رواية محسنين الغرام الفصل الحادي عشر 11بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل الحادي عشر 11بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ١١ ~ البقاء للأصدق ~
…………….
كانت تجلس بالسرير وبجوارها الممرضة تطعمها بعض الحساء، تفتح فمها وتغلقه كسمكة في الماء وهي شاردة تماما، وحالة من الخوف والترقب تحيط بها ، ماذا سيحدث حينما ينكشف أمرها ويعرفون ـ أو يعرف هو بالأخص ـ أنها كانت تكذب عليهم وأنها لم تفقد ذاكرتها وأن تلك لم تكن سوى ذريعة لكي تهرب بها من المواجهة الحتمية؟!
تنهدت وهي تجزم بداخلها أنها كانت مخطئة حين لجأت لتلك الخدعة، لأنها أزادت الطين بلة كما يقولون وغرقت بالكذب حتى أخمص قدميها، ولكنها لم تكن على علم بأمر تلك الأشعة وظنت أن الأمر سيمر مرور الكرام وأنها ستنقذ نفسها عن طريق تلك الكذبة البيضاء إلى أن تتدبر أمرها وتغادر المشفى!
من أين لعقلها البسيط أن يعرف أن الطب من حولهم تطور لدرجة أنهم يستطيعون تحديد ما إذا كانت قد فقدت الذاكرة أم لا ؟
ونظرت إلى الممرضة التي تنتظر أن تفتح فمها بصبر لكي تطعمهل وتساءلت باهتمام:
ـ هو أنا إمتا أقدر أخرج من المستشفى ؟
ـ دي حاجة الدكتور لوحده اللي يحددها، وبعدين هتخرجي تروحي فين وانتِ فاقدة الذاكرة ومفيش معاكي أي إثبات هوية؟ أسلم حل هو إنك تفضلي في المستشفى لحد ما تتحسني أو أهلك يظهروا.
تنهدت نغم بضيق ثم تسائلت مجددا وقالت وهي تشير إلى الرقبة الصناعية التي تحيط عنقها:
ـ طيب هشيل الرقبة دي إمتا ؟!
لتجيبها الأخرى بصبر وهي تطعمها ملعقة أخرى:
ـ مش قبل أسبوع.. وبعدها هتعملي أشعة تانية ونشوف..
زفرت نغم مجددًا بيأس وهي تتمتم بتفكير؛
ـ أسبوع!! هو أنا لسه هقعد هنا أسبوع ؟!
ـ متقلقيش ، فريد بيه متكفل بحالتك وهيدفع كل مصاريف علاجك، أنا شايفة إنك تفضلي هنا على قد ما تقدري لحد ما تتحسني تماما وبعدين تخرجي، حد طايل جناح زي اللي انتِ فيه ده ولا الأكل والعلاج اللي ببلاش ، استغلي الفرصة.
نظرت إليها نغم بترقب، وابتلعت ريقها بتوتر وهي تتساءل:
ـ فريد بيه مرسال قصدك ؟؟
أومأت الممرضة أن نعم وقالت:
ـ أيوة، بيني وبينك هما بيعملوا كل ده عشان تتنازلي وابنهم يخرج، أنا بقا شايفة إنك تماطلي معاهم على قد ما تقدري وتطلعي من وراهم بأي فلوس.. بس ده طبعا بعد ما تقعدي هنا أسبوع واتنين وتدفعيهم دم قلبهم مصاريف للمستشفى عشان يعرفوا إن أرواح الناس مش لعبة.
قطبت نغم حاجبيها بتعجب وهي تحاول استيعاب ما سمعته، ثم سألت:
ـ ابنهم مين اللي يخرج؟ هو مال فريد ده بالشاب اللي خبطني مش فاهمة؟
ـ أخوه.
ألقتها الفتاة ببساطة، بينما جحظت عينا نغم التي رددت بغير تصديق:
ـ أخوه؟؟ يعني فريد مرسال ده يبقا أخو الواد اللي شاطني بعربيته ؟
هزت الأخرى رأسها مؤكدةً وهي تقول:
ـ أيوة.. فريد وعمر اخوات، ولاد سالم مرسال اللي زارك بنفسه امبارح.
الآن اتضحت الصورة بالنسبة إليها وفهمت سر تواجده معهم !! واتضح أنها تملك حظًا عثرًا بالقدر الذي جعلها تقع في أيدي ذلك الرجل دون أدنى مقاومة!
كانت الفتاة قد انتهت من إطعامها، ثم مسحت فمها بالمنديل، ونظرت إليها بابتسامة وهي تقول:
ـ ربع ساعة وهرجعلك عشان الدوا..
وغادرت الغرفة على الفور وتركت نغم جالسةً بمكانها تفكر فيما سيؤول إليه حالها؟ وهل من الممكن أن تستطيع الاستفادة من وضعها الحالي لكي تهرب من الجحيم الذي ينتظرها على يديه ، والذي رأته يتأجج بعينيه بالأمس، وتنهدت وهي تتمتم:
ـ يا ترى ناويلي على إيه يا فريد يا مرسال ؟!
وبغتةً انفرج الباب ورأته أمامها، حتى أنها حملقت به بصدمة وظنت أنها تتوهم وجوده، ولكن لا.. إنه يقف أمامها بالفعل، بأناقته المعهودة وحضوره المرعب، ورائحته التي علقت بأنفها منذ الأمس، فهي تمتاز منذ الصغر بأنها تملك حاسة شم قوية، وهذا ما يؤهلها للاحتفاظ بالروائح في ذاكرتها، لذلك فبإمكانها من الآن فصاعدا أن تتعرف عليه وهي مغمضة العينين.
ابتلعت ريقها بخوف وهي تراه يتقدم منها ووجهه خالٍ من التعبيرات، وامتدت يداها تتمسك بطرفي السرير الذي ترقد فوقه وكأنها تستمد منه الدعم، وبالرغم من أنها كانت تحاول صرف نظرها عنه إلا أنها لم تستطع، وظلت تحدق به تحديق البلهاء وكأنه أسَرَ عينيها واستولى على انتباههما.
ـ صباح الخير.
ألقاها بهدوء وهو ينظر إليها، وطاف بعينيه على ملامحها سريعا، ثم استقر بناظريه على عينيها اللتين تتسمان بالحزن،
وكونه رجلا يستطيع سبر أغوار من حوله بنظرة واحدة تمكن من إدراك ذلك الحزن الكامن بعينيها منذ اللحظة الأولى التي رآها بها، حين قبّلته وهربت، يومها كان يشعر أنها أُرغمت على فعل ذلك، والآن بعد تلك النظرة البائسة أصبح متأكدا، وعليه أن يعرف لماذا فعلت؟
هز رأسه باستفهام لمّا طال صمتها وتحديقها به، وهذا ما أكد له أنها تدعي فقدان الذاكرة، لأن الخوف بعينيها يعني أنها تتذكره جيدا وتتذكر ما فعلته يومها..
ـ صباح الخير.
قالتها بهدوء وهي تشعر بالدماء تغادر جسدها من جديد ، وظهر ذلك جليًا على وجهها الشاحب الهزيل، وتلك التنهيدة التي غادرت شفتيها أخبرته عن مدى الضغط النفسي الواقع عليها، وهو أول من يشعر بذلك لأنه يعاني من الضغط النفسي المزمن، مما جعله يتراجع عن نظرته المتفرسة في وجهها والتي ترهقها وتربكها أكثر، ثم قال بنبرة مرنة لا توحي بشيء:
ـ عاملة إيه النهاردة ؟
ابتلعت ريقها مرة ثانية بتوتر أكبر ، هل يسألها عن حالها فعلا ؟ أم أنه تمهيدًا للعاصفة القادمة التي ستضرب وجدانها بكل قوة؟
ـ الحمد لله.
ألقتها بإيجاز وهي تراقب نظراته، فرأت رأسه يهتز في إيماءة بسيطة، ثم قال وهو يترقب ردة فعلها:
ـ لسه بردو مصممة انك مش فاكرة أي حاجه ؟
شحب وجهها ونظرت إليه بصدمة فقال مصححًا قوله:
ـ أقصد لسه مش قادرة تفتكري ؟! على فكرة أي معلومة ولو بسيطة ممكن تساعدك توصلي لأهلك !
هذا هو بالتحديد ما لا ترغب فيه أساسا، فهي تعرف الجحيم الذي ينتظرها حال عودتها لحسن، فهي لا تستبعد أن يقيدها ويعقد قرانه عليها رُغمًا عن أنفها وأنف خالتها، ولا يمكنها تخيل إلى أي مدى من الممكن أن يصل إجرامه معها، لذا فاحتمال عودتها لأهلها مرفوض تماما، إضافة إلى أن كونها فاقدة للذاكرة فذلك سيحميها من مواجهته والاعتراف بفعلتها، خاصةً أنها تخشى أن يسلمها للشرطة إذا اعترفت بما فعلته ومن المؤكد أنه لن يصعب عليه شيء كهذا.. فنظرت إليه وهزت رأسها بنفي وقالت:
ـ لأ.. مش فاكرة حاجة خالص.
