القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية سجينة جبل العامرى الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين بقلم ندا حسن (جميع الفصول كامله)

 



رواية سجينة جبل العامرى الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين  بقلم ندا حسن (جميع الفصول كامله)




رواية سجينة جبل العامرى الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين  بقلم ندا حسن (جميع الفصول كامله)


الفصل السادس عشر

"لم يكن شيء يحميني سوى صداقتنا، كنت أطلق النيران دون النظر خلفي لأني على دراية تامة أنك تُساندني، لم يُخيل لي يومًا أن تأتي الطلقة في منتصف قلبي منك"


لم يدرك ما قالته، يقف بجسد مُتصلب وعيون مشتعلة انطفأ بريق الغضب داخلها وحل محله الذهول التام والصدمة الخالصة يحاول فهم ما قالته واستيعاب ما يُشير إلى ذلك.. "عاصم"! كيف؟


تتحرك عينيه عليها بشك وحيرة في نفس الوقت، "عاصم"! إنه صديقه ومن يأمن له من بين الجميع ويعلم كل أسراره وخباياه حتى الذي لا تعرفهم عائلته..


"عاصم"! إنه دومًا عندما يدلف القصر تكن رأسه منخفضة عيناه تنظر إلى الأرضية محترمًا المكان الذي دلف إليه، محترمًا لصديقه وما بينهم..


كيف له أن يفعل شيء مشين كهذا مع شقيقته؟ هل خُدع به؟ هل فعل كل هذا أو غوته نفسه للإقتراب منها ونسيان أنها شقيقة "جبل العامري" وابنة جزيرة العامري..


تقدم منها بغضب وقسوة جاذبًا إياها من خصلات شعرها يرفعها للأمام لتقف أمامه مرتجفة البدن خائفة بشدة من القادم عليها مع شقيقها بعدما اعترفت بالكذب..


رفع وجهها له يرى عبراتها المنسابة من عينيها بغزارة ولكنه صرخ بها قائلًا وقبضة يده تشتد عليها:


-أنتي كدابة يا بت 


ارتعشت أسفل يده مُتحدثة بصوت متعلثم خائف تناشدة ببكاء حاد:


-والله ده اللي حصل.. أنت بتكدب أختك علشان خاطر عاصم


أكملت موضحة القهرة على ملامحها وهي تنتحب قائلة:


-أنا هعمل كده في نفسي إزاي


صرخ دافعًا إياها للخلف بعدما وصل إلى ذروة غضبه فاقدًا أي ذرة هدوء به يرفع يده عليها صافعًا إياها بقوة شديدة جعلتها ترتد إلى الخلف أكثر ليتقدم هو منها مرة أخرى يجذبها قابضًا على ذراعها بقوة ألمتها:


-اومال ده حصل إزاي انطقي


ارتجف قلبها عندما شاهدته بهذه الحالة فأدركت إن لم تقنعه بما فعله عاصم ستكون هالكة لا محال:


-عاصم والله.. هو اللي عمل كده 


نفض بدنها بقوة وهو يدفعها بكلتا يديه مستمر بالصراخ عليها وعيناه تفقد لونها الأصلي ووجه أحمر للغاية من كثرة الانفعال:


-عمل كده إزاي


رفعت يدها أمام وجهها تتحدث بضعف وتقطع خائفة منه:


-أنا.. أنا هحكيلك الحقيقة.. عاصم كان مفهمني إنه بيحبني ومرة


توقفت عن الحديث فصدح صوته المنفعل:


-مرة ايه انطقي


ابتلعت ريقها ورفرفت بأهدابها والدموع لا تتوقف عن الانهمار من مقلتيها، بللت شفتيها وابتلعت تلك الغصة المريرة التي وقفت بحلقها مرة أخرى خائفة من إخراج الكلمات:


-مرة خرجت معاه روحت بيته كان عايز يوريهولي علشان قالي هيطلبني منك ونتجوز وعمل كده فيا هناك غصب عني وأنا مرديتش أقول ولا أتكلم خوفت منك.. كنت خايفة تقتلني بس لما عرفت إني حامل مقدرتش أسكت 


جلجل صوته في أرجاء الغرفة وحقًا هذه المرة كانت ذروة الغضب والإنفعال دفعها للخلف صارخًا بغلظة وعنف:


-روحتي بيته يا بنت الكلب.. يا و***


انهال عليها بالصفعات من يده الغليظة ذات الضربات الشديدة، يجذب خصلاتها بين يديه بشدة وعنف لتنفصل عن فروة رأسها بيده تحت صرخاتها المميتة الخارجة من صميم قلبها ليست تمثيل ولا خداع بل حقيقة فضرباته على جسدها لم تكن هينة أبدًا، تستمع بين صرخاتها إلى سبابه لها الذي يخرج من فمه بعنف خالص وقسوة لا نهاية لها..


أقتربت منه "زينة" أخيرًا التي كانت تقف مذهولة مما يحدث ومما استمعت إليه تكاد تكون قدميها ثبتت في الأرضية فلم تستطع التحرك ولكن عندما اخترق صوت "فرح" أذنها مطالبة بالنجدة تحركت تجاهه تحاول دفعه عنها صارخة به ولكنه كان جبل حقًا لم يهتز بضرباتها كي يبتعد ولم يعطي لها اهتمام..


تصرخ بشراسة عليه وهي تحاول أن تجذبها منه بعنف:


-حرام عليك قالتلك ملهاش ذنب 


لم يكن يرى أمامه سوى شقيقته التي انتهك شرفها بسببها هي ليس بسبب أحد آخر من قِبل صديق عمره ومن آمن له من بين الجميع، دفع "زينة" بيده بقوة شديدة فابتعدت إلى نهاية الغرفة، حاولت التقدم مرة أخرى مُصرة على تحريرها من بين يده فوقف مستقيمًا حيث أنه كان مائل على الأرضية وهي أسفله ليستطيع أن يجتاح جسدها بالضرب بقوة..


استقام واقفًا ينظر إلى زوجته بغضب جامح وقسوة جمعها من بقية العالم لتبقى بقلبه هو فقط قائلًا بصوت لا يشبه إلا الفحيح لاهثًا:


-لو قربتي هتزعلي


بقيت واقفة مكانها خائفة من تهديده فهو بهذه الحالة يستطيع أن يفعل بها أي شيء دون ذرة شفقة أو رحمة، عاد للخلف ناظرًا إلى شقيقته ثم بصق عليها باحتقار وإهانة وأبتعد متقدمًا من خزانته يخرج منها سلاحه ثم استدار إلى باب الغرفة فخرجت "زينة" خلفه صارخة به:


-جبل.. جبل علشان خاطري متقتلوش


لم يعيرها اهتمام وفعل ذلك عن عمد حتى لا تأخذ نصيب مما أخذته شقيقته ولكنها لم تصمت هنا تهبط الدرج خلفه تناديه مستمرة بالصراخ أمام والدته وابنه عمه التي همت بالصعود إلى الأعلى لترى ما الذي حدث لكل هذا الصراخ 


لم يهتم بأحد ولم يستمع إلى هرائهم بل خرج من القصر وكأن العار يلاحقه والناس أجمع يشاهدون فلا طريق عودة إلى الشرف إلا عندما يأتي بروحه بيده دافعًا بكل ما بينهم من أخوه وأمانه، صداقة وحب إلى عرض الحائط..


صرخ في جميع الحرس بصوت جهوري:


-كله بره القصر.. الحرس كلهم يطلعوا بره القصر 


انصاعوا إلى أوامره يخرجون واحدًا تلو الآخر ليجد "عاصم" يخرج من الغرفة متسائلًا ينظر إليه باستغراب:


-في ايه يا جبل 


قابلة الآخر متقدمًا منه بقوة ينظر إليه بقسوة فلم يدري إلا وهو يرفع سلاحه يضربه به في وجهه ليرتد عاصم إلى الخلف متألمًا وأنفه تنزف الدماء بغزارة، وقف مذهولًا مما فعله ينظر إليه بصدمة تحت أعين والدته وابنة عمه وزوجته..


أقترب منه ليلكمه في وجهه بقوة وكراهية شديدة لم تنشب بقلبه إليه إلا الآن قائلًا بصدمة وصراخ:


-بقى أنت يلا تعمل في أختي كده 


وقف "عاصم" بالمعنى الحرفي مذهول مما يفعله به ومما يقوله فتفوه بضعف قائلًا:


-عملت في أختك ايه 


صرخ به "جبل" رافعًا قدمه يدفعه للخلف تخرج الكلمات منه باحتقار شديد:


-أنت مش عارف يا كلب يا خاين.. فاكرني هسيبك يا عاصم دا أنا هدفنك مكانك 


كان "عاصم" يستطيع الدفاع عن نفسه والسيطرة على الوضع ولكنه لم يستطع أن يرفع يده على صديق عمره يريد أن يفهم ما في الأمر فقال بصدق ناظرًا إليه بتعجب:


-أنا فعلًا مش عارف عملت فيها ايه.. ايه اللي بتقوله ده 


أمسك به من تلابيب قميصه ناظرًا إليه بشر قائلًا:


-أنت مش غوتها وقولتلها إنك هتتجوزها وعملت وساختك معاها


شهقت والدتها بصدمة وهي تقف على درجات بوابة القصر الداخلية وترنحت للخلف فأمسكت بها "زينة" قبل أن تقع لتجلسها على الدرج وهي تحت الصدمة تستمع إلى ما يدور بينهم بقلب مفتور وروح مقتولة على ابنتها ولم تكن تدري ما في الأمر وما الذي فعلته ابنتها سيؤدي بحياتها..


بينما "تمارا" لم تكن تعلم ذلك وضعت يدها على فمها شاقهة بقوة غير مصدقة أنه فعل هذا بها وهي لم تقول لها بل كتمت كل ذلك..


دفعه "عاصم" بعنف وعينيه متسعة عليه للغاية لا يفهم ما الذي قاله مرددًا بصدمة كبيرة:


-أنا!


اغتاظ منه "جبل" ومن كذبه وافتعال الذهول والصدمة فتقدم مرة أخرى بغل وحقد:


-ولاَ الله وكيل هدفنك حي 


اهتاج بعنف وضراوة يُشير بيده بهمجية صارخًا بحديث صادق خارج من قلبه يلقيه عليه لعله يصدق ذلك:


-قسمًا بالله ما حصل يا جبل ولا قربتلها ولا عمري قولتلها كلمة واحدة.. أختك هي اللي قدمتلي نفسها وأنا قسمًا بالله رفضت وقولتلها أنها صغيرة وعيب اللي بتعمله 


لم يصدق "جبل" ما يراه ويستمع إليه منه فهو لم يكذب يومًا وإن فعل شيء يعترف به ولكنه الآن وصل إلى أقذر مرحلة وتخطى الدنائة بكثير:


-أنت مش مكفيك اللي عملته كمان مكمل في كدبك.. بقى هي اللي هتجيلك يلاَ


تشنج جسده أكثر وهو يستمع إلى تهمة تنسب إليه وهو برئ تمامًا منها ولم يقربها ولو بالنظر:


-قسمًا بالله عمري ما بصتلها ولا عيني اترفعت فيها بالطريقة دي أنا طول عمري بحافظ على أهل بيتك كأنهم أهلي أنا


أجابه "جبل" بغيظ قائلًا:


-ما هما أهلك فعلًا.. وابنك اللي في بطنها 


وقعت الكلمات على مسامع الجميع كالصاعقة التي هدمت كل شيء ولم تأتي من بعدها إلا الدمار المميت لجميع البشر، وخاصةً تلك البريئة التي كانت تقف في الشرفة تنظر وتستمع إلى ما يدور في الأسفل بوجه باهت وعينين دامعة بكثرة وغزارة.. 


يرتجف جسدها بعنف تشعر بقلبها يطالبهم بالرحمة والمغفرة يعفو عنه فهو برئ..


تحركت للداخل كي تهبط إليهم بسرعة لتدافع عن ذلك الحب الشريف الذي لم يقربها ولو بنظرة حقًا..


لاحقته الشياطين عندما استمع إلى هذه الجملة الأخيرة، يريدون أن ينسبون إليه طفل ليس طفله!:


-ابني! ابن مين عليا الحرام ما ابني.. قسمًا بالله ما قربتلها أختك بتلبسهالي 


أكمل بغضب مهتاجًا عليهم جميعًا:


-أنا مش عيل ومش هخاف أنا لو عملت كده هقول قدام التخين لكن أنا معملتش كده شوفها عملت كده فين 


لكمة "جبل" بعصبية دافعًا إياه للخلف يصرخ عليه:


-أنت كمان هتتكلم عنها 


دلف "جلال" من بوابة القصر ينظر إليهم مبتسمًا بعدما أخبروه الحرس في الخارج أنه أخرجهم فتوقع ما يحدث.. تقدم يغلق البوابة يقف على بعد قليل فنظر إليه "عاصم" بقوة ليرد النظرة إليه بشماته 


رفع عليه السلاح ليستقيم "عاصم" في وقفته ينظر إليه بخيبة أمل وخذلان كبير، لم يدافع عن نفسه أكثر من ذلك بل بقيٰ واقفًا ناظرًا إلى عيناه شاعرًا بالحزن على ذاته فلم يخيل له عقله يومًا أن تأتي الضربه منه هو.. ولكن يستطيع أن يلتمس له العذر فكيف له أن يصدقه هو ويكذب شقيقته.. لا يجوز 


ضغط جبل على زناد المسدس مقررًا قتله على أي حال ولكن تبادل معه النظرات شاعرًا بما يحدث به نفسه، يلوم ذاته هو الآخر كيف له أن يفعل ذلك؟ ولكن هو من بدأ هو من اجنى على نفسه عندما زاغت عيناه على شقيقته.. مع إطلاق النيران عليه ستقتل صداقتهما التي دامت منذ أن خرج إلى شارع الجزيرة وهو طفل إلى الآن..


خرجت طلقة واحدة مع نظرة حزن من عينياي "جبل" غير مصدقًا ما فعله وصرخة خرجت تزامنًا مع تلك الرصاصة ليستوعب "جبل" ما بدر منه شاعرًا بيده ارتفعت إلى الأعلى لتنطلق في الهواء حرة وعاصم يقف كما هو..


كانت "إسراء" من فعلت ذلك، تبكي بضعف وتنظر إليه بخوف شديد ولكنها تجرأت وفعلت ذلك تعود للخلف لتقف جوار "عاصم" صارخة بـ "جبل":


-عاصم معملش حاجه.. عاصم برئ


صدمت "زينة" مما فعلته! كيف عبرت من جوارها راكضة بهذه السرعة كي تنقذه، تقدمت سريعًا منها تجذبها إليها قائلة بانفعال:


-أنتي إزاي تنزلي من فوق.. بتدخلي ليه أنتي مجنونه 


انهارت في البكاء تنظر إليها وجسدها يرتعش صارخة بقوة عليها توضح لها ما علمتها إياه:


-أنتي اللي علمتيني كده لما يكون حد هيتأذي بسبب حاجه معملهاش وأنا عارفه أنه برئ لازم أنقذه وده مكنش هيتأذي كان هيموت 


أخفض جبل سلاحه وخرج صوته بشك يسألها:


-وأنتي تعرفي منين أنه برئ


استدارت تنظر إليه، ابتلعت ريقها وهي تخاف من نظرة عينيه المخيفة نحوها ولكنها قالت بتوتر:


-عاصم معملش في فرح كده.. فرح كدابة


صرخ بها بعنف وقوة يتقدم منها بهمجية:


-عرفتي منين


ارتعشت تتابعه برهبة قاتلة فاقتربت منها "زينة" تجذبها جوارها تحميها من بطشه ولكن "إسراء" تحدثت قائلة بصدق:


-فرح متجوزة جلال 


صدمة أتت من السماء ووقعت على الجميع وكان أولهم "جلال" المستمع إليها الذي أراد أن تبتلعه الأرض ولا يخرج منها مرة أخرى وقارب على أن يبلل ملابسه من كثرة خوفه من "جبل" والقادم منه، صدم "عاصم" وشعر بالغباء وهو يستمع إلى حديثها ولا يدري أهي لتحميه تلقي بهذه التهمة على "جلال" لما فعله بها سابقًا!؟


اتسعت أعين "جبل" الغير مصدقة لما تقوله يتابعها بشراسة ينبهها أن لا تكذب لأنها إن فعلت ستكون نهايتها الحتمية ولكنها أكملت معترفة:


-فرح متجوزة جلال عرفي وكانت بتقابله ورا القصر وآخر مرة كانت امبارح لما اتفقوا أنه يطلقها ويقطع الورقتين وتتبلى على عاصم علشان يتجوزها 


شعرت "زينة" بالخوف الشديد عليها، لا تطمئن لنظرات "جبل" نحوها وذلك الذي تتهمه "جلال" فصرخت بقوة:


-أنتي جبتي الكلام ده منين 


أبصرت شقيقتها توضح لها ما حدث ثم اتجهت بعينيها إلى "جبل" تكمل بضعف:


-أنا شوفتهم وسمعتهم امبارح بالليل وبعدين خرجت مع عاصم بس خوفت أقوله وكنت هاجي أقولك أنت


بقي صامتًا ينظر إليها بحيرة ولا يستطيع لأول مرة بحياته معرفه وتحديد من الخائن أمام أنظاره فاستردت تبعد حيرته عنه تقترح:


-لو مش مصدقني تقدر تشوف تسجيلات الكاميرات هنا في القصر ما فيه كاميرات هتلاقي فرح وجلال اتقابلوا امبارح مرتين وتقدر كمان تدور قبل كده هتلاقيهم بيتقابلوا 


لتكمل بخفوت وضعف شديد:


-حتى جلال هو اللي عمل فيا كده 


جذبتها شقيقتها من ذراعها تصب تركيزها عليها بذهول تسألها:


-عمل فيكي ايه 


حركت أهدابها توترًا وخوفًا منها، ترددت في الحديث وخرج صوتها ضعيف خافت خجلة مما فعلته وأخفته عنها:


-اخدني ورا القصر وخوفني وحاول يقرب مني ولما حاولت أصوت رفع عليا مطوة 


صرخت زينة بانفعال شديد ولم تستطع السيطرة على نفسها بعد هذه الكلمات تحرك جسدها بقوة بين يديها بعنف:


-إزاي متقوليش ليا الكلام ده.. أنتي اتجننتي بجد 


رفعت بصرها إليها تواجهها قائلة تذكر دور "عاصم" فيما حدث وأنه تصرف بنبل وشجاعة ولم يتركه يقترب منها:


-عاصم هو اللي عرف ولما عرف هو اللي عمل فيه كده وخد حقي منه وضربه بالنار 


ما كادت "زينة" إلا تتحدث ولكن "جلال" سبقها صارخًا بقوة يقترب منهم أكثر ليظهر لـ "جبل" أنه ليس خائف:


-البت دي كدابة.. كدابة محصلش 


أكمل بعنف ينظر إليها بشر:


-كل الكلام ده محصلش


أبعدت عينيها عنه تتخفى في شقيقتها تقترب منها تحتمي بها وبالأعلى كانت تقف "فرح" تستمع إلى آخر ما حدث وبدر من الغبية "إسراء" تنعي حظها خائفة مما سيفعله بها شقيقها عندما يتأكد من حديثها..


لقد تنقلب السحر على الساحر ووقع أسير لخطط ومكائد كان يريد أن يلتف بها غيره ولكنه هو الوحيد الذي ابتلع كل ما فعله وإلى الآن لم ينل جزاءه 


ابتلعت ريقها بصعوبة وارتجاف جسدها لا يساعدها على الوقوف لتتابع ما يحدث في الأسفل بينهم بل أعاقها وشعرت أن قدميها لا تحملها فانهارت جالسة على الأرضية في الشرفة منتظره موتها الحتمي على يد شقيقها..


أبتعد "جبل" يتقدم من البوابة الخارجية يفتحها صارخًا بحراسه ليتقدموا إلى الداخل فامتثلوا لأوامره..


أشار إلى "زينة" تدلف إلى الداخل ومن معها بقسوة:


-ادخلوا جوا 


بينما وهم يهمون بالولوج إلى الداخل استمعوا إلى صوته الحاد يخرج بقسوة وغلظة:


-فتشوا عاصم وجلال.. خدوا منهم أي سلاح واربطوهم وخدوهم على الجبل 


فورا كانوا يتحركون ليفعلون ما أمر به على الرغم من استغرابهم التام مما يحدث ولكن بالفعل حدث في دقائق بسيطة ما طلبه ليتركون ساحة القصر الخارجية ويرحل بحراسه إلى الجبل تاركًا بعضهم القليل هنا ليكونوا في حراسة أهل القصر.. 


أخذت "زينة" شقيقتها لتصعد بها إلى الأعلى خوفًا عليها من أي أحد بالقصر وبالأخص "فرح" تاركه "تمارا" في حالة ذهول بعدما رأت كل ما حدث وعقلها لا يستجيب لأي شيء مما استمعت إليه تصعد هي الآخرى خلف زوجة عمها التي صعدت الدرج ذاهبة إلى ابنتها لتفهم منها ما الذي حدث بالضبط..


فعلت ذلك وبعد الاستماع إلى ما تفوهت به وكان مما ألقته على "جبل" بالضبط انهالت عليها هي الأخرى بالضربات القاتلة تلتحف بخصلات شعرها على يدها تضربها بقدمها بقوة غير عابئة بأي ألم أو صراخ يخرج من جوفها لا ترى إلا وهي تدنس سمعتهم وشرفهم تلك الحقيرة والتي إلى الآن لا يعلمون أهي صادقة أو لا..


حاولت تمارا" كثيرا أن تبعدها لتنجح في النهاية بعدما تعبت "وجيدة" من كثرة ضربها صارخة بها بقوة:


-لو اللي قالته أخت زينة صح وعاصم معملش فيكي حاجه وكله بمزاجك مش هخلي جبل يقتلك.. أنا اللي هقتلك 


ثم تركتها وذهبت من الغرفة لتصرخ الأخرى بفزع وخوف نادمة على ما فعلته سيؤدي بحياتها إلى الجحيم، ليتها ظلت صامتة ولم تفعل هذا الهراء الذي تسرعت بفعله كما جعلت "جلال" يقترب لتلك الفتاة فإن ضغط عليه "جبل" قليلا سيعترف بكل شيء ويتركها تتعذب وحدها وتكن كتبت نهايتها بيدها..


استندت بظهرها إلى الحائط تعود إلى ليلة أمس متذكرة ما فعلته بعدما انتهت من الحديث مع "جلال" وبعدما جلست كثيرًا ناظرة إلى "عاصم" متذكرة ما فعله بها وطرأت على رأسها فكرة شيطانية لو نفذتها إما أن تنتقم منه أشد انتقام أو يكن لها رغمًا عن أنفه وأنف الجميع.. 


"صعدت إلى الأعلى قليلًا ثم هبطت إلى الأسفل مرة أخرى متوجهة إلى خلف القصر ثانيةً بعدما حدثت "جلال" أن يعود لها لتتحدث معه في أمر هام للغاية


أتى لها فجذبته سريعًا متصنعه الخوف متوترة قائلة بارتعاب:


-مصيبة


تلبك من نظراتها مقتربًا هو منها متسائلًا بنفعال:


-مصيبة ايه الله يخربيتك 


بللت شفتيها تتابعه متصنعة التوتر الشديد والخوف منه ومما ستقوله لتنتهي في نهاية الأمر قائلة بتبرم:


-أنا حامل 


اتسعت عيناه عليها ولم يأخذ وقت في التفكير في كلماتها البسيطة بل صاح مستنكرًا بعنف:


-نعم يا روح أمك


أقسمت له تؤكد حديثها ترسم الارتعاب الشديد على ملامحها ثم حولت حديثها إلى نبرة أخرى ذات مغزى:


-والله العظيم.. لسه عارفه دلوقتي حالًا بعد ما طلعت عملت اختبار وطلعت حامل هنعمل ايه في المصيبة دي 


ردد باحتجاج يمسك بذراعها بعنف ضاغطًا عليه بقبضة يده يخرج غضبه وعنفه بها:


-نعمل ايه؟ دا أنتي وقعة أهلك سودا، أنتي مش قولتي واخده بالك يا بت أنتي


بررت وملامح وجهها مجعدة تدل على أثر الصدمة ورفضها:


-أنا هعرف منين ده اللي حصل.. هنتصرف إزاي


دفعها للخلف بقوة قائلًا بضجر بعدما أدرك حجم المصيبة الأخرى التي وقعت على رأسه منها ألا يكفي سابقتها:


-الله يخربيتك على بيت معرفتك السودا 


أردفت بقوة تنظر إليه بحدة ثم اتجهت وحديثها إلى محطة أخرى ترمي بفعلتها عليه لتصل إلى ما تريده منه:


-مش وقته يا جلال لازم نلاقي حل وإلا الموضوع لو أتعرف أنا وأنت هنروح في داهية جبل مش هيسمي علينا 


عاد إلى السور يستند بظهره عليه قائلا بجدية:


-حل ايه يا بت؟ أخوكي مش هيوافق عليا ولو قولتلك تنزليه الموضوع هيتعرف كله دا أنتي أخت جبل العامري


وضع رأسه بين يده الاثنين ينحني بجذعه للأسفل يخرج صوته بخفوت وضعف:


-روحت في شربة مايه يا جلال 


جذبت يده وجعلته يقف مستقيمًا في مواجهتها لتصيح بوجهه بعصبية متخلية عن حزنها الزائف وخوفها الكاذب:


-ركز معايا دلوقتي لو فكرنا هنلاقي حل


أشار لها بيده ساخرًا من حديثها معتقدًا أنها انتهت إلى هنا إلا إذا تخلص من هذا الشيء ومنها هي الأخرى وهذا شبه مستحيل:


-حل ايه يا أم حل أنتي غبية يا بت.. مين هيشيل الليلة السودا دي من على دماغي 


عادت للخلف تنظر إليه بجدية، اعتدلت في وقفتها ثم ألقت عليه كلمات ذات مغزى:


-في حد يشيلها.. ووقتها هو اللي هيموت 


اعتدل هو الآخر وتعمق في النظر إلى وجهها يتبادلون النظرات سويًا ثم هتف فجأة بحماس ولهفة:


-عاصم!.. يا بت الايه


أمسك بيدها ونظر داخل عينيها مباشرة، ذئب شرس أراد الدمار لكل سكان الغابة إلا هو، خطط في لحظات وبلمح البصر كان يتفوه بصرامة وحزم:


-طب اسمعي بقى الكلمتين اللي هتقوليهم.. هتقولي إن عاصم مرة كان معاكي بره أخدك البيت بتاعه وعمل كده غصب عنك وهددك متتكلميش وأنتي كنتي خايفة تتكلمي وتقولي بس لما عرفتي إنك حامل اتكلمتي..


تابع ينظر إليها بجشع وكره شديد يكنه لـ "عاصم" وأتت الفرصة تحت قدمه من قِبلها هي لكي يؤذيه وإن حدث لها هي الأخرى شيء سيكون مبتعدًا عنهم ولن يبقى سواه هنا، مضحيًا بابنه وكل شيء:


-بعدها عاصم هنقرا عليه الفاتحة والطريق يتفتح قدامي لو أنا اتقدمت لجبل ده لو مطلبش مني هو هيوافق أكيد علشان أشيل الليلة دي 


أردفت بتوتر وصوت متعلثم:


-طب لو حصل حاجه تانية ولا غصب عاصم يتجوزني


أشار لها بيده يؤكد بجدية شديدة وثقة مما سيفعله "جبل" به إن علم بهذا الشيء:


-أخوكي مش هيعمل كده هيقتله وقتي


كانت هي تفكر في شيء آخر فلن توافقه قائلة بصوت جاد:


-بس بردو لازم ناخد احتياط


فهم مقصدها وجعلها تنال ما تريد فهو من الأساس كان يريد أن يبتعد عنها بأي طريقة ولكنه كان يعلم أنها مجنونة إن فعل ما لا تريده يمكنها أن تغرق المركب بمن عليها وهي من ضمنهم:


-خلاص أنتي طالق والورقتين اللي معايا هروح أقطعهم وكأن شيئًا لم يكن 


أومأت إليه برأسها قائلة بايجاب:


-ماشي 


ربت على كتفها بيده اليمنى بهدوء وقال بهدوء:


-جمدي قلبك وبكرة بالليل قوليله.. 


أومأت برأسها إليه مرة أخرى فأشار إليها بالرحيل قائلًا ساخرًا بينه وبين نفسه:


-الله معك 


ذهبت وتركته بعدما تالت ما أرادت ولم تكن تدري أنها بهذا تكتب نهايتها أو بداية عذابها.. وبالأحرى ستكون بداية..


ولكنه هو سعد للغاية أنه تخلص منها بهذه الطريقة السريعة وهي من طلبت ذلك وبنفس الوقت ستؤدي بحياة "عاصم" إلى التهلكة.. يستحق ما سيناله.."


❈-❈-❈


وصل إلى الجبل مع حراسه والذي جعلهم يدفعون بـ "جلال" مكبل في غرفة التعـ ـذيب واغلقوا عليه الباب وطلب منهم أن يتركوا "عاصم" في غرفة أخرى بعيدة عنه..


وقف حائرًا لا يدري من حديثه صحيح، هل صديق عمره برئ وشقيقته تلقي عليه بتهمة لم يفعلها! ولكن لما ستفعل ذلك؟ هل "جلال" هو الذي فعل معها هذا وكان بإرادة كاملة منها مثلما قالت شقيقة زوجته.. إن كان هذا سيكون منطقيًا أن تلقي التهمة على "عاصم" وتقول أنه فعل هذا بها كرهًا وقهرًا لتنفد بنفسها هي وذلك الحقير.. 


سيعود إلى القصر ليتابع الكاميرات كما قالت "إسراء" وسيعرف من خلالها هل "عاصم" من فعلها أو "جلال" بموافقتها!..


أخرج هاتفه من جيبه بعدما اهتز به مرات وراء بعضها ليفتحه ينظر إلى الرسائل المبعوثه إليه ليجد فيديو من بينهم كان به الصدمة الأخرى الآتية من "عاصم"..


فيديو عبارة عن لحظات به "عاصم" يقف مع "طاهر" يتسايرون في الحديث!. هل "عاصم" الخائن! هل هو من يسرب معلوماته عنه!..


ضغط على الهاتف بقبضة يده بقوة ودلف إليه بجسد مهتاج متصلب ليقف أمامه بعنف والآخر مكبل ملقى على الأرضية..


قال بقسوة وغلظة:


-بتخوني يا عاصم.. بتخوني أنا وليه وعلشان مين طاهر؟


رفع "عاصم" وجهه إليه مستنكرًا ما قاله مكررًا حديثه باستغراب غير مدرك ما الذي يتحدث عنه ثم صاح به بقوة وعنف:


-أنا.. أنا أخونك، بقولك ايه كفاية بقى أنت عايز ايه من الآخر عايز تخلص مني.. أعملها وخلصنا 


صاح "جبل" بصوت جهوري صارخ ينم عن قهره الشديد مما تعرض إليه على يد صديق عمره ومن وقف في ظهره مساندًا إياه كل تلك السنوات وعندما تأتي الضربة لا تكون إلا منه:


-أنا هندمك يا عاصم قبل ما أعملها.. أنت أكتر واحد عارف مين هو جبل وعارف إن الخاين مالوش ديه عندي بس أنت ليك عارف ليه.. علشان هخليك تتمنى الموت ومش هتطوله 


اغتاظ من حديثه فنفى ما قاله بضيق شديد ولم يكن خائف على نفسه مما سيلاقيه على يده:


-بطل كدب وخداع لنفسك.. مرة اغتصـ ـبت أختك ومرة خونتك مع طاهر، أنت مش لاقي حد يلبسها غيري يا جبل 


أكد أنه لا يخاف مما يريد فعله به مرحبًا بما هو قادم منه ناظرًا إليه بعتاب وخذلان لا نهاية له يكمل حديثه يشعره بالندم:


-بس ماشي أنا موافق ألبس اللي ألبسه منك يا صاحبي.. ولما تعذبني ولا تموتني هتندم لما تعرف إنك ظلمتني 


استرسل في الحديث أكثر ناظرًا إليه بقوة بعدما محى نظرة العتاب والحزم من عيناه يؤكد بثقة إن ثبتت براءته سيذهب من هنا دون رجعة:


-لو عرفت دلوقتي وطلبت مني السماح أنا هسيبلك الجزيرة كلها تشبع بيها وبأختك وأسرارك.. مش أنا اللي أعمل كده وأنت عارف كويس أنا عاصم اللي ياما فديتك بعمري وجسمي يشهد 


رفع "جبل" الهاتف أمام وجهه بعدما فتح الفيديو عليه وهو مع "طاهر" ينظر إليه متهكمًا:


-وده ايه.. كنت بتعمل مع طاهر ايه 


تعمق في النظر إلى الفيديو فتذكر ذلك اليوم عندما خرج من الجزيرة وقابله ثم وقف معه يتحدث في أشياء ليس لها أساس أو معنى ولكن الآن فهم لما فعل ذلك:


-قابلني وأنا بره الجزيرة ياخي ووقف معايا كمان بس كان بيهرتل زي ما بيعمل.. طاهر مبيعرفش يعمل حاجه ولا عنده أحداث يرميها علينا كل اللي بيعمله كلام مابيتبلعش


أكمل متسائلًا بسخرية:


-وادينا لسه مسلمين سلاح ليه مبلغتوش


أشار إليه برأسه بمنتهى الثقة رافعًا رأسه للأعلى بشموخ على الرغم من أنه جالس على الأرضية مكبل:


-روح شوف مين خاين في رجالتك غيري يا جبل عاصم والخيانة ميجوش مع بعض 


وضع "جبل" الهاتف في جيب بنطاله ينظر إليه بهدوء بعدما أخذ نفس عميق للغاية يبتعد ناظرًا في الفراغ يفكر في حديثه، نعم إنه أفداه بعمره أكثر من مرة ووقف أمام المدفع كثيرًا لأجله ووقف في ظهره يسانده لسنوات كثيرة ولم يخون يومًا ولم ينشب بينهم عراك.. هل هناك من يريد أن يخرب علاقتهم! أنه طاهر ولكن هل طاهر سيجعل شقيقته تفعل ذلك بنفس الوقت؟ مؤكد لأ


عاد يبصره من جديد وقال بخشونة تخفي بين طياتها الكثير من القسوة والشراسة التي تنتظره:


-أنا لسه باقي على اللي بينا يا عاصم بس الله وكيل لو كدبت عليا ما هرحمك 


سأله مثبتًا عينيه عليه منتظر منه إجابة أخيرة:


-عملت كده في فرح ولا لأ.. سربت معلومات لطاهر ولا لأ


تخللت نبرته الحزن وهو يجيبه بخفوت ونظرة مقهورة على ما حدث بينهم:


-بعد ما الشك دخل بينا أنا اللي مبقتش باقي على اللي بينا يا جبل.. أختك أنا ملمستش منها شعرة ولا حتى لمستها بنظرة.. وطاهر عمري ما بيعتك ليه ولا خونتك عنده ولا عند غيره 


أكمل بقوة غير خائفًا بل يشجعه على فعل ذلك ليندم الباقي من عمره ثم يكمل بغرور مدركًا قدر نفسه عند جبل:


-ومع ذلك أنا عايزك مترحمنيش علشان تعيش عمرك كله عارف إنك ظلمتني ونشوف أنت هتجيب حد غيري يشيلك منين يا ابن العامري.. 


ليصمت قليلًا ثم يكمل بنبرة حادة ذات مغزى:


-ويحمي أسرارك اللي مافيش مخلوق يعرفها غيري


نظر إليه جبل مطولاً ولم يفهم بعد ما الذي يحدث ثم أبتعد عنه خارجًا يذهب إلى القصر تاركه وحده ليصل إلى أي شيء يبرأه أمامه..


بينما ترك "عاصم" الذي اعتلى صدره الضيق الشديد والحزن الذي أبكاه صمتًا وألمًا وهو يرى صديق عمره وشقيقه الوحيد يكذبه ويعطي فرصة للشك يدلف بينهم أكثر مما هو.. نعم ربما عليه تصديق شقيقته وهو لا ولكن كيف له أن يصدق أن "عاصم" خائن!..


ألم قلبه لا يتوقف وحزن عيناه الدامعة لا تشفق عليه أو ترحمه بل كل شعور سيء يزداد داخله كلما فكر فيما حدث..


هو من كان يجلب البشر إلى هنا لينال كل منهما عقابه، الآن يجلس زليلًا تحت رحمة حراس كان هو كبيرهم، كم من شخص أتى به إلى هنا كان برئ مثله ولم يستمع إليه ونال عقابًا لم يكن يليق به ولم يكن يناسبه!.. الكثير؟


فكر قليلًا، لما لا يكون "جلال" هو الخائن بعد أن أكدت إسراء أنه هو الذي تزوج من "فرح"، وهو الذي ارهبها خلف القصر في محاولة منه لإيصال شيء معين وفي نفس الوقت كان علم "طاهر" بوجود "إسراء" وحبه لها! لما لا يكون هو الجاسوس الموجود بينهم داخل القصر!


في وسط عتمة الليل، ذلك الدجى الذي يحيط به من كل جانب حتى في شعوره تسلل النور إلى قلبه وهو يتذكرها.. بكائها، ارتجافها، ونظرتها الخائفة، وتعلق عينيها به وهو يذهب معهم، هي فقط من صدقته ووقفت جواره، ساندته وأخرجت الجرأة المكبوتة داخلها لأجله.. هي فقط دون الجميع وهي أقل شخص من بينهم على علم به..


تلك القطة الضعيفة التي تريد كل يوم من يحنو عليها، تنظر إلى الغرباء والأقارب بلين ورقة، تتحدث بخفوت ونعومة، لأول مرة على الإطلاق تقف أمام الجميع تصيح بهم تذكب كل ما تحدثوا به، فقط لأجله..


حبه الوحيد الذي لن يفرط به مهما حدث إن خرج من هنا سالمًا، وإن ذهب غدرًا وظلمًا يتمنى أن يلقاها في الجنة وهو يعلم أن رحمة ربه واسعة يطمع في أن يكون معها بها ليعيش ما لم يستطع عيشه هنا بين أحضان قلبها الرقيق.. آه يا "عاصم" أليس لك الحق في أخذ ما قدمته! آه على قلبك القاسي دومًا، وعلى حبك الغريب الذي لم تناله يومًا..


❈-❈-❈


وقفت "إسراء" أمام شقيقتها بملامح باهتة حزينة تبكي بغزارة جاعلة بريق عينيها الأزرق تشوبه الخيوط الحمراء من كثرة البكاء 


نهضت "زينة" بعنف تصيح بضراوة:


-أنا عايزة أفهم حالًا كل حاجه بطلي بقى


طمست على وجهها ووقفت محاولة الثبات وقلبها يحترق على جمر مشتعل خائفة عليه وكل تركيزها وتفكيرها معه هو، أردفت بنبرة مهزوزة:


-اللي حصل.. أنا وعاصم في بينا كلام عادي والله العظيم يا زينة بس أنا اعتبرته صاحبي وهو كمان وده عادي أنتي عارفه


استنكرت حديثها تشير إليها بعصبية:


-عادي ايه؟ هو أنتي فاكرة نفسك فين إحنا هنا في جزيرة العامري مكان مش بتاعنا كل اللي فيه ناس...


قطعت جملتها التي كانت ستتفوه بها بكل شيء خاص بعملهم على الجزيرة والجميع يعلم وأكملت تحسها على المواصلة:


-كملي 


تنفست شاهقة شاعرة بالمرارة بسببه وبسبب كثرة بكائها تقص عليها ما بدر من "جلال" معها:


-كنت تحت مرة بتمشى جلال اخدني ورا القصر غصب عني ورفع عليا مطوة وحاول يقرب مني بطريقة وحشه وبعدين سابني 


صرخت بانفعال وعصبية تتقدم منها تجذبها من ذراعها شاعرة أن رأسها ستنفجر:


-وإزاي أنا معرفش.. افرضي حصلك حاجه 


أكملت موضحة تزداد في البكاء فلا شيء بها يتحمل أن تصرخ عليها بل هشاشة قلبها الضعيف تتحول إلى فتات بسبب خوفها عليه:


-عاصم عرف.. بس والله معرفش هو عرف منين ولما سألني قولتله راح هو أخد حقي وخلى جلال لما يشوفني يبص بعيد 


تنفست مرة أخرى زافره الهواء من رئتيها تنهمر الدمعات من عينيها بغزارة قائلة بخفوت وصدق:


-وامبارح أنا بجد سمعتهم والله وهما بيتفقوا وهي متجوزاه 


تركتها "زينة" وثبتت نظرتها عليها بجدية شديدة ثم سألتها دون سابق إنذار تبعث إليها في نظرتها ألا تكذب:


-ايه اللي بينك وبين عاصم ومتقوليش صحاب 


نظرت إلى الأرضية تتمسك يدها ببعضها البعض تضغط عليهم بقوة ثم رفعت عينيها عليها وتفوهت قائلة بخجل وخفوت:


-أنا بحبه وهو بيحبني 


أصاب جسد زينة رجفة غريبة من نوعها وهي تنظر إليها باستغراب شديد وصدمة خالصة هبطت على رأسها من السماء.. شقيقتها البريئة الخجولة، صاحبة الصوت الرقيق والنظرة الناعمة، الفتاة التي لا تفقه شيء في الحياة تستند عليها في أي ممر تدلف إليه تنتظرها أن تأخذ بيدها أحبت قابض الأرواح!؟


❈-❈-❈


"يُتبع"

الفصل السابع عشر

"لا أخفي عليك سرًا عزيزي، قد تألمت كثيرًا في قربك، آن قلبي بغضًا وقهرًا ولكن الألم أضعاف في فراقك"


اخفضت "إسراء" وجهها إلى الأرضية بخجل شديد لا تستطيع النظر إلى وجه شقيقتها بعدما قالت أنها تحبه وهو يبادلها نفس الشعور وكل هذا دون علمها ولم تعطي لها الفرصة حتى في تقديم النصحية، خجلت من نفسها عندما اعترفت لها وبقيت نادمة شاعرة بالضيق الشديد بسبب نظرات شقيقتها نحوها 


ولكن الأخرى كانت في عالم آخر تفكر في شقيقتها التي عشقت ذلك المتجبر، القاسي أيضًا مثل زوجها، ذلك القـ ـاتل، المجرم الذي يعمل في أبشع الأشياء..


سألتها "زينة" باستغراب ولم تبتلع حديثها بل وقف على باب عقلها ولم تقوى على استيعابه لتتفوه قائلة:


-بتحبي مين أنتي اتجننتي!


رفعت وجهها إليها ببطء وهدوء ودمعات عينيها تغلفها برقة وتوتر لتجيبها قائلة بخوف:


-بحب عاصم وهو كمان والله


صرخت "زينة" بعنف وهي تسير في الغرفة بهمجية وجسدها ينتفض بانفعال:


-أنتي تعرفي ايه عنه أصلًا.. تعرفي ايه عن أهله ولا شغله ولا حياته


وقفت إسراء محاولة الثبات، أجابتها قائلة برفق ما تعرفه عنه:


-مالوش أهل وليه بيت على الجزيرة وشغال مع جبل


وقفت أمامها وسألتها بضراوة ناظرة إلى عينيها مباشرة بحدة:


-شغال ايه مع جبل 


حركت كتفيها تتابعها وهي حقًا لا تدري هي تفوهت بكل ما تعرفه عنه لتقول بخفوت:


-معرفش 


خرجت نظرات شقيقتها نحوها بحدة وجمود تسألها تُشير إلى نفسها قائلة بقسوة:


-تحبي أقولك أنا شغال ايه 


أكملت موضحة بعنف وقسوة شديدة ألقتها عليها مع خروج تلك الكلمات من فمها:


-شغال تاجر سـ ـلاح 


اعتدلت في وقتها تنظر إليها باستغراب تسألها:


-ايه اللي بتقوليه ده يا زينة 


أشارت إليها بيدها بمنتهى البساطة والسهولة قائلة بجدية تامة:


-اللي سمعتيه.. البني آدم اللي أنتي بتحبيه بيشتغل مع جبل في السـ ـلاح 


لم تستوعب ما تقوله، نظرت إليها بقوة تتابع ما يصدر عنها تفكر بعقلها أيعقل أن يكون كما قالت؟ لا من المستحيل أن يكون هذا عاصم إنه أنقى من ذلك ولم يظهر عليه يومًا ومؤكد لن يخدعها بعد أن أعترف بحبه لها وبادلته ذات الشعور..


رفعت رأسها إليها وباغتتها بسؤال لم يخطر على بال "زينة" أنها ستسأله:


-ولما هو كده أنتي ليه وافقتي على جبل 


راوغت في الحديث لا تستطيع أن تفصح عن كل شيء وتتحدث معها فيما حدث سابقًا وإن وجدوهم هنا تحت التهديد منذ البداية فقالت كاذبة:


-مكنتش أعرف.. مكنتش أعرف حاجه


اقتربت منها تتمسك بيدها راجية إياها بنظرات عينيها المتلهفة وملامحها التي بهتت أكثر قائلة برجاء:


-يعني ايه الكلام ده لأ مستحيل عاصم يكون كده أنتي أكيد متلغبطة أو ممكن بتقولي كده علشان خايفة عليا 


أومأت إليها بثبات معقبة على حديثها بصدق:


-أنا فعلًا خايفة عليكي لكن دي الحقيقة ولو ربنا نجده من اللي هو فيه ابقي اسأليه مظنش أنه هيكدب


ابتعدت عنها غير مصدقة أنه يصدر منه ذلك.. كيف له بهذه السهولة أن يكون كما تقول شقيقتها كيف خدعها.. مؤكد لن تكون مع شخص مثله ولكن.. إنها تحبه:


-لأ لأ.. ده أكيد كلام غلط 


صرخت بها "زينة" عندما وجدتها تأبى قبول الحقيقة:


-الكلام مش غلط.. الجزيرة دي مش بتاعتنا ولا لينا فيها حاجه 


جلست على الفراش غير قادرة على أن تقف أمامها خارت قواها بعد كل ما حدث ليأتي في النهاية هذا الخبر المُشين عنه:


-إزاي إحنا عايشين فيها 


ابتعدت زينة قائلة بحزم وهي تُشير إليها بقوة:


-أنتي هتسافري.. لازم تسافري مستحيل اخليكي تتمادي مع الحيوان ده 


هبت واقفة سريعًا تتقدم منها قائلة بلهفة ورجاء تبكي بضعف لا تريد النزوح عن هنا إلا بعدما تراه وتتأكد منه:


-لأ.. لأ يا زينة مش عايزة أمشي علشان خاطري 


أمسكت شقيقتها يدها بقوة تنظر إليها بصرامة وخرجت الكلمات منها حادة للغاية:


-وأنا مش هضيع مستقبلك وحياتك مع واحد زي ده وأكبر منك بكتير ويختلف عنك كتير أنتي لسه قدامك حياة.. تقدري تختاري فيها شريك مناسب.. 


أكملت بنبرة ضارية محاولة إقناعها بما تقول:


-تتجوزي دكتور مهندس، محاسب ظابط صيدلي.. حاجه مشرفة مهنة بجد مش مهنة بيقتل فيها الناس


بكت مرة أخرى وهي تنظر إليها تحاول أن تستعطفها لترق ناحيتها تطلب منها البقاء معها:


-علشان خاطري مش عايزة أمشي يا زينة.. علشان خاطري خليني معاكي على الأقل شوية بس 


تركتها وأومأت إليها تحرك رأسها بالإيجاب قائلة بفتور:


-أنا هشوف أنا هعرف أعمل ايه..


ابتعدت عنها تاركة إياها وحدها ولكن قبل أن ترحل استدارت تنظر إليها بحب وحنان توضح ما تريده وما سيكون إلا سعادة وحياة أفضل لشقيقتها:


-أنا مش بحجر عليكي يا إسراء.. أنا خايفة عليكي وبقرر عنك علشان عارفه أنك مش هتعرفي تاخدي القرار الصح.. ممكن حبك ليه يخليكي تتنازلي عن حاجات كتير بس كده غلط.. أنتي تستاهلي أحسن منه بكتير.. عاصم قاتل زيه زي جبل


ابتسمت إليها بحنان قائلة بحب:


-أنا بحاول أشوف الصح.. إذا كان بجد كده أو لأ، لو اتأكدت إني غلط أنا بنفسي هعملك اللي عايزاه غير كده لأ 


تركتها وذهبت إلى الخارج وعقلها يتخبط بها في كل مداراته ومساراته، ألم تكتفي من زوجها كي تخرج شقيقتها بقصة أخرى أسوأ مما تقابله.. 


جلست "إسراء" على الفراش تبكي بضعف وقلة حيلة، في البداية كانت تبكي لأجل أنه غُدر به واتهم بجريمة لم يفعلها ووقف متهم في قفص "جبل العامري" وإلى الآن لا تعلم عنه شيء ولكن إن لم تثبت براءته عند "جبل" تعلم أنه سيكون هالك لا محال.. أما الآن..


هي من غدر بها ولم يكن من أحد سواه، تقدمت تاركة ضعفها وخوفها خلف ظهرها، ألقت البراءة الخاصة بها ورقتها المعهودة عرض الحائط وخرجت تصرخ على الجميع لأجله دون خوف معرضه نفسها للخطر لتفديه بروحها وفي المقابل هو يخدعها! يغدر بها؟ لم يذكر يومًا ما مضمون عمله لأجل ذلك؟ 


لم يتحدث أبدًا لأجل أن تبقى معه، يخدعها، ولكنه غبي للغاية أيعتقد أنها إذا بقيت معه وأحبته حد النخاع ثم أدركت ما يقوم به وتأكدت منه ستبقى معه؟ ستكمل نفس الدرب وتسكله معه؟ هذا من رابع المستحيلات لن تفعل ذلك لن تكن أحد المشاركين في قتل البشر، أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ هل ستكون على علم بقتل الناس وتبقى صامته دون حتى أن تبلغ عنه ليأخذ جزاءه..


يا الله.. كل هذا حدث في ليلة واحدة، ليلة أحبت وشعرت بها بالشك ناحيته والخوف منه، الرهيبة من الإقتراب ثم لحظة واحدة تحولت وكانت فراشة طائرة على كل وردة زرعت في الجزيرة تغرد بحبها له واعترافه لها بالعشق المتبادل.. لم تحظى بالفرح لكثير بما حدث بل مرة أخرى تلجلج قلبها بالخوف ولكن هذه المرة كانت عليه وليس منه.. شعرت بالحزن والفزع وأدركت حينما فرت العبرات هاربة من عينيها لأجله أنها تعشقه حقًا ولا تريد غيره فضربت كل ما بها أرضًا وتقدمت مدافعه عنه في أرض المحكمة.. ولكن هل شفع كل هذا!؟


❈-❈-❈


عاد "جبل" إلى القصر ورأسه ملئ بالأفكار السوداوية، لا يستطيع التحكم بها أو الإمساك بطرف فكرة واحدة منهم ينظر إليها يتمعن بها كي يستطيع فهم ما يحدث حوله..


أول شيء فكر بفعله عندما ولج إلى القصر التوجه إلى تسجيلات الكاميرا التي ضربت رأسه بحائط صنع من الحديد وليس الحجر ليقترب رأسه على الانفجار بعدما تأكد من أن حديث شقيقته كاذب.... 


كيف!.. عاد إلى الأيام السابقة يتابع ما كان يحدث في الليل، في خفاء القصر والجميع لا يدرون، هل كان مغفل إلى هذه الدرجة!؟ 


هل كان هذا الشخص الغبي الذي يلعبون من خلف ظهره بشرفه وعرضه وهو يأمن ببساطة! من شقيقته؟ لما فعلت كل هذا لما؟ وذلك الحقير "جلال" الذي لم يفعل ذلك بأحد إلا صديق عمره!.


وهو الذي ختم فرمان إعدام الصداقة بينهما دون حتى النظر بما كُتب به؟ يا له من أحمق غريب يستحق الإعدام بدلًا منه.. لقد صدق ما قيل في لحظات ووقف أمامه يلعنه يلقي عليه تهمه حقًا كما قال لا تناسبه إنه "عاصم"!..


توجه إلى الداخل وكأن بركان يفور خلفه يتسابق في الوصول إليها قبل أن تبتلعه الحمم النارية التي تتشابه مع عينيه تندلع النيران منها بطريقة لا تبشر بالخير أبدًا على ما هو قادم وبالأخص على شقيقته تلك الخبيثة التي قتلت صداقته مع رفيق عمره ولكنه لن يسمح لها بالتمادي أكثر أنه "جبل العامري".. من يحكم، يعدم ويعدل، من يقتل ويحيي، ألن يستطيع السيطرة عليها؟ هذا من المستحيل 


فتح باب الغرفة على مصراعيه دارت عيناه في الغرفة بقسوة وشر لتقع عليها تجلس على الفراش مكومه حول نفسها رفعت وجهها إليه منتظرة موتها الحتمي على يده ترتعش بضراوة خائفة للغاية 


تقدم للداخل ببطء تاركًا باب الغرفة مفتوح ينظر إليها بتمعن شديد وخرج صوته الخافت الذي أشبه الفحيح بعدما أقترب ليبقى أمام الفراش:


-قولتيلي أن عاصم اللي عمل كده.. ها


استند بقدمه اليمنى على الفراش يقترب منها ثم في لمح البصر وبعد نظرته الهادئة التي لم تكن توحي إلا بهدوء ما قبل العاصفة قبض على خصلات شعرها لتميل على الفراش وهو يجذبها صارخًا:


-عاصم يا بنت الكلب.. عــاصــم


اشتدت يده على خصلاتها وهو يقوم بلفها عليه لتسمح له الفرصة بالتحكم بها أكثر يكرر حديثه صائحًا:


-عاصم غصبك 


ارتعشت بين يده أكثر، هوى قلبها جوارها بعدما رأت مظهره وأقترابه المهيب منها لتقول ببكاء حاد محاولة تخفيف الحكم عنها:


-ارحمني يا جبل والله جلال اللي قالي أعمل كده 


صفعها بكف يده الغليظ وهي نائمة أمامه تحت رحمته مكبلة بيده المتمسكه بخصلاتها قائلًا متهكمًا بغضب:


-يعني أنتي معرضتيش نفسك على عاصم ورفضك يا وسخه 


لم يأخذ منها ردًا يستمع فقط إلى بكائها الحاد الذي يخرج من أعماقها فصاح بعنف:


-ردي يا بـت


أومأت برأسها ترفع يدها إلى يده تتمسك بها بعدما شعرت بخصلاتها تخرج معه تشعرها بألم حاد، أجابته بخوف شديد:


-حصل.. بس أنا كنت صغيرة والله مكنتش فاهمه حاجه وهو قالي إني لسه صغيرة وأنا سمعت كلامه وسكت 


رفع وجهها إليه ينظر داخل عينيها متسائلًا:


-الصغيرة دي كان عندها كام سنة 


أجابته بضعف وخفوت:


-تلاته وعشرين 


دفع برأسها على الفراش بضراوة وقسوة مغتاظًا منها ومما فعلت تلك الحقيرة صارخًا: 


-صغيرة يا بنت الكلب.. صغيرة من أنهي إتجاه 


أشتد بكائها، خرجت عبراتها بغزارة وجسدها بالكامل يرتجف كل لحظة والأخرى تنظر إليه بضعف وقلة حيلة تطالبه بالرحمة:


-والله مكنتش عارفه حاجه ارحمني أنا أختك


رفع وجهها ثانيةً إليه يصفعها بغلظة وخشونة، يوزع عليها نظراته الكارهة قائلًا باستنكار:


-أختي الوسخه اللي باعت شرفها وشرف جزيرة العامري كلها.. أنا أختي تبقى وسخه ويجيلها يوم تتحاسب زي ما بحاسب غيرها


كانت على علم أنه عادل رحيم مع الجميع فترجته بضعف وبكاء:


-اعتبرني زيهم وغلطت أنت بتبقى رحيم معاهم 


جذبها من خصلاتها لتعتدل جالسة على الفراش ثم دفع برأسها إلى ظهر الفراش الخشبي يصيح دون رحمة:


-رحيم مين دا أنا هطلع قلبك من مكانه وأهرسه تحت رجلي


خرج صوتها الصارخ مُتألمًا تدري أن هذا لا شيء من القادم:


-علشان خاطري يا جبل خلاص 


نظر إليها بقوة ليجعلها تعتدل أمامه ومازالت بين يديه قائلًا بصرامة:


-قولي اللي حصل من الأول.. اتكلمي


تمسكت بيدها الاثنين بيده التي تقبض على رأسها وأردفت تبكي بغزارة يخرج صوتها مُتعلثم:


-والله هقولك كل حاجه من غير كدب بس ارحمني


خرج صوته بخشونة: 


-اتكلمي 


حاولت استماع شتات نفسها وهي تنظر إلى والدتها التي أتت إلى الغرفة بعد استماع صياحها وخلفها "زينة" خوفًا منه أن يقتلها


أردفت بصوت ضعيف متوتر:


-أنا كنت بحب عاصم والله بحبه.. بس هو مكنش باصصلي ولما روحتله قالي إني أخت صاحبه وإني لسه صغيرة أنا زعلت أوي والله وحسيت إني قليلة


صمتت ولم تعد تكمل ما بدأته فدفعها بقوة بيده قائلًا بشراسة:


-كملي 


نظرت إلى الأرضية يعلو بكائها خوفًا من تكملة ما بقيٰ ولكنها على كل حال أكملت موضحة:


-كان جلال سامعنا بعدها قالي أنه بيحبني بس مقاليش أنه سمعنا أنا فضلت معاه لحد من سنة اتجوزنا عرفي 


لطمها بقوة على وجهها يفاجأها لترتمي في الخلف بعدما ترك خصلاتها فتقدم على الفراش يمسك بها مرة أخرى ليلطمها ثانية على وجنتيها الأخرى يقول بذهول مما فعلته:


-عرفي من سنة.. وأنا فين وأمك فين.. ملبساني العمه أنا جبل العامري حتة عيلة زيك تقرطسني كده


خرجت صرخاتها المكتومه بسبب يده التي كانت تلطمها كلما صرخت، تحدث لاهثا:


-كنتوا بتتقابلوا فين 


وضعت يدها الاثنين على وجهها تحميه من بطشه بعد أن تجيبه:


-في بيته 


تغاضى عن فعلتها وأعطى لها الأمان وهو يكمل حديثه بجدية وحدة:


-كنتي بتخرجي إزاي 


اخفضت يدها من على وجهها عندما وجدته لم يفعل لها شيء وقالت بخفوت:


-كنت بمشي الحرس اللي معايا 


لم يطول الأمان الذي قدمه لها حيث أنه دفع برأسها في ظهر الفراش مرة أخرى لتخرج صرخاتها مع حديثه:


-كملي 


انتحبت بكثرة ولم تعد ترى من كثرة البكاء وكثرة ضرباته لها، يؤلمها رأسها بقوة مرة من صفعاته وأخرى من ضرباته لها في الفراش وأخرى من جذبه لها من خصلاتها بعنف دون رحمة.. خرج صوتها متقطع أثر البكاء الحاد:


-بس والله بعدين أنا كنت متغاظه من عاصم علشان مقرب من أخت زينة ومش باصص عليا أبدًا ومحسسني إني أقل منها فبعدين جلال قالي أعمل كده علشان هو يلبسها وتجوزهولي 


نظر إليها باستغراب وتركها عائدًا للخلف يسألها بخشونة وغلظة:


-اجوزهولك إزاي وأنتي متجوزة جلال 


قالت بصوت خافت لا تريد أن يصل إليه:


-ماهو طلقني وقطع الورقتين 


قارب على النيل منها بعدما فارت عروقه أكثر مما كانت عليه، يشعر لو أنه رجل مجرد من ملابسه متعري أمام أهل قرية شامتون به، غضبه أعمى عيناه وأراد أن يقتلها في الحال بعد أن تخطت كل مراحل الأدب أو حتى الاحترام لشقيقها ليس لأجل نفسها..


وقفت أمامه "زينة" في لمح البصر تتمسك بذراعيه الاثنين تتحدث بنبرة مرتجفة خوفًا منه ولكن لن تستطيع أن تقف هكذا وهو يقوم بضربها بهذه الطريقة الوحشية:


-جبل كفاية علشان خاطري، دي حامل كلمها بهدوء 


دفعها للخلف ناظرًا إليها بقسوة ضارية وقاتلة مجردًا أمامها من هيبته واحترامه بعد فعلة شقيقته وهو الذي كان أمامها كبير الجميع، من يخطأ يُحاسب ومن يُحاسب لا يخطأ


صرخ بوجهها بغضب جامح:


-قولتلك متدخليش.. سمعتي 


أومأت برأسها وعادت للخلف خطوة فتقدم هو من شقيقته يهبط لمستوى جلوسها على الفراش سألها ناظرًا إليها بشر يخرج صوته كالفحيح:


-أنتي حامل ولا لأ يا بت 


نظرت إليه بخوف شديد، الكلمة وقفت على أعتاب فمها ولكنها لا تستطيع أن تخرجها فإن قالت الحقيقة ستكون نهايتها.. ولكن على أي حال أجابته:


-لأ 


انهال عليها بالضربات الموجعة ولم يشفق عليها أو يرق قلبه ناحيتها، أنها هي من فعلت كل ذلك حتى أنها اتهمت نفسها بشيء بشع، قالت أنها حامل وهي ليست كذلك، كانت هي المتسببة في مقتل صديقه على يده بدون أي ذنب ارتكبه:


-كمان يا بت الكلب، كنتي عايزة تلبسي الراجل مصيبة مش بتاعته لولا أخت زينة سمعتكم كان زماني قاتله 


صرخت بعنف وهي تتلوى بين يده:


-ارحمني يا جبل 


قابلها هو الآخر بصراخ حاد مقهور على ما بدر منه وما حدث بينهم لأجل تلك الحقيرة التي باعت كل شيء فقط لأجل نفسها: 


-هو أنتي تعرفي يعني ايه رحمة.. أنا لسه هوريكي 


بقيت والدتها تقف تنظر عليها يرتسم الجمود على ملامحها تتابع ما يفعله ولدها وإن لم يكن يفعل ذلك لكانت فعلته هي، ابنتها وضعت رأسهم في قاع الأرض يدهس عليها البشر هنا وإن خرج الخبر لن تكون سيدة الجزيرة ولن يكن ابنها كبيرهم بعد اليوم..


بينما "زينة" كانت خائفة تريد القرب منها ومساعدتها ولكنها تخاف من بطشه عليها في هذه الحالة لا تضمن هدوءه من ناحيتها أو أي أحد تابع لها، تنظر إليه بخوف شديد تشعر وكأن العالم قاسي إلى حد ما وهو قساوته بحجم العالم.


أبتعد عنها بعدما نزفت من أنفها وفمها وجسدها هامد على الفراش يخرج منها أنين خافت لم تعد تقوى على الصراخ لينظر جواره على الكومود يرى هاتفها مد يده ليأخذه بجيب بنطاله ثم أردف لوالدته بقسوة:


-متخرجش من الاوضه ومحدش يجبلها أكل غير لما أنا أقول


أبتعد بنظرة إليها مرة أخرى ليقول بشراسة:


-كان زمانك مرمية في الجبل مش هنا دلوقتي زيك زي غيرك.. بس أنا لو عملت كده والخبر أتعرف هبقى عيل وسط أهل الجزيرة.. لكن أنا كفيل بيكي


بصق بعنف على وجهها وذهب خارجًا من الغرفة بغضب وانفعال حاد، جسده يشتعل بالنيران المتأهبة داخله بكثرة، وكل شعوره لا ينم إلا عن الألم والحزن، الغضب والعصبية وما شابه.. ما حدث لم يكن هين أبدًا عليه ولن يكن.. 


لأول مرة يشعر أنه صغير، طوال حياته كان هو الكبير، ذلك الشخص الذي لا يخطأ ولا يعود بحديث، الكبير على الجميع صاحب الكلمة المسموعة والحكم المجاب تنفيذه دون الرجوع لأحد.. اليوم كُسر ظهره وشعر بالعجز الشديد وهو يقف وحده أمام معالم الفضيحة والاتهامات الموجهة نحو شقيقته منها وإليها.. 


لأول مرة يقف هكذا مسلوب الإرادة، لا يستطيع وصف شعوره أو تحديده ولكن الشيء الوحيد المُتأكد منه أنه كُسر على يد شقيقته التي باعت عرضها وشرفها بأرخص الأتمان، عرض "جبل العامري" وجزيرة العامري بأكملها، المُتأكد منه أنه يشعر بالغضب تجاه نفسه لأنه كان المغفل وسط كل هذا ولم يدري أن شقيقته تعرف رجل وليس هكذا فقط بل متزوجه منه.. 


المتأكد منه أيضًا أنه لا يستحق لقب الصداقة، يأخذه من شخص مثل "عاصم" الذي أفداه كثيرًا ووقف جواره أكثر، اليوم هو باع كل هذا كما فعلت شقيقته مع عائلتها وأشترى الفتنة بينهم والعداوة وكذبه على الرغم من أنه صادق.. 


شعور بالعجز الشديد يجتاح كيانه بعدما فضح أمام نفسه ورأى أنه يخدع ببساطة من قبل شقيقته وذلك الحقير جلال، شعر بالحزن على نفسه لأنه ابتلع الطعم ولم يستطع كشفه سابقًا وهو الذي يعلم كل شيء صغير وكبير يدور على الجزيرة.. هل عجز عن معرفة ما يدور داخل قصره؟


بقي جالسًا على الفراش ينظر على الأرضية ليجدها أتت إلى الغرفة خلفه وأغلقت الباب، تقدمت تجلس جواره، لم يكن يستطيع أن يرفع رأسه لها فقد ضاعت هيبته وكرامته أمامها وما كان يهددها بفعله في شقيقتها قامت بفعله شقيقته يالا السخرية..


خرج صوتها بهدوء متقدمة بيدها إلى فخذه تضعها عليه:


-أنت كويس 


مال برأسه على صدرها، لا يدري لما وكيف فعلها ولكنه ربما يحتاج إلى ذلك، يحتاج إلى من يحنو عليه، ويقابل قسوته باللين، وكرهه بالحب، لن يجد أحد غيرها يميل بكسرته عليه ألا يحبها؟ وأعترف بهذا إلى نفسه!.. ليس هناك غيرها تقابل كسرته وقسوته برحابة صدر حتى لو لم تحبه..


خرج صوته خافت بعدما صرخ كثيرًا يفرغ بركان غضبه في الخارج، هنا بدأ كطفل صغير تائه بين اروقه الحزن والمعاناة:


-حاسس إني مكسور.. مغلوب على أمري


وضع يده الاثنين حول خصرها يضم نفسه إليها بالقوة يكمل مغمضًا عيناه مسترسلًا في الحديث بهدوء:


-فرح غلطت غلط كبير أوي تستاهل عليه القتل بس أنا مقدرش اقتلها.. تبقى أختي وزي بنتي 


كان حديثه عفوي للغاية وكأن هناك من يسحبه منه، يؤثر عليه حزنه وضعفه وكسرها ظهره بعد فعلة شقيقته يقول بأسى:


-حاسس إني عريان قدام الناس، جبل العامري الكبير اللي كان بيحاسب على الغلط وقع هو فيه


اخفضت وجهها للأسفل تنظر إليه فلم ترى إلا خصلات شعره الظاهرة إليها ورأسه موضوعة على صدرها يقرب نفسه إليها، مستغربة تمامًا مدهوشة بفعلته وحديثه الذي يلقيه عليها لأول مرة بضعف وانهيار وكأن "جبل العامري" وقع بأرضه..


حركت يدها بتردد ولكن لم تجد شيء تفعله إلا ذلك تحيطه بذراعيها لتقدم إليه الدعم في لحظة سقوطه فحتى لو كان غريب عنها لفعلت ذلك، قالت بجدية:


-أنت مالكش ذنب في اللي حصل.. وبعدين كل الناس بتغلط وهي اتعاقبت بما فيه الكفاية 


ضغط على عيناه بضراوة يوبخ نفسه لأنه لم يقوى على النيل منها بالطريقة المناسبة بل كان رحيم للغاية معها بعد فعلتها الدنيئة، قال بصوت خافت تملئه القسوة ثم الضعف:


-اللي خدته مني مش عقاب.. هي تستاهل أكتر من كده بكتير بس أنا اللي مش قادر 


شعرت بالقسوة المكبوتة داخله، وتذكرت ما ارتوته على يده فقالت مجفلة: 


-متقساش أكتر من كده 


شدد من احتضانها وهو يضغط بيده على خصرها دون الشعور بها مما جعلها تتألم يقول بغلظة:


-هي اللي قسيت لما عملت فينا كده 


تنهد بعمق، مازال لا يدري كيف يتحدث معها بهذه الأريحية والبساطة، مازال مغيب عن الواقع، سقط القناع الذي كان يضغه على وجهه طيلة الوقت قائلًا أنه ذئب لا يخشى أحد، الآن هو طفل.. لا تراه إلا طفل صغير أضل الطريق.. يريد العودة إلى رفيق دربه ولا يستطيع..


خرج صوته بنبرة حزينة متوترة، يلوم نفسه على ما فعله يندم على كل ما بدر منه:


-أنا مش عارف هقف قدام عاصم إزاي.. أنتي مش فاهمه علاقتنا دي ايه.. عاصم يبقى أخويا وقف في ضهري في كل حاجه قليلين كلام آه بس اللي في قلوبنا لبعض معروف 


ضغط مرة أخرى عليها متألمًا مما فعله يعلن أن نتيجته لن تروق له مهما حدث:


-خلتني اشك فيه وأنا متأكد أنه برئ، دخلت الشك بينا وهو عزيز الكرامة مش هيوافق يفضل معايا تاني بعد اللي عملته فيه قدام الكل 


تجعدت ملامح وجهها ألمًا بسبب كثرة ضغطه على خصرها بقوة وقسوة حاولت أن تحتويه وتحتوي الموقف وهي تقربه منها تفعل دورها كزوجة على أكمل وجه حتى وإن كانت العلاقة بينهم غير ذلك..


قالت بجدية تنظر إليه باستغراب:


-أتكلم معاه بهدوء ماهو مش معقول بردو كنت هتصدق صاحبك وأختك لأ


تألم أكثر بعد حديثها فهو كان على دراية تامة أنه ليس شخص كاذب، عقب على حديثها بقوة:


-صاحبي مش بيكدب يا زينة وأنا كنت عارف كده


أومأت برأسها وحاولت بكلمات أخرى تخفف عنه:


-أكيد مش هيهون عليه اللي بينكم يا جبل 


باغتها بحديثه الذي اخترق قلبها.. يهتف بيقين متهكمًا على ما قالته:


-أنتي نفسك هيجي يوم ويهون عليكي كل شيء.. تفتكري هو لأ؟


والله لا تدري لما خفق قلبها بهذه الطريقة عندما أتى الحديث ناحية الرحيل وتركه، لا تدري لما ارتجفت فجأة وشعرت أنها تريد البقاء لأجل ذلك الطفل الذي ألقى نفسه داخل أحضانها تشعر بأن عليها إخراج القسوة المزروعه به عنوة من داخله..


حاولت التبرير قائلة:


-قولتلك إني... 


قاطع حديثها لأنه يعرف ما الذي ستقوله كما كل مرة لن تتركه وتترك الجزيرة، تعتقد أنه غبي لا يفهم ما تريده فقط لأنه يجاريها:


-مش هتسيبيني عارف.. بس أنتي موجودة لغرض تاني غير جبل العامري.. أنا مش صغير يا زينة بس مع ذلك أنا مبسوط أننا بنتعامل أحسن من الأول


ربتت بيدها على ذراعه قائلة محاولة الهرب من محاصرته:


-هون على نفسك دلوقتي وخلي موضوعنا بعدين


زفر بهدوء يجيبها بنبرة حانية لم تستمع إليها من قبل أبدًا تخرج من بين شفتيه:


-موضوعنا دلوقتي وبعدين وفي كل وقت


حاولت الفرار مرة أخرى من الحديث عنهم، يبدو أنه الآن في حالة لن تتكرر عليهم مرة أخرى:


-هتعمل ايه طيب مع عاصم؟


ألمه قلبه وهو يقول بحزن طاغي:


-مش هعرف أقف في وشه 


اعتدل في جلسته يعود للخلف على الفراش يتمدد عليه ناظرًا إليها ثم أشار بيده قائلًا:


-تعالي


اقتربت منه على الفراش تجلس جواره ممددة القدمين فابتعد عن الوسادة ورفع رأسه على فخذها يريد الشعور بأن هناك ملجأ له، مكان كلما وقع احتواه، مكان يكن الأمان عند الدمار، يكن الحب عندما يجتاحه الكره والقسوة.. يريد مأوى بين أحضانها ولا يريد غيره في تلك اللحظات..


أمسك بيدها يرفعها إلى رأسه لتبتسم بهدوء وهي تحرك أصابع يدها بين خصلاته متغلله في فروة رأسه، تشعر بأنه كسر حقًا بسبب شقيقته، هدم جبل العامري، وقع بعنف وأثر خلف اهتزاز الجزيرة بأكملها.. تشعر بحزنه وألمه على ما حدث لصداقته الوحيدة.. لأول مرة يتحدث بهذه الطريقة يلقي نفسه بين يديها ويترك لها الحرية في التفكير والتعبير.. منذ متى وهو هكذا.. كل هذا أثر صدمته


والله لم تراه إلا طفل صغير خطأه أعمى عيناه عن الدنيا وما فيها، وبين تلك اللحظات لم يتركها تفكيرها مقررة المكوث هنا أكثر وقت ممكن لكي تخرج ذلك الطفل وتقتل "جبل العامري" قاتل البشر..


لماذا؟ لا تدري ولكن القلب والعقل يريدون هذا وهي لن تكون العائق، لن تكون إلا "زينة مختار" الذي وعدته بالبقاء إلى أن تأتي عليه بما تريد من شعور وغيره..


وهو كان هناك ألم كبير يجتاح قلبه، يفتت كل ركن به بالدق عليه وكأن الطبول تقرع داخله.. 


تلك الحرب الضارية ستبدأ وتنشب بين قلبين إحداهما اعترف بما به والأخر مازال لا يدري ما يصيبه..


❈-❈-❈


"في الصباح"


ذهب إلى الجبل وهو خجل من نفسه ومن صديقه، لا يدري كيف سيرفع وجهه إليه وينظر داخل عيناه، وهل إذا اعتذر عما فعله سيقبل "عاصم" الاعتذار.. ذهب وحده دون حراسه فليس هناك حراسه من الأساس أنهم عادوا في الأمس جميعًا..


ولج إلى الداخل ليجد الغرفة المتواجد بها "جلال" بابها مفتوح، وهو قد أُغلق بالأمس دلف إلى الداخل ليرى الغرفة فارغة ليس بها أحد والأحبال الذي كان مربط بها ملقاه على الأرضية وجوارها سكين حاد كان هنا بين الأدوات.. استطاع أن يقطع الحبل ويفكر أسر نفسه وهرب من الجبل لأنه على علم بكل ما به.. وخرج من الجزيرة مؤكد لأنه من أكثر الأشخاص دراية بمداخلها ومخارجها


بسبب الحالة الذي كان بها في الأمس لم يفكر أن كان هناك أحد سيهرب أو لا.. كل ما فكر به هو شقيقته و"عاصم" وهو آخر وما حدث بينهم من من إلقاء تهم من كاذب إلى صادق.. لا احد يلومه فهو إلى الآن لم يستطع جمع شتات نفسه..


أبتعد عن الغرفة ليذهب إلى "عاصم" ولكن يبدو أن هناك من يراقبه في الجزيرة أيضًا من بعد "جلال" كي يرسل إليه عبر الهاتف ما يريد "طاهر" في الوقت المناسب..


أخرج هاتفه من جيبه ليجد هذه المرة الرسالة اتيه من "طاهر" محتواها صورة تجمعه مع "جلال" بعد هروبه ورسالة مرفقة لها تنص على "مش عاصم بس اللي خاين"


أغلق الهاتف وبقي واقفًا قليلًا.. ما فكر به طوال الليل كان صحيح.. أنه "جلال" ذلك الخائن الذي كان مزروع بينهم يرسل المعلومات إلى "طاهر" ويغدر به غدر لا مثيل له.. 


خرجت ضحكة ساخرة من بين شفتيه يحرك رأسه يمينًا ويسارًا وهو الذي كان يعتقد أن لا تفوته كبيرة أو صغيرة أتضح أن الخائن الذي كان بينهم كان من داخل القصر وهو الذي غدر به وبشقيقته وأوقعه بصديقه..


تحرك متجها إلى "عاصم"، دلف عليه رفع نظره إليه ليجده جالسًا على الأرضية كما تركه فقط يستند بظهره إلى الحائط، لم يقوى على النظر إلى عيناه، دلف إلى الداخل وانحنى بجذعه إلى الأسفل ليبقى في مستواه تحت نظرات الآخر المستغربه مما يفعله ليجده يقوم بفك أسره من تلك الأحبال المكبلة إياه 


خرج صوته ينظر إليه قائلًا:


-يا ترى هموت دلوقتي ولا ظهرت براءتي 


رفع رأسه إليه ببطء ووقفت عيناه تقابله مباشرة لم يقوى على الحديث فقط الأعين تتحدث بالندم الشديد والحزم البالغ لما صدر منه يرسل إليه عبارات الندم والقهر والآخر يبادله الخذلان والعتاب..


خرج صوت جبل مبحوحًا:


-أنا ماليش غيرك يا عاصم


تهكم الآخر يخرج صوته بسخرية شديدة ينظر إليه بقوة:


-يبقى عرفت إني معملتش حاجه


أومأ برأسه إليه وأبتعد بعينه مرة أخرى لا يمتلك الجرأة التي تجعله يتحدث أمام عيناه بتلك السهولة:


-عرفت كل حاجه.. جلال هو اللي عمل كده في فرح وهو الخاين.. وهرب 


انتفض بدن "عاصم" وهو ينظر إليه بصدمة يسأله بقوة واستنكار:


-هرب!؟


استدار بوجهه إليه يرفع يده على كتفه يربت عليه قائلًا بندم شديد وأمل في أن يسامحه ويغفر له ما حدث:


-عاصم.. أنا مش عارف أقول ايه، قرفان من نفسي علشان شكيت فيك بس دي أختي.. ندمان على اللي عملته بس أنت أخويا أكيد هتسامحني 


شعر بأنه نادم حقًا فقال بجدية وخشونة:


-هسامحك يا جبل لكن مش هكمل معاك 


وقف على قدميه ينظر إليه بعتاب ثم قال بحزن:


-مسموح ليا أمشي أكيد بعد ما عرفت كل حاجه 


تحرك من أمامه يبتعد ليذهب تاركًا إياه وحده كما قال له في الأمس، بعد النيل منه والدعس على كرامته وتدنيس الصداقة بينهم لن يبقى معه ولن يكن صديقه مرة أخرى فهو عزيز.. عزيز للغاية 


اخترق صوت "جبل" أذنه الذي وصل إياه بحزن واحتياج شديد:


-عاصم أنا محتاجلك 


وقف في مكانه ثابتًا واستدار ينظر إليه بعمق وقوة، تلقي الأسهم بانفسها على كل منهما، إحدى الأسهم نادمة حزينة راجية السماح والعفو، والأخرى مستنكرة لا يهون عليها كل ما بينهم ولكنها تتقابل بالعتاب الممزوج بالحزن.. 


لحظات يتبادلون فيها النظرات تعود على ذاكرة كل واحدًا منهما لحظات طفولتهما سويًا وشبابهما معًا، عملهم وإطلاق النيران على الجميع وهما في ظهر بعضهم البعض لا يترك أحدهم الآخر.. لا يجوز أن ينتهي كل هذا بهذه السهولة.. لا يجوز أن يفوز "جلال" بما فعله ولا يفوز الشك باعدهما عن بعضهم ليبقى كل منهم ظهره منحني وحده..


اقتربوا الاثنين من بعضهم البعض ليتقابلون في عناق حاد خرج من أجساد قوية ذو عضلات قاسية شرسة، كل منهم سحق الآخر لا يود تركه وادمعت عيني "جبل" وهو يقول نادمًا:


-سامحني يا صاحبي 


استشعر الآخر ما به فبادله تلك الدمعات التي لا تخرج إلا من رجال أقوياء تعبر عن قهرهم ليقول بحب:


-انسى 


لحظات مرت بينهما ليفرغ كل منهما ما بقلبه ولا يحمل ذرة بغض ناحية الآخر، يعودون مرة أخرى إلى العهد السابق وما قبله.. يعودون إلى عهد "جبل العامري" والقوة عائدة معهم من جديد


"جبل" هو ذلك الثبات والرسوخ، ويأوي إليه البشر للحماية ويعتصم به الخائف، لا يتزحزح إلا في لحظات الانهيار كما حدث معهما أما "عاصم" كان الحصن لـ "جبل" والملجأ الذي يحتمي به من أي ضرر.


❈-❈-❈


"بعد مرور فترة"


تحسنت الأوضاع قليلًا، منذ أن هرب "جلال" من الجزيرة بعد أن تم اكتشاف خيانته وهناك حراسة مشددة على القصر والجزيرة بأكملها، لا يتم تسليم أو استلام أي شحنات وتوقف العمل تمامًا بأمر من "جبل" بعد أن فكر قليلًا فيما حدث وما سيحدث في الأيام القادمة إن لم يأخذ الحذر هذه المرة..


عاد "عاصم" إليه مرة أخرى وحاول أن يمحي أثر ما حدث بينهم، ولكن الأثر لا يمحى أبدًا حتى وإن تناسى وإن غفر..


بعد أن أقر "جبل" بما في قلبه وتحركت شفتيه بعفوية شديدة مع "زينة" قائلًا كل ما يعتري صدره وجد نفسه أنه مجرد من كل شيء أمامها، لم يعلم أحد من أهل الجزيرة بما حدث ولم يخرج الخبر، لم يقع "جبل العامري" ولم يهتز ولكنه تعرى أمام زوجته بطريقة أحرقت قلبه وندم أشد الندم لأنه لم يستطع إمساك جوفه عن الحديث.. بقى أمامها مجردًا من كل شيء، محى قسوته في الحديث وكبريائه تركه وحيدًا، العنف والشراسة المتواجدين داخله دائمًا لم تراهم في هذا اليوم 


لم يخرج منه إلا الضعف والحزن، صوته الخافت وهدوءه العاصف، لم يخرج منه سوى شعوره بالقهر والخذلان من شقيقته وحزنه على ما فعله بصديقه، تجرد أمامها من كل صفة قاسية عرفتها به يومًا وأصبح لا يمتلك إلا الرحمة والمغفرة، الهدوء والضعف ليمحى من أمامها "جبل العامري" الذي عرفته


حتى أنها أصبحت تتعامل معه بهدوء ولين تبتسم إليه بين حديثها الهادئ معه وكأن ما قاله عنهما أثر بها يشعر أنها تود التكملة معه حقًا ولكن لن تحبه وهو بهذه الحالة، لن تحبه وهو ذلك التاجر رجل العصابات، يمكن أن تظل هنا ولكن لن تبادله شغفه نحوها ولن تجعله يقترب منها إلى الحد الذي يريده، 


هناك حل واحد لا يعلم إن كان سيندم عليه بعدما يفعله أو لا ولكنه وعد نفسه إن وقع بحبها لن يحرم قلبه منها ولن يخاطر بها، ستكون له رغمًا عن الجميع ولكن بموافقة منها.. وهي لن توافق عليه إلا إذا اعترف لها بكل شيء.. كل شيء يجعلها تحبه وتبغاه بعد أن تناست شقيقه الذي لم تكن ستنساه أبدًا إن لم تعرف أنه كان قـ ـاتل ومجرم شريك بكل شيء قبله.. وبعده..


بينما هي حقًا كما وصفها، رأته مجردًا من كل شي فشعرت أنه إنسان غير الذي تعرفه وعليها أن تجعله هو الآخر أن يعترف بذلك، يقف أمام نفسه يعترف قائلًا أنا "جبل العامري" ذو القلب الرحيم والنظرة الرقيقة لا المخيفة.. أنا "جبل العامري" المحب لا القاتل، أنا القاضي العادل لا الجاني المجرم.. أنا "جبل العامري"..


لا تدري كيف اقتربت منه إلى هذا الحد في تلك الفترة الصغيرة ولكن حقًا وهذا شيء وجب الاعتراف به، أنها يومًا عن يوم تقترب منه تتعمق بالنظر إليه ليس كالسابق بل نظرات أخرى غريبة كليًا عليها وعلى ما تشعر به تجاهها..


صارحت نفسها فجأة أنها بدأت تميل إليه، لا تدري كيف ولكنها حقا بدأت في التقرب منه والحديث معه بطريقة أفضل من السابق بكثير والنظر إليه بلين وهدوء وهو يبادلها ذلك من بعد آخر جلسه حدثت بينهم.. ترى من الممكن أن تستكمل مسيرتها معه هنا إلى الأبد! كانت إجابتها على نفسها أن ذلك لمن المستحيل، لن تبقى معه ومكتوبة على اسمه إلا عندما تتأكد من أنه برئ من كل التهم المنسوبة إليه.. غير ذلك لا تستطيع أن تكون شريكته في كل حرام يفعله..


جعلت شقيقتها تقطع علاقتها مع "عاصم" من أحبته وتمنت القرب منه بمنتهى البراءة، منذ أن عاد إلى القصر وامتعت عينيها بالنظر إليه من بعيد وهي راضية تمامًا ولكن تفيذًا لأوامر شقيقتها قامت بوضع رقم هاتفه في قائمة الحظر وعندما تقابلهم الصدفة لا تصغى إليه.. ابتعدت عنه كل البعد بعدما علمت بمجال عمله من شقيقتها، كانت تريد فقط أن تواجهه وتستمع إلى الحقيقة منه ولكن حديث شقيقتها أتى عليها بصرامة وحزم غير قابل للنقاش ففعلت 


وهو كان يحاول كلما رآها تنظر من الأعلى أن يتحدث معها يشير إلى أذنه دليل على أنه حتى يريد مهاتفتها ولكنها لا تعيره اهتمام، لا يفهم ما الذي حدث لها جعلها تتحول من ناحيته بهذه الطريقة.. لم يجد إلا سببًا واحدًا وهو أن تكون علمت شقيقتها بما بينهم من بعد ذلك اليوم وهي من قامت بمنعها عنه.. ولكنه لن يمل ولن يكل، لن يتركها إلا عندما يتحدث معها ويصل إلى نقطة ترضيه ويعود بها إلى آخر ممر كانوا به سويًا بين ورود الغرام وجدران الخجل..


لم يكن أحد في تلك المدة يدلف إلى فرح أبدًا إلا العاملة "ذكية" كما أمر "جبل" مرة واحدة في اليوم بالطعام.. ولكن "زينة" ضربت حديثه عرض الحائط وكانت تدلف إليها يوميًا مرة أخرى بعد العاملة تأخذ إليها الطعام وتجلس معها قليلًا وهي من قامت بجلب الأدوية المناسبة لحالتها المذرية في ذلك الوقت فقد كان جسدها بالكامل ملئ بالكدمات وحالتها يثرى لها..


زينة فقط من بقيت جوارها، عالجتها وتأتي إليها بالطعام لأنها تعلم مؤكد ستتضور جوعًا فمن يستطيع أن يأكل مرة واحدة في اليوم بكمية قليلة للغاية لا تناسب طفل؟ فعلت هذا أيضًا من قلبها دليل على أصلها الطيب وتعاملها المحب المعطي إليهم جميعًا حتى وإن قابلتها منهم القسوة والحقد..


❈-❈-❈


دقت تمارا على باب مكتب "جبل"، كانت تعلم أنه بالداخل، انتظرت كثيرًا إلى أن استقرت الأوضاع واتت الفرصة المناسبة لها..


أذن لها بالدخول فولجت إلى الغرفة تدفع الباب خلفها، سارت إلى أن جلست على المقعد أمامه تحت أنظاره الثاقبة عليها..


خرج صوته حاد ينظر إليها بقوة:


-نعم


توترت قليلًا، تمسكت يدها ببعضهم البعض نظرت إلى الأرضية ثم إليه قائلة بخفوت:


-جبل.. أنا عايزة أتكلم معاك


أشار إليها بيده يعود إلى الخلف يستند بظهره إلى ظهر المقعد قائلًا بجمود:


-اتكلمي 


تنفست بعمق وهي تنظر إليه لا تدري من أين تبدأ حديثها معه، تتابع عيناه الثاقبة فوقها التي توحي أيضًا بالبرود وكأنه ليس مهتم بها، أردفت تسائلة بندم وحنين:


-ممكن تقولي ايه اللي غيرك كده؟ جبل أنا تمارا حبيبتك.. معقول نسيت كل اللي كان بينا، نسيت حبك 


أومأ إليها برأسه ليستند بيده على ذراع المقعد يضع إصبعيه السبابة والابهام أسفل ذقنه وأردف ببرود:


-آه.. نسيته


حركت رأسها نافية تقول بجدية وحرقة:


-لأ يا جبل أنا مش مصدقة، أنا عارفه أنت اتجوزت زينة إزاي وليه متحاولش تبينلي إنك بتحبها


ابتسم بهدوء وهو يجيبها صدقًا قائلًا بشغف ولمعة غريبة ظهرت بعينيه على أثر نطقه بتلك الكلمات:


-أنا فعلًا بحبها 


وضعت يدها على المكتب تتابعه بعينان حزينة للغاية تحرك أهدابها بكثرة تحاول منع الدموع من النزوح عن مقلتيها فهي خسرت كل شيء عندما تركته بأنانية:


-ده كدب.. أنا عارفه إنك بتحبني بس زعلان من اللي عملته لما سيبتك ومشيت 


اعتدل على المقعد يتقدم للأمام يستند بيده الاثنين على المكتب، نظر إليها بقوة وجدية وتحدث بفتور غير مبالي بمشاعرها:


-للأسف يا تمارا جه الوقت اللي اشكرك فيه علشان مشيتي.. صحيح سببتيلي وجع وحسيت بالوحدة من بعدك بس لولا اللي عملتيه ده كان زماني دلوقتي متجوزك وزينة مش معايا 


ابتسم إليها رافعًا يده إليها يقول مبتسمًا:


-يعني أنا بقولك شكرًا علشان بسببك أنا اتجوزت زينة وبقت مراتي


تحولت نظرته وتلك الابتسامة إلى الجمود والحدة وهو يقول بقسوة وغلظة احرقتها:


-محتاوليش معايا يا تمارا أنا بحب مراتي.. بحبها أوي فوق ما تتخيلي 


-جبل..


نطقت اسمه محاولة التحدث بلين ورقة ولكنه قاطعها مبتسمًا يقول بشغف وفي ذات الوقت مهينًا إياها معبرًا عن أن حبه لها لم يكن له قيمة:


-واكتشفت معاها أن الحب اللي كان بيني وبينك ده ميجيش جنب حبي ليها حاجه 


تعمقت بالنظر إلى عيناه، غاصت داخلهما ولم تجد لها عنده أي تعبير أو رسالة، لم تجد ذكرى واحدة أو لحظة مرت بينهما تشفع لها، يبدو أنه أحبها حقا متمسك بها حد الموت.. كيف حدث هذا؟ كيف جعلت "جبل العامري" يتحول بهذه الطريقة ويعشق غيرها.. ما السحر الذي جعلته يرتشفه من يدها.. ما الذي قدمت له أكثر منها كي يتحدث عنها بهذه الطريقة دون خجل..


أنه لم يعبر عن حبه لها يومًا إلا عندما تطلب ذلك منه ولم يهتف بكلمات الحب لحظةً ولم يقف أمام أحد يقول إنه يعشقها.. كيف يا "زينة" فعلتِ به ذلك؟


كان الباب لم يغلق إلى آخره، دفعته "زينة" ودلفت إلى الداخل وعلى وجهها ابتسامة عريضة بعدما استمعت إلى كلمات جبل عنها واستشعرت صدقه بها ليس مجرد تمثيل وعندما استمعت إليه دق قلبها بعنف وقوة لا تدري لما! ولكن يبدو أن ما حدثت  نفسها به صحيح..


سارت إلى الداخل ولم تزحزج عينيها من على غريمتها إلى أن وقفت "جواره" تضع يدها على ظهره مقتربة منه فرفع بصره إليها بابتسامة باتت معهودة بينهم.. بعدما رفع رايته إليها وحدد مصيره معها..


أمسك بيدها الأخرى يرفعها إلى فمه مقبلًا إياها فنظرت إليه ثم عادت إلى ابنة عمه تنظر إليها بشماته ترسل إليها من خلال أعينها أنها لا مكان لها هنا.. هي صاحبة المكان ومن فيه!


احترقت الأرض من أسفل تمارا.. لم تجد شيئًا تفعله إلا أن تقف على قدميها وتتقدم ذاهبة إلى الخارج دون حديث، دون حتى أن تحدث نفسها.. حقًا الصدمة كبيرة والتفكير في الأمر مرهق للغاية..


لم تقوى زينة على الحديثة وسؤاله عما هتف به إليها بقيت صامتة وهو الآخر لم يريد أن يسبق الأحداث ويفتح معها حوار لا يعلم أين يذهب منهما.. بات الوقت قريبا للغاية لكي يتحدث..


❈-❈-❈


"في المساء" 


جلس "جبل" على الفراش بعد أن قرر أخيرًا ولن يعود عما يريد فعله مهما كانت العواقب..


كان ينتظرها أن تأتي من الأسفل يجلس يفكر فيما سيفعله وكيف يبدأ معها ومن أين، الأمر يطول شرحه والحديث به، يطول فهمه واستيعابه ولكن لأجل حبه وقلبه، لأجل أن تبقى معه ويعيش ما لم يستطع الشعور به سابقًا سيفعل أي شيء 


فُتح باب الغرفة، لتطل عليه منه، أبصرته باستغراب فرفع بصره إليها، أشار إليها بالجلوس جواره قبل حتى أن تدلف.. 


أغلقت الباب ودلفت لتفعل كما طلب منها 


جلست بجواره على الفراش تنظر إليه فباغتها بحديثه دون مقدمات ونظرته نحوها قوية متمعنة، تحدث بجدية:


-كنتي عايزة تسمعي مني كل حاجه صح؟


أومأت برأسها إليه سريعًا دون التفكير بالأمر، فتنهد بعمق وهو يراها تعتدل تتوجه بنظرها عليه تصب تركيزها معه..


قال بصوت خافت:


-أنا عايز اعترفلك بحاجه 


سألته باستغراب:


-ايه


مرة أخرى تنهد بصوت مسموع، الحديث ثقيل على قلبه ولا يستطيع إخراجه بتلك السهولة، أمسك بيدها محاولًا أن يأخذ الدعم منها إليه ليتذكر أنه يريدها ولكن ما يشتهيه المرء لا يحدث دائمًا ما كاد إلا أن يتحدث معها مخرجًا مكنون قلبه إلا أنه استمع إلى أصوات طلقات نارية تهب عليهم من كل مكان 


انتفض من مكانه بعدما اخترق زجاج الغرفة رصاصة ليهبط على الأرضية متهشمًا، وقع قلبها بين قدميها تطلق صرخة مدوية بعدما اخترق الرصاص الغرفة، هوى قلبه هو الآخر معها خوفًا عليهم فجذبها إلى الأرضية يجعلها تهبط يخفي جسدها خلف الفراش صارخًا:


-خليكي هنا 


جذب سلاحه بيده وسار منخفضًا بجزعه يذهب ناحية الشرفة مخرجًا رأسه من خلف الحائط دون الخروج ليرى حالة من الهرج والمرج خارج القصر وحراسه تحاول السيطرة عليها مستمعًا إلى صراخ "عاصم" من بينهم..


علم أنها حالة هجوم شديدة قد تمكنوا من دخول الجزيرة بعدما أخبرهم ذلك الحقير عن كل خباياها.. إلى الأمس لم يستطع أحد بتاريخ حياته وفعلها..


عاد مرة أخرى إليها يهبط بجسده فوجد العبرات تهبط من عينيها ترتجف بخوف ورهبة، قتلها الخوف على ابنتها وشقيقتها ولكنها ارتعبت أن تتحرك دون أذنه يحدث لها شيء وتضيع شقيقتها مع ابنتها..


رأى عبراتها تهبط وكأنها نيران تلجمه حاول استجماع نفسه قائلا بقوة:


-اهدي متخافيش 


عقبت ببكاء حاد:


-إسراء ووعد 


أجابها محاولًا أن يطمئنها:


-متخافيش هوديكم مكان أمان


فتح الخزانة الخاصة به وهو منخفضًا للأسفل، فتح خزنته الموجودة داخلها ليخرج منها سلاح آخر وحقيبة صغيرة وضع بها بعض النقود ثم أغلقها ثانية..


جذبها من يدها بقوة صارخًا بها أن تسير معه ليخرج بها من الغرفة منحنين إلى الأسفل كي لا تطولهم الطلقات، وجد والدته في الأعلى تأخذ "فرح" و "تمارا" وسألته بخوف وقلق:


-هاخد وعد وزينة معانا 


لم يقف بل أجابها يُسير سريعًا شاعرًا أن الموت يلاحقهم:


-روحوا انتوا.. أنا هتصرف معاهم


أردف بصوت عالي وهو يدفع زينة للأمام:


-هاتي إسراء ووعد بسرعة 


قد فعلت سريعًا على الرغم من أن قدميها لا تحملها بسبب الذعر الذي انتابها، حملت ابنتها على ذراعها وهي تبكي بقوة خائفة متشبثة بها وإسراء الخائفة بضراوة..


سارت خلفه إلى أن هبط ليتجه بهم إلى خلف درج القصر، رفع السجادة الموضوعة على الأرضية وقام بالتقدم إلى الدرج من الخلف ليضغط على شيء به ففتح باب خشبي من الأرضية!!..


نظرت إليه بذهول واستغراب وفهمت أنه سيخفيهم هنا وجدته يهبط إلى الداخل عبر درج آخر خشبي نزل عليه وظهر إليها بعدما أشعل ضوء هاتفه، ألقى بما كان معه في الأسفل ورفع يده الاثنين إليها قائلًا بعجلة وتوتر:


-هاتي وعد 


قدمتها إليه فهبط بها إلى الأسفل ليتركها ويعود يأخذ "إسراء" ممسكًا بيدها يساعدها في الهبوط وأخيرًا "زينة"، جذب الباب خلفه بعد أن وقف معهم في الأسفل..


نظر إلى "زينة" بعينين مشتاقة راهبة فقدانهم، عاجز عن أن يجعلها معه وملكه يرى النهاية قريبة للغاية منه ففعل ما أملاه عليه قلبه كي لا تحمل ذرة بغض له بقلبها 


سألها مضيقًا عينه عليها:


-معاكي موبايلك


وضعت يدها على جيب بنطالها واومات له بالإيجاب


ابتلع ريقه وخرج صوته بتوتر ناظرًا إليها بعمق يرفع من على الأرضية الحقيبة التي كانت معه يقدمها إليها:


-الشنطة دي فيها جوازات السفر بتاعتكم، وفيها فلوس


ابتلع غصة مشتعلة وقفت بجوفه شعر بها وهو يأبى خروج الكلمات المفارقة لها منه:


-موبايلك معاكي.. لو طلع الصبح عليكم وأنا مرجعتش اخدك.. يبقى أنا مش موجود يا زينة 


شهقت بعنف واضعة يدها الاثنين على فمها تنظر إليه يخرج شلال بكاء من عينيها شاعرة بنفس تلك الغصة التي داهمته، لا تريد الفراق بهذه الطريقة.. لا تريد الإبتعاد عنه فما قاربوا عليه سويًا ليس هينا أبدً


ضغط على شفتيه قائلًا بجمود لا يود التأثر بما يصدر عنها:


-اسمعيني كويس..


أشار بضوء الهاتف خلفهم قائلًا بجدية:


-في باب وراكم أهو افتحيه هتمشي في ممر طويل هيطلعك على الغابة، ت?


الفصل الثامن عشر

"دعني أخبرك عن قصة رجل!"

جلست "زينة" على الأرضية المليئة بالأتربة في كل مكان، لم تقوى قدميها على حملها أكثر من ذلك وهي تقف ترفع رأسها إلى الأعلى تنظر إلى ذلك الباب الخشبي الذي خرج منه ولم يعد إليها تاركًا إياها في ظلام دامس، عتمة قلبها مع عتمة المكان من حولها بجعلها ترتعب أكثر وهي تستمع إلى صرخات أصواتهم الخشنة في الخارج مع إطلاق النيران..


تنهمر الدمعات من عينيها بغزارة دون توقف وحركاتها اللاإرادة تعبر عن ذلك القهر القابع داخلها لا يريد النزوح أبدًا وتركها ولو قليلًا..


شهقات متتالية تخرج منها وعينيها السوداء متعلقة بالباب، وتلك النظرة التي ألقاها عليها لا تفارق ذهنها مع صوته الشغوف واعترافه بالحب وأن تسامحه على ما بدر منه..


أتدري ما يحدث للوردة عندما تبدأ بالتفتح والخروج إلى عبير الدنيا، تحلق عليها الفراشات لرائحتها الفواحة ومظهرها الجميل، ثم يأتي طفل صغير دفعه هوسه بحب الورد ليقطفها من غصنها فتذهب رائحتها وتفقد جمالها، تموت بين يديه ذابلة وكأنها أبشع ما في الدنيا!


كانت هي هذه الوردة، بدأت بالتفتح، بحب الحياة معه، وبدأ الشغف أن يولج بينهم وتنعم بالراحة بين أحضانه مثلما جعلته يتمتع بها، ولكن ذلك الطفل الذي دفعه عمله عنوة ليخرب كل ما بدأ بإصلاحه، ليخرب كل ما شعر به قلبها يفرقهم ليتجه كل منهما إلى طريق آخر يسلكه وحده مدمرًا كل شعور لاذ به قلبها.. 


أمسكت الهاتف بين يديها مرت ساعة كاملة والطلقات لم تتوقف، أصواتهم الصارخة تضرب أذنيها بقوة فيزداد بكائها وشهقاتها تتعالى، يزداد خفقان قلبها خوفًا عليه!..


خوفًا عليه؟ توقفت الكلمات على باب عقلها فأكملت نعم إنه والد ابنتها، ذلك الذي عوضها عن حرمانها من حنان الأب، الذي جعلها تبتسم كلما رأته تركض نحوه تتعلق به ولم تشعر أنه شقيق والدها، وأيضًا هو زوجها، زوجها الذي بدأ قلبها بالخفقان له رغم كل ما فعله وما يفعله..


القهر والألم ممزوجان داخل قلبها، لا يترك أحد منهم الآخر، تشعر به يعتصر من الألم ينطبق صدرها عليه ساحقة أكثر..


استمعت إلى صوت شقيقتها الذي كان يراودها كل لحظة والأخرى، استدارت تنظر إليها وجدتها تحتضن "وعد" النائمة وتبكي بغزارة محاولة كتمان شهقاتها وألم قلبها في فراقه.. لقد فارقته دون النظر إليه والحديث معه.. لقد قست عليه كثيرًا


وقفت "زينة" على قدميها وذهبت لتجلس جوارها تحتضن إياها تشعر أنها أخطأت عندما منعتها عنه، أنه الحب، وذلك اللعين ليس عليه سلطان، لا يستمع لأحد إلا نفسه يأتي دون إنذار ويذهب دون إنذار..


احتضنتها بقوة مستشعرة كم الألم الذي يداهمها إن لم يكن أضعاف ألمها فهو اعترف لها وهي اعترفت له، ولم ينشب بينهم عراك حاد يومًا ولم يعتدي عليها بقوته، لم يقتلها بكلماته كما فعل معها.. تستطيع أن تدرك أن ألم شقيقتها أكبر منها ولكن أيضًا ألمها لا يضاهي شيء.. 


بكيت كل منهما في أحضان الأخرى طويلًا، القلوب تشكي همًا والأعين تزرف الدموع رعبًا واحتراقًا أثر الفراق المُميت الذي أتى على حين غرة ليدمر الأخضر واليابس..


كان في الأعلى "جبل" و "عاصم" مع الحراس يحاولون السيطرة عليهم بكل قوتهم، هؤلاء الذين ولجوا إلى الجزيرة كانوا كثيرون للغاية غدروا بالحراس القليلة الذين كانوا واقفون على مداخلها..


تبادلون طلقات النيران لوقت كبير وكل لحظة والأخرى تفرغ خزينة السلاح ليقوم بتعبئتها مرة أخرى..


حرب دامية بطلقات النيران استمعت إليها الجزيرة بأكلمها من الشمال إلى الجنوب، رأى "جلال" و "طاهر" من يقودون رجالهم نحو القصر إلى أن دلفوا إليه..


شعر بأن النهاية تقترب بعدما وقع من رجالة أكثر من خمسة ولم يبقى الكثير إلى درجة الصمود، هوى قلبه بين قدميه خوفًا على عائلته إن رحل وتركهم ولكنهم يعلمون جيدًا ما الذي سيقومون بفعله إلى أن تنتهي هذه الحرب متخفين في مكان مستحيل أن يمر به أحد سوى "عاصم"..


اهتزت روحه وهو يتذكر تلك التي وقع بحبها ولم ينل منه شيء ولم يستطع عيش النعيم جوارها يكافىء نفسه بعد سنوات العذاب، وسنوات الضياع الذي أوقع ذاته بها..


شعوره نحوها في تلك اللحظات كان قاتل، والله قاتل وهو بين الحرب التي ربما تأخذه في أي لحظة ولكن قلبه يتوق اشتياقًا لها يود أن تأخذه بأحضانها تربت على قلبه ليشعر بأن الخير قادم.. يود لو ينام على ركبتها فتضع يدها تخلل خصلات شعره لتسري القشعريرة بجسده وهو ينعم باللذة من هذا الشعور المغري..


زينة والله وأنت زينة، تمنى رافعًا رأسه للسماء أمام بوابة القصر متخفي خلف أحد الأعمدة، يغمض عينيه لا يستطيع المقاومة أكثر يشعر بأنه يرتخي والهجوم يزداد عليه، يهتف داخل نفسه متمينًا أن لا تنساه.. أن تحيي ذكراه وتردد داخلها أنها كانت بالنسبة إليه غزال..


إلى هذه الدرجة أحبها!.. بل عشقها ولم يدري بذلك ويعترف به إلى نفسه إلا بعد فوات الأوان..


وجد "جبل" الطلقات تزداد للغاية وليس رجالة الذين يقعون على الأرض جثث هامدة بل رجال "طاهر" فنظر إلى "عاصم" باستغراب ليستمع إلى أصوات أهل الجزيرة الهاتفه بشراسة وعنف يتقدمون منهم بالسلاح يأتون من الخارج فكان من السهل عليهم هم أن يهزموهم..


استمد "جبل" قوته وعاد يحمد ربه وهو يقف شامخًا يركض بينهم بقوة يطلق النيران و "عاصم" خلفه يحميه.. كالعادة بينهم


وقف كل منهما في ناحية يحاولون مجابهة الأمر بعدما أصبح أسهل من السابق بكثير


نظر "جبل" إلى يمينه ليجد "طاهر" يقف متخفي ينظر إليه شامتًا موجهًا السلاح نحو "عاصم" فدفع به للخلف صارخًا وهو يطلق النيران عليه بعشوائية..


دفع جبل "عاصم" واحتل مكانه ليتقابل مع "طاهر" ولكنه أطلق رصاصة خرجت من سلاحه لتصيب جسد "جبل" فصرخ "عاصم" بإسمه عاليًا وهو يُميل عليه يسنده رافعًا السلاح نحو "طاهر" لتنطلق من فوهة السلاح رصاصة تصيبه ليصرخ عاليًا كانت خرجت بحرقة من سلاح "عاصم" المذعور على صديقه الذي وقع بين يديه..


مر الوقت عليهم وهم على نفس الوضع، لم يغفل لهم جفن ولم ولم يتوقف انهمار العبرات منهما، مع ذلك الارتجاف الذي أصابهما ليحتل كيان كل منها والحزن يتغلغل أكثر ليعبر الروح دافعًا بها سهم الرماية الملطخ بالسُم القاتل، فتتهاوى أرضًا ميقنه أن ما بعد النهاية آتي والفراق كُتب، والاشتياق سيكون إلى الأبد..


توقف إطلاق النار منذ فترة وأصبح الصباح لتنظر إلى ساعة الهاتف، وقفت على قدميها واقتربت من الدرج تصعد عليه بتأني أنفاسها غير منتظمة تشعر بالموت القريب لها هي أيضًا..


عينيها منتفخة وأنفها أحمر للغاية وجهها باهت وملامحها مرهقة وقفت أعلى الدرج محاولة أن تستمع إلى أي أصوات بالخارج ولكن لا فائدة عادت إليها زافرة بقهر وهي تبكي وتنتحب لتساندها شقيقتها بقوة يعلو صوتها تود الصراخ 


لكن "زينة" لم تترك لها العنان لفعل ذلك بل أشارت لها بالصمت خوفًا من أن يكون أحد من هؤلاء المجرمين بالأعلى يستمع إلى صوتهم..


كتمت صوتها وهي تبكي تشوب عينيها الخيوط الحمراء التي تجعل مظهرها يبدو خاضع لإذلال لا مثيل له..


استفاقت الصغيرة على صوت بكائهما فنظرت إليهما باستغراب، طمست "زينة" على وجهها لتمحي عبراتها محاولة الثبات تقف على قدميها لأجل من معها ففعلت "إسراء" المثل وهي تقف غير قادرة على الصمود أكثر ولكنها تضغط على نفسها بقوة..


توجهت نحو الباب تفتحه تتناثر الأتربة من عليه يبدو أنه مغلق منذ مدة كمثل هذه الغرفة، فُتح الباب بسهولة فنفضت يدها ببعضها وعادت للداخل ترفع الحقيبة مرتدية إياها على ظهرها تتمسك بالسلاح بيدها ثم سارت في الأمام تعود إلى الباب لتخرج منه قائلة بصوت مبحوح وعينان دامعة:


-امسكي وعد وخليكم ورايا 


أومأت إليها شقيقتها التي تمسكت بيد الصغيرة بقوة وكأن هناك من يراقبهم ليأخذها من بينهم، استدارت "زينة" ترفع بصرها إلى سقف الغرفة تنظر إلى الباب الخشبي على أمل أن يُفتح ويعود إليها يجذبها مرة أخرى في عناق حاد كالذي قبله.. ولكنه يبدو كان عناق الوداع..


تحركت أمامهم تخرج من الباب وهم خلفها تشعل ضوء هاتفها تسير في الممر المظلم حتى تخرج من هنا إلى الغابة ثم إلى خارج الجزيرة..


سارت قليلًا ولم تتوقف عباراتها عن الخروج من مقلتيها ترفع السلاح بيدها تنظر إلى السرداب الذي تسير به معبأ بالأتربة وخيوط العنكبوت واقتربت فتحته لتخرج منه إلى أرض الغابة وهي تودع حياتها هنا..


تنفست الصعداء محاولة التماسك داعمة قلبها بذكرى واحدة فريدة بعقلها فلسوء حظها كالعادة لم تستطع أن تجمع الذكريات الجميلة معه..


ولكن هل هناك فرصة؟! ثبتت أقدامها في مكانها فجأة وتصلب جسدها بتشنج ولم تحرك بها إلا أهدابها بعدما استمعت إلى اسمها يخرج بذلك الصوت الخشن الذي تعرفه جيدًا


استدارت بلهفة وقلق تنظر إلى الخلف لترى شقيقتها تفعل المثل ولم يكن أمامهم سواه، كان يقف على بعد منهم يلهث بعنف وكأنه كان يركض ليلحق بهم تغرق الدماء ملابسه ولكنه يقف شامخ 


تقدمت للأمام تتخطى ابنتها وشقيقتها وهي تنظر إليه بلهفة واشتياق وكأن روحها التي سلبت منها بالقوة تعود إليها من جديد 


سارت ببطء إليه وعيناها معلقة نحو عيناه الخضراء الباهتة، لم تستمر على هذا البطء بل ركضت سريعًا تتقدم منه ليقوم بفتح ذراعيه لها يستقبلها داخل أحضانه ولم تتأخر عن فعل ذلك بل ألقت بكامل جسدها عليه ليغلق يده جذابًا إياها بعنف وكأنه يبعثها إلى داخله..


ألقت السلاح الذي كان بيدها على الأرضية وهي تدفن وجهها في صدره تبكي بقوة بعد أن عادت إليها روحها بعودته فالأن فقط اعترفت بصدق، كل ما سبق كان مجرد حديث منها أما الآن كامل الصدق خرج منها وشعرت أنها حقًا تود أن تكون معه، ربما هو الفرصة الضائعة من بعد حياتها مع شقيقه التي كانت مجرد خديعة بالحب.. أما هو إلى اليوم لم يكذب بشيء يخصه حتى وإن كان أبشع ما يكون 


شدد بيده حولها يعزز احتضانها يضع يده خلف رأسها بين خصلات شعرها يحركها عليها والأخرى تحيطها، على الرغم من أنها مصابة بفعل تلك الطلقة التي خرجت من سلاح طاهر إلا أنه لا يشعر بألم بل يشعر بلذة قربها منه وروعة استنشاق رائحتها..


ينعم بهذه اللحظة التي لم تمر عليه سابقًا وهو يرى اللهفة ظاهرة في عينيها بوضوح، والاشتياق تلقي باسهمه عليه وهي تركض نحوه تتلهف للاقتراب منه وإشباع قلبها من نعيم وجوده جوارها وذلك الأمان الذي فقدته عندما سلمها السلاح بيدها قائلًا لها أن تعتمد على ذاتها.. إلى هذه الدرجة كان وجوده يشعرها بالدفء والأمان؟ كان هو حاميها وسارقها!..


أيعقل؟!..


عادت للخلف تنظر إليه بابتسامة واسعة ومازالت الدموع تغرق وجهها تسأله بنبرة خافتة:


-أنت كويس!


أومأ برأسه لها وهو يبادلها الابتسامة واضعًا يده على ذراعها قائلًا بحب:


-كويس.. يا حبيبتي


لا تدري أي شعور يجتاحها بعدما استمعت إلى تلك النبرة الحانية مع نظرة عينيه الغرامية عليها، استمعت إلى صوت شقيقتها التي تقدمت منهم تسأله بتوتر وقلق:


-فين عاصم؟


ابتسم إليها هي الأخرى محاولًا أن يجعلها تطمئن قائلًا بصوت هادئ:


-موجود في القصر 


هبط إلى الأسفل ينحني إلى الأمام يقبل وجنة الصغيرة بعدما أقتربت منه بحب فلم يستطع حملها بسبب ضيق المكان، ابتسمت قائلة برقة وصوت هادئ:


-أنا مبسوطة أنك رجعت تاخدنا مكنتش عايزة أمشي


أجابها مبتسمًا بعد أن عانقها بحب وحنان:


-مش هسيبك تمشي 


أشار إلى "زينة" بالعودة وأخذهم وعاد من جديد إلى نفس الغرفة الذي خرجوا منها ليجد "عاصم" يهبط الدرج متقدمًا منهم بعدما أعتقد أنهم رحلوا ولم يلحق بهم "جبل"..


وقف على الدرج ثابتًا ينظر إلى حبيبة قلبه، سكينة أعماق فؤاده التي غابت عنه لكثير من الوقت ولم يراها عن قرب إلا الآن، عينيها يشوبها الحزن ونظرتها نحوه باهتة مرهقة.. ملامحها متألمة خجلة ولكنها متلهفة عليه تنظر إليه بتعمق ثم ابتسمت بهدوء ورفق عندما أدركت أنه بخير ولم يصيبه شيء..


رأى "جبل" الحالة الذي كان عليها فتحدث بصوت خشن قائلًا بعد أن وقف يتبادل النظرات معها للحظات في صمت تام:


-عاصم.. أرجع يلا 


أبتعد بنظره إليه غائبًا عن الواقع يومأ برأسه إليه ثم عاد إلى الأعلى ليقف يستقبل "وعد" بعدما ساعدها "جبل" في الصعود على الدرج، ثم خلفها "إسراء"، أمسك بيدها بين كفيه يساعدها للخروج بينما تلك اللمسات الخفيفة منهما تكن كلمسات النيران أو صواعق الكهرباء تسبب ارتجافه للقلب لا مثيل لها..


وقفت "زينة" وجذبت شقيقتها ناحيتها ليأتي "جبل" هو الآخر يقف ثم نظر إلى "عاصم" قائلًا بجدية:


-روح أنت يا عاصم 


ذهب وتركهم كما أمره "جبل" ليخرج يتابع ما يحدث في الخارج يصلحون ما أفسده ذلك الحيوان ورجاله..


باغتته "زينة" بسؤال جاد وهي تنظر إليه بعمق قلقة أن يحدث ذلك مرة أخرى:


-إحنا دلوقتي في أمان؟ 


أومأ إليها برأسه دون إجابة فسألته مرة أخرى باستغراب عن عائلته:


-فين طنط وجيدة وفرح.. وفين تمارا 


عقب بجدية ناظرًا إليها بود:


-متقلقيش كلهم بخير وفي اوضهم 


نظرت في محيطها ولم يكن إلا الدرج والحائط فعادت ببصرها إليه لتسأله:


-هو ايه اللي حصل 


إلى هذه الدرجة فضولها يأخذها خلفه حيث ما يريد!، تنهد بصوت مرتفع وقال بجدية:


-هحكيلك بعدين.. أنتي متعبتيش؟ 


أومأت إليه برأسها إليه فسار مُشيرًا إليها أن يذهبوا ففعلت، صعد الدرج يذهب إلى غرفتهم وذهبت هي مع شقيقتها وابنتها إلى غرفتهم لتطمئن عليهم أولًا ثم تتركهم، هبطت مرة أخرى إلى المطبخ لتأخذ بعض الشطائر إليهم فهم منذ الأمس لم يأكلوا شيئًا..


تركتهم بعد الاطمئنان عليهم ثم ذهبت إلى غرفتها، وجدته يخرج من المرحاض مرتدي بطال فقط يشجفف خصلات شعره بمنشفة فاردًا ذراعه الأيسر وهو نفس الذراع الذي كان مصاب به سابقًا ولكن هذه المرة كانت الإصابة في ذراعه من الأسفل..


عندما دفع "عاصم" وأخذ مكانه تحرك كثيرًا فخابت رصاصة "طاهر" وأتت فوق معصم يده تاركة إصابة بسيطة..


عبرت من جواره دون حديث فيبدو أن خوفها عليه واستنكارها لترك الجزيرة هما اللذان كانوا يدفعون بها إلى التقدم ناحيته وألقاء نفسها بين يديه..


دلفت سريعًا إلى المرحاض هي الأخرى لتنعم بحمام بارد يزيل عنها عناء جلستها طوال الليل على أرضية صلبة كالذي كانت في الأسفل مع تلك الأتربة والغبار الذي طبع على ملابسها ويدها..


بقيت بالداخل كثيرًا ثم خرجت بخجل وهي ترتدي رداء المرحاض بعد أن أنساها هروبها إلى الداخل أن تأخذ معها ملابسها...


نظرت بعينيها في الغرفة فلم تجد له أثر حمدت الله كثيرًا متقدمة من الخزانة تأخذ منها ملابسها عائدة مرة أخرى إلى الداخل كي ترتدي على راحتها فمن الممكن ان يأتي بأي لحظة.. ولكنه من الأساس كان يقف في الشرفة ينظر إلى الباب الذي تهشم زجاجة بسبب الرصاص الذي تناثر حولهم وينظر إلى بقاياه على الأرضية من الداخل والخارج..


ووقعت عينيه عليها وهي تخرج ببطء تبحث عنه بخجل ووجه متورد ثم أخذت ملابسها واختفت، لم تدري أنه رأى جمالها الذي لم ينجذب إليها لأجله أبدًا، ورأى رقتها التي لم يراها منها يومًا بل دومًا كانت تلك الشرسة العنيدة، رأى نظرتها البريئة والخائفة في ذات الوقت وكأنها صبية مراهقة أو زوجة في بداية زواجها خجلة من أن يكشف زوجها مفاتنها..


جلس على الفراش متنهدًا بعمق وكأن حمل ثقيل انزاح من على قلبه على الرغم من أن الخطر مازال يحاوطهم..


أتت هي الأخرى من الداخل بعد أن ارتدت ملابسها لتجلس جواره ولم تنتظر كثير بل قبل أن تجلس سألته بجدية:


-ممكن أعرف ايه اللي حصل


استدار بجسده ينظر إليها يجيب بفتور وصوت جاد:


-زي ما شوفتي يا زينة 


تابعت عيناه واستغربت إجابته، أنها لم ترى شيء سوى تلك الرصاصات التي انهمرت فوقهم كالمطر وبعد ذلك لم تدري بشيء سألته مستفهمة:


-شوفت ايه فهمني.. دول مجرمين؟


أومأ برأسه إليها بالإيجاب يقول مسترسلًا في الحديث بصوت هادئ:


-ايوه، ده طاهر أكبر عدو ليا.. طول عمره بوق بس مش بيعرف يعمل معايا أي حاجه بس المرة دي عرف يعمل بسبب جلال 


استمعت إلى الاسم فتوترت قليلًا تنظر إليه بقلق محاولة الهدوء والثبات تكرر باستفهام:


-إزاي؟


قال بجدية شديدة وداخله غضب مكبوت لا يستطيع إخراجه إلا عندما يمسك به بين يديه أن كان حيًا أو ميتًا:


-جلال لما هرب راحله وعرفه كل حاجه عن الجزيرة يدخل إزاي يخرج إزاي وكان السبب في أن ده يحصل لأن من المستحيل حد يقدر يدخلها ولا يعرف إزاي أصلًا ممكن يدخل 


نظرت إلى الفراغ وتلك الكلمات تتردد على عقلها وبالأخص شيء واحد ارتبكت لأجله فلا تدري ما العواقب خلفه، تحدثت متسائلة:


-وهما فين بعد كل ده ما حصل 


قال بإيجاز وصوته حاد:


-طاهر هرب.. وجلال مات 


استنكرت صارخة تسأله بفزع فأثر الكلمة على جسدها عنيف جعله يرتجف بقلق:


-مات!


أومأ إليها برأسه دون حديث ينظر إلى الأمام وهي تتابعه بنظراتها المذكورة المستغربة للغاية فباغتته قائلة:


-هو بس!


حرك رأسه بالنفي فأكملت:


-اومال راحوا فين اللي ماتوا 


بمنتهى السهولة والبساطة التي يمتلكها تحدث بهدوء وتروي وكأن لم يحدث شيء من الأساس:


-الإجراءات كلها خلصت 


هبت واقفة من على الفراش تنظر إليه بغضب حاد وعنف تأجج داخلها فرفع بصره إليها ولم تصل إليه معاني نظرتها إلا بالبغض لما قاله وفعله ولكنها صاحت بقسوة متهكمة غير قابلة لحديثه:


-إجراءات دفن مصرحة من جبل بيه العامري.. انتوا إزاي عايشين كده مستحيل.. اللي ماتوا دول فين أهلهم


هتف بهدوء فهو حقًا لا يقوى على الجدال معها ولا يريد أن يرسل إليها فكرة أنه المجرم مرة أخرى فإن وجودها من الأساس معلق على هذا الخيط أما أن تبقى أو ترحل:


-زينة البوليس كان هنا وكل حاجه تمت على ايده 


جلست ثانيةً تتابع باستغراب:


-إزاي


قال بجدية بسيطة لا يريد أن يطول الحديث بينهم:


-زي ما بقولك 


نظرت إليه بشك وكأنها غير مصدقة ما قاله، كيف للشرطة أن تكون تابعت كل ما حدث وهو هنا مازال ومعه "عاصم" ومن المؤكد كل حراسه، كيف ذلك وهناك أشخاص لقوا مصرعهم أثر هذه الحرب الذي وقعت بينهم!.. من هو كي يفعل كل ذلك دون أن يشوبه شيء..


سخرت منه والكلمات تخرج من بين شفتيها بعنف وقوة:


-أنت كبير في البلد للدرجة دي علشان كل ده يحصل وأنت تفضل هنا في قصرك كده ولا كأن حاجه حصلت!


استشعر سخريتها فتعمق داخل عيناها يرى ما تحدث به نفسها، سهل عليه للغاية أن يتركها لحديثها وحريتها أو أن يخرسها كما كان يفعل في لمح البصر فلا تستطيع النظر إليه وسؤاله مرة أخرى ولكنه للأسف لا يريد ذلك، فقط يريد أن يكون ما تحب وما تريد وتهوى لذا قال مجيبًا عليها بجدية وصدق:


-أيوه كبير.. كبير الجزيرة والبلد كلها يا زينة، اللي حصل المرة دي مش بسببي أنا ولا ليا يد فيه علشان تبصيلي كده وترمي عليا اتهامات من تاني


سألته متحيرة في أمره وأمر ما حدث وهو مازال هنا، كيف إن كان حديثه صحيح:


-اومال عايزني أعمل ايه 


أمسك بيدها برفق يتعمق داخل عيناه يقول تلك الكلمات التي يعلم أنها ستجعلها تصمت بعد أن تنهد بصوت مرتفع:


-عايزك تفهمي أن كل حاجه مشيت قانوني ومش قانوني من بتاعي لأ قانوني من بتاعك أنتي وأنا هنا علشان لازم أكون هنا 


تابعت بشك أكثر ولكن في نفس الوقت تستشعر الصدق في حديثه فنظرت إلى يده التي تتمسك بيدها والأخرى جواره فسألته مشيرة إليها:


-حصلك ايه


أجابها بهدوء دون اكتراث:


-اخدت فيها رصاصة بس بسيطة ومش مأثرة عليا 


سألته ثانية وهي تنظر إلى رباطها الطبي:


-مين ربطهالك 


-الدكتور 


قالها بإيجاز ووجدته ينظر إليها بارهاق يزفر كلما سألته عن شيء ولكن في نفس الوقت يحاول مدارة ذلك وكل هذا وهي متغاضية تمامًا عن اعترافه لها بالحب فلا تريد أن تنجرف معه دون التعمق في حقيقة ما يفعله..


وعلى ذكر ذلك التي أتى على عقلها بدلًا من أن تقول أنها ستخلد للنوم وأن يفعل ذلك هو أيضًا مثل الجميع في القصر ولكنها خيبت ظنه بنظرتها المتعمقة نحوه تقول:


-أنت كنت عايز تقولي ايه قبل ما يحصل اللي حصل ده


ضغط على يدها بين يده، من خلال عيناه أرسل إليها لهفة أتت على حين غرة، أرسل لها شغف كان خامدًا اهتاج على ذكرها لحديثه، لأول مرة يشعر بأنه شغوف ناحيتة امرأة إلى هذه الدرجة..


خرج صوته رخيم هادئ:


-كنت عايز أقولك إني بحبك.. ومحتاجلك معايا 


ابتلعت لعابها محركة أهدابها بكثرة تحاول الهرب بعينيها بعيدًا عنه، قالت بعد وقت جاهدت به أن يخرج صوتها متزنًا:


-كنت هتقول حاجه تانية 


أومأ برأسه يؤكد حديثها قائلًا بهدوء:


-خليها لأوانها


ساقها فضولها إلى ما الذي كان سيعترف به إليها وشعرت أنه كان خطير للغاية أم مهم أكثر من قوله أنه مغرم بها فقالت بنفاذ صبر:


-أوانها كان امبارح يا جبل.. قولي 


مرة أخرى يضغط على يدها يهتف برجاء وصوت حاني:


-لأول مرة هقولك علشان خاطري... علشان خاطري متمشيش ورا فضولك وأنا هقولك كل حاجه في الوقت المناسب 


تعلقت بعيناه ودق قلبها نابضًا بعنف وقوة عندما استشعرت شيء سيجعلها سعيدة تنال الفرصة الأخيرة المحبة إلى أن تعود امرأة معها رجل مثله وقالت متسائلة بلهفة:


-حاجه هتريح قلبي؟


أومأ برأسه مؤكدًا مبتسمًا بارهاق:


-هتريحه يا زينة 


ابتسمت باتساع بعدما قال كلمتين فقط ولكن أثر سمعهما لا مثيل له وكأن قلبها من الأساس ارتاح ومكث في موضعه داخل قفصها الصدري مطمئن تاركًا خوفه جانبًا بعد أن لمح لها بما تريد


ابتلع غصة وقفت بجوفه ونظر إليها بعمق خائف متردد:


-لو قولتلك اللي عايزة تعرفيه هتفضلي معايا


حركت رأسها للأمام تقول بصدق وهي حقًا بكل جوارحها تود أن تنال الفرصة لتبقى معه بعد أن دق قلبها إليه:


-أنا قررت والله خلاص إني هفضل معاك.. أنا عايزة ابقى معاك بأرادتي أنت لسه مشوفتش ده فيا؟


أجابها بهدوء:


-شوفته بس بكدب نفسي علشان عارفك 


اتسعت ابتسامتها وهي التي تضغط على يده تطمئن قلبه بعد أن فعل المثل معها وما كان منها إلا أن ترده إليه قائلة بحب:


-مش هسيبك 


رفع يده إلى وجنتها يحركها عليها بحنان ورفق، ينظر إلى سوداوية عينيها مباشرة تغوص معه في سحر عينيه الخضراء الذي لم تدركه إلا منذ فترة قصيرة، فلم تكن عيناه إلا شيء مخيف بالنسبة إليها..


أقترب منها على الفراش يتوق للمستها أكثر من هذا فأرجع يده للخلف لتتغلغل في خصلات شعرها تجذبها نحوه بهدوء وشغف..


هبطت بعينيها للأسفل عندما وجدت وجهه أمامها مباشرة لا يفصل بينهما شيء تستنشق أنفاسه اللاهثة وتشعر بمدى رغبته نحوها..


مال عليها ليقطف قبلة رقيقة، لأول مرة، لأول مرة بينهم بذلك الرضا والحب، لأول مرة تكون قبلة شغوفه مفعمه بالحيوية الممزوجه بالغرام الذي دفعهم للإقتراب أكثر والطمع في الأعمق من هذا 


فصل قبلته التي دامت لحظات طويلة وأنفاسه تتسارع بعنف ولهفة، جسده يحترق من اقترابها الذي بحيره وكأنها تريده ولا تريده، نظرتها الخجولة نحوه كأنها وردة لأول مرة تتفتح ويراها البستاني..


دفعها للخلف برفق وهدوء ليتبعها مقررًا أن بعد حرب خسر بها الكثير واستنزفت من دمائه يكافئ نفسه بلحظات أكثر رومانسية لأول مرة بينهم وهي واعية تعلم ما الذي تفعله..


يأخذها بين يديه ليشعرها أنها المرأة الأولى والأخيرة بحياته، ولتبادله وكأنه أول رجل ولج إلى حياتها وتعيش معه لأول مرة مشاعر كثيرة مختلفة تداهمها بقوة وشراسة وهي بين يديه.. وقد كان هذا صحيحًا فهي قد نسيت كل هذا عندما قررت أن تكون أم فقط ولم تهتاج هذه المشاعر مرة أخرى داخلها إلا على يده..


أنفاس لاهثة بينهما ومشاعر مفعمة بالحب والغرام مليئة بالرغبة واللذة اهتاجت بينهم متناثرة في الغرفة بعد لحظة فراق كانت فاصلة بحياتهم لتبقى هذه أولى ذكرى وأول رحلة يغوصان فيها سويًا بذلك الرضا وتلك الإرادة المميتة في التكملة للوصول إلى ذروة العشق لينال منها ما يجعله سعيد إلى الحد الكافي يبادلها ما ينسيها ما عاشته سابقًا إن كانت متذكرة..


عزيزي دعني أخبرك عن قصة رجل شرقي شامخ رأى امرأة حرة فعزم على ترويضها متخليًا عن كل مبادئه ليأتي بها دمية بين يده يحركها بين أصابعه كما يشاء، دعني أخبرك عن قصة قاتل، قتل كل مشاعره إلا حبه لها، محي كل ذكرى غرام سابقة من عقله ليحي ذكراها، عزيزي، دعني أخبرك عن قصة سارق، وعد أن يسرق قلبها إن كان بالحب أو بالقسوة ليوفي بوعده مفتخرًا فلم يكن حب أو قسوة فقد كان أعلى مراتب الحب ألا وهو الجنون..


أتى الدور على قصة امرأة بعد الاستماع إلى قصة رجل لا مثيل له، لا بالمظهر أو بالشخصية، لا بنبرة صوته الغليظة الرجولية.. والهادئة الحانية..


امرأة عاشت أهم سنوات عمرها في خديعة مُرة، حطمت فؤداها، رفضت الإقتراب ورفضت الحب والغرام، وقفت شرسة قوية، عافرت للوصول إلى المبتغى مدافعة عن كل ما يخصها لتقف أمام ذئب بشري لم تطول في مجابهتها له حيث أنها باتت بين يديه.. في يوم ليلة!..


امرأة مع كل حقيقة تقع أمامها تتغير ناحيته فتراه ليس ذئب بل بشر، ثم رجل، ثم طفل يبكي بين زوايا أحضانها متخفي من دمار قلبه الشامل، تاركًا قسوة عقله بعيدًا عنه مجردًا من أفكاره معها لترى نفسها كوالدته، يتوجب عليها أن تعود به إلى الطريق الصحيح.. فلم يكن من بعدها إلا رجل عاقل تسير معه في دروب الحب، على الرغم من ذلك كانت متأكدة أن هناك شيء لم يكتمل بعد.. خيط ناقص وحقيقة مخفية..


❈-❈-❈


أصبح الوضع أكثر هدوءا بعد فترة، وتم السيطرة على كل شيء، كثف الحراسة في كافة أنحاء الجزيرة، مداخلها ومخارجها، لم يعطي الأمان لأي شخص يخون الجميع عدا من فدوه بأرواحهم وعدا أهل الجزيرة..


كل ما تم تخريبة أثناء تلك الحرب الدامية قام بإصلاحه، إلى أن عاد الوضع طبيعي كما السابق وأفضل ولكن إلى الآن عقله مشغول بذلك "طاهر" الذي لم ينشغل به يومًا لأنه كان على علم بآخر ما يستطيع فعله إلى أن خيب ظنه بمساعدة الخائن "جلال".. الآن لا يستطيع أن يصل إلى طريقه بعدما كان يراه نكره لا يريد العثور عليه..


علم الجميع بخبر وفاة "جلال" ولم يحزن عليه أحد، وكان من المفترض أن لا يحزن أحد إلا "فرح" ولكنها لم يرف لها جفن، لم تحزن عليه ولم تتذكره من الأساس، لم تهبط من عينيها دمعة واحدة بعدما استفاقت مما فعلته بنفسها وبعائلتها على يده ذلك الحقير الخائن لم ينل إلا ما يستحقه..


شعرت أنه هو من دفعها لفعل كل ذلك وهي الغبية التي كانت متعطشة لعلاقه تقهر قلب "عاصم" بها ولم تقهر قلب أحد سواها..


وقفت "إسراء" في حديقة القصر تتحدث مع صديقتها عبر الهاتف وكانت هذه أول مرة تهبط إلى الأسفل بعد أن أذنت لها شقيقتها، أغلقت الهاتف بعد وقت وهو يقف على بعد قريب منها يتابعها بعيناي متعطشة مشتاقة إلى أبعد حد..


أحرقه صدره بتلك اللهفة الغريبة وأكلت النيران ما بقي منه شوقًا للقرب منها والنظر داخل عينيها الساحرة، وجدها تعود ذاهبة إلى القصر فركض بخطوات واسعة ليجذبها بعيدًا قليلًا يقف أمامها بنظرات ملهوفة غرامية..


خرج صوته الأجش قائلًا بحدة يتخللها الحب واشتياقه هو الذي يدفعه نحوها:


-ممكن أعرف بتتهربي مني ليه


نظرت إلى ذراعها القابض عليه بين يده بشدة فعادت بعينيها إليها متصنعة الحدة التي لا تليق بها تهتف:


-أبعد لو سمحت 


ترك يدها وكرر مستغربًا مسلطًا عينيه عليها باستغراب:


-لو سمحت!


وضعت يدها الإثنين أمام صدرها ووقفت تنظر إلى البعيد فلا تستطيع الصمود أمام نظرة عينيه التي تحتويها بكل حب:


-عايز ايه يا عاصم 


تحرك بجسده قليلًا ليقف أمام وجهها الذي أشاحته بعيدًا عنه قائلًا بصدق مضيقًا عينيه عليها قاطبًا جبينه:


-عايزك، قسمًا بالله ما عايز غيرك 


داهمت عيناه بقوة عينيها الزرقاء، تخلل الضعف نظرتها واهتز بدنها أثر نظرته ولكنها حاولت التماسك قائلة:


-أنت مصدق اللي بتقوله 


ضيق ما بين حاجبيه أكثر وعاد للخلف ينظر إليها بقوة مستغربًا حديثها الذي لم يكن هكذا في السابق بل كانت تأمن له بكل حديثه وأيضًا اعترفت بحبها له:


-هو أنتي مكدباني 


أومأت برأسها قائلة بحدة:


-أيوه 


أشار بيده في الهواء متسائلًا عن السبب ثم أشار إلى نفسه راجيًا إياها بلهفة وعشقه الكبير لها الذي يتخلل روحه يدفعه نحوها رغمًا عنه:


-ليه طيب.. قوليلي ايه يثبتلك صدق كلامي وهعمله فورًا 


أبصرته بقوة ووقفت ثابتة فباغتته بعنف:


-قولي أنت بتشتغل ايه 


قال بهدوء مجيبًا إياها:


-بشتغل مع جبل 


حركت زاوية شفتيها بسخرية ناظرة إليه بتهكم وعادت السؤال مرة أخرى:


-بتشتغل مع جبل ايه 


نظر إليها باستغراب وما كاد إلا يتحدث لكنها قاطعته قائلة بخيبة أمل مترقرقة الدموع في عينيها:


-بتشتغل في السـ ـلاح؟ بتـ ـقتل الناس 


صعق عندما استمع إلى حديثها، وقف ينظر إليها يتابعها بحدة وغرابة، كيف علمت ذلك؟ من تفوه لها بهذا الحديث، أقترب منها يقبض على يدها متسائلًا بحدة:


-مين قالك الكلام ده 


جذبت يدها منه بعنف عندما شعرت بتغيره المفاجئ نحوها وصاحت أمامه:


-مش مهم مين قالي المهم إني عرفت


رأى أن قطته أصبح لها أظافر تخربش بها ولم تجد إلا هو لتجرب عليه مخالبها، زفر حانقًا وقال:


-أنتي فاهمه غلط 


سألته بجدية منتظرة حقا أن تأخذ منه إجابة تجعلها تلقي بها في وجه شقيقتها وتلقي حديثها عرض الحائط:


-طيب ايه الصح 


توتر وهو ينظر بعيدًا عنها يحرك عينيه في الفراغ يردف بجدية:


-أنا.. أنا مش هقدر أقولك حاجه بس قسمًا بالله أنا بحبك 


رقت ملامحها، عادت تلك الوديعة الرقيقة، اعتدلت في وقفتها وأدلت إليه باعترافها بنبرة خافتة حزينة:


-وأنا كمان بحبك يا عاصم


وجدته يبتسم وتتسع ابتسامته وقعت عليه الكلمات لتسكر بدنه ولكنها لم تجعله يدلف إلى تلك الحالة بل صاحت بجدية:


-بس مستحيل أكمل مع واحد شغلته أنه يقـ ـتل الناس


أشار إلى نفسه ينفي حديثها بضراوة:


-أنا مش بقـ ـتل حد صدقيني.. فهميني عرفتي الكلام ده منين 


أجابته بهدوء:


-من زينة أختي 


استرسلت في الحديث مكملة:


-قالتلي إنك أنت وجبل شغالين كده مع بعض 


وقف صامتًا للحظات بعدما علم كيف أتاها ذلك الخبر، أتى تفكيره صحيح أنها لن توافق عليه ليكون شريك حياة شقيقتها ولكنه والله يقتلها ويأخذها رغمًا عن الجميع.. أبعد هذه الأفكار سريعًا عن عقله عندما وجدها تنظر إليه باستغراب تتابع ملامحه المتغيرة..


سألها بنبرة حانية:


-أنتي بتثقي فيا صح؟


أومأت برأسها قائلة:


-أيوه بثق فيك 


أكمل بجدية بعدما لم يجد شيء يقوله لها كي تفهم أنه ليس ذلك الشخص البشع، حتى وإن كان يكذب ولكنه لن يتركها تذهب من بين يديه بسبب أشياء كهذه:


-طيب ممكن تديني فرصة أفهمك كل حاجه.. بس مش دلوقتي ممكن؟ 


نظر إليها برجاء فأومأت إليه بضعف بعد أن رق قلبها ناحيته فلا تريد أن يحترق قلبها أكثر من ذلك بعد أن اعتادت على وجوده معها في كل وقت..


ستعطيه تلك الفرصة التي يطلبها كي تعطي نفسها هي الأخرى وتعطي علاقتهم معًا، لا تريدها أن تخرب بهذه الطريقة أن كان عنده تبرير فلتنتظر لتأخذه منه ولن تتركه هو..


سألها بلهفة:


-هتكلميني؟ 


ردت قائلة وهي تتجه بعينيها إلى البعيد:


-هحاول 


ابتسم وهو يراها تتهرب منه هاتفًا بصوت أجش رخيم:


-هستناكي تكلميني.. وحشتيني 


كانت هذه البريئة حالة خاصة، فريدة من نوعها، لا تفقه شيء ولم تتصدى لمدفع سابقًا، هناك من يدير حياتها يسار نعم يمين مُجاب، رقيقة كالفراشة وديعة كالقطة، محبة كعصفور طائر يغرد بسلام.. عينيها بحر أو سماء أما تغوص أو تغوص، ملامحها تناديك إلى الأعمق تجذبك بسحر خاص بها يفتنك لتصبح عاشق ولهان.. فتهيم بها عشقًا دون أن تدري ما هي مميزاتها!..


تابعها بعيناه الحادة التي تلين لها فقط، شفتي غليطة طيلة الوقت لا يخرج منها الحديث إلا على هيئة صراخ حاد يتبدل حالها عند رؤيتها فيتحول الحديث إلى كلمات خافتة حانية تخرج بهدوء ورفق تربت على مسامعها بحنو، يقف أمامها بجسده الصلب فارع الطول الذي يكاد يبتلعها في كل مرة تقف أمامه ولكنه لا يلين ولا ينحني إلا لها كي تشعر أنه يتحول إلى ما تحب في الوقت الذي تحب لتبتادله ما تحب..


❈-❈-❈


في حديقة القصر، يجلس "جبل" على مقعد وبجواره "عاصم"، شاب فارع الطول وعريض المنكبين يبدو في الثلاثون من عمره، يقف أمامه كأنه أمام القاضي ينتظر حكمه، بجواره رجلان تخطوا سن الخمسون، فتاة صغيرة لم تتخطى الخامسة عشر عامًا جالسة بجوار سيدة كبيرة..


رفع "جبل" بصره إلى الشاب لينظر إليه بحدة قائلًا بغلظة وصوت خشن:


-أنت عارف قوانين الجزيرة.. البنت قبل ما تتم العشرين سنة ملهاش جواز، اللي عملته ده تمرد؟


رفع عيناه السوداء لينظر إليه بملامحه الحادة ليس افتعال منه بل كانت هي هكذا على طبيعتها يًشير عليها بيده قائلًا بصوت هادئ:


-يا جبل بيه هي عفيه قدامك أهي.. عندها خمستاشر سنه وأبوها وأهلها موافقين ايه المانع 


وضع "جبل" يده أسفل ذقنه في تلك الحركة المعتادة له ونظر إليه بسخرية ثم سأله متهكمًا ضاربًا حديثه عرض الحائط:


-أنت عندك كام سنة 


أجابه وهو يطرق رأسه إلى الأسفل خجلًا من نفسه ولكنه مازال يعارض:


-خمسة وتلاتين 


أعاد سؤاله الخاص بها وهو ينظر إليه:


-وهي كام 


أجابه ومازال ينظر إلى الأسفل بضجر وانزعاج:


-خمستاشر


استنكر أجابته على أسئلته فهناك فرق شاسع بينهم، عشرون عام؟ كيف هو يتخطاهم وهيبط بتفكيره إليها أو يتحكم بعنفوان جسده وضخامته وكيف هي تصعد بتفكيرها إليه وتتعامل معه:


-يعني لو كنت اتجوزت بدري كنت خلفت قدها.. مش عيب عليك لما تتجوز واحده في سن ولادك، مش فاهم أنا.. فهماك إزاي؟ وبتتعامل مع الهلف اللي قدامي ده إزاي


أشار إليها مرة أخرى يرفع رأسه إليه متأكدًا من حديثه الذي يقوله:


-يا جبل بيه ماهي قدامك أهي في أحسن حال.. اسألها


نظر إليه "جبل" بسخرية يُجيب على حديثه بسخط:


-لأ ماهو باين عليها.. بس أنا وصلني أنها كانت رافضة هي وأمها الجوازة.. دي طفلة يا بجم 


لكنه أومأ إليه موافقًا على حديثه قبل أن يستمع رده ليتجه إليها يسألها وعيناه معلقة على طفلة صغيرة محرج من نفسه لأنها تخيلها زوجة!:


-قوليلي يا شاطرة.. ايه اللي حصل


كانت تخفض رأسها إلى الأرضية وهي تستمع إلى حديثهم، عندما وجه الحديث إليها رفعت رأسها تنظر إليه محاولة انتهاز الفرصة للهرب من واقع مرير تعيش به مع وحش لا يرحم وعائلة لا تغفر، طلبات لا تنتهي وألم لا يزول.. وقع كبيرهم أمامها كالمنقذ الوحيد فلن تجعله يفلت من يدها..


حاولت تجميل صورة والدها وهي تضغط على يدها تقول بتوتر وقلق خوفًا من أن يصيبه مكروه على يده:


-أبويا مكنش عارف يصرف علينا علشان إحنا كتير، أنا وأخواتي خمسه والأكبر مني صبيان، طلعني من المدرسة وجوزني علشان الحمل يخف عليه 


سألها بجدية مضيقًا عينيه عليها:


-أنتي كنتي موافقة 


عقبت بهدوء وهي تبتعد برأسها إلى والدها الذي كان ينظر إليها بأسى:


-لأ أنا قولت لأبويا أنا كمان هشتغل بس هو موافقش


عاد يسألها وهو يُشير إلى زوجها:


-أنتي مرتاحه مع جوزك 


أجابته سريعًا بالنفي دون التفكير حتى:


-لأ 


نظر إليه بحدة وعنف وقد كذب حديثه الذي كان واثق منه فأخفض الآخر رأسه يبتعد بعيناه عنه، فعاد جبل إليها مرة أخرى يسألها:


-ليه 


على الرغم من أنها فتاة صغيرة لا تفقه شيء إلا أن تلك المدة التي قضتها معه جعلتها صبية كبيرة لاقت بها قدر كبير من الألم الذي اوجع قلبها وبدنها بالكامل وقابلت كثير من الأمور التي لم تستطع التعامل معها فقابلها بالضرب المبرح:


-أما بيطلب مني حاجه معرفش أعملها بيضربني، وأمه كمان بتضربني وبيخليني أعمل حاجات عفشه بس أمي قالتلي أنه علشان جوزي عادي 


نظر إلى زوجها بغلظة وقسوة شديدة، طبيعي للغاية أن يكون هناك أشياء لا تفقها كيف وهي طفلة! ولما تتقابل بالضرب منه ومن والدته؟ سيذوق ما ذوقها إياه ولكن صبرًا..


نظر إلى والدها قائلًا بجدية:


-أنت علشان مش عارف تصرف عليهم جوزتها؟


كان الرجل يخرج من عيناه نظرات الحزن والألم، يقف يرتجف أمامه خوفًا مما سيفعله به لأنه كان على علم بتلك القوانين وقد كسرها ظنًا منه أن "جبل" لن يصله الخبر.. قال بخفوت وضعف:


-يا جبل بيه جواز البنات سترة 


تحدث "عاصم" ينظر إليه باستهزاء بعدما استنكر حديثه ولكن في نفس الوقت شعر بخوفه وقلة حيلته:


-مش لما تبقى من البنات ياعم الحج، دي عيلة صغيرة قد بناته 


ترقرقت الدموع بعيناه وهو يقول مبررًا:


-يابني بتي واعية وعارفه كل حاجه وعفيه


سأله "عاصم" بجدية مضيقًا عيناه عليه ولم يقتنع بحديثه:


-يعني أنا يا حج لما اتجوز واحدة اتجوزها قد دي 


أومأ إليه الرجل برأسه بالايجاب قائلًا بصوتٍ جاد:


-اللي ترتاحله وتريده أنت


هب "جبل" واقفًا صارخًا به بعنف وقسوة يُشير إليه بيده بهمجية وقد فارت دمائه بسبب ذلك الحديث الأحمق:


-واللي هي ترتاحله ايه؟ مش موجود في حساباتك 


حاول والدها التحدث وهو يُشير إليه بيده ليتحدث:


-يا جبل بيه اسمعني 


نظر إليه "جبل" بجدية وصرامة وتحرك أمامه ليقف شامخًا قائلًا بفتور:


-أنا عارف إنك مش ملاحق تصرف على ولادك بسبب ابنك المريض بس أنا مقصرتش مع حد فيكم ولما حد بيقصدني مش برجعه خايب ده غير إن كل واحد فيكم بيوصله اللي هو عايزة وزيادة 


أخفض الرجل رأسه إلى الأرضية خجلًا بعد حديثه الصادق، لم يقوى على الرد فصمت بضعف وقلة حيلة ليكمل جبل وهو يستدير ينظر إلى زوجها:


-انتهى الكلام، أظن قوانين جبل العامري محدش بيكسرها ولا يتعدى عليها في الجزيرة واللي بيعمل كده بيبقى عارف أنه ليه عقاب 


أكمل حديثه مسترسلًا بقوة وصوت عالي حاد: 


-الجزيرة ليها قوانين هنمشي عليها العمر كله.. جواز البنات قبل العشرين مش هيحصل طول منا موجود وضيف عليهم لو أكبر منها بعشر سنين ويوم مش هتتجوزه 


سخر منه وهو يُشير إليه من أسفل قدميه إلى أعلى رأسه يقول بتهكم وسخط، منزعجُا مما فعله ذلك الغبي:


-بص لنفسك وأفهم.. وأنت عندك عشرين سنة كانت هي لسه بتتولد.. راجل إزاي أنت تفهمك وتوصل لتفكيرك إزاي! تحزن لحزنك وتفرح لفرحك إزاي دي آخرها تجيب ليها فشار وتشغلها فيلم كرتون 


تقدم والده للأمام قليلًا خوفًا على ولده ليقول سريعًا متسائلًا بارتجاف:


-اللي تؤمر بيه يا جبل بيه 


أشار إلى الشاب بجدية وقسوة يخرج صوته بنبرة صارمة لا نقاش بعدها:


-هيتم الطلاق النهاردة وتبقى تتجوز بعدين واحدة تناسبك وهي تستنى لما تتم السن أحسن ما تموت على ايدك 


أكمل ناظرًا إليهم يحرك عينيه عليهما هما الاثنين تخرج الكلمات منه بتهديد واضح:


-وبعد ما تعملوا كده.. ترجعوا هنا تاني، مش هبعت معاكم حد ولا هغصبكم على حاجه أنا عارفه أنك أنت وهو هترجعوا وإلا مش هيحصل كويس 


صرخ بشراسة عندما رأى كل منهما ينظر إلى الأرضية دون إجابة:


-مفهوم 


أجاب الجميع في صوت واحد:


-مفهوم يا جبل بيه 


أبتعد عنهم يفسح إليهم الطريق مردفًا بصوت جاد واثق:


-اللي يكسر قوانين جزيرة العامري.. لازم يتحاسب


أشار إليهم بالذهاب فتقدم أحد الحراس يصتحبهم للخارج، ذهب الرجال وخلفهم الفتاة الصغيرة المتشبثه في يد والدتها، رأت عيناه تلك الفرحة التي ظهرت فجأة على وجهها وهي تقف للرحيل، استشعر مدى حزنها وصمتها المتألم أثناء جلستها ورأى السعادة الخالصة وهي تنظر إلى زوجها نظرة غريبة لم يفهم معناها ولم تمر عليه سابقًا، ولكن يبدو أنه قام بفعل شيء رائع أسعدها إلى الحد الذي جعلها وهي راحلة تستدير تبصره بابتسامة ممتنة!..


كيف لفتاة في الخامسة عشر من عمرها لم تذهب حتى إلى سن المراهقة تكون زوجة لرجل في الخامس والثلاثون من عمره؟ كيف لأهل أن يوافقون على فعل ذلك؟ كيف يتخيل الرجل أنه سيكون سعيد مع فتاة بعمر ابنته! تفهم ما يحزنه وما يسعده؟ تفهم ما يريده وما يبغاه؟ تفهم ما يريده منها كرجل؟ أي عقل وأي دين هذا!..


كانت زينة تقف في الأعلى ككل مرة يجلس هو بين الناس هنا يحكم بالعدل بينهم، تنظر إليه بحب لا تدري متى أصاب قلبها ناحيته، تتابع حركاته بتمعن تحفظ كل ما يصدر عنه وهو حكيم محب، عاقل ينصف الضعيف ويرد للمظلوم حقه.. 


والله إلى الآن تحتار في تكوينه، مشتت ذهنها بين ذاك الجبل الذي ارغمها على كل شيء وهذا الجبل الذي يقف أمامها ولكن بعد أن طمئن قلبها بأنه سيعترف بما تريد أن تستمع إليه، استكانت وتركت لقلبها العنان في التحليق معه في سماء حبه إليها..


والحقيقة الصادمة أنه في الأيام المنصرمة كان حقًا مُحب، رقيق في حديثه ومشاعره، حنون في تصرفاته نحوها يغير كل حرف كُتب عنه داخل عقلها وقد كان ما أراده.. 


ما علمته عن زوجها الراحل ساعدها في أن تنزع تلك الأصفاد الحديدية التي أحاطت بها قلبها ليعبر عن طريق ممر اسمه الحب يدلف بكل أريحية تتقابل معه في محطة الغرام تاركة نفسها إليه.. متعمقة معه بكل جوارحها مستغربة كيف للهوى أن يجعل مشاعرها جياشة في كل لحظة تراه لها وكأنها أول مرة لها..


لكن هذه المرة كانت مختلفة للغاية، عبرت معه كل طرق المشاعر إن كانت قسوة أو لين كره أو حب، كل شعور وعكسه لاذت به بجواره فأصبح قربها منه فريد من نوعه، وكل لحظة تمر بينهما تكن غريبة كليًا عليها تشعر بها لأول مرة..


دلفت من الشرفة لتنظر إليه بعدما ولج إلى الغرفة، تقدم منها مبتسمًا ليقف أمامها محيطًا إياها بذراعيه يقربها منه قائلًا بشغف:


-وحشتيني 


إلى الآن لم تعترف له أنها تحبه بل اعترفت داخلها بعد أن شعرت بما يقدمه إليها من مشاعر صادقة في الأيام المنصرمة، وقال لها أيضًا أنه ليس الرجل الذي يهتف كل لحظة والأخرى بكلمات الغرام بل هو جاد للغاية ولا يليق به هذا.. لكنه يتغير دون الشعور، ما يدفعه لفعل ذلك شيء عفوي للغاية ليخرج منه قليل من الكلمات تعبر عن واحد بالمئة مما يشعر به نحوها..


دفعته ببطء وهدوء للخلف تبتعد عنه قائلة بابتسامة تفصله عما كان يريد:


-هروح الحمام وجاية 


شعر بالضجر وهو يبتعد عنها ناظرًا إليها بمكر ومشاكسة:


-اتفضلي.. كده كده جاية 


ابتسمت بخجل وسارت إلى المرحاض فتقدم من الشرفة ليغلق بابها ثم عاد جالسًا في مكانها على الفراش رافعًا قدمه اليمنى على اليسرى ينزع حذائه عنه، ثم فعل المثل بالأخرى ومال للخلف يدفع بالوسادة بعيد كي ينام على ظهره متسطحًا منتظرًا إياها..


حرك رأسه على الفراش ليرى علبة دواء كانت أسفل الوسادة عندما أبعدها ظهرت أمامه، عاد جالسًا مرة أخرى متصلب الجسد يأخذ العلبة بين يديه ينظر إليها بصدمة تامة، اشتعلت النيران داخل صدره الذي أخذ يتنفس دون انتظام ونظرته على ما بين يديه قوية شرسة يخرج منها الشرار..


استمع إليها تغلق باب المرحاض فوقف مستديرًا لها ينظر إليها بحدة وغلظة، استغربت نظرته نحوها فأرسلت له علامات الاستفهام وهي تتقدم منه ليرفع أمامها ما بين يده يسألها بقسوة ونبرة خشنة:


-الحبوب دي بتعمل ايه عندك


تهكم ساخرًا يصيبها بعينيه المخيفة:


-مش حبوب منع الحمل بردو 


وقفت مكانها عندما رفعه أمامها، لم تفعل شيء خاطئ ولكن نظرته نحوها وذلك الإنذار الذي دوى بأذنها جعل الرجفة تلقي بنفسها عليها لتصبح في سائر جسدها تبادلة النظرات ولكن غير خاصته تمامًا بل كانت نظرات مدهوشة خائفة، متوترة من القادم عليها منه بعدما علم بأمر ما تخفيه عنه..


❈-❈-❈


"يُتبع"


الفصل التاسع عشر

"دقت طبول الحرب والحب"

ابتلعت غصة تشكلت بحلقها وهي تناظر عيناه بقوة لم تستطيع أن تُجيب عليه وهو ينظر إليها فقط فاعتقدت إنها عادت معه مرةً أخرى إلى بداية الطريق بعدما وصلوا سويًا إلى نقطة المنتصف، تقدم منها عندما وجدها تقف تنظر إليه بهذه الطريقة دون أن تنبث بكلمةٍ حتى!


أقترب من موضعها ليقف أمامها رافعًا الأقراص أمام وجهها هاتفًا بقوة وينظر إليها بتمعن شديد: 


-أنتي بتاخدي الحبوب دي؟


ازدرد ريقها بصعوبة تبلل شفتيها بطرف لسانها تنظر إليه بقوة ثم أردفت بإرتباك وإيماءة: 


-أيوة


ضيق عينيه مُردفًا بتساؤل وهو يقترب أكثر:


-ليه؟


عادت للخلف بتوتر ترتجف بشدة من اقترابه منها بهذه الطريقة ونظرة عيناه المحدقة بها بشدة لم تفهم معناها لتقول بثباتٍ مصطنع:


-كده يا جبل.. ده قراري


نهرها بحدة غير مُصدقًا ما وقع على مسامعه من قولها التي أعطاه غير أهمية بحياتها: 


-لأ مش قرارك.. أنا جوزك لو هتخلفي فـ زي ما أنتي هتبقي الأم أنا الأب ولا هو اللى هيجي جاي بالاشعار


استنكرت حديثه باشمئزاز فتحدثت بإمتعاضٍ:


-ايه الهبل اللي بتقوله ده 


قطب جبينه بتساؤل وعاد يقف امامها مُشيرًا بسبابته نحو صدره ومازالت الأقراص بيديه:


-هبل؟ أنا كلامي هبل من أي إتجاه إن شاءلله 


أكمل مسترسلًا بجدية: 


-مش أنا إللي بشاركك اللي بيحصل ولو خلفتي طفل مني هبقى أنا أبوه؟ 


اجفلت بعينيها ثم نظرت إليه مُستشعرة حدته في الحديث كأنه يعنفها على فعلتها الشنيعة فتحدثت بنبرة هادئة بعض الشيء:


-مش قصدي كده 


سألها مضيقًا عينيه:


-اومال قصدك إيه؟ 


تنهدت مبتعدة عنه بضيق وأجابت:


-جبل أنا قررت إني مش هخلف منك على الأقل لفترة معينة 


جذبها من رسغها بقوة لتتلاقي الأعيُن قائلًا بإحتدام: 


-القرار ده مش بتاعك لوحدك علشان تاخديه، أنا لازم أوافق عليه أو موافقش.. طالما أنتي مراتي ووافقتي إنك تفضلي معايا وبادلتيني نفس الشعور يبقى من حقي أعرف وأوافق أو أرفض 


سألته بلا مُبالاة:


-وأنت هترفض ليه؟ 


ترك يدها يرمقها بحدة لحديثها اللاذع: 


-علشان من حقي يبقالي طفل زي ما أنتي ليكي الحق إنك أم


وقفت معتدلة تناظرهُ بذهول بعد حديثه بإستنكار بما تفوه به مستطردة بطريقة هجومية:


-أنت معتبر وعد بنتي لوحدي؟ 


بدى كَ رجلٌ عاقل، مثقف وحكيم لأول ومرة تراه هكذا، كأنه مستكمل مسيرته الدراسية حقًا! يقف يتحدث بهدوء على الرغم من أنها اعتقدت أن هناك حرب ستنشب بينهم تتابعه فتحدث بإيجاز: 


-لأ أنا مقولتش كده.. وعد بنتي أنا كمان بس حتى اللي مخلف واحد بيبقى عايز التاني، فملهاش علاقة بعتبرها ولا لأ ولما تخلفي ليا مرة هبقى عايز تاني 


بترت حديثه قائلة بجدية لإنهاء هذا النقاش الحاد: 


-أنا مش هخلف دلوقتي يا جبل 


جذبها مرة أخرى واحتدت نبرته أكثر وهو يراها لا تدعمه بقراره بتاتًا، بل تريد أن تفعل ما ترغب به دون اللجوء له:


-محتاج أفهم ليه؟. مش خلاص اتنازلتي عن خروجك من الجزيرة وطلبتي ده بنفسك وطلبتي تكملي معايا ولا هو جواز لحين إشعار آخر؟ 


حررت يدها من قبضته القوية بصعوبة قائلة بضجر: 


-جبل أنت مش فاهمني ارجوك أفهم 


زفر الهواء من رئتيه محاولًا الهدوء قليلًا قبل أن تفتك بها، يحمل العديد والعديد بطياته كي يكون على هذا الوضع الهادئ فلا يستطيع فعلها بسهولة بالأخص أنها راوغت معه في الحديث: 


-فهميني 


تنهدت بعمق وهدوء تبادله ما يفعله ولكنها تدرك جيدًا بإنها على حق والقرار خاص بها وحدها فقالت بتوجس:


-أنا لحد دلوقتي بردو معرفش أنت بتعمل ايه؟.. قولتلي آه هتريحني لكن لسه معرفش وأنا مش هربط نفسي بطفل منك إلا لو اطمنت فعلًا وعرفت الحقيقة فين 


استنكر كلمة واحدة خرجت من شفتيها ووقعت على مسامعه لتكن كالنشاز فصاح بها:


-تربطي نفسك؟ لأ أنتي خلاص بقيتي ملكي يا زينة مش محتاجه عيل يربطك بيا


اغتاظت من بروده لتصيح بعصبية فارطة تشير بيدها نحوه: 


-أنا مش ملك حد .. أنا حرة 


صاح مقتربًا بهمجية حتى بات الحديث بينهم يهدئ تارةٍ ويشتعل تارةٍ أخرى:


-لأ مش حرة 


عادت للخلف أكثر لتستند إلى الحائط بظهرها فاقترب هو الأخر يحاوطها بجسده يناظر وجهها وكافة ملامحها قائلا بعمق:


-أنتي مراتي.. ملكي وكل حاجه فيكي ملكي أفكارك بقى تصرفاتك كلامك جسمك شكلك.. كل حاجه ملكي ومش هتنازل عنها بسهولة... إلا لو خونتيني


دفعته كي يتزحزح قليلًا لتستطيع النظر إليه ترفع وجهها إليه باستغراب شديد تسألت:


-خونتك! ايه اللي بتقوله ده؟ 


أقترب مرة أخرى قائلًا بإزدراء: 


-أنا مقصدش الخيانة اللي جت في دماغك.. اللي تتجوز جبل العامري متعرفش تشوف راجل تاني غيره.. بس الخيانة أنواع


صرخت حينما ضغط عليها بذلك الحديث الشرس، ترك كل شيء وتحدث في شيء آخر من المستحيل فعله! 


-أنا قولتلك قبل كده أنا مش غدارة ولا بتاعت خيانة


تابعها بشك مضيقًا عينيه: 


-أنتي اتعصبتي ليه.. إحنا بنتكلم 


تفوهت بجدية ضارية:


-علشان كلامك وحش.. وبعدين نرجع لموضوعنا أنا مش هخلف منك غير لما أعرف عنك كل حاجة


أومأ برأسه مؤكدًا حديثها الغير لائق: 


-حقك.. بس أنا مش موافق وهتوقفي الحبوب دي يا زينة.. سمعتي؟ 


سألته بقوة مستنكرة:


-أنا ايه يجبرني وبعدين ما أنت بتقول حقك أهو


تنهد بصوت مرتفع وهو حقًا لا يستطيع التمهُل أكثر فخرج صوته بنفاذٍ صبر:


-اللي يجبرك إني جوزك وليا حق الاختيار زيك بالظبط وأنتي اختارتي ونفذتي لوحدك وأنا جه دوري..


تنهد مرة أخرى وهو يراها تنظر إليه بعصبية وغضب لا يروق لها حديثه فتحدث بجدية ينبهها بهدوء:


-صدقيني أنا مش كده.. أنا بحاول اتغير علشانك، فبلاش أنتي يا زينة واسمعي الكلام


كرمشت ملامح وجهها وظهر الأسى عليها لتقول بقلق وانزعاج من ضغطه عليها بهذه الطريقة:


-صدقني أنت أنا مش هقدر أخاطر بالطريقة دي.. جبل أنا حياتي معاك مش مستقرة أصلًا كفاية وعد أنا حاطه أيدي على قلبي وهي معايا هنا 


رد بجدية متفهم حديثها:


-أنا أقدر احميكم كويس واظن إني عملت كده


حاولت أن تستعطفه ناحيتها وهي تقول بنبرة راجية:


-علشان خاطري أسمع كلامي.. 


اعتدل بوقفه وقال بصوت جاد لا يحتمل النقاش وبصرامة واضحة:


-ممنوع تاخدي من الحبوب دي تاني.. جبتيها منين أصلًا


أجابته بضجر واستياء:


-من الصيدلية هيكون منين يعني


سألها مضيقًا عينيه عليها:


-معاكي غيره؟


أجابته بهدوء وصدق:


-لأ


ابتسم ساخرًا تحدث بخبث:


-كويس.. لو عرفتي تجبيه تاني هخليكي تاخدي منه 


نظرت إليه بضيق شديد قائله بانزعاج:


-أنت مستفز 


أجابها ضاحكًا بمكر يشاكسها:


-عارف


دفعها للخلف لتستند إلى الحائط مرة أخرى يقترب منها ينحني عليها بجسده يحاوط خصرها بيده الاثنين ضاغطًا عليه بقوة يقربها منه يقطف قبلة عنيفة حادة من شفتيها الوردية، يضغط عليها بأسنانه الحادة ينفث عن غضبه منها الذي كبته داخله وحاول أن يتحدث معها بالهدوء واللين ولكن الأمر لا يحتمل.. 


رفعت يدها إلى صدره تحاول دفعه إلى الخلف عندما ألمتها شفتيها بقوة لا تستطيع الإبتعاد عنه لا إلى الخلف أو الأمام يحكم قبضته عليها بضراوة لتآن بين شفتيه بألم فخفف من حدة معها يقبلها بهدوء وتروي يقلل من حدة قبضته على خصرها ينعم بتلك اللذة التي تجعل مشاعره هوجاء بطريقة لا توصف...


اشتعلت النيران داخله يود القرب منها في الحال مطالبًا بالمزيد فجذبها من خصرها ناحيته يتجه بها نحو الفراش وهو لا يستطيع أن يفصل القبلة التي جعلته لا يشعر بشيء إلا مذاقها الرائع ينل من عسلها ذو الطعم الفاخر يستنشق أنفاسها اللاهثة بحب..


دفعها على الفراش وعندما جلست فاصلًا القبلة يقترب منها دفعته هي بقوة تمسح على شفتيها لاهثة بعنف تحاول ضبط أنفاسها التي بقيت داخلها بسبب قبلته الطويلة التي أدمت شفتيها...


نظرت إليه بقوة وضجر على الرغم من أن حالها ليس أفضل منه تطلب المزيد لتنعم بأفضل شعور جواره.. أردفت بحدة غير متناسية موضوعهما الأساسي:


-جبل ده مش نقاش أنت محتاج تفهمني


جلس جوارها محاولًا دفعها للخلف يتحدث بصوت أجش ومشاعره مسيطرة عليه:


-وأنتي كمان محتاجه تفهميني يا غزال.. صدقيني أنا هقدر احميكم وأنتي عارفه كده كويس بس بتعملي حجه، وكمان متقلقيش مني أنا هريحك 


أقترب أكثر منها يجذب وجهها إليه بكف العريض ناظرًا إليها برجاء وعيناه تطالب منها الخضوع إليه والموافقة دون صراخ وحدة بينهم ليهتف برفق ممزوج بعشقها:


-أنا نفسي من زمان أخلف، بس بقيت ملهوف عليه أكتر منك أنتي.. متقفيش في وش الحاجه اللي هتقربني منك أكتر 


أومأت إليه برأسها بهدوء بعدما شعرت بحاجته القوة إليها وإلى قطعة منها تنظر إلى عيناه بهدوء فأرسل إليها مراسيل الغرام والهوى، أقترب أكثر عندما وجدها تومأ بالإيجاب مبتسمًا شاعرًا بالرضا التام ليدفعها على الفراش يقترب منها قائلًا بخشونة:


-زينة.. أنا بحاول ابقى حد تاني معاكي، بحاول أمسح من ذاكرتك اللي عملته فيكي.. ساعديني يا زينة أنا بحبك


أكمل بترجي لا يدري كيف وصل إليه بهذه السهولة:


-أنا آه حبيتك علشان أنتي حرة واللي خلاني عايزك إنك معارضة ومش خاضعة بس أنا أحب تبقي خاضعة ليا أنا بس.. بلاش تقفي قصادي فهماني يا غزال؟


أومأت إليه بهدوء ورفق، تذكرت أنه قال لها سابقًا أنه حقًا يحب الخاضعة ولا يحب المتسلطة الواثقة تلك القوية التي أمامه كما يقول عنها القادرة.. ولكنها أيضًا لا تحب أن ترى نفسها تلك الضعيفة بين يديه.. تريد دومًا أن تكون القوية الحرة التي لا تروض وهو يريد أن يبدلها إلى أخرى تروق له هو فقط حتى وإن كانت لن تروق إلى نفسها..


أومأت إليه إذًا وافقت، وافقت على أن تخسر ما وعدته به؟ وعدته أنها لن تروض، ليست للترويض ستظل حرة إلى الأبد وأبعد ما يكون عما يريد.. هل غيرها الهوى إلى هذه الدرجة لتتخلى عن حديثها الواثق الصارم..


هل يفعل الهوى كل ذلك مع رجل كهذا فريد من نوعه..


عبث بها وهو يحرك يده عليها بحرية تامة يقترب منها ليقطف قبلة أخرى من وردة شفتيها مستمتعًا أكثر بتلذذ مغمضًا عينيه كمثلها يتحكم هو بزمام الأمور برغبة ضارية تضرب جسده ونشوة جنون الحب تحركه نحوها لينعم بلحظات لم يمر بها بحياته يجعلها تشعر أكثر منه أنه الأول بحياتها.. وأنه الأخير


الكثير من الوقت مر وهو يغوص معها في بحر الغرام ملتهمًا كل موجة ثائرة تتحرك نحوهما يطفو فوق سطح اللذة طارة ويغوص بها إلى الرغبة المشتعلة تارة أخرى يمرر شعوره عليها بحنو ورفق يستلذ بكل ما يأخذه منها مشتهيًا الأكثر شاعرًا باهتياج ضاري كلما نال المزيد..


استمع إلى رنين هاتفه الذي تغاضى عنه لأكثر من مرة ولكنه لا يصمت فابتعد عنها بضجر وانزعاج يميل إلى الأرضية بجسده وهو نائمًا على الفراش ليلتقط بنطاله يخرج منه هاتفه ينظر إلى شاشته فوجد المتصل "عاصم"


أجاب عليه بانزعاج لحظة واحدة وأغلق الهاتف زافرًا باستياء وضيق، ترك الهاتف جانبًا ليعود ينظر إليها وجدها ابتعدت إلى آخر نقطة بالفراش تعطيه ظهرها خجلة منه فابتسم بانتشاء ويروقه كثيرًا ما تمر به معه وكأنه الأول ولأول مرة تجرب كل هذا..


جذبها ناحيته لينظر إلى وجهها المتورد وعينيها التي أغلقتها فقال بمكر وهو يضغط على خصرها أسفل الغطاء:


-هنزل خمس دقايق أشوف الناس دي.. وجايلك اوعي تنامي 


لم تجب عليه وظلت صامته فأمسك بطرف الغطاء يحاول رفعه للأعلى لتشعر به ففتحت عينيها على اخرهما باتساع تجذبه منه تخفي جسدها عنه صائحة:


-أنت قليل الأدب بجد 


تجرأت وسبته بعصبية وضيق، لو فعلتها في وقت سابق لكان أخفى جسدها من على الأرضية بأكملها ولكنها الآن.. حبيبته يحق لها أن تفعل ما تريد.. 


أومأ إليها ضاحكًا بمزاح:


-عارف


أبتعد تاركًا الفراش ليجلس على طرفه يلتقط سرواله وبنطاله يرتديهما ثم التقط القميص يرتدي إياه هو الآخر ثم الحذاء ووقف على قدميه يهندم ملابسه وخصلاته أمام المرآة وعاد يأخذ هاتفه ناظرًا إليها بخبث ومكر فبادتله النظرة بقلق وهي تتمسك بالغطاء جيدًا تشعر بالغدر قادم منه 


أمسك بالأقراص الخاصة بها أيضًا لينظر إليها قليلًا ثم رفع وجهه إليها بهدوء وبراءة يقول برفق وهو يمد يده إليها بهما:


-خدي يا زينة، لو لسه مش مقتنعة بكلامي اعملي اللي يريحك 


نظرت إليه باستغراب تام ولكنها رفعت يدها لتأخذ منه الأقراص فلم يعطي إليها الفرصة لتمد يدها وسبقها بيده يجذب الغطاء من عليها يلقيه بعيدًا ليستمع إلى صراخها الحاد وهي تسبه بعنف ينظر إلى جسدها الظاهر أمامه بسخاء:


-يا حيوان يا زبالة أنت بجد خبيث 


ارتفعت ضحكاته لتملئ الغرفة محدثة جلجلة كبيرة وهو ينظر إليها يلتهم جسدها بعينيه الخضراء الماكرة يبتعد إلى الباب يخرج منه ولكنها جذبت الغطاء سريعًا تعود تضعه على جسدها ثم أمسكت بوسادته تلقيها عليه بعنف..


من حسن حظه كان يستدير لينظر إليها يكيدها بما فعله فوجدها تلقيها عليه ببراعة التقطها وقام بإعادتها إليها مرة أخرى بعنف لترتضم برأسها بقوة فصاحت بانزعاج أكبر:


-يا حــيــوان 


تركها وخرج من الغرفة وضحكاته العالية ترتفع في أنحاء القصر الجميع يستمع إليها يشعر بسعادة لا توصف وكأنه لم يجرب طعم السعادة من قبل، يغوص بحبها وبالقرب منها لا يريد تركها، عشقها ينبض بقلبه بكثرة كل يوم يزداد عن ذي قبل وكأنها مرض لا دواء له ينتشر في أنحاء الجسد بسرعة وسهولة..


هبط إلى الأسفل تاركًا إياها تحيط نفسها بالغطاء تنظر إلى الفراغ مبتسمة بسعادة كمثله بالضبط وكأن ما حدث لها على يده كان مُقدر وكُتب لها من قبل أن تأتي إلى الجزيرة ليكون هو عوضها عن ذلك الحرمان الذي شعرت به تعوض نفسها بحضن دافئ وسند لا يميل يستند عليه الكثير والكثير.. تعوض نفسها بمن تميل عليه وتلقي بنفسها بداخله ليشعرها أنها ذلك الضعف وهو القوة التي تستمدها منه..


لحظات جنود عقلها المتربصين لها يلقون عليها أسئلة عبثية من تلك التي تهدم الفرحة والملذات، كيف تناست زوجها الراحل!؟ لا تدري حقًا والله لا تدري ولكنها إلى آخر دقيقة كانت تحبه ولا تحب غيره، أخلصت له بعد وفاته لكثير من السنوات ولكنه هو الذي غدر بها واحتل حياتها معه بما حرمه الله ولا تدري إلى الآن ما كان يقدمه إليها من مشاعر صادقة أو كاذبة ولكن لا تستطيع أن تشكك بهذا..


قلبها كيف أحب جبل أيضًا لا تدري ولكنه رجل فريد من نوعه ومختلف للغاية عن كافة الرجال الذي عرفتهم وعرضوا عليها الزواج، الغموض الذي كان عليه يجذبها نحوه والذي مازال، الغرور والعنجهية، الحكمة والعدل الذي يتحلى بهما، أيضًا الإجرام والقتل.. كل شيء به جذبها إلى أن وجدت نفسها تحبه وتعترف بذلك بسهولة.. فإن كان هذا حلال الله لما تترك ضميرها يأنبها؟ لما لا تعيش ما فقدته لكثير، فـ "يونس" رحل وهي باقية.. ستأخذ الفرصة من فك الأسد.. ستعيش شبابها وحياتها مع الرجل الذي أحبته وكأنها لأول مرة تحب وتعشق.. وكأن ما عاشته مع "يونس" لم يكن حب.. إنه مع "جبل" كامل الاختلاف..


تبسمت تعود للخلف وهي تتذكر كيف كان يعبر لها عن كونها جميلة حد اللعنة، تصيبه بالجنون وتجعله لا يريد تركها أبدًا.. يشعرها بأنوثتها التي حبستها ولم تخرجها إلا على يده.. وستطلق العنان لكل شيء بها لتعيش السعادة معه بكل جوارحها وفي أقرب فرصة ستعترف له بحبها.. ولكن ليعترف هو بما يخفيه أولًا..


❈-❈-❈


"بعد مرور بضعة أيام"


سار "جبل" إلى الخارج يتقدم من بوابة القصر ومعه شاب يبدو في مثل عمره، سلم عليه بحفاوة وهو يودعه إلى الخارج تاركًا معه أحد الحراس حتى يخرجه من الجزيرة.. 


عاد مرة أخرى مبتسمًا تقدم من غرفة الحرس الذي كان بها "عاصم" ليدلف إليه ينظر إليه نظرة ذات مغزى..


وقف عاصم شامخًا ثم سأله بجدية: 


-الظابط مشي؟


أومأ إليه برأسه ومازالت تلك الابتسامة الغريبة على محياه، خرج صوت بخشونة:


-أيوة مشي 


سأله "عاصم" مجددًا:


-كويس.. في معلومات عنده جديدة؟


ولج "جبل" ليجلس على المقعد بالداخل ورفع بصره إلى "عاصم" يستكمل حديثه:


-تعرف يا عاصم أننا من غيره ولا حاجه، أهو ده الوحيد اللي بيعرف يخلص لينا كل شغلنا 


انحنى إلى الأرضية ثم عاد مرة أخرى إليه هاتفًا بمكر ونظرته خبيثة:


-وعلشان كده هو طلب مني حاجه وأنا وافقت عليها 


اعتدل "عاصم" ليقف مستقيمًا ينظر إليه مستنكرًا هاتفًا باستغراب:


-حاجه؟.. حاجه ايه 


أجابه ببساطة وهدوء فائق:


-جواز.. عايز يتجوز واحدة من القصر وأنا أكيد مش هلاقي أحسن من الظابط ده علشان أرفضه 


أبتعد "عاصم" مبتسمًا متجهًا إلى الطاولة ليعد كوبان من الشاي لهما يقول ببساطة هو الآخر مبتسمًا:


-وترفضه ليه ياعم خير البر عاجله.. طلب مين بقى 


استمع إلى صوت جبل الخبيث:


-شوف أنت


استدار ينظر إليه وهو يمسك بالأكواب مستغربًا حديثه ليقول متسائلًا هو الآخر:


-فرح؟ ولا تمارا 


وضع جبل قدم فوق الأخرى وهو ينظر إليه بعمق يبعث إليه كلمات وانذارات خبيثة ليقول بنبرة ماكرة مفتعلًا صوت بفمه:


-تؤ ولا دي ولا دي 


ابتسم "عاصم" ساخرًا بقوة يقول بتهكم:


-اومال مراتك 


انتفض في جلسته يبعد قدمه عن الأخرى ليصرخ في وجهه بعصبية محذرًا إياه:


-ولا.. اظبط نفسك في ايه 


عاد مرة أخرى يعد الشاي وهو يقول بهدوء غير مهتم بما يقوله من الأساس:


-مش أنت اللي بتقول ولا دي ولا دي.. مافيش غير مراتك 


ابتسم جبل وهو يقول بسخرية خبيثة ماكرة ليعبث به:


-لأ فيه 


ترك الكوب من يده ثانيةً وعاد ليقف مستقيمًا ناظرًا إليه بقوة وعمق بعد أن اخترق حديثه عقله ولم تكن تأتي على خلده من الأساس وكأنها ليست من سكان القصر..


اخترق اسمها أذنه بعد أن تفوه به "جبل" بسهولة:


-اسراء 


انتفخت عروقه بشدة واهتاج جسده ليشيح بيده بعنف وعصبية بعد أن تحركت مشاعره بالغضب المميت ولم يستطع السيطرة عليها ليصرخ بصوت عال:


-بقولك ايه اظبط أنت قسمًا بالله اهدلك القصر على اللي فيه أنت بتقول ايه 


عمل "جبل" على اغاظته أكثر وهو يقول بجدية ساخرًا:


-طب الله وكيل لايق عليها أكتر منك 


أقترب منه يُشيح بيده في الهواء بهمجية يخرج صوته بخشونة وغلظة صائحًا:


-لايق على مين ياعم ده مرتشي 


باغته "جبل" بابتسامة عريضة وهو يقول بتهكم:


-بس ظابط 


صرخ "عاصم" مجددًا بعنف وقسوة:


-هو ايه اللي ظابط ظابط ياعم ده مش ظابط نفسه


تحرك في الغرفة بهمجية شديدة وملامح وجهه مشدودة بحدة وعروقه نافرة ليقول بنبرة حادة يتخللها الحزن الشديد:


-جبل الموضوع ده مش للهزار علشان تبقى فاهم


أكمل بحدة غير مصدقًا لما قاله بعد أن فكر به قليلًا:


-وبعدين هو شافها فين علشان يطلبها.. أنت كداب 


ضرب "جبل" بكف يده على فخذه صائحًا مجيبًا عليه بقوة ونبرة واثقة كاتمًا ضحكاته الذي يود إخراجها:


-الله وكيل شافها مرتين وطلبها مني النهاردة وأنا مش بكدب عليك 


اعتدل في جلسته يقول بجدية:


-وأنا وافقت


أعمته غيرته، لم يصبح يرى أمامه من شدة الغضب والغيرة التي دلفت إلى قلبه لتسحقه بقوة تفتت كل إنش به، تقدم منه في لمحة خاطفة ليجذبه من تلابيب ملابسه يقف أمامه صارخًا به بقسوة:


-وافقت يبقى اتجوزه أنت.. تعرف تعملها دي 


ابتسم ببرود وغيظ وأردف بلا مبالاة ليجعله يستشيط غيظًا:


-تؤ هي اللي هتتجوزه 


شدد من قبضته على تلابيب ملابسه ليقول أمام وجهه بعنف ونظرته نحوه كاره للغاية:


-أنت مين قالك أنها هتوافق


تبسم إليه أكثر وعاد يقول ببرود مجددًا:


-أصل مراتي ولية أمرها وهي رفضاك وموافقة على الظابط 


سبه بعصبية شديدة وتأججت النيران داخل صدره خوفًا من أن يحدث ما يتفوه به، ولكنه لن يسمح بذلك مهما حدث حتى وإن هدم المعبد على من فيه:


-أبوك على أبو مراتك جبل قسمًا بالله اهد الدنيا عليكم ومش هيهمني حد 


دفعه للخلف بحدة عندما توجه بحديثه إلى نقطة محظورة قائلًا بعنف وقسوة:


-احترم نفسك الأول علشان ممدش أيدي عليك 


ضرب "عاصم" على الطاولة بيده وهو في حالة ثوران ليست طبيعية فغيرته أشعلت النيران لتندلع داخله بضراوة وليس هناك شيء يخمدها: 


-قسمًا بالله اخطفها وأطلع من أم الجزيرة دي ومش هخلي حد فيكم يلمح طيفها وأنت عارف أنا كفيل بيها 


عاد "جبل" ليجلس مرة أخرى يهتف بضجر:


-طب بس بس بلاش خيابة


ذهب ليجلس جواره، نظر إلى الفارغ أمامه في أرضية الغرفة وتحدث بعفوية بنبرة صوت هادئة تخرج من قلبه إلى مسامع الآخر:


-دي خيابة.. أنا بحبها، بحبها ايه أنا مجنون بيها أنا بحلم بيها وأنا نايم وأنا صاحي.. أنا حتى مش عارف ده حصل امتى وإزاي دي عيلة صغيرة بريئة متنفعنيش بس.. بس أنا عايزها 


نظر إليه مستغربًا مما بدر منه في لحظة وهو يجلس قليل الحيلة ينظر في الفراغ يتحدث بحب ولهفة لم يراه لها سابقًا ليخرج صوته يسأله:


-للدرجة دي 


هتف وهو على نفس الوضع وعقله لا يكف عن التفكير بها والخوف مما قاله "جبل".. الخوف من أن توافق هي لأجل حديث شقيقتها:


-وأكتر... وأكتر بكتير 


تفوه "جبل" بجدية وهو يربت على كتفه بعدما استشعر الصدق المبالغ به في نبرته:


-صعبت عليا.. أنا هفكر في الموضوع ده 


نظر إليه "عاصم بعيون" متعطشة للمساعدة، أو لنيل ما أراده، خرج صوته متلهفًا:


-يا صاحبي.. علشان خاطري ساعدني، جبل أنا أول مرة أطلب منك حاجه ومش هتنازل عنها سواء ساعدتني أو لأ


تحدث "جبل" بضجر وانزعاج:


-ما خلاص بقى اخرس.. خلينا نفكر في شغلنا أحسن


هب واقفًا بعصبية صارخًا به يسبه هو وعمله:


-يا عم ما يولع الشغل... يولع 


زفر بنفاذ صبر يًشير إليه أن يجلس مرة أخرى قائلًا بجدية:


-عاصم قولتلك خلاص أقعد بقى عايزك 


جلس "عاصم" على مضض يستمع إلى حديث جبل ولكنه لا يفكر به، يدلف من الناحية اليمنى ويخرج من اليسرى، يفكر بها، عقله منشغل بها هي ولا يستطيع حتى التركيز في أي شيء آخر، ما قاله له "جبل" أشعل النيران داخله بضراوة ونفرت عروقه منه من كثرة الغضب والتفكير فيما قد يحدث..


غيرته خرجت عن السيطرة وهو يفكر في ذلك الحقير الذي أراد الزواج منها، يتوعد له أن أتى هنا مرة أخرى لن يخرج إلا محمولًا على الأكتاف كي يستطيع بعد ذلك رفع بصره إلى النساء جيدًا..


لن يجعل ذلك يحدث، لن يتركها لأي شخص آخر غيره وإن طلب الأمر أن يقـ ـتل شقيقتها ويأخذها عنوة عن الجميع.. لقد وصل حبها في قلبه إلى مرحلة الجنون.. لا يريد تركها ولن يبتعد عنها لن يتركها إلا وهي زوجة له تنام بين أحضانه ينعم بها على فراشه.. وسيكون هذا في القريب العاجل..


يتحدث جبل جواره وهو يشتعل من الغيرة واللهفة لرؤيتها وتحطيم قدميها التي ساقتها إلى أن تتوجه ناحية ذلك الغريب.. 


يشعر وكأن قلبه وعقله قارب كل منهما على الإنفجار.. حقًا ليس هناك ذرة صبر واحدة ينعم بها في جسده بل كل ما يشعر به هو العصبية والفوران الشديد كأنه بركان قاربت فواهته على الإنفجار وإخراج كل ما بها ليدمر الأخضر واليابس..


❈-❈-❈


كانت "زينة" في غرفتهم تخرج ملابسهم من الخزانة وتعيد ترتيبهم مرة أخرى بحب أكبر وابتسامة سعيدة مرتسمة على شفتيها تأتي لتقتحم ما بها كلما تذكرت لحظاتها معه في الآونة الأخيرة..


وقع ملف أوراق من الخزانة وهي تجذب ملابسه منها ليستقر على الأرضية، نظرت إليه بعينيها وتركت الملابس جانبًا لتهبط إلى الأرضية تأخذه بين يديها تجلس على الفراش لتفتحه وفضولها يجذبها نحو ما به


لم تفهم ما محتوى الأوراق هذه ولكن هناك ورقة كان بها رسمة غريبة تحتوي على أسماء كثيرة ربما كانت استمعت عن بعضهم من هؤلاء ذو القيمة والقامة في الدولة..


تركتهم جانبًا عندما استغرقت وقتًا طويلًا تحاول فهم ما بهم ليقع بيدها صورة غريبة للغاية..


كان هو بها يقف مبتسمًا باتساع وكأنه كان ضاحكًا بقوة يكبت ضحكته، على جانبيه اثنان من رجال الشرطة مرتدين الزي الرسمي مبتسمين بسعادة مثله وأكثر


رفعت وجهها لتنظر في الفراغ أمامها وبدأت مرة أخرى مرحلة التفكير التي كانت قد تخلصت منها منذ فترة..


عبثت بها خيوط عقلها التي تفكر بها، لما هو هنا في هذه الصورة بهذا الشكل مع هؤلاء! رجال شرطة!؟ كيف هو ورجال الشرطة سويًا كيف!؟


وقفت خيوط عقلها ووقف عقلها كليًا عن التفكير فحقًا لا تدري ما الذي ممكن أن تستنتجه من هذه الصورة وما الذي سيكون صحيح تشعر أنها من الأساس تعبث بأشياء لن تأتي لها بفائدة إلا عندما هو يعترف إليها بكل شيء.. أنها ترهق نفسها فقط ككل مرة فعلت بها هذا..


دلف هو الغرفة يغلق الباب خلفه وجدتها تجلس على الفراش بجوارها ملف أوراقه والصورة بيدها بينما هي تنظر في الفراغ..


تقدم إلى الداخل ليجذب منها الصورة بعنف قائلًا بصوت حاد غاضب:


-أنتي هتعقلي امتى يا زينة


زفر حانقًا وقد أتى بأخره معها ليهتف بنفاذ صبر:


-حتى بعد كل اللي قولته ليكي لسه بتدوري ورايا 


وقفت بهدوء تتابع انفعاله الزائد عن حده ثم قالت بصدق ورفق:


-أنا مدورتش وراك المرة دي أنا كنت بعدل الهدوم في الدولاب والملف ده وقف من بين هدومك 


أشار إليها بالأوراق بيده ساخرًا منها:


-وقع من بين هدومي زي الشاطرة تشيليه وتحطيه مكانه مش تقعدي تفتشي زي المفتش كرومبو 


وضعت يدها الاثنين أمام صدرها لتقف بجدية قائلة:


-أنت ايه اللي مزعلك كده 


ابصرها بعينان حادة للغاية، اشتعل الغضب داخله ووصل إلى ذروته بسبب أفعالها فقال بقسوة:


-زينة متستهبليش.. الله وكيل أنتي عايزة تجيبي أخري معاكي


وجدته حقًا منزعج من فعلتها فحاولت بلين:


-ممكن تهدأ شوية الموضوع مش مستاهل 


خرج صوته بعنف وقسوة شديدة وهو يلقي الأوراق على الفراش وأردف قائلًا:


-لأ مستاهل بعد كده متمديش ايدك على حاجه تخصني أنتي سامعة ولا لأ.. المرة الجاية مش هتكلم معاكي صدقيني لأني جبت أخري من الحركات دي


زفرت بضجر وانزعاج هي الأخرى ووقفت بثبات تقول بعصبية مقررة أن تعلم كل شيء الآن:


-ماشي يا جبل وأنا دلوقتي حالًا محتاجه أفهم كل حاجه ومش هستنى تاني علشان ممدش أيدي على حاجتك بعد كده


تنهد بعمق ينظر إليها بنفاذ صبر يحاول أن يهدأ نفسه ليتحدث بجدية:


-أنا قولتلك هتعرفي كل حاجه في الوقت المناسب 


احتدم النقاش بينهم عندما احتدت نبرتها وهي تقول بعصبية:


-وأنا عارفه إن الوقت المناسب بتاعك مش جاي دلوفتي أبدًا وعايزة أعرف دلوقتي حالًا كل حاجه 


نظر إليها بعنف يخترق أعينها بنظراته قائلًا بخشونة:


-هو أنتي بتأمريني 


ابتلعت ما وقف بحلقها لتجيبه بهدوء وثبات:


-لأ أنا مش بأمرك أنا بطلب منك أهو


أبتعد عنها متقدمًا للمرحاض مقررًا أن يتركها تفعل ما يحلو لها وأن يفعل هو أيضًا ما يحلو له ليقول ببرود ولا مبالاة:


-أنا مش هقول غير في الوقت اللي يناسبني يا زينة مش أنتي اللي هتمشيني على مزاجك 


ارتفع صوتها بضجر تسير خلفه بعصبية:


-أنا كمان تعبت من إني ماشية على مزاجك زي الحمارة ومش فاهمه حاجه 


استدار ينظر إليها نظرات ذات مغزى بعد أن استمع إلى حديثها وفهم المقصد منه خطأ، أردف بسخرية:


-لأ أنتي مش بتعملي كده لمزاجي أنا.. أنتي مبسوطة معايا 


استنكرت حديثه محركة رأسها بقوة تقول:


-أنت مجنون أنا مش بتكلم في كده 


وضعت يدها أمام صدرها مرة أخرى ووقفت بجسد متشنج تطالب بمعرفة كل شيء الآن ليخرج صوتها مرتفعًا:


-جبل أنا عايزة أفهم كل حاجه دلوقتي


أقترب منها بهمجية وعيناه لا تنذر بالخير نحوها أبدًا، أنه يحاول كثيرًا ولكنها لا تساعده:


-وطي صوتك 


هدأت نبرتها ونظرت إلى الأرضية بحزن ثم رفعت بصرها إليه بأسى يظهر على كافة ملامحها تتحدث بنبرة هادئة:


-جبل أتكلم أنا مش هستنى أكتر من كده بجد كفاية أوي


قطب جبينه عليها عندما تحولت إلى هذا الضعف المميت الذي يروقه فزفر بهدوء محاولًا أن يمد نفسه بالصبر ثم سألها:


-عايزة تعرفي ايه 


سألته بجدية:


-أنت بتشتغل ايه 


قال ببرود ولا مبالاة:


-أنا مهنتي محامي 


صرخت بعنف وارتفع صوتها مرة أخرى بسبب سخريته منها:


-جــبــل 


ابتسم مستنكرًا انزعاجها... ألا تريد أن تعرف ما الذي يعمله ولكن على أي حال غير حديثه قائلًا:


-تاجر سلاح 


ابتعدت عنه تزفر بضيق:


-يــوه 


سار خلفها بهدوء، تنفس الصعداء وحاول ضبط أنفاسه ضاغطًا على نفسه ليقول برفق:


-عايزة ايه يا زينة 


وقفت قبالته ورفعت يدها عليه برفق ولين لتنظر إلى عيناه المتعطشة لكل شعور هادئ منها وقالت بهدوء:


-ريحني يا جبل كفاية كده.. ولا أنت لسه مش واثق فيا 


رفع يده الاثنين ليمسك بذراعيها يقربها منه بهدوء وحب، تغيرت ملامح وجهه مع تغير نبرته التي أصبحت شغوفه صادقة:


-لو مش واثق فيكي مكنتش خليتك معايا.. مكنتش قولتلك إني بحبك ورميت كل حياتي في حضنك يا زينة.. صدقيني أنا عايزك وبتغير علشانك


الحديث بينهم ليس له حد، لحظة عنيف ولحظة هادئ تارة محتدم وتارة محب، حديث عشوائي ككل مرة تدلف معه بنقاش لا تأخذ منه ما تريده ولكن هذه المرة ستسير معه في كل الدوائر التي يريدها إلى أن تصل إلى نقطة البداية والنهاية معًا


قالت بنبرة راجعية متلهفة للاستماع منه لكل ما تريد:


-ودي الحاجه الوحيدة اللي أنا عايزاها منك يا جبل علشان خاطري لو بتحبني زي ما بتقول.. فهمني 


انخفض بجذعه قليلًا ليقبل وجنتها اليمنى قبلة سريعة محبة ثم قال بهدوء:


-كل حاجه في وقتها حلوة 


صرخت بعنف وانزعاج شديد واحتل كيانها الغضب بسبب هذه المراوغة والسخرية وكل شيء إلا الجدية:


-جبل كـفـايـة


صرخ يبادلها هو الآخر تاركًا إياها مبتعدًا عنها ليخرج الحديث من داخل أعماقه وكل ما به مشتعلًا:


-عايزه ايه؟ أيوه أنا مش زفت على دماغ اللي جابك أنا بشتغل مع الحكومة 


وقفت مدهوشه مما استمعت إليه منه، تنظر إليه بعينين متسعة مصدومة للغاية، لم يأتي على خلدها ولو مرة واحدة أن يكون هكذا حقًا!..


استنكرت بذهول ولم يرف لها جفن تنظر إليه فقط بصدمة:


-ايـه


مسح على وجهه بغضب لأنه تحدث بهذه السرعة وافشى ذلك السر الذي أخفاه لسنوات، سنوات كثيرة مضت ولم يعرف أحد ما يعمله من خلف الجميع في لمح البصر هو تحدث لها؟!.. أنها نقطة ضعف كبيرة للغاية في حياته 


أمسك بجسدها بين يديه يحركها بعنف وقسوة قائلًا غاضبًا من نفسه:


-ايه.. مش ده اللي عايزة تعرفيه... مش هو ده


أكمل بقسوة أكبر وملامح وجهه عابثة للغاية:


-أنا مش عايز اسمع صوتك فاهمه.. مش عايز الموضوع ده يتفتح تاني 


لم يدلف عقلها أي من كلماته فقد كل ما يشغل تفكيرها كيف!..:


-يعني ايه أنا لازم أفهم


صرخ بوجهها بعنف وعروق جسده ظاهره تضغط قبضة يداه على ذراعيها بقسوة:


-لأ متفهميش أنتي عرفتي اللي عايزة تعرفيه يبقى تخرسي يا زينة وكأنك معرفتيش حاجه أبدًا فاهمه 


وجدها صامته لم تجيب عليه شعر بالغباء الشديد لأجل ما فعله، حرك عيناه على وجهها المصدوم مازالت تريد الحديث ولكنه لن يعطي إليها الفرصة هاتفًا بخشونة:


-زينة مافيش مخلوق من أهلي يعرف اللي قولته ليكي ده.. الله وكيل لو حد عرف ما هسمي عليكي وهنسى أي حاجه بينا فاهمه 


حرك كتفيها بعنف صارخًا:


-ردي عليا يا زينة 


أومأت إليه برأسها وهي تنظر إليه وتتابع ما يفعله، إلى هذه الدرجة الأمر خطير؟ قالت بتوتر:


-فاهمه 


تابع عيناها برجاء خوفًا أن تتحدث مع أي أحد ولكنه تحدث بضجر وانزعاج:


-المهم إنك ارتاحتي وعرفتي.. أنا مش تاجر سلاح ولا نيلة أنا بشتغل مع الحكومة وفي تفاصيل كتير خلتني أعمل كده لكن أنا مش هقدر أتكلم دلوقتي ماشي يا زينة 


أومأت برأسها مرة أخرى فتركها وأبتعد عنها يفكر في غبائه وتسرعه، كيف كان يريد الحديث معها والاعتراف لها بكل شيء وهو نادم الآن بشدة لأجل فقط أنه غضب وأفصح عن شيء واحد من الحقيقة الكاملة!..


كيف كان سيفعل!.


بينما هي جلست على الفراش على الرغم من أنها مصدومة للغاية، خائفة حد اللعنة ولكن السعادة تتخلل قلبها بضراوة، الفرحة الشديدة تخترق جسدها دون استأذان لترتسم الابتسامة على شفتيها دون إرادة منها..


أنه ليس ذلك القـ ـاتل.. ليس هو!.. ليس "جبل العامري" المتحكم في الجميع القاتل الجاني.. أنه العادل الحكيم المحب.. أنه هو الذي ساندته الجزيرة بأكملها عندما قارب على السقوم.. 


ما هذه الفرحة التي اختلجت كيانها! ليس وقت التفكير، ليس وقت تحليل أي شيء أو الإمساك بالخيوط وربطها ببعضها البعض أنه وقت شيء واحد.. إنه وقت الاعتراف!؟


وقفت على قدميها تذهب ناحيته تراه يقف حزينًا لأنه تحدث وتدري ما الذي يفكر به ولكنها كانت على عكسه تمامًا فقالت اسمه بشغف:


-جبل 


رفع بصره إليها منتظرًا حديثها لتلقي عليه قنبلة تفجرت في غرفتهم وهبطت على مسامعه بدوران عقله وتفكيره:


-أنا بحبك 


اخترقها بنظره غير مصدقًا ما تفوهت به ليقترب منها ببطء وهدوء ينظر إليها بشك ولكن الابتسامة على وجهها تقول غير ذلك، خرج صوته مبحوحًا:


-ده بجد 


أومأت إليه برأسها بقوة عدة مرات متتالية ليقترب منها يأخذها في عناق حاد شاعرًا انه أمتلك الدنيا حقًا ليس نادمًا أنه تحدث إليها.. ليس نادمًا أبدًا ليته تحدث منذ وقت بعيد لتعترف إليه بتلك الكلمة الوحيدة التي خطفت روحه منه وهو يستمع إليها 


لا شعور يوصف ولا كلمات تعبر عما يشعر به، أخذها بين ذراعيه محكمًا ضلوعها لترتفع قدميها عن الأرضية يحملها شاعرًا بالراحه الفريدة من نوعها التي لم يشعر بها يومًا يدق قلبه بعنف معلنًا فرحته القادمة والسعادة الأبدية التي سيشعر بها جوارها..


شعر بيدها تشتد من حول عنقه تجذبه إليها بقوة تخفي وجهها به وضربات قلبيهما تتعالى بقوة وتلك الأنفاس اللاهثة تعبر عن الضجة الخرافية التي حدثت لكلامها..


اخفضها على الفراش ناظرًاا إليها بشغف، عيناه الخضراء تلتمع ناحيتها بطريقة لا توصف ونظرته اتجاهها حانية فريدة، مرر يده على وجنتها قائلًا بصوت أجش:


-أنا أول مرة قلبي يدق بالشكل ده.. واجهت الموت كتير عمري ما حسيت بقلبي كده 


حرك عيناه على كافة ملامحها بحب وهيام ليقول متسائلًا بعدم تصديق:


-زينة أنتي بتحبيني بجد؟ 


وضعت يدها الاثنين حول وجهه متبسمة قائلة بسعادة وصوت شغوف ملئ بالحيوية:


-والله العظيم بحبك 


اخفض وجهه لحظة ليعود إليها مرة أخرى يسألها بخوف وتردد:


-سامحتيني على اللي عملته فيكي 


حركت عيناها على وجهه الخائف ونظرته الراجية نحوها، استشعرت خوفه من أجابتها فتحدثت بهدوء:


-أنا سامحتك.. لكن منستش 


تلهف يقول سريعًا بشغف وعشق:


-وعد من جبل العامري أنا هنسيكي كل اللي حصل، مش هخليكي تفتكري غير حبي ليكي وكل لحظة حلوة عشتها معاكي


ابتسمت باتساع لتحرك يدها على ملامحه قائلة بمرح:


-ما أنت بتعرف تقول كلام حلو أهو


ابتسم هو الآخر يبادلها وقلبه يخفق بجنون:


-الله وكيل عمري ما عرفت أقول كلام حلو غير ليكي.. بحاول علشانك 


أومأت إليه برأسها قائلة بحنان:


-عارفة.. ومبسوطة 


دفعها للخلف مقتربًا منها محطمًا كل أسوار التردد، نازعًا كل أسهم الخوف من قلبيهما، تقدم يزيح تلك الحواجز الذي وقفت بينهما فاليوم القلعة تحت أمره، تحت سطوة وحبه وعشقه.. الآن المملكة له وحده هو الملك وهي ملكته، ملكه الوحيد روحه ومبتغاه.. هي تلك الحرب التي خسر بها الجميع وفاز بها وحدها وكان مكتفيًا بها، يجمع غنائم الحب والعشق، ينال من الفرحة واللهفة ما يكفيه على مر السنين يخبئ بقلبه الشغف والحنين ليبقى لها وحدها.. يهيء لها قلبه ومشاعره ليليقوا بها وبحبها..


الآن ينال بمذاق حبها بالرضا التام، يأخذه ليذوب معه وهو بالقرب منها إلى أعمق حد فلا يوجد بعده أعمق من ذلك، ينال من العسل الصافي معها بالعشق والشغف، يناله بجنون متبادل لأول مرة.. جنون متبادل يطفو في الأفق ممزوجًا بآنات العشق والغرام.. يحلق عاليًا بلذة غريبة ورغبة متبادلة مشتعلة ببدن كليهما..


بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات وقف جبل أمام المرآة بعد أن اغتسل وارتدى ملابسه يمشط خصلات شعره، نظر إليها من خلال المرأة وهي تخرج من المرحاض مرتدية ملابسها خجلًا منه..


ابتسم باتساع وأبتعد عن المرآة يتوجه ناحيتها يمسك بيده خصلات شعرها المُبتلة، قال بهدوء وشغف:


-تعرفي إن النهاردة أحسن يوم في حياتي.. وأحسن وقت قضيته في حضنك 


ابتسمت بخجل تنظر إلى الأرضية ثم إليه قائلة بخفوت:


-أنا كمان أحسن وقت قضيته معاك النهاردة


تركها يتقدم ليأخذ هاتفه قائلًا:


-غزال.. والله غزال


قال بجدية وهو يعود إليها يأخذ قبلة سريعة من شفتيها:


-نامي أنتي أنا هتأخر بره 


أومأت إليه برأسها بهدوء فذهب وتركها مغلقًا الباب من خلفه..


جلست على الفراش بهدوء تفكر في لحظات السعادة التي قضتها بصحبته، وأيضًا تفكر في لحظات القهر التي واجهتها على يده أول مرة دلفت بها هذه الغرفة وجلست على هذا الفراش.. ولكن القلب وما يريد ليس بيدها.. ليس بيدها أن تحبه وتبغى قربه منها بهذه الطريقة.. ولكنها قد حدثت نفسها سابقًا إن كان رجل يعمل بشيء غير قانوني ستدفن ذلك الحب وتقتله بيدها.. وإن كان رجل صالح ستعترف له وتعوض نفسها عن كل شقاء مرت به وتنعم بالأمان والاستقرار داخل أحضان رجل أحبته يكن لها الحماية والسند.. وهذا ما حدث لا عتاب عليها ولا حتى على قلبها إنها كما شاهدت قسوته وعنفه شاهدت لينه وضعفه..فلا عتاب حقًا


تمددت على الفراش تغمض عينيها براحة لا تنعم بها دائمًا فاستغلتها تشعر بها بسعادة خالصة..


بعد دقائق فتح باب الغرفة ببطء وهدوء لتظهر "تمارا" من خلفه بنظرات قوية حادة يملؤها الشر والحقد الدفين..


تدفعها غيرتها إلى الداخل تغلق الباب خلفها بهدوء تنظر إلى زينة النائمة على الفراش تعطي إليها ظهرها، تقدمت منها بكره وبغض لا نهاية له..


لتتوجه واقفة أمامها تنظر إليها بشر وكراهية تود التخلص منها بأسرع وقت لتعود إلى حياتها الطبيعية التي سلبتها منها..


وقفت أمام الفراش لتبتسم بخبث تأتي من خلف ظهرها بسكين حاد ترفعه بيدها إلى الأعلى ثم تفوهت بعنف وكره:


-الله يرحمك يا زينة


فتحت الأخرى عينيها باتساع عندما استمعت إلى همسات أحد جوارها فلم تكن دلفت بالنوم لتنصدم بالواقفة أمامها بملامح كارهه تبغضها ترتفع بالسكين بيدها لتهوى عليها بها..


ألا يجوز أن يفرح المرء ولو قليلًا!؟


❈-❈-❈


"يُتبع"



الفصل العشرون

"ترك لقلبه العنان فذهب يحلق في السماء يشعر بسعادة غامرة انتهكته بالحب، فعاد إلى أرض الواقع مطعونًا مخذولًا بسكين الغدر"


"نفس اليوم قبل بضع ساعات"


دلف "جبل" إلى غرفة الطعام حاملًا "وعد" على ذراعه تحتضن عنقه بيدها الاثنين تسير جواره "زينة" مُبتسمة إلى ابنتها بحب وسعادة وتبادلها الصغيرة فرحة بما قدمه إليها والدها من ألعاب أتى بها خصيصًا لأجلها هي فقط..


عندما دلفت الصغيرة إلى الغرفة تقع عينيها على جدتها فحاولت أن تهبط من على ذراعه تنخفض إلى الأرضية ففعل وهو ينخفض بها إلى الأسفل يتركها لتذهب ركضًا إلى جدتها تصرخ بسعادة وفرحة طفولية بحتة:


-تيته تيته شوفتي بابا جابلي ايه 


ابتسمت باستغراب واتسعت عينيها مفتعلة الصدمة تُجيبها بحماس:


-لأ مشوفتش وريني جابلك ايه من ورايا 


فتحت ذراعيها إلى آخرهما تتحدث بسعادة والحماس يملئ نبرتها الطفولية:


-جابلي عروسه قد كده هتنام معايا على السرير، وجابلي لعبة مطبخ كبيرة أوي أكبر من اللي كانت عندي قبل ما نيجي هنا وحاجات تانية كتير 


سألتها مصطنعة الاستغراب وعدم التصديق:


-بجد كل ده 


أكدت وهي تؤما برأسها ثم قالت بحزن ويأس وهدأت نبرتها:


-أيوه.. بس هو مش فاضي ممكن أنتي تلعبي معايا بعد ما نفطر علشان إسراء مش بتلعب معايا وماما مع بابا على طول 


أشارت إلى "فرح" ابنتها بيدها وهي تقترح عليها مُبتسمة:


-طب ايه رأيك أنا وعمتو فرح نلعب معاكي


نظرت "وعد" إلى "فرح" ثم عادت بعينيها إلى جدتها مرة أخرى لتسائلها برفق:


-عمتو فرح هتوافق؟


أومأت إليها بالايجاب تُشير إليها بيدها قائلة بجدية:


-آه حتى اسأليها 


اليوم هو الأول لوجود "فرح" في الأسفل بينهم من جديد، بعد أن ألحت زينة كثيرًا على جبل أن يتركها لتعود للجلوس معهم فقد نحف جسدها كثيرًا وظهر على وجهها أكثر مع ذلك الحزن الشديد الذي دلفت به وحالة الاكتئاب التي مرت بها ولا تستطيع الصمود أمامها


أبعد "جبل" عيناه من على صغيرته إلى شقيقته "فرح" التي طعنته بظهره وكسرت قوته وأضاعت هيبته أمام الجميع، ولكنها في النهاية تبقى شقيقته، إن كان يريد أن ينهي كل ما فعلته من بداية الأمر إلى نهايته فكان عليه قتلها ليمحي كل شيء ولكن.. هي شقيقته لن يستطيع فعلها مهما حدث مع ذلك عقابه لها كان مستمر إلى أن أتت زوجته تلح عليه كثيرًا أن يتركها تخرج فقط من غرفتها لتشاركهم الجلسة حتى لا تسوء حالتها أكثر فهي قد فهمت وأدركت جيدًا ذلك الخطأ الذي وقعت به..


أقتربت منها تقول بهدوء وبراءة:


-هتلعبي معايا أنا وتيته 


أومأت برأسها وهي تقترب منها تنخفض إلى الأسفل تقبلها بنحو ورفق لأول مرة تستعمله معها:


-هلعب معاكي طول الوقت


أقتربت منها تحتضنها ببراءة شديدة والفرحة ترتسم على ملامحها وكأنها تلمس أحد نجوم السماء بيديها الطفولية الصغيرة بعد أن أتى لها والدها بالألعاب ووجدت من يقوم بمبادلتها اللعب..


-طيب يلا ناكل علشان نلعب بسرعة 


كان "جبل" قد جلس منذ أن ولج إلى الغرفة يتابعها بعينين محبة شغوفه ينظر إلى براءتها وطفولتها الحيوية الجميلة ونبرة صوتها الرقيقة المستغرب منها تمامًا من أين أتت بها؟ والدتها ليست هكذا أبدًا..


ابتسم وهو يتابعها لتتقدم تقف جواره فجلست "زينة" وأخذت "تمارا" مقعدها بجوار "فرح" و "وجيدة" بمحاذاة زوجته 


تحدثت "وجيدة" وهي تنظر إلى "زينة" تقول بصوت حاد ماكر:


-عملتي ايه في جبل يا زينة


استدارت برأسها إليها بعد أن نظرت إليه هو باستغراب تسألها مُستنكرة:


-عملت ايه يا طنط؟ ولا حاجه 


رفضت والدته حديثها وهي تؤكد قائلة بصرامة:


-لأ عملتي 


تدخل "جبل" يبصر والدته بقوة قائلًا:


-عملت ايه يما.. مافيش حاجه 


استنكرت بخبث ومكر مفتعلة صوت بفمها تهتف مُبتسمة:


-أنت مش شايف وشك منور إزاي؟ ولا البدر المنور والضحكة مش بتفارقك 


وضع يده على يد "زينة" فوق الطاولة يضغط عليها قائلًا بهدوء وجدية موضحًا دون أن يفقد هيبته:


-عملت كل حاجه حلوة شبهها 


ابتسمت بسعادة غامرة تنظر إليه بشغف، تبادله ما يأتي إليها من نظراته بأسهم عيناه الخضراء لتتسع ابتسامة والدته أكثر تنظر إليهم بحب قائلة بسعادة ثم أكملت حديثها بمغزى واضح:


-واضح يا حبيبي ما شاء الله جيت على ايد زينة ربنا يخليها لينا هي ووعد وتجبلنا ولي العهد


أومأ إليها وهو يُشدد بيده على يدها وعقب واثقًا:


-قريب، قريب أوي إن شاء الله


تحدثت "تمارا" بغبظ بعد أن انتفخت عروقها من كثرة الغضب والغيرة التي داهتمها وهي تستمع إلى حديثهم:


-مش هنفطر ولا ايه 


أبعدت "زينة" وجهها إليها ببرود تام ولا مبالاة مبتسمة بخبث يخرج صوتها بتشفي:


-ما تفطري يا حبيبتي هو حد منعك 


بادلتها بنظرات حارقة تنهشها الغيرة والحقد ناحيتها..


تسائلت "وجيدة" بجدية:


-أختك فين يا زينة 


أجابتها بهدوء:


-نايمة يا طنط لما تقوم تبقى تاكل 


أومأت إليها ثم شرعوا في تناول الطعام ولكن "زينة" نظرت إلى ابنتها قائلة بهدوء:


-تعالي كلي يا وعد 


أومأت إليها برأسها بهدوء ورفق وتقدمت ذاهبه إلى الناحية الأخرى متقدمة بين "فرح" و "تمارا" تجذب كوب الماء من على الطاولة لترتشف منه على الرغم من أن هناك آخر قريب ولكنها لم تراه..


جذبته بيدها بهدوء ولكنها اهتزت وهي ترفعه ليقع من بين يديها منسكبًا على جسد "تمارا" يبلل ملابسها..


هبت واقفة بعصبية شديدة ووجها يتحول إلى اللون الأحمر لتصرخ بها بعنف: 


-أنتي غبية يا بنتي ما قدامك الطفح هناك أهي 


تكونت العبرات بعين "وعد" وهي تبتعد للخلف خوفًا من ثورتها عليها لتقول بضعف:


-مقصدتش أنا آسفة


صرخت بغضب أكبر تخرج كل ما كنه قلبها من غل وحقد تجاهها هي ووالدتها:


-آسفة ايه وزفت ايه على دماغك 


وقفت "زينة" هي الأخرى قبالتها بعصبية شديدة فلم تتحمل أن تعامل طفلتها بهذه الطريقة القاسية لأجل خطأ لم تقصده طفلة مثلها.. خرج صوتها حاد بقوة وقسوة تنظر إليها بعصبية شديدة:


-أنتي اتجننتي بتتكلمي كده إزاي مع البنت قالتلك آسفة متقصدش 


رفعت "تمارا" وجهها إليها بغضب قائلة بضيق واستهجان تهينها:


-ما لازم تبقى متخلفة ما أنتي أمها


رفعت سبابتها بوجهها تناظر عيناها بقوة وتحدي وأردفت بتهديد واضح:


-الزمي حدك معايا يا بت أنتي.. أنتي متعرفنيش لسه 


ما كادت إلا أن تتحدث بعنف تسبها إلا أن "جبل" بتر الكلمات في فمها قبل خروجها ناظرًا إليها بعنف وقسوة يصيح بهميجة:


-اعتذري لوعد ولزينة 


أبعدت نظراتها منها إليه، تنظر إليه بقوة غير واعية لما يقول، أيريد منها هي الاعتذار؟، رفضت حديثه قائلة بغضب:


-اعتذر لمين يا جبل أنا مش هعتذر لحد البنت قليلة الأدب زي أمها اللي واقفة تهددني قدامك 


وقف هو الآخر ببرود شديد استطاع رسمه على وجه وجسده ولكنه ينظر إليها بحدة وامتعاض: 


-الزمي حدك زي ما قالتلك زينة البنت اللي بتتكلمي عنها دي تبقى بنتي وأمها تبقى مراتي وعلشان منكترش كلام قدامك حل من الاتنين أما إنك تعتذري أو إنك تطلعي تلمي حاجتك ونوصلك بره الجزيرة 


نهش الغل داخلها، تربع على عرش قلبها بينما هي تستمع إلى كلماته وتدرك جيدًا مدى الاستغناء عنها الذي وصل إليه فهو الآن يطردها مقابل اعتذار:


-أنت بتطردني علشانها يا جبل 


اعفته زينة عن الرد قائلة بشماته وقوة الأنثى داخلها خرجت بشراسة:


-أنتي مستنية يرد عليكي يقولك ايه؟ آه بيطردك علشان مراته وبنته 


رفعت يدها بوجهها وفتحت فمها لتصرخ بها تسبها:


-أنتي 


قاطعتها بعنف وشراسة قبل أن تخطئ مرة أخرى بحقها، تناظر عيناها بقوته وليس قوتها، يخرج صوتها بنبرة واثقة قوية استمدتها منه بسبب أفعاله السابقة معها لتتحدث بأريحية والشماته تتخلل قوتها:


-خليكي فاهمه إني هنا مرات جبل العامري، صاحبة القصر وصاحبة الكلمة هنا بعد جبل وطنط فبلاش تنسي نفسك يا تمارا.. اللي ليكي أنتي رمتيه وأنا أخدته بلاش بقى الشويتين دول علشان قرفوني بصراحة 


أقتربت من جبل بطريقة حميمية أمامهم تضع يدها حول عنقه تنظر إليها بمكر واستطردت:


-آه.. وبلاش بردو كل شوية ترمي نفسك عليه مش هيبصلك علشان هو رماكي 


تحدثت "وجيدة" بعد صمت دام طويلًا ولكنها للحق كانت سعيدة للغاية برد "زينة" واهتياج "جبل" عليها ووقوفهم هكذا أمامها:


-اعتذري يا تمارا أنتي هتكسري كلام جبل 


نظرت إليهم بحقد دفين، الشر اخترق نظراتها نحو الجميع لم تستطع حتى التعبير عنه إلا من خلال اهتياجها ونظرتها القاتلة، لو كانت النظرات تصيب باسهمها لكانت أصابتهم ليقعوا أسفل أقدامها ولكن هذا من حسن حظهم..


وقفت لحظات هكذا والنيران تنهش داخلها تشتعل أكثر وأكثر مخلفة في الداخل خراب لا مثيل له تاركة كل شيء رماد حتى قلبها.. تنفست بهدوء وهي تحول نظرتها إلى أخرى اعتيادية هادئة في لمح البصر وكأن شيء لم يحدث لتقوم بفعل ما أراد منها بهدوء:


-أنا آسفة يا وعد هانم.. 


نظرت إلى "زينة" لحظة واحدة فقط ثم خرجت كلماتها مشتعلة بالنيران المصاحبة للغيرة الشديدة التي تقتل أن لزم الأمر إلى ذلك:


-أنا آسفة يا زينة هانم 


ضيقت عينيها عليها وهي تقف تجواره بكل هذه السهولة والبساطة أمام الجميع وهي لم تستطع فعلها يوم على الرغم من أنهم كانوا على علم بحبهم الكبير الذي تبخر كأنه ماء اشتد غليانه وأخذ وقت أكبر بكثير من وقته المعتاد.. 


ولكن، هل يقبل المرء بالأمر الواقع أمامه؟ أن يفقد كل ما كان ملكه في يوم وليلة، إن كان هو من تركه ليتقبل الأمر ولكن إن كان أراده وسلب منه فلن يتقبل الأمر إلى الممات، سيفعل أي شيء، أي شيء يجعله يعود بأملاكه أو خسارتها كلها بما فيهم مالكها!؟..


خرجت من الغرفة بخطوات واسعة وعقلها بدأ في التفكير المفرط كيف سينفذ تلك الخطة التي سيقتل بها الأملاك والمالك؟.. ليحرم على الجميع السعادة إن كانت آتية من غيرها!..


❈-❈-❈


دلفت إلى "فرح" في نفس اليوم ليلًا بعد أن أعمت الغيرة عينيها عن كل شيء ولم تعد ترى غير "زينة" التي تربعت على العرش مكانها مستمتعة للغاية بازلالها


جلست على الفراش بعد أن ولجت إلى الغرفة مغلقة الباب وقالت دون سابق إنذار بجدية تامة:


-بقولك ايه أنتي معايا في أي حاجه مش كده 


اعتدلت "فرح" في جلستها حيث أنها كانت ممدة على الفراش تنظر إليها باستغراب وسألتها مضيقة عينيها عليها:


-حاجه ايه بالظبط يا تمارا


تحدثت بخبث معتقدة أنها تستطيع الوصول إلى ما تريد من خلال هذه النقطة:


-هو أنتي مش عايزة إسراء تمشي من هنا علشان يخلالك الجو مع عاصم بتاعك 


لوت "فرح" شفتيها باستهجان وأكملت ما بدأته ابنة عمها تقول بسخرية:


-وأنتي عايزة زينة تمشي علشان يخلالك الجو مع جبل صح؟


أومأت إليها الأخرى بقوة تؤكد حديثها:


-صح 


ابتسمت بتهكم ساخرة على ما بقي برأسها بعد أن رأت كل ما يحدث بينهم بعينيها ولكنها للأسف لا تريد تقبل الوضع، تنفست بعمق ونظرت إليها بقوة وأردفت بجدية شديدة تلقي عليها الحقيقة التي تهرب منها:


-طب اسمعي بقى الخلاصة.. جبل مش هيبصلك تاني خلاص زينة دخلت قلبه مش دماغه بس وعاصم مش هيبصلي تاني ده لو كان في أولاني أصلًا خصوصًا بعد اللي عرفه عني


اعترضت على حديثها قائلة:


-بلاش كتر كلام واسمعي مني خلينا نعمل حاجه ولما يبقوا يغورو من هنا نبقى نشوف هنعمل ايه 


عادت "فرح" للخلف بضيق وامتعاض تنظر إلى البعيد قائلة بحزن:


-أنا مش هعمل حاجه يا تمارا خلاص.. عاصم بيحب إسراء وعمره ما هيبصلي لو سمحتي بلاش تفتحي معايا الموضوع ده أنا ما صدقت بدأت أنساه 


تابعتها بغل واضح ناحيتها هي الأخرى ولكنها حاولت مداراته وتحدثت بأنانية:


-طيب يا ستي متعمليش أنتي حاجه لسي عاصم وانسيه براحتك بس ساعديني اتخلص من زينة دي وتغور في داهية 


عادت إلى الأمام مرة أخرى تخترقها بنظرتها صائحة:


-ولا حتى هعمل حاجه لزينة عارفه ليه؟


زفرت الأخرى بضيق شديد وهي تنظر إليها بكره قائلة بتبرم:


-ليه بقى إن شاء الله أنتي هتبقيها عليا 


أومأت إليها بتأكيد واثقة من حديثها تردف متذكرة ما فعلته معها:


-آه هبقيها عليكي علشان زينة هي الوحيدة اللي أخدت بالها مني وهي الوحيدة اللي خافت عليا وكانت بتدخلي في كل وقت بعد اللي حصل 


اسطردت تكمل بنبرة حادة تنظر إليها بقوة تخترقها بحديثها الحاد ليصل إليها المعنى:


-جبل منع عني الأكل مرة واحدة بس في اليوم هي كانت بتجبلي من وراه وهي اللي جابتلي أدوية علشان أخف بعد ما كنت بموت من اللي عمله فيا


أكملت تضيق عينيها عليها:


-حتى لما نزلت النهاردة.. كانت هي السبب لما اتحايلت على جبل يخرجني بسبب حالتي


وجدتها تنظر إليها بسخرية وتهكم لا تعير حديثها أي اهتمام فأكملت تحدثها عن الذي فعلته "زينة" ثم أكملت بقسوة تنظر إليها بتقليل وخيبة أمل:


-على الرغم من أن علاقتي بيها كانت زفت وعمر ما كان في بينا كلام عادي حتى.. بس هي الوحيدة اللي وقفت معايا وحسيت أن قلبها عليا وبتعمل ده من غير مقابل.. عملت اللي كان المفروض أنتي تعمليه 


صاحت بوجهها بقوة تُهينها دون رحمة:


-اعمل ايه يابت أنتي عبيطة.. دا جبل كان دبحني حرج علينا كلنا هو أنا حمل علقة من اللي اخدتيها 


ابتلعت تلك الإهانة منها وأكملت بحديث ذو مغزى:


-ماهو حرج عليها بردو.. بس هي مطلعتش واطية مع أن لو مكانتش عملت كده مكنتش هزعل لأنه متوقع لكن خالفت توقعي..


زفرت بضيق ثانيةً وهي تتابعها بغضب قائلة بنبرة ممتعضة متسائلة:


-من غير تلقيح كتير أنتي معايا ولا لأ


عادت للخلف وتابعتها بهدوء لتجيبها برفق زائف:


-أكيد لأ مش معاكي في حاجه 


نظرت إليها بغضب ثم وقفت لتذهب تاركه إياها قائلة بغيظ:


-ماشي


خرجت من الغرفة ودفعت الباب خلفها تذهب إلى الخارج بغيظ وعصبية شديدة، جسدها اشتعل أكثر بسبب تلك الغبية ابنة عمها التي وقفت ضدها ولم تساندها فيما تريد، مرت على غرفتهم، جذبها صوتهم العالي الذي يخرج إليها فتقدمت من باب الغرفة تنظر حولها كي ترى إن كان هناك أحد يراها أو لا اطمئن قلبها وهي تعود برأسها إلى الباب لتستمع إلى أصواتهم العالية.. حديثها عن ماذا يعمل وحديثه عن أنها لا تهدأ أبدًا.. تفهمت بعض الكلمات وغيرها لم تفهمه صوتهم يعلو تارة وينخفض تارة ولم تتوصل إلى أصل الحوار بينهم ولكنها استمعت إلى أشياء ثمينة للغاية!.. لتعود إلى الخلف مُبتسمة مقررة ما الذي ستفعله.. اليوم وليس غد وإن لم يحدث هناك البديل..


❈-❈-❈


رفعت "تمارا" يدها بالسكين بغل وحقد و "زينة" مصوبه عينيها نحوها مازالت الصدمة تلجم جسدها بالسكوت فقط تنظر إليها بخوف شديد، هوت "تمارا" بيدها عليها بقوة شديدة تحركها غيرتها نحوها لتأخذ حياتها وتسترد بها ما ملكته هي ولكن "زينة" استفاقت في آخر لحظة لترفع يدها تقبض على يد "تمارا" الحاملة للسكين الذي أصبح قريب للغاية من صدرها تحاول بقوتها أن تبعدها عنها ترفع يدها للأعلى متمسكة بالحياة وسعادتها التي حصلت عليها مؤخرًا


ولكن "تمارا" عزمت أمرها على إنهاء كل هذا اليوم لتستمر في دفع السكين بها إلى أن وقف على بعد هفوة واحده من قلبها، تنظر إليها "زينة" برهبة شديدة والخوف يبعثر كيانها ليرتفع صوتها بالصراخ فجأة يعم أرجاء الغرفة 


صرخت بعنف ممسكة بيدها بقوة واستماته:


-ابعدي عني يا مجنونة 


أردفت تُجيبها مبتسمة بسخرية وكراهية:


-مش هسيبك غير وأنتي غرقانة في دمك 


تركت إحدى يدها الممسكة بالسكين ترفعها على وجه "زينة" تلطمها بعنف لتصرخ بقوة، صعدت على الفراش قابعة فوقها تخترقها بنظرات الشر الكريهة والحقد الدفين بقلبها تجاهها..


خارت قوى "زينة" وهي تشعر بيدها تنزلق لتمسك بطرف السكين بيد والأخرى تقبض على يدها بها تحاول رفعها للأعلى.. قطرات الدم أصبحت تهبط من يدها بغزارة وقوة فارتفع صوتها أكثر صارخة بعنف تستنجد بزوجها:


-جــبــل... الحقني يا جــبــل 


عقبت على ذلك الصراخ بتهكم:


-مشي.. محدش هيلحقك ولا حد هيسمعك القصر كبير أوي والكل نايم


أكملت بجنون هستيري:


-مش هسيبك يا زينة غير وأنتي ميتة النهاردة 


حاولت مرة أخرى بعدما أدركت أنه بالفعل رحل إلى الخارج:


-يا طــنــط.. يا فـــرح


تعالت صرخاتها أكثر والسكين تنغرز بيدها بقوة أكبر لتدلف إلى الأعمق والدماء تهبط على صدرها بينما السكين تقترب من موضع قلبها ولم يبقى سوى القليل للفراق.. رفعت وجهها إليها غير قادرة على ردعها عما تفعله أو مجابهتها بالقوة بل كان جسدها يرتعش من هول الموقف ويدها لم تستطع أن تساعدها لم يبقى أمامها سوى الصراخ بصوت أعلى لعلى وعسى يستمع إليها أحد


بينما كان هذا الصراع دائر أما النجاة أو الموت، كان "جبل" مازال في الأسفل مع "عاصم" يسير في الحديقة بعيدًا عن القصر يتحدثون سويًا، سار إلى أن وقف أمام البوابة الخارجية لينظر إليه قائلًا بجدية:


-هروح أنا أشوف الموضوع ده وأنت خليك هنا 


أومأ إليه ليفتح له الحارس بوابة القصر يهم بالخروج ولكن صوتها الصارخ المستنجد بإسمه بقوة وشراسة اخترق أذنه يجلجل قلبه في صدره، استدار ينظر إلى الأعلى لشرفة غرفتهم وقلبه يدق بعنف ولهفة خوفًا عليها يستمع إلى صراخها مرة أخرى وأخرى فلم يستطع الانتظار أكثر ليؤكد ظنه بل ركضت قدميه دون إرادة منه للداخل..


ركض خلفه "عاصم" خوفًا من أن يكون هناك أحد دلف إلى القصر ولكن هذا من المستحيل بعد كل هذه التشديدات وإلا سيكون هكذا وجودهم مثل عدمه..


صعد "جبل" الدرج ركضًا يلهث بقوة وعنف، ضربات قلبه تتعالى ووتيرة أنفاسه متضاربة للغاية، جسده متشنج مهتاج بقوة ولم يكن معه سلاح لمواكبة الأمر بسهولة ولكن "عاصم" كان خلفه فصرخ به:


-طلع سلاحك 


امتثال لأوامره يركض خلفه في الرواق ناحية غرفته واستمع إلى صوت "إسراء" الصارخ بخوف:


-زينة مالها 


ركضت خلفهم بلهفة وخلفها والدته و "فرح" التي استنتج عقلها ما يحدث..


اقتحم الغرفة بهمجية شديدة مُعتقد أن هناك غريب يفعل لها شيء شنيع بعد كل هذا الصراخ الذي أودى بقلبه إلى التهلكة.. نقطة ضعف خلقت بقلبه ليكن أضعف ما يكون


تقدم سريعًا إلى الداخل يرفع "تمارا" من على الفراش بقسوة وغلظة لتأخذ السكين بيدها يمر على يد "زينة" أعنف فخرجت من بين شفتيها صرخة حادة متألمة للغاية..


ألقى بها على الأرضية بعنف وقسوة فرفعت نظرها إليه بكره شديد يخرج الشر من عينيها تجاهه أكثر من "زينة" نفسها.. وضع "عاصم" سلاحه في موضعه متقدمًا من "تمارا" بعد أن انشغل "جبل" بزوجته ليأخذ منها السكين عنوة عنها تحت صمت تام..


احتضنها "جبل" بقوة يربت على ظهرها يردد عبارات هادئة كي تهدأ وتطمئن إنه معها هنا ولن يتركها، ترتعش أسفل يداه يشعر بها وبحالتها المزرية على الرغم من أنها امرأة قوية للغاية..


أبتعد ينظر إليها بهدوء ودلفت "إسراء" إليها لتجلس جوارها تبكي بقهر خائفة للغاية يخرج صوتها متعلثم:


-أنتي كويسه 


أومأت برأسها بعد أن جلست على الفراش يساعدها جبل ممسكًا بيدها التي تنزف، وقف سريعًا متقدمًا من المقعد في الغرفة الذي كان عليه قميصه القطني ليجلبه واضعًا إياه على يدها يكتم الدماء الخارجة منها بغزارة ناظرًا إليها بضعف وقلة حيلة شعر بها تجاهها بعدما فعلت بها هكذا وهو بعيد عنها لم يستطيع حمايتها..


اقتربت والدته وشقيقته بخوف حقيقي ولهفة شديدة عليها، صرخت "وجيدة" بعنف بوجه "تمارا" وهي تتقدم منها تجذبها من خصلات شعرها:


-أنا يا بت مش حذرتك.. ورحمة أهلك ما هسيبك تفلتي بعملتك السودة دي 


نظراتها تحولت إلى القسوة الشديدة والعنف الخالص وهي تشتد بيدها على خصلاتها غير عابئة بأي شيء لا من هي ولا أين هي، لقد حذرتها سابقًا ولكنها لم تمتثل لما قالته لها عليها تحمل النتيجة التي ستكون مروعة للغاية..


دفعت رأسها للخلف بعنف لترطدم بالحائط تآن بألم فابتعدت عنها وتركتها متقدمة من زوجة ابنها بلهفة وتغيرت ملامحها من القسوة إلى اللين تنظر إليها بهدوء:


-أنتي كويسه يا زينة 


أومأت إليها مُجيبة بخفوت:


-كويسه يا طنط 


رفعت "إسراء" وجهها الباكي لتنظر إلى "عاصم" الذي كان يقف يعطيهم جانبه عينيه على "تمارا"، أخفض رأسه سريعًا عندما أدرك أن "زينة" مرتدية قميص نوم عاري الصدر وقدميها ظاهرتان منه فقد خلعت المئزر بعدما هبط "جبل" إلى الأسفل وتركها..


كل هذا الوقت و "جبل" ينظر إليها بخوف حقيقي، ذعر عندما استمع إلى صوتها الصارخ الذي يستنجد به شعر وكأن قلبه على نيران أو جمر مشتعل يتلوى من شدة الألم.. 


ينظر إليها الآن يحمد ربه أنه أتى بالوقت المناسب، لو كان تأخر قليلًا لا يستطيع تحديد ما الذي كان حدث بها على يد ابنة عمه أكثر من هذا..


عودة قلبه ينبض بالحب والشغف، شعوره بالعشق واللهفة جعل هناك نقطة ضعف كبيرة للغاية متحكمة به إلى أبعد حد.. 


شعوره الآن بالعجز وهو ينظر إلى تلك العبرات التي هبطت من عينيها لا يوصف، منذ أن أتت إلى الجزيرة وهو كل يوم بحال وحكمه كل يوم بحال، ليس هناك أحد في القصر أو في الجزيرة بأكملها بقي على حاله..


ما الذي بها يجعلها تعيد ترتيب كل شخص منهم.. لحظات لا يجب بها التفكير ولكنه للأسف الشديد لم يستطع منع عقله عن ذلك وهو يتابعها بعينيه الخضراء..


تنهد بعمق محاولًا استعادة نفسه، وقف على قدميه ينظر إلى "تمارا" والآن أدرك أن "عاصم" بقيٰ واقفًا ولكنه لا ينظر إليهم، عاد إلى "زينة" مرة أخرى جاذبًا المئزر من على طرف الفراش يجعلها ترتديه بيده تحت نظرات الجميع إلا "عاصم"..


ترك كل شيء، تركها وهو يعلم أنها الآن بحاجه إليه لتستمد منه الشعور بالأمان والقوة، ولكن الآن لن يصدر عنه إلا القسوة والغلظة المميته..


أقترب من "تمارا" ليقف أمامها وهي جالسة على الأرضية تتابع قلق الجميع عليها، انخفض قليلًا ليقبض على ذراعها يقف معتدلًا جاذبًا إياها معه لتقف أمامه مباشرة..


تابعها بعينيان حادة للغاية، كريهة مشمئزة منها والأسوأ الشر الذي يخرج لها، في لحظة واحدة كانت يده تصفع وجنتيها بعنف وقسوة ليقوم بالقبض على ذراعيها الاثنين بشراسة قائلًا بصوت خافت يهبط على أذنها كالفحيح:


-عايزة تقتليها؟ 


لم يلقى منها ردًا فابتسم وهو ينظر نحوها تلك النظرة الثاقبة، ومرة أخرى تركها ليعود يصفعها من جديد، مرة وخلفها الأخرى يلطم وجنتيها الاثنين بقوة وعنف إلى أن نزفت شفتيها وأنفها..


حاولت دفعه للخلف وهي تصرخ بجنون:


-أيوة هقتلها، مش هسيبها يا جبل هقتلها وهندمك


أكملت تنظر إليه بحقد:


-بقى أنا تسيبني علشان مرات أخوك.. يعني يوم ما تقرب منها تفتكر إن أخوك عملها قبلك 


هبط على وجنتيها بالصفعات المميتة بعدما أحرقت قلبه بتلك الكلمات الشرسة التي هبطت على قلبه دون هوادة تحطمه إلى أشلاء مبعثرة على الأرضية تشعل نيران غيرته عليها من شقيقه الراحل!!


أقترب "عاصم" منه سريعًا عندما وجده لم يستطع التحكم بنفسه يجذبه للخلف بعيد عنها صائحًا به بصوت عالي:


-كفاية يا جبل 


دفعه جبل بعنف يود الفتك بها تلك الحقيرة التي تلعب بالنيران على أوتار قلبه ليصرخ هو الآخر:


-هقتلها بنت الكلب.. هقتلها 


لم يتركه بل أحكم قبضته عليه وهو يدفعه للخلف بعنف أكثر حتى لا يفعل بها شيء يندم عليه فاستمع إلى صوت والدته تقول بقسوة:


-عاصم.. خديها احبسها في أي داهية دلوقتي 


تابعت تنظر إلى جبل:


-وأنت يا جبل شوف مراتك الأول وسيبها ليها فوقه 


دفعه "عاصم" وتقدم يجذبها بقوة من ذراعها يأخذها إلى الخارج تاركًا إياهم..


إلى الآن لم يصدر عن "زينة" أي ردة فعل فنظر إليها بعمق محاولًا الهدوء، أخذ نفسٍ عميق وزفره بحدة متوجهًا إليها يجلس أمامها على الفراش موجهًا حديثه إلى "إسراء":


-انزلي ورا عاصم خليه يكلم الدكتور 


أومأت إليه برأسها ووقفت سريعًا تركض خلف "عاصم" لتلحق به، تقدم إلى الأمام أكثر يمسك بيدها التي نزفت كثيرًا، رفع بصره إليها بهدوء:


-حبيبتي.. أنتي كويسه 


تابعته بعينيها السوداء تحاول أن تتدارك الأمر وتستوعب أنه مر وكأنه كابوس بشع، حركت رأسها إليه بالإيجاب فاقترب يأخذ رأسها إلى صدره يريحها يربت على خصلاتها بهدوء قائلًا بحنو:


-متخافيش.. أنا معاكي


كانت تريد أن تنعم داخل أحضانه حقًا بالراحة والاطمئنان، شعرت أنها في لحظة واحدة ستكون مع الأموات تاركة كل شيء خلفها على الرغم من أنها تمسكت بالحياة بقوة وشراسة تحاول مجابهة قتلها ولكن الأخرى كانت الأقوى وهي تعتليها مستغله خوفها وارتعاش جسدها ويدها التي جرحت وأعاقت صمودها.. كانت لحظات فارقة وستتوجه إلى الاستسلام ولكن للقدر رأي آخر..


اعتقدت أنه رحل بعدما تركها وهبط إلى الأسفل، كُتب أنه لا يرحل ويبقى بالقصر لوقت أطول حتى يكن هو المنقذ لها، ذلك الدرع الحامي، الأمن المحب..


الآن تشعر بالضعف الشديد والخوف الذي فتك بقلبها ولكن بينما هي تضع رأسها على صدره وكأن العالم أجمع بين يديها في موضع ذلك القميص القابض على جرحها..


رسم الهدوء على ملامحه وداخله نيران لا تهدأ، كانت مشتعلة بسبب فعلتها ولكنها سكبت عليها البنزين لتشتعل أكثر تحرق كل ما به وهي تذكر شقيقه وعلاقتها به، تذكر أنها كانت له قبله، كانت تفعل معه كل ما تقدمه إليه الآن.. من حب وغيره..


حرك رأسه يمينًا ويسارًا وهو قابض عليها بين يده محاولًا طرد تلك الأفكار المسمومة من عقله فهي ألقتها عليه بمغزى واضح وصريح للغاية، لن يجعلها تفعل ما أرادت بهذه السهولة..


بقي جوارها كثيرًا ولم يتحرك يبعث إليها كلماته الهادئة التي تنافي داخله، يرسل إليها بعيناه نظرات حنونة محبه يحاول أن يجعلها لا تخاف وهو جوارها وقد فعل عندما خرجت من حالتها تتحدث معه عن تلك الغبية الحقيرة التي كانت تريد قتلها..


بقيٰ إلى أن أتى الطبيب الذي تولى أمر يدها ورحل ومعه الجميع إلى الخارج..


نظر إلى قميصها المتسخ بدماء يدها وقال بهدوء:


-قومي اساعدك تغيري هدومك 


اعترضت بخجل:


-مش لازم 


زفر بامتعاض من خجلها الزائد الذي ربما سيزعجه قريبًا:


-زينة.. أنا مش غريب عنك أنا جوزك وحصل بينا حاجات كتير تخليني متتكسفيش مني..


أومأت برأسها إليه فذهب هو إلى الخزانة يخرج إليها قميص غيره بالمئزر الخاص به غير الذي ترتديه، توجه إليها بثبات ورزانة، جلس أمامها يساعدها في تبديل ملابسها ينظر إلى جسدها باشتهاء على الرغم من أنه كان غارق معها منذ قليل.. حاول ضبط أنفاسه التي تسارعت وهي ينظر إليها وقد شعرت به فاخفضت وجهها عنه بخجل تجذب من يده القميص سريعًا تقوم بارتداءه وهي تبعد أنظارها عنه..


أقترب منها محاوطًا جسدها بيده الاثنين يضغط على خصرها بأصابعه قائلًا بنبرة متألمة ضعيفة:


-متعرفيش حصلي ايه لما سمعت صوتك.. 


أبعد إحدى يداه ومازالت الأخرى على خصرها يرفعها إلى وجهها يحركها على وجنتها برفق وحنان يقترب منها يتحدث أمام شفتيها بشغف:


-حسيت أن قلبي طلع من مكانه ومعرفتش أفكر للحظة ايه اللي بيحصل مدرتش بنفسي حتى غير ورجلي جيباني عندك 


أكمل محاولًا بهدوء أن يوصف لها إلى أي مدى أصبح عشقها يسري به ولكنه لا يستطيع:


-زينة، متتصوريش أنا بحبك قد ايه ولا بحبك إزاي.. مش عارف اعبرلك عن اللي جوايا ولا حتى أعبر بيه لنفسي بس أنتي حاجه كبيرة أوي عندي..


استنشق أنفاسها اللاهثة بفعل اقترابه منها إلى هذا الحد، يتحدث أمام شفتيها مباشرة لا يفصل بينهم شيء ليكمل:


-نقطة ضعفي اللي عمرها ما كانت موجودة بالشكل ده 


رفعت يدها المعافاة إلى وجنته تبادله بحب تنظر إليه بشغف أكبر منه بكثير تتحدث برفق ولين أمام وجهه:


-متفكرش إنك لوحدك اللي كده.. جبل أنا كمان حبيتك.. حبيتك أوي مش عارفه إزاي وامتى 


اخفضت بصرها إلى الفراش تبتعد بعينيها عنه تقول بجدية وحزن:


-عارفه إن كلام تمارا أثر فيك عن علاقتي بيونس، هي عندها حق 


رفعت بصرها ثانيةً تنظر إلى داخل خضار عيناه تحرك يدها بحميمية عليه قائلة بعشق خالص:


-بس اللي متعرفهوش إني والله العظيم بعيش معاك مشاعر كأنها أول مرة 


أكملت تحرك عينيها على ملامحه بشغف ورغبة:


-أنا أيوه كنت بحب يونس أوي، لو مكنتش بحبه وبيهمني نفسي أكتر منه ومن بنته كنت اتجوزت غيره من زمان.. بس فجأة اكتشفت أنه ضحك عليا، حبي ليه بدأ يقل لحد ما حسيت إني مش بحبه بالعكس بقيت كاره اللي كان بينا بسبب كدبه وغدره بيا 


وجدته ينظر إليها برضاء تام، يبعثر نظراته على كافة ملامحها يستشعر صدقها فأكملت بثقة:


-فجأة حبه ده بقى ليك أنت أضعاف، متسألنيش امتى وازاي بقى أضعاف، أنا كنت بكرهك أوي يا جبل، كنت عايزة اقتلك وحاولت أعملها إزاي اتغيرت كده معرفش بس يمكن علشان حسيت أنك غير اللي بتظهره ليا، أنك شخص تاني رحيم وعادل، وحسيت بحبك.. يمكن حبيتك أضعاف يونس علشان مريت معاك بحاجات كتير غيره..


زفرت ثم اسطردت بعقلانية:


-الحياة معاه كانت تقليدية، معاك مريت بالجنون، الشغف، المغامرة والمجابهة، الكره والحب، الضعف والقوة وكل حاجه وعكسها..


حركت إصبع يدها على شفتيه باغراء:


-صدقني أنا بحبك زيك بالظبط وأكتر يا حبيبي.. قوتي دلوقتي باخدها منك أنت.. طول عمري القوية بس والله جوايا ضعف كان نفسي استقوى بحد والحد ده هو أنت يا جبل 


لم يجد أي كلمات يعبر بها، إلى هذه الدرجة الدنيا راضية عنه؟ إلى هذه الدرجة أيامه القادمة ستكون سعادة خالصة تبعث إليه إنذار بلحظات السعادة التي سيدوب بها عشقًا..


انقض على شفتيها يقبلها قبلات دامية قاتلة، يبعث بها كل شعور مختلف داخله يطمئن قلبه وعقله راضيًا تمامًا عما قالته عن شقيقه، كلمات بسيطة للغاية جعلت رجولته راضية عنها متناسيًا تلك الغيرة الواهية.. أيغير من متوفي!؟..


التهم شفتيها وما بها يقبلها بعنف وشراسة قابضًا على رأسها من الخلف يقربها منه يحرك يده عليها بحرية تامة، قابلته بالحب موافقة بالقوة على كل ما يصدر عنه تبادله حدته وقوته بعاصفتها الهوجاء التي قد تناست وجودها منذ فترة كبيرة.. لحظات والأخرى وهو يستمر في ذلك لتشعر بآلام تآن بين شفتيه فهدأ قليلًا يغير طريقه يأخذها في درب عشق آخر قبلات رقيقة هادئة وزعها على وجهها بالكامل يهبط إلى عنقها..


توقف يرفع رأسه إليها لاهثًا بعنف والرغبة تحترق داخله:


-أنا بحبك أوي يا زينة.. بحبك 


ابتسمت بسعادة محاولة التحدث بثبات بعد ارتفاع وتيرة أنفاسها الذي سلبها منها قائلة بعشق متبادل:


-أنا بموت فيك يا جبل 


دعنا ننصهر بين النجوم والكواكب نعبر عن ملحمة الحب خاصتنا، دعنا نحدث العالم عن عشقنا المستحيل وبغضنا الذي كان قريب، ألا تريد أن تجعل العالم يرى القوة التي تتحلى بها والسطوة التي تتميز بها! ألا تريد أن يرى العالم قلبك القاسي وضعفه المميت، يبدو أنك تخاف من ظهور نقطة ضعفك فتصبح مطمع للجميع بعد أن كنت القوة الخالية من أي مشاعر..


كان نجم معتم فأصبح ضوء مشتغل بين الظلام

تمتع بقلب قاسي قوي ليتحول إلى الضعف المراد 

رأى الكره تميُز والبغض تعالي فأصبح هاوي غرام

الآن يآن من لوعة نيران الاشتياق شاعرًا أنه سيلقى مصرعه بسبب الفراق..


❈-❈-❈


أخرج "جبل" "تمارا" من الجزيرة بأكملها بعدما ترجته "زينة" ألا يؤذيها قد امتثل لطلبها وجعل حراسه يطردونها منها شر طرده، لم يعيرها أدنى اهتمام وهي تخرج تهدد الجميع بأنها ستفعل ما لا يحمد عقباه..


تهدده بأنها ستدمر حياته وستجعله بيده يقتلها ويلقيها هي الأخرى خارج الجزيرة كما فعل معها.. لم يعطي أحد لحديثها أهمية وهي تذهب صارخة عليهم 


تنفست والدته الصعداء بعد رحيلها فهي من البداية لم تكن مرحبة بها أبدًا، والآن لا يجوز أن تخرب كل شيء بعد أن استقر وأصبح ابنها يريد زوجته بكل جوارحه وهي تبادله ذلك..


حزنت "فرح" على ما حدث لها ولكنها لن تستطيع التدخل لأنها هي من فعلت بنفسها هكذا، أخطأت كما أخطأت هي الآخرى سابقًا..


كل شخص منهم بدأ بالتفكير في حياته ونفسه تاركًا ما حدث خلف ظهره..


بدأت "فرح" في التأقلم على حياتها الآن تاركة "عاصم" تحاول أبعاده عن تفكيرها على الرغم من أنها مازالت تحبه وتريده ولكنه لن ينظر إليها، هي على علم تام بأنه يعشق شقيقة "زينة" وهي الأخرى تبادلة.. حاولت الصمود وتركه وشأنه والنظر إلى حياتها بعد أن دمرتها ربنا هناك ما يمكن إنقاذه..


تتفادى النظر إلى شقيقة "زينة" والجلوس معها في مكان واحد، مازالت تشعر بالغيرة ناحيتها وتراها حصلت على شيء كان من حقها هي ولكن.. لا شيء يتغير هو من اختار وليست هي من سلبته عنوة الآن فهمت ذلك..


وجيدة ليس هناك شيء يسعدها أكثر من وجود حفيدتها ووالدتها التي أصبحت زوجة محبه لابنها وفي انتظار الحفيظ الآخر له.. أهناك سعادة أكثر من هذه!


بينما "جبل" شعر أن الحياة تفتح ذراعيها له لتستقبله بحبها وعشقها، لتجعله يتذوق حلاوتها يتناسى تلك المرارة التي تجرعها لكثير من السنوات..


وهي كانت مثله، رأت العوض به بعد أن كان البغيض على قلبها مُنتهك حريتها، بعد أن كان رجل يريد فقط ترويض امرأة الآن تروضه كما تحب ويروضها كما يحب.. الآن رفعت شعائر الحب..


وقفت "إسراء" أمام "عاصم" الغاضب بقوة ينظر إليها بغضب يهتاج عليها صارخًا:


-وأنتي بتخرجي ليه أصلًا وهو موجود 


عادت للخلف خطوة وهي تراه يكاد يبتلعها ينخفض بجسده عليها بسبب ذلك الطول وملامح وجهه حادة ناحيتها فقالت بجدية:


-في ايه يا عاصم أنا خرجت وخلاص هو أنا محبوسه 


أومأ برأسه بحدة مؤكدًا حديثها يخرج صوته بغلظة:


-آه ياستي محبوسه.. آه محبوسه 


رفعت يدها تُشيح بها قائلة بصوت حاد ترفض حديثه:


-لأ على فكرة مش محبوسه 


وقف معتدلًا ناظرًا إليها باستغراب يحرك عيناه على ملامحها الجامدة وتفوه بعصبية:


-هو أنتي يوم ما يطلعلك لسان يطلع عليا ما تتظبطي


-على فكرة أنا ليا لسان من زمان أوي أهو شوف 


أنهت حديثها الحاد وهي تخرج له لسانها بطريقة طفولية بريئة للغاية تناسى هو غضبه وغيرته العمياء وقف ينظر إليها ضاحكًا بصوت مرتفع وأردف قائلًا بعبث:


-أنتي مجنونة ولا ايه 


وضعت يدها الاثنين أمام صدرها ووقفت معتدلة قائلة بجدية:


-أنت بتضحك على ايه دلوقتي مش متعصب كمل عصبيتك 


عاد هو الآخر إلى الحدة ومحى تلك الابتسامة سريعًا وكأنها لم تكن يسألها بقوة:


-آه صح.. قولتيلي طلعتي ليه بقى


حركت كتفيها بلا مبالاة وهدوء مردفة:


-عادي أنا كنت طالعة اتمشى 


ضيق عيناه عليها بتركيز ورفع إصبعيه مُتسائلًا بخبث ومكر:


-مرتين؟


أومأت برأسها تكيده أكثر غير مبالية بغضبه:


-آه عادي صدفة يعني 


اقترب منها خطوة ضاغطًا على شفتيه بقوة شديدة بأسنانه الحادة:


-قسمًا بالله ههينك


فكت يدها من بعضهما لتصيح بهمجية غير معتادة عليها بعدما تمادى في الحديث:


-تهين مين أنت اتتجننت


قطب جبينه قائلا بحدة:


-اتكلمي عدل وأنا مش هتجنن 


زفر بحنق وهو يبتعد بوجهه عنها ثم عاد مرة أخرى ليسألها ساخرًا:


-عرفتي أنه طلبك للجواز 


استنكرت قائلة:


-ايه الهبل ده 


قال بقسوة وغلظة وعادت الغيرة تنهش قلبه من جديد:


-عرفتي بقى أنا ليه اتجننت 


بررت موقفها بجدية تامة ثم لانت في حديثها تقول بدلال وخفوت:


-أنا مكنتش أعرف على فكرة وكمان والله كنت خارجة عادي يعني وبعدين أنا بحب واحد أصلًا حتى لو مليون حد طلبوني للجواز 


ابتسم بهدوء وترك غضبه وتلك الغيرة الغبية جانبًا ليهبط برأسه إليها مرة أخرى قائلًا بابتسامة متسعة:


-واحد مين طيب 


رفعت وجهها إلى الأعلى تعاكس ما فعله لحظة وتفوهت بسخرية وتهكم:


-واحد طويل أوي علشان يتكلم معايا بينزل لتحت 


أشار إلى نفسه بيده مضيقًا عينيه عليها:


-أنتي بتتريقي عليا 


قالت بتعالي وهي تبتعد للخلف تنظر إليه باشمئزاز مصطنع:


-هو مين جاب سيرتك أصلًا


أقترب في خطوة واحدة منها قاطعًا المسافة التي ابتعدتها قابضًا على يدها يصيح بغل وعنفوان:


-نعم يا روح أمك 


اتسعت عينيها عليه وهي تجذب يدها بحدة وأردفت بانزعاج حقيقي:


-أنت على فكرة بدأت تتمادى معايا في الكلام عيب كده 


نظر إليها، رأى لمعة تلك العيون الغريبة، وتلك الرائحة التي تنبعث منها بالعشق الخالص فلم يجد نفسه إلا يردد بعفوية وشغف:


-إسراء.. أنا عايز اتجوزك 


نظرت إليه بقوة شديدة وعيون متسعة عليه كأنه قال كلمات مخلة مصدومة للغاية فتركته وذهبت راكضة مبتعده عنه ذاهبه إلى القصر والفرحة تغرق جسدها تغدقها بالحب والجنون به..


ابتسم ضاحكًا مغمغمًا:


-يا بنت المجنونة 


عاد هو الآخر يبتعد وتركها تتخفى من نظراته، ينتظر الفرصة المناسبة لخوض المعركة وبدأ الحرب من أجلها، ينتظر بحب أن تكون ملكه، تاركًا لوعة الاشتياق تفتك بقلبه، تاركًا لهفة قربها منه تتغنج أمام عيناه وكأنها تقول له لن تنالها بسهولة.. ولكنه يُجيب صبرًا..


❈-❈-❈


وقف في الشرفة ليلًا يبتسم بهدوء وحده، تداعب نسمات الهواء الباردة صدره، يفكر في كل ما حدث وما مر عليه في الفترة الأخيرة كالذي قبلها.. أصبحت حياته عبارة عن نعيم على الأرض بوجودها مع ذلك الاستقرار الذي حدث في الآونة الأخيرة بعدما أبتعد كل حاقد من بينهم تارك الجزيرة أو العالم كله..


دلف إلى الداخل يجلس على الفراش أمسك بهاتفه الذي أتى إليه رسالة من رقم "طاهر" الذي إلى الآن لا يعرف طريقه ولكن لن يستسلم وسيأتي به وإن عاد إلى بطن والدته..


لا يحب أبدًا النظر إلى رسائلة أو معرفة محتواها دائمًا تكون أشياء تعكر صفوه، فتح الرسالة على مضض ينظر إليها بجدية تحولت فجأة إلى دقات متعالية في القلب وأنفاس متلاحقة وكأنه يركض في سباق لن يفوز به أبدًا..


"خلي بالك من المدام، يمكن تكون مكان جلال"


رفع بصره عن الشاشة ينظر أمامه في الفراغ، مستحيل، لا يعقل أن تكون هكذا لن تخونه أنها ليست خائنة أنها تحبه إلى حد لا يوجد مثله.. 


ليس من طبعها الغدر لا، لن يجعله يشكك بها وبحبها له، لن يجعله يشكك بأي شيء يأتي منها، أنه أحبها ولا يستطيع الإبتعاد عنها فقد أصبحت ملاذه الوحيد تلك التي تعري أمامها من كل شيء.. أصبح عاري الجسد والفكر، أصبح عاري بقلبه سواء أن كان قسوة أو ضعف..


ستكون هذه الضربة الأكثر ألمًا وبغضًا، ستكون هذه النهاية ولن يكن بعدها بداية.. سيكون هنا سقوط "جبل العامري"..


فارت الدماء بعروقه وهو يفكر بهذا الحديث يأبى أن يصدق أنها هكذا، يشعر بالحيرة وبراكين الغدر مشتعلة داخله.. لا ليس هي 


نظر إلى جواره وجد هاتفها على الكومود، أمسك به بين يده المرتعشة لأول مرة.. لأول مرة يشعر بالارتجاف في سائر جسده وقلبه بالأخص


فتح هاتفه هو الآخر مع هاتفها وبدأ بنقل إحدى عشر رقمًا، منذ أن كتب على الهاتف خمسة أرقام وظهر وكأنه أتم الجميع ليتأكد من ظنونه الخبيثة التي نهشت عقله، أعاده أكثر من خمسة مرات.. ينظر إليه ويقرأه ويُعيد كتابته مرة أخرى..


كان هذا رقم طاهر المسجل بهاتفها "طريقي"


كيف طاهر طريقها؟ ضغط على زر الاتصال ووضعه على أذنه ليأتيه الرد سريعًا منه:


-بقالي فترة مستني مكالمتك ومش عايز أنا أتكلم.. ها عندك أخبار تانية عن حضرة الأستاذ مصاحب الحكومة


أغلق الهاتف وأخفض يده ينظر إلى الفراغ المميت حوله، سكين حاد ملطخ بالحب الكاذب احتال على عقله ليتمسك بها اعتقادًا أنه سيقطع بها ثمار الغرام فغدرت به وتوجهت نحو قلبه تطعنه بمنتهى البساطة يتخلل الغدر نظرتها نحوه، مستهزئة به إلى أبعد حد..


خنجر آخر ملطخ بكلمات معسولة من كثرة حدته وروعته إلتف عليه ليطعنه في منتصف ظهره ضاحكًا بصوت عالي للغاية يستمع إليه كل من على الجزيرة، نيلها وجبلها وسكانها وكل نملة ساكنه بها، ينظرون إليه بسخرية مميتة..


هبط بعيناه إلى الأسفل، لقد طعنته بسكين تالم، لقد أخذت قلبه من مكانه ووضعته أسفل قدميها، أتمنها على أكبر سر بحياتها فغدرت به وأعطته إلى أكبر أعدائه..


لا يهمه أنه الآن أمام الدولة رجل غير مسؤول أضاع شقاء سنوات لرجال كثيرة شرفاء، أضاع سهر ليالٍ وعمل شاق فقط لأنه رجل غبي هواه الحب ولعب به أقذر لعبة...


هبطت دمعة من عيناه على الأرضية مباشرة وهو منحني على نفسه بهذه الطريقة، خذلان للمرة الثانية ولكنه الأقوى والأكثر عنف وقسوة..


انحنى "جبل العامري" وبكت عيناه على امرأة خائنة، لم يبكي على ابنة عمه، والله أنها كانت رحيمة عنها، رحلت دون أن تسبب له أذى بينما هذه كانت تنام بأحضانه تلقي عليه بكلماتها الغرامية كل ليلة وهي تعاون أكبر أعدائه.. تعطي إليه أكثر المعلومات خطورة منه على الدولة..


ألهذا السبب كانت دائمًا فضولية! ألهذا السبب أتت إلى هنا؟


استمع إلى باب المرحاض يغلق وشعر بها خلفه في الناحية الأخرى من الفراش، استعاد نفسه في لمح البصر ووقف على قدميه يستدير ينظر إليها بقوة وغلظة.. قسوة بعيناه لم تراها أبدًا حتى عندما أتت إلى الجزيرة..


رفع الهاتف أمام عينيها بعدما قام بفتحه وقال بسخرية شديدة ونبرته تخرج كفحيح الأفعى وهو يقترب منها:


-طريقي! 


وقف أمامها ينظر إلى عيناها السوداء يخفي عتابه لها وخذلانه منها لا يظهر إليها إلا القسوة والعنفوان القابع داخله تجاهها..


ابتعلت غصة مريرة وقفت بجوفها وتابعته بنظرات خائفة أدركت حينها لما رأت تلك القسوة بعيناه، حاولت التحدث وهي ترتعش بقوة ولكنه قاطعها قبل أن تردف بكلمة واحدة صارخًا بقوة اهتزت لها أرجاء الغرفة:


-طــريــقــك


قبض على خصلات شعرها بشراسة وغلظة، لا يحركه نحوها إلا الطعنة التي أخذها منها في منتصف قلبه وظهره، لا يحركه نحوها إلا الحب الذي لم يشعر به إلا تجاهها، لا يحركه إلا الخذلان الذي ناله منها.. والغدر الذي ألقته عليه وكأنه قنبلة موقوتة..


تأججت عروقه بالتهاب النيران بها وهو يصرخ بقوة دافعًا بها على الفراش بشراسة:


-طـريـقـك لـجـنـهـم


هنا انفتحت أبواب الجحيم في حياة "جبل العامري"، لتدلف به العاصفة التي أتت إليه من أبعد البلاد لتُكَون معه قصة حب غير معهودة، ولكن الغدر كان سبيلها للهرب منه، فلا طريق عودة أو نجاة سوى المرور بالجحيم الماثل أمامها..


❈-❈-❈


"يُتبع"


تكملة الرواية من هنااااااااا




تعليقات

التنقل السريع