسها وهي تهمس بدورها ـ"غيرتي كانت أقوى مني. كلما تخيلت أنك أوهمتني بالحب كنت أتمزق من داخلي. غيرتي كانت تقتلني وأنا أتخيلك مع غيري".
ابتسم بخفة وهو يشدد ذراعيه حولها بكل ما تبقى لديه من قوة قائلاً ـ"لقد قلتها لك من قبل وسأقولها إلى الأبد...أنا لك وحدك".
أبعدت رأسها عن صدره قليلاً لتغوص بعينيها في عينيه قائلة بشقاوة يعشقها ـ"ليس تماماً, هناك أربعة شركاء لي فيك, (هيثم)و(هاني)و(هند) والأستاذ القادم بعد ستة أشهر."
سألها وهو يتحسس ملامحها بأنامله ـ"وماذا لو كانت أستاذة؟"
هزت كتفيها قائلة ـ"لا يهم. المهم أن يشبهك."
سند جبهته إلى جبهتها وسألها مشاكساً ـ"أمازلت مصرة على أن تبلي البشرية بطفل يشبهني؟"
أجابته بدلال ـ"ليس طفلاً واحداً فحسب."
ضحك قائلاً ـ"وماذا عن تنظيم الأسرة؟"
ضحكت هي الأخرى وأجابته وهي تهز كتفيها ثانية ـ"سيشكرونني لأنني أُحَسن السلالات."
تأمل وجهها الباسم ثانية ثم همس بصدق ـ"أحبك."
ابتسمت في خجل وخفضت عينيها وهي تهمس بدورها ـ"أنا أيضاً أحبك."
سألها باهتمام ـ"إذاً نبدأ حياة جديدة؟"
أومأت برأسها إيجاباً في حماس وهي تجيبه ـ"نعم, حياة جديدة بدون دموع وبدون ألم. حياة بالحب وللحب فقط. اتفقنا؟"
صافحها في قوة لا تناسب ضعفه قائلاً بحزم ـ"اتفقنا."
وحينما أراحت رأسها على كتفه كان قلبها ينبض بحبه وبالتفاؤل بحياة جديدة مع من منحته قلبها عن طيب خاطر ومسح بحبه دمعات قلبها.
تمت بحمد الله
تعليقات
إرسال تعليق