دس يده بالجيب الداخلي لسترته الجلدية الفخمة، ولم يُشِح بنظراته عنها وبداخله كان يشعر بالزهو لأنه يعرف أنها ستنفي ، فهو متأكد من أنها ستتمسك بفقدان الذاكرة كحاجز يمنعها من مواجهته، وربما يكون ذلك جزء من مخطط لا يعرفه بعد، ولكنه مهتم جدا لمعرفته، ومهتم جدا لكي يصل إلى ذلك الشخص المجهول الذي يحاربه ويحارب عائلته، وهذه المحتالة هي طرف الخيط الوحيد الذي سيوصله إليه، ولا بد أن يظل متحفظًا عليها مهما كلفه الأمر.
قاطعه صوت الباب ودخول الممرضة التي دخلت ثم منحت فريد ابتسامة ترحيبية، ومن ثم وقفت بجوار نغم تناولها دوائها و أعقبته بكوبًا من الماء، فتناولته نغم بأيدي مرتجفة وهي تتجرعه وتختلس النظر إليه، فرأته يميل رأسه للأمام ويشبك ذراعيه فوق صدره، وكأنه يخبرها أن لا مفر من المواجهة !
مما جعلها تتشردق وأخذت تسعل بقوة وهي تشعر بأنها على وشك الاختناق.
فك ذراعيه وخلل شعره بيده وهو يتنهد بحيرة، لمَ عليه أن يشعر بالشفقة حِيالها الآن بالرغم من أنه ينوي معاقبتها بأقسى طريقة ممكنة! ولمَ عليه أن يشعر بالشفقة حِيالها أصلا ؟ أليست تلك هي المحتالة التي خربت حياته ونزعت استقرارها ؟ وعليه فلا يجدر به أن تأخذه بها رأفة أبدًا وعليه ألا ينسى أنها محتالة والوجه البرئ المسكين الذي يراه الآن ما هو إلا قناع من بين أقنعة كثيرة ستسقط تباعًا.
انتهت الممرضة من إعطائها الدواء ومالت لكي تضع كوب المياة بحوار سرير نغم، فتشبثت بها نغم وهمست إليها :
ـ عشان خاطري بلاش تسيبيني معاه لوحدي.
استقامت الممرضة وهي تنقل ناظريها بينهما ببطء، ورأت نظرة الرجاء الواضحة بعينيها فقالت موجهة حديثها نحو فريد:
ـ معلش هستأذنك تخرج عشان تغير هدومها.
لم يظهر عليه أي تعبير، بل ظل يرمقها بنفس النظرات و يتلذذ برؤية عينيها المذعورتين اللتين تنظران في كل مكان ماعدا الحيز الذي يقف به ، ثم تنهد وقال:
ـ تمام، أنا منتظر برة لحد ما تخلصوا.
***
ـ حسن.. انت فين ؟
تردد صوت عائشة وهي تبحث عن حسن عندما وجدت سريره فارغًا، بينما حذاؤه أمام الباب وهذا دليلا قاطعا على أنه لم يغادر بعد.
شيئا ما قادها نحو غرفة نغم، ففتحت الباب وأنارت الضوء لتتفاجأ به ينام متكومًا فوق فراش نغم الذي لا يسع سوى نصفه العلوي فقط، ويتقلص أسفل ثقله.
تقدمت منه وهي تهز رأسها بحسرة وشفقة على حال ابنها، وهكت بإيقاظه ولكنها توقفت عندما رأته يعانق منامة نغم ، فنزعتها من حضنه بهدوء وضمتها إليها وهي تبكي وقالت:
ـ وبعدهالك يا نغم، روحتي فين وسيبتي خالتك تآسي لوحدها يا بنتي.
ونظرت إلى حسن الذي يغط في نوم عميق وتمتمت بأسى لحاله:
ـ يا عيني عليك يا ابن بطني، ملكش حظ في الدنيا لا في أب ولا أم ولا أخ.. عايش وحيد ملكش ضهر، حتى البنت اللي حبيتها مش قادرة تحبك.
وجلست على طرف الفراش بجواره وأخذت تمسح بأناملها فوق جبينه المتعرق وخصلاته وهي تقول بشرود:
ـ ماهو الحب مش بالعافية يا حسن، لو بالعافية كنت قدرت أخلي أبوك يحبني، الحب ده من عند ربنا احنا ملناش يد فيه، القلوب بإيد ربنا وحده.
صمتت فجأة عندما أدركت أنها تفوهت بأكثر مما كان ينبغي عليها أن تقول، وحمدت الله لأن حسن لايزال نائمًا ولم يستمع لتلك الحماقات التي تفوهت بها، ثم مسحت دمعاتها وأجلت حلقها وهي تربت على كتفه بحنو وتقول:
ـ حسن.. قوم يلا الضهر أذن.
تململ بكسل فكررت نداؤها مجددا وقالت:
ـ يلا يا حسن أنا مش حِمل مناهدة معاك عالصبح.
ـ قوليلهم يستنوا .
استمعت لما قاله بتعجب وتساءلت وهي تظن أنه يهذي:
ـ هما مين دول؟
ليفتح هو طرفي عينيه قائلا بتهكم:
ـ الموظفين اللي واقفين عاوزين امضتي ، قوليلهم يستنوا.
ـ انت بتتريق عليا يا حسن ؟!
ألقتها بلوم فنظر إليها بضجر وقال:
ـ اومال هقولك إيه يعني؟ عماله تقوليلي الضهر أذن لا الهصر أذنت محسساني إني ورايا أملاك وأشغال عطلانه..
ـ محدش قاللك اقعد عاطل، بدل ما بتتريق اخرج شوف ورشة الاسطى عمارة أقف فيها زي ما قاللك أهو قرش يجيلك تصرف منه.
ـ ميكانيكي ؟ أخرتها هشتغل ميكانيكي ؟
رفعت حاجبيها بتعجب وتسائلت بتهكم يماثل أسلوبه الساخر:
ـ وانت يعني كنت وكيل وزارة قبل كده؟ ما انت جول عمرك صنايعي.
هز رأسه بسخط وتأفف وقال:
ـ طول عمري صنايعي صح، عشان كده نغم هربت، عيشتنا مبقتش عجباها مش كده؟ تلاقيها لافت على واحد مِقرش وهربت معاه، مستنية إيه من ورا صحوبيتها للو*** نيهال يعني.
نظرت إليه بتقزز واستياء وأخذت تضرب كتفه بقبضتها وهي تقول:
ـ اخرس، إيه اللي انت بتقوله ده، إزاي تتكلم على بنت خالتك بالطريقة دي، وازاي تفكر فيها كده أصلا واحنا مربيينها على ايدينا وعارفين إنها مش كدة.
نهض من على السرير والتقط علبة سجائره، ثم أشعل واحدة وأخذ ينفث دخانها بغِل وهو يتمتم بشرود:
ـ مبقاش حد عارف حاجة، مبقاش في حاجة مضمونة ياما، اللي يخلي نغم تبلغ عني وتسجني يخليها تهرب، ويخليها تصاحب راجل واتنين، يظهر إني كنت غلطان لأني مصدقتش نيهال، نغم لو كانت عاوزة ترجع كانت رجعت من يومها ، تلاقيها ولفت على واحد غني مجايب نيهال وأمورها بقت تمام، واحنا هنا حاطين ايدينا على خدنا وبنغني ظلموه.
نظرت إليه عائشة بغضب وهتفت به بانفعال:
ـ أنا مش هقولك غير حسبي الله ونعم الوكيل فيك لأن نغم متستاهلش تظلمها بالشكل ده، أنا أينعم مش عارفة هي فين ولا إيه اللي منعها ترجع من يومها لكن اللي متأكدة منه إن بنتي نضيفة واستحالة توسخ نفسها أبدا مهما حصل.. والأيام كفيلة تثبت لك إن كلامي صح.
ونهضت لكي تغادر الغرفة ولكنها توقفت وقالت:
ـ وخليك عارف، لو اتكلمت على نغم بالطريقة دي تاني لا انت ابني وا أعرفك.
وخرجت وصفقت الباب خلفها وتركتها يموج في حالة من الغضب، وأخذ ينفث دخان السيجارة وهو يتذكر حديثه مع فيفي بالأمس .
~ استرجاع زمني ~
كان يجلس على المقعد الجلدي بمكتبها يستمع إليها بإنصات، بينما هي تقف خلفه وتسند كفيها المدججين بالخواتم والأساور الذهبية، ثم مالت للأمام وتحدثت بالقرب من أذنه وهي تقول:
ـ عاوزة أقولك يا حسن إن من خلال عشرتي لنغم إنها طموحاتها عالية أوي، ودي حاجه أنا كنت بشوفها في عنيها كل يوم في الشغل، مش عيب إن الإنسان يكون عنده طموح، لكن العيب إن طموحه ده يخليه يحاول يوصل بأي طريقة سواء كانت مشروعة أو لأ.
ودارت لتجلس على المقعد المجاور له ثم قالت وهي تسدد نظراتها نحوه:
ـ ونغم من النوع التاني، ممكن تعمل أي حاجة عشان توصل، كان نفسها تغتني ويكون معاها فلوس بأي طريقة، لدرجة إنها كذا مرة تسرق شنط الزباين، ومرة سرقتني أنا شخصيا، ومرات كتير كانت تسرق الخزنة، وعشان أنا كنت عارفة ظروفها كنت بتغاضى عن كل ده، لكن اللي مقدرتش أتغاضى عنه هو سمعة السنتر، اعذرني .. أنا راس مالي هو سمعاي وسمعة مكاني..
ضيق عينيه وهو يطالعها بتعجب ويقول:
ـ مش فاهم قصدك إيه؟
تنهدت، ثم أخرجت علبة سجائرها واستلت منها واحدة قدمتها إليه فأخذها، ثم استلت واحدة أخرى وضعتها بين شفتيها وقالت:
ـ تولع ولا أولع أنا ؟!
لم يظهر عليه أي تعبير سوى التجهم، ثم أخرج قداحته من جيب قميصه وقربها منها فأمسكت بيده وهي تميل للأمام بوجهها حتى أشعلت السيجارة، فأشعل خاصته ثم أعاد القداحة إلى جيبه ونظر إليها فإذ بها تقول:
ـ تعرف أنا ليه طردت نغم من السنتر ؟
هز رأسه مستفهمًا وتحرك بروز عنقه بتوتر وهو يسأل:
ـ ليه ؟
سحبت نفسًا عميقًا من السيجارة ونفثته أمامها ثم قالت بثبات:
ـ لطشت جوز عميلة مميزة عندي.
احتقن وجهه وفارت الدماء بعروقه وأصدر صوتًا مستنكرا ثم قال:
ـ إيه اللي بتقوليه ده؟
ـ عارفة إنك صعب تصدق، بس دي الحقيقة، نغم كانت بتشوف الزباين عندي هاي كلاس أوي ومعاهم فلوس كتير فكانت بتبص لهم وتقول ياه لو أبقى مكانهم، وبالفعل ده اللي عملته، لافت على جوز عميلة عندي وخطفته منها ولما مراته عرفت طلبت الطلاق وهو طبعا جاب ورا وقطع علاقته بنغم و اداها استمارة سته، وأنا لما عرفت كده طردتها فورا.. مانا معنديش استعداد أخسر زبونة مهمة زي دي عشان نغم أو غيرها.
وقف حسن بغضب وهو يشعر بجسده كله ينتفض من هول الموقف وكان على وشك الثوران كبركان غاضب، فوقفت فيفي واقتربت منه، ثم وضعت يدها على صدره وهي تقول:
ـ أنا مش قصدي أضايقك أو أسخنك عليها صدقني، أنا كل اللي عاوزاه إنك تفوق لنفسك ولحياتك وتبطل تدور عليها، صدقني هي لو عاوزة ترجع كانت هترجع ، هي مش عيلة صغيره، وزي ما قولتلك في الأول خالص، أنا عاوزاك معايا، هتبقى السواق الخاص بتاعي وهتيجي معايا أي حفلة أو تكريم.. يعني منك سواق ومنك بادي جارد.. وكل اللي انت تأمر بيه هيكون تحت رجليك، بس انت تقول موافق.
خرج حسن من مكانها وهو مكفهر الوجه، يشعر بالغضب يسيطر على حواسه وكامل جوارحه.
~ عودة للحاضر ~
وبينما هو يسترجع ما حدث للأمس وجد نفسه تلقائيا يلتقط هاتفه ويقوم بالاتصال بها، فأجابته بصوت ناعم ناعس مغوي للغاية وقالت:
ـ صباح الخير يا حسن؟ يارب تكون فكرت.
ليجيبها حسن بعدما أطلق تنهيدة طويلة:
ـ أيوة فكرت، أنا موافق !
***
كان فريد لايزال منتظرا أمام باب الغرفة بالرواق، ثم أخرج زجاجة الكحول من جيبه وأخذ يرش على يديه وملابسه وهو يشعر بالاستياء والضيق، وبينما هو يمارس طقوسه الوسواسية تفاجأ بوالده الذي يتقدم عليه وعلى وجهه ترتسم أمارات التعجب ثم قال:
ـ غريبة، متوقعتش إنك موجود هنا، مكنتش أعرف إنك مهتم بالبنت أوي كده.
صمت فريد لقليل، ثم أضاف وهو يدس يديه بجيبه مجددا وينظر نحو الغرفة بلا اكتراث:
ـ مش مهتم بالبنت ، مهتم باخويا.
كانت تلك الكلمات بمثابة تذكير من فريد لأبيه أنه لازال يمارس دوره كأخ أكبر ولم يتنصل منه كما أخبره سابقا، فأطلق سالم زفرة مستاءة ثم قال:
ـ البنت كويسة ؟
رمقه فريد بنظرة جانبية وقال:
ـ أيوة.
ـ اتكلمت معاها ؟
نظر إليه فريد وهو يعقد ذراعيه خلف ظهره كما يفعل والده تماما وقال:
ـ بخصوص إيه ؟
ـ بخصوص التنازل! أومال إحنا بنعمل كل ده ليه ؟
ارتفع حاجبي فريد وهو لايزال محافظًا على برودة نظراته وهدوئه، ثم قال:
ـ متقلقش ، كده كده هتتنازل.
انتبها لاقتراب الأستاذ نادر منهما، فنظرا نحوه باهتمام، إلى أن توقف أمامهم وهو يقول:
ـ صباح الخير يا جماعة، ها.. البنت فاقت ولا لسه؟
تحدث سالم قائلا:
ـ أيوة فاقت.
ـ تمام إحنا لازم نتكلم معاها دلوقتي حالا ونتأكد من موقفها لأنهم هياخدوا أقوالها النهاردة أكيد وبناءً عليه يا إما المحضر يتقفل وعمر بيه يخرج، أو يتنقل للنيابة وتبقى قضية.. خصوصا إن عاصم بيه اللي كنا ضامنينه وشبه حاطينه في جيبنا اتنقل فجأة والظابط اللي جه مكانه راجل رزيل وعنده حقد طبقي رهيب، وطبعا مش قادر أوصفلك يا سالم بيه معاملته ازاي مع ولاد الناس الأغنيا، بيكرههم كأنه ليه تار بايت عندهم.
زفر سالم وهو يمسح وجهه ويتمتم مستغفرًا ثم قال:
ـ أصل الحكاية كانت ناقصة !! طب وبالنسبة لحمدان الأسيوطي، ده وعدني إنه هيتدخل ويحل المشكلة.
زم المحامي شفتيه قائلا:
ـ حمدان الأسيوطي لو اتدخل وحل مشكلة المخدرات مش هيقدر يعمل حاجه تاني، الموضوع لازم يتحل من بابه والبنت تتنازل رسمي..
أومأ سالم مركدا ثم قال:
ـ أنا هعتمد عليك في النقطة دي يا متر، قوللها اللي اتفقنا عليه.
ـ متقلقش حضرتك أنا مظبط كل حاجه.
لم يصب فريد كامل تركيزه معهم، لأن ما كان يشغله شيئا آخرا تماما..
ثوانٍ وانفرج الباب وخرجت الممرضة التي حانت منها التفاتة سريعة نحو فريد، ثم قالت:
ـ تقدروا تتفضلوا.
دخلوا ثلاثتهم ففزعت نغم وأجفلت بمكانها، حتى أنها كانت على وشك الاعتراف بالحقيقة لكي تتخلص من ذلك التوتر الذي يصيبها كلما رأت أحدا منهم، ولكن الابتسامة المرسومة على وجه هذين الرجلين طمأنتها قليلا خاصةً عندما تحدث أحدهما وقال:
ـ ها يا بنتي أخبارك إيه النهارده ؟
نظرت نغم إلى الرجل ذو الشعر الأبيض الذي يحدثها بود بالغ ، ثم قفزت عينيها تلقائيا نحو الآخر الذي يطالعها بتحفز، وتسارعت دقات قلبها بتوتر وهي تقول:
ـ الحمد لله.
تمتم سالم بهدوء وقال:
ـ الحمد لله..
ونظر إلى فريد متسائلا:
ـ نتيجة الأشعة ظهرت ولا لسه؟
وقبل أن يجيبه فريد انفرج الباب ودخل الطبيب الذي ابتسم مرحبًا بهم وقال:
ـ صباح الخير ، إيه الأخبار ؟
وجه سؤاله إلى نغم التي قالت بهدوء:
ـ كويسة.
هز رأسه بتفهم، ثم نظر إلى تلك الورقة المعلقة على حامل بمقدمة السرير، وقرأ تلك الملاحظات المدونة بها، ثم نظر إليهم وقال:
ـ للأسف صورة الطبقي المحوري أثبتت وجود ضرر بنسبة كبيرة في مركز الذاكرة في المخ، و ده يعني إن المريضة بتعاني من فقدان ذاكرة جزئي، وطبعا زي ما حضراتكم أكيد عارفين في الحالة دي المريض بيبقا مش قادر يتعرف على هويته ولا قادر يسترجع ذكرياته القديمة، بس بيبدأ مع الوقت يفتكر مواقف وأشخاص بصورة عشوائية ، يعني ممكن بكرة تفتكر موقف من وهي طفلة عندها عشر سنين، وبعد بكرة تفتكر زميلة ليها كانت معاها في المدرسة، والأسبوع الحاي تفتكر يوم الحادث، وهكذا بتبدأ تستعيد ذاكرتها واحدة واحدة لكن بشكل عشوائي ، وفي الحالة دي المقربين من المريض بيكون ليهم دور مهم جدا انهم يساعدوه عن طريق انهم يفكروه بمواقف بينهم، أو يعرفوه على ناس كانت بتربطه بيهم صداقة قديمه، كل دي حاجات بتساعد إن المخ يعمل فلاش باك .. وده بيساهم بصورة كبيرة في سرعة تماثل المريض للشفاء..
كانت نغم تستمع إلى ما قاله الطبيب بصدمة! كيف أثبتت الأشعة أنها فاقدة للذاكرة وهي تتمتع بذاكرة جيدة تستطيع من خلالها تذكر أحداث حدثت بالقرون الوسطى!! هل هذا يعني أنه أدرك خدعتها وقرر أن يجاريها؟ لذلك سألها هل هي مصممة أنها فاقدة للذاكرة ؟ لأنه يعلم أنها تكذب؟ لا تفسير لما يحدث أقرب من هذا التفسير بصراحة !
أكمل الطبيب حديثه الذي لم تفهم منه نغم شيء على الإطلاق، وكل ما استوعبته في هذه اللحظة أنها وقعت بين شقيّ الرحى ، فبعد أن كانت تواجه مشكلة واحدة وهي كيفية الهروب من قبضة ذلك الفريد الذي يتوعدها بصمت، والهروب من حسن الذي ينتظرها لكي يسفك دمها أو يتزوجها عنوة، انضم إلى قائمة همومها هم آخر وهو كيفية التعامل كفتاة مهذبة فاقدة للذاكرة بشكل واقعي لكي لا تثير شكوكهم التي هي موجودة بالفعل.
لم يغفل فريد عنها وعن الصراع الرازحة تحت وطأته، وود لو أنه يجلس معها جلسة مصارحة لدقيقتين اثنتين، ويعرف منها المعلومة التي ي يرغب في معرفتها، وهي… من وراء كل ذلك؟ من الذي دفعها لفعل كل ذلك؟ وما الفائدة التي ستعود عليه من تشويه صورته وصورة عائلته؟ الأمر بسيط للغاية، هذا كل ما يود معرفته.
بالأساس هو لم يكن راغبًا في خوض كل تلك الأكاذيب والمهاترات، ولكنها من بدأت.. إذًا فلتستعد لخوض مباراة مسلية جدًا سيكون هو الحَكَم الوحيد فيها، وهو من سيطلق صافرة البداية ، وصافرة النهاية، والبقاء للأصدق !
خرج الطبيب، فنظر إليها سالم قائلا:
ـ طبعا بعد كلام الدكتور فانا عايز أقوللك متقلقيش من أي حاجه، بيتي هو بيتك تقدري تقعدي عندي لحد ما تتحسني وتوصلي لأهلك، ومصاريف علاجك أنا متكفل بيها كلها بس أهم حاجة نلم الموضوع .
لقد كان عرضًا مغريًا بحق، هي في الواقع لن تستفيد شيء إذا قررت التمسك بحقها، بالإضافة إلي أنها حتى لو حاولت ستفشل لأنها ستكون ضدهم بمفردها، يعني أنها ستخوض حربًا غير متكافئة بالمرة، وستكون هي الخاسرة الوحيدة.
وبما إنها لن تفلح في إيقاف الأمواج فعليها ركوبها، طالما أنها لن تستطيع تغيير الأمر الواقع فعليها استغلاله لمصلحتها، وبما أنه يعرض عليها البقاء بمنزله فلمَ لا ؟ على الأقل ستكون قد ضمنت وجود منزل من أربع جدران يأويها لحين ميسرة ، حسنًا هي ستضطر للوجود مع صاحب العينين المتوعدتين تحت سقف واحد ولكنه لن يفلح في إيذائها وهي موجودة بين عائلته، إضافة إلى أنها تملك الآن حصنًا وهو فقدان الذاكرة ، ويمكنها الاختباء خلفه بصورة مؤقتة ريثما تنقشع الغمة .
ـ آنسة.. انتِ معانا ؟
استمعت إلى صوت المحامي ينبهها فنظرت إليه ، ثم نقلت عينيها بينهم سريعا، ثم تنهدت وقالت:
ـ أنا موافقة أتنازل.
تنهد سالم بارتياح وظهرت فوق وجهه أمارات الرضا والارتياح، ثم تمتم:
ـ عال أوي، ودلوقتي المتر نادر هيقولك تقولي إيه بالظبط عشان نضمن إن المشكلة تتحل بسرعة.
هزت رأسها باستسلام فحمحم نادر ثم قال:
ـ بصي يا آنسة، دلوقتي حالة فقدان الذاكرة اللي معاكي جزئية، يعني وارد تكوني فاكرة يوم الحادثة واللي حصل فيه فقط ومش فاكرة أي حاجه تانية حصلت قبلها
توترت فور أن ومض عقلها بما حدث في الحفل، ونظرت إليهم بارتباك وقالت مسرعةً وكأنها تنفي تهمة التصقت بها:
ـ بس أنا مش فاكرة أي حاجة حصلت يوم الحادثة.
حاول فريد أن يُبقي تركيزه مُنصبًا على كلام المحامي وألا ينفجر ضاحكًا بسبب ذلك الهلع الذي تسبب في اتساع بؤبؤي عينيها البنيتين، واستمع إلى المحامي وهو يقول:
ـ أنا عارف، بس انتِ هتقولي إنك فاكرة اللحظات اللي قبل الحادثة كويس، انتِ كنتي بتجري وبتعيطي والدنيا سودا قدامك وفجأة العربية دي كانت جاية على بعيد ولقيتي الشيطان قفلها في وشك ورميتي نفسك قدامها وعمر ملحقش يتفاداكي !
نظر فريد إلى المحامي ووالده بصدمة ! ماذا يطلبون منها ؟ أن تقل شيئا لم يحدث في سبيل خروج عمر ؟ ألا يكفيهم أن تتنازل؟ يريدون أن تظهر وكأنها هي من ألقت بنفسها أمام السيارة وحاولت الانتحار؟! ما كل هذا التجبر والظلم ؟
ـ أنا موافقة .
قالتها باستسلام فنظر إليها فريد مصعوقًا، هل ستعترف بما يطلبونه فعلا بكل تلك السهولة؟ حسنًا إذا كانت قد قبلت أن تحتال عليه هو شخصيا مقابل المال بالتأكيد فلا عجب أن تقبل بأي شيء آخر، حتى لو كان ذلك الشيء هو أن تفتري على نفسها وتعترف بشيء لم تفعله.
نظر المحامي إلى سالم بانتصار وتنهد الآخر بارتياح نسبيا، ثم قال المحامي:
ـ عظيم، وكلمة شرف من سالم بيه، أول ما عمر بيه يخرج من الحبس ويرجع البيت انتِ كمان هتخرجي من المستشفى وأنا بنفسي هوصلك بعربيتي على ڤيلا سالم بيه وهناك هيكونلك غرفة لوحدك وهيوفرلك كل اللي تحتاجيه من أكل وشرب وعلاج ولبس لحد ما تتعافي تماما وانتي بنفسك اللي تطلبي إنك تمشي.
أومأت نغم بعدم ارتياح، ونظرت إلى فريد الذي يغادر الغرفة دون كلام، وشعرت أنها الآن فقط قادرة على التنفس، بينما نظر سالم إليها وقال:
ـ احنا لازم نمشي دلوقتي بس هنتابع معاكي أول بأول متقلقيش، أهم حاجة متنسيش اللي اتفقنا عليه.
هزت رأسها بموافقة، فغادرا وفور أن أُغلق الباب أطلقت سراح تنهيدة كانت محتبسة برئتيها منذ بداية اللقاء، ثم أسندت رأسها على الوسادة من خلفها وأغمضت عينيها، وسالت دمعتها على جانب خدها وهي تتسائل:
ـ الأيام لسه مخبية ليكي إيه يا نغم!!
ـــــــــــــــــــ
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق