رواية عريس قيد الرفض( بين الرفض والقدر)الفصل الخامس عشر 15بقلم عفاف شريف
رواية عريس قيد الرفض( بين الرفض والقدر)الفصل الخامس عشر 15بقلم عفاف شريف
الفصل الخامس عشر
بين الرفض والقدر
🦋عريس قيد الرفض 🦋
اهداء الي الغالية سماح والغالية وئام🦋
❈-❈-❈
تلك اللحظةُ التي تفقدُ فيها كلَّ توازنٍك، حين تشعرُ وكأنَّ العالمَ بأسره قد تآمرَ ليُسقطَك. تسقطُ من عليائك، من أحلامك التي شيدتها بحبٍ وإصرارٍ، لتجدَ نفسك في عمقٍ مظلمٍ، محطمَ القلبِ قبل الجسد. إنها لحظةٌ تُحطِّمُك، لكنها قد تكونُ أيضًا نقطةَ الانطلاق نحو النورِ، إذا اخترتَ أن تقفَ من جديدٍ.
❈-❈-❈
وقفت تُناظره بعينٍ متسعةٍ مرتعبة، تضمُّ تميم الباكي برعبٍ وخوفٍ مثلها تمامًا، تحديدًا من صوت صراخها العالي.
تضمه أكثر إلى صدرها، كأنها تخشى ضياعه هو الآخر في تلك اللحظة.
تريد أن تُغمض عينيها، عاجزةً عن تصديق ما ترى، تريد أن تُفيق من تلك اللحظة ويتضح أن ما يحدث لها الآن ما هو إلا أحد كوابيسها الأكثر رعبًا.
رفعت يدها الأخرى تضغط على قلبها بشدة، تشعر أنه سيتوقف في أي لحظة من الرعب والخوف.
صغيرها... صغيرها... عز... أين هو؟!
اختفى.
قلبها ينهار.
هزت رأسها عدة مرات وهي تُردد بصوتٍ عالٍ وصراخ:
– ابني! ابني فين يا رامي؟! فين؟!
وعلا صوتها أكثر وهي تُحدجه برعبٍ وانهيار تام:
– حد يبلّغ الأمن! بلّغ الأمن بسرعة يا رامي! ابني راح فين؟!
قالتها وهي ترفع يدها تضرب صدره عدة مرات بقهر، تضربه وكأنها تود في تلك اللحظة أن تقتله إن استطاعت.
قبل أن تلتفت إلى صوت بكاء صغيرتيها.
كانتا منكمشتين، تضمان بعضهما البعض مرتعبتين من صراخ أمهما، من انهيارها، واختفاء أخيهما "عز".
من الموقف غير المفهوم أبدًا بالنسبة لهما.
اقتربت منهما بساقٍ مرتجفةٍ وأطرافٍ مرتعشة، بجسدٍ يهتز خوفًا ورعبًا، وأنفاسٍ متقطعةٍ تكاد تتوقف.
الخوف يكاد يقتلها مع كل لحظة تمر وصغيرها مفقود.
مدت يدها تحاول إخراج "تميم" من أحضانها وهو يبكي بشدة، محاولًا التمسك بها.
يقبض بيده الصغيرة، متشبثًا بملابسها، بوجهها، بحجابها.
عيناه الباكيتان تُخبرها أن تضمه في تلك اللحظة ولا تتركه.
هو خائف، ولا يريد سوى صدرها ليختبئ فيه.
إلا أنها أخرجته مجبرة، وهي تضعه بين ذراعي "آية" التي ضمّته بتلقائية، قبل أن تردد بصرامةٍ وطمأنينةٍ لا تعلم من أين جاءت بها في تلك اللحظة:
– امسكي أخوكي، أوعي، أوعي تسيبيه أبدًا يا آية!
وأكملت بسرعة وهي تشير لابنتها الأخرى:
– وانتي يا آيلا، هتفضلوا هنا، متروحوش في حتة، ولا مع حد مهما مين قالكم.
هوديكم لماما، محدش أبدًا أبدًا يسمع كلامه، محدش يتحرك مع حد.
حتى بابا... مترحوش معاه.
أنا بس... ماما بس.
والتفتت تنظر حولها بتشتتٍ وتيه.
تركض في كل اتجاه، تصيح باسم صغيرها بلوعةٍ، ودموعها تغلبها.
ساقاها بالكاد تحملانها، ورأسها على وشك الانفجار.
كان كل شيء في تلك اللحظة في انهيار تام.
تركض، تصرخ بالجميع، تصرخ بقلب أمٍّ تعرض للطعن، أمٍّ اختفي صغيرها من أمام عينها بأقسى الطرق،
صغيرها اختفي إهمالًا من أباه
زوجها...
كان هو السبب.
❈-❈-❈
بعد نصف ساعة من حرقة القلب والرعب،
والبكاء المرير دون توقف،
حتى كادت أن تسقط مغشيًا عليها أكثر من مرة،
رفعت رأسها المتعب والمنهك تنظر حولها،
قبل أن تتسع عيناها بشدة وهي ترى اقتراب أحد رجال الأمن يحمل الصغير عز بين يديه.
لم تشعر بنفسها إلا وهي تقف وتركض بسرعة ولهفة رغم وهنها وتلف أعصابها،
حتى تعثرت وسقطت أرضًا بقوة،
قاومت الدوار ووقفت مرة أخرى،
تنتشل الصغير بقوة، تضمه وتتشبث به،
قبل أن تخونها ساقاها مرة أخرى وهي تسقط أرضًا،
تضم الصغير وتبكي برعب شديد عايشته في تلك الدقائق.
وكان مظهرها المنهار مشهدًا مؤثرًا للجميع،
وهي تضم صغيرها، والصغير يضمها ويربت على ظهرها كأنه يواسيها.
مشهد اقشعرت له الأبدان،
حتى ذاك الواقف يناظرها بضيق،
مرتاح القلب لأنهم وجدوه أخيرًا.
بعد بعض الوقت، أصبحت قادرة على الوقوف بمساعدة إحدى السيدات.
وقفت تضمه وتقبل وجنته، تقبله وتستنشق رائحته،
تسير ببطء وسعادة،
قبل أن تنظر إلى رامي بعين غاضبة،
وتتخطاه ذاهبة حيث صغارها.
كان يتعبها بصمت،
وبداخلها هي تيقنت
أنه قد حان وقت الحديث.
❈-❈-❈
دلفت للمنزل بساقٍ مرتجفة ومرهقة.
كان يومًا لا تتمنى أن يتكرر أبدًا، أبدًا.
أصبحت تكره الخروج بعد ما حدث معها.
يكفيها تلف أعصابها لليوم.
تنهدت بتعب وهي تدخل الصغار إلى غرفتهم.
وضعت تميم النائم في فراشه، دثرته جيدًا، وقبلته بعمق.
ثم وضعت التلفاز على قناة الكارتون المفضلة للصغار ورفعت صوت التلفاز ،
بعد أن وضعت لهم الطعام،
فهم لم يتناولوا شيئًا هناك،
لم يستطع أحد.
اختفاء تميم كان القشة التي قسمت ظهرها في لحظة رعب وانهيار.
ليتضح في النهاية
أن رامي انشغل عنه،
وغادر الصغير بفضولٍ يستكشف المكان،
حتى صار بعيدًا لا يعلم أين هو.
ولولا ستر الله،
لاختطفه أحدهم.
ولا يدرك رامي أنه حينها
لن تكفيها انتزاع قلبه بيدها.
وقفت للحظة تستند بظهرها إلى الباب،
تغمض عينيها بتعبٍ شديد.
لا تدرك إلى الآن كيف مرَّ اليوم،
كيف مرت تلك اللحظات القاتلة.
كادت أن تسقط مغشيًا عليها لولا رحمة ربها بها، فتماسكت.
فتحت عينيها ببطء، تناظر الصغار بعين مرتاحة.
هم هنا الآن.
هم بخير.
بأحضانها.
هذا يكفيها.
هذا بأكثر من كافٍ.
والآن... فلتأخذ حقها.
قالتها لنفسها وهي تخرج من الغرفة، مغلقةً الباب خلفها بهدوءٍ سيتبعه عاصفة.
حامدةً اللهَ أنَّ غرفةَ الصغار بعيدةٌ عما سيحدث
❈-❈-❈
وقفت لدقيقةٍ أو أكثر،
تطالع ذلك الجالس أمام التلفاز يشاهد أحد الأفلام القديمة ببرود تام وهدوء.
هدوء بعث بداخلها الكثير من الأعاصير.
هو هنا يجلس بهدوء،
بينما هي خاضت أصعب لحظات حياتها اليوم.
بسببه.
بسببه غبائه.
بسبب إهماله.
بسبب وجوده من الأساس.
بسببه هي ذاقته نصف ساعةٍ وأكثر في انهيار تام.
بسببه هي شعرت بألم سكين تتطعن قلبها وتميم مفقود.
وبداخل عقلها آلاف السيناريوهات،
كل واحدٍ منهم أبشع من الآخر.
فلم تجد نفسها
سوى وهي تمسك بأول ما طالت يدها،
وألقت به بكل قوتها
نحو شاشة التلفاز،
محطمةً إياها.
❈-❈-❈
انتفض الآخر من محله بصدمةٍ وهو يرى تحطم التلفاز أمامه،
قبل أن يلتفت بسرعةٍ وحده لتلك الواقفة خلفه تناظره بكل هدوءٍ وبرودٍ يستحقه.
قبل أن يصيح بغضبٍ وعصبيةٍ:
"نهارك أسود! إنتِ اتجننتي؟
إنتِ اتهبلتي يا آلاء!
إيه اللي إنتِ عملتيه ده؟"
وبكل هدوءٍ قابلت صياحه بصمتٍ،
قبل أن تمسك بتحفةٍ أخرى بجانبها،
وبكل قوتها ألقتها تجاهه عازمةً على إصابته،
ولولا سرعة بديهته،
وهو يخفض رأسه سريعًا للأسفل متفاديًا إياها،
لتصيب التلفاز المهشم مرةً أخرى بقوةٍ.
وانتفضت هي بعدها تقترب منه،
تصيح بصوتٍ أعلى وهي تضرب صدره مرةً بعد مرة:
"إنتَ راجل معدوم الدم،
ولا تستحق إنك تكون أب!
أنا بسببك النهاردة عشت أسوأ لحظات حياتي!
بسببك ابني كان ممكن، لولا ستر ربنا ورحمته بيا،
كان ممكن يضيع أو يتخطف!
بسببك وبسبب إهمالك حصل اللي حصل!
وفي الآخر جيت تقعد تتفرج على التلفزيون بكل برود!
إنتَ مصنوع من إيه؟
بجد، إزاي قادر تكون بارد بالطريقة دي؟
إزاي قلبك موجعكش على ابنك اللي ضاع؟
ده إنتَ حتى مفكرتش تخده في حضنك تطبطب عليه!
إنتَ متستهلش أبدًا تكون أب يا رامي!
غيرك بيتمنى ضفره،
وأنتَ بإهمالك كنت هتخسره!"
وأكملت صارخةً وهي تدفعه للخارج:
"أخرج بره البيت! أخرج! أنا مش عايزة أشوف وشك!"
أوقف ضرباتها وهو يمسك ساعدها بقوةٍ،
ضاغطًا عليها حتى أصدرت "آه" متألمة،
وهي تتطالعه بإمتعاض حقًا في تلك اللحظة.
قبل أن يقول بغضبٍ وصوتٍ مشدّد:
"أنا ساكت علشان مقدر اللحظة اللي إنتِ عشتيها،
لكن هتتمادي هوريكي وش عمرك ما شفتيه!
إنتِ سامعة؟
صوتك ما يعلاش عليا يا آلاء!
وبالنسبة للبيت،
فأنا اللي مش عايز أقعد فيه!
أشبعي بيه!
أنا هغور من وشك!"
قالها وهو يدفعها بعيدًا عنه،
مغادرًا المنزل،
صافِعًا الباب خلفه.
وهي خلفه تقف تتنفس بغضبٍ،
غضبٍ لن تقدر على كبحه أكثر من هذا.
❈-❈-❈
كانت لحظةً صادمةً قاسية.
تناظر المشهد بعينين متسعتين مندهشةٍ ومنذهلةٍ.
وكان أحدهم قد ألقى على رأسها دلواً من المياه المثلجة، وصفعها على وجهها،
وهي تقف على بُعد بضع خطواتٍ قليلةٍ، يديها تحتضن يد زوجها،
وفي أحضانه أُخرى، غيرها، تحتضنه بكل جرأةٍ أمام عينها.
وفي ثوانٍ، لم تقدر على تحملها، وهي تشعر بالنيران تشتعل في صدرها،
ولأول مرةٍ تقوم برد فعلٍ همجيٍّ بتلك الطريقة.
لم تجد نفسها سوى وهي تتحرك بسرعةٍ ممسكةً بخصلات تلك الفتاة،
تبعدها بسرعةٍ وقوةٍ عن أحضانه، وهي تصرخ بها.
لم يأخذ عمر أكثر من ثلاث ثوانٍ في صدمةٍ متسع العينين فارغ الفم،
وهو يرى رد فعل زوجته الرقيقة الهادئة تأتي بابنة عمته من خصلاتها.
فلم يجد نفسه سوى وهو يحمل فريدة من خصرها بقوة،
وهي تجرّ الأخرى معها، تخدش وجهها،
والأخرى تحاول الدفاع عن نفسها هي أيضاً، فتمسك بخصلات فريدة تحاول الوصول إليها وشدّها علّها تتركها.
فكان في صراعٍ وحده، لا يعلم ماذا يفعل،
وهو يحاول تخليصها من يديها بأي طريقة.
وعندما لم يفلح في هذا،
وبدأ جميع الجيران يهبطون لمشاهدة ما حدث،
ووقفوا متهامسين على المشهد،
صاح بفريدة بعصبيةٍ وغضب، وهو يهزها كدميةٍ بين يديه:
"سيبي شعرها يا فريدة!
سيبي، بقولك!
سيبي شعرها!"
انتفضت بين يديه على صوت صراخه الحاد بها،
لتناظره بعيونٍ غاضبةٍ مشتعلة،
قبل أن تترك خصلات الأخرى بلا مبالاة،
تبعدها من أمامها حتى سقطت أرضاً تبكي إثر ما حدث لها.
والتفتت له، تبعد يده عن خصرها بقسوة،
ناظرةً له بخيبة أملٍ وخذلان.
لم تتحدث،
كان صمتها يحمل ألف حديث،
ونظرات عينيها تخبره ألف كلمة،
ودمعةٌ أبت أن تسمح لها بالهبوط،
أخبرته أنه أخطأ وبشدة.
ولم تجد نفسها قادرةً على فعل أي شيء في تلك اللحظة سوى وهي تلتفت،
تهبط الدرج بسرعةٍ وجنون، تاركةً إياه خلفها،
علّه يفهم ما فعله بها في تلك اللحظة.
لقد خذلها.
كسر أحد وعوده لها،
ولم يكن الأول.
❈-❈-❈
ظل ينظر في أثرها بضع ثوانٍ،
وقبل أن يسرع خلفها محاولًا الشرح لها،
انتبه إلى خروج عمته التي كانت تلهث بشدة وتعب نتيجةً لخروجها سريعًا على أصوات صراخ ابنتها الوحيدة تستنجد بها.
التفت ينظر في أثر فريدة بتشتت وضيق،
وحينما لم تتحرك الأخرى لمساعدة أمها، وهي تجلس أرضًا تبكي، تنظر لخصلات شعرها بضيق وتتحسس وجهها،
حدّجها بلومٍ قبل أن يتجه
سريعًا لعمته يساعدها برفق ويدخلها للشقة مرةً أخرى،
متجاهلًا همسات الجيران على ما حدث،
وأغلق الباب بقوة بعد أن دلفت ابنة عمه هي الأخرى.
أجلس عمته على فراشها،
وما إن اطمأن عليها وكاد يغادر سريعًا،
حتى أمسكَت يده قائلةً بغضب:
"إيه اللي حصل ده يا عمر؟
إزاي مراتك تضرب بنتي بالطريقة دي؟
معقول اللي حصل ده؟
بنتي تضرب يا عمر؟
ده أنا عمري ما مديت إيدي عليها أبدًا!
إزاي تسمح بحاجة زي دي؟"
ربَّت على يدها قائلًا بضيق:
"معلش يا عمتي، انتي مشفتيش اللي حصل.
سلمي كمان غلطت، وغلطت جامد.
أول ما فتحت الباب، رمت نفسها عليا، حضنتني،
وأنا قلت لها ألف مرة حرام.
كام مرة اتكلمت في الموضوع ده؟
قلت لها كتير: متعمليش كده لا لوحدنا ولا قدام حد.
قلت حرام وعيب، وتعبت من التكرار، وهي مصرة.
واديكي شفتي النتيجة أهو، تحضني قدامي مراتي.
متوقعة إيه يعني؟ تاخدها بالحضن؟
وفريدة مكنتش تعرف ولا تفهم،
عشان كده حصل اللي حصل."
تنهد بضيق وهو يرى ملامح عمته المتجهَّمة،
قبل أن يقول بسرعة وضيق:
"عمتي، أنا لازم أمشي بسرعة.
فريدة متعرفش المكان هنا وممكن تتوه،
وأنا مش هقدر أسيبها أكتر من كده.
يلا سلام عليكم."
والتفت يغادر الشقة سريعًا،
قبل أن تحدّقه ابنة عمته بنظرات غاضبة،
وهي تقف تضم يدها تبكي وخصلاتها مشعثة،
ووجهها يملؤه الخدوش،
لتصيح به بحزن:
"ده اللي ربنا قدرك عليه يا عمر؟
بقى أنا مراتك تضربني، وده يكون رد فعلك؟
اخس عليك يا عمر!
بتفضّل واحدة غريبة لسه عرفها عليا
على بنت عمتك اللي عشت معاها عمرك؟
أنا زعلانة منك ومش هكلمك تاني أبدًا!"
وقبل أن ينطق أي كلمة،
هتفت عمته بصوت عالٍ:
"سلمي، اخرسي خالص!
مش عايزة أسمع صوتك!
كفاية اللي حصل لحد دلوقتي.
ادخلي يلا، هاتي مطهر عشان أطهر وشك،
وابعتي رني على صحبتك تيجي تخدك وتكشف عليكِ بسرعة."
وأكملت وهي تشير لعمر:
"روح يا ابني، يلا روح لمراتك.
يلا روح."
ظل ينظر لها عدة ثوانٍ،
كانت تناظره بحزن وضيق،
تخبره أن يغادر لزوجته،
فهي أصبحت أهله.
تنهد بضيق واقترب منها سريعًا يقبِّل رأسها معتذرًا منها بشدة،
قبل أن يغادر سريعًا مخبرًا نفسه بالصبر فقط،
ليلحق بفريدة، وسيعود لمصالحتها ويفعل أي شيء لترضى عنه،
لكن الآن، فليجد زوجته وبسرعة.
❈-❈-❈
كانت تسير في الشوارع الضيقة لا تعلم إلى أين تذهب حتى هي لا تعلم أين هي.
الشوارع ضيقة ذات رائحة غريبة.
الجميع يناظرها بعيون متفحصة،
كأنها غريبة عنهم،
لا تناسبهم،
ولا يناسبوها.
ليس لفقرهم،
بل لأنهم يروها لا تشبههم،
وهي لن تشبهم يومًا.
كانت تسير تبكي وهي تعدل خصلاتها التي جذبتها تلك الفتاة.
تفكر أنه حتى لم يتبعها،
لم يفعل أي شيء،
بل العكس.
صاح بها،
وبخها.
كيف يسمح لنفسه أن يفعل هذا؟
كيف يسمح أن تحتضنه أخرى؟
اتلك وعوده،
إذاك حبه؟
أين كل هذا؟
تلاشى.
وقفت تنظر حولها لا تعلم أين هي.
قبل أن يلفت انتباهها عدة أصوات خلفها.
التفتت تنظر لتجد ثلاثة شباب يقفون خلفها،
يناظرونها بنظرات جعلت جسدها يرتجف،
وهم يلقون بوجهها كلمات غريبة بذيئة.
ارتعش جسدها وهي تمد خطواتها
لتخرج من هذا الزقاق،
إلا أنها وقبل أن تركض،
أوقفها أحدهم بوقوفه أمامها،
وهو يقول:
"رايحة فين يا حلوة؟"
اتسعت عيناها،
وهي تعود للخلف خطوة بتوتر،
قبل أن تستصدم بآخر خلفها.
وقبل أن تصرخ أو أن تقوم باي رد فعل،
كان الواقف أمامها يُزاح بيد عمر الذي انهال عليه بالضرب ،
يضربه بقوة وغضب شديد،
يسبه بأبشع الألفاظ.
وضعت يديها على فمها تمنع خروج شهقاتها،
وهي ترى الجميع يحاول أن يبعد عمر عنه بسرعة.
وما إن فعلوا حتى فر الآخر هاربًا كرفاقه.
وقبل أن يركض خلفه،
صرخت به هي بتعب:
"كفاية، كفاية يا عمر!"
التفت لها،
يناظرها بغضب قبل أن يمسك يدها بقوة،
خارجًا من المنطقة،
وهي تحاول إبعاد يده،
تحاول التحرر،
لا تريد الذهاب معه.
حتى التفت لها،
يصرخ بها بأنفاس لاهثة:
"مش عايز أسمع نفسك، فاهمة؟"
صمتت،
وهي تستمع إلى صراخه عليها للمرة الثانية،
وهي تردد بداخلها:
يكفيها ما حدث اليوم،
فلتصمت.
❈-❈-❈
حرّك رأسه بتعبٍ وإرهاقٍ وهو يستمع إلى شرح أحد المهندسين عن أحد المشاريع القادمة له.
أوقفه نفس الصوت للمرة العاشرة... لا، الحادية عشرة... أم الثانية عشرة؟
حسنًا، لا يهم.
ها هو يبدي تعليقًا جديدًا، رأيًا جديدًا، وفكرة جديدة.
حسنًا، لا بأس. رغم ضيقه، لكنه لن ينكر أن أفكاره من ذهب.
والصوت؟
لم يكن سوى لياسر الفاروقي.
تحدث بهدوء وثقة وهو يقترح ما طرأ بباله، قبل أن يناظر تميم قائلاً بهدوء:
إيه رأيك يا بشمهندس تميم؟ أنا شايف إن دي مناسبة أكثر، بالذات أن الموقع هناك هيتيح لينا التنفيذ براحتنا بدون عوائق.
حابب أسمع رأيك أكيد، يمكن في شيء غفلت عنه.
حرّك تميم رأسه قائلاً بتأييد رغم غيظه:
بالعكس، فعلاً صحيح. بالطريقة دي هيكون الوضع أنسب. الاقتراح كويس ونقدر ننفذه إن شاء الله. الموضوع مش صعب وهيوفر بعدين حلول لمشاكل تانية.
تفكير سليم يا بشمهندس.
ابتسم له ياسر بهدوء.
وقبل أن يكمل المهندس المسؤول عن العرض حديثه، قاطعه رنين هاتف ياسر، الذي ما أن رن هاتفه حتى انتفض من مكانه يعتذر بسرعة، مغادرًا الغرفة.
نظر تميم بضيق إلى ساعته.
لا وقت لديه للأسف اليوم.
لديه سلسلة طويلة من الاجتماعات، والتخطيطات، والتوقيعات.
وفي النهاية، مضطر أن يذهب لوالده، رغم أنهم في آخر فترة لا يتحدثون كثيرًا.
فمن الواضح أن أباه منشغل بشيءٍ هو لا يعرفه، وتلك المرة يثق أنه لا يخصه، حتمًا يخص أحد إخوته.
واثق هو.
لذا تنهد وهو يعود برأسه للخلف.
في رأسه ألف شيء، لكن يظل الأكثر إلحاحًا...
قطعة السكر.
تلك التي يريد الذهاب إليها، حيث هي، ليراها.
ليتحدث معها.
ليناقشها.
ولا يدري من أين ظهرت صورة قريبتها تلك في تفكيره...
آسيا.
كانت تحاوطه بطريقة غريبة، ترغب في مصادقته.
تبعت رسائل... لا يرد هو عليها ويتجاهل.
حتى صمتت فجأة.
تعجب هو، ولم يحظرها، واكتفى بسكوتها.
ولم يعلم أنها تتابعه بصمت على جميع حساباته.
ولم تمل حتى الآن.
لكن في نفس الوقت، تنتظر فرصتها المناسبة بفارغ الصبر.
تُدبّر وتخطط لتحصل على جائزتها الخاصة.
جائزتها الأهم.
فرصتها القادمة...
هو.
❈-❈-❈
وقف خارج غرفة الاجتماعات، يضع السماعة في أذنه، ويديه في خصره، مغمض العينين، شاعرًا برأسه على وشك الانفجار.
يستمع لها بهدوء وصبرٍ شديد، قبل أن يفتح عينيه، يتطلع أمامه بملامح متجهمة، ويزفر بتعبٍ قبل أن يقول برفق:
أوك يا كوكو، حاضر، بس لما اليوم يخلص.
بابي هيجي، أوك؟
أوك.
حاضر.
تمام، ممكن دلوقتي تروحي الكلاس بتاعك لحد ما اليوم يخلص؟
أوك يا كوكو.
حاضر، هتكون بينك مش بلو.
أوك، ورد أبيض.
حاضر.
أوك، باي يا حبيبي.
وأغلق الخط.
ظل ينظر أمامه بصمت...
معضلة كل يوم.
ولا مفر.
لا مفر.
❈-❈-❈
عاد مرة أخرى إلى غرفة الاجتماعات، وطال الحديث والشرح تلك المرة لساعة كاملة.
انتهوا فيها من مناقشة الكثير، وانتهى الاجتماع على خير.
وقف ياسر يصافح تميم قائلاً بهدوء:
هنبدأ التنفيذ إمتى إن شاء الله؟
أجابة تميم بعملية:
في أقرب وقت إن شاء الله. كل التصاميم تجهز ونبدأ، بس أحب نشتغل في هدوء وتخطيط عشان تمشي كل حاجة على أكمل وجه.
أومأ له ياسر قبل أن يغادر سريعًا.
وتوجه تميم إلى مكتبه لمهاتفة حسام، ف الآخر مختفي منذ يومين.
على غير العادة، هو هادئ، وهدوء أيٍّ من إخوته تتبعه مصيبة دائمًا.
❈-❈-❈
كان يقف في المطبخ يضع طعام الغداء في الأطباق قبل أن يوقظها لتأكل معه.
استيقظ صباحًا على صوت بكاء الصغيرة، ليجدها متكومة بجانبه بتعب، حتى أنها تقريبًا لم تسمع صوت بكاء شمس.
لذلك حمل الصغيرة وتركها تنام بهدوء لتحصل على أكبر قدر من الراحة، وليهتم هو بالصغيرة.
طلب إجازة لليوم، وقرر أنه سيعمل يوم الإجازة عوضًا عن اليوم.
تناول الإفطار هو والصغيرة المشاكسة،
تلك التي أطارت عقله من الصباح.
وظلا هكذا يلاعبها تارة وتبكي تارة، حتى انتهت طاقته.
وقرر طلب طعام من الخارج، فلا هي ستقدر على إعداد شيء سريع، ولا هو سيسمح لها من الأساس.
وقف يحمل الصغيرة، يضمها إلى صدره في حامل الرضع، وهي تحرك يدها هنا وهناك، مستكشفة وجهه كعادتها، قبل أن تحط بيدها الصغيرة على وجهه، مصدرة صوتًا عاليًا.
نظر لها بغيظ، لترجع رأسها وتضحك بقوة.
تظاهر بأنه سيأكل يدها الصغيرة، لتُعطيه كفًا آخر بيدها الأخرى وتضحك مرة أخرى.
لم يقدر على الصمود أمام ضحكتها أكثر من ثوانٍ، قبل أن ينفجر هو الآخر ضاحكًا، ضامًا إياها إلى صدره، مقبِّلًا وجنتيها الممتلئة الشبيهة بحلوى السكر.
قبل أن تنتبه عيناه لتلك الواقفة على باب الغرفة بتعب، تحدق فيهم بصمت تام.
ابتهجت الصغيرة بشدة وهي تصفق بيديها، تشير لأمها بسعادة، راغبة بالذهاب إليها، متحدثة بكلمات غير مفهومة.
وعندما ظلت كما هي محلها، اقترب منها هو حتى وصل إليها، ومالت الصغيرة نحوها تمسك خصلاتها وتشُدُّها نحوها.
تأوهت وهي تقترب منهم حتى كادت أن تلتصق به، والصغيرة تريد أن تذهب إليها، فلم يجد نفسه سوى وهو يشدها من خصرها، يضمها والصغيرة.
وضعت رأسها على صدره، والصغيرة أيضًا، وظلوا هكذا حتى همست بحزن:
أنا آسفة يا حسام.
تنهد وهو يضمها إلى صدره بصمت، وتحرك بها والصغيرة نحو المائدة، مُقررًا أنه يجب أن يجلسا سويًا طويلًا، عله يكتشف سبب الخلل الذي يحدث بكل مرة.
عله يحل تلك المعضلة، فهو في كل الأحوال لن يتحمل خسارتها.
ولا يريد
❈-❈-❈
لحظات الفراق تخبرنا بكل ألم
أننا أصبحنا وحدنا،
حتى وإن كان الجميع حولنا،
نشعر بالوحدة تغزو قلوبنا،
ويصبح الصمت هو رفيقنا،
والذكريات تلاحقنا بكل تفاصيلها،
مما يجعلنا نتساءل عن الزمن الذي مضى،
وعن تلك اللحظات التي كنا فيها معًا.
كان يجلس على فراشه يقلب في مجمع الصور الخاص بالعائلة،
صور زفافه،
هو وزهرته الراحلة رحمها الله،
أول أطفاله،
واحدًا تلو الآخر،
جميع المراحل،
من الروضة حتى التخرج،
صور الزفاف الخاصة بهم،
أول أطفالهم،
وأول أحفادهم.
كل تلك تظل ذكريات،
الكثير من الذكريات تمر أمام عينه كل يوم،
يصر هو على جمعها مهما رأى الجميع أنها غير مهمة.
يرى هو أنها الأهم والمهم،
تلك الذكريات التي تحتضن قلبه.
الجميع غادره،
وظل هو هكذا.
لن ينكر محاولة الجميع التواجد رغم انشغالهم،
لكنه يريد أن يراهم حوله من جديد،
لا يريد الهدوء،
يريد إزعاجهم وثرثرتهم.
يريد أن يستعيد صغاره مرة أخرى.
رنين هاتفه رسم الابتسامة على شفتاه،
وهو يفتح المكالمة المرئية،
ليقابله وجه حفيدته الصغيرة مريم،
وبجانبها مراد.
ابتسم ابتسامة عميقة وهو يقول بشوق:
وحشتوني.
ردت مريم بسرعة:
وإنت كمان يا جدو.
أهداها قبلة لتهديها هي أخرى،
والصغير يحزو حزوها،
ويقبله.
قبل أن يشير له على الواجبات الخاصة بهم.
ورغم اشتياقه لهم،
لكن خلو المحادثة من ابنه أمير أو حتى زوجته
أثار فضوله.
فهو منذ الكثير لم يحادث الصغار محادثة مرئية لانشغالهم بالتمارين والتدريب،
كما قال أمير.
لذا تساءل بهدوء:
أمال فين بابي ومامي يا ولاد؟
إجابتة مريم بحزن:في الشغل يا جدو.
نظر إلى ساعته،
الآن الوقت تأخر هناك.
سأل مرة أخرى:
مين معاكم؟
رد مراد:
إيميليا.
ظهرت من خلفهم إيميليا،
ليسألها بهدوء:
أستاذ أمير مش موجود؟
هو متعود يتأخر كده؟
هزت رأسها قبل أن تقول:
نعم، سيد أمير والسيدة يارا لا يصلان الآن،
يصلان عادة بعد منتصف الليل.
أومأ لها بصمت،
قبل أن يتابع حديثه مع الصغار ببال مشغول،
ماذا يحدث هناك مع أحفاده؟
وأين ابنة من كل هذا؟
❈-❈-❈
فتح باب الشقة وهو يشير لها أن تدخل،
ودلفت بالفعل دون أن تنظر إليه،
لكنها وقفت مكانها متسمرة متسعة العينين،
وهي تشاهد أمامها لوزة نائمة على طاولة الطعام،
التي أصبحت ساحة حرب فعلية،
وقد تناثر كل شيء في كل مكان.
تنام ببطن أكبر من بطنها المعتادة كأنها منتفخة،
وبجانبها أطباق الطعام التي نسيت أن تدخلها المطبخ قبل أن تغادر من سرعتها،
وقد أصبحت فارغة إلا من بعض الأشياء الصغيرة،
ويبدو أنها تناولت كل شيء،
حقًا كل شيء،
بمعنى كل شيء.
قضت على الأخضر واليابس، الحيوانة!
لم تترك لها حتى قطعة واحدة لتذوقها،
لتسقط بعدها في نوم عميق،
بعد أن ملأت معدتها بطعامها،
ينقصها فقط كوب شاي .
هزت رأسها برعب حقيقي، وهي تبتلع ريقها وتنظر لعمر الواقف بجانبها،
متسع العينين، فاغر الفم، يشاهد لوزة التي فتحت عينيها متفاجئة من وجودهم،
متقلبة يمينًا ويسارًا،
تهز ذيلها بدلال،
قبل أن تقوم من مكانها،
تسير ببطء وتتبختر،
تكمل مسح باقي الأطباق.
حسنًا، على الأقل هي قطة نظيفة،
لم تحب أن ترهقها في غسيل الأطباق.
لوزة مثال للقطة التي تم تربيتها عشر مرات.
أفاقت من أفكارها على صيحة عمر العالية،
والتي لم تفزعها هي فقط،
بل أفزعت لوزة،
التي انتفضت تنظر له بغيظ،
تصدر عدة أصوات غاضبة،
جعلته يتراجع للخلف قليلًا،
وهو يراها تقترب منه تسير على الطاولة،
تراجع أكثر وهو يشير لفريدة بقرف قائلاً بسرعة: "إياكِ تقربي مني،
أنتِ فاهمة؟"
ناظرته بضيق،
قبل أن تقترب من لوزة،
التي أسقطت نفسها على الطاولة لتداعبها فريدة،
ولم تبخل عليها الأخرى بالكثير من الحب،
وهي تميل عليها تقرص وجنتها قائلة بحب: "طب سبيلي حتة يا لوزة،
بس هنا على قلبك، أنتِ واللوز الصغير."
قالتها وهي تمسد على بطنها الممتلئة،
تحت نظرات عمر المغتاظة من فريدة وتصرفاتها،
قبل أن يصيح مرة أخرى: "طلعي القطة دي بره،
دي كلت السمك،
كلت السمك اللي أنا كان نفسي فيه!"
ظلت تداعب القطة قليلاً دون أن تعطيه أي اهتمام،
قبل أن تلتف له و هي تحملها،
قائلة وهي تقترب منه خطوة،
يبتعدها هو للخلف مرة أخرى : "أنتِ ليكِ عين كمان تزعق؟
أنت إزاي كده؟
أنا سكّت مش عشان خايفه،
أو مش عشان أنتِ صح،
سكّت عشان رد فعلي مش هيعجبك،
فخليني ساكتة،
أحسن ليا وليك."
وكادت أن تلتفت منهيّة النقاش، إلا أنه صاح مرة أخرى: "لا، متسكتيش، اتكلمي!
أنا مش حابب الوضع الصامت ده،
لازم نتناقش،
نحل اللي بينا،
مش تسبيني وتمشي،
اتكلمي أنا مش عايزك تسكتي!"
وضعت لوزة على الأرض،
لتسير ببطء وتلتف حول ساقها ،
قبل أن ترد بقهر وهي تضرب صدره: "عايزني أتكلم؟
عايزني أقول إيه؟
أقولك إزاي سمحت لوحدة تحضنك بالشكل ده؟
إزاي اتجرأت تعمّل كده؟
أنت هنتني،
وهنت حبي،
وهنت كرامتي،
وأنا شايفة في حضنك واحدة غيري.
واللي انكسر جوايا النهارده،
لا يمكن يصلحه أي حاجة!"
وكادت أن تغادر وهي تبكي،
إلا أن يديه منعتها وهو يقربها من صدره قائلاً برفق: "فريدة،
لو سمحتي اهدي،
دي سلمى بنت عمتي."
ناظرته بغضب،
لكنه أكمل بسرعة: "أنا مش ببرر،
بس هي متربية معايا،
وبتعتبرني أخوها،
وعملت كده برد فعل طبيعي وتلقائي،
عشان ما شفتنيش من يوم ما اتجوزنا،
ودي أول مرة أبعد عنهم كده،
أنا عارف إنه غلط وحرام،
صدقيني مش ببرر أبدًا،
بس مكنش ينفع تعملي كده،
أنا كنت هبعدها عني،
بس أنتِ ضربتيها،
وشديتي شعرها،
واتفضحنا في البيت،
ودي بنت عمتي في الأول والآخر،
أنتِ متخيلة الموقف اللي أنا فيه؟
فريدة، لازم تعرفي أن مفيش في قلبي غيرك،
واللي حصل كان غلط من الطرفين،
منك ومنها."
أبعدته عنها سريعًا قائلة باستهجان: "مني؟
مني أنا؟
إيه، عايزيني أشوفها بتحضنك،
وأسقفلها؟
أقولها: بارفوا يا حبيبي،
كملي أحضان؟
إنت بتقول إيه؟
واحدة معرفهاش بتحضن جوزي؟
إنت متوقع مني إيه؟
هتقبلها انت عليا يا عمر؟
هتقبل حد يحضني؟"
قالتها بصراخ،
لتتسع عيناها وهو يصيح بها بحدة: "فريدة،
إنتِ اتجننتي؟
إيه اللي بتقوليه ده؟"
قالها وهو يشدد على يدها بقوة وغضب وغيرة.
تنهدت بغيظ وألم وهي ترد:
"شفت انت مستحملتش مجرد كلام،
متخيل أنا كان إيه إحساسي؟
لا، مش متخيل،
لأنك لو متخيل،
مكنتش وقفت قدامي بتقولي إني غلطت،
الغلط لو حصل،
ف منك،
مش مني.
وأنا عمري ما هسامحك أبدًا
على اللحظة دي،
أنت غلطان، وبدل ما تعتذر،
واقف تحاسبني،
حاسب نفسك الأول!"
ومالت للأسفل تحمل لوزة بين يديها قائلة بحزم: "أنا النهاردة هنام مع لوزة،
نام أنت في أي حتة ثانية."
ودلفت لغرفتها،
صافعة الباب خلفه،
معلنة انتهاء النقاش.
❈-❈-❈
جلست على الفراش بعد أن أبدلت ثيابها،
تلاعب لوزة النائمة بجانبها الخاص،
فهي تخص نفسها بجانب عمر،
يعاتبها،
يراها مخطئة،
أي رجل هذا؟
أي رجل تزوجت؟
يراها مخطئة.
حسنًا، فلتصفق لهم المرة القادمة!
هزلت.
أفاقت من شرودها على صوت طرقات الباب.
ظلت تنظر له عدة ثوانٍ،
قبل أن يأتيها صوت عمر قائلاً برفق: "فريدة،
فريدة افتحي، خلينا نتكلم بهدوء طيب.
ما مش طبيعي اللي بيحصل ده،
نتكلم ونتعاتب.
حقك عليا يا ستي،
أنا غلطان وآسف،
بس افتحي لو سمحتي."
نظرت للوزة التي تقلبت على الفراش تعطيها ظهرها،
قبل أن تقف وتفتح الباب، تناظره بضيق.
طالعها بهدوء وهو يقول: "ينفع اللي بيحصل ده؟
بدل ما نقعد نتكلم ونتناقش،
بتتقمصي زي العيال؟"
اتسعت عيناها،
وهي تمسك بالباب تحاول إغلاقه في وجهه،
إلا أنه ضحك وهو يمنعها بسرعة قائلاً برفق: "يا ستي، بهزر،
يا فريدة،
عمتي هي اللي باقيه ليا في الدنيا،
هي اللي ربتني وكبرتني وعلمتني،
ولولاها بعد رب، مكنتش وصلت أبدًا للي أنا فيه.
أنتِ متعرفيش هي ضحت قد إي عشاني،
وحرمت نفسها وبيتها قد اي ،
مقدرش أزعلها أبدًا،
مقدرش أبدًا، صدقيني،
لكن برضو مستحيل أقدر أزعلك."
قالها وهو يرفع يدها ويقبلها،
وهو يكمل: "سلمي تصرفاتها متهورة شوية،
لكن أوعدك أحط حد للموضوع ده،
وأي حاجة حصلت متتكررش تاني أبدًا،
أوعدك،
بس لو سمحتي قدري أنهم أهلي،
وغصب عني الوضع اللي أنا فيه،
أنا بين نارين بينك وبينهم،
ولازم نلاقي حل للي حصل النهارده."
ناظرته بضيق وصدرها يشتعل،
وظل هكذا يراضيها ويحايلها،
حتى صمتت،
وهي لا تجد ما يقال.
وقبل أن يدخل معها لغرفتهما
ليكملا الحديث،
ناظر لوزة التي تناظره بهدوء من على فراشه،
تحديدًا الجانب الخاص به،
تتقلب به يمينًا ويسارًا،
وقبل أن يصيح بها أن تبتعد،
أوقفته فريدة تلك المرة قائلة بحسم:
"لو سمحت، متزعقش للوزة تاني،
دي حامل ونفسيتها مهمة جدًا جدًا في المرحلة دي."
وأكملت بتقرير: "لوزة هتنام جمبي يا عمر."
ونام عمر على الأريكة،
يستحق العقاب،
لكن بداخلها،
هي لا تريد عقابه،
هي لا تريد سوى الراحة لقلبها المحتار،
فهي لم تعد تفهم ما تفعل حتى.
❈-❈-❈
بعد مرور ثلاث أيام،
وقفت سيارة الأجرة أمام منزل والديها.
كم فكرت لكي تأخذ تلك الخطوة،
الكثير من التفكير،
الكثير من التردد،
الكثير من التوتر،
والكثير من التراجع عن تلك الخطوة.
خطوة أرادتها وإن لم تردها.
هي لم ترد أن تأتي،
لكنها ورغم كل شيء أتت.
اشتاقت لهم،
اشتاقت لأمها،
وأبيها،
صارمين،
متعبين،
مرهقين.
ماذا ستفعل؟
هل ستقاطعهم إلى نهاية العمر؟
لن تفعل،
لن تستطيع أصلاً.
اليوم هاتفَت أمها أكثر من مرة،
لكن النتيجة كانت واحدة،
لم تجبها.
ترجلت من السيارة،
ووقفت أمام الباب عدة دقائق،
قبل أن ترن الجرس.
تبعه استقبال حار من إحدى المساعدات،
ما إن رأتْها أمامها،
ابتسمت لها قائلةً بسعادة: "وحشتوني أنتم كمان قوي،
عاملة إيه؟"
وبعد حديث سريع،
تساءلت وهي تنظر حولها: "فين مامي؟
ممكن تبلغيها إني جيت؟
أو خلاص أنا هطلعلها."
ابتسمت لها المساعدة باعتذار،
وهي تخبرها أنها ليست هنا،
قد ذهبت إلى الشركة.
قطبت حاجبها باستغراب،
إلا أنها لم تهتم كثيرًا،
وهي تودعها بابتسامة هادئة،
متوجهة نحو الشركة،
نحو مصير لم تعلم عنه شيء.
❈-❈-❈
صعدت بهدوء نحو مكتب والدها بعد أن حياها الموظفون بسعادة من وجودها.
ابتسمت لهم بهدوء وهي ترفع الهاتف على أذنها تجيب عمر قائلةً بهدوء:
"قدامك قد إيه يا عمر؟"
"تمام، أكون نزلت.
أنا مش هطول.
هسلم عليهم وانزل."
"أوك، باي."
وأغلقت معه وهي تقف أمام مساعدة مكتب والدها،
التي ما إن رآتها حتى تحركت بسرعة، تحييها، وتسمح لها بالدخول، وتسألها ماذا تحب أن تشرب.
حينها توجهت نحو الباب بابتسامة،
وقلبها مرتجف،
قلب خائف،
لكن يملؤه الكثير من الأمل،
والكثير من الرغبة في أحد تلك الأحضان،
أو حتى ابتسامة فقط.
أخذت نفسًا عميقًا،
ورفعت يدها تطرق بالباب بيد مرتجفة،
كطالبةً تواجه امتحانًا عصيبًا للغاية.
وما إن سمعت إذن الدخول،
حتى دلفت مغلقةً الباب خلفها،
بابتسامة اختفت تمامًا،
وهي ترى ثلاث أزواج من العيون
تناظرها بدهشة، غضب، غيرة، ومشاعر كثيرة
لن تقدر حتى على فهمها.
قبل أن ينتفض والدها من مكانه،
يصيح بها بغضب وعصبية وكأن الجن قد تلبس جسده أو تعرض لماس كهربائي:
"إنتِ بتعملي إيه هنا؟
أنا مش قلتلك انسِي إن ليكي أب وأم؟
انسِي إنك كنتِ واحدة من العيلة دي.
قلتلك اعتبري نفسك يتيمة.
اخرجي بره!
بره!
جايّة تعملي إيه؟
جايّة تخدي فلوس؟
جوزك الجروبع بعتك تخدي مننا؟
انسِي!
لو بتموتي كده،
مش هتخدي أي حاجة.
بره!
بره!"
قالها بزعيق،
جعلها ترتد قليلاً للخلف،
وهي ترى وقوف أمها تحدّجها بضيق،
وأسيا التي تحركت تناظرها بتفحص شديد،
تفحص دقيق وشديد،
كأنها تريد أن ترى كيف تحيا،
سعيدة؟
أم تتمنى أن تكون تعيسة؟
قبل أن تقترب من شوكت تربت على صدره قائلةً بهدوء:
"لو سمحت يا عمو،
اهدي عشان صحتك."
واكملت وهي توجه حديثها إلى فريدة:
"اخرجي لو سمحتي.
عمو هيتعب بسببك."
اتسعت عينا الأخرى بشدة،
تناظر أمها تريد أن ترى رد فعل أمومي.
أي رد فعل؟
أن تدافع عنها؟
أن تنهر ابن أخيها؟
أن تصرخ بها كيف لها أن تطرد ابنتها؟
لكن رد أمها كان محطمًا لكل آمالها،
وهي تقول بتأكيد:
"أسيا عندها حق.
امشي يا فريدة.
إنتِ اخترتي طريقك خلاص.
جايّة تعملي إيه؟
اخرجي يلا.
كفاية اللي عملتيه."
لا تعلم من أين أتت بكل تلك القوة
على الصمود والسكوت.
من أين أتت بقوة لكبح دموعها اليائسة؟
قبل أن تحرك ساقها اليابسة،
تلتف وتخرج بصمت تام،
ودموعها المتحجرة تأبى الهبوط لأجلهم.
غادرت بصمت يستحقوه،
ولا تستحقه هي.
صمت مؤلم.
❈-❈-❈
كان يسير في ممر الشركة
يحمل بين يديه عدة ملفات يراجعهم سريعًا قبل أن يصعد لوالده لتوقيعهم.
كان ذهنه مشغولًا وعقله مزدحمًا للغاية،
ولا يدري لماذا في تلك اللحظة تحديدًا.
إلا أن شيئًا ما دفعه ليرفع وجهه،
والغريب أنه فعلها،
ورفع وجهه يتطلع أمامه.
وهنا توقفت قدماه، فجأة تسمرت، كان هناك مغناطيس قد أوقفه.
شيء أقوى من المغناطيس بالنسبة له
فريدة.
حين ظهرت، توقف الزمان في لحظة،
وكأن الكون نفسه اختار أن يتنفس بحضورها.
الهواء، الأرض، والشمس، كل شيء حوله كان يراقبها،
وكل لحظة بدونها كانت مجرد غياب.
هي الحكاية التي لم تكتمل إلا بلقائها،
وفي عينيها، وجد قلبه موطنه،
هي السبب الذي يعيد الحياة لكل لحظة،
حين أشرقت، أصبح العالم أكثر إشراقًا.
كانت تناظره ولا تنظر إليه.
لم تراه حتى،
إلا أنه أسرع قبل أن تتخطاه يهمس بصدمة وسعادة: "فريدة".
وكم كان ينتظر أن يتذوق حلاوة اسمها من بين شفتيه.
قطعة السكر تعطي حلاوة لأي شيء.
وقفت فاجأه، تناظره بدهشة تحولت لارتباك،
قبل أن تقول دون وعي: "تميم".
كان يود أن يوقف كل شيء في تلك اللحظة
ليحتفظ بها فقط.
أكان اسمه بتلك الحلاوة من قبل؟
ابتسم لها وهو يرفع يده مرحبًا بها قائلاً بشوق: "عاش من شافك يا فريدة".
رفعت يدها بإحراج لكي تضعها في يده
تسلم عليه،
لكن يدًا أخرى وضعت في يده.
يد تعرفها جيدًا.
التفتت تنظر بجانبها بتفاجؤ
وهي تري عمر يناظرها بضيق.
كان أشد لتميم المتعجب من هذا الرجل.
من هذا أصلاً؟
تبادل الرجلان نظرات حادة، وساد التوتر والحدة في الأجواء بينهما.
قبل أن تقول فريدة بتوتر مشيرة لتميم: "تميم،
ابن عم أونكل مدحت شريك بابا".
وأكملت مشيرة لعمر: "عمر،
جوزي".
❈-❈-❈
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
تعليقات
إرسال تعليق