رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الاول والثاني والثالث بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الاول والثاني والثالث بقلم سيلا وليد
الحلقه الاولى
بأحد أحياء القاهرة الراقية، وخاصة بتلك الفيلا التي يدون على خارجها
فيلا اللواء مصطفى السيوفي ..بالأعلى
بذاك الجناح سيدة بمنتصف عقدها الخمسون جلست على سجادة صلاتها
لتنهي وردَها اليومي، صدقت تفتح كفيها وتنظر بعيون مرققة بالدموع أن يربط على قلبها لغياب فلذة كبدها، تدعو من الله أن يجمعها بهما، ظلت لدقائق ثم نهضت من مكانها متَّجهةً إلى نافذةِ غرفتها تفتحها بخروجِ زوجها من الحمام:
صباح الخير يافريدة…استدارت مبتسمة :
صباح الخير يامصطفى، عامل إيه دلوقتي لسة جنبك بيوجعك؟.
خطى إلى أن جلسَ على الأريكة، ثمَّ بسطَ كفَّيهِ إليها :
تعالي قوليلي الصُّداع لسَّة بيجيلك؟..
خطت إليه، ثمَّ جلست بجوارِه :
لا، الحمد لله، باخد العلاج وأديني ماشية عليه..
مسَّدَ على وجهها بحنان، ثمَّ حاوطها بذراعيهِ يجذبها تختبأُ تحتَ جناحِ حنانِه :
اهتَّمي بصحتِّك يافريدة، أنا مقدرشِ أعيش من غيرِك..رفعت رأسها تطالعهُ بعيونٍ لامعة :
ربِّنا يخليك ليَّا يامصطفى، إنتَ أكبر نعمة ربنا أنعمني بيها بعد سنين مرار .
قبلةً عميقةً بمعاني كثيرة فوقَ جبينها :
طيِّب حبيبتي اهتَّمي بصحتِك، وسيبك من عصبيتِك طولِ اليوم..اعتدلت قائلة :
فكَّرتِني هتفضل ساكت على إلياس كدا، العمر بيجري بيه وهوّّ مش حاسس، نهضَ من مكانهِ يشيرُ إليها :
هاتي بدلِتي فيه اجتماع في الوزارة النَّهاردة، وربِّنا يستر مالقَهوش عامل مصيبة، إلياس خلاص مبقتِش قادر عليه، نفسي أجوِّزُه النهاردة قبلِ بكرة، بس إنتِ شايفة رفضه ..
ربتت على كتفهِ تتعمَّقُ بالنظرِ إليه :
إيه رأيك أكلِّمُه مرَّة تانية، يمكن يسمع مني المرَّة دي ..
هزَّ رأسهِ بالرَّفض :
لا لا ..بلاش إنتِ وترجعي تزعلي وضغطِك يعلى، سبيه بكرة الأيَّام تعدِلُه .
أومأت بحزنٍ واستدارت متَّجهةً إلى غرفةِ ثيابه :
براحتك يا مصطفى..أطبقَ على رسغها يجذبها إليه :
فريدة إنتِ فهمتي إيه؟..هزَّت رأسها ثمَّ رفعت كتفها للأعلى بعدمِ رضا :
عارفة إنَّك خايف يزعَّلني، بس أنا خلاص اتعوَّدتِ عليه ومبقتش أزعل منُّه، دنت منهُ تحتضنُ وجهه :
مصطفى..إلياس سواء رفض أو قبل هوَّ ابني وعمري ماهزعل منُّه، مهما يقول ومهما يعمل، هوّّ معذور ياحبيبي، شايفني مرات أبوه اللي مفكَّرها السبب في موت أمُّه .
ضمَّها بحنان :
ربِّنا يباركلي فيكِ يافريدة وميحرمنيش منِّك، خرجت من أحضانهِ ورسمت ابتسامة قائلة :
هنزل أشوفهم خلَّصوا الفطار ولَّا لأ…أومأَ لها دونَ حديث..غادرت الغرفة تشعرُ بدموعها تتكوَّرُ تحتَ أهدابها، إلى أن وصلت إلى غرفةِ ابنتها، دلفت إليها وهي تضعُ كفَّيها فوقَ فمها تمنعُ غصَّتها المتألِّمة، ظلَّت لدقائقَ تستعيدُ اتِّزانها، ثمَّ خطت حتَّى وصلت إلى فراشِ ابنتها :
ميرال حبيبتي قومي الساعة تمانية وعندِك Meeting ..رفرفت بأهدابها عدَّةَ مرَّات، انحنت فريدة تطبعُ قبلةَ فوقَ خصلاتها :
صباح الخير حبيبتي..اعتدلت تُرجِعُ خصلاتها للخلف :
صباح الخير ياماما، هيّّ الساعة كام ؟..
نظرت بساعةِ هاتفِ ابنتها :
الساعة تمانية حبيبتي، قولتي عندِك اجتماع مهِّم الساعة عشرة، هبطت من فوقِ سريرها متَّجهةً إلى الحمَّام :
فنجان القهوة ياستِّ الكُل قبلِ ما أنزِل ..
ابتسمت لها ثمَّ نهضت من مكانها واقتربت منها :
محكتيش لماما إيه اللي حصل معاكي إمبارح ..استدارت تنظرُ بصمتٍ للحظاتٍ ثمّّ تأفَّفت بضجر :
ولا حاجة سيادة الظابط العظيم رفض أعمِل الحوار الصحفي مع المسجون، وطردني كالعادة..
أفلتت فريدة ضحكة على حركاتِ ابنتها، ثمَّ هزَّت رأسها وخرجت مردِّدة :
واللهِ جننتيني إنتِ والياس ..
ماما ..توقَّفت على بابِ الغرفة استدارت إلى ابنتها :
عرَّفي عمو مصطفى مش كلِّ مرَّة هسكُت على تبجحه، واللهِ هقدِّم فيه شكوى لنقابةِ الصحفيين ..
خرجت فريدة متذمِّرة من أحاديثها التي لا تنقطعُ عن قسوةِ إلياس، وصلت إلى الأسفلِ قابلها إسلام على الدرج :
صباح الخير ياماما فريدة .
ابتسامة تجلَّت بملامحها عندما اقتربَ منها ثمَّ قبَّلَ وجنتيها :
أنا مطيع أهو وقدِّمت الولاء والطاعة .
ربتت على ظهرهِ بحنانٍ أمومي :
صباح الورد ياروح ماما، أخوك مصحيش..قاطعهم صوتهِ وهو يردفُ بصوتهِ الرخيم :
صباح الخير…قالها وتحرَّكَ إلى طاولةِ الطعام، ثمَّ جذبَ الصحيفةَ يتفحصُ الأخبار، اتَّجهَ إسلام إليها حتى يُخرِجها من حالةِ الحزن :
بقولِّك ياجميل، إيه رأيك تحضري النهاردة حفلةِ التَّخرُج، إنتِ وسيادة اللوا، بس البتِّ ميرال لا، لأنها شقيَّة وهتبوَّظ الحفلة ..
سامعة دبَّانة بتجيب بسيرتي، تحرَّكَ إليها يحيِّها بيدهِ :
ميرو، وحشتيني الكام ساعة دول..توجَّهت إلى طاولةِ الطَّعامِ وعينيها على ذاكَ الذي جلسَ يرتشفُ قهوتِه ويتفحَّصُ الأخبار، ثمَّ جذبت المقعد بقوَّةٍ حتى أصدرَ صوتًا، رفعَ عينيهِ إليها :
بالرَّاحة يامعزة على الصُبح، إيه مفكَّرة نفسِك في حديقة حيوان، لم تعيرهُ اهتمامًا و رفعت عينيها إلى إسلام :
سلُّومي حفلتِك الساعة كام، علشان أعدِّي عليك، جلسَ بجوارِها :
قولي واللهِ وهتفضَلي ساكتة ولَّا تجيبينا مجلسِ الشّّعب، أفلتت ضحكةً مرتفعةً ثمَّ ضربتهُ بخفَّةٍ على رأسه :
بس يالا، قاطعهم دلوفُِ غادة توأمَ إسلام :
صباح الخير ياعفاريت السيالة..قبلة على الهوا من ميرال إليها ..
خلَّصتوا مسرحيتكم التافهة، قالها وعينيهِ كالطَّلقاتِ النَّارية إليهم :
مش عايز تفاهة على الصُّبح، إفطروا وأنتوا ساكتين ..نظرت غادة إليه :
صباح الخير ياأبيه إلياس، آسفة مكنشِ قصدنا نزعج حضرتك ..
أشارَ بعينيهِ لطعامها :
كُلي وإنتِ ساكتة، متبقيش تافهة زي الأغبية الرَّغايبن ..أومأت لهُ وبدأت تتناولُ طعامها بصمت، وصلت فريدة تضعُ إليهم أكوابَ اللبن :
ممكن تبَّطلوا قهوة على الصبحِ وتشربوا اللبن ..
رمقها إلياس وتمتمَ بتهكُّم :
ناقص تقوليلُهم إغسلوا سنانكم قبلِ النوم، قالها ونهضَ ملقيًا محرمتِه، يحملُ أشيائه الخاصَّة بعدما ارتدى نظَّارته ..
طالعتهُ بأعينٍ حزينة :
هتمشي من غير فطار..رفعَ رأسهِ إليها بدخولِ والدهِ ملقيًا تحيَّةَ الصباح :
صباح الخير ياولاد..ردّّ على والدهِ التحيَّة ثمَّ رمقَ فريدة بنظرةٍ سريعةٍ قائلًا :
ماليش نفس، أتمنَّى تعاملينا على إننا كبرنا، بلاش مثالية الستِّ المصرية المتأفوَرَة دي..قالها وخطا لبعضِ الخطواتِ ثمَّ استدارَ ينظرُ لتلكَ التي توقَّفت بجوارِ والدتها :
ماما حبيبتي أقعدي علشان تفطري، واللي يفطر يفطَر واللي مفطِرش يشرب من البحر ..
تحرَّكَ إليها وتوقَّفَ أمامها مردِّدًا بنبرةٍ قاسية :
عارفة لو شوفتِك عندي هحبسِك في الزنزانة، آخر تحذير سمعتي، ثمَّ ألقى نظرة على والدِه :
قولَّها تبعد عن طريقي، خلِّيها تلعب بعيد مش ناقص غباء من واحدة غبية زيَّها ..قالها وتحرَّكَ للخارجِ وكأنّّه يسابقُ عدوِه .
ربتَ مصطفى على كفِّ فريدة، ابتسمت وأومأت له :
إلياس خلاص اتعودَّتا …ابتلعت غادة طعامها :
أه والله ياماما فريدة، بقى عندنا تناحة من كترِ ماتعوِّدنا ..
اتَّجهت ببصرها إلى ابنتها الصامتة :
ميرال مابتكليش ليه؟!
توقَّفت تمسحُ فمها ورسمت ابتسامة :
شبعت حبيبتي لازم أتحرَّك علشان متأخرَش، استدارت إلى مصطفى وطبعت قبلةً فوقَ رأسِه :
صباح الفُل ياحضرةِ اللواء..ضمَّها بحنانٍ أبوي :
صباح الخير على القمر..حملت حقيبتها واتَّجهت إلى والدتها ثمّّ دمغتها بقبلةٍ على وجنتيها :
دعواتِك ياستِّ الكُل..توقَّف إسلام يشيرُ إلى غادة :
ياله يادودي هنتأخَر على المحاضرة، هبَّت واقفة واتَّجهت تجمعُ أشياءها :
باي يابابي، باي ماما فريدة..قالتها غادة وغادرت برفقةِ أخيها ..
ظلَّت فريدة تطالعُ ذهابِهم إلى أن اختفوا، بعدَ فترةٍ انتهى مصطفى من طعامِه، ثمَّ همَّ بالمغادرة، توقَّف لتوديعها :
خلِّي بالك من نفسِك، لو حسِّيتي بحاجة كلِّميني فورًا أنا مش هتأخر ..
أومأت لهُ دونَ حديث..نهضت من مكانها متَّجهةً إلى الحديقةِ، جلست بمكانها المفضَّل تنظرُ لتلكَ الأشجارِ التي بدأت تتأثرُ بقدومِ فصلِ الخريف .
غامت عينيها لذكرياتِ تلكَ الأشجارِ، التي قامت بغرسها والعنايةِ بها بكلِّ حب، جلست بجوارِها تلملمُ أوراقها المتساقطة، تنهيدة عميقة حرقت جوفها متذكِّرةً الماضي بآلامه ..
فلاش باك قبلَ ثلاثون عامًا
بإحدى أجملِ محافظاتِ مصر المطلَّة على البحرِ الأحمرِ والتي تعدُّ من أكبرِ المراكز التجارية والحضارية، ألا وهي محافظة السويس خاصَّةً في ذاك الحيِّ القديم، ..انتهت تلكَ السيدة التي تبلغُ من العمرِ خمسة وعشرون عامًا من صلاتها، ونهضت متَّجهةً إلى موقدِ الغاز لتقومَ بتجهيزِ طعامِ الإفطار لزوجها قبل ذهابهِ لعملهِ في البحر، حيث يمتلكُ متجرًا كبيرًا للأسماك، أنهت فريدة إعدادَ الطَّعامِ ثمَّ توجَّهت إليه وقامت بإيقاظِه :
جمال ..قوم الساعة تمانية زمان الصيَّادين على وصول..فتحَ عينيهِ بإرهاقٍ ينظرُ بساعتِه، ثمَّ اعتدلَ يمسحُ على وجههِ مستغفرًا ربهِ علَّه يطردُ شيطانه :
صباح الخير ياأمِّ يوسف، اتَّجهت إلى النافذة وفتحتها مبتسمة :
صباح الخير ياحبيبي، نهضَ معتدلًا وابتسامة زيَّنت وجهه،
يزيد عامل إيه؟..ابتسامة زيَّنت ثغرها تشيرُ على بطنها :
خلاص سمِّيتُه يزيد، مش يمكن تكون بنت..
إن شاء الله ولد، إنتِ قولي يارب .
استدارت واتَّسعت ابتسامتها التي أنارت وجهها حلو التقاسيم :
ربنا يرزقنا بالذريَّة الصالحة أهمَّ حاجة، بنت ولد مش مهمّ، المهمِّ يكون ولد ياخد بأيدينا للجنَّة في الآخرة ويكون عونًا لينا في الدنيا، حاوطَ جسدها ثم دمغَ جبينها بقبلة حنونة:
إن شاء الله ياحبيبتي، راضي باللي يجيبه ربنا، نفسي في أخ ليوسف، يبقى يوسف ويزيد .
ربتت على كتفِه :
إن شاء ياجمال، أنا راضية، مع إنِّ نفسي في بنت بس في الأوَّل والآخر اللي ربنا يجيبُه كويس .
حاوطَ بطنها بكفَّيه :
إنتِ في الشهرِ الكام دلوقتي؟..
وضعت كفّّها على كفَّيهِ وأجابته :
لسة في بداية الرابع، خير إن شاءالله حبيبي..إجهز وأنا هشوف يوسف صحي ولَّالأ..الولد من إمبارح وجسمُه سخن،
تحرَّكَ بعدما شعرَ بالخوفِ على ابنه :
ياخبر أبيض، ليه مقولتيش، كنت أخدتُه للدكتور،
وصلَ إلى غرفةِ ابنهِ الذي يبلغُ من العمرِ سنتين، وجدهُ مستغرقًا بالنوم، انحنى وطبعَ قبلةً فوقَ جبينه :
ربنا يباركلي فيك ياحبيبي، وأشوفك أحسن واحد في الدنيا .
قطعَ حديثهم طرقاتٍ على بابِ منزلهما، اتَّجهت متحرِّكةً تشيرُ إليهِ :
اطلع إفطر وبعدين صلِّي الضحى..قالتها واتَّجهت تفتحُ الباب، دلفت سيدة تبلغُ من العمرِ ثمانية وعشرون عامًا :
صباح الخير يافريدة ..جذبتها من ذراعها :
صباح الخير حبيبتي، أدخلي هتفضلي واقفة ..دلفت بخطى متعثِّرة تكادُ قدميها تحملنها، أسرعت فريدة تساندها :
رانيا مالك ياقلبي؟!..سحبتها لتجلسَ على الأريكة التي تقابلُ طاولةَ الطَّعامِ ثمَّ جلست بجوارها ..ارتفعَ بكاؤها :
شوفتي، راجح عايز يرجَّع طليقتُه..
شهقة خرجت من فمِ فريدة :
ليه يرجعها، هوَّ مش كان طلَّقها وخلاص؟..ابتلعت جمرة حارقة وهي تشيِّعُ جمال بنظرةٍ قائلة :
علشان قولتلُه مش عايزة ولاد دلوقتي .
ضربت على صدرها بحركةٍ تنمُّ عن غضبها :
إنتِ مجنونة!..بعد إيه إنتِ حامل يارانيا، مينفعش تنزلِّيه حرام عليكي .
رمقها جمال مستاءًا، ثم أردف :
أنا لو منُّه كنت كسرت رقبتِك، ارتفعت شهقاتِها ومازالت نظراتَها عليه .
توقَّفَ يستغفرُ ربه، ثمَّ اقتربَ منهما :
عايزة تقتلي روح يابنت سيدة، إيه الجبروت اللي إنتِ فيه دا، إحمدي ربنا إن راجح سابِك عايشة، ثم أشارَ إلى زوجته،
اتعلِّمي من بنت عمك الصغيرة، عندها ولد والتاني جاي في السِّكة، وحضرتِك لسة عايشة صغيرة على الحب..
فريدة هنزِل الشغل، وعقَّلي بنت عمك وعلِّميها تكون ست زيِّك .
توقَّفت تصرخُ بوجهه :
إنتَ ليه دايمًا شايفني شيطانة ياجمال، إيه قولي عملت لك إيه ..
استدارَ وتحرَّكَ للداخل يردِّدُ الاستغفار .
حضنتها فريدة تربتُ على ظهرها :
طيِّب إهدي حبيبتي، متنسيش إنِّك حامل ودا غلط على اللي في بطنك، أقعدي وإحكي لي إيه اللي حصل ..
توسَّلتها برجاء، فجلست على المقعدِ وداخلها نيرانُ الغيرة تكوي أحشائها،
إحكي لي إيه اللي حصل، ليه عايزة تنَزِّلي الولد، إنتِ ممكن ماتعرفيش تخلِّفي تاني حرام عليكي ..
قطعت حديثها عندما خرجَ جمال من الغرفة :
أنا نازل يافريدة، وخلِّي بالِك من نفسِك، ومن يوسف واللي في بطنك، دول أهم حاجة عندي.قالها بنبرة مشمئزة وهو يرمق رانيا، ثم تابع حديثه:
– هبعتلِك مرات حودة تشوف طلباتِك، هزعل منِّك لو عملتي حاجة..تحرَّكَ بعض الخطواتِ ثمَّ توقَّفَ مستديرًا يرمقُ رانيا :
وهبعتلِك معاها لزوم الغدا، علشان رانيا تتغدَّى معاكي، وتغذِّي الولد كويس ..تحرَّكت إليه :
متبعتش حاجة ياجمال، خيرَك موجود ياحبيبي، بلاش مصاريف على الفاضي
حملَ جاكيتهِ يشيرُ إليها بالتقرب إليه ثمَّ طوَّقها بين أحضانِه :
حبيبتي أنا ومالي تحتِ رجليكي، اوعي تسخسري حاجة في نفسك والولاد ..حاوطت خصرِه :
ربِّنا يخليك ليَّا ياجمال يارب، دمغها بقبلةٍ فوقَ جبينها ثم غادرَ إلى عمله .
كانت هناكَ عيون تطلقُ شرار من ذلكَ المشهد..هبَّت واقفةً واتَّجهت إلى بنت عمها كالنيرانِ التي تريدُ التهامَ كلَّ شيئ .
سايبة بنت عمك اللي بتقولي عليها اختك في همَّها وحزنها وحضرتِك قاعدة تحبِّي في جوزك!..
أنا غلطانة مفكَّراكي أخت بحق وحقيقي لكن إنتِ كلِّ همِّك جمال وبس إنَّما أختِك لا، هقول ايه ماانا مش شقيقتك..
سحبت كفَّها تجذبها إلى الداخل :
إهدي حبيبتي، ايه اللي بتقوليه دا، انتِ زي اختي وحبيبتي ومالناش غير بعض بعد موت عمي، ارتاحي واسحبي نفس إنت دايمًا كدا تقفشي..جلست تضربُ على ساقيها :
أنا عايزة أطَّلق يافريدة من راجح، مستحيل أفضل على زمِّتُه لحظة واحدة بعدِ اللي قالُه .
أطلقت فريدة تنهيدة عميقة، وحاولت تهدئتها :
طيِّب ممكن تهدي دلوقتي علشان الولد اللي في بطنِك، الطلاق مش سهل وخصوصًا معاكي ولد، راجح ابن حلال، احكي لي اللي حصل، ووعد لمَّا يرجع جمال من الشُغل هخلِّيه ينزل يكلِّمُه، بس المهم تشيلي فكرة تنزِّلي الحمل حرام عليكي .
لم تستطع الردَّ عليها،كيف ستقصُّ لها أنَّها تريدُ الطلاقَ لأنها تحبِّ زوجها..فكرة شيطانية خطرت بذهنها فتمتمت:
عايزة بيت جديد يافريدة، البيت دا بقى قديم، لازم يشوف شغل مع جمال، هنفضل في الشقَّة القديمة دي لحدِّ إمتى ..، وليه ماسك في الوظيفة
تأفَّفت فريدة بضجرٍ وهي تسحبها إلى طاولةِ الطَّعام وهتفت بنزق :
تعالي إفطري يارانيا، وإحمدي ربِّنا جوزِِك ربنا أنعم عليه بوظيفة كويسة، ليه بتحاربيه في شغله، يابنتي فيه رجَّالة كتير تتمنَّى تكون مكانه .
مصمصت شفتيها معترضةً وضربت بكفَّيها بعضها البعض :
على إيه ياحسرة الكام ملطوش اللي بياخدُهم، هوَّ فيه أحسن من الشغل الحر، شوفي جمال بيكسب في أسبوع أكتر ماهوَّ بيكسبُه في شهر .
لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العلي العظيم، رددتها فريدة قائلة
– إيه اللي بتقوليه دا يارانيا، دي أرزاق، جوزِك ظابط يابنتي يعني قيمة، وبعدين متزعليش إنتِ اللي بتصرفي كتير، راجح بيدخَّل كتير لكن إنتِ اللي مش حريصة، مين قالِّك جمال ياما هنا ياما هناك …جمال ياحبيبتي معاه عمَّال يعني اللي بيطلع لنا بسيط بس دي بتكون بركة..إنتِ اهتمي بجوزِك يابت دا كفاية عليكي مرات حضرة الظابط .
وضعت الطعام بفمها تلوكهُ وتتحدَّثُ بغضب:
مش عايزاه ياختي الظابط دا، أنا عايزة راجل يحسِّ بيا .
جاهدت في إخفاءِ حزنها من بنت عمها على عدمِ الرضا بالمكتوب..وضعت أمامها كلَّ ماتشتهيهِ ثمَّ أردفت بهدوء :
حبيبتي طول ماإنتِ مابتشكريش ربِّنا كدا عمر ربنا ما يزيدك، مش دا راجح اللي كنتي هتموتي عليه رغم أنُّه كان متجوِّز ، شوفتي آخرتها إيه
تصنَّعت الحزنَ ونكست رأسها للأسفلِ قائلة:
كنت مفكَّراه هيطلع زي جمال يافريدة، نفسي في راجل يحبِّني ويهتمِّ بيا زيك كدا .
ضحكت فريدة ببراءة ثم ربتت على كتفها :
يابتِّ راجح بيحبِّك، وبيموت فيكي كمان، هو فيه واحد يتجوز على مراته غير عاشق، بس ضغوطِك عليه دي غلط ..
هزَّت جسدها تلُّوحُ بكفَّيها غيرَ راضية وأجابتها ممتعضة :
لا والله إنتِ متعرفيش حاجة كلِّ فلوسه على إبنه الزفت، طليقتُه سوسة كلِّ شوية تتكهون عليه، وإيش الواد عايز دكتور مرَّة وعايز مصاريف منها غير كلِّ شوية ينطِّ لها بحجة الولد .
هزَّت رأسها غير راضية .
حرام عليكي يامفترية، البنت غلبانة وفي حالها وأهلها شايلين كل حاجة
هيَّ مين اللي في حالها دي، لمَّا جمال يتجوِّز عاوزة أشوفِك بتقولي كدا .
تذمَّرت فريدة فنهضت تلملمُ طاولةَ الطعام :
قومي يارانيا ارتاحي شوية، وبلاش كلامِك اللي يزعَّل دا، حافظي على جوزِك، المهمِّ قوليلي عايزة تاكلي إيه أعمِله ليكي؟..
تجوَّلَت بعينيها على المنزل فهتفت :
إنت جبتي صالون جديد؟..
تحرَّكت فريدة وهي تحملُ الأطعمة المتبقيِّة تضعها بالمطبخ، ثم توقَّقت تشيرُ إليها على مطبخها :
وغيَّرت المطبخ إيه رأيك؟..
إش إش يافريدة، إيه الحلاوة دي، شوفتي علشان تصدَّقيني تجارة السمك دي بتكسِّب إزاي، لو جوزِك شغَّال زي كان زمانِك مش لاقية حاجة .
توجَّهت إلى ثلاجتها وأخرجت بعضَ المجمدات :
غلطانة يارانيا، أنا كنت عملت جمعية كبيرة والستِّ عفاف قالتلي على معرض بيصفِّي شُغلُه جبت منه المطبخ والصالون، وكمان أوضة النوم، مقدرش أقرَّب من فلوس تجارة جمال، إنتِ عارفة البحر يوم ليك ويوم عليك .
المهم روحي ارتاحي، زمان البتِّ سميحة هتيجي وأخلِّيها تعملِك كلِّ الأكل اللي بتحبيه، إنتِ عارفة جمال بيضَّايق لمَّا بعمل شغلِ البيت أهمِّ حاجة عنده يوسف واللي في بطني .
نزلت ببصرِها على بطنها متسائلة :
جمال بيحبِّ الولاد شكله كدا، بدليل الولد لسَّة ماكمِّلش ٣سنين وعايز تاني .
ابتسمت تضعُ يديها على بطنها قائلة :
أوي يارانيا، ونفسُه كلِّ خلفتُه تكون صبيان، أنا شاكة برضو المرة دي كمان هجيب ولد نفس اللي بيحصلي دلوقتي حصل أيام يوسف .
استمعت إلى بكاءِ ابنها فنهضت سريعًا متجهةً إليه :
هشوف الولد وراجعة لك..أومأت لها .
تابعتها رانيا بعينين تنبثقُ منهما الغيرة ونيرانًا تريدُ إحراق كلَّ ما تملكه..خرجت تحملُ الولد :
يالهوي الولد سُخن أوي، أنا كدا لازم أنزِل بيه للدكتور، أتِّصل بجمال وأعرَّفه ولَّا إيه، بس جمال ممكن يقلق
رفعت كفَّيها قائلة :
طيِّب هاتيه وروحي إجهزي، ولا تقولي ولا تعيدي..تناولت الولد وتصنّّعت الحزن قائلة بأسى :
ياحبيبي الولد نار، إجهزي بسرعة وأنا هنزلِ معاكي .
بعدَ فترة بالمشفى جلست بجانبِ ابنها بعد قرارٍ من الطبيبِ بحجزهِ بالرعاية،
ربتت رانيا على ظهرها :
ألف سلامة عليه يافريدة ماعلى قلبُه شر حبيبتي ..
أومأت لها وهي تحتضنُ كفَّ الصغير، إتِّصلي براجح يعرَّف جمال، معرفش تليفوني شكلي نسيتُه في البيت .
استدارت قائلة :
ولا يهمِّك هعرَّفُه، كان نفسي أقعد معاكي لكن مش قادرة إنتِ عارفة الحمل وتعبُه .
أومأت لها وتجمَّعت العبرات بعينيها :
ولا يهمِّك، المهمِّ جمال يعرف علشان مايقلقش ..ولَّا هاتي تليفونِك أكلِّمه .
رفعت الهاتف وأشارت لها :
هكلِّم راجح أهو وأعرَّفُه، قالتها وتحركت للخارج، لحظاتٍ وأجابها :
إنتِ فين ؟!
أنا في المستشفى مع فريدة، عرَّف جمال ..قطعَ حديثها :
خير إن شاءالله..تراجعت للخارجِ وهمست :
الولد تعب شويَّة أصرِّت الدكتور يشوفُه، وقال إيه لازم يفضَل للصبح، علشان تطَّمِن عليه، مع إنِّ الدكتور قالَّها روحي الولد كويِّس بس تقول إيه لازم تجنِّن جمال، علشان تفهِّمُه أنَّها مهتمِيِّة بالولد .
جمال مش هنا، هيبات في البحر، عندُه نقص في أعدادِ العمَّال واتصَل بعد ما معرفش يوصَل لفريدة، وقالِّي أعرَّفها أنُّه هيبات برة .
بعدَ عدَّةِ ساعات تجلسُ بجوارِ زوجها تتناولُ الطعام، نهضَ من مكانهِ :
هروح أشوف الولد، برضو مينفعش يارانيا نسيبها لوحدها .
ألقت مابيديها وتوقَّفت :
هي اللي عايزة كدا، الدكتور قالَّها مالوش لازمة، بس أهو تقول إيه..
سحبت كفِّهِ وأجلستهُ بجوارها،
أقعد الولد كويس، هيَّ اللي بتحبِّ تظهر قدَّام الكل إنَّها شاطرة وبتخاف على ابنها وكأنِّ مفيش غيرها.
ظلَّ يطالعُها بصمت، فتراجعت إلى الخلفِ تسحبه، تحاوط عنقه
-اقعد ياراجل وحشتني الله، ضمها من خصرها
-بحبك يارانيا نفسي تعقلي وتحطي الكلمتين دول في عقلك، رفعت نفسها وطبعت قبلة على وجنتيه
-عارفة ومتأكدة يارجوحة، بس انت اللي بضايقني وكل شوية فين الفلوس، بتسخسر فيا شوية فلوس ياراجح -ايه اللي بتقوليه دا، دا انت الحب كله دفعته ليجلس على المقعد،
طيب علشان الكلمتين الحلوين دول شوف هعملك ايه
ثم قامت بتشغيلِ إحدى الأغاني الشعبيَّة وبدأت تتراقصُ عليها، إلى أن وصلت إلى ماتخطِّطُ إليه .
فجرًا بأحدِ المشافي الحكوميَّة، قامت إحدى الممرضات بمهاتفتها :
أيوة ياستّ، الولد فاق وبقى كويس، وممكن يخرُج النَّهاردة .
هبَّت فزعة وتحرَّكت بعيدًا حتى لا يستمعَ إليها زوجها :
يعني إيه يابت، إنتِ مش أكدِّتي أنُّه هيموت..أجابتها الممرضة بصوتٍ خافت :
معرفش فيه دكتور جديد كشف عليه، من شوية عرفت إنِّ الولد فاق .
بدأت تتآكلُ من الداخلِ وتهمسُ لنفسها كالتي فقدت عقلها :
يعني الولد هيعيش وهي تتهنَّى معاه، تعملي إيه يارانيا لازم تفكَّري بسرعة قبل ماجمال يرجع،
اتَّجهت لذاكَ المقعد وجلست تنظرُ للخارجِ وعقلها يعملُ بكافَّةِ الاتجاهات، ظلت لعدة ساعات وهي بتلك الحالة، إلى أن ابتسمت بشيطنيَّة، نهضت، متجهة إلى زوجها تيقظها
-الساعة داخلة على ٩ ايه هتفضل نايم، مش هتروح الشغل، اعتدل يجذب سجائره وأردف قائلًا
-لا إجازة النهاردة، إنتِ بتعملي ايه؟! جذبت وشاحها وصاحت قائلة:
هنزِل السُّوق أشتري شويِّة خضار، البيت مفهوش حاجة .
خرجَ زوجها وحاولَ إيقافها :
استنِّي أشوف حدِّ ينزل بلاش إنتِ الجو قلب ..
لفَّت حجابها بطريقةٍ عشوائية ثمَّ ارتدت حذاءها :
هاتلي بس 1000 جنيه، فيه فيتامين ناقص وعايزة أشتري شويِّة حاجات كمان .
أشارَ إليها بالانتظارِ ثمّّ توجَّهَ إلى حافظة نقوده ليُحضرَ النقود..تحرَّكت رانيا الى إحدى المناطقِ تنتظرُ أحدَهم، خرجَ أحدُ الرجالِ الخارجينَ عن القانون يُعرَف بعطوة :
عامل إيه ياعطوة ؟..
كويِّس ياستِّ الناس ..تلفَّتت حولها ثمَّ أردفت بصوتٍ خافت :
عايزة منَّك خدمة تعملها زي اللي عملتها في الأوِّل ياعطوة وتتصدَّق ..
ظلَّ يستمعُ إليها بهدوء، استندَ على الجدارِ يحكُّ ذقنهِ ثمَّ رمقها قائلًا :
بس الموضوع صعب ياستِّ الناس، دا خطف وكمان متنسيش حضرة الظَّابط إيدُه طايلة .
جذبتهُ من ذراعهِ وتراجعت للخلف :
إسمعني، كلِّ اللي عاوزُه هتاخدُه زي المرَّة اللي فاتت المهم تخلصلي من الولد دا النهاردة قبلِ بكرة، ومتخفش من حضرة الظابط..
صمت ثم رفع عيناه إليها:
:
باقي الحلقه الاولى
:
التمن المرَّة دي غالي ياستِّ رانيا، المرَّة اللي فاتت كانت شويِّة صور على شويِّة مكالمات، المرَّة دي خطف يعني أقلِّ حاجة سجن .
طالعتهُ بتذمُّر :
إخلص ياعطوة عايز كام؟..
نصِّ مليون .
إيه إيه، نعم ياعنيَّا نُصِّ عفريت يشلُّوك، إنتَ مجنون يابني، همَّا 50 ألف ياكدا يا يفتحَ الله .
100 ألف ومينقصوش ولا جنيه، وبكرة تسمعي كلِّ خير .
ربتت على ذراعهِ وأفلتت ضحكة شيطانيَّة :
عليك نور، أيوة كدا عايزة عطوة الجدع اللي يعرف يخدِم صاحبة أختُه، بس أوعى هناء تعرف أزعل منَّك ..
مساء اليوم التالي :
جالسةً تشاهدُ التلفاز وتتناولُ بعضَ المكسَّرات، دلفَ ملقيًا السلام :
عاملة إيه يارانيا..طالعت التلفاز دونَ أن تعيرهُ اهتمام .
جلسَ بجوارها وسحبَ نفسًا يلفظهُ على مراحل ثمَّ أشارَ إليها :
فريدة رجعت من المستشفى ولَّا لسة؟..أغلقت التلفاز وتوقَّفت ترمقُه :
هوَّ إيه كلِّ شوية تتصل وتسأل على فريدة، أوعى يكون شيطانك بيلعب بعقلك ،،
هبَّ من مكانِه، وأطبقَ على ذراعها :
اتجننتي!.. دي زي أختِك ومرات أخويا، شعرت بتسرُّعها فارتمت على صدرهِ تبكي بتصنُّع :
آسفة ياراجح، بغير عليك، كلِّ ماأشوف حدِّ فيكم بيشكُر فيها بتجنن، يعني سبت بيت أبويا وهنا برضو، عجباكم شوية السَهوكة اللي بتعملهُم، محدِّش فاهمها أدي…
مسَّدَ على خصلاتها وضمَّها :
متزعليش حقِّك عليَّا، أنا بسأل عادي علشان منكنشِ قصَّرنا معاها ويجي جمال يزعل …خرجت من أحضانهِ :
زمانها جاية تلاقيها خرجت من المستشفى وراحت تشتري حاجات، أصلها مابتبطَّلشِ إغراء في جمال، إنتَ مش شايف راحت حملت تاني علشان تربطُه بيها،
تلاعبت بزرِّ قميصِه، وأردفت بغنج :
قولِّي هتجبلي إيه في عيد ميلادي ؟..
غمزَ بطرفِ عينهِ :
حسب ماتقدِّمي ياروحي، أطلقت ضحكة رنانة وهتفت بدلال :
متنساش إنِّي حامل ..بعدَ فترة اعتدلَ متحرِّكًا للخارجِ يدندن، ثمَّ صاحَ بصوتِه :
رينو تعالي حطِّي الأكل أنا جعان ..خرجت وهي تجذبُ روبها ترتديهِ ثمَّ هتفت :
معملتِش أكل ياراجح، كنت تعبانة ونمت ..
وليه مخلتيش البنتِ الشَّغالة تعمل الأكل؟..طلبتي زيادة علشان هتغيَريها وتجيبي واحدة أحسن منها إيه اللي حصل ؟!..
يوووه هوَّ تحقيق، البنت مرضيتشِ تيجي قالت الفلوس مش مكفِّية،
يعني إيه الفلوس مش مكفِّية، أومال ليه اتَّصلتي بمكتبِ الخدم، وفين الفلوس اللي المفروض تجدِّدي بيها البيت؟!..
طالعت البيت وأردفت بتهكُّم :
بيت إيه ياأبو بيت، أنا عايزة بيت زي طليقتَك، ماليش دعوة، أنا مش أقَّلِ منها ولو هي معاها الولد أنا كمان حامل وهجبلَك الولد ..
ألقى مابيدهِ واقتربَ منها غاضبًا :
وبعدهالك يارانيا، قولتلِك الشقَّة دي مش أنا اللي جبتهالها، هيَّ أخدت النفقة وكمِّلت واشترتها، وبعدين البيت مالُه ماهو حلو زيُّه زي بيت جمال، بس عايز اهتمام منِّك شوية .
نفخت بضجرٍ وجلست تحدجهُ :
قولِّي بقى الستِّ فريدة هيَّ اللي عجباك مش بيت جمال ..تأفَّفَ وثارت جيوشُ غضبه :
وبعدين معاكي، كلِّ ما نحاول ننسى ترجعي بينا لنقطةِ الصفر، مابقتشِ عيشة دي ..قالها وهمَّ بالمغادرة، هبَّت متَّجهةً إليهِ سريعًا :
رايح لها ياراجح، الجو خليلَك وعايز ترُوحلها، للدرجادي مقدرتِش تنساها حتى بعدِ ماتجوزتِ اتنين!..
دفعها صارخًا :
إنتِ بتقولي إيه يامجنونة؟!..قالها وهو يلطمُها على وجهها .
برقت عينيها متسمِّرة لأوَّلِ مرَّة، يصفعُها، هل حقًا ذاكَ الرجلَ الذي تنازلت وتزوَّجته، يهاتُفُها بتلكَ الطريقة..اقتربت منهُ وكأنَّها أصابها الجنون :
بتضربني ياراجح !..طيِّب طلَّقني، أنا لازم أسبلَك البيت وأمشي، أنا غلطانة رضيت أتجوِّز واحد زيك، واللهِ لأفضحَك وورِّيني هتعمل إيه ياحضرة الظابط، دنى منها وعيناها كالهيب من قاع جهنم، قاطعَ تشاجرهُم رنينَ هاتفِه،
استمعَ إلى بكائها :
إلحقني ياراجح، مش لاقية يوسف في أوضتُه ابني اتخطف ياراجح، وجمال لسة مرجعِش ..
تسمَّرَ جسدهِ وشعرَ بدورانِ الأرضِ به، ليردِّد :
يعني إيه يوسف مش في أوضتُه!.. اسألي الدكاترة، أنا جاي في الطَّريق .
رمقتُهُ الأخرى بنظرةٍ خبيثةٍ مقتربةً منه :
إيه اللي حصل ياراجح؟..لم يُعرها اهتمام وتوجَّهَ إلى سيارتهِ وغادرَ المكان…هوت على المقعدِ وابتسامةِ الانتصار تزيِّنُ وجهها تهمسُ بفحيح :
أخيرًا هعرف آخد حقِّي منِّك يافريدة، خلِّيهم يعرفوا إهمالِك، نفسي أشوف جمال لمَّا يرجع ويعرَف إنِّ ابنُه اتخطف…تؤتؤ ياحرام ياجيمي، الستِّ اللي رفضتِني علشانها ضيَّعِت ابنك اللي بتموت فيه .. رفعت الهاتف :
عملت إيه ياعطوة؟..توقَّفَ على جانبِ الطريق :
كلُّه تمام وزيِّ الفُل ياستِّ الكل، الولد واخده ملجأ في القاهرة، يعني مهما يدَّوروا عليه مش هيعرفوا يوصلولُه .
-القاهرة!!
ليه القاهرة مش اتَّفقنا على إنَّك تسفَّرُه برَّة مع الناس اللي بيشتروا العيال؟!
تلفَّتَ حولهِ وقامَ بإشعالِ سيجارة :
صعب حاليًا، المهمِّ إنِّك اتخلصتي منُّه، لازم اتحرك قبل الحكومة ماتشم خبر
أجابتهُ على الجانبِ الآخر :
عندَك حق، بكرة هتلاقي حقَّك وصلَّك وزيادة كمان علشان تعرف أنا حقَّانية..قالتها وأغلقت الهاتف .
نهضت من مكانِها وتوقَّفت أمامَ المرآةِ تنظرُ إلى نفسِها بالمرآة :
يادي النيلة على الحملِ وسنينُه، وشِّي انطفى غير جسمي اللي بقى يقرِف، اتَّجهت إلى خزانتها وأخرجت عباءتها السوداء :
لازم احتفِل بأوَّل انتصار ليَّا، واللهِ شكلَها هتلعب معاكي يارانيا..وصلت بعدَ قليل إلى إحدى صالوناتِ التجميل،
جلست إلى أن توجَّهت إليها إحدى العاملات، نظرت لنفسها بالمرآةِ تشيرُ على وجهها وشعرها :
عايزة نيولوك كأنِّي واحدة جديدة تعرفي ولَّا أشوف غيركم…
أمسكت الفتاةُ بعضَ المجلَّاتِ الخاصَّةِ بقصةِ الشعرِ وتجميلاتِ الوجه :
اختاري يامدام وإحنا في الخدمة .
بعد عدَّةِ ساعات عادت إلى منزلها، قابلتها فريدة التي تهبطُ من سيارةِ راجح ووجهها لوحةً من الألمِ والحزن
توقفت رانيا ترمقه، عينيها متورِّمة من كثرةِ بكاؤها، يحاوطها راجح، يشيرُ إليها ..اقتربت رانيا وتصنَّعت الدهشة :
مالِك يافريدة وفين الولد..رفعت فريدة عينيها المنتفخة تحاوطُها بنظراتها من أسفلها لأعلاها ثمَّ همست بتقطُّع :
رانيا إيه اللي إنتِ عملتيه في نفسك دا، اتجننتي!
خلعتي حجابك!!ألقت نظرة على زوجها ثمَّ مسَّدَت على خصلاتِها القصيرة :
إيه رأيَك ياراجح، حلو؟..
رمقَ فريدة بنظرةٍ وصمَت، اقتربت فريدة ومازالت نظراتها المصدومة :
إيه الجنان اللي إنتِ عملاه دا، إنتِ إيه؟! ابني اتخطَف وإنتِ رايحة الكوافير تتجمِّلي وتغيَّري تسريحة شعرِك وتخلَعي حجابك ؟!
شهقة بتصنُّع تضربُ على صدرها :
بتقولي إيه اللي حصل لابنِك، إزاي اتخطَف يعني؟! استندت على الجدارِ تحرِّكُ أقدامها بصعوبة، وساحت عبراتها على وجنتيها حتى فقدت الرؤية..، سحبتها إلى داخل منزلها ثم ساعدتها بالجلوس:
إهدي يافريدة يمكن حدِّ عايز قرشين، ماعملتيش بلاغ ؟..
جلست تمسحُ على وجهها بحزن :
راجح عمل البلاغ، وبيدوَّروا عليه، قلبي مولَّع نار يارانيا ابني حبيبي ..
تابعتها بملامحٍ جامدة، احكي لي ازاي اتخطف، أنتِ كنتِ فين
-لعبوا عليا دخلت واحدة لابسة لبس ممرضات قالتلي الدكتور عايزك، رجعت مالقتوش من عند الدكتور اللي مكنش دكتور اصلًا..قالتها بشهقة وقلبها يئن من الوجع
جلست بجوارهِا :
المهم فكَّري هتقولي إيه لجوزِك لمَّا يرجع…قالتها ونهضت قائلة :
معلش يافريدة، تعبانة معرَفش من وقتِ مارجعت من عندِك وبطني وضهري بيوجعوني ليه..كان نفسي ابات معاكي، بس أنا تعبانة اوي
رمقتها فريدة بنظرةٍ خرساء، ونهضت متحرِّكةً بدخولِ راجح :
فريدة رايحة فين؟! استندت للخارج :
رايحة بيتي، لو عرفتِ حاجة
ياراجح عرفَّني .
حاولَ إيقافها ولكنَّها تحرَّكت وكأنَّها تتحرَّكُ فوقَ بلُّور، أطبقت على جفنيها تتمتمُ :
إنتَ فين ياجمال، تعالَ هاتلي ابني ياجمال..تشبثت بسياجِ الدرجِ وخطت إلى منزلها الذي يقابلُ منزلَ بنت عمها ..فتحت الباب وهوت على الأرضيَّةِ تبكي بنشيج :
إنتَ فين يايوسف، إنتَ فين ياحبيب ماما..ظلَّت تبكي بمكانها حتى أصابتها غمامةً سوداء ونزلت بجسدها بالكاملِ مغشيًا عليها .
بالأسفل :
اقتربَ راجح من رانيا بعد مغادرةِ فريدة :
مكنتيش تطلعي معاها، شكلها مش مطمِّني يارانيا .
تعاظمَ الغضبُ بداخلها، ورغمَ ذلك حاولت السيطرة على نفسها، فاقتربت منهُ بغنجٍ تحاوطُ عنقهِ ثمّّ طبعت قبلةً فوقَ خاصتِه :
كلِّ سنة وإنتَ طيِّب ياحبيبي، مفيش حاجة في الدنيا هتبعدني عنَّك الليلة سمعتني، هيَّ شوية وهتنسى، الليلة عيد ميلادك، وبكرة عيد ميلادي
سحبت كفِّه ودلفت للداخل، وزَّعَ نظراتهِ على الغرفة المزيَّنة، جحظت عيناهُ من تلكَ الكعكةِ المعدَّة على اسمه، نظرت له قائلةً :
فيه عصير في الثلاجة هاتُه لحدِّ مااأرجعلَك ..قالتها وتحرَّكت بخطواتها الأنثوية الذي أفقدتهُ اتزانهِ فأردفَ بصوتهِ الأجش :
رينو متتأخريش عليَّا، قالها غامزًا بطرفِ عينهِ ..
دلفت للداخلِ وتزيَّنت ثمَّ جلست أمامَ المرآةِ تضعُ أحمرَ شفاه، نظرت لنفسها بتباهي وفخر :
بقى الجمال دا مش عجبك ياأستاذ جمال، فيها إيه يعني علشان يحبَّها أكتر منِّي، إنتَ السبب ياجمال في اللي أنا عمَلتُه، إنتِ ياستِّ فريدة الشريفة الخضرة، لازم أخليه يطردِك، وزي ماوقَّعت راجح اللي مكنش حدِّ بيقدَر عليه، بكرة أخليه يركع تحتِ رجلي،
أغمضت عينيها وابتسامة تجلَّت على ملامحها، تهمسُ لنفسها :
هانِت ياجمال، مبقاش كتير، أخلص من فريدة وبعدها راجح، وبعد كدا مفيش حاجة هتمنعنا، فتحت عينيها تتلاعبُ بخصلاتها، ثمَّ وضعت كفَّها على أحشائها :
دلوقتي إنتَ أهمِّ حاجة، علشان هيلاقي عوض ابنُه هنا، بعد ماأخلص من ابنُه التاني هانت أهي ياستِّ فريدة، علشان تتجوِّزي حبيبي حلو، إشربي خلتيني أتجوِّز أخوه المتجوِّز، وإنتِ روحتي اتهنيتي بحبيب بنت عمك بعدِ سنين انتظار ،رحتي في الآخِر اتجوزتيه .
خرجت لزوجها بتلكَ البدلةِ التي ينحني أمامها أعتى الرجال وهي تتراقصُ بجسدِها الأنثوي بإغراء،
إلى أن فقدَ سيطرتهِ وجذبها إليهِ في وسطِ ضحكاتها ..
بعدَ عدَّةِ ساعات :
استيقظَ على رنينِ هاتفه، اعتدلَ :
أيوة ..
إلحق ياراجح بيه مركِب أخوك جمال غرقِت في البحر، وكلِّ اللي عليها ماتوا .
هبَّ من مكانه، يجذبُ ثيابهِ يرتديها سريعًا :
إنتَ بتقول إيه ياحمار إنتَ !..
بعد يومين، بعدما استلم راجح جثة جمال، فقدت الشعورَ بكلِّ مايحيطُ بها، جسدًا خاويًا من الروح،
تتمدَّدُ على الفراشِ كالجثَّةِ الهامدةِ لا حولَ لها ولا قوَّة، دموعٌ فقط تنهمرُ عبرَ وجنتيها تتمنَّى بداخلها أن يُزهقَ اللهَ روحها ..دلفَ إليها راجح:
فريدة لازم تقوي ومتنسيش اللي في بطنِك..
دلفت رانيا تطالِعُها بأعينٍ كارهةٍ تريدُ أن تطبقَ على عنقها حتى تلفظَ أنفاسها..أشارَ إليها راجح:
أدخلي يارانيا حاولي تخفِّفي عنها .
جلست بجوارِها ونظراتها مازالت متعلقة بجسد بنت عمها المسجى على الفراش، انهمرت دموعها وشهقة خرجت رغمًا عنها
مات يافريدة اللي استنيتوا العمرِ كلُّه مات، شوفتي لا إنتِ اتهنيتي بيه ولا سبتهولي أعيش شوية في حُضنه، أنا شمتانة فيكي عارفة ليه؟.. لأنِّك كنتي عارفة إنِّي بحبُّه ورغمِ كدا روحتي اتجوزتيه، ولسة ربنا هينتقِم منِّك، ابنك وجوزِك في يوم واحد…
قالتها وخرجت من الغرفةِ سريعًا، ودموعها كزخَّاتِ المطر ..وقفت متسمِّرةً أثناءَ خروجِ الجثمانَ لمثواه الأخير..
ظلَّت تتابعُ تابوتَ الموتى إلى أن شقَّ جوفها صرخةً وهم يحملونهُ ويغادرونَ المكان ..ظلَّت تصرخُ وتصرخ إلى هوت فاقدةً الوعي …
مرَّت عدَّةَ أسابيع :
ذاتَ مساءٍ، فتحت عيناها على ألمٍ شديدٍ، نهضت تصرخُ ليهرولَ زوجها إليها :
مالِك يارانيا، حاوطت بطنها تصرخُ من شدَّةِ آلامها إلى أن شعرت بالدماءِ تسيلُ بين ساقيها، حملها زوجها وهرولَ بها إلى سيارتِه :
بعد فترةٍ خرجَ الطبيب :
آسف فقدنا الجنين بس حالة الأمّ كويسة، قالها الطبيبُ وتحرَّك، هوى راجح على المقعدِ عندما خانتهُ ساقيه، انسابت عبراتهِ رغمًا عنه .
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن جاءَ موعدُ ولادةِ فريدة، هبَّت من نومها فزعةً على ألمٍ بظهرها، استندت على الجدارِ إلى أن وصلت لهاتِفها وقامت بمهاتفةِ جارةٍ لها : إسراء الحقيني هولِد..
جذبت إسراء عباءتها وأيقظت أخيها :
محمد قوم تعالَ نطلَع لفريدة شكلها بتولِد، و ياحبيبتي لوحدها بعدِ عمايل الزِفتة رانيا فيها .
وصلت بعدَ قليلٍ إلى المشفى، ظلَّت لفترةٍ بغرفةِ العملياتِ إلى أن خرجَت الممرضة :
-مبروك ولد ..جذبت إسراء حافظةَ نقودِ أخيها :
شكرًا حبيبتي، ثمَّ أعطتها بعضَ النقود، وتحرَّكت متَّجهةً للداخل، وصلَ راجح بجوارهِ رانيا بعدَ قليل،
دفعَ البابَ ودلفَ يرمُقها بنظراتٍ حادَّة :
يعني اتصلِّتي بالغريب ومهنشِ عليكي تتصلي بأخو المرحوم جوزِك..
رفعت بصرها إلى ابنَةِ عمِّها التي تحرَّكت بدلال :
خلاص ياراجح، خلِّيهم يجيبوا الولد نطَّمِن عليه، جحظت عيناها تنظرُ إليها بخوف، ابتسمت رانيا بنصر واقتربت تتبخترُ بخطواتها :
يتربَّى في عزِّك وفي عزِّ راجح طبعًا، ماهو عمُّه في مقام أبوه…
دلفت الممرِّضة تحملُ الطفل..توقَّفَ راجح أمامها :
هاتيه أنا هسمِّيه، ابتلعت غصَّتها بصمتٍ خوفًا على وليدها، وكأنَّها فقدت الكلام، أطبقت على جفنيها بعدما حملتهُ رانيا تنظرُ إليه :
الولد شبه جمال الله يرحمُه مش كدا ياراجح؟..
ابتسمَ وهو يمسِّدُ على خصلاتهِ الخفيفة الناعمة :
اللي خلِّف مامتش فعلًا…تلقَّاهُ مرَّةً أخرى من رانيا وتحرَّك مقتربًا يضعهُ بين يديها هامسًا لها :
أنا دلوقتي جبتهولِك وبحطُّه بين إيديكِ ياريت تفكَّري كويس في كلامي بدل ماأخدُه منِّك يافريدة ..
شعرت بانسحابِ الأوكسجين من رئتيها وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ ينطبقُ فوقَ صدرها، ارتعشَ جسدها بالكامل حينما رفعَ كفَّيهِ على وجنتيها
مبروك ياأمِ جمال، شوفتي أنا كريم إزاي وهسميه على إسمِ جمال ..قالها وانتصبَ عودهِ يرمقها بصمت، ثمَّ استدارَ إلى رانيا :
خليكي مع بنتِ عمِّك لحدِّ ماأشوف الدكتور ..رمقت إسراء :
شكرًا على تعبِك ياإسراء، خدي أخوكي وروحي، فريدة مش محتاجة غير بنتِ عمَّها وجوزها دلوقتي
تحرَّكَت إسراء إليها :
حبيبتي لازم أمشي، ولمَّا ترجعي هزورِك، انحنت وقبَّلت الطفلَ على جبينهِ قائلة :
ربِّنا يباركلِك فيه ..أومأت دونَ حديث،
جلست رانيا تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى تطالِعُها بشماتة :
مبروك يافريدة، شوفتي الولد حلو إزاي زي أبوه، أهو دا اللي شفعلِك عندي، هاخدُه وأربيه يافريدة وأخلِّيه يكرهَك وأحصَّرِك عليه زي أخوه
ضمَّت ابنها بخوفٍ وانسابت عبراتها بصمت…
هزَّت رانيا ساقيها ترمُقها بسخرية :
هتتجوزي راجح يافريدة، وتتنازلي عن كلِّ ماتملكيه، مكُنتش أعرف أنُّه بيحبِّك أوي كدا لدرجة يكتبلك كلِّ حاجة، حتَّى بيت أبوه ..
استندت على الفراشِ واقتربت منها ترمقها بنظراتٍ ناريَّة :
كلِّ اللي أخدتيه منِّي هاخدُه، حبِّ أبويا اللي مكنشِ شايف غير الستِّ فريدة بنتِ أخوه، وحسرة أمي وهيَّ شيفاني كلِّ ليلة نايمة معيَّطة، بسببِك، جِه الوقتِ كلِّ حاجة هاخدها منِّك، وأنا شيفاكي ذليلة كدا، هتوافقي على راجح دا لو عايزة ابنِك في حُضنِك، وأوعي تفكَّري أنُّه هيتجوزِك حق وحقيقي، تبقي مجنونة، دا علشان أسيبِك طول حياتك زي الحيطة الوقف كدا ..
1
قالتها وهبَّت من مكانها :
إجهزي ياعروسة علشان أسبوعين بالتَّمام تكوني ضُرُّتي ..قالتها بعدما أطلقت ضحكةً رنانةً دوت بالمكانِ كصوتِ عويلٍ من الإعصارِ يصمُّ الآذان
مرَّت عدَّةِ شهورٍ عاشتها فريدة بالجحيم، حفاظًا على ابنها…ليلةً شتويَّة عاصفة..جلست لإرضاعِ ابنها، استمعت إلى شجارهُما بالخارج، ولكنَّها لم تكترِث ..مسَّدت على خصلاتِ طفلها،
حبيب ماما إنت، ربِّنا يقوِّيني وأقدر أربِّيك كويس، لازم نصبِر شويَّة علشان نهرَب من هنا، أصبُر حبيب ماما ..
كانَ الطفلُ يداعبُ وجهها وكأنَّه يفهمها، ضمَّتهُ لأحضانها تستنشقُ رائحتهِ متذكِّرةً ابنها المفقود ؛
ياترى يايوسف إنتَ عايش ياحبيبي، وحشتِ ماما أوي، حاسَّة ربنا هيجمعني بيك قريِّب .
استمعت إلى طرقاتِ البابِ ثمَّ دفعَهُ ودلف، احتضنت ابنها :
عايز إيه ياراجح؟..إزَّاي تدخُل عليَّا كدا من غير استئذان؟!..
اقتربَ منها وعينيهِ كأسدٍ مفترس :
ناسية إنِّي جوزِك ولَّا إيه، عايز حقِّي..
تراجعت وهي تحتضنُ ابنها :
راجَح، عارف جوازنا ليه هصَّوَت وألمِّ عليك النَّاس .
كانت بالخارجِ تغلي كمرجلٍ فوقَ النَّار، تريدُ أن تحطِّمَ ذاكَ البابَ عليهما، ظلَّت تجوبُ المكان ذهابًا وإيابًا، يأكُلَها الغيظ منَ الدَّاخل :
ماشي يافريدة فضلتي وراه لحد ماوقعتيه، توقَّفت بعدما استمعت إلى صرخاتِها بالدَّاخل :
لو قرَّبت منِّي هموِّتَك ياراجح مستحيل أكون لراجل بعد جمال .
جلست رانيا وعلى وجهها ابتسامةَ انتشاءٍ، وهي تستمعُ إلى صرخاتها وترجِّيها له، ولكنَّهُ كانَ كالذِّئبِ البشري ..صمتت بعدَ دقائق..ورغمَ نيرانِ صدرِ رانيا من الغيرة إلَّا أنَّ وجودَ فريدة مذلولةً أمامها برَّدَ تلكَ النيران .
ظلَّت لدقائق، ثمَّ نهضت تدفعُ البابَ وتوقَّفَت على بابِ الغرفة، وكأنَّ أحدَهُم صفعها بقوَّةِ لتشعرَ بترنُّحِ جسدها، وهي ترى زوجها بتلكَ الحالة، وكأنه لأول مرة يرى سيدة صرخت به :
خلاص بقى، استمتعتِ شوية تعالَ عايزاك وارميلها قرشين، تمن استمتاعك..
رفعَ رأسهِ وعينيهِ تخترقُ وجهَ فريدة التي ذُبِحت بسكينٍ بارد، ثمَّ هدرَ بها :
إطلَعي برَّة اتجنِّنتي، إزاي تدخلي كدا؟!دي مراتي وزيَّها زيك بعد كدا .
شعرت وكأنَّ أحدًا سكبَ عليها دلوًا منَ الماءِ المثلَّج، لتشعرَ بشحوبِ وجهها :
إنتَ اتجنِّنِت ياراحج!! بتقولِّي أنا الكلام دا ؟!..
سحبَ فريدة لأحضانِه، يجذُبُ الغطاءَ عليها ثمَّ رمقَ الأخرى بعينيهِ لتخرجَ صافعةً البابَ خلفها، استيقظَ على أثرهِ الطفلُ يبكي .
دفعتهُ صارخةً به :
إطلَع برَّة روحلها، إنتَ واحد حقير زيها، برَّة..
قالتها بصُراخ، حاولَ الحديثَ إلَّا أنَّها
ظلَّت تصرخُ بهِ كالمجنونة، نهضَ متَّجهًا إلى الخارج .
مرَّت الشهورُ والوضعُ كما هو عليهِ بينَ فريدة ورانيا، بل ازدادَ سوءًا بعدَ تعلُّقِ راجح المجنونَ بفريدة وحملِها منه،
دلفت إلى غرفتها وبدأت تحطِّمُ كلَّ ما يقابِلُها :
ليه هيَّ اللي تجيب العيال، ليه، ظلَّت تصرخُ كالذي مسَّها جِن، لازم اخلص منك يافريدة، دلفَ من عملهِ على صوتِ صراخها :
رانيا اتجنِّنتي مالك فيه ايه؟!صمتت وعيناها ترسلُ إليهِ لهيبًا من قاعِ جهنَّم :
فريدة حامل وعايزة تهرَب بابنك،
لم يستمع سوى فريدة حامل ..لمعت عيناهُ بالسعادة، ليغادرَ الغرفة متّّجهًا إليها :
فريدة إنتِ حامل ؟!
ألقت مابيديها واقتربت تطالعهُ شزرًا :
هموِّتُه ابنِ الزنا دا، لأنُّه من حيوان زيك..
لطمةً قويِّةً على وجهها، ثمّّ سحبها من شعرها ، يهمسُ إليها :
حاولت معاكي بكلِّ الطُّرق، لكن الغبيَّة مصرِّة برضو، طيِّب إسمعيني.. الولد دا لو حصلُّه حاجة هموِّتِك ..
قالها ثمَّ دفعها بقوَّةٍ لتهوى على فراشها .
كتمت صرخاتِها بوسادتها، تبكي بنشيجٍ على رجُلٍ يُحسَبُ من أشباهِ الرِّجال،
بعدما شعرت بألمٍ يسري بجسدها، نهضت متَّجهةً إلى الحمَّامِ بعدما ازدادَ الألم، أمسكت بطنها وآلامًا مبرحةً بظهرها.. جذبت وشاحها وخرجت من المنزلِ متَّجهةً إلى العيادة النسائية، التي بجوارِ المنزلِ بعدَّةِ أمتار، بعدما وجدت ابنها يستغرقُ بنومه . وسفر رانيا ليومين لأحد اقاربها
وصلت إلى العيادةِ وجسدها يئنُّ بالألم..شعرت بتدفقِ سائلٍ بينَ ساقيها، بكت حينما فقدت الحركة، ساعدتَها إحدى النساءِ التي كانت في العيادة،
مرَّت قرابةُ الساعتَينِ بعدما أخبرتها الطبيبة على فقدانِ جنينها ..
عادت بعد فترة إلى المنزلِ متلهفةً لرؤيةِ ابنها الذي تركتهُ وحيدًا بذاكَ الجحيم، دلفت تبحثُ عنهُ كالمجنونة ثمَّ دفعت البابَ، وهي بين حالة الوعي واللا وعي
قابلتها رانيا تطالعُها بابتسامةٍ حمقاء :
حمدلله على السلامة ياضُرِّتي ..
سحبت نفسًا محاولة السيطرة على نفسها من عدم اغمائها، دلفت بخطوات هزيلة تبحث عن ابنها، شهقة خرجت من جوفها مستديرة تستند على الجدار:
ابني فين يارانيا؟..أنا كنت سيباه نايم ..
نظرت إلى أظافرِها المطليَّة ثمَّ رفعت عيناها قائلة :
اثبتي، وشوفي هتعملي إيه مع راجح لمَّا يرجع، هتقوليلُه إزَّاي الولد اللي في بطنِك نزل، وكمان ابنِ أخوه اتخطَف وهوَّ متأكِّد إنِّي مش موجودة في البلد كلَّها ..توقَّفت كالجُثَّةِ التي فقدت الحياةَ ولم تشعر بنفسها لتهوى ساقطةً على الأرضيِّةِ الصلبة ..أنتِ اللي سقطيني صح خططي علشان اسيب الولد ..تحركت إليها تهجم عليها ورغم أنينها إلا أنها سيطرت عليها لتلطمها على وجهها تجذبها من خصلاتها
-هموتك ياحقيرة .
دفعتها بقوة وظلت تركلها ببطنها حتى هوت على الأرضية وانسدلت الدماءمنها
-حقي ولادك الاتنين كانوا حقي انا ولسة ياما تشوفي، وراجح كل ليلة يهجم عليكي زي الحيوان ياحيوانة
حاوطت بطنها بعدما شعرت بآلام بكامل جسدها
بمكانٍ ما بعيدًا عن السويس..
خرجَ من المسجدِ بعدَ قضاءِ صلاةِ الفجرِ ومازالَ لسانهِ يردِّدُ ذكرَ الله، استمعَ إلى صوتِ بكاءِ طفلٍ بجوارِ المسجد، وضعَ مسبحتهِ بجيبِ جاكيتهِ الثقيل، واتَّجهَ مردِّدًا :
لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيم، استمعَ إلى صوتِ أخيهِ خلفه:
بتعمِل إيه؟!
أشارَ على الطِّفل …
فيه طفل بيبكي هنا، انحنى يحملهُ ونزعَ عنهُ جاكيتهِ مردِّدًا :
لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيم، النَّاس مبقاش في قلوبِهم رحمة، إزَّاي أم أو أب هانوا عليه يحطُّوه في البردِ دا!..نظرَ للطفلِ الذي يتضوَّرُ جوعًا، رفعهُ إلى صدرهِ وضمَّهُ بحماية :
ياحبيبي يابني، ربِّنا يسامح اللي عمَل فيك كدا..
إنتَ هتاخدُه ولَّا إيه؟!..
حاوطهُ بعنايةٍ يدَثِّرُهُ بجاكيتهِ من قطراتِ المطر :
نروح ونشوف هنعمل إيه، مش هاين عليَّا أسيبُه وأمشي ..
دخَلَّه المسجد إنتَ مجنون، دي مسؤوليَّة، رمقَ أخيهِ بنظرةٍ أخرسته :
تعرَف تسكت، قولت هاخدُه يعني هاخدُه .
فتحت عيناها بعدَ فترةٍ وجدتها تجلسُ بجوارِها :
حمدلله على السلامة، اعتدلت بعدما تذكَّرت ماصارَ تهمسُ بتقطُّع :
ابني فين؟ أبوس إيدِك يارانيا قوليلي ودِّيتي الولد فين؟..
بسطت يدها إليها قائلة :
بوسي إيدي وأنا أقولِّك ..صاعقة ألجمتها عن الحديثِ تطالُعها بذهول، لتسحبَ كفَّها تقبلهُ بدموعِ عينيها :
فين ابني بقى..تراجعت متوَّقفة :
قومي اعمليلي الغدا أنا جعانة، وزمان راجح على وصول معرفش ابنِك فين .
هبَّت من مكانها رغمَ تألُّمِها وسحبتها من خصلاتِها وظلَّت تضربُها إلى أن دفعَ البابَ ودلفَ إليها :
نزَّلتي الولد يافريدة، عملتي اللي في دماغِك..رفعت كفّّيها لتتحدَّثَ ولكنَّهُ لم يعطها فرصة، ليبدأَ بضربها بقوَّةٍ حتَّى فقدت الوعي..كانت تنظرُ إليها بشماتة تهمسُ لنفسها :
علشان قرَّبتي لحاجة تخصُّني يافريدة استحملي ..نهضَ من مكانه :
فين جمال يارانيا ؟..
هزَّت كتفها بعدمِ معرفة قائلة :
معرفَش ياراجح، أنا رجعت لقيتها بتقابلني وبتقولِّي نزلِّت الولد، وفضلت تشتِم فيك وتقول مستحيل أخلِّف منُّه حتى لو فيها موتي، ولما حاولت امنعها هجمت عليا
ثارت جيوشُ غضبِه، وبدأ يحطِّمُ كلّّ مايقابلهُ وصاحَ يزأرُ كالأسدِ الفاقدِ لطعامه :
فين جمال، الولد فين، هعيِّشِك في مرار لو مقولتيش هرَّبتي الولد لمين، قالها بعدما دلفَ إليها يدفعها بقدمهِ مرَّةً أخرى ..
بعدَ خمسِ سنوات :
عاشت فيهم فريدة كجثَّةٍ رغمَ محاولاتها الهروب، ولكنَّها فشلُت بسببِ الوضعَ الأمني الذي فرضهُ راجح عليها
يعاملها كالجارية، التي يُستباحُ جسدها كلَّ ليلة بعدَ معرفتهِ بعمليةِ استئصالها للرَّحمِ بعدما حملت منهُ مرَّةً أخرى وحاولت إسقاطِ الجنين، فساءت حالتها وقامَ الأطباءُ باستئصالِ الرحم .
حملت رانيا بعدما فقدت الأمل في الإنجاب بعد فقدانها لجنينها بعدَ موتِ جمال، مرَّت الأيامُ إلى أن أتت اللحظة الحاسمة التي ستذوقُ مثلما أذاقتها ..
جلست على فراشها تنتظِرُ دلوفهِ للغرفة ككلِّ ليلة، دخلَ كعادتهِ وجدها تتألقُ بمنامتها كما طلبَ منها، ظلَّ معها لبضعةِ دقائقَ ثمَّ جلسَ يدخِنُّ سيجارة،
اعتدلت وحاولت تستعملُ أساليبَ رانيا :
راجح، متعرفشِ رانيا ودِّت ابني فين؟..
استدارَ إليها غيرَ مستوعبٍ حديثها :
إنتِ مجنونة!!رانيا ليه هتخطَف ابنك؟!..زحفت وجلست أمامهِ وهمست له :
علشان تنتقِم منِّي، أصلها كانت بتحبِّ جمال…
جحظت عيناهُ وحديثها أذهبَ عقلهِ فهبَّ من مكانه :
إنتِ مجنونة مين دي اللي بتحب جمال؟!..رفعت أحدِ حاجبيها قائلة :
إسألها لو مش مصدَّق، ولَّا أقولَك، مش هي والدة بقلَها اربع شهور.. ليه بقت تمنع نفسها عنَّك، اتَّجهَ سريعًا يصرخُ باسمها
خرجت على صرخاتِه :
اتجنِّنتِ ياراجح!! البنتِ نايمة ماصدَّقتِ نيَّمتها .
اقتربَ وشياطينُ الأرضَِ تأكلُ بعقله :
إنتِ كنتي بتحبِّي جمال أخويا؟!..
شهقة خرجت من فمها :
إنتَ اتجنِّنتِ ياجمال، خرجت فريدة بقميصها الشفَّافَ تطالعها بابتسامةٍ ساخرة..هرولت إليها :
إنتِ ياحيوانة قولتيلُه..حاولت ضربها إلَّا أنَّهُ توقَّفَ أمامها :
رُدِّي عليَّا الكلام دا حقيقي..توقَّفت تطالعهُ بذهول :
كدا ياراجح، بعدِ الحبِّ دا كلُّه تشُكِّ فيا!! تصدَّق فريدة اللي قتلت ولادَك، وأنا اللي كنت هموت على ضُفرِ عيِّل منَّك، لو مش بحبِّك كنت خلِّفتِ ليه..
استدارَ إلى فريدة يشيرُ إليها :
أدخلي جوَّا بكرة هحاسبِك…دفعتهُ واتَّجهت إليها تجذبُها من خصلاتها :
صرخت تلكمَها :
ودِّيتي ابني فين ياحيوانة، خمس سنين على أمل يكون عندك رحمة، حيوانة..صرخت بها فريدة التي جذبت السكِّين وحاولت الهجوم عليها ولكنَّهُ صفعها بقوَّة :
إخرسي بقى، بطَّلي تمثِّلي علينا، أنا عارف ومتأكِّد إنك غيرانة منها، شوفي ضيعتيه فين زي اخوه .
بصقت بوجههِ مردِّدة :
حسبيَ الله ونعمَ الوكيل فيكم، ثمَّ نظرت لتلكَ التي تقفُ على بابِ غرفتها بمنامتها التي تكشفُ أكثرَ مما تستر،
راجح سيبَك منها دي مريضة، ياريتَك تطلَّقها وترميها لكلابِ السكك..
استدارت ترمقها بانتصارٍ ثمّّ أشارت لزوجها :
حبيبي ياله علشان ننام الجوِّ برد، خلِّيها تكلِّم نفسها، يالة استنيتَك كتير عايزاك تدَّفيني، قالتها بنبرةٍ شامتة، ثمَ أشارت للواقفة :
الصُّبح أقوم ألاقيكي مخلَّصة كُلِّ شغلِ البيت، قالتها وتحرَّكت بخيلائها كأنَّها تملكُ العالم..رمقتهُ بنظرةٍ كارهة تمَّ اقتربت :
السنِّ بالسن والبادي أظلَم، قالتها وتحرَّكت بعضَ الخطواتِ إلَّا أنَّها تسمَّرَت بمكانها :
دي اللي مانعة نفسها عني، عايزة توصلي لأية يافريدة
-لو راجل وأخو جمال فعلا خلي عندك دم وطلقني، انت اخدت كل حاجة، ومراتك اخدت ولادي
حك ذقنه وعيناه عليها ثم أردف:
انا اتجوزتك علشان اعرفك اني راجل يافريدة، مش رحتي قولتي لرانيا ازاي وافقتي تتجوزي نص راجل
ايه يافريدة شوفتيني راجل ولا لا .دنى منها وغرز عيناه بمقلتيها:
-اللي رحمك مني إنك صونتي اخويا بعد موته، ودلوقتي كل حاجة كانت عنده بقت ليا حتى انتِ، بس عمري ماأحبك قد حبيبتي، حاولت احميكي من كلاب السكك، بس إنتِ متستهليش
إنتِ طالق يافريدة، كفاية لحدِّ كدا مش عايز أشوف وشِّك تاني ..قالها وغادر إلى غرفته
بعدَ عدَّةِ ساعات وهي جالسةً على الأرضيَّةِ الباردة، وشياطينُ الأرضِ تتلاعبُ بعقلها، هبَّت من مكانها وتحرَّكت بخطواتٍ هادئة تتلفَّتُ حولها إلى أن وصلت إلى غرفةِ ابنتهم، وحملتَها تخرجُ من بابِ المنزل ، ظلَّت تهرولُ كالمجنونة، إلى أن وصلت إلى الطريقِ العامِّ لتضعها على طرفِ الطريقِ وغادرت المكانَ بأكملهِ وهي تهرولُ تدعو اللهَ أن يسامحها لما فعلته..استمعت إلى بكائها، فاستدارت بقلبها الذي ضعُفَ ولم تنتبه لتلكَ السيارةِ التي تتحرَّكُ أمامها لتصدمُها وتُلقي بها على الأرض، هرولَ الرجلُ إليها يفحصها مع نزولِ زوجتِه، رفعت عيناها إليه :
لسَّة عايشة ولَّا ماتت ..
حملها متَّجهًا إلى سيارتهِ قائلًا :
عايشة، همست بصوتٍ خافت :
البنت، أنزلَ رأسهِ ليستمعَ إلى ماتقولُه :
بنتي..تلفَّتَ حولهِ يقولُ لزوجتِه :
بتقول بنتي، لحظاتٍ واستمعَ إلى بكاءِ الطفلة، هرولَ إليها يحملُها متَّجهًا بها إلى وجهته..تساءلَت زوجته :
مصطفى الستِّ هتعيش؟..
أومأَ برأسهِ وهو يطالِعُها من خلالِ المرآة :
إن شاء الله ياغادة هتعيش، المهمِّ أوصَل بيها للعيادة محمد، أخرجَ محرمة قائلًا :
إربطي دماغها عشان النزيف..
بعدَ عِدَّةِ ساعات داخلَ إحدى العيادات الخاصَّة، خرجَ الطبيبُ إليهِ مبتسمًا :
يعني لو مفيش مريض ياحضرة الظَّابط منشفشِ وشَّك..
ربتَ مصطفى على ذراعِه :
إنتَ عارف شغلِ الشرطة،المهمِّ الستِّ عاملة إيه ؟..
كويسة ياسيدي، إحمد ربِّنا لولا إنَّك كنت سايق بالرَّاحة كان زمانها توكَلِت ..
طيِّب الطفلة؟.
والطِّفلة كويسة، دي حديثة ولادة عمرها حوالي أربع شهور ..
أومأَ لهً ثمَّ تساءل :
الستِّ هتفوق إمتى يا محمد؟..
نظرَ بساعةِ يدهِ ثمَّ تحرَّك :
يعني نصِّ ساعة كدا، تعالَ نشرب القهوة وإحكي لي عملتِ إيه الفترة دي ….
نهاية الفلاش..
خرجت من ذكرياتها المؤلمة، على رنين هاتفها
-فريدة فيه ملف ازرق في درج المكتب ابعتيه مع السواق
نهضت بعدما أجابته
-حاضر …
بمكانٍ آخرٍ وخاصَّةً بمطارِ القاهرة :
خرجَ من صالةِ المطارِ متَّجهًا إلى الخارج، وجدَ صديقَ عمرهِ بإنتظاره، ترجَّلَ من السيارةِ سريعًا :
أهلًا يادكتور..مصر نوَّرت والله..
رفعَ كفِّهِ يخلِّلُ أناملهِ بين خصلاتِ شعرهِ الناعمة.. يسحبُ نفسًا عميقًا داخلَ رئتيهِ ثمَّ زفرهُ على مهلٍ حتَّى يخرجَ نيرانَ اشتياقه
حدجَ صديقهِ وابنِ خالهِ وهتفَ متهكِّمًا :
مصر منوَّرة باللي فيها يا كرم أفندي..قهقهَ كرم يشيرُ إلى سيارته :
أفندي إيه يادكتور، إنتَ مش غايب كتير يعني دي كلَّها سبع سنين ياعم …
استقلَّ السيارة يشيرُ إليهِ بالتَّحرُّك، مردفًا بعدما ارتفعت ضحكاتُ كرم : صوتك يا دكتور الحيوانات..طرقَ كرم على المقوَدِ يرفعُ حاجبهِ بشقاوة :
مش أحسن منَّك يادكتور البنات..إنَّما بتوقف وسط البنات إزاي وتمسِك أعصابك ؟!..
زفرَ آدم بغضبٍ من ثرثرته، فأشارَ بيدهِ :
بُص قدَّامك لتموِّتنا قبلِ مانوصل .
في منزلٍ متوَّسطِ الأثاث، بهِ عدَّةِ مفروشاتٍ بسيطة..ورغمَ ذلكَ يُحاطُ بهِ حديقة أقلُّ مايقالُ عنها حديقة من الجنَّة..
تجلسُ تلكَ الأميرة التي تبلغُ من العمرِ اثنى وعشرينَ عامًا وهي تضعُ دفترها وأقلامها أمامها تنظرُ بصمتٍ وخيطٍ من الدموعِ يزيِّنُ فيروزتها .
أطلقت تنهيدة مرتعشة من عمقِ داخلها كعمقِ الليلِ الحالكِ في فصلِ الشتاء .
وصلت أختها وجلست بمقابلتها :
وبعدهالك يا إيلين هتفضلي كدا، من وقتِ ماعرفتي برجوع آدم وإنتِ مش مبطَّلة عياط ..
ابتلعت غصَّتها المتورِّمة ونهضت تجمعُ أشيائها :
لا آدم ولا حتَّى كرم بقوا يعنولي بشيئ، من فضلِك يامريم مش عايزة أتكلِّم ..
ربتت أختها على ظهرها، وطبعت قبلةً على خصلاتها :
براحتك حبيبتي، بس فكَّري في بابا ومتنسيش مرات أبوكي وعمايلها فينا..قالتها وتحرَّكت :
ظلَّت صامتةً لثواني تقاومُ غلالةَ دموعٍ وخزت جفنيها ثمَّ قالت بصوتٍ مختنق :
اللي يبيع مرَّة يبيع ألفِ مرَّة يامريم .
..استمعت لصوتِ سيارة تدلفُ لذاكَ المنزلِ الذي يقابلهما ..
ابتسمت بسخريَّة عندما استمعت إلى الأعيرَة الناريَّة التي بدأت تَمطرُ بالمكان .
بعد ساعتين من وصوله وصلَ أخيها ووقفَ أمامها :
إيلين قاعدة كدا ليه، وليه مبتروحيش بيت خالِك؟!..إنتِ نسيتي إنِّ آدم رجع النَّهاردة!..
نهضت من مكانها وأجابت أخيها :
أنا مش هروح لحدّ ياكرم اللي عايز يجي هنا يسلِّم علينا مرحب بيه، واللي مش عايز براحتُه يبقى وفَّر ..
سحبها كرم بقوََةٍ وسطَ صرخاتها :
لا، هتيجي وغصبِ عنِّك كمان..حاولَت الفكاكَ من قبضتهِ ولكنَّهُ كانَ الأقوى في السيطرة عليها .
وقفَ زين الرفاعي وهو يفردُ ذراعيهِ لابنةِ أختِه :
يامرحب ببنتِ الغالية..تسمَّرت بوقفتها تنظرُ إلى أخيها بغضبٍ ثمَّ رفعت نظرها إلى خالها :
إزاي حضرتك ياخالو..
صدمة أزهقت روحهِ من جفائها فاقتربَ منها :
كدا ياإيلين مش عايزة تيجي في حضنِ خالِك، وبتقوليها من بعيد، أنا لسَّة راجع من مصر والله يابنتِ الغالية، حتى إسألي كرم أخوكي ..
دنت منهُ ورفعت كفِّهِ لتقبيله :
أبدًا ياخالو، بس زعلانة من كرم عشان جابني غصبِ عنِّي، أنا عارفة إن حضرتك مشغول ..
ليه مكنتيش عايزة تيجي كمان؟!..أشارَ إلى آدم الصامت كالمشاهد فقط :
طيِّب مش تقولي لابنِ خالِك حمدلله على سلامته!..
رمقتهُ سريعًَا ثمَّ تحدَّثت :
أهلًا يادكتور..حمدلله على السلامة..ثمَّ اتَّجهت إلى خالها :
الموضوع عندي مذاكرة كتيرة، حضرتَك عارف كلية الطُّب عايزة مذاكرة على طول ..
اقتربَ آدم يطالعُها بتعمق لعدَّةِ دقائق ثمَّ أشارَ إلى كرم متسائلاً:
مين دي؟!
سؤالهِ البسيط نزلَ على قلبها كضربةِ خنجرٍ قاتلةٍ فتَّتهُ من الوجع ..التفتت إليهِ وداخلها يحترقُ كمرجلٍ جفَّ مائهِ من كثرةِ الغليان، وأجابتهُ بصوتها الحزين المتألِّم :
إيلين الجندي يادكتور، معلِش السنين عدِّت كتيرة قوي هتفتكر إزاي .
أنهت حديثها بأعينٍ يتطايرُ منها الشررَ ثمَّ أشارت إلى كرم وتحدَّثت متهكِّمة :
مش كنتِ تفكَّر الدكتور بقرايبُه ياكرم حتى يعرَف هو بيسلِّم على مين..بس هنقول إيه معذور .
معركة حامية بين كبريائها الذي أهدرهُ من عدمِ معرفتهِ لها وبينَ أشواقها، التي جعلتها تتحدَّثُ كالمنتقمِ فأكملت حديثها :
آسفة ياخالو مش هقدر أرحَّب بالدكتور أكتر من كدا، عندي محاضرة بعدِ ساعة ولازم أجهز .
قالتها واستدارت متحرِّكة، ولكن توقَّفت بعد حديثِ خالها :
إيلين آن الأوان عشان نتمِّم خطبتِك بآدم .
جحظت أعينُ آدم من قرارِ والدهِ المفاجئ، فصاحَ غاضبًا :
آدم مين إن شاءالله، إنتَ لسة ماسك في كلامنا لمَّا كنَّا عيال !..
أشارَ والدهِ لهُ وأردفَ منهيًا الحوار :
إعمل حسابك الجمعة هنكتِب كتابك إنتَ وإيلين، ودا آخر كلام ..
هنا لم تستطع الإهانة من رفضهِ القاطعِ لها، فصاحت رافضةً بصوتها المرتفع متناسيةً وقوفها وسطَ جميعِ العائلة :
ومين قالَّك إنِّي موافقة عليك، خالو هوَّ اللي إتكلِّم وأنا مقولتش قراري، بناءً على إيه ،معرفشِ آخد القرار !..
صاحَ كرم غاضبًا بأختِه :
إيلين!!
تحرَّكت ولم تعيرُ أي اهتمامٍ لأخيها، ووقفت أمامهِ ونظرت إلى داخلِ مقلتيه :
وأنا بقولَّك في وشك يابنِ خالي إنِّي مش موافقة عليك، ولو كنت آخر راجل في الدنيا ..
قالتها وهي توزُّعُ نظراتها بينَ الجميع،
هوَّ عشان أنا يتيمة تتحكِّموا في حياتي، لا، أنا آه يتيمة بس مش ضعيفة، ولو الدكتور مش عايز الجوازة دي قراط..أنا مش عايزاها مليون قراط ..
قالتها وتحرَّكت سريعًا وعبراتها تفرشُ الأرضَ أمامها حتى وصلت إلى منزلها، وسقطت على الأرضِ كزهرةٍ تبعثرت وريقاتها في مهبِّ الريحِ من غصنها الرقيق،
وهي تبكي بنشيجٍ وتهزُّ رأسها بقوَّة .
بمكانًا اخر
بأحدِ الأحياءِ الشعبيِّة، بمحافظةِ القاهرة، استيقظت على صوتِ أذانِ الفجر
“الصلاةُ خيرٌ من النوم”..فتحت عينيها تستعيذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم، ثمَّ جذبت وشاحها الثقيل ووضعتهُ على أكتافها ونهضت متَّجهةً إلى والدها لكي توقِظُهُ لصلاةِ الفجر ..قابلها على الباب :
صباح الخير حبيبة أبوكي ..
صباح الخير حبيبي، كويس إنَّك صحيت، هروح أصلِّي وأجهزلَك الفطار لحدِّ ماترجع، عندي جامعة ولازم أكون في محطِّة القطرِ بدري، وحضرتَك عارف، الميزانية ضاربة مش ناقصة ميكروباص ..
ربتَ على كتفها بحنانٍ أبوي :
ربِّك هيعدلها يابنتي، طول ماإنتِ بتقولي يارب ربنا هيقولِك مسألتِك عندي ..ربِّنا ربِّ قلوب يابنتي .
ونعمَ باللهِ يابابا، هوَّ فيه موضوع كنت عايزة أكلِّم حضرتك فيه بس لمَّا أرجع بإذنِ الله .
أومأَ وتحرَّكَ وهو يردِّد :
“أصبحنا وأصبحَ الملكُ لله”
“اللهمَّ ارزقنا السترَ والنعمة ياالله ”
عادَ بعدَ قليل، وجدها أعدَّت لهُ طعامهِ وأيقظت أخيها الذي يدرسُ بالصفِّ الثالثِ الثانوي ..
دلفَ إلى بابِ منزلهِ ولسانُ حاله :
اللهمَّ صلِّ على خيرِ الأنام ..نظرَ إلى الطعامِ المعَّد، ثمَّ رفعَ نظرهِ الى ابنتهِ التي تقفُ أمامَ المرآةِ ترتدي حجابها :
أقعدي إفطري معانا ياقلبِ أبوكي، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى ابنهِ الذي يتابعُ هاتفه :
زياد، توصَّل أختَك لمحطةِ القطرِ ياحبيبي، الجو شتا برَّة ومفيش حدِّ في الطريق ..
حاضر يابابا، هشرَب الشاي وأقوم أهو ..حملت حقيبتها ونظرت بساعةِ يدها :
خليك ياحبيبي علشان تلحق تراجِع قبلِ درسك، أنا هعدي على أمل ممكن ربنا يهديها وتيجي معايا النهاردة، وإنتَ ياسي بابا متنساش حقنة السكر في ميعادها لو سمحت، وأه صفاء مش هتروح المدرسة النهاردة قالتلي عايزة تروح تزور أمَّها .
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ أطلقَ زفرة حارَّة تنمُّ عن غضبه، حملت حقيبتها بوقوفِ أخيها :
هوصَّلِك، ممكن أمل ترفض تروح إنتي عرفاها هوائية .
عانقت ذراعهِ وتحرَّكت مع نظراتِ والدها إليها وهو يدعو لها :
بعدَ فترةٍ بالقرب من محطَّةِ القطار، هرَجٌ ومرَجٌ وطلقاتٍ ناريِّة واعتقالِ الكثيرِ بالمكان، لفَّ زياد ذراعهِ حولَ أختهِ يجذبها بعيدًا عن الطلقاتِ التي زادت بالمكان، ولكن كانَ من نصيبهِ تلكَ الطلقة التي استقرَّت بكتفهِ حينها جذبَ أحدهما أختهِ يضعُ السلاحَ برأسها :
اللي يقرَّب هقتل البنت..صرخ زياد وهو يضعُ كفِّهِ موضعَ الجرح :
غرام..ارتجفَ جسدها وهي ترى الكثيرَ من الرجالِ وهم يحملونَ الأسلحة، نظرت إلى أخيها الذي سقطَ متأوِّهًا ثمَّ نادت بصرخاتها :
زياد ..جذبها الرجلَ للخارج، ولكن طلقة من أحدهما أدَّت إلى مقتلهِ..هزَّة عنيفة أصابت جسدها حينما وجدت الرجلَ سقطَ أمامها غارقًا بدمائِه …اقتربَ منها أحدُ الرجال :
إنتِ كويسة ..رفعت عينيها مع ارتجافِ جسدها تهتفُ بتقطُّع : أخويا،
قالتها لتسقطَ بين ذراعيه، أشارَ لأحدِ الرجال :
اتِّصل بالإسعاف ينقل الولد، وإنتَ نضَّف المكان، قالها لأحدهما وهو يشيرُ بسلاحِه، تلفَّتَ بأنظارهِ حولَ المكان، ليضعَ الفتاةَ على المقعدِ ويتحرَّكَ كالزئبقِ من المكان ..قادَ سيارتهِ وقامَ بمهاتفةِ قائده :
تم ياباشا، الولد اتصفَّى، والمطلوب معايا، والتاني تحتِ إيدين أمنِ الدولة .
أشارَ بيديهِ علامةِ انتصار :
برافو صقر، كنت عارف إنَّك قدها .
-ولو إسحاقو حبي، إنتَ تؤمر، المهمِّ الشارع اللي قبلِ المحطة أخد الولد رهينة والولد اتصاب، خليتهُم يكلِّموا الإسعاف ؟..
على تواصل اسحاقوا باشا، مهما كان الأمن في خدمةِ الشعب .
قهقهَ الآخر :
تشكُّرات صقور، تشكرات ..قالها وأغلقَ الهاتفَ ليتحرَّكَ الآخرَ متَّجهًا إلى عمله .
بأحدِ الأحياءِ الشعبيَّة القديمة:
استيقظت تلكَ الفتاة التي تبلغُ من العمرِ ثمانية عشرَ عامًا، اتَّجهت إلى غرفةِ أخيها الأصغر :
-معاذ قوم ياله علشان تلحق تجبلنا الفول والطعميَّة قبلَ ميعادِ المدرسة، فتحَ عينيهِ ثمَّ جذبَ غطائه :
إيمان، سبيني شوية عايز أنام، إطفي النور، دفعت الغطاءَ من فوقه ؛
قوم يامعاذ هنادي على أبيه يزن..نهضَ يتمتمُ بامتعاض :
أوووف كلِّ شوية قوم يامعاذ، مفيش غير معاذ في البيت دا ..قالها الصغيرُ وهو يجذبُ منها الصحنَ واتَّجهَ إلى الأسفلِ بعدما ارتدى جاكيتهِ الشتوي .
تحرَّكت متَّجهةً إلى غرفةِ أخيها الأكبر
ابيه يزن،حبيبي الساعة تمانية ياله علشان تلحق تفطر قبلِ ما تنزِل الشغل .
اعتدلَ ينظرُ بساعته، مسحَ على وجههِ ثمَّ تحدَّثَ بصوتٍ مفعمٍ بالنوم:
صباح الخير ياموني ..
صباح الخير ياأبيه، ياله قوم صلِّي لحدِّ ماأجهَّز الفطار .
دفعَ الغطاءَ وأجابها :
صلِّيت الفجر حبيبتي، عايز شاي وأي حاجة علشان أنزِل بسرعة..
تحرَّكت متَّجهةً للمطبخِ قائلة :
عيوني شوية وهتلاقي كلِّ حاجة جاهزة، خرجَ يبحثُ عن أخيهِ فتساءل :
فين معاذ،
ضحكت بشقاوة :
نزِل يجيب فول وماقولَّكش، قال إيه..
ضحكَ عليها وجلسَ على المقعدِ بمقابلةِ المطبخ متسائلًا :
حبيبتي معندكيش دروس ولَّا إيه؟.
خرجت تحملُ الخبزَ والجبنَ وأجابته :
عندي الساعة تلاتة بعد مامعاذ يرجع من المدرسة، أومأَ برأسِه :
فيه حاجة واقفة معاكي في الكيمياء
هزَّت رأسها بالنفي :
معايا أحسن مستر وهغلط برضو !.. تسلملي يازينو، قاطعهم صوتُ الباب
اتَّجهَ يفتحُ الباب، توقَّف متسمِّرًا عندما وجدَ دموعها تسيلُ على خديها :
يزن أنا قررت أتجوِّز، آسفة مش هقدر أكمِّل معاك..تحرَّكت للداخلِ ووضعت أشيائهِ ثمَّ خرجت سريعًا من المنزل،
دقائق وهو متوقِّفًا كأنَّ روحهِ سُحبَت لبارئها يردِّد :
أنا أكيد بحلم .
سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة الثانية
توقَّفَ يزن محاولًا استيعابَ ماقالتُه، رفعَ عينيهِ إليها :
استني عندِك، إيه اللي بتقوليه دا ؟!.
فركت كفَّيها تبتعدُ ببصرها عنه :
كلِّ شيء قسمة ونصيب يايزن…
بتقولي إيه يامها؟!
ابتعدت بخطواتِها بوقوفِ إيمان بجوارِ أخيها :
مها أدخلي إفطري معانا، قالتها بدخولِ معاذ :
أهلًا أبلة مها، وأنا بقول الطعميَّة لذيذة ليه، علشان أبلة مها هتفطَر معانا …
كانت تطأطئُ برأسها للأسفلِ ولم تقوَ على النظرِ إليه :
أنا هتخطب يايزن ربِّنا يرزقك ببنتِ الحلال ..
رجفةٌ قويةٌ حتى شعرَ بسحقِ عظامه، فتراجعَ خطوةً للخلفِ وعينيهِ تلتهمها بنيرانِ صدرهِ المشتعلة..دقائقَ حتَّى يستوعبُ ماقالتهُ تلكَ المجنونة، مسحَ على وجههِ بكفوفهِ مع عدَّةِ أنفاسٍ مضطربة، أعادهُ لحالتهِ صوتَ أختِه :
أبيه أدخلوا جوَّا، استدارَ إليها وعينيهِ على معاذ :
خُدي معاذ وأدخلي جوا ياإيمان .
أومأت برأسها قائلة:
حاضر.. سحبت أخيها وألقت نظرة على مها، ثمَّ دلفت للداخل :
تراجعَ يجذبُ مقعدَ طاولةِ الطَّعام، ثمَّ أشارَ لها بالدخول :
أدخلي نتكلِّم، عايز أعرف إيه اللي حصل..
مفيش حاجة نتكلِّم فيها يايزن، أنا تعبت، بقالنا خمس سنين مخطوبين، العمر بيسرقني، إنتَ راجل، السِّن عندك مش فارق لكن أنا دلوقتي عندي تمانية وعشرين سنة عايزة أعيش حياتي يايزن، أتجوِّز وأجيب أطفال، وأعيش حياتي مرفَّهة ودا مش هلاقيه معاك، متزعلشِ مني أنا ذنبي إيه أشيل مسؤولية
أختك وأخوك، بحبَّك أه، لكن الحبّ مابأكلشِ عيش، كلِّ شوية أقول أعذار لأمِّي وأبويا، تعبت من نظراتهم وخصوصًا بعد آخر عريس و…أشارَ بيديهِ أن تتوقَّفَ عن الحديث، ألقى نظرةً على أشيائهِ التي أحضرتها :
علشان كدا مختفية بقالِك أسبوعين وكلِّ ماأروحلِك يقولوا تعبانة، ياترى كنتي واخدة القرار ومكسوفة تقوليلي ولَّا بتهربي؟..
يزن أنا بحبَّك بس ظروفك أقوى من الحبِّ دا، مقدرش أفضل كدا ..
1
مبروك عليكي العريس يامها، الحاجات دي متلزمنيش، مبروكة عليكي، اقتربت تهزُّ رأسها مع انسيابِ عبراتها :
لا يايزن مش حقِّي، أنا اللي فركشِت .
توقَّفَ سريعًا، ورمقها بنظرةٍ مستاءة :
إسمها أنا اللي بعت، وأنا اللي يبعني ضغطَ على أسنانه، وعيناه تطلق أسهمًا ناريَّة يرمقها بها، ثم دنا منها مردِّدًا بجفاء:
أحرق اللي يفكَّرني بيه..غرزَ عينينهِ بمقلتيها..جاية بكلِّ بجاحة توقفي قدامي، تقولي واحد إتقدملِك وإنتِ موافقة !.
دنا إلى أن أصبحت المسافة بينهما معدومة ثمَّ انحنى بجسدِه :
خنتي العهد اللي بينا يامها، حرقتي قلبي، روحتي اتكلِّمتي مع واحد وإنتِ مخطوبة، إنتِ عارفة أنا شايفِك إيه دلوقتي ؟..
نكست رأسها بأسفٍ وتمتمت بخفوت :
لو سمحت يايزن، بلاش تجريح .
خاينة إنتِ واحدة خاينة وكذَّابة وأنا اللي غلطان.. تراجعَ وجنونُ العشقِ الغادرِ بداخلهِ يحرقُ روحه :
اطلعي برَّة وخدي الحاجات دي، خُديها حتى لو هاترميها .
همَّت بالمغادرة إلا أنّّهُ صاحَ باسمها :
مها منتظر دعوةِ الفرح.. هرولت للخارج، أمَّا هو فهوى بجسدهِ على المقعد، وخزاتٌ كالمسامير تغرز بصدره دونَ رحمة، لحظاتٌ يشعرُ بانسحابِ أنفاسهِ وكأنَّهُ داخلَ قبر، خرجت أختهِ تطالعهُ بأنينِ قلبها، كم تعلم عشقهِ الذي دُفنَ لسنوات، خطت
إلى أن جثت بركبتيها أمامَ أخيها :
يزن ليه كدا، ليه تتنازل عن حبَّك، قولتها قبلِ كدا، من حقَّك تعيش، لو سمحت يايزن، فكَّر في نفسك شوية، مش من حقَّك تحرم نفسك علشانا ..
انحنى وحاوطَ وجهها :
أنا أبيع الدنيا كلَّها علشانِك إنتِ ومعاذ، أوعي أسمعِك تقولي كدا، أنا قبلِ ماأكون أخوكي فأنا أبوكي.. هوَّ فيه أب بيجي على ولادُه علشان نفسه، أنا راضي بيكم حتى لو متجوزتِش طول حياتي ..
هزَّت رأسها رافضةً حديثه :
تضيَّع حياتك ليه، إنتَ مش أبونا..
إيمي مش عايز أسمع كلام في الموضوع دا، أهمَّ حاجة دلوقتي تهتَّمي بدراستك وبس، متنسيش إنتِ ثانوية عامة، كفاية السنة اللي اتأجلِّت بسبب وفاة ماما مش هاقبل أعذار، عايز طب ياإيمي غير كدا مش مسمحولِك تفكَّري في حاجة، لو فعلاً بتحبِّي أخوكي.. عايز نجاح باهر.
قبَّلَت كفِّهِ الذي يحتضنُ بهِ وجهها :
إنتَ أحسن أخ في الدنيا، ربِّنا مايحرمني منِّك .
دمغَ جبينها بقبلةٍ حنونةٍ :
ولا منِّك حبيبة قلبي، وبنتي الغالية، هاعوز إيه أكتر من إنِّي أشوفِك إنتِ وأخوكي في أحسن حال ..
طيِّب مها، هتقدَر تنساها، تنسى حبِّ حياتك.
أشاحَ ببصرهِ بعيدًا عنها ثمَّ أردف :
ربِّنا أنعم علينا بالنسيان علشان ننسى أعزِّ النَّاس، فتخيلي اللي ميستهلوش مش هنقدر ننساهم؟..قومي ياقلبي جهِّزي الفطار أنا اتأخرت ..
حبيبي متزعلشِ هيَّ الخسرانة لأنَّها متستهلكش، أوعى واحدة زي دي تكسر يزن السوهاجي، اللي كلِّ بنات المنطقة هتموت على نظرة من عيونُه :
رسمَ ابتسامة، وارتفع جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة قائلًا :
بنات المنطقة كلها مرَّة واحدة، قومي يالِمضة قومي..
بعدَ فترةٍ على طاولةِ الطعامِ أردفَ معاذ :
أبيه يزن عايز فلوس درسِ الانجليزي، الميس طلبتهم منِّي الحصَّة اللي فاتت.
حاضر.. قالها وأخرجَ سيجارة يرتشفُ من كوبِ الشاي، وعينيهِ شاردة بكافَّةِ الاتجاهات، كانت تتابعهُ بعينيها، أصابَ قلبها الألم على نظراتهِ الحزينة رغمَ محاولتهِ بالظهورِ أَّنَّهُ على مايرام .
وضعَ الكوبَ وتوقَّفَ متحرِّكًا إلى أشيائه، جمعها ثمَّ أخرجَ نقودًا من الحافظة الخاصَّة به :
موني دي فلوس درسِ معاذ، عدِّي على الميس وشوفيه عامل إيه معاها، وكمان فلوس الفيزيا، آسف حبيبتي نسيتهم امبارح، كان لازم تفكَّريني بدل ماتلغي الحصَّة كدا .
توقَّفت واتَّجهت إليهِ متمتمة :
لا يايزن أنا سمَّعت الدرس فيديو على اليوتيوب، استفدت مكنشِ له لزوم الدَّرس ..
داعبَ خصلاتها مبتسمًا:
على يزن برضو ياموني، النِّت أصلًا فصل، مش عيب تكذبي على أخوكي..
جذبها لأحضانهِ بعدما شعرَ بحزنها :
شوفتي بتزعَّليني إزَّاي، مكسوفة تسأليني على الفلوس، نسيت واللهِ ياقلبِ أخوكي، بعد كدا هقبَّضِك شهريًا كلِّ دروسك، إحسبي الحسبة وقولي عايزة إيه وأنا تحتِ أمرِك .
ابتسمت تهزُّ رأسها دونَ حديث، فيكفي مايشعرُ به، همَّ بالمغادرة إلى أن أسرعَ معاذ يحملُ حقيبته :
وصَّلني معاك بالمكنة ياأبيه، عمُّو اسماعيل عامل عمرة للتوكتوك، أومأَ وتحرَّكَ إلى دراجتهِ البخاريَّة .
ارتدى الخوذة وأشارَ إليهِ بالتحرُّك :
استناني برَّة لمَّا أخرَّج المكنة، خرجَ وتوقَّفَ أمامَ معاذ، رفعَ نظرهِ على تلكَ السيارةِ التي توقَّفت أمامَ منزلِ خطيبته، ترجَّلَ منها شاب يافعَ الطول، عرفهُ من ظهره، نعم صاحبَ العمل الذي تعملُ به، وصلت إليهِ بجوارِ والدتها، التي رمقت يزن بنظرةٍ مستاءة ثمَّ أشارت على ذاكَ الشابِّ الذي يُدعى طارق وصاحت بصوتٍ مرتفعٍ ليصلَ إلى آذان يزن :
تعالَ إفطَر معانا ياخطيب بنتي، حماتك بتحبِّك ..
كوَّرَ قبضتهِ حتى ابيضت مفاصلِه، يضغطُ على شفتيه بقوَّةٍ بأسنانهِ ولم يشعر بدمائها.. رفعت عينيها لتتقابلَ بعينيهِ وهناكَ الكثير من الأحاديثِ الملامة، ضغطَ بقدمهِ على الوقودِ ليصدحَ صوتُ الدراجةِ وكأنَّهُ لم يعد يستمع لأصواتِ تلكَ الشمطاءِ وهي ترحبُّ به، كيفَ يفعلوا به ذلك، كيفَ تقبَّلت أن تجلسَ معهُ وهي على عهدٍ معه…
قادَ دراجتهِ بسرعةٍ فائقةٍ مما أزعجهم بخارَها، كانت تطالعهُ بأعينٍ حزينة، تعلمُ أنَّها خلت بوعدهما ولكن ماذا عليها أن تفعلَ بعد إصرارِ والديها بجبرها على الزواجِ في ظلِّ ظروفه، استقلَّت السيارة بجوارِ من اعتبرتهُ زوجها المستقبلي ولم تعلِّق على حديثهِ حينما قال :
شكلِك عرَّفتي الولد اللي كنتي مخطوباله، شايفه مش طايق نفسه..
أشارت على الطريقِ وردَّدَت :
هنتأخَّرعلى الشغل، أمالَ برأسهِ مقتربًا منها، حتَّى أصبحت المسافة بينهما معدومة، ليهمسَ لها :
مفيش شغل النَّهاردة فيه طارق وبس، عازمِك على فسحة هاتعجبِك أوي .
يعني إيه؟..
قادَ السيارة وتحرَّكَ قائلًا :
هانعمل تور أنا وإنتِ وبعد كدا نروح نشوف الفستان ..
ضيَّقت عينيها متسائلة:
فستان إيه، ليه هوَّ الفرح إمتى؟!
غمزَ بطرفِ عينهِ قائلًا :
وقتِ مالجميل يؤمر..
عندَ يزن وصلَ إلى مكانِ عمله، ودلفَ للدَّاخلِ ملقيًا تحيَّةَ الصباحِ على صاحبِ العمل، نظرَ بساعةِ يده :
اتأخرتِ ليه يايزن النهاردة ؟..
ارتدى ثيابَ عملِه، متهرِّبًا بنظراتهِ من ذاكَ الرجلِ الذي يعتبرهُ بمقامِ والده، ثمَّ أجابه :
مشكلة واتحلِّت ياعمو اسماعيل.. ربتَ على كتفِه :
حبيبي ربِّنا ييسرلك أمورَك دايمًا .
يارب.. قالها بدلوفِ إحدى السيارات، فأشارَ لهُ الرجلِ بمقابلةِ زبائنه .
بمكانٍ آخر :
وصلَ إلى مكانِ عمله، وجدَ أحدَ الضباطِ بانتظارِه :
إلياس باشا، القضية دي جيَّالنا عن طريقِ المخابرات، وعايزينَك بالإسمِ في تحقيقها، فتحَ الملَّف يطالعهُ لثوان، ثمَّ رفعَ نظرهِ قائلًا :
دي مش تبع الأمنِ القومي، ليه جايَلنا؟!.. قالها وهو يتحرَّكُ لداخلِ مكتبِه..
خلعَ جاكيتَ بذلته، وقامَ بثني أكمامهِ بعدما تحرَّكَ لمقعدِه :
دي خليَّة ياباشا بتموِّل الإرهابيين، الشرطة مسكتهُم متلبِّسين بمشاركةِ المخابرات.. قالها أحدُ الضباط،
مش جناية يعني..
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ أردف :
تمام ليه جت علينا وهيَّ تبع السويس؟..
معنديش معلومة والله ياباشا .
دلفَ العسكري يضعُ قهوتهِ ثمَّ توقَّف :
فيه واحد برَّة عايز يقابل حضرتَك ياباشا.. قالها وهو يبسطُ كفِّهِ بذاكَ الكارت.. رفعهُ يقرأ مايدوَّنُ به :
راجح الشافعي، ودا عايز إيه، مكتوب هنا رائد متقاعد، مش دا اللي ابنه اتمسَك من كام أسبوع وحقَّقنا معاه..نقرَ على مكتبه، ثمَّ أشارَ للعسكري :
خلِّيه يدخل لمَّا نشوف أخرتها إيه ..
دلفَ راجح ملقيًا السلام ..
أومأَ إلياس يشيرُ للمقعد.. جلسَ بعدما فكَّ زرَّ بذلته :
إزَّيك إلياس باشا ؟..
أهلًا بحضرتك، ممكن أعرف إيه المطلوب ؟..
حمحمَ راجح متمتمًا :
عرفت إنَّك اللي بتحقَّق في قضيةِ ابني، جايلَك وأملي كبير، ابني اتمسك من ضمنِ الولاد دول، واللهِ ياإلياس باشا هو مالُه دخل بالسياسة، يعني أبوه كان ظابط، ليه يعمل كدا ..
مش فاهم حضرتَك، ياريت توضَّح..
ابني كان في الشَّقة بس مش علشان إرهابي دا ابنِ ظابط، هوَّ بس كان متصاحب على شويِّة عيال، وكانوا بيروحوا الشقة دي يلعبوا قمار ..
تراجعَ بجسدهِ للخلفِ قائلًا :
ليه هو ابنِ الظَّابط بيلعب قمار؟..
حمحم قائلًا :
شباب بقى ياإلياس باشا، والغلط عندي علشان نقلت جامعتُه القاهرة..
أخرجَ الملفَّ الخاص وطالعهُ لبعضِ الدقائق، ثمَّ رفعَ نظرهِ إليه :
قدَّامك عشَر دقايق تشوفُه، ودا مبعمِلوش مع حد، تأكَّد إكراميَّة مني علشان في مجالِ الشرطة .
نهضَ وشكرهُ :
شكرًا يابني، ربِّنا يريَّح بالك ..
استمعَ إلى طرقاتٍ ثمَّ دلفَ العسكري :
إلياس باشا، أستاذة ميرال جايبة إذن عشان تعمل حوار صحفي مع المسجون .
بتقول مين؟!
تساءلَ بها وعينيهِ كالحممِ البركانيَّة .. دلفت للدَّاخلِ مقاطعةً حديثه :
إيه هوَّ حضرة الظابط واقع على ودنُه وهوَّ صغير، اتفضَّل دا تصريح من اللوا مصطفى السيوفي بذات نفسُه علشان أقابل المتَّهم اللي اتمسك في الشَّقة، وكمان المتَّهم بتاع المحطَّة .
خُد راجح باشا يقابل ابنُه عشر دقايق، قالها وهو يشيرُ لراجح بالخروج، ثمَّ التفتَ للتي تعقدُ ذراعيها أمامَ صدرها،
توقَّفَ راجح أمامها :
عدِّيني يابنتي، رفعت نظرها إليهِ ورسمت ابتسامة :
آسفة حضرتَك ..قالتها وتراجعت تُفسحُ المكان ..خرجَ راجح ونظراتِ إلياس عليه إلى أن أغلقَ الباب، ثم انتفضَ بجسدهِ إليها :
أنا مش محذَّرِك الصُّبح، إنتِ ليه مصرِّة تخرَّجي شياطيني عليكي، علشان عَندِك واسطة كلِّ شوية تقرفيني…
1
رفعت حاجبها وشيَّعتهُ بنظرةٍ متهكِّمة :
يعني علشان بعمِل شغلي، بص ياحضرة الظابط، المسجون دا أنا هقابلُه، وهاعرَف منُّه اللي حضرتِك معرفتِش توصلُّه .
1
أشارَ إلى مقعدِه :
تعالي أُقعدي مكاني، وحقَّقي ولَّا أقولِّك سيبِك من الصحافة، وأقدِّملِك في الشرطة .
جزَّت على أسنانها واقتربَت منه :
إنتَ ليه مستِّفز، أنا بعمِل شغلي، الواقفة قدَّامَك دي ميرال جمال الدين اللي أي مكان يتفتحلها من غير واسطة، ياحضرة الظابط، بس أعمِل إيه..في ظابط مغرور وواخد في نفسُه مقلب .
جلسَ يدَّخنُ سيجاره وتركها تثرثرُ كما زعم، توقَّفَت عن الحديثِ عندما وجدتهُ بتلكَ الحالة، رفعَ نظرهِ بقلقٍ بعدَ صمتها، ثمَّ نفثَ دخانَ سيجارتِه :
قلقت عليكي، كمِّلي تعريف وهيصة..
احتقنَ وجهها بالغضب، حتى توردَّت وجنتيها، فدنت منهُ وانحنت برأسها لمستواه :
إنتَ إيه ياأخي فريزَر برجلين قاعد على المكتب، بقولَّك عايزة أشوف شُغلي .
رفعَ رأسهِ ونفثَ دخانَ تبغهِ بوجهها، فتراجعت برأسها تسعُل، مطَّ شفتيهِ ساخرًا :
ياحرام، ماكنتِ عاملة فيها سكوت آدكنز من لحظات ..
إلياااس..صاحت بها غاضبة، نصبَ عودهِ متوقِّفًا واقتربَ منها بخطواتٍ سُلحفيِّة، دبَّت الرعبَ بقلبها، ورغمَ ذلك
اقتربت منهُ وتحدَّثت بجرأة :
عايزة أقابِل المتَّهم، مش خايفة منَّك، متحاولشِ تعملِّي فيها قابض الأرواح .
كوَّرَ قبضتهِ يجزُّ على أسنانه، لتتراجعَ للخلف، ليهمسَ بفحيحٍ أعمى :
إمشي من هنا معنديش متَّهمين .
اتقدَّ الغضبُ كنيرانٍ مشتعلة، وهدرت به :
إنتَ ليه بتعمِل كدا، أنا عايزة أوضَّح للجمهور حياة الولد وإيه اللي وصَّلُه لكدا .
رفعَ كفِّهِ ولم يشعر بنفسهِ إلَّا وهوَ يضعُ أناملهِ على ثغرها، لتتوسَّعَ عيناها بذهولٍ من حركتهِ الجريئة، دنا يهمسُ بجوارِ أذنها بأنفاسهِ الحارَّة التي تريدُ إحراقها :
ميرال ..ميرال، مالكيش شُغل في محيطي، اختفي من قدَّامي بدل ماأندِّمِك..قالها وتراجعَ للخلفِ وكأنَّهُ لم يفعل شيئًا..أمَّا هي فكأنَّ قربهِ شلَّ جسدها ولم تعد لساقيها القُدرة على الحركة..جلسَ فوقَ مقعدهِ يشيرُ إليها :
أخدتِ من وقتي حضرة الصحفيَّة الفاشلة، روحي شوفي شُغلِك بعيد عني …
استفاقت أخيرًا من سيطرتهِ الطَّاغية التي فرضها عليها، رفعت عيناها تتأمَّلُ جلوسهِ المغرور ثمَّ اقتربت إلى أن وصلت إلى مكتبِه، ونظراتهِ تلاحقُ حركتها .
1
استندت بكفَّيها على مكتبِه :
حضرتَك في المكان دا، وبتاخُد مرتَّب منِّي ومن غيري، بلاش القنعرة الكدّّابة دي..
جحظت عينيهِ، ونظراتٍ كالسهامِ الناريَّة، يصرخُ بالعسكري، حتَّى هبَّت من مكانها فزعة، هاتلي المسجون يشوف أبوه، وخُد أستاذة ميرال عرفَّها طريق الخروج منين..
تنهيدة ناريَّة خرجت منها وهي تشيرُ إليهِ بغضب :
إلياس متقوفشِ قدَّام شغلي، اللي بينا مالوش علاقة بالشغل، إنتَ عارف ومتأكِّد أنا بعمِل شُغلي، فلو سمحت متقوفشِ قدَّامي…
دنا منها، فتراجعت للخلف، حتَّى اصطدمت بالجدار، حاوطها بذراعيهِ
وانحنى ينظرُ لعيونِها التي تشبهُ عيونَ الغزال، ثمَّ همسَ بهسيسٍ مرعبٍ وعينيهِ تخترقُ عينيها :
إنتِ بقالِك تكَّة معايا، أي كلمة تانية هاندِّمِك على حياتِك طول العمر، كلِّ شوية إلياس، إلياس دي عند مامتِك هناك مش هنا في مكان شغلي، تنطيطِك ليَّا كلِّ شوية مالوش غير معنى واحد وبس، عايزة تلفتي انتباهي، بس غبية لو الستِّ فريدة بتحلَم وزقِّتِك عليَّا هافعصِك، استلفي شوية عقل من عندِ مامتِك اللي معرفشِ بترسم على إيه، اتعاملي معايا بيهم لحدِّ ماأشوفلِك مصيبة، سمعتيني ولَّا لأ …
ثقلَت أهدابها لحجزِ الدموعِ تحتها، رفعت عينيها مع رأسها بكبَرِ أنثى داسَ على كرامتها :
إعرَف لو إنتَ آخر راجل على الكرة الأرضيَّة علشان ألعب عليه وأجذِبُه، مستحيل.. لأنِّي هاضيَّع وقتي مع الشخصِ اللي ميستهلِشِ ميرال جمال الدين، إنتَ أخرَك تزعَّق وبس، إنَّما تِتحَب وتكون من طموحاتي تبقى مجنون.. قالتها ودفعتهُ بقوَّةٍ ليبتعدَ عنها، ثمَّ أشارت مهدِّدةً إيَّاه :
هاكتِب فيك شكوى لنقابةِ الصحافة ياعمِّ المغرور، قالتها وجذبت حقيبتها،
وتحرَّكَت بخطواتها الواثقة، وغادرت المكانَ بالكامل، وقلبها يئنُّ كالوترِ المقطوع..سبَّها قائلًا :
دمِّك يلطُش، إصبري عليَّا بت متخلِّفة،
جلسَ على مقعده، بدلوفِ المسؤول :
الولد جاهز للمقابلة
أشعلَ سيجارة ينفثها بهدوء :
خلِّيه يشوفه كدا، علشان يعرَف يربِّيه، دلفَ صديقهِ بالعمل :
صباح الخير :
ارتفعَ جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة :
صحِّ النوم ياعريس، ناموسيِّتَك كحلي .
هوى على المقعدِ يشيرُ للرجل :
قهوتي يابني، استدارَ إلى إلياس :
عملت حاجة في القضيِّة بتاعة الخليِّة؟..
تراجعَ بجسدهِ ورمقهُ ساخرًا ثمَّ تمتمَ :
مش بقول عريس وصباحيَّة مباركة، الولد المخابرات صفِّتُه إمبارح، والتَّاني في الزنزانة بين الحيا والموت .
يعني إيه؟..اقتربَ يستندُ بذراعيهِ على المكتب :
الولد مالوش في السيَّاسة فعلًا، دا بتاع قُمار وشرب، بس فيه ولد هرب قبلِ الهجوم، كدا يبقى عرف إنِّ الشقَّة هاتُقتَحم ..
مسحَ على ذقنهِ قائلًا :
معنى كدا فيه حد بيحرَّكهم…أومأَ له مجيبًا :
بالظبطِ كدا، دا اللي عايز أقوله ..نهضَ من مكانهِ وهمَّ بالمغادرة إلَّا أنَّ إلياس أوقفُه :
شريف الولد أبوه عندُه، عشر دقايق ومش عايز حدِّ يقرَّب منُّه، وممنوع من الزيارة، حتَّى أبوه نفسه ممنوع يشوفُه تاني
قطبَ جبينهِ مستفسرًا :
ليه خلِّيت أبوه يشوفه، هوَّ ينفع؟!
نهضَ من مكانهِ قائلًا :
عايز أعرَف اسمِ الولد اللي كان معاهم، ودا مش هيقولُه لحدِّ غير أبوه، وكمان أبوه طلع كان ظابط بس تقاعد، نُصِّ ساعة وهنجيب ملفُّه بالكامل .
تمام يعني فيه تسجيلات ..
-ولو ..إنتَ مجنون، فيه حاجة تفوتني..أومأَ لهُ وتحرَّك، ولكنَّهُ توقَّفَ على بابِ الغرفة :
أستاذة ميرال قابلتني تحت، وكانت مضَّايقة، إكسَب الصحافة علشان ميقلبوش علينا ..
لوَّحَ بيدهِ قائلًا :
سيبَك منها، هاعرف أوقفَّها
هزَّ رأسهِ ضاحكًا : واللهِ البنت زي القمر، معرفش مالَك ومالها ..
إنتَ اتجنِّنت ولَّا إيه، إنتَ بتعاكِس في البنتِ قدَّامي!..
اقتربَ شريف مقهقهًا :
إيه الغزالة غمزِت ولَّا إيه.. استدارَ إلى مقعدهِ يشيحُ بكفَّيه :
غزالة إيه يابني، دي من أهلِ بيتي.. أه مختلفين بس دا ميدلَكشِ الحقِّ تتكلِّم عنها مهما كان ..
غمزَ بطرفِ عينهِ مردفًا :
من إمتى الحنان دا ياأمِّ كلثوم ..
أوووف إمشي من قدَّامي، أهو إنتَ بارد زيَّها..رفعَ حاجبهِ ساخرًا :
طيِّب إحنا الاتنين شبه بعض،ماتجوِّزنا لبعض، اهو تلمِّني وتاخد فيَّا ثواب بدل الأفلام الثقافيَّة اللي مبهدِلة أخوك .
شريف ..صاحَ بها بغضبٍ وكأنَّهُ تحوَّلَ لشيطانٍ أعمى :
قولتِلَك أهلِ بيتي مش للهزار، أوعى تفكَّرني هتساهِل معاك، دي زيَّها زي غادة، اللي بينا مالوش علاقة بحد، سمعتني ولَّا لأ، ياريت تلتزم حدودك في الموضوع دا .
أومأَ معتذرًا :
آسف ياإلياس مكنشِ قصدي أزعَّلك، أشارَ لهُ بالخروجِ وأجابهُ ممتعضًا :
روح شوف شُغلَك، وابعتلي تسجيلات مقابلة الراجل وابنُه، عايز نشوف شُغلنا .
بفيلَّا السيوفي :
تقرأُ بمصحفها، وتنسابُ عبراتها مع ذكرياتٍ متألِّمة، أغلقت المصحف ووضعتهُ بمكانِه، جلست تنظرُ للخارجِ تزيلُ عبراتها تهمسُ لنفسها :
إيه يافريدة، ظهور راجح قلَّب عليكي الماضي، عايزة إيه ..حقِّك وربنا جبهولِك، وأكيد عند ربنا الأكبر والأعظم .
تنهيدة متألِّمة ثمَّ وضعت كفَّها على صدرها تتمتمُ بخفوت:
متأكدة ربنا هايجمعني بيهُم قريب، يارب استودعتكَ أولادي، إحفظهُم بحفظك، واجمعني بيهم،
1
ذهبت بذاكرتها منذ ساعتين :
خرجت من غرفةِ مكتبها، ونادت على مربيِّة الدار التي تمتلكُها :
علية ..هرولت إليها السيدة قائلةً :
نعم يامدام فريدة..أشارت إليها :
شوفي أستاذة حنان فين، ناديها علشان نعمِل جولة على غرفِ الأطفال ونشوف المستوى..أومأت لها وتحرَّكَت سريعًا .
تحرَّكَت فريدة إلى مكتبها وهاتفت ابنتها :
ميرال حبيبتي خلَّصتي شغلك؟..كانت تستقلُّ سيارتها فأجابتها :
لا ياماما، لسَّة عندي مقابلة عند عزرائيل باشا، نفسي أطبق على زمَّارِة رقبتُه دي وماسيبوش غير وهوَّ بيرفرف ..
ضحكت على حديثِ ابنتها :
قصدِك إلياس؟..همست ميرال بخفوت ؛
هوَّ فيه غيرُه الطاووس المغرور .
عيب ياميرال مهما كان مينفعشِ تغلطي فيه حبيبتي دا في مقام أخوكي الكبير..قطعت حديثَ والدتها:
متقوليش بس أخوكي، عمرُه ماهيكون أخويا ياماما، دا شبه جنكيز خان ..أفلتت فريدة ضحكةً قائلةً :
بلاش تضَيقيه ياميرال، المهم أنا هاتأخَّر شوية في الدار النهاردة متقلقيش حبيبتي .
قادت سيارتها وتحرَّكَت قائلة :
تمام حبيبتي المهم خُدي بالِك من نفسك..
خرجت فريدة مع المسؤولة وقامت بعملِ جولةٍ على كلِّ الغُرَف، عادت إلى غرفتها بعدما ألقت أوامرها بقيامِ المهام لكلِّ فردٍ في الدَّار، ثمَّ تحرَّكَت إلى غرفةِ مكتبها بدخولِ وكيلةِ الدَّار :
شوفتي الأخبار يافريدة ..جعدَت جبينها متسائلة:
أخبار إيه؟..ألقت الجريدة أمامها على المكتب :
الإرهابيين اللي مسكوهُم من فترة، نظرت إليها منتظرةً باقي حديثها ، فتابعت السيدة :
إنتِ مش ابنك أمنِ دولة وجوزِك لوا، إزَّاي متعرفيش!..
جلست على المقعدِ مستفسرة :
مبدَّخلشِ في شغلهُم إلَّا إذا كانت قضيِّة رأي عام .
والانفجارات اللي بتحصَل دي ماهيَّ رأي عام برضو، وضعت الجريدة أمامها :
شوفي مصوَرينهُم أهو، بس أهاليهُم اللي صعبوا عليَّا، دول عيال مش فاهمين حاجة، وداعش مابيصدَّق يوصل لعيال زي دي..
أومأت بتفهُّم تنظرُ إلى تلكَ الجريدة، هزَّة عنيفة أصابت جسدها وهي ترى صورةُ ذاكَ الشَّخصِ وبجوارهِ شابًا بالعشرينات، رفعت الجريدة تدقِّقُ النظرَ بالصورة، فنهضت سريعًا تجمعُ أشياءها قائلةً بتلعثم :
رحاب خلِّي بالِك من الدَّار، عندي مشوار مهم ..قالتها وغادرت سريعًا، اتَّجهت إلى سيارتها بساقينِ مرتعشة، وصلت إلى السيارة ودقاتٍ عنيفة تكادُ تخترقُ صدرها ..توقَّفت تلتقطُ أنفاسها تنظرُ حولها بتشتُّت :
راجح..همست بتقطُّع تتلفَّتُ حولها وكأنَّهً يراها، أنفاسٍ كالمسامير تدقُّ بصدرها، فتحت بابَ السيارةِ وجلست بداخلها مع انسيابِ عبراتها .. دقائقَ كأنَّها دهرًا طويلًا حتَّى شعرت وكأنها كهلةً لما شعرت به من ثقلِ أنفاسها، فتَّشت عن هاتفها بتذبذبٍ إلى أن وجدتهُ ورفعتهُ بكفِّها المرتعش :
ليه ماقولتليش ابنِ راجح في القضية؟..
صمتًا دامَ للحظات، يستمعُ إلى أنفاسها المضطربة، إلى أن سحبَ نفسًا عميقًا :
علشان متكونيش زي دلوقتي كدا .
ثقلُت حروفُ نطقِها مما جعلها تصمتُ وكأنَّها لم يعد لديها القدرة على التحمُّل إلى أن استمعت إلى صوتهِ الحنون :
فريدة مصطفى السيوفي مستحيل حد يقدر يقرَّب منها، أدفنُه حي، أقسم بالله يافريدة اللي يقرَّب منِّك أو من ميرال أدفِنُه حي، حبيبتي إهدي، ميقدَرش يعمل حاجة، ولا يقدر يقرَّب منِّك .
مصطفى أنا خايفة…قالتها بتقطُّعٍ ممَّا جعلته يشعرُ بتفتيتِ ضلوعِه، ليتوقَّفَ متَّجهًا للخارج :
إنتِ فين حبيبتي، أنا جايلِك، تلفَّتت حولها وانسابت عبراتها قائلة :
قدَّام الدَّار ..
خليكي يافِري أنا في الطَّريق .
مساءَ اليومِ التالي :
جلسَ أمامَ مسبحِ منزلهِ يطالعهُ بشرود، وصلَ إليهِ إلياس :
مساء الخير ياسيادة اللوا..
رفعَ رأسهِ مبتسمًا وردَّ تحيَّتِه :
مساء الخير ياحبيبي، رجعت إمتى شايفَك مغيَّر هدومك…
جلسَ بمقابلةِ والدهِ ينظرُ إلى دلوفِ سيارةِ إسلام وبجوارهِ غادة واجابه:
من ساعة تقريبًا، استدارَ بعدما استمعَ إلى ضحكاتِ غادة بنزولِ ميرال :
طيِّب أقوم أضربهم.. بتقولِّي ماتشدِّش عليهم وخلِّيك حنيِّن، سامع صوت الضحك..
حدجهُ والدهِ بنظراتٍ مبهمة، ثمَّ أردف :
بيضحكوا في البيت ياإلياس، وبعدين غادة صغيرة، خلِّيها تفرح حبيبي بلاش الشدَّة علشان ماتغلط برَّة .
صغيرة إيه يابابا، دي أولى جامعة، يعني مش طفلة، والأستاذة ميرال برضو صغيرة؟..دي لمَّا الأمن يسمع ضحكاتها بالطريقة دي…
وصلت الخادمة إليهما بمشروباتهم :
مدام فريدة بعتت لحضرتَك العصير دا ياباشا، والبيه قهوتُه..قالتها بعدما وضعتهم على الطاولة وغادرت .
رفعَ مصطفى عصيرهِ يرتشفه، ثمَّ تساءل :
سألت على فريدة؟..
رفعَ قهوتهِ وارتشفَ منها يسحبُ بصرهِ من نظراتِ والدهِ إلى أن استمعَ إليه :
مابترُّدِش ليه ياإلياس، سألت على مامتك؟..
توسَّعت عيناهُ بضجر، وأردفَ ممتعضًا :
بابا لو سمحت اتكلِّمنا كتير في الموضوع دا، أتمنَّى ماتزعَّلنيش تاني، الستِّ دي هاتفضَل لآخِر يوم في حياتي مرات أبويا اللي استغفلتنا .
إلياس..هدرَ بها مصطفى بوصولِ ميرال إليهما ملقيةً تحيَّةِ المساء :
مساء الخير عمُّو مصطفى ..قالتها وهي تنحني تقبِّلُ رأسه..كانت عيناهُ ثابتة على ابنه، وزَّعت نظراتها بينهما متسائلة:
جيت في وقت مش مناسب، أمشي..
ابتسمَ مصطفى يشيرُ إليها بالجلوس :
لا حبيبتي إنتِ تيجي في أي وقت، دا إلياس كان عايز يعتذِر منِّك بسبب اللي حصل منُّه في المكتب .
جحظت عيناهُ يرمقُ والدهِ بذهول، فهمت ميرال ماينويهِ مصطفى، فالتفَتت تبتسمُ إليه :
لا ياحبيبي مش مستاهلة أنُّه يعتذر، الواحد لمَّا بيغلط بيعتذِر لأن بيكون حسِّ أنُه قليل ذوق، فابيضَّايق من نفسُه وبيعتذِر، أمَّا حضرِة الظابط دي شخصيتُه، شخصية عاملة زي فرعون لمَّا كان بيقول أنا ربُّكُم الأعلى..
تجاهلَ ثرثرتها، ثمَّ هتف:
صوتِك ياأستاذة ميرال لمَّا تضحكي وطِّي صوتِك، الأمن في كلِّ مكان، إحنا مش في مسرح، بلاش شُغلِ المهرِّجين .
أسبلَت عيونها بوميضٍ قائلة :
أنا مش مهرِّجة يا إلياس، أنا مهرجة وعاجبة نفسي مالكش فيه..استدارت إلى مصطفى ثمَّ احتضنت كفَّيه :
عمُّو مصطفى حضرتَك عارف أنا بحبِّك قدِّ إيه، فيه موضوع أتمنَّى توافِق عليه وتقنِع ماما بيه .
ابتعدت بنظرِها عنهُ وهتفت :
أنا اشتريت بيت صغير في آخرِ الشارع دا، خلاص كفاية لحدِّ كدا، وجودي بقى تقيل على بعضِ النَّاس، حتى إنُّهم وصلوا يتِّهموني بأخلاقي..رفعت نظرها إليهِ وترَجَّتهُ بعينيها الدامعة :
من زمان والموضوع في دماغي، بس النهاردة قرَّرت واتَّصلت بمكتبِ العقارات ومن حُسنِ حظِّي خليتُه يشوفلي بيت قريب من هنا علشان أمِّي عارفة إنَّها هاتُرفض، بس لمَّا تعرف هاكون قريبة هاتوافِق..
سقطت كلماتها على مسامعهِ كسقوطِ نيزك، ليستندَ على الطاولةِ مقتربًا منها :
ليه حبيبتي بتقولي كدا، عمرِك ماكنتي تقيلة إنتِ بنتي ياميرال واللي مش عاجبُه يشرب من البحر.
توقَّفت من مكانها وابتسمت قائلة :
حبيبي ياعمُّو مفيش داعي لدا، أنا كنت مقرَّرة مالوش لازمة، من حقِّ حضرِة الظَّابط ياخد راحتُه في بيته، علشان يتجوِّز براحتُه أصلي طلعت عقبتُه..
رمقَ ابنهِ الذي انشغلَ بهاتفهِ دونَ أنَّ يعيرَهُم اهتمام، ثمَّ أردف :
إيه الكلام دا ياإلياس؟..
قاطعته ميرال
-بعد إذنكُم، أنا قرَّرت وخلاص، أتمنَّى تقنِع ماما ياعمُّو، مستحيل أقعُد في البيت دا يوم بعدِ النهاردة…
أخيرًا رفعَ رأسهِ وانصهرَ جمودهِ ليُردفَ ساخرًا :
وهدومِك هاجمَّعهالك وأبعتها متشغليش بالك إنتِ..
زمَّت شفتيها تجيبهُ بملامحٍ جامدة:
شكرًا على خدماتك..قالتها وتحرَّكت سريعًا، ولم تلتفِت خلفها رغمَ مناداةِ مصطفى إليها..
خطواتٍ ظاهرَها ثابتةٍ ولكنَّها متعثِّرة، وكأنَّها تخطو فوقَ سيفٍ مدبَّبٍ ليشحذَ قدميها، هرولت إلى الحديقةِ الخلفيَّة، لتجثو بركبتيها على الأرضيَّةِ تضعُ كفَّيها على صدرها وكأنَّ حجرًا ثقيلًا يُطبِقُ على صدرها،
مع انفجارِ شلَّالِ عينيها، دقائقَ وهي على حالها تسألُ نفسها لماذا من صُغرِها وهو يعامِلُها بذاكَ الجمودِ والقسوة، ذكرياتٍ خلفَ ذكريات، تعبِّرُ عنها عيناها مع ألمٍ حارقٍ كادَ أن يُزهقَ روحها .
عندَ مصطفى وإلياس الذي كانَ يتابعُ تحرُّكِها وابتسامةً ساخرةً على ملامحه، يهتفُ لنفسِه :
بت غبيَّة مفكَّرة نفسها ملكة والكلِّ لازم يقولَّها آمين .
مسحَ بكفَّيهِ على وجههِ في محاولةٍ يائسةٍ لوقوفِ ابنهِ :
مش شايف إنَّك تخطِّيت حدودَك في وجودِ أبوك يا محترم…
إيه اللي حضرتَك بتقولُه دا، حضرتَك مش شايف هايفِتها، أشارَ بكفِّهِ بالتوقُّف :
البنتِ دي لو خرجت من البيت مش عايز أشوفَك قدَّامي…
أحسَّ بقبضةٍ تعتصرُ فؤادِه، رفعَ عينيهِ بخيبةِ أملٍ إليهِ ونظراتٍ تحكي الكثيرَ من الانكسارِ هاتفًا بتردُّد :
كنت متوَقِّع حاجة زي كدا من حضرتك، نصبَ عودهِ متوقِّفًا لا يعلمُ كيف توقَّفَ بذاكَ الشموخَ أمامَ والدهِ بعدما استمعَ لتهديدهِ البائن :
دايمًا الستِّ فريدة وبنتها فوقي، بقيت أشُك إنِّي ابنك أصلًا…
رعشةٌ قويةٌ أصابت جسدُ مصطفى، حتَّى شعرَ بشحوبِ جسدِه، وتثاقلَ لسانهِ عن الحديث، صمتَ ونكسَ رأسهِ للأسفلِ بعدما شعرَ وكأنَّ أحدُهم طوَّقَهُ بطوقٍ من النيران..ظلَّ إلياس يحدُجهُ بنظراتٍ ثابتة، ورغمَ حزنهِ البائن إلَّا أنَّهُ لامَ نفسهِ في فظاظةِ حديثهِ مع والده، فاقتربَ منهُ وجثا أمامَ مقعدهِ يحتضنُ كفَّيه :
آسف عارف قسيت بكلامي مع حضرتك، حقيقي معرفشِ إيه اللي بيحصَل معايا، آسف بابا متزعلشِ منِّي .
رفعَ رأسهِ يتعمَّقُ بعينيهِ :
بتحبِّني ياإلياس؟..طالعهُ مصدومًا من حديثه، فابتسمَ يهزُّ كتفِه :
إيه اللي حضرتَك بتقولُه دا، إنتَ روحي يابابا، ولو طلبت عمري مش هاتأخَّر .
ربتَ على كتفهِ قائلًا :
عايزَك تتجوِّز ميرال..
رانَ صمتًا هادئًا بالمكان، ولكنَّهُ لم يخلو بتعلُّقِ الأعين بالنظرات بينهما، فجأةً أطلقَ ضحكةً صاخبةً متوقفًا يضربُ كفَّيهِ ببعضهما :
بتموت في الهزار يادرش، بس وحياة ابنك بلاش الهزار اللي يُخنُق الواحد دا ..
توقَّفَ مصطفى واقتربَ منهُ يغرزُ عيناهُ بمقلتَيه :
شوف عايز نعمِل الفرح إمتى وأنا موافق، واللي إنتَ عايزُه، عايز تقعد معانا، عايز تقعُد مع مراتَك لوحدك براحتك ..قالها مصطفى وتحرَّكَ من أمامهِ حتَّى لا يناقشهُ بقرارِه .
باليوم التالي بغرفةِ فريدة،
انتهت من قراءةِ وردها اليومي، ثمَّ جلست بالشرفةِ تنظرُ للخارج .
استدارت بعدما شعرت بخطواتِ أحدُهم بالغرفة :
نهضت وتبسَّمَت :
حمدلله على السلامة يامصطفى ..
أومأَ لها ثمَّ قامَ بخلعِ جاكيتَ بدلتِه، اقتربت منهُ تأخذهُ وهي تتعمَّقُ بنظراتها إليه، وضعت كفَّيها على كتفِه :
مُصطفى مالك، فيه حاجة حصلت؟..
جلسَ على المقعدِ يفركُ جبينِه، رفعت كفَّها تخلِّلُ أناملها بخصلاتهِ المختلطةِ بالشعرِ الأبيض :
عندَك صداع ولَّا إيه؟!
تراجعَ بظهرهِ على جسدها، حاوطتهُ بذراعٍ والآخر تُحرِّكها بهدوءٍ كمساجٍ برأسه :
ياحنان إيدك يافريدة، بحسَّها بلسم .
افترت شفتاها ابتسامة :
بتدلَّع يامصطفى، ولَّا بتهرب مني ؟..
اعتدلَ واستدارَ إليها :
عرفتي إلياس طرد ميرال من مكتبهِ مش عايزِك تزعلي، وفيه موضوع طول اليوم بفكَّر فيه .
طالعتهُ بنظراتٍ مستفهمة، احتضنَ كفَّيها يربتُ عليهما :
فريدة أنا قرَّرت أجوِّز ميرال لإلياس، ومش عايز اعتراض .
ضيَّقت عينيها متسائلةً بلهفة :
ليه يامصطفى، علشان راجح ظهر تاني صح؟..
جذبَ رأسها لأحضانهِ بعدما انفجرت عيناها بالدُّموع :
إيه اللي بتقوليه دا، هوَّ أناخايف منُّه علشان أجوِّزها لإلياس !..
تأملَّها بعينينٍ حزينةٍ ونظراتٍ مترجيِّة :
فريدة إلياس عمرُه ماهيتجوِّز لو فضل كدا، عندي أمل في ميرال ..
هبت من مكانها تفرك بكفيها ثم
حانت منها نظرةً ممزوجةً بعيونها المترقرِقة :
هايعذبها يامصطفى، هياخُدها بذنبي، والبنت متستَهلِش معاملتُه الجافَّة، متزعلشِ مني، إنتَ عارف أنا بحبُّه أد إيه، بس عند ميرال مقدرشِ أضحِّي بيها .
أصابهُ الحزنَ فنكسَ رأسهِ للأسفل :
كان عندي أمل فيها، الولد يوم عن يوم قلبُه بيقسى، فكَّرت لمَّا يتجوِّز قلبه يحنِّ ويبعد عن قسوتُه شوية ..
هاجَ قلبها على حالته، جلست بجوارِه :
طيِّب عايزة مؤخَّر كبير علشان مايحاولشِ يطلَّقها..قالتها بابتسامةٍ حزينة…رفعَ رأسهِ يطالعها مذهولًا :
موافقة..هزَّت رأسها تُربتُ على كتفهِ
وأجابتهُ بنبرةٍ واثقة:
ابنَك مش قاسي يامصطفى، هوَّ عايز يفهِّمنا كدا، بس لو قرَّبتِ منه هتلاقي حنِّية الدنيا كلَّها عندُه، المهم مايكرهش البنت، وبلاش انا أظهر في الموضوع
إنتِ اللي بتقولي كدا بعد اللي حصل دا كلُّه!..
اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أفلتتها من بينِ آلامها :
مش هاخبِّي عليك يامصطفى، إلياس أكتر واحد هيقدَر يحافظ على ميرال، رغم جحوده معاها بس جوايا يقين بيقول أنه اكتر واحد هيحميها
لاحت نظراتهِ بتساؤلٍ عن ماتعنيه، نهضت مرتبكةً تفركُ بكفَّيها :
من وقت ما شوفت خبر القبض على ابنِ راجح ، وعرفت إنِّ الولد هايكون تبع أمنِ الدولة، لأنَّها قضية تمسُّ بالأمنِ القومي ..وأنا بفكر في اليوم اللي هقابل فيه راجح، عايز قدر اكتر من إن الولد ميلقوش حد غير إلياس يحقق معاه، مش شايف دي إشارة من ربنا
اهتزَّ جسدهِ يطالعُها بذهول :
فريدة إنتِ ناوية على إيه؟!
استدارت سريعًا وعادَ الوجعُ ينبثقُ من نظراتِ عينيها .
وأنا بأيدي إيه أعمِلُه، تقدَر تقولِّي، لو بإيدي حاجة كنت عملتها من خمس وعشرين سنة يامصطفى، واحدة وحيدة عاجزة وانداس عليها، اتسلَب منَّها كلِّ حاجة، حتى سُمعتها وشرفها، تفتكِر اللي مقدرتِش أعمله زمان هقدر أعمِله دلوقتي، بس أنا منتظرة عدالة ربِّنا واللي متأكدة منها .
زفرة حادَّة مع نظراتٍ مكدَّسة بالعتاب :
أنا مقصَّرتِش يافريدة، حاولت على قدِّ ماقدرت، استخدمت كلِّ نفوذي، بس معرفتِش أوصل لحاجة ، عارف إنك موجوعة، بس معرفش انك لسة شايلة جواكي الوجع دا
انهارت حصونها وبكت بدموعٍ تحرقُ عينيها قبلَ وجنتيها :
أنا عمري مانسيت قهرتي يامصطفى، دول ولدين، وعيشة ذل ووجع، أنا عمري ماهتنازِل عن ميرال يامصطفى، دي حقِّي، حقِّ وجع قلبي..بنتِ قلبي سمعتني اللي خففت وجعه في قهرته
محدِّش يقدَر يقرَّب منها، أنا هاحميها من الكل، حتى لو اتجوِّزت إلياس
بغرفةِ ميرال :
أنهت تبديلَ ثيابها وقضت فرضها،ثمَّ اتَّجهت إلى جهازها المحمول لإنهاءِ بعضَ أعمالها التي تتعلَّقُ بأخبارِ القضايا التي تسعى لمعرفةِ تفاصيلها.. استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة :
أدخل..دلفَ إليها بغرورهِ المعهود،
تطلَّعت إليهِ بذهولٍ فلأوَّلِ مرَّة يأتي إلى غرفتها منذُ سنوات :
هاستنَّاكي تحت، عايز أتكلِّم معاكي .
اتَّجهت إلى جهازها مردفة :
مش فاضية عندي شغل، لمَّا أفضى يبقى أبعتلك..
عقدَ حاجبيهِ بغرور، واقتربَ منها :
إسمعي يابت خُلقي ضيِّق، مش عايز هبل البنات هستناكي تحت، خمس دقايق وتكوني ورايا،
طالعتهُ برفعةِ حاجبٍ قائلة :
خلقك ضيِّق نوسَّعهولَك، أنا مش فاضية، وزي ماقولت لجلالة البيه المغرور لمَّا أفضى يبقى أكلِّمك ..
انحنى بجسدِه قليلًا، وبفظاظتهِ المعهودة :
لمَّا أأمُرِك بحاجة تسيبي كلِّ اللي في إيدِك وتيجي .
اندفعت صارخةً بوجهِه :
إنتَ إيه ياأخي، ماتسيبَك من شويِّة الغرور اللي نافخ نفسك بيهم، اسمعني علشان دا آخر الكلام بينا، إنتَ على بعضك ماتهمِّنيش، ووسوسة شيطانَك أنا مش مسؤولة عنها،
وياله إطلع برَّة سبني أكمِّل شغلي، شكلَك فاضي ومش لاقي حاجة تعملها .
احتقنَ وجههِ بالغضبِ من تلكَ الشرسة، فدنا ينحني بجسدهِ إليها حتى لفحت أنفاسَ غضبهِ وجهها :
-من بكرة مش عايز أشوف وشِّك في البيت دا، ولو فعلًا بنتِ فريدة خلِّيكي متمسِّكة برأيك، بلاش شوية الحوارات ودموع التماسيح اللي قدَّام أبويا، علشان تصعبي عليه، خلِّيكي شاطرة وفاردة عضلاتِك كدا قدَّام الكُل، بدل مابشُفهُمش غير معايا، بلاش خبثِ البنات دا علشان مهما تعملي ماتهزِّيش منِّي شعرة..قالها ونصبَ عودهِ متوقِّفًا :
أغمضت عيونها للحظاتٍ محاولةً تمالكَ أعصابها حتى لا تصفعهُ على وجهه، حاولَ إخفاءِ ابتسامتهِ من تبدُّلِ حالتها الغاضبة، إلَّا أنَّهُ أفلتَ ضحكةً رجوليَّةً قائلًا :
كدا شكلِك عجبني أكتر، كلِّ ماأشوفِك غضبانة كدا بحسِّ بارتياح نفسي .
-لأنَّك مجنون.. قالتها ببساطة، استدارَ للمغادرة وبدأَ يدندنُ بأغنيةٍ أجنبية، أمسكت جهازَ تحكُّمِ التلفازِ الذي يجاورها وألقتهُ برأسه، فاستدارَ إليها متأوهًا وعينيهِ تطلقُ شررًا، اقتربَ منها، فهدرت به قائلة
-هصوت وألم البيت واقولهم بيتهجم عليا، وشوف بقى عمو مصطفى هيعمل ايه..نفرت عروقه وتجهمت ملامحه ، وصل إليها بخطوة
-عايز اللي في الحديقة تحت يسمع صراخك يابنت فريدة، قالها وهو يجذبها من ذراعها، إلَّا أنَّهُ توقَّفَ بدخولِ فريدة قائلة :
ميرال، ولكنَّها توقَّفت مصدومةً من وجودهِ بغرفةِ ابنتها، واقترابه وتمسكه بها بتلك الطريقة، وزَّعت النظرات بينهما متسائلة :
فيه حاجة؟..تحركت ميرال متَّجهةً لوالدتها ويبدو أنها نست ما ترتديهِ من ملابسَ صيفيَّة :
مفيش قالها وتحرَّكَ سريعًا بعدما توقَّفت وظهرت أمامهِ بتلكَ الطَّلةِ التي لأوَّلِ مرَّةٍ يراها بها، سحبتها فريدة وأجلستها على الفراشِ غاضبة :
إزاي تقابلي إلياس كدا، إنتِ اتجننتي ياميرال، مش واخدة بالِك من هدومك، -وهوَّ جاي ليه؟!..
نظرت لنفسها ورغمَ ذهولِها إلَّا أنَّها لوَّحت بكفَّيها متمتمة :
ماأخدتِش بالي ياماما، غير أنُّه دا مايفرقشِ معاه حاجة، يعني حملة فريزر عندنا في البيت .
أفلتت ضحكةً تضربُ كفَّيها ببعضهما ثمَّ رمقتها واستطردت :
حبيبتي ماينفعشِ إنتِ مش صغيرة حرام تقابليه كدا، وبعدين أنا خلاص مابقتش هاتساهِل بشعرك دا، لازم تلبسي حجاب، ولبسِك كلُّه لازم يتغير،
نفخت بضجر، واتَّجهت إلى فراشها :
رجعنا بقى للبسِ الحجاب والبناطيل، ماما مش هاعمِل حاجة مش مقتنعة بيها .
زفرت فريدة بغضبٍ ثمَّ جلست بجوارِها واسترسلت قائلة :
– وأنا كدا مش هارضى عنِّك ياميرال، لأنِّك وعدتيني وأخلفتي وعدِك .
-أوووف ياماما هانرجع نتخانِق تاني بسببِ اللبس، تمام حاضر وعد أفكََر في الموضوع كدا كويس .
توقَّفت فريدة تشيرُ إلى الباب :
إنزلي نتعشى تحت، عمِّك مصطفى عايزِك ..
قطبت جبينها متسائلة :
– عايزني أنا ليه؟!..تذكَّرت ما قالتهُ لهُ منذُ ساعات، فأومأت متباعدة :
هوَّ قال لحضرتِك حاجة ..هزَّت رأسها بالنفي واستدارت :
– لا، ياله إنزلي متتأخريش ..قالتها وفرَّت هاربة حتى لا تنفلتَ الكلماتَ من بينِ شفتيها، هي تعلمُ بقساوةِ إلياس ورغمَ ذلكَ تشعرُ بداخلهِ حنانًا يفيضُ العالم، وافقت مصطفى على ارتباطِ إلياس بابنتها لتحافظَ عليها من تقلُّباتِ القدر، رغمَ تيقُنِها بعدمِ أمومتها لها، ولكن كيفَ ستقنعُ قلبها بالابتعادِ عنها، أحبَّتها وتعلَّقت بها لتشعرَ أنَّها فلذةِ كبدِها وابنةِ روحها .
بعدَ فترةٍ تجمَّعَ الجميعُ على طاولةِ العشاء، كانت تنظرُ بصحنِها دونَ النظرِ إلى ذاكَ الذي يقابلها وعلى وجههِ ابتسامة حمقاء لا تعلمُ ماهيتها همست لنفسها :
نفسي أضربَك على وشَّك أوقَّعلك سنانك دي، دنت غادة تهمسُ إليها :
مالِك ياميرو، بتكلِّمي نفسِك ليه؟!..
رفعت عينيها فتقابلت بعينيهِ الصقريَّة، ونظراتهِ التي تحملُ الكثيرَ من الوعيد، كانَ هناكَ من يراقبُ تلكَ النَّظرات،
رمقتها بنظرةٍ تشيرُ إلى إلياس :
هاقوم أطيَّر سنانُه اللي فرحان بيهم .
أفلتت غادة ضحكةً صاخبةً بينهم إلى أن قطعَ مصطفى حديثهم قائلًا :
أنا اتَّفقت مع فريدة هانكتِب كتبِ كتاب إلياس على ميرال يوم الجمعة .
ألقت مابفمها دفعةً واحدةً بوجهِ غادة..التي صرخت بها :
إيه دا ياميرال..
جحظت عيناها تنظرُ إلى مصطفى متسائلة :
ميرال مين وإلياس مين؟!..لكزتها غادة تشيرُ بعينيها لذاكَ الذي ينفثُ سيجارَتهِ ببرود..
فنهضت كالمجنونة :
حضرتَك قصدك أتجوِّز ابنك اليأس دا، زمَّ شفتيهِ مستمتعًا بجنانها بعدَ معرفتها ..ضحكت غادة تردُّ على والدها :
أعذرها، دي من فرحتها بتلخبط في اسمه، دلوقتي هتقولُه صح مش كدا يامريولة…
جزَّت على أسنانها تنظرُ لذاكَ المتعجرفِ :
لا، هو اليأس بذاته، وبعدين أنا مش موافقة، إزاي عايز تجوِّزني أبو الهول دا، يعني بعدِ السنين دي ماتجوِّزشِ غير ابنك الباير؟!..
1
ضحكَ الجميعُ على حديثها إلَّا ذاكَ الذي يرمقها بنظراتٍ مبهمة وهو ينفث سجائره بهدوء مميت، ورغمَ بركانهِ الداخلي، إلَّا أنَّهُ ابتسمَ قائلًا :
ماهو الباير كان مستنِّي البايرة تكبر .
ضربت قدميها بالأرضِ ودفعت المقعدَ متَّجهةً إليهِ كالفريسة :
اسمعني ياعمو اليأس إنتَ، أنا مستحيل أتجوِّز واحد زيَّك، وبعدين ترضى تتجوِّز واحدة غصب عنها؟..
1
نفثَ سيجارتهِ وغمزَ بعينيهِ لأوَّلِ مرَّةٍ مبتسمًا :
أه، هاخليكي تحبِّيني، قالها وتوقَّفَ يشيرُ إلى والدِه :
أنا موافق أتجوِّز الأمورة..قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان ..هرولت خلفِه :
نظرت فريدة إلى مصطفى متسائلة :
ماتوقعتِش إلياس يوافق بسرعة كدا، إنتَ قولت له حاجة، أوعى تكون ضغطت عليه..ربتَ على كفِّها :
ودا موضوع ينفع أضغط فيه يافريدة، أنا قولتلُه وهوَّ قالِّي هافكَّر، ودلوقتي لقيتُه موافق مكُنتِش أعرف حتَّى رأيه..قالها وتحرَّكَ إلى مكتبهِ قائلًا :
خليهُم يجبولي قهوتي، عندي شويِّة شغل مش عايز إزعاج..
ظلَّت تلاحقهُ بنظراتها إلى أن أغلقَ بابَ مكتبه، استدارت على صوتِ إسلام :
مش فاهم حضرتِك معترضة يعني على أبيه إلياس ولَّا إيه ؟..
هزَّت رأسها بالنفي ورسمت ابتسامة مردِّدة :
أبدًا حبيبي مش عايزة بابا يضغط عليه، هوَّ من حقُّه يختار شريكة حياتُه..
طيِّب وميرال ياماما فريدة مش من حقَّها تختار شريك حياتها، ليه غصبتوا عليها؟!.. هكذا سألتها غادة .
توقَّفت ومازالت تبتسم :
ومين قالِّك إن ميرال رافضة إلياس ياغادة، قالتها وهربت من أمامهم بعدما شعرت بالعجزِ عن الردِّ على أسئلتهم .
بالخارجِ عند سيارتهِ صرخت به :
أنا مستحيل أوافق على الجوازة دي سمعتني..استدارَ إليها وهنا ثارت جيوشَ غضبهِ وعنفوانهِ الكارهِ لها، فقبضَ على ذراعيها بقوَّة، وهناكَ نظراتٍ كالطَّلقاتِ الناريَّة يريدُ أن يلقيها صريعًا يهمس بفحيح افعى :
-ولا أنا عارفة ليه، لأنِّي بكرهِك، روحي للستِّ الوالدة وافهمي منها ليه عايزة تجوِّزنا بعض، قالها وهو يدفعها بقوَّةٍ ثمَّ اتَّجهَ لسيارتهِ وقادها بسرعةٍ جنونيَّةٍ، وحديثُ والدهِ يخترقُ آذانه :
قدَّامك حل من الاتنين، ياتتجوِّز ميرال وتحميها من أي حد حتى نفسك، ياأما تنسى إنِّ ليك أب، سمعتني ولَّا لأ
وقبلِ ماتجاوب، ميرال ليها عم بيدَّور عليهم وعايز يوصلَّهم بأي طريقة، ووقتها لو عمَّها وصلِّها وعرف ياخدها مش هاسامحك ياإلياس، مش بعد اللي فريدة عملتُه معايا يكون جزاتها أحرمها من بنتها الوحيدة .
طالعَ والدهِ وأفلتَ ضحكةً ساخرة :
يعني علشان الستِّ فريدة، تجوِّز ابنك غصب عنه …اقتربَ منهُ والدهِ وعينيهِ تحاوطهُ بنظراتٍ غاضبة :
-لا، علشان ميرال دي بنتي، أخدتها وهيَّ بنت شهور، ولو إنتَ ناسي أنا فاكر البنتِ دي كانت بتقولِّي يابابا، أمَّها ضحِّت بنفسها علشانك، إيه ياحضرة الظابط نسيت فريدة عملت إيه معاك؟..
ركلَ المقعدَ حتى سقطَ على الأرضيَّة واستطردَ غاضبًا :
ولو كنت أعرف هاعيش بسببها كنت اتمنِّيت الموت أفضل من إنِّي أعيش على أفضالِ الستِّ فريدة ..
-ولد تأدَّب!!.. إنتَ نسيت اللي بتتكلِّم عنها دي مراتي، وفي مقام أمَّك..غرزَ عينيهِ التي تحوَّلَ لونها لخيوطٍ حمراء بعينِ والدهِ وأردفَ بهسيس :
ماليش غير أم واحدة ماتت قدَّام عيوني وإنتَ في حضنِ الستِّ فريدة الكذَّابة المخادعة..
لطمة قوية على وجههِ حتى توقَّفَ مذعورًا ينظرُ لوالدهِ بعتاب، لأوَّلِ مرَّة يرفعُ يدهِ عليه..تراجعَ للخلفِ وتجمَّعت عبراتهِ تحتَ أهدابهِ ليستديرَ مغادرًا المكانَ بأكملِه؛
وذكريات السنوات تمر أمام عينيه كشريط سينمائي،
خرجَ من شرودهِ على اتصالِ صديقه :
إلياس ليه نقلت سجنِ الواد بتاع الخليَّة، توقَّفَ بسيارتهِ بمكانٍ هادئٍ أمامَ النيل :
إجراءات أمنيَّة ياشريف، لازم نعرَف مين بيموِّل العيال دي، وأه بالنسبة لهيثم الشافعي أنقلوه سجنِ الجنايات، قضيِّتُه مش عندنا ..قالها وأغلقَ هاتفهِ دونَ حديثٍ آخر…
اتَّجهَ بنظراتهِ للنيلِ وذكرياتٍ متألِّمة تعصفُ به :
فلاش :
قبلَ عشرِ سنواتٍ كلَّفَ أحدًا من فريقِ أمنهِ قائلًا :
فيه إسم عايزَك تكشِف عنُّه يامحمود، من غير ماحدِّ يعرف .
اتفضَّل ياباشا أي خدمة، ابعتلي التفاصيل وأنا هاعرَفلك كلِّ حاجة ..أخرجَ بطاقةَ فريدة الحقيقيِّة وقامَ بإملائهِ بمعلوماتها الشخصيَّة .
عدَّةِ أيامٍ وهاتَفهُ الذي كلَّفهُ بالبحثِ عن حقيقتها :
أيوة ياباشا، جبتلك الأخبار اللي إنتَ عايزها .
توقَّفَ بالسيارةِ على جانبِ الطريق يستمعُ إليه :
مافيش حدِّ في السويس في المكان دا باسمِ جمال الدين، بس فيه جمال الشافعي، ولُه أخ اسمُه راجح الشافعي، جمال مات في حادثةِ بحر، ومراتُه اتجوَّزِت أخوه بس هربت منُّه بعد ماعرف إنَّها على علاقة براجل تاني، غير أنَّها كان عندها طفلين من جوزها الأولاني واتخلِّت عنُّهم، فيه اللي بيقول علشان تتخلَّص منهم وتعيش حياتها وفيه اللي بيقول باعتهم علشان الفلوس، بس معظم الناس قالت حاجات قريبة من كدا، إلا ستِّ وحيدة اللي قالت إن أخو جوزها راجح دا كان مفتري واتجوِّزها تحتِ تهديد، ومراتُه هي اللي خطفت ولادها ….
أه وكمان فيه بيقول علشان تنتقم من أخو جوزها علشان رفض يطلَّق مراته الأولى فخطَفِت بنته وهربت بيها، وهوَّ دوَّر عليها في كلِّ مكان، لحدِّ مافقد الأمل .
شعرَ وكأنَّ أحدهُم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلَّج، حتى شحبَ وجههِ بالكامل، وحديثُ والدهِ يتردَّدُ بأذُنه :
كذبتي عليَّا يافريدة، استغفلتيني..تلك الكلمات استمع اليها صدفة بطفولته بعد عقد قرانه على فريدة، تلصص الطفل الذي يبلغ من العمر عشر سنوات على كلمات والده وهو يصرخ بها
-ازاي عرفتي توقعيني كدا، انا مصطفى السيوفي حتى بنت زيك تضحك عليا..فاق من شروده بانفاسه المتسارعة
كوَّرَ قبضتهِ ونفرت عروقهِ وهو يستمعُ إلى تكملةِ حديثِ الرجلِ عن أخلاقها،
صمتًا مقتولًا.. مرّّ عليهِ وكأنّّ أحدَهم وضعَ السيفَ على عنقهِ ليشعرَ بعدمِ ابتلاعِ ريقه، فاقَ على صوتِ الرجل :
فيه حاجة يإلياس باشا تانية ولَّا كدا تمام؟..
عايز تاريخ راجح دا كلُّه، تعرفلي كلِّ حاجة عن حياتُه يامحمود، كلِّ حاجة مش عايز غلطة، إتأكِّد من كلِّ معلومة .
أومأَ لهُ ثمَّ استرسلَ قائلًا :
جبتلَك من غير ماتقول، كنت عارف إنَّك هاتُطلبُه، دا كان ظابط شرطة بس تقاعد بعد هروبِ مراته، فيه اللي قال سمعتها ضرِّت شغله، وفيه اللي قال علشان يتولَّى شغلِ أخوه، عندُه ولدين وبنت، ولد من مراتُه الأولى أصله اتجوِّز تلات مرات، واحدة جابتلُه ولد ودي معنديش معلومات عنها كتير، غير أنَّها اتجوِّزت واحد بعدُه وهربت بابنها علشان ماياخدوش بعد مايعرَف بجوازها، والتانية دي بتكون بنتِ عمِّ فريدة اللي حضرتَك طلبتها، معاها وولدين غير البنت اللي فريدة خطفتها، واحد في كلية تجارة، والتاني ثانوي عام، والستِّ دي فاتحة مستحضرات تجميل بالسويس .
خرجَ من ذكرياتهِ متراجعًا بجسدهِ يهمسُ لنفسه :
هاشوف أخرتها معاكي يامدام فريدة .
بمكانٍ آخرٍ بالقاهرة :
استيقظَ من نومهِ على صوتِ الخادمة :
دكتور آدم، زين بيه منتظِر حضرتَك تحت ..
طيِّب شوية ونازل..قالها وهو يعتدلُ على فراشهِ يمسحُ على وجهه، ثمَّ اتَّجهَ ينظرُ بساعته، ناهضًا من فوقِ فراشه .
هبطَ للأسفلِ يبحثُ عن والده، قابلهُ أخيه :
أدخُل لبابا المكتب عايزَك..دقَّقَ النظرَ بملامحهِ متسائلًا :
مالَك يابني..تحرَّكَ بعدما حملَ أشيائه :
عندي محاضرة اتأخَّرت سلام ..راقبهُ إلى أن خرجَ من البوابة .
دلفَ لوالدهِ الغرفة، أشارَ إليهِ بالجلوس: صباح الخير ..
أومأَ لهُ دونَ حديث..جلسَ مبتسمًا ثمّّ هتف :
أكيد الموضوع يُخص إيلين بنتِ عمِّتو مش كدا؟..
فكرت في اللي طلبته منك، عايزَك تتجوزِّها ياآدم، البنت أمانة عندي، وصيِّة عمِّتَك ياحبيبي، وزي مااطَّمنِت على مريم عايز أطَّمن عليها .
موافق يابابا، بس لازم تعرف حاجة مهمَّة ..طالعهُ منتظرًا حديثه،
نكسَ رأسهِ للأسفلِ مردفًا :
أنا متجوَّز في ألمانيا، اتعرَّفت على بنت هناك، هبّّ زين منتفضًا وهدرَ بصوتٍ مرتفع :
إنتَ بتقول إيه، إنتَ اتجنِّنت!..
بابا لو سمحت..رفعَ يديهِ يشيرُ إليهِ بغضبٍ اندلعَ من حدقتيه :
البنت دي ولا كأنَّك شوفتها ولا عرفتها، وتطلَّقها وإيَّاك حد يعرَف بالمصيبة دي ..قالها وخرجَ للخارج كالمطارَد..جلسَ آدم على المقعدِ محتضنًا رأسهِ يشعرُ بألمٍ يفتكُ برأسه.
بعدَ فترةٍ جلست بجوارِ خالها بعدما أصرَّ على وجودِ الجميعَ على طاولةِ طعامِ الإفطار..
استمعت إلى خطواتهِ فاهتزَّ قلبها وكأنَّهُ يخطو فوقَه..ألقى تحيَّةَ الصباح ثمَّ جلسَ بجوارِ صديقه :
صباح الخير، ياااه من زمن ماشُفتِش الأكل دا، وشمِّيت الريحة الحلوة دي..
طالعهُ والدهِ مسترسلًا وهو يشيرُ إلى التجمُّع :
ولا من اللمَّة دي، قالها بمغذى ..قاطعت حديثهِ سهام زوجةُ والدِ إيلين :
مش مهم ياحجِّ زين، المهم أنُّه كان عايش مبسوط، ورجعلنا بالدكتوراة .
رمقها زين بنظرةٍ صامتة، ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى محمود والد إيلين :
ساكت ليه يامحمود؟..
هزَّ كتفهِ قائلًا :
هاقول إيه يازين، المهم أنا مسافر شغل في الغردقة وممكن أغيب تلاتة شهور، خلِّي بالَك من البنات .
تراجعَ زين بجسدهِ وحدجهُ بنظراتٍ غاضبة :
وبعدين من سفرياتك اللي كترت يامحمود، أنا اتَّفقت معاك امبارح مفيش سفر غير لمَّا نجوِّز إيلين وآدم .
هنا رفعت رأسها، وطالعت خالَها وأردفت بوجع :
وأنا مش موافقة ياخالو، حضرتَك سألتني من فترة وأنا رفضت، ليه ترجَع تتكلِّم تاني .
نظر زين إلى آدم الذي حمحمَ معتذرًا :
بعد إذنَك ياعمُّو محمود، ممكن أتكلِّم مع إيلين شوية؟..
رمقَ ابنتهِ الغاضبة، ثمَّ رجعَ بنظراتهِ إليه :
ومالُه يادكتور، أهي بنتِ عمِّتك .
اتَّجهَ إلى جلوسها وسحبَ كفَّها :
تعالي نتكلِّم شويَّة مع بعض .
سحبت كفيها سريعًا حينما شعرت وكأن كفيه ماسًا كهربائيًا
-مفيش بينا كلام يادكتور، انا قولت اللي عندي، مش هتجوز دلوقتي
هزت سهام ساقيها تطالعها بخبث:
-ليه شايفة واحد احسن من الدكتور، ماهو طول الليل مش مبطلة وشوشة التليفونات دي
-سهام ألزمي حدك، ثم رفع عيناه إلى محمود والد إيلين مردفًا بعتاب:
-أنا بناتي مربيهم كويس يامحمود، قول لمراتك تلزم حدودها، إلا الشرف
توقفت ترمق زوجها واردفت موبخة إياه:
-أنا الوحشة دلوقتي علشان بقول الحق، شوف بنتك ماشية على حل شعرها وخالها عاجبه
-اخرصي..قالها زين بصوت مرتفع، توقفت مريم تحتضن اختها التي انسابت عبراتها على صمت والدها، سحب آدم كفيها ووزع نظراته يصيح بالجميع
-إيلين من اللحظة دي تخصني واللي يحاول يزعلها بكلمة مش هسكتله..قالها وسحبها متحركًا للخارج
بإحدى الأحياءِ الراقيَّة دلفَ بسيارتهِ
فورد فوكس الزرقاء إلى حديقةِ منزلهِ الواسعة، أغلقَ مُشغِّلَ صوتِ الأغاني وترجلَّ يلقي مفاتيحها للأمن، وصلَ إلى البابِ الإلكتروني للمنزلِ الذي فُتحَ عندَ دلوفه، دلَف للداخلِ وجدَ والدتهِ تجلسُ بجوارِ أختهِ التي تبلغُ من العمرِ عشرينَ عامًا، هبَّت من مكانها :
أبيه أرسلان وصل، قالتها وهي تهرولُ إليه، رفعها يدورُ بها :
ملوكة حبيبة أخوها، تشبَّثت بعنقهِ تقبِّلُ وجنتيه :
وحشتني أوي ياأبيه وكنت هازعل منَّك لو ماحضَرتِش عيد ميلادي .
حاوطها بذراعيهِ متحرِّكًا لوالدته، انحنى يطبعُ قبلةً فوقَ رأسها :
وحشتيني مدام الدراملِّي باشا..استدارت للجهةِ الأخرى قائلةً بتذمُّر :
ماتكلِّمنيش، روح لعمَّك جاي عندنا ليه، قبَّلَ كفَّيها :
أقدَر برضو صفيَّة خانم، دا أنا بحبِّك أكتر من حبِّ فاروق .
لا والله..قالها والدهِ الذي دلفَ يرمقهُ غاضبًا :
إيه ياأستاذ ماكنتِش ناوي تيجي ولَّا إيه؟..
-لأ..قالها هو يضحك ثمَّ استرسلَ قائلًا :
حضرِتَك مخاصمني، ينفع حدِّ يروح لحد مخاصمُه من غير مايصالحُه؟!..
-وإيه اللي جابك ياسيادةِ المقموص؟..
جاي أحضر عيد ميلاد ملوكة وهارجع مقموص تاني ..
لكزتهُ والدتهِ بخفَّة :
هاتفضل طول عمرك كدا، يابني حرام عليك بتوحشني ، قبل رأسها
-ست الكل تؤمر بس إنما فاروقو لا
-قوم تعالَ عايزك ..وضعَ رأسهِ على كتفِ والدتهِ وتمتم :
-تدفع كام وأنا أجيلَك..كتمت ملك ضحكاتها..رمقها والدها قائلًا :
عجبِك كلامه أوي، توقَّفت متَّجهةً لوالدها، خلاص يابابي علشان خاطري، ثمَّ اتَّجهت لأخيها :
الصراحة مابضحكشِ غير وهوَّ هنا..
فتحَ ذراعيه :
تعالي في حضنِ أخوكي ياروح أخوكي إنتِ..هزَّ فاروق رأسهِ وتحرَّكَ إلى مكتبهِ قائلًا :
مستنيك ياعمِّ الفيلسوف …رفعَ رأسَ أختهِ من أحضانه :
هاشوف الملك فاروق وراجعلك، قبل مايوزع جنوده لاستعمار البلد، وبعد كدا ننزل نشتري أجمل هدية لأجمل ملوكة …صفَّقت بيديها مثلَ الأطفال :
أحلى أبيه أرسلان في الدنيا، دمغها بقبلةٍ حنونةٍ ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى والده .
استدارت ملك لوالدتها :
يارب بابي مايتخنقِشِ معاه علشان الشغل ..شردت بدخولهِ عندَ زوجها، وهيَ تعلمُ ماذا سيحدثُ بالداخل..
بالداخلِ جلسَ أمامَ والده :
خير ياباشا؟!
بكرة في اجتماع لرؤساءِ الأقسام في الشركة …عايزك بكرة تكون على رأسِ المجموعة …
تنهيدةً عميقةً بنظراتٍ صامتةٍ للحظاتٍ حتى توقَّفَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى نافذةِ الشرفةِ ينظرُ للخارج متمتمًا:
-حضرتك عارف رأيي في الموضوع دا، ليه مُصِّر، أنا مش بتاع اجتماعات يابابا لو سمحت، عجبنِي شغلي ..
اللي هوَّ إيه ياأرسلان ؟..
التفتَ برأسهِ مدعيًّا عدمَ الفهم، نهضَ فاروق من مكانهِ واتَّجهَ إلى وقوفه :
بتعمل إيه إنتَ وإسحاق ياأرسلان، وإيَّاك تكذب على أبوك، أصلِ شُغلِ الصالات الرياضيَّة دا مش داخل دماغي بربعِ جنيه…رفعَ حاجبهِ مستنكرًا حديثه :
-ماهو لازم مايدخُلشِ دماغك، لأن الربعِ جنيه انقرض ياوالدي ..
ابتسمَ ساخرًا ثمَّ رفعَ كفِّهِ يربتُ على كتفه :
أبوك ماعجِّزشِ وعارف كلِّ نفس إنتَ بتتنفسه، بس كنت أتمنَّى تيجي وتحكيلي لوحدك…
تراجعَ بجسدهِ يستندُ على النافذةِ عاقدًا ذراعيه :
من شابهَ أباهُ فما ظلم يافاروق باشا، انحنى يغرزُ عينيهِ في مقلتيه :
أكبر رجل مخابرات تاريخَك كلُّه عندي..
استدارَ فاروق ضاحكًا :
-عمَّك البغل اللي قالَّك؟..
-ولو يافاروق باشا، وقع ملفَّك قدَّامي بالصدفة .
توقَّفَ مستديرًا يرمقهُ بصمت، ثمَّ اتَّجهَ إلى مقعده :
إنتَ تعرف لو اتكشفت إيه اللي هايحصل..هزَّ كتفهِ للأعلى قائلًا :
ولا يفرِق معايا حاجة، ابنك مش قليل برضو ..قطعَ حديثهما رنينَ هاتفه :
صقر منزل دكتور بهاء الدين تحت المراقبة لازم توصل للجهاز .
تمام …قالها وأغلقَ الهاتفَ وهمَّ بالمغادرة إلَّا أنَّ والدهِ أوقفه :
رايح فين، عمَّك اللي كان بيتكلِّم؟..
أومأَ لهُ ونظرَ بساعته :
بابا لازم أتحرَّك حالًا..صاحَ غاضبًا :
استنى عندك، رايح فين؟..
بابا عندي مهمة لازم أتحرَّك، ساعة بالكتير وهاكون هنا علشان عيد ميلاد ملوكة..بعد إذنك قالها وتحرَّكَ سريعًا من أمامه …
وصلَ بعد قليلٍ لتلكَ الفيلَّا، توقَّفَ أمام البوابةِ الخارجيَّة يطالعها لدقائق حينما عجز لدخولها، اضطر لبعض خططه فصاح على الرجل:
-عايز أقابل دكتور بهاء الدين .
اقتربَ منهُ المسؤولِ الأمني :
– عندَك ميعاد؟..
قولُّه دكتور حمدي الجامعي .
-آسف يادكتور، ماعنديش إخباريَّة بوجود حضرتك، ترجلَّ من سيارتهِ يوزِّعُ أنظارهِ على ذاكَ المكانِ الذى يوجدُ بهِ يعج ب رجالٍ من الأمن، كانَ على تواصلٍ مع إسحاق عن طريقِ جهازه :
لحظاتٍ واستمعَ إلى حالةِ هرجٍ ومرجٍ داخلَ الحديقة، استدارَ الأمنُ للسيطرة على الوضع..صاحَ إسحاق عبرَ جهازه :
إرجع ياأرسلان، ماتُدخلشِ الفيلا..أغلقَ جهازهِ وتسلَّلَ من بينِ الطلقاتِ الناريَّة بينَ المقتحمين وأمنِ المنزل،
دقائقَ ووصلَ إلى غرفةِ العالمِ المقصود،
رفعَ يديهِ أمامه :
ماتخافش أنا ظابط، قالها وهو يُخرجُ له بطاقته، هدأَ الرجلُ قليلًا، يشيرُ إلى جهازه :
الجهاز، دول جايين علشان الجهاز، نظرَ من خلفِ الستائرِ على الوضعِ الأمني بالاسفل، ثمَّ اتَّجهَ إلى العالمِ قائلًا :
لازم نتحرَّك من هنا يادكتور لو سمحت، قالها وهو يسحبهُ بجهازهِ للخارج، ولكنَّ هناكَ من عرقلَ تحرُّكهِ ليقفَ عاجزًا عندما وجدَ أحدهم يضعُ السلاحَ برأسِ العالم قائلًا :
أترُك مابيدكَ حتى تُنقذَ رأسك .
نظرَ بكافَّةِ الاتجاهات، لحظاتٍ قليلةٍ وهو يبحثُ عن مخرج، إلى أن لمحَ ذاكَ التمثالَ الذي بجوارِ العالم، ثانية اثنتان ثلاثة وهو يخرجُ سلاحهِ مع ركلتهِ لذاكَ التمثال، ليطفئَ الأضواءَ بالكاملِ عن الغرفة، مغادرًا المكانَ وهو يسحبُ ذاكَ العالمَ إلى أن وصلَ إلى سيارتهِ بالخارج، استقلَّ السيارة لعدَّةِ أمتارٍ ولكنَّهُ توقَّفَ فجأةً حينما توقَّفت تلكَ السيارة المصفَّحة أمامهِ لتصطدمَ بسيارته .
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ بمنزلِ فاروق الجارحي، اتصالات عديدة ليصلَ إليه، دلفت ابنتهِ بدموعها :
لسة ماوصلشٍ يابابي؟..
كيفَ يهدِّئها وبداخلهِ نيرانٍ تقنعهُ بأنَّ ابنهِ أصابهُ مكروهًا، خرجَ متَّجهًا إلى سيارته، دقائقَ ووصلَ إلى منزلِ أخيه .
صاحَ بصوتٍ صاخبٍ اهتزَّت لهُ أرجاءَ المنزل :
إسحاااق…صاحَ بها فاروق .
خرجَ من مكتبهِ يطالعهُ بألمٍ انبثقَ من عينيه :
صدَّقني مقوِّم الجهاز كلُّه إن شاءالله خلال ساعات وهايظهر، إنتَ مش تايه عنُّه .
أشارّ بسبباتهِ هادرًا بتهديد :
ابني خلال ساعتين بس لو مظهرشِ هاقتلَك، علشان حذَّرتك كتير، وإنتَ ماسمعتِش الكلام… قالها وغادرَ المكان..
بمكانٍ في ضواحي القاهرة ..فتحَ عينيهِ يلتفتُ حوله، متذكِّرًا ماصار، كوَّرَ قبضتهِ بغضب :
غبي أرسلان، إزاي توقع في خطأ تافه زي دا، لازم تفكَّر بسرعة ..
دلفَ أحدُ الرجالِ العمالقة مع شخصٍ تظهرُ عليهِ الهيبة متسائلًا :
من أنتَ ولما كنتَ في منزلِ الدكتور؟!..
مطَّ شفتيه وضحكَ ساخرًا :
كنت بتفسَّح، إيه عندك مانع؟..ركلهُ الرجلَ الآخرَ بضهره، فنهضَ من مكانه، يطبقُ على عنقهِ وتحوَّلت عيناهُ لخيوطٍ حمراء .
هاكسرلَك رجلك لو حاولت تعملها تاني، اقتربَ من الآخرِ يزيحهُ بقوَّة :
أأنتَ ظابط؟..
رمقهُ بنظرةٍ ساخرة :
لا بلعب بلياتشو..أخرجَ مافي جيبهِ فوضعَ الرجلُ السلاحَ على رأسه :
ماهذا أيها الغبي، رفعَ أحدَ الحلويات يشيرُ إليه :
تشكوليت علشان أتحكِّم في أعصابي قبلِ ماأموِّتك إنتَ وهوَّ …استمعوا إلى أصواتِ طلقاتٍ ناريَّة بالخارج :
حاولَ الرجلُ الانقضاضَ عليهِ ولكنَّهُ كانَ الأسرع حينما جذبَ سلاحهِ يضعهُ برأسِ رئيسه :
هاتقرَّب هاموِّتُه، إرجع ورا يالا، جاي بلدي تحطِّ عينك في عيني بكلِّ بجاحة …
دقائق واختفى كلَّ شيئ، خرجَ من ذاكَ المنزلِ يزفرُ بغضبٍ بعدما نظرَ بساعتهِ التي تعدَّت الثالثة فجرًا ..قابلهُ إسحاق على بابِ المنزل ..توقَّفَ يطالعهُ مذهولًا :
إيه اللي جابك، هرولَ إليهِ يجذبهُ لأحضانه :
رعبتني خوف يامتخلِّف، إيه يالا.. إزاي توقع كدا؟!..
تراجعَ يدقِّقُ النظرَ بعينيه، ثمَّ غمز :
خُفت عليَّا إسحاقو..جذبهُ من ذراعهِ وأجابهُ ممتعضًا :
تعالَ يامتخلِّف، أبوك موَّلَّع الدنيا وحالف ليقتلني .
أشعلَ سيجارة والتفتَ إلى إسحاق :
أهو يريَّحني منَّك، وآخُد نفس شويَّة .
قهقهَ إسحاق عليهِ متمتمًا:
طول عمرَك حلُّوف يابنِ أخويا ..انحنى بجسدهِ ينظرُ لمقلتيه :
-إحلِف …
ضيَّقَ إسحاق عينيهِ قائلًا :
-أحلِف بإيه ..أشارَ على نفسه :
أنا حلُّوف ..ضربهُ على رأسهِ بخفَّة :
دا وقت هزار يالا ..
تحرَّكَت السيارة بهما فاستدارَ أرسلان إليه :
غلط ياعمُّو اللي عملتُه دا، مهما كان اللي يحصل، مكنشِ ينفع تيجي بنفسك .
تجهَّمت ملامحهِ بالحزنِ قائلًا :
استنى لحدِّ مايجيبوك جثَّة ياأرسلان، فداك عمَّك وكلِّ مايملك ياحبيبي
حانت منهُ التفاتة إليهِ قائلًا :
ماتحرمشِ منَّك حبيبي بس برضو أتمنَّى ماتعملشِ كدا تاني ياعمو لو سمحت..اه الدكتور فين
-للأسف مش موجود، والجهاز كمان تبخر..نقر على باب السيارة واردف بشرود
-مش هيخرج من مصر، ولو خرج هنعرف نوصله..ربت اسحاق على كتفه
-كويس انك شغلت الساعة ليه وقفتها
هز رأسه بالنفي
-ماوقفتهاش، ممكن جهاز التفتيش بتاعهم، بس كويس أنها متبرمجة بالدقائق
هز رأسه مستنكرًا حديثه:
-دول ٥ ساعات ياارسلان، كنت هتجنن فيهم
قهقه عليه، فهم الآخر مايدور بخالده
-اه عاقل يابن اخويا، بس شوية الجنان بتبقى معاك بس
بفيلَّا السيوفي :
تململت بنومها، ففتحت عيناها، وكأنها تشعر بأحدهم بالغرفة، هبت من مكانها بعدما وجدته جالسًا بالظلام ولم يظهر سوى عيناه الصفرية، ابتلعت ريقها بصعوبة تتمتم اسمه
بغرفة فريدة بعد خروج زوجها لصلاة الفجر، نهضت لقضاء فرض ربها، توقفت بعدما استمعت إلى إشعارِ رسالة بهاتفها، فتحت الرسالة، لتهوى على الفراشِ وهي تقرأها لمراتٍ عديدة :
“ميرال راجح الشافعي”..اهلا مدام فريدة الشافعي
دقَّاتٍ عنيفة مع انسيابِ عبراتها كالشلالِ تشعرُ وكأنَّ جدرانَ الغرفة تطبقُ على صدرها
يتبع….
سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة الثالثة
وصلَ إلى مكانٍ ما بالحديقة وجلس، يشيرُ إليها :
أقعدي ياإيلين لازم نتكلِّم .
جلست دونَ حديث…ظلَّ الصمتُ بالمكان سيدَ الموقف إلى أن حمحمَ قائلًا :
زعلانة مني ليه، من وقت ما رجعت وإنتِ واخدة مني موقف .
ذهبت ببصرها لنقطةٍ وهميَّةٍ وأجابته:
وأنا هزعل منَّك ليه يابنِ خالي، كلِّ الحكاية الدراسة بدأت ومشغولة .
استدارَ إليها بجسدهِ متعمِّقًا بالنظرِ إليها :
يعني مش زعلانة..هنا رفعت عينيها الزيتونية وهتفت بخفوت :
إنتَ عملت فيَّا حاجة علشان أزعل منَّك ؟!..قالتها وعيناها تحتضنُ عينيه .
حمحمَ مبتعدًا يهزُّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ تحدَّثَ قائلًا :
ليه مش موافقة على ارتباطنا ؟..
وليه أوافق؟!
استدارَ إليها مرَّةً أخرى وعينيهِ تخترقُ عيناها :
وليه رفضتيني، فيه حد بحياتِك؟..
افترت شفتاها بسمةً ساخرة، ودقَّاتِ عنيفة بصدرها قائلة :
حد في حياتي، مش شايف الكلمة صعبة على إيلين يادكتور ..
تنَّهدَ بقلَّةِ حيلة متمتمًا :
حقِّك ياإيلين تحبِّي وتنحبي، علشان كدا بسألِك عن سببِ الرفض .
أطبقت على جفنيها وكتمت صرخاتها بداخلها، تحدِّثُ نفسها :
كيف لا تشعرَ بدقَّاتِ قلبي التي تدقُّ بعنفوانٍ بوجودك، آه ياقلبٌ حُكِمَ عليك بالأنين، لقد قتلني شوقي، ومزَّقني حنيني لشخصٍ لم يشعر بك..آه وآه ..
أفاقها حديثِه :
إيلين..قالها وهو يجذبُ كفَّيها يحتضنها بين راحتيهِ لتشعرَ برعشةٍ عنيفةٍ تسري بعمودها الفقري، طالعتهُ بأعينٍ مرتجفةٍ ونبضاتٍ تخترقُ قلبها الضعيف لتهمسَ بشفتينٍ مرتعشتين :
آدم سيب إيدي..احتضنت النظراتُ بين بعضها البعض، ليردفَ بصوتهِ الأجشَّ الرخيم :
إيلين أنا عايز أتجوِّزك، إدِّيني فرصة نقرَّب من بعض، مش يمكن تحبِّيني..
ابتعدت عنه حينما شعرت بانهيارِ دوافعها بحضرته، حنانُ صوتهِ الذي وقعَ على مسامعها كصوتِ كروانٍ يسبِّحُ الله، لمسَ وجنتها بإصبعه، ومازال يفرضُ سيطرتهِ عليها، بصوتهِ الرجولي الرخيم الذي جعلها تقسمُ بداخلها أنَّهُ الأحبَ إلى مسامعها ..مرَّر إبهامهِ على وجنتيها يرسمها بعينيهِ البنيَّة التي تشبهُ لونَ القهوة قائلًا بابتسامتهِ العذبة :
كبرتي واحلويتي أوي ياإيلي..تورَّدت وجنتاها تبتعدُ برأسها عن لمساته وباغتته قائلة :
ومين لسَّة صغير ياآدم، إنتَ كمان كبرت ماشاء الله.
قهقهَ عليها مازحًا :
بس مش حلو زيِك..
إحمرََّ وجهها حتى شعرت بإنبثاع الحرارة منه، نظرت للأسفلِ تفركُ بكفَّيها، وحاولت لملمةَ شتاتِ نفسها متسائلة:
كنت عايز إيه؟..
نسيتي بالسرعة دي؟!..
ابتلعت ريقها بصعوبة مردِّدةً بصوتٍ متقطِّع :
مش فاهمة برضو !..
توقَّفَ يضعُ كفَّيهِ بجيبِ بنطالهِ وعينيهِ مازالت تحتضنها :
إيه يادكتورة، يعني المفروض تبقي أذكى من كدا …توقَّفت بمقابلتهِ وطالعتهُ متسائلةً بعينيها قبلَ شفتيها؟..
ليه ياآدم…قطبَ جبينهِ مستفسرًا عن معنى سؤالها؟!
مش فاهم تقصدي إيه؟!..
طافت عيناها بالمكانِ حولها تبتعدُ عن نظراتهِ التي اعتبرتها جريئة :
ليه عايز تتجوزني؟!
ثَقُلَت أنفاسهِ، فالحديثُ معها شاقًا، تركَ مايؤرقُ خواطرهِ واقتربَ يبسطُ كفَّيهِ إليها..نظرت لكفَّيهِ ثم لعينيهِ مستفسرة :
مش فاهمة، دي مش إجابة؟..
انحنى يجذبها من رسغها لتقتربَ منه، ثمَّ حاوطها بذراعيه :
إلينو..أنا كبرت وعايز أكوِّن أسرة، ومش هالاقي أحسن منِّك اكمِّل حياتي معاه
رفعت رأسها لتقتربَ من عينيه :
دا سبب يخلِّيني أوافق عليك..نزلَ برأسهِ ينظرُ لقربها وهناكَ ماأشعرهُ بخفقةٍ لذيذةٍ راقت له، ليبتسمَ وهو يضغطُ على أكتافها يقرِّبها إليهِ أكثر :
حاجات كتير ياإلينو، أولها إنِّك أوِّل دقِّة قلب، نسيتي؟..لو نسيتي أنا فاكر كلِّ حاجة ..
ابتعدت عنهُ ونظراتهِ تحاصرها ثمََّ أردفت :
علشان عرفتني أوَّل ماجيت، علشان كدا كنت بتطَّمِن عليَّا طول السنين دي، مش كدا ولَّا إيه ياأبو أوَّل دقِّة قلب ..قالتها وهمَّت بالمغادرة، إلَّا أنَّهُ جذبها بقوةٍ لتصبحَ بأحضانهِ يهمسُ لها :
إيلين أنا خلقي ضيَّق هانتجوِّز حتى لو غصب عنِّك يابنتِ عمِّتي، لأنِّي مش هاتجوِّز غيرك، فياريت تقنعي قلبك وعقلك دا لو مش مقتنعين بيَّا أصلًا .
ارتجفَ جسدها من أنفاسهِ التي ضربت وجهها، وارتخت ساقيها لتفقدَ الحركة، حتى شعرت بالعجزِ من ابتعاده، تلعثمت بالكلام :
آدم إبعد..إنتَ ماسكني كدا ليه؟..إبعد .
أمالَ بجسدهِ عندما راقَ لهُ خجلها، ليهمسَ بجوارِ أذنها :
مش هاسيبِك لمَّا توافقي الأوَّل،
آدم إبعد بقى ..ضغطَ على خصرها أكثر لتنهارَ كلَّ حصونها تهزُّ رأسها :
موافقة موافقة..وسَّع بقى .
لم يدع لها الابتعاد لينحني ويطبعُ قبلةً فوقَ جبينها :
مبروك ياإلينو…دفعتهُ بقوةٍ بعدما شعرت بسخونةِ شفتيهِ فوقَ جبينها وهرولت لمنزلها بسيقانٍ تكادُ تحملنها، دفعت بابَ غرفتها لتهوى على فراشها تضعُ كفَّيها فوقَ صدرها الذي يقذفُ بنبضاتهِ القوية.. دقائقَ وهي تسحبُ أنفاسًا بطيئة لانتظامِ تنفسها .
استمعت إلى طرقٍ على بابِ غرفتها، ثمَّ دلفت مريم أختها :
أدخل ولَّا أرجع؟..أشارت لها بالدخول دونَ حديث..دلفت وهي تطالُعها بابتسامةٍ قائلة :
شكل حبيب القلب تأثيرُه عال العال..أخفت وجهها بين كفَّيها تهمسُ بتقطُّع :
بيضعِفني يامريم، ماعرفشِ ليه كده، أنا مضايقة من نفسي أوي، ليه بضعف وبكون زي الطفلة اللي محتاجة حضنِ أبوها..
مسحت أختها على ظهرها مبتسمة :
دا الحب ياقلبي، علشان بتحبيه .
أزاحت كفَّيها عن وجهها تطالعُ أختها بعيونٍ مترقرقة:
بحبُّه أوي يامريم أوي، وكأنِّ ربنا جمع حبِّ العاشقين كلُّهم وحطُّه في قلبي.
ضمَّتها مريم مبتسمة:
إنتِ تستاهلي ياإيلين، تستاهلي الحب كلُّه حبيبتي، والظاهر آدم كمان لسة بيحبِّك .
أزالت عبراتها تخرجُ من أحضانِ أختها :
قلبي موجوع منُّه يامريم، إزاي السنين دي كلَّها ماحاولشِ ولا مرَّة يسأل عليَّا، إزاي قدر يعيش وينسى الحب اللي كان مابينا؟..
احتوت وجهها بين راحتيها تنظرُ بمقلتيها مستطردة :
حبيبتي ماتنسيش كنتي في ثانوية، يمكن ماكانش عايز يشغلِك، ويمكن ظروفُه ماكنتش تسمح، المهم أنُّه رجع وطلب يتجوِّزِك…
ظروف!!.. قالتها مستنكرة وهي تقطبُ جبينها ،تراجعت بجسدها بعيدًا عن أحضانها :
ظروف مايتِّصلشِ بيَّا بعد وفاة ماما، ظروف تمنعه يطَّمِن عليَّا وأنا محجوزة أربع شهور بالمستشفى، إيه، ولا مرَّة اتصل بخالو وعرَّفه أنا تعبانة، نسي ارتباطي بأمي، ماوصلوش خبر جواز أبويا، دا كلُّه ماكانشِ ينفع يطَّمن على البنت اللي قالها بحبِّك قبل مايسافر، البنت اللي سرق قلبها وكلِّ آمالها أنُّه يرجع ويطِّمنها ويقولَّها متخافيش أنا موجود، وفي الآخر جاي يوقف قدَّامي ويقول مين دي …
امتلأت عيناها بطوفانِ الوجع عن طريقِ دموعها التي أصبحت كالشلال، لتقتربَ منها أختها تضمُّها بحنان:
حبيبتي المهم أنُّه رجع وعايز يتجوِّزك، دا دليل أنُّه لسة بيحبِّك…
نهضت من مكانها تهزُّ رأسها:
خايفة يكون خالو هوَّ اللي غصبُه، هازعل أوي يامريم، مش عايزة أتصدم مش عايزة أكرهه، أنا ضايعة خايفة أفضل مصرِّة على رأيي ويطلع بيحبِّني بجد، وأرجع أندم وخايفة أوافق وأفوق على كابوس…
توقَّفت مريم بمقابلتها واقتربت تمسِّدُ على خصلاتها :
لا، حبيبتي آدم مش من النوع اللي يتغصب على جوازه .
أومال ليه كان رافض في الأوِّل يامريم، نسيتي قال إيه أول ماوصل؟..
قالتها مقهورة تهزُّ رأسها بشهقاتٍ مرتفعة .
تنهيدة عميقة من جوفِ آلامها تنظرُ لأختها بآلامٍ تنبثقُ من عينيها متمتمة:
يمكن وجودِك قريبة منُّه خلال الشهر دا قوِّم مشاعره وافتكر الماضي دا لو كان نسيه أصلًا ..
مسحت على وجهها بعنف :
مش عارفة حقيقي مش عارفة ومش قادرة آخد قرار…لازم أهدى وأشوف إيه اللي هايحصل الأيام دي.
عندَ آدم بعد تحرِّكها، جلسَ على المقعدِ وزفرةً حارقةً من جوفه:
وبعدين ياآدم ذنبها إيه إيلين تعيش معاها وقلبك مع غيرها .
مسحَ على وجههِ بعنفٍ حتى شعرَ باقتلاعِ جلدهِ وتنهيداتٍ بوخزاتٍ واحدة خلفَ الأخرى مما أشعرتهُ بألمٍ في صدره:
ياترى ياإيلين لسة عايشة على مشاعرنا القديمة ولَّا قلبك اتحرَّك لحد تاني …أفاقَهُ من شرودهِ صوتَ والدهِ،
نظرَ حولهِ يلتفتُ باحثًا عن إيلين فتساءل :
فين إيلين؟..
أشار بعينيهِ على منزلها قائلًا :
مشيت ..جلسَ والدهِ بجوارهِ متسائلًا:
ليه مشيت لسة مصرِّة على كلامها؟..
استدارَ ينظرُ لوالده:
بابا ليه عمُّو محمود إتجوِّز سهام، تراجعَ زين مستندًا على المقعدِ واستطردَ:
محمود طلع متجوِّز من قبلِ ماعمِّتَك تموت، ودا اللي وجع البنات وطبعًا إيلين ماتقبِّلتشِ سهام واعتبرت إنِّ أبوها خان مامتها، ومن هنا المشكلة بدأت..سهام طبعًا مش طايقة إيلين وطلَّعت عليها إنَّها مريضة نفسية، وطبعًا البنت حالتها اتدمَّرت بسبب إشاعات سهام في البلد، لدرجة البنت أخدت شقة جنب كلِّيتها واستقرِّت فيها، بس سهام ماسكتتش وفضلت توِّز في جوز عمِّتك أنها ماشية على حلِّ شعرها وكلام كتير، لحد ما محمود جابها غصب عنها وعاشت معاهم، وأنا تدخَّلت وقولتله مالوش دعوة بيها هاتعيش معايا..بس البنت رفضت وقالت هاتفضَل في بيت أبوها، وكلِّ يوم سهام منكِّدة عليها زي ماسمعت كدا على الفطار .
اتقدَّ الغضبُ ليتجلَّى بمحيَّاه، ليهدرَ بغضب:
إزاي جوز عمتي يسمح لواحدة زي دي تتكلِّم عن بنته، والله لأطيِّن عيشتها الحيوانة…
بصفتَك إيه ياآدم …إنتَ تعرف كان متقدِّملها واحد جزَّار وكانوا موافقين، لولا أنا قولت أنا ربطت كلمة مع نورة قبل ماتموت إن إيلين هاتكون لآدم، مش دا كان كلامك قبل ماتسافر يادكتور ؟..
نكسَ رأسهِ آسفًا وردَّدَ بتقطُّع :
آسف يابابا، بس قلبي مش عليه حكم، اتعلَّقت بواحدة هناك، البنت ممتازة وعجبتني جدًا، غير أنها ساعدتني كتير، وعرَّفتني بشخصيات مهمَّة ساعدوني على منحي الجنسية الألمانية اللي قبلي بسنين ماعرفوش ياخدوها، غير شغلي في الجامعة هناك، الصراحة مقدرشِ أبعد عنها بعد دا كلُّه، ولولا إصرارك على نزولي دلوقتي مكُنتش هاسبها في الوقت دا، لأنها بتحضَّر دكتوراه هيَّ كمان .تننهد زين قائلاً بلوم:
ليه يابني تعمل كدا، يعني تتجوِّز واحدة وتواعد واحدة، إنتَ تعرف كام عريس اتقدِّم لإيلين وهيَّ ترفض علشان وعدك، غير متأكِّد إن البنت بتحبَّك .
سحبَ نفسًا عميقًا ثمَّ لفظهُ على مهل، يطبقُ على جفنيه :
بابا مش هاقدر أتجوِّز إيلين وحياتنا تكون طبيعية زي أي اتنين متجوزين، لازم أقولَّها وهيَّ تختار .
ضربَ زين بعصاه الأبنوسية الأرضَ ناهرًا إيَّاه :
أنا البنت اللي هناك مش معترِف بيها يادكتور، وبنت عمِّتك هاتتجوزها وهتِّم جوازك منها وعايز أحفاد أكيد فاهم كلامي، أما البنت الأجنبية دي أنا مش معترف بيها…استطرد موضحًا:
هيَّ مش أجنبية يابابا، دي مغربية بس مستقرة هناك.
أشارَ محذِّرًا إيَّاه:
حتَّى لو مصرية، الكلام خلص يادكتور، أنا مش هاحاسبك بجوازك من غير معرفتي، في مقابل تتجوِّز بنت عمتك، دي وصية منها آخر كلام قالته لي، آدم يتجوِّز إيلين يازين دي وصيتي الوحيدة.
نهضَ من مكانهِ مردفًا:
خالو كلِّمني وقالِّي عامل حفلة علشان هيولِّي رحيل إدارة الشركات .
أومأَ له قائلًا:
هتحضَر الحفلة أنا ماليش دماغ للحفلات..
طالعهُ والدهِ متسائلًا:
هاتستلِم شغلك إمتى؟..
يوم واحد في الشهر إن شاءالله، جامعة عين شمس، واحتمال كبير أدَّرس إيلين، لسة مش أكيد.
توقَّفَ زين مبتسمًا، يربتُ على كتفه:
أتمنَّى كدا، وصيِّتَك إيلين ياآدم لو أبوك حصلُّه حاجة هسألك عليها…
-متقولشِ كدا يابابا، ربنا يباركلنا في عمرك يارب..
بفيلَّا فاروق الجارحي:
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ استيقظَ على صوتِ هاتفه:
رسلان إنتَ لسة نايم!..
اعتدلَ يعدِّلُ خصلاتهِ من فوقِ جبينه، متسائلًا بصوتهِ الناعس:
صباح الخير ياعمُّو..
صباح الورد حبيب عمَّك، فوق وصلِّي وتعالَ على بيتي عايزك ضروري.
قطبَ جبينهِ متسائلًا:
فيه حاجة ولَّا إيه ؟!
أيوة لمَّا تيجي هاتعرف، وعلى فكرة عمِّتَك فخرية هنا وطمطم الظريفة…
ابتسمَ أرسلان وتحدَّثَ مشاكسًا:
البت عسل بنتِ اللذينة.
فوق يالا مش عايز دوشة ومرارة حلق على الصبح.
هبطَ من فوقِ فراشهِ وتحرَّكَ إلى غرفةِ ثيابه:
ساعة وأكون عندك، صفيَّة الدراملِّي مخصماني من إمبارِح علشان عيد ميلاد ملوكة.
طب مستنيك ياحليتها، فوقلي كدا وصالح بنتِ الدرامَلِّي بدل ماتقيم عليك الحد.
– إسحاقو، أمِّي أنا بس اللي بدلَّعها، وياله أخدت من وقتي الثمين.
-قصدَك السمين ياديك البراري، وندبحوك ونوزَّعوك..قهقه ارسلان مازحًا:
-لحمي عسل خايف عليك ياإسحاقو.
قهقهَ عليهِ قائلًا:
ولا، مستنيك ربعِ ساعة وتكون عندي..
ههه ومالَك جاي على نفسك كدا كتير خليها خمس دقايق، باي.
دلفَ لمرحاضهِ وخرجَ بعدَ دقائقَ معدودة، متَّجهًا للأسفلِ بعدما قضى فرضَ ربه..وصلَ لتجمُّعِهم على طاولةِ الطعام، انحنى يقبِّلُ رأسَ والدته:
صباحو صفية الدرامَلِّي..
دفعتهُ وأدارت رأسها للجهةِ الأخرى، استدارَ إليها:
صفصف الحلوة مخصماني، طيِّب أدعي على نفسي يارب ياأرسلان يابنِ صفية الدرامَلِّي يخبطَك صاروخ..وضعت كفَّها على فمهِ تلكزُه:
أسكت يارسلان كدا هازعل منَّك أكتر، ربنا يباركلي فيك ياحبيبي..قبَّلَ كفَّيها:
ويباركلي فيكِ ياستِّ الكُل ..التفتَ إلى والدهِ الذي يرتشفُ قهوتهِ ويقرأ الجريدة:
صباحو فاروقو..
صباح الزفت على دماغك..قالها وهو يلقي الجريدة بوجهه:
إنتَ ناوي تموِّتني يابني، حرام عليك إيه اللي مكتوب دا!..
حانت منهُ التفاتة لوالدتهِ ثمَّ رسمَ ابتسامة:
إيه يافاروقو باشا، مالَك زعلان ليه، أيكونشِ حضني وحشك…
هبَّ من مكانهِ وهدرَ بصوتٍ مرتفع:
إفطَر والحقني على الشركة، إيَّاك تتأخَّر..قالها وتحرَّك.
التفتَ لوالدته:
مزعِّلة فاروق ليه ياصفية، يعني أنتوا تتخانقوا وتحطُّوا همُّكم فينا..
توقَّفَ فاروق واستدارَ إليهِ وجدهُ يرتشفُ قهوتهِ غامزًا بطرفِ عينه:
دمَّك ياباشا، الست عايزة الكلمة الحنيِّنة، مش كدا ياصافي؟..
برقت عيناهُ بنيرانٍ تطلقُ إليهِ سهامًا، مع ضحكاتِ صفية وملك عليهما، رفعَ فنجانُ قهوتهِ لوالده:
تشرب قهوة، طعمها حلو تاخد رشفة…
صفية ..صاحَ بها وهو يرمقهُ قائلًا:
ابنِك لو مسمعشِ الكلام ..نهضَ مقاطعًا له:
هاتحرمني من الميراث، وأنا مش أبوك، فاروق إحنا في القرنِ الخمسين، يعني شغلِ الأبيض والأسود دا تضحك بيهم على عيِّل بيلعب في الطين، مش حليوة زيي..
اااااه..صرخَ بها وتحرَّكَ وهو يسبُّه.
باقي الحلقه الثالثه
جلسَ بمكانهِ ينظرُ إلى أختهِ يلوِّحُ بيديه:
منشكحة إنتي وفرحانة، هزَّت رأسها ضاحكة:
جدًّا ياأبيه، فوق ماتتخيَّل.
برزت ابتسامتهِ الماكرة يغمزُ إليها:
حلوة الهديَّة علشان كدا فرحانة وبعتي أبوكِ اللي عايز ينفخني ويطيَّرني.
قهقهت بصوتها الناعم:
جدًا، ميرسي بجد ياأبيه، عجبتني جدًا، ماتحرمشِ منَّك. بس ايه القرن 50 دي
كانت صامتة توزِّعُ نظراتها بينهما، تدعو من الله أن يديمَ محبَّتهم، قاطعت حديثهما:
رسلان إفطر وروح الشركة ماتزعَّلشِ باباك حبيبي..
نهضَ من مكانهِ وهو يرتشفُ آخرَ مافي فنجانِ قهوته:
عندي ميعاد مهم ياماما، أخلص وأعدِّي عليه …سلام ياملوكة قالها وهو يطبعُ قبلةً على وجنتيها…
بفيلَّا السيوفي:
قبلَ عدَّةِ ساعاتٍ استيقظت على صوتِ أذانِ الفجر:
“الصلاةُ خيرٌ منَ النوم”..اعتدلت توقِظُ زوجها:
مصطفى الفجر..بعدَ قليلٍ أنهت صلاتها وجلست تذكرُ ربَّها لبعضِ الوقت، ثمَّ اتَّجهت إلى فراشها، ومازال لسانها يردد الذكر حتى غفت …استمعت إلى إشعارِ هاتفها:
“ميرال راجح الشافعي”
هبَّت من نومها تستغفرُ ربَّها تنظرُ حولها وجدت نفسها غفت بمكانها بعدما أنهت صلاتها ..نظرت لهاتفها ورعشة أصابت جسدها، تبتلعُ ريقها بصعوبة، وكأنَّ هناكَ ما يطوِّقُها بطوقٍ من نيران، ارتجفَ جسدها بدخولِ زوجها يردِّدُ الاستغفار:
صباح الخير حبيبتي..لم ترُّد عليهِ أو بمعنى أصَّح كانت بملكوتها، جلسَ بعدما خلعَ جاكيتهِ الشتوي:
هنام ساعة بس يافريدة وتصحِّيني، علشان عندي اجتماع مهم في الوزارة،هيختاروا وزير الداخلية بعدِ يومين وفيه قلق..قالها وهو يستديرُ إلى فراشه، توقَّفَ حينما وجدها مازالت على وضعها، اقتربَ منها يلكزها بخفَّة:
فريدة..هبَّت فزعة من مكانها وتكوَّرت دموعها تحتَ أهدابها:
مصطفى شوف حد بعتلي أي رسائل كدا..انكمشت ملامحِه، متسائلًا باستنكار:
رسايل إيه الفجر يافريدة، إنتِ تعبانة ولَّا إيه…طالعتهُ بأعينٍ مشتَّتة وقلبها ينزفُ بأنينٍ دونَ دماء، لم يعلم ما الذي أصابها، فاقتربَ منها يجذِبُها لأحضانه، يردِّدُ بعضَ آياتِ الذكرِ الحكيم إلى أن غفت. عندَ إلياس عادَ إلى منزلهِ بعدَ قضاءِ صلاةِ الفجر، دلفَ إلى غرفتهِ وهوى فوقَ فراشهِ بثيابهِ ونظراتهِ على سقفِ الغرفة، وذكرياتِ الماضي تصفعهُ بقوَّة، أطبقَ على جفنيهِ متذكِّرًا تلكَ الأيامِ التي أصابتهُ بعدمِ رغبتهِ للحياة.
فلاش باك قبلَ خمسةٍ وعشرينَ عامًا:
دلفَ مصطفى بجوارِ زوجتهِ التي تُدعى غادة، نهضَ من بينِ ألعابه:
بابي اتأخرت ليه ..انحنى يضمُّهُ بقوَّةٍ لأحضانه:
وحشتني حبيب بابي، عامل إيه..
نظرَ لوالدتهِ وهرولَ إليها:
مامي وحشتيني ..انحنت تطبعُ قبلةً على جبينه، ثمَّ أشارت إلى فريدة بالدخول:
أدخلي مدام فريدة..
دلفت بخطواتٍ بطيئة تكادُ ساقيها تحملها، طالعها يهزُّ كتفهِ متسائلًا:
مين أنطي ياماما ..أشارت إلى مربيته:
خدي إلياس طلَّعيه أوضتُه ياضحى، وشرَّبيه اللبن قبلِ ماينام.
تشبَّث بذراعها:
مامي لو سمحتي مش عايز أنام دلوقتي، تحرَّكَ إلى فريدة بعدما استمعَ إلى بكاءِ الطفلة:
البيبي بيبكي ياأنطي…استدعت غادة الخادمة:
جهِّزي أوضة لمدام فريدة ترتاح فيها، ارتفعت صيحاتُ الطفلة تأنُّ جوعًا، فاستدارت متلعثمة:
عايزة حاجة للبنت تاكلها..أشارت غادة إلى مربيِّة إلياس:
خدي البنت اهتمي بيها ياضحى، عندي هدوم بيبي فوق خلِّي عزة تجبه وغيَّري ليها..ضمَّتها فريدة متراجعة:
لا، ماحدِّش هياخد بنتي منِّي ..ربتت غادة على ظهرها:
ماتخافيش، هيَّ هتأكِّلها وتهتم بيها، إنتِ مش هتقدري في حالتك دي.
هزَّت رأسها بالرفض، تشيرُ إليها:
أنا ههتم ببنتي ماحدِّش هيقدَر ياخدها منِّي، أنتوا عايزين تاخدوها وترجَّعوها صح ..خرجَ مصطفى من غرفةِ مكتبهِ بعدما استمعَ إلى تصريحاتها فأشارَ للخادمة بالانصراف ثمَّ اقتربَ من فريدة وحملَ الطفلة بعدما رفضت، حاولَ تهدئتها:
ممكن تهدي، إنتِ شوفتي أهو، دي مراتي ودا ابني والبيت من برة مكتوب عليه ظابط يعني مش تجَّار أعضاء، ممكن تسترخي وترتاحي علشان الجرح اللي في راسك.
سحبتها غادة بعدما تحرَّكَ مصطفى بالطفلة، وأعطاها للمربِّية قائلًا:
أكِّليها وهاتيها لوالدتها، ثمَّ أشارَ إلى غادة بالدخولِ إلى الغرفة.
كانَ يقفُ بمكانهِ يتابعُ مايحدثُ بصمت، إلى أن استدارَ إليهِ والده:
حبيبي واقف كدا ليه؟..
أنطي تقربلنا يابابا..ضمَّهُ مصطفى بعدما جلسَ على عقبيهِ أمامه:
لا يابا دي ست أنا خبَطَّها بالعربية، وهيَّ مالهاش حد خالص وكان فيه مجرمين بيجروا وراها علشان يخطفوا بنتها.
توسَّعت أعينِ الطفلِ شاهقًا يضعُ كفِّهِ الصغير على فمه:
اللص يابابي كان عايز يخطف البيبي وياخدُه بعيد زي الكرتون…
داعبَ خصلاتهِ ثمَّ طبعَ قبلةً على وجنتيه:
أيوة يابابي، ممكن بقى نروح ننام علشان عندنا School الصبح..
حاوطَ عنقَ والدهِ وقبَّلهُ وتحرَّكَ للأعلى سريعًا، دلفَ إلى غرفته، ولكنَّهُ استمعَ الى صوتِ الطفلة بجوارِ غرفته، تحرَّكَ إليها، دلفَ مستئذنًا:
ممكن أدخل ياانطي؟..
استدارت ضحى إليه:
تعالَ حبيبي، تعالَ شوف القمر دا، تحرَّكَ إلى أن وصلَ إليها، ظلَّ ينظرُ إليها وضعَ كفِّهِ الصغير على أذنهِ من صراخها مردِّدًا:
هيَّ بتصرخ كدا ليه، سكِّتيها ياأنطي.
بعدَ دقائقَ معدودة كانت تحملها وتُطعمُها وهو جالسًا بجوارها، بسطَ كفَّيهِ وأمسكَ يديها، ضمَّت إصبعهِ الصغير حولَ يديها الصغيرة، أطلقَ ضحكةً عفويةً بريئة، ثمَّ أمالَ بجسدهِ يقبِّلُ يديها:
حلوة أوي ..مسَّدت المربية على شعره:
عجبتك ياإلياس؟..
نهضَ من مكانهِ يطالعها بعيونهِ البريئة مردِّدًا:
أوي أوي ياأنطي، شكلها كيوتي، ممكن أشلها؟..
لا ياحبيبي لسة صغيرة، لمَّا تكبر شويَّة.
غفت الطفلة بعد إرضاعها، دفعت فريدة البابَ تسألُ عليها بلهفة:
بنتي فين..توقَّفت المربية وهي تحملها:
أكَّلتها وغيرتلها ونامت. ماتخافيش..استدارت تضعها على مهدٍ صغير..فتحرَّكت فريدة إليها:
لا أنا هخدها معايا وكدا كدا همشي الصبح قالتها وهي تحملها بأحضانها.
أمسكَ إلياس ردائها:
أنطي سبيها هنا بليز وأنا هخد بالي منها، قاطعهم دلوفَ غادة:
إلياس ياله حبيبي على أوضتك، الوقت اتأخَّر ..هرولَ إلى والدته:
أنا شوفت البيبي يامامي، خلِّي طنط تسبها هنا وأنا هاسكِّتها لو عيِّطِت، علشان اللص هيسرقها
جلست بمستواه ثمَّ أشارت على فريدة:
طنط فريدة خايفة عليها، هنسبها الليلة مع مامتها وبكرة إلياسو لمَّا يرجع من المدرسة هيسكِّت البيبي إيه رأيك…
استدارَ الصغيرُ وهو يطالعُ فريدة التي تنظرُ إليهِ بدموعٍ مترقرقة:
طنط ماتخافيش عليها هارجع من School وأسكِّتها مع أنطي ضحى، صح أنطي ضحى…
أومأت لهُ المربية بابتسامة، التفتَ لوالدتهِ وطبعَ قبلةً على وجنتيها:
Good night mom
قالها الصغير وتحرَّكَ لغرفته.
فاقَ من ذكرياتهِ المؤلمة على صوتِ ضحكاتها بالخارجِ مع غادة..اعتدلَ على فراشهِ يستمعُ إلى كلامهم:
هنام ساعتين عندي انترفيو مهم بس يارب ماتروح عليَّا نومة، وماما شكلها تعبان ومش عايزة أصحيها.
ربتت غادة على كتفها:
هصحيكي أنا، ماتقلقيش أنا هذاكر شوية، ولو نمت هأكِّد على إسلام ماتخافيش.
أفلتت ضحكة تضربُ كفَّيها ببعضهما.
يبقى كدا ضمنت الرفض، ياله ياماما روحي نامي دا إنتِ بتنامي وإحنا بنصلِّي.
تحرَّكت غادة وهي تضحكُ متَّجهةً لغرفتها قائلة:
كنت هصحيكي بس إنتِ مش وش نعمة..قالتها ودلفت غرفتها.
تحرَّكَت ميرال إلى غرفتها التي تقابلُ جناحِه، ألقت نظرة على بابهِ ولا تعلمَ لماذا تذكَّرَت دلوفهِ منذُ قليل حينما هبطت لإعدادِ فنجانِ قهوتها، دلفت لغرفتها تتنهَّدُ بحزن، متذكِّرةً حديثهِ عن والدتها، قامت بخلعِ ملابسَ الصلاةِ ثمَّ اتَّجهت إلى فراشها وألقت نفسها لتغطَّ بنومٍ عميق، بعد عدَّةِ ساعات تململت بنومها على أصابعِ أحدهما على وجهها، ابتسمت تهمس:
غادة أسكتي عايزة أنام شوية..انحنى يهمسُ لها بصوتهِ الرخيم:
قومي يامراتي البايرة عندك انترفيو..فتحت عينيها وأغلقتها ظنًّا أنها تحلم، تراجعَ بجسدهِ على المقعدِ يطالِعُها بملامحً مبهمة، غفت مرَّةً أخرى فأردفَ قائلًا:
اتأخَّرتي ياعروسة، هنا فتحت عينيها مرَّةً أخرى مستديرةً برأسها، تنظرُ للذي يجلسُ على المقعدِ بجوارِ فراشها ويطالعها بأعينٍ خارقة:
هبَّت من مكانها وصاحت به؛
إنتَ بتعمل إيه هنا !!
ظلَّ كما هو مشبكًا أصابعهِ، اعتدلت تجمعُ خصلاتها المتشرِّدة على وجهها ثمَّ اقتربت منهُ تصيحُ بوجهه:
إنتَ إزاي تدخل عليَّا وأنا نايمة، إيه قلِّة الذوق دي..
نهضَ من مكانهِ بعدما توقَّفت ثمَّ أردف:
جاي أصحِّي مراتي علشان شغلها، مطلبتيش من غادة إنَّها تصحِّيكي..التفتَ سريعًا يرمقها بنظرةٍ ساخرةٍ قائلًا:
مش أولى إنِّ جوزِك هوَّ اللي تطلُبي منه كدا…
ثارت جيوشُ غضبها مقتربةً منهُ كالذي مسَّها مسًا جنونيًا هادرةً بعنف:
مرات مين إن شاءالله، أنا مستحيل أوافق عليك لو كنت آخر راجل، اطلع برَّة أوضتي وإيَّاك تقرَّب منِّي تاني، مش معنى إنِّي ساكتة هاتسوق فيها.
دنا منها فتراجعت للخلفِ حتى هوت على الفراش، انحنى يحاصرُها بذراعه :
كلمة كمان ماتلوميش غير نفسك يابايرة، هتوافقي على الجواز ومش بس كدا، هاتبيِّنلُهم إنِّك بتموتي فيَّا كمان .
جحظت عيناها ففتحت فاهها للحديث، إلَّا أنَّهُ رمقها بنظرةٍ حينها شعرت بتوهُّجٍ ناريٍّ من عينيه، يريدُ من خلالها أن يحرقها حيَّة..ابتلعت ريقها بصعوبة وقالت بصوتٍ خافت :
إلياس إنتَ ليه بتعمل معايا كدا، أنا عملت فيك إيه؟..من زمان نفسي أسألَك السؤال دا…
نظرَ إليها بقسوةٍ تبعثها عينيه يضعُ إصبعهِ برأسها :
لأنِّك بت غبية وتستهالي المعاملة دي، ثمَّ تابعَ بهدوءٍ مهينٍ لشخصها :
وإيه بعاملِك وحش دي، إنتِ مصدَّقة نفسِك علشان أحطِّك في دماغي، لا…فوقي واعرفي قدرِ نفسك، أنا إلياس السيوفي، مش حتِّة بنت مجنونة تشغل بالي علشان أفكَّر فيها إزاي أعاملها، جوازنا لمصالح شخصية، علشان الستِّ فريدة تفضل في البيت دا هتوافقي وتعملي زي مابقولِّك .
قست عيناها واعتدلت سريعًا تصرخُ بوجههِ ولم تكترث لنظراتهِ التهديدية :
اسمع يابتاع إنتَ أنا زهقت منَّك ومن غرورك المقرِف دا ..وإنتَ إذا كنت بتكرهني أنا كمان..وضعَ كفَّهِ على فمها يجذبها من خصرها بقوَّةٍ لتصطدمَ بجسده، ثمَّ أمالَ يهمسُ بجوارِ أذنها بأنفاسهِ الحارقة :
عيب تغلطي في جوزِك ياميرو، أعاقبِك ياقلبي، اتلَّمي على الصبح، دلوقتي إجهزي علشان أوصَّلِك لشغلك .
قالها وتحرَّكَ دونَ حديثٍ آخر .
بعدَ فترة:
توقَّفَ أمامَ المرآةِ ينثرُ عطرِه، ثمَّ ارتدى ساعتهِ وتحرَّكَ للخارج، هبطَ الدرجَ مع خروجها من غرفتها، توقَّفَ مستديرًا إليها
صباح الخير يامراتي..
تحرَّكَت من جوارهِ تسُبُّه:
دا في أحلامك إن شاءالله، وضعَ قدمهِ أمامها، كادت أن تقعَ على وجهها لولا ذراعيهِ التي تلقَّاها بها، رفعت رأسها تسبُّه:
إيه اللي بتعمله دا عايز توقَّعني وتكسرني، حاوطَ جسدها يرمقها بنظراتٍ متفحصة على جسدها بالكامل قائلاً:
بعد كدا أنا هاجبلِك هدومِك اللي تخرجي بيها، أنا راجل دمُّه حر.
حاولت التَّملُصَ من قبضته:
وسَّع كدا إنتَ ماطلعتِش بارد بس..لا دا إنتَ مجنون، ضغطَ بأصابعهِ على خصرها فأطلقت شهقة متألمة، فركلتهُ بساقهِ ليتراجعَ متزحزحًا:
واحد مجنون..قالتها وتحرَّكت سريعًا، ابتسمَ وتحرَّكَ خلفها إلى أن وصلَ لغرفةِ الطعامِ ملقيًا تحيَّةَ الصباح ، وصلت فريدة بقهوةِ مصطفى تطالعُ ميرال بذهول:
صحيتي إمتى!..كنت لسَّة هاطلع أصحِّيكي.
فردت محرمةَ الطعامِ وهي تهربُ من نظراتِ ذاكَ الذي يتطلَّعُ عليها منتظرًا حديثها فتمتمت بخفوت:
صحيت من شوية ياماما..جذبت فريدة المقعد ومازالت مذهولة:
أوَّل مرَّة تصحي من نفسِك ياميرو..رفعَ قهوتهِ يرتشِفها ثمّّ تمتم:
ومين قالِّك إنَّها صحيت لوحدها، أنا اللي صحيتها.
التفتت إليهِ فريدة سريعًا، تنظرُ إليهِ مذهولة وتوقَّفت الكلمات على أعتابِ شفتيها، فهمَ مصطفى ما تشعرُ بهِ فريدة فأردف:
– مش غريبة إنَّك تدخل تصحِّيها!..
ارتشفَ بعضًا من قهوتهِ وأجابَ والده:
ليه مش بعدِ يومين هتكون مراتي، ولَّا رجعتوا في كلامكم، بس عايز أقولَّك حاجة ياسيادة اللوا، أنا مش لعبة تقول أتجوِّز وسيب، الآنسة اللي قاعدة دي بقت مراتي منتظر العقد، ماهو اللي يعني آرائكم بعد كدا ماتهمِّنيش.
إلياس دا احترامك لوالدَك تكلِّمُه بالطريقة دي…
طالع والدهِ بعتاب واردف بنبرة مغلفة بالألم لم يشعر بها سوى من يشعر به فأردف قائلًا:
لو حضرتَك شايف بقلِّل من احترامك عاتبني، لكن حقيقي يابابا أنا ماقصدش، أنا عايز أرسم حياتي بنفسي، مش عايز حد يغصبني على حاجة…
تفاجئت بنبرته التي جاهد في إخفاء الالم بها، فتزاحمت الأنفاس بداخلها حتى شعرت باختناقها، رفعت رأسها حينما تابع حديثه:
-أنا مش بنت علشان تغصبني على حاجة ياسيادة اللوا، غير مابقتش الطفل الصغير، قدامك راجل
استنكرت تصريحه واعتبرته اهانها لشخصها فتشدقت ساخرة:
-وأنا ماطلبتِش إنَّك تتغصب ياسيادة الظابط، أنا مش موافقة على قرار عمُّو.
أنا كمان مبحبش الغصب
استدارَ يرمقها بنظرةٍ ناريَّةٍ حينما شعرَ بتقليلِ رجولتهِ أمامَ الجميع، لحظات وهناكَ حربُ الأعينِ إلى أن قاطعها قائلًا بصوتٍ جعلهُ متَّزنًا إلى حدٍّ ما:
وأنا لو مش مقتنع كنت مستحيل أوافق، بس بابا عندُه حق ..العمر بيجري من غير ماأحس ومحتاج أبني عيلة، وأنا ماليش خلق لجوِّ الستَّات الهابط دا، على الأقل تلاقي اللي يلمِّك ويرضى بيكي..
كادت أن يصيبها سكتة قلبية من رصاصات كلماته، فامتقع وجهها بالغضب وسئمت من حديثهِ الفظ فهبَّت واقفة وفتحت فاهها للحديثِ إلا أنَّهُ تابع، وكمان إنتِ متربية قدَّامي وأعرف أكسر رقبتِك لو غلطِّي، وبقولها قدَّام والدتك أهو ياميرال..أنا مابحبِّش الغلط، حياتِك الأوَّل كانت حاجة وبعد ماتكوني مراتي حاجة تانية…
توقَّفَ واضعًا كوبهِ قائلًا:
شوفوا عايزين إمتى تكتبوا الكتاب وأنا جاهز، بس فرح دلوقتي لأ، عندي قضية مهمِّة ماينفعشِ أعتذر عنها، ثمَّ اتَّجهَ بنظراتهِ إليها وسلَّطَ عيناهُ عليها وشبح ابتسامة ساخرة لوَّنت ملامحهِ قائلًا:
ماهو ماينفعشِ أروح أقضي شهر العسل ودماغي تبقى مشغولة في القضية، ومفضاش للعروسة مش كدا ياميرو؟..
كتمَ مصطفى ابتسامتهِ عندما استمعَ إلى تلميحاتِ ابنه، فيما برَّقت ميرال عينيها بغضبٍ جحيمي محاولةً السيطرة على ذاتها بالأ تطبقُ على عنقه:
نظرَ بساعةِ يدهِ يشيرُ إليها مردِّدًا:
اتفضلي آنسة ميرال أوصَّلِك في طريقي.
هنا فقدت عقلها وصرخت به:
أنا مش موافقة أتجوزُه ياماما سمعتيني، لو آخر راجل في الدنيا مستحيل أوافق على هذا الكائن البارد.
لم تهتزَّ عضلة من ملامحهِ وهو يستمعُ إلى حديثها، ارتدى نظارتهِ وحملَ هاتفهِ ملقيًا السلامَ ثمَّ رمقها قائلًا:
أنا في العربية ومابنتظرشِ كتير، إيَّاكِ تتأخَّري قالها وتحرَّكَ تاركًا تلكَ التي أصابها الجمود وكأنَّهُ ألقاها بقبرٍ وتركها، لحظاتٍ من الصَّمتِ تنظرُ إلى والدتها التي هزَّت رأسها ونظراتٍ تحملُ الكثيرَ من العتابِ قائلة:
دا اتفاقنا، مش اتكلِّمنا في الموضوع دا ..توقَّفت ضائعة وكأنَّ الأمرَ تعدَّى الترهات وماعليها سوى الطاعة، أردفت بتقطُّع:
أنتو بتتكلِّموا بجد، أنا وإلياس، طب أزاي، عايزة عقل يقول الشخص دا يتحب بانهي منطق، ضربتها فريدة بخفة على رأسها
-عيب يابت، دا هيبقى جوزك..زمت شفتيها كالأطفال
-حرام ياماما دا مستحيل يقول بحبك، دا شاطر بس يقول اخرصي، اسمعي، هعاقب هضرب، مايعرفش غير فعل الأمر القضائي فقط..توقَّفَ مصطفى يحاوطُ أكتافها وتحرَّكَ معها للخارج:
طيِّب حبيبتي ليه مش عايزة إلياس ياميرال، ليه رفضاه يابنتي؟..
رفعت عينيها بتشتتٍ تهمسُ بخفوت:
معرفش، خايفة منُّه يفضل قاسي كدا، وفي نفسِ الوقت عندي إحساس ورا القسوة دي حاجة تانية، توقَّفت أمامهِ متسائلة:
أنا ماعرفشِ هوَّ ليه اتغيَّر معايا، كان نفسي يقولِّي ياعمُّو بدل معاملته دي.
احتضنَ وجهها ينظرُ لمقلتيها:
إنتِ بتثقي فيَّا ولَّا لأ…هزَّت رأسها بعيونٍ لامعةٍ بالدموع:
أنا ماعنديش حد أثق فيه غيرَك وغير ماما.. مرَّرَ أناملهِ يزيلُ عبراتها التي انسابت على خدَّيها قائلًا:
لا فيه ..طالعتهُ متلهِّفةً.. قلبها يتلهَّفُ لقولهِ عنهُ وعقلها يصفعها بكبرهِ وتكبُّره.
هوَّ أكتر واحد تثقي فيه، بكرة تتأكدي من كلامي، إلياس مش كدا، وأكيد إنتِ عارفة مش منتظرة حد يقولِّك مين هو.
كثُرَت دموعها كالشلال، ضمَّها لأحضانهِ وهي تشهقُ ببكاءٍ
وتهتفُ من خلالِ بكائها:
كان ياعمُّو، دا بقى واحد تاني، من زمان أوي لدرجة نسيت شكلُه عامل إزاي لمَّا بيضحك.
أخرجَ رأسها وتساءل:
بتحبِّيه ياميرال صح…
اهتزَّ جسدها بالكامل وكأنّّ كلمة حبِّهِ صدمة كهربائية انتابت جسدها ورغمَ ذلك، لا تستطع ترجمةَ مشاعرها إذا كانت حب أم كره أم نفور لا تعلم..
تراجعت مستنكرةً حديثه:
إيه اللي بتقوله دا، مانكرشِ حبِّي له حب أخوي بصفته متربيين سوا، بس مش الحب اللي حضرتَك بتقوله.
كاد ألم حبه يمزق قلبها ليؤدي إلى هزيمتها أمام عنفوان عشقه المميت، همست لنفسها “مستحيل اكون بحبه”
ثقلت أنفاسها من مجرد ارتباطه بعشق قلبها، فتراجعت خطوة تهز رأسها
-مش قادرة اخد قرار
لم يهتمَّ لحديثها فأشارَ إليه:
طيِّب روحي وبلاش تضايقيه، اسمعي منِّي مش يمكن هوَّ بيحبِّك…
هزَّة عنيفة أصابتها لتستديرَ إلى سيارتهِ تشيِّعَهُ بنظراتٍ مشتَّتة، وشردت بحديثِ مصطفى بقلبٍ يهدرُ بعنفٍ وعقلٍ ينكرُ حماقةَ دقاتِ قلبها، انفجرت برك عيناها حينما فقدت السيطرة من انجراف مشاعرها نحوه، فهربت مهرولةً إلى سيارتها رافضةً أيَّ حديثٍ يخصُّه..رآها متَّجهةً إلى سيارتها بتلك الحالة، فارتسم على محياه ابتسامة ساخرة، وقادَ سيارتهِ متحرَّكَ إلى عملهِ دونَ حديث.
ظلَّ مصطفى متوقِّفًا يطالعُ خروجهم هامسًا لنفسه:
أتمنى اكون اخترت لك المناسب ياإلياس، شعرَ بفريدة خلفه، التفتَ برأسهِ على صوتها:
مشيوا..هزَّ رأسهِ قائلًا:
بنتِك عنيدة أوي، عملت اللي في دماغها…ابتسمت مجيبة:
وابنَك مغرور أوي…قهقهَ الاثنين معًا ثمَّ حاوطها بذراعيه:
لازم أتحرَّكَ دلوقتي علشان متأخرش.
بمنزلِ يزن أنهى فرضهِ وتحرَّكَ للخارج،
وجدَ أختهِ تضعُ الطعامَ على الطاولة:
صباح الورد يازينو..
صباح الورد ياإيمي فين معاذ لسة نايم.. لا، حبيبي راح يجيب الطعميَّة.
جلسَ على الطاولة يفتحُ هاتفهِ يتصفَّحُ الأخبار، دلف معاذ:
أنا مش هانزل تاني أشتري الطعمية، الستات بيفعَّصوني.
رفعَ نظرهِ يطالعهُ مستاءً ثمَّ أردف:
ليه صغير، إنتَ راجل يلا إجمد شوية، شوية طعميَّة، الحارة كلها بتعرف إنَّك بتجبها..
جلسَ متأفِّفًا:
يووووه على التريقة، استدارَ إليهِ وبدأ يتناولُ إفطارهِ ولكنَّهُ توقَّفَ حينما استمعَ إلى صوتِ أخيه:
طنط أمِّ محمود سألتني بتقولِّي ليه يزن ساب أبلة مها..
لكزتهُ إيمان ليصمت، وضعَ يزن الطعامَ بفمهِ يلوكهُ بهدوءٍ ثمَّ تحدَّثَ بصوتٍ جعلهُ متَّزنًا قائلًا:
قولَّها مافيش نصيب، ثمَّ نهضَ ينفضُ كفَّيهِ قائلًا:
الحمدُلله خلِّي بالك من نفسَك وإيَّاك تجري ورا العربيات، أخبارك عندي وليه امتحان الرياضة ناقص درجتين، إجهز لحد ماأرجع نراجع مع بعض الدروس اللي وقعت منَّك.
أومأَ لهُ قائلًا:
آسف ياأبيه، بحاول أفهم الهندسة بس تقيلة وبضيع فيها، جمعَ أشيائهِ وأشارَ إلى أخته:
إيمي الواد دا ميخرجشِ يلعب بعد الدَّرس، خليه يحل ليَّ خمسة اختبارات رياضيات لمَّا أرجع.
نهضت متحرِّكةً خلفَ أخيها تومئُ برأسها:
حاضر ترجع بالسلامة حبيبي.
بعدَ قليلٍ بمكانِ عمله، كانَ يقومُ بتصليحِ شيئٍ ما بالسيارة، جلسَ صاحبُ العملِ بجوارِه:
ليه سبت خطيبتك يابني، توقَّفَ عن العملِ ملتفتًا إليه:
النصيب ياعمُّو، مالناش نصيب مع بعض.. ربتَ الرجلَ على ظهره:
هتتعدِّل إن شاءلله ماتزعَّلشِ نفسك.
مش زعلان..أنا صعبان عليَّا نفسي، حبيت الشخص الغلط.
سحبَ نفسًا قويًا وزفرهُ على مراحل قائلًا:
برجع أقول عندها حق هتفضل منتظراني ليه.. لم يتسنى لهُ الحديثَ ليقفَ مبتعدًا عنه، وذكرياتٍ مؤلمةٍ تغرزُ بقلبهِ كالغرزِ الملتهبة بالنيرانِ المحرِقة.
فلاش:
وقفَ يزن الذي يبلغُ من العمرِ خمسةٌ وعشرينَ عامًا على بابِ غرفةِ والده..
حضرتَك طلبتني..أشارَ إليهِ بالدخول،
جلسَ بجوارهِ متسائلًا:
حضرتك كويس.. ربتَ على كفِّه:
كويس ياحبيبي، لسة زعلان
نظر إلى والده نظرات عتاب ممزوجة بألم روحه، ليشعر بنزيفها بصمت ..واستفهام مؤلم شق ثغره بابتسامة حزينة
-هو فيه حاجة تزعل، كل الحكاية إني مطلعتش ابنك، الموضوع بسيط
2
تجمدت الدماء بشريان السوهاجي واهتزت جفونه
-طيب اسمعني كويس ياباشمهندس.. طول عمرك كنت ولد مطيع، رغم إنَّك مش من صُلبي بس طلعت ابنِ حلال يابني ربنا يباركلي فيك
داخل ينتحب بقوة، داخله بركان ثائر ولكن ماذا عليه فعله وهو يرى والده بتلك الحالة ..رسم ابتسامة وانحنى
يقبَّلَ رأسهِ متمتمًا:
وحضرتك كنت نعمَ الأب، مهما يحصل هتفضَل أبويا، لأن في نظري الأب اللي بيربِّي مش اللي بينجب.
ربِّنا يبارك فيك ياحبيبي ودايمًا السعادة والقبول في حياتك، عارف هشيِّلَك هم أكبر من همَّك بس إخواتك أمانة في رقبتك يايزن، أوعى ياحبيبي تفرَّط فيهم، إيَّاك واليتيم يابني، دول مالهمش ذنب، ووالدتك كمان ماتزعلهاش صحتها على قدَّها، أوعى تزعلَّها ولا تزعل منها حبيبي هي عملت اللي في مصلحتك، عارف إنَّك مصدوم من الحقيقة، هي كانت عايزة تعرَّفك من زمان بس أنا اللي رفضت، قولت لمَّا تكبر وتستوعب الكلام.
كانت الكلمات تنزلُ فوقَ مسامعهِ كصوتِ عويلٍ يصيبُ الأذنَ ويرتجفُ لهُ القلب، غامت عيناهُ بتحجُّرِ الدموعِ
وشعرَ باختناقِ أنفاسه، وكأنَّ الهواءَ الذي يحاوطهُ ماهو سوى ثاني أكسيد الكربون الذي يخنقهُ أكثر وأكثر:
ماما قالتلي كلِّ حاجة يابابا وزي ماقولت لحضرتَك مش يمكن نصيبي معاك أحسن من لمَّا أكون مع أهلي الحقيقيين.
خرجَ من شرودهِ على صوتِ أحدِ الزبائن:
يزن ممكن تشوف العربية بطلَّع دخان ليه للأستاذ.
أومأَ ونهضَ متحركًا إليه
كان يتابعهُ بعينيهِ بأسى:
عيني عليك يابني حملَك تقيل، وصلَ صديقهِ الذي يُدعى كريم يعملُ طبيب جراح.
مساء الورد يازينو، رفعَ رأسهِ مبتسمًا:
وأنا بقول الورشة نوَّرِت ليه يادوك.
اقتربَ منهُ واحتضنا بعضهم البعض
بعدَ فترةٍ خرجَ إلى مقهى بالقربِ من العمل، جلسَ بمقابلتهِ قائلًا بعد فترةٍ من الصمت:
-عرفت بفسخ الخطوبة..رجعَ بظهرهِ متّّكئًا على المقعدِ البلاستيكي ثم دارَ برأسهِ يشملُ المكانَ بنظرة متفحصة، كأنَّه يشعرُ بأنَّ الجميعَ يرمقونهُ بأسى على الشخصِ الذي اندهست رجولتهِ بينَ الناس ..استفاقَ من تخيُّلهِ على نقرِ كريم على الطاولة:
– يزن رحت فين؟..
زفرَة مهمومة بجميعِ آلامه مجيبًا:
– معاك أهو ..دنا كريم بجسدهِ متمتمًا بصوتٍ خافت:
متستهلكش والله يابني اللي زي دي ماتزعل عليها.
– مش زعلان…صمتَ بعدما وصلَ الصبي يضعُ مشروباتهم وتحرَّك:
– مش باين يابنِ السوهاجي.؟؟
ابنِ السوهاجي..ردَّدها مع ابتسامة فاترة ..حاولَ كريم مؤازرتهِ فأردف:
تعرف أنا سألت على الواد اللي خطبها دا، وجبتلك أصله من وقتِ ماتولد من ظابط عقر، واللهِ وفرحان فيها وتستاهل اللي بيحصلها.
قطبَ جبينهِ مستهزئًا بكلماته:
– وليه دا كلُّه يالا، إنتَ مجنون ولَّا إيه، مبقاش يخصنُّي.
طيِّب اسمعني وبعدين أحكم..
تجهَّمت ملامحهِ واشتعلت عيناهُ يحذِّرهُ من الحديث، ولكنَّهُ رفعَ كوبهِ يرتشفُ منهُ وتابعَ حديثه:
الواد دا اسمه طارق راجح الشافعي، أهله كانوا عايشين في السويس، بس نقلوا من شهرين علشان له أخ اتسجن في قضية أمنِ دولة
أصابه الجنون فتوقفَ غاضبًا وهدر بهِ
-مُصرّ تضايقني، قولت لك مش عايز اسمع حاجة ..سحبه بقوة من يديه وأجلسه واردف بقوة:
-يابني اقعد واسمع للآخر، على طول كدا، البنت واقعة في عشّ دبابير وتستاهل وفرحان فيها
تأففَ بضجر فتابعَ الآخر حديثهُ
-بقولك أخوه مقبوض عليه، والواد دا أبوه فتح له بوتيك ملابس كبير اللي شغالة فيه مها، بس واد بتاع بنات، عرفت أنّه بتاع مزاج وستّات، يعني صَاحبتك وقعت بدعوة الوالدين يازينو
-لم يرد عليهِ لفترة، ظلّ يُطالعهُ بنظراتٍ صامتةٍ، ثم أردفَ مُتسائلًا:
-ايه اللّي خلّاك تسأل عنّه !!
زمّ شفتيه رافعًا حاجبهُ ثم أردفَ ممتعضًا:
-إنتَ رخم على فكرة، جايبلك أخبار حلوة وحضرتك مش عجبك
-أخبار حلوة!!..قالها مستنكرًا، ثم تابع مستطردًا:
-الموضوع ميهمّنيش ياكريم، كنّا وخلّصنا، حياتها وهي اختارت، خلاص مبقاش يلزمني..
نقرَ بأصابعهُ على الطّاولة متسائلاً:
-يعني مش فرحان من اللّي هيحصل
– لا ..قالها ونهض يُلقي بعض النّقود على الطاولة ينادي على الصّبي وأردف:
-أنا مش من النّوع اللّي بيشمت، بس باخد حقي بعدلِ ربّنا…سلام ياصاحبي
2
بمنزل إيلين
جلست سهام تتناول بعد الفواكه ترمقُ إيلين المنشغلة بدراستها، وضعت ساقًا فوقَ الأخرى وهتفت:
-إيلين اعمليلي فنجان قَهوة عندي صُداع ..لم تُعيرها اهتمام وظلّت كما هي، فهبّت تلكَ واقفةً، واتّجهت إليها تجذبُ من أمامها أشيائها وتصيحُ بها
-لمّا اكلّمك من الإحترام توقفي وتردي عليّا، أنا في مقام والدتك
-اخرسي ..مين انتِ علشان تحطّي راسك من راس أُمّي، فَشرتي انتِ ما إلّا خَطّافة رجّالة سَرقتي راجل من مِراته وولاده
صفّقت بيديها تنظرُ إليها من أسفلها لأعلاها قائلة بنبرة ساخطة:
-اسم الله عليكِ يادكتورة، دا أنتِ مدوّراها مع شبابِ البّلد كُلّهم، اتلميّ يابتّ أبوكي اتجوّزني لمّا زِهق من أمّك المريضة، اللّي كان وجودها زيّ عَدمه، اقترَبت مَنها تحدجها بنظراتٍ مُستاءة
-ابوكي ملقاش الحنان والحبّ واحتياجاته ومحسّش برجولتهُ غير في حُضني ما أنتِ معذورةَ متعرفيش يعني إيه ستّ تسعد جُوزها، عِندهُ حقّ الدّكتور يرفضك ماهو شايف راجل قدامه طول الوقت لابسة خيمة ..قالتها وهي تُشير على إسدالها مُشمئزّةَ
-شوفي نفسك، وتعالي يابتّ و أنا أعلّمك، قال سرقتِ راجل، أبوكي، معرفش ِكلمة راجل غير مع العبدة لله،ويلّا عكّرتي مزاجي عايزة اشغل ميوزك وأرقص، مفيش مُذاكرة هِنا، عندك اوضّتك ياختي
رمقتها مشمئزّة وابتعدت تجمع أشياءها ودلفت للغرفة، وهي تَكبح عبراتها التي تحجّرت تحتَ أهدابها.
وضعت أشياءها وتركتْ لعيناها الإفراج
-يارب إمتى أخلص من الحرباية دي، استمعت إلى رنين هاتفها، وجدتهُ أُختها
-أيوا يامريم ..
-عاملة إيه ياإيلين، إحنا رجعنا بيتنا عدّيت عليكي ومرات أبوكي الزّفت قالت إنّك في الجامعة.
أزالت عباراتها وإجابتها :
-فعلاً لسّة راجعة، صَمتت ثمّ تسائلت
-خالو رِجع ولا لسّا هنا ..
-لا كُلّنا رجعنا ياقلبي، خالو قال يومِ الجُمعة هنرجع علشان نكتب كتابك على آدم، اسمعيني ياإيلين أنا عارفة العقربة مشْ سيباكي في حالك، وافقي على آدم حبيبتي صدّقيني آدم بيحبّك .
سَحبت نفسًا عميقًا ثمّ لفظتهُ على مهلًا
-وافقتِ يامريم بلّغت خالو، وبابا، هشوف الدّنيا مخبيالي إيه اتمنى مفقوشِ على كابوس .
عند آدم دلفَ إلى منزلُهم الذّي يقطنون به بإحدى الأحياء الراقية، اتّجه إلى غرفته قائلاًا:
-هنام ساعتين علشان حفلة خالو يابابا واحتمال أجيب رحيل تقعد يومين
أمسكهُ والدهُ من ذراعيهِ واردف قائلًا:
-بلاش رَحيل الأيّام دي ياآدم، خلّينا نخلّص من جوازك مش عايزك تزعّل إيلين، انت عارفهم من صغرهم مابيحبوش بعض..
أومأ متفهّمًا ثمّ تحرّكَ إلى غرفتهِ.
بمنزل اسحاق قبل قليل
جلسَ بجوارهِ يتحدّثونَ في بعض ِالقضايا التي تخصّ الأمن القوميّ، مع بعض صور للأشخاص.
نظرَ لذاكَ المبنى فاستطردَ مستفسرًا
-العيال بيتجمعوا هنا، وأمن الدّولة بتلاحقهم..أومأ يطالع الصّور بكلِّ دقّةٍ
فحكَّ ذقنهُ
-انهي دور بالظبط !!
جلسَ اسحاق بعدما شرح مايجب فعلهُ
-الدّور التّاسع فيه شقتين واحدة لمدرّس ثانوي، والتّانية لصاحب الجنسيّة، إنت هتدخل تحت الجهاز في الشّقة من خلال شقّة المدرّس دا
أومأ متفهمًا ..أشارَ لهُ اسحاق محذرًا إياه
-رسلان الموضوع مش سهل، دا جنسيّة اجنبية، عايزين نعرف الواد دا اللي بمول الإرهابين ولا إيه، مش عايز غلطة
تمام لازم اعديّ على بابا الأول علشان زعلان، توقّف يشير إليه بالخروج
-أيوا أنا كمان خارج على الشّركة، نسيت النهاردة اجتماع لمجلس الإدارة
بعد قليل وصل إلى الشّركة ..دلف للداخل بينما توقّف اسحاق مع إحدى المهندسات
– صباح الخير..
-أهلاً بحضرتَك مستر اسحاق ..
-أيوا بدل مستر يبقى زعلانة
هزّت أكتافها للأعلى والأسفل وهتفت :
-حضرتك عملت حاجة تزعل، كلّ اللّي عملته شهر وأنا معرفش عنّك حاجة ممكن أعرف هنفضل كدا لحدّ امتى ؟
دنى بخطوةٍ مقتربًا منها ينظرُ لعيناها
-دينا انا مفهمك الوضع، حاليًا مقدرش أعلن جوازنا
قاطعته ترفع سبّابتها أمامهُ :
-اسحاق اسمعني دا أخر كلام عندي، يا إمّا تعلن للدّنيا كلّها إنّي مراتك.
تعمّق بعيناها مردفًا بنبرةٍ جليديةٍ
-يا إمّا ..كمّلي
تلعثمت وتجمّدت الكلمات على أعتابِ شفتيها وهي تنظرُ إليهِ بأسى :
-أنا تعبت بجدّ، حاسّة إنّي مش عايشة، من حقي أنام كل ليلة في حضن ِجوزي علشان أشعر بالأمان، إبن عمّي بقى يضيّق خناقهُ عليّا وحضرِتك عارف وساكت .
أطبقَ على ذراعيها بقوةٍ يهمسُ بفحيحٍ مرعب ٍ
-أنا خيّرتك وأنتِ اخترتِ، مَتجيش تعملي ملاك بريئ أنا مش مستعدّ دلوقتي، سمعتي ولّا لأ، عايزة اطلّقك براحتك، بس مش اسحاق اللّي يتلوي.
قالها ودفعها بقوة واستدارَ مغادرًا إلى غرفةِ الإجتماعات..
بعد فترة انتهى الإجتماع، تحرّكَ ارسلان قائلًا :
-عندي مشوار يا فاروق، اشوفك باللّيل، واللّي بيني وبينك صفيّة مالهاش دعوةَ بيه، عيب يافاروق تزعّل أمّي بسببي، لو عملتها تاني هحتجّ وهرفع عليك قضيّة خلع.
القاهُ بالقلمِ الذي بيديه
-امشي يا حلوف من هنا..قهقه وهو يتحرك يلوح بكفيه
التمعت عيناه بالسعادة، وهو يتابعُ مغادرته ..اتّجه إلى اسحاق متسائلًا :
-باعتهُ في مهمة ولّا إيه ؟
تراجعَ مستندًا على المقعد يومئ برأسه وهو مغمّض العينين.
-مالك قابلت دينا ولا ايه ؟
فتح عيناه ومازالَ على حالتهِ
-ياريتني ماسمعت كلامك، عمالَ تزنّ علشان نعلن جوازنا، وأنا دماغي مش فاضية فيها مليون حاجة
غمغم مزمجرًا بخفوت:
-من عمايلك اشرب بقا
تفتكر أحلام هانم هتوافق ولا تقعد تقولّي مواعظ في الطّبقات
قهقهَ فاروق وسلّطَ عيناهُ عليه :
-أحلام هانِم هتولّع فيك، علشان كدا لازم ترتّب لكلِّ حاجة قبل ماتطردك من حلفِ الجارحي.
زفرَ بسأم يخلّل أناملهُ بخصلاتهِ متسائلًا:
-والله أمّك دي عليها شويّة تطبيقات للمجتمع تهوس، ياسلام بتحسسني إنّنا عايشين في عهدِ البشوات .
جفَّ حلقهُ وهو يطالعُ أخيهِ قائلًا بصوتٍ متقطع ٍ:
-إنتَ عارف إنّ أمّك لو عرفت حكاية ارسلان ممكن تعمل إيه يافاروق؟
تأرجحت عيناهُ بالقلق ِيهزّ رأسهُ ودقّات قلبهُ تخترق صدرهُ ممّا جعلهُ يهتف بتقطع:
-لا لا يااسحاق إنتَ وعدتني زمان، وبعدين أنا عملت اللّي عليّا واتجوّزت، هي كان أهمّ حاجة عندها أتجوّز غير صفيّة علشان أجبلها وريث، وربّك كريم وقعدت عَشر سنين من غير عيال، لولا إصراري على رجوع صفيّة وسَفرنا اللّي جه في مصلحة ارسلان،
تفتكر بعدِ ماربّنا كرمني بكلِّ حاجة حلوة بعد مارزقني بيه ..تحجّرت عيناهُ بالحزن ِ ونظرَ إلى اسحاق طويلًا ثمّ أردفَ بنبرةٍ مهزوزةٍ:
-محدّش يقدر ياخده مني يااسحاق، سمعتني، ارسلان فاروق الجارحي، لو دفنتني يااسحاق، ارسلان إبني سمعتني، وأنا كاتب وصيّتي محدّش يقدر يقول غير كدا .
نهضَ اسحاق من مكانهُ وجلسَ بجوارهِ
يربّتُ على ظهرهِ:
-حبيبي وعدِ منّي مستحيل حدّ يعرف حقيقته متخافش، مش معقول بعد السّنين دي كلّها حدّ هيعرف .
جاهد يكبح دموعهُ ولكنّها نزلت رغمًا عنهُ، زُهِلَ اسحاق منه فضمّه :
-فاروق إنتَ بتعيّط، صدّقني محدّش يقدر يقرّب منه، أنا بحميه أكتر من روحي، ارسلان إبني وأخويا وكلِّ ما أملك انت فاهم كدا، دا روحي اللي لو بعدت عني بتجنن
ارتسم الألم داخل عيناه:
-وصيّتي الوحيدة يا اسحاق ارسلان، مش خايف على ملك لأنّي متأكد أن جدّتها هتراعيها أما ارسلان من يومها وهي مبتحبوش علشان ابن صفية .
طالعهُ بغضبٍ محموم اندلعَ من حدقتيه وهدرَ بنبرةٍ غاضبةٍ:
-خليها تقرب منه بس، علشان كدا دخّلته المخابرات، هي بس لو عرفت أنّه تبع المخابرات بلاش أقولّك هتترعب إزاي، بس أنا أهمّ حاجة عندي أمانه
مسحَ على وجههُ متوقّف ثم أردفَ:
-ربّنا يرحمه أبوك بقى اختارلك أمّ من كوكب تاني .
بعد اسبوع
.ليلةً شتويةً قاسية البرودة، مع ظلامها الحالك بإختفاء ِنجومها ، عائدًا من عملهِ ليلًا، وهو يحتمي بنفسهِ من البرد بذاكَ البالطو وتلكَ الاسكارف، يتحرك برشاقة حتى يتفادى مياهُ الأمطار، إلّا أنّه توقّف فجأة على ذاكَ المشهد المريب، بعض الخارجين عن القانون يهرولون خلفَ شخص ٍما بعدما ترجّلَ من سيارتهِ بعد قتل سائقهِ، هرولَ الرّجل الذي يبلغُ من العمرِ 50 ربيعًا من أمامه يحتضنُ ذراعهِ الذي ينزفُ دمائه ُالممزوج بمياه الأمطار، دفعَ باب منزلِه ودلفَ إليه بوقوفه متسمرًا ملجومًا، كأنّ جسدهُ أصيبَ بشلل على ذاك المشهد إلى أنْ آفاق على صوتِ ذاك الرّجل:
-إنت مشفتش راجل بيجري من هنا
لحظات وعقله غير مستوعب مايدور، ذهبَ ببصرهِ سريعًا لمنزلهِ الذي دلفَ إليه الرّجل و يبعده ببعض الأمتار ، فاتّجه للرّجل يهزّرأسه بالنّفي ..تحركَ ذاكَ الرّجل حينما صاح الآخر :
-تعالى نشوفه في الشّارع دا، الدّنيا ضلمه هناك ممكن يكون متخبي لازم نخلص منه ..ظلّ للحظات واقفًا، إلّا أنّ صدمهُ صوتُ الرّعد بالبرق .مع غزارةِ الأمطار فاتّجه إلى منزلهُ، فتحَ بابَ المنزل الخارجي بهدوء ودلفَ يبحث بعينيهِ عن ذاكَ الرّجل الذي وجدهُ جاثيًا على الأرضية محتضنًا ذراعهُ يهمس بأنين
-انقذني ارجوك، متخلهمش يوصلولي ..أرجوك يابني عايزين يقتلوني ..أرجوك قالها ثم فقدَ وعيه .. دقائقٌ وهو عاجز عن فعلِ أيّ شيئ ولم ييقظهُ سوى صوتُ أختهِ.
-ابيه إنتَ تحت، إبيه يزن الكهربا قطعت لو حضرتك اللّي تحت ردّ عليّا ..أخرج صوتهُ مهزوزًا وهو يجيبها :
-أيوا يا إيمان انا حبيبتي هقفل الباب واطلع على الكشّاف ادخلي نامي.
بفيلا السيوفي وبخاصّة بتلكَ الغرفة المزيّنة التي أرسل الخدم إليها لتزينها مع فستانٍ من اللونِ الأبيض مطعّم بفصوصٍ من اللؤلؤ، وتاج مرصع الألماس ..وضعتهما إحدى الخدم
-إلياس باشا بعتلك دول ياميرال هانم
أومأت لهُ دون حديث..نهضت من أحضان فريدة تفحص الأشياء ثم أردفت متسائلة :
-معقول البارد يشتري فستان بالجمال دا، قلبت التّاج بيديها مع ابتسامة سعيدة مستديرة لوالدتها
-شوفتي جايب إيه..شعور الرّاحة والأمان تسرّب لداخل فريدة، فتوقّفت تمسّد على خصلاتِها :
-شوفتي مش قولتلك أنّه حنين، اسمعي منّي حبيبتي والله إلياس دا مفيش أحنّ منه، طيب عارفة وإنت صغيرة مكنش حدّ بيشتري لك ألعاب وحاجات غيره، هوّ بس اللّي لما كبر شاف البعد احسن .
هناك شعور لذيذ بداخلها وهناك عتابٌ من عقلها يمنعها، وضعت الأشياء وجلست متمتمة:
-خايفة ياماما، ساعات بحسّه قاسي وجبروت، رفعت عيناها لوالدتها قائلةً:
-تعرفي اتّهمني إنّي بغريه، وبيقول بتخطّطي إنت ووالدتك عليا
اخترقت الكلمات صدر فريدة كالخنحر الباردة، حتى شحبَ وجهها، فنهضت من مكانها متخبطة تحاول سحب نفسًا عميقًا لتردفُ بتقطع
-معذور حبيبتي، أبوه اتجوّز وأمه مريضة، غير ليلة فرحنا والدته ماتت فطبيعي يكرهني، بس صدقيني ياميرو إلياس بيحبّك حتى لو مش بيحبّك دلوقتي متأكدة بعد الجواز هيحبك أوي هو واخد طبع باباه بيخبي مشاعره
خطت عدة خطوات محاولة السّيطرة على نفسها بعدما شعرت بإنقباض صدرها قائلة:
-اجهزي ياميرو وزي ماوعدتك حبيبتي لو مرتحتيش معاه هطلّقك منه ..قالتها وغادرت سريعاً الغرفة .
بعد ساعتين على طاولةِ عقد القران ، جلسَ الجميعُ بانتظارِ نزولها، شعرَ بالقلق لتأخرها فانسحبَ بهدوء وصعد إلى غرفتها دفع الباب ودلفَ للداخل، تسمّرت قدماه وهو يراه تجلسُ بتلكَ الهيئة كحوريةٍ هبطت من الجنة، اقترب منها وعيناه تبحران ِعلى ملامحها حتى توقّف أمامها،وقال:
-قاعدة هنا ليه والكلّ مستنّيكي تحت
توقفت بمقابلتهِ ترسمه بعيناها :
-عايز تتجوّزني ليه إلياس، بصراحة إيه سبب جوازنا، قالتها وطالعته بعيونًا متلهّفة تنتظر حديثه بشقّ الأنفاس
لحظات صمتٍ مريعة لكليهما، عجز عن الرّد بينما هي تجمّعت دموعها لتتلألأ بعيناها متمتمةً بارتجاف :
-عايز تنتقم من ماما فيّا صح، علشان ماما اتجوّزت والدك فأنت تنتقم مني.
حروف بسيطة كنيران ملتهبة أحرقت داخله، لينحني ويسحب كفّيها متجهًا للأسفل ناكرًا أي شعور :
-إحنا مش بنلعب، مش المأذون يجي ويمشي ويقولوا العروسة رفضت إلياس السّيوفي، مش على أخر الزّمن اتهان من واحدة زيك
تحرّرت دموعها لتسيل على خدّيها متوقّفة على الدّرج تهزُّ رأسها رافضًة الحركة قائلة:
-مش على شان كرامتك أحرق حياتي ياالياس باشا أنا مستحيل أكون مراتك سمعتني، جذبها بقوةٍ لتصطدم بصدرهِ وحاوطها بذراعيه يجزّ على أسنانهِ:
-اللّيلة ياميرال هتُكتبي بإسمي، خلّيني امشيها كتب كتاب بس، بدل مااخليها دخلة .
غرزت عيناها بمقلتيه قائلة بنبرة جافة:
-مستحيل أكون مراتك، مستحيل لو أخر يوم في حياتي
دنى أكثر من اللّازم بعدما أشعلت فتيل غضبه وجعلته كتلة من النّيران تريد إحراقه ثم انحنى لخاصتها مما جعل دقات قلبها كالطّبول تقسم أنه استمع إليها وعيناه تحتضنُ عيناها قائلًا بصوته الرّخيم الممزوج بالغرور والكبرياء:
-اقسم بالله لو ماانزلتي وتم كتب الكتاب بهدوء لتكون آخر ليلة لفريدة هانم في فيلا السيوفي، دنى أكثر واكتر مما لمس وجنتيها بشفتيه هامساً:
-تليفون مني لعمّك اللّي بيدوّر عليها وشوفي بقى هيعمل فيها إيه بعد اللّي عملته، رفع عيناه وحرب أعين حارقة بينهما وتابع بهمس مميت :
-امك المصون هربت من عمك بيكي ومش بس كدا عندي الأكتر والأكتر
متفكّريش أبويا هيحميها من جحيم غضبي ..قاطعهم وصول فريدة تطالع وقوفهم بشهقة، اردفت بنبرة مزعجة :
-ايه اللي بيحصل هنا، ازاي توقفوا كدا، انزلوا يلا اتأخرتوا ؟
ابتعد عنها وعيناه تحاورها ثم بسط كفيه وابتسامة باردة على وجهه:
-إيه يامراتي هنمشي ولا عجبك وقوف السّلم …
نظرت إلى فريدة التي هزّت رأسها بالموافقة ثم رجعت الي نظرات التهديد فوضعت كفّيها بكفّيه الذي ضغط عليه وتحرك كالملك الذي ينصب على عرشه.
بعد قليل انتهى عقد القران وهي جالسة بجوار غادة بصمت توزّع نظرات على الجميع، الجميع يشعرون بالسّعادة، فتح مصطفى ذراعه :
-حبيبتي ألف مبروك، واخيرًا هتفضلي تحت رعايتي العمر كلّه ..أغمضت عيناها بأحضانه تريد أن تصرخ بأعلى صوتها ولكن كأن أحدهم يدفنها بداخل قبر ولا تستطع الصراخ.
جذبتها غادة
-ميرو تعالي نرقص نحتفل، مش كفاية كتبنا الكتاب ساكت كدا
أشار إليها بعينيه :
-اقعدي يابت رقص إيه اتجننتي، نهضت من مكانها أخيرًا بعدما فاقت من الغيبوبة الفعلية التي وضعت بها ثمّ هتفت :
-تعالي نرقص فوق، ولا يهمّك هنرقص للصبح وخلّي اللي يعترض يعترض .
هزت فريدة رأسها باستياء من ردود أفعال إبنتها، اتجه مصطفى إليه قائلًا
-حبيبي ليه مخرجتش مع خطيبتك تحتفل برة، توقف واجابه:
-لا مش قادر، عندي سفر بكرة لمدة يومين
-خلاص يامصطفى مش مهم المهم يكونوا فرحانين
ابتسم بسخرية وأجابها بغموض:
-فعلا عندك حق أنا النهاردة أسعد واحد ، قالها وصعد للأعلى .
صعدَ إلى غرفةِ أختهِ طرقَ الباب ثم دلف، توقف على الباب مشيرًا بتهديد:
عارفة لو رقصتي هعمل إيه؟،
صمتت ولم تعبرهُ إهتمام حتى خرجَ من باب الغرفة، فألقاته بالوسادة
-والله لأرقص وفوق التربيزة كمان اخبط دماغك في الحيطة، تحرك وعلى وجهه ابتسامة متمتمًا
مجنونة ياميرو ..قالها وهو يدلفُ إلى غرفته، تحرَّكَ إلى أن توقَّفَ أمامَ المرآةِ ينظرُ لنفسه، ابتسمَ ساخرًا:
عملت اللي عايزُه ياإلياس، هتقدر تنتقم منهم و لَّا دا كان مجرد تهديد عشوائي علشان تمتلكها وبس
عند إلياس بعد اسبوع
خرج من عمله يهاتف أحدهما
-الاستاذة في الجريدة ولا فين؟!
نظر للمبنى أمامه قائلًا:
لا يافندم في الجريدة..تمام، قالها وهو يغلق الهاتف وتحرك إليها وعلى وجهه ابتسامة قائلًا:
-جايلك يامراتي البايرة..وصل بعد قليل، كانت منهمكة بعملها لم تشعر بوجوده سوى من رائحته التي تسللت إلى رئتيها، رفعت رأسها تبحث عنه بلهفة غير مصدقة أن أحدهما يحمل نفس رائحته، وجدته يقف أمامه بهيئته التي سلبت عقلها قبل قلبها مع ابتسامته التي بدأت تراها في بعض الأحيان
ضربت على كفيها قائلة
-خير ياحضرة الفاضي ..جذب المقعد وجلس بغروره يضع ساقًا فوق الأخرى
يشمل المكان بنظرة قائلًا
-بقالك سنتين شغالة وأول مرة اشوف مكتبك، وانت ماشاءالله أربعة وعشرين ساعة عندي ..دنى بجسده وحاورها بنظراته
– بس المكتب مش بطال على فكرة، ماهو مش معقول حرم إلياس السيوفي تقعد في أي مكان
أشارت إليه تلتفت حولها
-يعني إنت السبب في نقلي للمكتب دا
اومأ لها بغمزة ثم أردف
-لحد النهاردة بس، شوفتي كنت معاكي حنين ازاي من غير ماتعرفي
جزت على أسنانها وطرقت على المكتب
-خير جاي ليه ؟!
-بردلك الزيارة ياروحي
دنت بجسدها تشير إليه بالاقتراب ولكنه ظل كما هو قائلًا:
-بطلي شغل الاطفال دا، انت كبيرة اعقلي، ومتنسيش انتي مراتي وانا ميرضنيش يقولوا مراتك هبلة
-طيب ياعاقل ياجوز الهبلة قوم امشي بدل مااطردك
غاص في عناد تمردها الذي راق له وقال
-قهوتي مظبوطة يامراتي البايرة
رسمت بسمة سمجة على وجهها مضيقة العينين
-معندناش بن ياجوزي الباير
رسمت عيناه ردودها الطفولية بابتسامة عريضة يضع خديه على كفيه
-اطلبي عصير اكيد حافظة انواع العصير اللي بحبها
تأففت بضجر فهبت من مكانها واردفت من بين أسنانها
-معندناش سكر، وقوم امشي بدل مااطلب لك الأمن
توقف واستدار يستند بظهره أمامها على المكتب غامزًا بطرف عينيه
-مش كفاية انا مسكر
ذابت من كلماته، هذا الرجل يثير بداخلها مشاعر متضاربة تحملها له لم تعد تعلم بماذا تشعر بقربه، انحنى بجسده وعلم ماتشعر به من خلال تحرك عيناها فأردف هامسًا:
-هتطلبي العصير للمسكر…تراجعت مبتعدة واطلقت ضحكة صاخبة مما جعل الجميع يطالعونهم، رفعت كفيها تشير معتذرة
-اسفة ياجماعة عندنا شئ مسكر هنا والدبان بيزن فوق راسي
انحنى يسحب كفيها مع نظراته للجميع
-اعذروها أصلها مصدومة بعد ماعرفت أنها انطردت من الشغل
برقت عيناها تطالعه بذهول، وتسائلت
هي مين دي اللي انطردت، حاوط جسدها بكفيه وتحرك مغادرا المكان قائلًا
-إنتِ ياروحي، مفيش شغل وتنطيط بعد كدا ..تحرك مسلوبة الإرادة بسبب قربه الذي سلب عقلها
وصلت بعد قليل بسيارته مترجلًا منها
-انزلي ياحلوة ..قالها وتحرك للداخل دون حديث آخر
ظلت كما هي بالسيارة لمدة دقائق ثم هبطت من سيارته بخطوات متخبطة، قابلتها غادة تطالعها بذهول عندما وجدتها بتلك الحالة
-ميرال مالك ..رفعت رأسها إلى غادة وتمتمت بتقطع
-اخوكي خلاهم يطرودني من الشغل
خطت بخطوات تاكل بها الأرض وكأن هناك من يطاردها، توقف غادة أمامها :
هتعملي ايه يامجنونة، دفعت الباب والله لاندمه، دلفت غرفته دون استئذان، تصرخ باسمه، خرج من المرحاض محاوط جسده بمنشفة، وبيده أخرى يجفف خصلاته توقف حينما وجدها بتلك الهيئة الغاصبة
-عايزة ايه بوتجاز، داخلة اوضتي ليه..لم تهتم بهيئته، اقتربت منه
-هموتك، والله هموتك لو قربت من شغلي تاني، ورقة الجواز تبلها وتشرب ميتها، انسان مستفز، مفكر الكل عليه الطاعة، هفضحك يازوجي المستبد..قالتها واستدارت لتغادر
-استني عندك يابت…..
دنى منها يشير إليها بالاقتراب
-ايه اللي قولتيه دا ..اهتزت حدقتيها بعدما استفاقت على حالته، فركت يديها تتراجع للخلف تبتعد بنظراتها عن عيناه
– انت واحد مستبد متفكرش هسكت على اللي عملته، فوق انا مش خايفة منك ولا تفكر ورقة الجواز دي هتخليك تتحكم فيا، انا ميرال جمال الدين ولا انت ومليون زيك، فارد ضلوعك عليا ليه،انا مش معترفة بيك اصلا ، قالتها وهمت بالمغادرة الا أنه جذبها بقوة يدفعها على فراشه عندما أخرجت شيطانه قائلا
-وأنا دلوقتي هخليكي تعترفي بيا يااستاذة علم الدين
بالأسفل دلفت إلى مكتبه وابتسامة خلابة تزين وجهها
-طلبتني، توقف يفتح ذراعيه إليها
-تعالي حبيبتي انا اقدر استغنى، سحبها وأجلسها بأحضانه، نزل برأسه يدفنها بعنقها يستنشق رائحتها بوله
-من أول مرة اخدتك في حضني وريحتك دي بعشقها، وضعت رأسها على رأسه واحتضنت كفيه
-ربنا يباركلي فيك يامصطفى ومايحرمنيش منك يارب
اعتدل جالسًا وحاوط أكتافها، سحب نفسًا قويًا حتى يستطع اخراج مايؤلم روحه، رفعت رأسها تتعمق بعيناه ومازالت ابتسامتها تزين ملامحها
-يااااه دي كلها تنهيدة..
فريدة بتثقي فيا قد ايه!!
أشارت إلى قلبه ووضعت كفيها على صدره قائلة بنبرة واثقة:
-قد دقات قلبك تحت ايدي يامصطفى، شوف القلب بينبض كام مرة في الدقيقة واضرب اضعافهم، بلاش احلف لك انك اجمل حاجة حصلت لي بعد موت جمال
احتضن وجهها ودمغ جبينها بقبلة حنونة، تحكي الكثير من المشاعر، ثم رجع بجسده للخلف وجذبها تحت حنان ذراعيه مردفًا:
-هقولك سر مخبيه بقاله تلاتين سنة عن الكل، حتى اختي الوحيدة متعرفوش…اعتدلت ونظرات مستفهمة منتظرة حديثه باهتمام
احتضن عيناها واردف بلسان ثقيل
-إلياس!!..اومأت له منتظرة تكملة حديثه بلهفة ولا تعلم لماذا ..اغمض عيناه حينما شعر بثقل اهدابها من الدموع ثم فتحهما قائلاً
-اوعديني الكلام اللي هقوله يفضل بينا سر يافريدة
ملست على وجهه وتعمقت بالنظر إليه
-وحياة مصطفى اللي هو اغلى من أي حاجة ماهقول لحد
ابتلع غصة مدببة كأنها سيوف حادة واسترسل:
-إلياس مش ابني حقيقي، دا ابني بالتبني ..
ألجمتها الصدمة ولم تشعر بما حولها وكأن أحدهم سلب روحها، لينتفض جسدها وتشعر بانصهار روحها، وبدأت تشعر بدوران الأرض وكأنها ستفقد وعيها..حاولت تستفسر عما استمعت إليه ، ولكن هربت الحروف ولم يعد لديها القدرة على النطق
اقترب يحتضن وجهها وحاول استرضائها بعدما وجدها بتلك الحالة:
-سامحيني علشان خبيت عليكي، بس مكنش ينفع اقول لأي مخلوق، الواد ظابط في أمن الدولة، انت عارفة يعني ايه يطلع مش ابني
تآذر الوجع بصدرها من ضربات قلبها المرتفعة، تطالعه بأعين مرتجفة
-ازاي تخبي عليا حاجة مهمة زي دي، احنا متجوزين بقالنا اكتر من عشرين سنة عارف يعني ايه، عشرين سنة وأنا بنام في حضنك، عشرين سنة شوف كام مرة اتكلمنا فيهم عليه، ازاي وليه وانت لقيته فين ولا اتبنيه ازاي، وازاي وازاي وازاي يامصطفى حرام عليك ، دا انا خبيت عليك حقيقة ميرال سنة عقبتني وبعدت عني، قولي اعمل ايه. وكمان اتجوز بنتي، نهضت من مكانها تدور بالغرفة تشير لنفسها
-مكنتش قد الثقة علشان تقولي حاجة مهمة زي دي، انا اللي قولت لك على كل حاجة وانت مخبي حاجة مهمة زي دي، طيب ليه ..توقفت فجأة وهرولت تجثو أمامه
-الياس عنده 32 سنة يامصطفى، انت لقيته ولا اتبنيه منين، اوعى تكون لقيته مكان ماضربتني بالعربية، نهضت تهز رأسها لا لا .. مستحيل ممكن يكون ابني، إلياس ممكن يكون ابني
توقف اخيرا يضمها إلى صدره
-فريدة اهدي هو لو عندي شك ماكنت زماني قولت لك، لا مالقتوش في السويس، غادة اللي لقيته على باب الدار، انت ناسية أنها كانت فاتحة الدار قبلك، الصبح اتصلوا بيها وعرفوها، الولد كان عنده سنتين وقاعد بيعيط ومش راضي يسكت، اخدته غادة واتعلقت بيه، ويوم عن يوم بقت تتجنن من بعده لدرجة كانت بتبات معاه في الدار وساعات بتجيبه، وبعد عمليات الحقن الكتيرة فقدنا الأمل نجيب ولاد طلبت مني نسجل الولد باسمي، ومخبيش عليكي استخدمت سلطتي والولد اتكتب باسمنا ومن وقتها والكل عرف ان الولد ابني بعد سفر غادة خمس سنين ألمانيا، وبعد مارجعت عملنا حفلة واعترفت للدنيا كلها أنها أنجبت طفل، وفي الفترة اللي سافرت فيها غيرت طقم الدار كله علشان محدش يشك في حاجة، والولد فضل عايش معانا لحد ماقابلانكي والباقي اكيد تعرفيه
جلست بجسد منتفض تمسح على وجهها بعنف لازم تعرفلي لقيته امتى بالظبط، بكت بشقهات تضع كفيها على صدرها
-حتى ولو عرفت أن اليوم دا هو اختفاء يوسف دا مش إثبات أنه ابني ، اثبت ازاي يارب، يارب يطلع ابني معقول يطلع ابني ، معقول ربنا يكون رحيم بيا ويكون انا اللي ربيته، مش مهم كره ليا المهم يطلع ابني
-فريدة ..اتجننتي ايه اللي يجيب ابنك عندنا ..هزت رأسها انا هثبت لازم ادور
راااااجح ..لازم اعمل التحليل
كان أحدهم يستمع إلى حديثهما..فتوقفت كالجثة التي سُحبت أنفاسها إلى بارئها
سيلا وليد
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق