القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام الفصل الثاني وعشرون 22بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

التنقل السريع

     

    رواية محسنين الغرام الفصل الثاني وعشرون 22بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات






    رواية محسنين الغرام الفصل الثاني وعشرون 22بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


    ـ ٢٢ ـ


    ـ فلنبدأ من جديد ؟! ـ


    ــــــــــــــــــــــــ


    عاد إلى بيته يائسًا، لم يتوقع أن تكون العودة قريبة إلى هذا الحد، ولم يتوقع أبدا أن يكون السبب الذي يحول بينه وبين عودته للڤيلا مرة أخرى هو انتحار شقيقته !


    ألقى بجسده على الأريكة بإهمال، وأرخى ذراعيه إلى جواره، ثم أسند رأسه للوراء وشرد بالسقف باستسلام..


    طاقته الآن صفر.. 


    كل ما حدث اليوم استنزف روحه وترك له ندبة لن تزول، ولولا أنه أصبح يحترف الصمت والكتمان لثار الآن كالوحش الذي يحتضر وأطلق كل ما يشعر به ، ولكن كما يقال أن كثرة الحزن تُعلم البكاء ، فإنها تُعلم الصمت كذلك ! وطبيعة كل شخص هي من تجبره على إختيار أيّ الطريقين يسلك .


    وهو بطبيعته صامت، وبحكم الظروف صامت، وبحكم المرض صامت، وبحكم الفقد صامت، ولكن بداخله ألف صوت وصوت يرغبون في الانطلاق، بأعماقه فوضى لا ترحم ولا ترأف بحاله، بداخله ما لا يمكن نبشه بالثرثرة أبدا.


    تنهد بإحباط، ونهض وهو يحمل سترته بيده، جرّ قدميه ناحية غرفته، ضغط مقبس الضوء ووقف يتأمل الغرفة الساكنة للحظات، ثم تقدم من الفراش وألقى جسده عليه بقوة، وفرد ذراعيه بجواره بإرهاق وأخذ ينظر إلى السقف .


    تُرى هل سيكون مصير أخته هو نفس مصير أمه ؟!

    تُرى هل سيتذوق مرارة الفقد والخسارة مجددا ؟!

    تُرى هل هو مقصرًا معها لذلك الحد الذي جعلها تختار الموت لأنها يئست وفقدت الأمل !! 

    تُرى هل ستنفذ نغم قرارها وتغادر ؟! 


    إلى هذا الحد وزفر بقوة واستياء، في واقع الأمر هو يعرف أنه مخطئا، ولكن قد سبق السيف العذل ، لقد قال ما قاله ولا جدوى الآن من لوم نفسه .


    نهض متعبًا، دخل الحمام لكي يأخذ حمامًا دافئا ومن ثم ينام لبضع ساعات قبل أن يذهب إلى المشفى.


    دخل الحمام ووقف أسفل سيل الماء الساخن، وأغلق عينيه بقليل من الاسترخاء وهو يضم عضديه بيديه وفجأة.  فتح عينيه بعد أن تذكر شيئا .. هل نسي باب السيارة مفتوحًا ؟! 


    أنهى حمامه سريعا، وارتدى ملابسه على عجالة، ثم غادر الشقة مسرعًا ونزل إلى المرآب، تحقق من باب السيارة وهو يعرف أنه سيجده مغلقًا، ولكنه استجاب مقهورًا لذلك الهاجس الذي اقتحم رأسه فجأة، وبالفعل وجد الباب مغلقًا، فغادر المرآب وصعد إلى شقته مرة أخرى .


    كان يشعر بالأمواج المتلاطمة تضرب صدره بعنف، بداخله طاقة غاضبة رهيبة ولا مفر من السعي في إفراغها قبل أن تنعكس عليه .. وفي الواقع هو غير مستعد لأي حماقات قد يرتكبها مجددا بعد تلك التي أصابت المسكينة صاحبة العينين الجميلتين خاصته.


    لذا دخل قاعة الرياضة الخاصة به، وقف على جهاز الركض وأخذ يجري عليه لما يقرب من نصف ساعة دون توقف. ثم ضغط زر التوقف ونزل من عليه وهو يحاول تنظيم أنفاسه المتلاحقة ، ودخل إلى الحمام مرة أخرى لكي يأخذ حماما جديدا..


    بعد نصف ساعة.


    دخل غرفته والتقط هاتفه، نظر بالساعة فوجدها تشير إلى الرابعة فجرا، آذان الفجر يتبقى عليه ساعة تقريبا..


    ابتلع ريقه بتوتر، لقد امتنع عن الصلاة منذ سنتين تقريبا .. ولأول مرة بعد هاذين العامين يجد نفسه محتاجًا للصلاة.. لذا قرر أن ينتظر ، سيحاول تهدئة نفسه قدر المستطاع وبمجرد ما إن يستمع إلى آذان الفجر يتوضأ بكل هدوء ثم يقف بين يدي ربه، يناجيه ويطلب منه أن يرفع ما أنزل من ضر على أخته.


    زفر مجددا بتوتر ، يشعر أنه سيخفق ككل مرة، ولكنه استرجع نصيحة الطبيب .  التجاهل هو أول الطريق إلى التعافي.


    وفي طريقه إلى التجاهل قرر أن يلهي نفسه عن التفكير بالأمر، فدخل غرفته، والتقط هاتفه، وأحضر رقم عمر.


    قام بالاتصال به بعد تردد، ليجد عمر وقد أجابه على الفور:

    ـ أنا كمان كنت عاوز أكلمك بس قلت يمكن نمت.


    تنهد فريد وقال:

    ـ مين بس اللي هيجيله نوم .


    ـ مرجعتش البيت ليه ؟!


    ـ مش قادر.


    قالها فريد بإحباط، فتحدث عمر بضعف وأسى واضح في صوته:

    ـ فريد .. نسيم هتقوم منها مش كده ؟! 


    هل يسأله ؟! هو بالأساس من يحتاج لإجابة على ذلك السؤال، يحتاج أن يطمأنه أحدهم ويدعمه ويخبره أنها ستتحسن وستنجو . 


    ـ إن شاء الله يا عمر . ادعي لها .


    صمت عمر للحظات، ثم تحدث وهو ينتحب بهدوء :

    ـ أنا مش قادر أفضل في البيت ده معاه ؟! كل حاجه هنا خانقاني وطابقة على نفسي . أنا من بكرة هاجي عندك .


    أومأ فريد بهدوء وقال:

    ـ اللي يريحك .. 


    وتابع بإيجاز:

    ـ أنا هقفل دلوقتي ، أشوفك الصبح في المستشفى.


    أنهى فريد الاتصال وخرج، شيئا ما يلح عليه أن يذهب للمرآب مجددا ويتحقق مرة أخرى من باب السيارة .


    تبا لذلك الوسواس الذي لا يرحم حتى في مثل تلك الليلة !!


    غادر الشقة وهو يدس هاتفه بجيبه، ثم نزل إلى المرآب وسار نحو السيارة، وقف أمامها وأخذ ينظر إلى الباب بقلة حيلة ، وفي لحظة ضعف ويأس رفع ناظريه إلى السماء يتضرع إلى ربه بعجز:

    ـ يا رب.. أنا تعبت .


    أخرج هاتفه من جيبه وأحضر تطبيق الكاميرا، ثم أخذ يوثق كيف أنه يحاول فتح الباب ولكن الباب مغلق جيدا وبإحكام ، لكي يقحم ذلك المقطع في وجه وسواسه اللعين إذا حاول مرة أخرى أن يحثه على التحقق من الأمر مرة ثالثة .


    ***


    كانت چيلان تجلس أمام أختها، تضع رأسها بين يديها وتنظر أرضًا، غارقة في شيئا ما، تبكي بندم وتأنيب ضمير، ثم رفعت ناظريها إليها فتقابلت عينيهما الزرقاوتين الباكيتين، وتساءلت چيلان بانهزام:

    ـ ليه مقولتيليش ؟!


    طالعتها چوليا بصمت، وأسندت رأسها على ظهر الفراش..


    ـ ليه مطلبتيش مني أساعدك ؟! اوكي أنا عارفة إني انشغلت عنك وبطلت أتابع أخبارك وأسألك عن علاقتك بالكلب ده.. بس ليه مجيتيش واتكلمتي معايا وطلبتي أتدخل ، جايز وقتها كنت قدرت ألحق أي حاجه.


    ـ أنا بحب شريف .


    نطقتها چوليا باستسلام، وهي تحدق بعيدا نحو اللاوعي.. 


    ـ انتي مريضة بشريف . اللي انتي فيه ده مرض ولازم تتعالجي !


    ـ زي ما انتي مريضة بفريد كده ؟!


    تساءلت جوليا فصدمت اختها التي ظلت تحدق بها بذهول، وتمهلت للحظات قبل أن تجيب بثقة:

    ـ أنا بحب فريد فعلا بس مش لدرجة المرض يا چوليا !! بدليل إني بقدر أعمل كنترول على نفسي أغلب الوقت ، إنما انتِ …


    وتنهدت وهي تبحث عن توصيفًا دقيقًا وموجزًا لحالة أختها فقالت:

    ـ انتِ ضايعة !! ضيعتي نفسك وحياتك عشانه.. ولسه بتقولي بتحبيه !! چوليا احنا لازم نشوف therapist تتكلمي معاه .. هيفرق معاكي جدا يا روحي .


    ـ مش عايزة، مش عايزة أتكلم مع حد .. أنا كويسة، يومين تلاتة وهفوق من الصدمة وهبقى كويسة.. متقلقيش عليا.


    تحركت چوليا نحوها وجلست بحزارها تماما، ثم احتضنتها بقوة وهي تمسح على شعرها بحنان وتقول:

    ـ حبيبتي ، اللي اتكسر يتصلح .. كلنا بنغلط، سيبك من اللي قالته مامي وردة الفعل العنيفة بتاعتها. أنا معاكي ومش هسيبك ولا هتخلى عنك، بس ساعديني.


    أسندت چوليا رأسها على كتف شفيقتها وشعرت بآلامها تسكن قليلا، وأغمضت عينيها وهي تنطق بتخبط:

    ـ نفسي أموت وأرتاح.


    زمت جيلان شفتيها وسالت دمعاتها بقهر على حال صغيرتها، وأحاطتها بقوة وهي تقول:

    ـ متقوليش كدا أرجوكي.. أنا محتاجه لك. أنا بحبك وهقف جنبك وهساعدك تتخطي الأزمة دي، بس انتي كمان لازم تكوني عاوزة تساعدي نفسك .


    وزفرت نفسًا طويلا وقالت:

    ـ أنا هسيبك ترتاحي، خدي أدويتك الأول وبعدين نامي، الصبح نتكلم.


    أومأت جوليا إيماءة بسيطة، فدثرتها أختها بالغطاء جيدا ، وطبعت على جبينها قبلة، ثم أطفأت الضوء وغادرت الغرفة، همت بالانتقال إلى غرفتها، ولكنها ظلت تنظر الى باب غرفة والدتها، وخطت نحوها، همت بطرق الباب ولكن صوت بكاء والدتها هو ما أوقفها.


    هي تعرف جيدا أن أمها لا تسمح لأي كان أن يراها بتلك الحالة، لذا فضلت أن تتركها بمفردها وتعود إلى غرفتها، ودخلت.. أخذت حماما وأبدلت ثيابها، ثم دخلت إلى فراشها وأخذت تسترجع الجزء الذي سمعته من حديث سالم مع نغم.. 


    اشتعل لهيب الغضب بقلبها، وأخذت تفكر ، هل هي فعلا مريضة بفريد كما أخبرتها أختها ؟! 


    هزت رأسها بلا وهي تُسقط تلك التهمة عنها، هي ليست مريضة ولن تكون.. كل ما في الأمر أنها تريد أن تثأر لكبريائها الذي طعنه فريد في مقتل.


    هل هو مجرد ثأر حقا چيلان ؟! و ألا يعد هذا الثأر نابعا من فيض عشقك لفريد وتعلقك به ؟! 


    أغمضت عينيها بقوة وهي تحاول نفض رأسها من تلك الترهات .. هي لم تعد عاشقة أو متعلقة .. لقد انتهى هذا الأمر .


    الأمر في الحقيقة ليس صعبا كما يتصوره الجميع، لأننا نُقر في نفسنا أنه لا يمكننا نهائيا التخلص من هذا الشعور، فقد اقتنع عقلنا الباطن بهذه الكلمات، نظن أننا إذا تخلصنا من هذا الشخص الذي تعلقنا به فإنه لن يعوض، وأن خسارته فادحة .


    فنجد روحنا أسيرة بفعل التعلق، وحريتنا في أن نعيش سعداء ومطمئنين مقيدة ..


    وببقائنا على ذلك الحال فإننا نهدر كل ما نملك من طاقة وإرادة، ويصبح الإفلات والتخلي أمرًا مستحيلا .


    ***


    ‏كلما حاول الهروب من أفكاره، تفاقمت وتضاعفت، وتدفقت الواحدة تِلو الأخرى، تدفق يخلق طنين في الدماغ، ويجعل الراحة حلمًا بعيد المنال.. تدفق قهري يجعله في تساؤل لانهائي.. إلى متى ؟!


    استمع الى آذان الفجر وقد صدح في الأرجاء فاضطرب وشعر بالقلق، لا يعرف هل سينجح هذه المرة أم سيفشل ككل مرة ، ولكن عليه أن يحاول.


    نهض ودخل إلى الحمام لكي يتوضأ، وبعد أن أنهى وضوءه خرج ووقف مستقبلا القبلة وهو يشعر بداخله بالحماس والفرحة الشديدة ، ففي السابق لم يكن ليتمكن من إتمام الوضوء لأنه كان يواجه وساوس عدة، كأن يشعر أن الماء لا يصل لجسده، أو أن وضوءه خاطئًا، أو أنه لايزال غير طاهرًا بعد أن توضأ ، فيعود ويكرر ما فعله مرة تلو الأخرى إلى أن يصاب باليأس ويمتنع عن أداء فرضه. 


    أما الآن فالأمر تحسن كثيرا، فها هو قد أتم وضوءه بدون وساوس، بدون هواجس، وبدون تكرار.


    رفع يده مكبرًا وهو يشعر بقلبه يخفق بقوة في صدره وبدأ بقراءة سورة الفاتحة وهو يحاول جاهدًا أن يحافظ على خشوعه وأن يستشعر عظمة الموقف، وأن يستحضر قلبه في تلك اللحظة التي يحتاجها بشدة ولكنه لم يفلح، فجاءت أحداث اليوم كله تمر أمامه كشريط فيلم سينمائي، حواره مع والده، حواره مع نغم، وحادث نسيم.. 


    وعى على حاله بعد لحظات وأدرك أنه قد توقف عن قراءة الفاتحة فأعادها مجددا وهو يحاول أن يبقى هادئا وأن يتجاهل وسواسه وألا يدعه يتغلب عليه، ولكن تلك الهجمة الوسواسية البشعة التي هاجمته كانت هي الأعتى والأعنف من نوعها، حيث أنه تخيل وكأنه سيسجد الآن لغير ربه.. وهذا ما جعله يمتنع فورا ويوقف صلاته وينسحب في الحال .


    غادر الغرفة بأكملها وتوجه إلى غرفة المعيشة، جلس على الأريكة وأسند وجهه بين كفيه وانفجر باكيًا بانهزام واحباط..


    كل شيء حوله يدفعه للانهيار، كل شيء يحوله إلى آلة بدون أن يشعر بعد أن اعتاد الألم والمعاناة ، بعد أن اعتاد الخسارة والفقد، بعد أن جرب كيف تتجرد الأمنيات من الواقع، وكيف يختتم كل لحظة سعيدة بخيبة أمل قاتلة. ولكنه بالرغم من ذلك يجاهد لكي يبقى حيًا، يحاول الإبقاء على إنسانيته لآخر رمق ، يحاول الحفاظ على قلبه، يحرر أن يحرر نفسه من كل القيود الخانقة التي أوجدتها نفسهُ القلقة المترددة، يحاول الهرب من الزوايا المعتمة التي أسرته طويلا وأغلقت أمامه الطريق للعودة.


    مرت بعدها دقائق طويلة وهو لايزال على نفس الحال، إلى أن قفز إلى رأسه شيئا جعله يستعيد انتباهه في الحال، وهو قول نغم بأنها تريد اخباره شيئا ضروريا.


    أخذ يفكر بتعجب، ترى ما هو هذا الشيء الذي ستقوله!! وإلى أي مدى تصل أهميته؟ فنهض وقام بتبديل ملابسه، وقد قرر أن يذهب إلى المشفى.. عليه أن يعرف منها كل شيء، وسيفعل.


    ***


    يقول أنيس منصور: لكي لا تموت مرتين لا تعود لمن خذلك ، ولكنه لم يقل ما الحل إذا كان من خذلك هو نفسه من يتمثل فيه أمانك وملجأك الوحيد ؟! هل حينها ستبقى القاعدة ثابتة ؟! أم أن لكل قاعدة استثناء ؟!


    كانت تجلس على أحد المقاعد الموجودة بقاعة الانتظار وهي تفكر، تستعيد ما قاله لها اليوم، كل كلمة تفوه بها لازالت تحتفظ بها في ذاكرتها، كل كلمة صوبها نحوها كالرصاصة لازال أثرها بقلبها لم يختفِ، ولا تظنه سيختفي أبدا .


    فسابقا تحملت الكثير من حسن، ولازالت على استعداد أن تتحمل أكثر، فضرباته قد فقدت تأثيرها عليها ولم تعد موجعة ، أما فريد.. الشخص الوحيد الذي شعرت بجواره بأنها آمنة، كانت تشعر أن لديها درع واقي وحامي يمكنها اللوذ به، حصن منيع يقيها الضربات والخذلان ويخفف عنها، ولم تكن تعلم أنه بذاته من سيسدد لها ضربة قوية لن تنهض بعدها.


    تنهدت وهي تحرك رقبتها وتفرد ذراعيها بتعب، ثم أسندت رأسها على الجدار من خلفها، وعقدت ذراعيها أمام صدرها وأخذت تنظر من النافذة الزجاجية الكبيرة بجوارها ، تراقب بزوغ الفجر وعلى ملامحها ترتسم المرارة بوضوح..


    انتشلها من أحزانها وشرودها شيء عجيب ، تلك الرائحة التي توغلت إلى داخلها، وجعلتها تلتفت بلهفة لتراه واقفا أمامها، يطالعها بعينان متعبتان، ووجه ارتسم عليه معالم الحيرة والتشتت.. فانهزم كل شيء بداخلها، حتى جسر الخذلان الذي شيدتهُ بينهما سريعا، انهار وانهارت معه دمعاتها..


    جلس بجوارها بصمت، لم يتفوه بحرف، هو أساسا غير قادر على النطق، كل ما يحتاجه الآن هو البقاء جوارها فحسب.


    ابتلعت ريقها بوهن، وظلت تنظر بعيدا بعينيها اللتين ترغبان في الالتفات إليه وتفحصه عن قرب ، تريد إشباع نهمها الذي يطالب بالنظر إليه والوقوع أسيرا لنظراته، ولكنها روضتها قدر الإمكان وتمسكت بموقفها المزعوم.


    ـ أنا آسف .


    نطقها بهدوء ظاهريا، يناقض النيران المتأججة برأسه، وتابع بصوتٍ منغلق تملؤه الريبة:

    ـ مكنتش حابب أزعلك صدقيني.. و آسف لأني تجاوزت حدودي.


    صمت، لم يعد بمقدوره إضافة المزيد ، وفي الواقع هي متفهمة للغاية، لأنها لم ترد ولم تسأل عن شيء، اكتفت بالتحديق أمامها بصمت وهي تحاول إيجاد لجام لكي تكبح به السيل المتدفق من عيناها دون هوادة. 


    شبك كفيه وانشغل بالنظر إليهما وهو يتحدث حديث صامت مع عقله، ثم تنهد وهو ينظر أمامه ويقول:

    ـ كنتي قولتي إنك عايزة تقوليلي على حاجة ضروري وبعدين جالي التليفون من زينب ومكملناش كلامنا !


    انقبض قلبها بتوتر وارتباك، ثم أومأت أن نعم وقالت:

    ـ صح. بس أعتقد حاجة مش مهمة ، أنا كده كده مش ناوية أرجع البيت تاني وبمجرد ما نسيم تتحسن إن شاء الله هخرج من حياتكم نهائي .


    تجهمت تعابيره لأنها كررت ما قالته سابقا، ولكنه تجاوزه وصولا للجزء الأهم فقال :

    ـ ما علينا من ده كله، إيه هي الحاجة المهمة ؟!


    أخذت نفسًا عميقًا ثم أجابت:

    ـ سالم بيه.. 


    نظر إليها باهتمام وأرهف السمع ليستمع ما ستقوله، فقالت وهي تطرق برأسها أرضا:

    ـ من يومين جالي أوضتي واتكلم معايا .. قاللي إنه عايز يتفق معايا إتفاق .


    قطب جبينه متعجبا، بينما تنهدت وهي تسرد عليه ما حدث يومها.


    ـ استرجاع زمني ـ


    ـ الثانية عشرة بعد منتصف الليل ـ


    بينما كانت تستعد للنوم استمعت إلى صوت طرقات على باب الغرفة، مما أثار تعجبها وجعلها تتساءل من سيكون الطارق الآن بما أن زينب غادرت غرفتها للتو ؟!


    نهضت وهي تعدل هيئتها وثيابها بتوتر، ثم فتحت الباب لتتفاجأ بآخر شخص كانت تتوقعه .

    ـ سالم باشا ؟!


    تساءلت بصدمة واستفهام، فرأت على وجهه ابتسامة بسيطة، ثم دلف وهو يقول:

    ـ مساء الخير. لازم نتكلم كلمتين.


    كانت تتطلع نحوه بقلق ورهبة لا يضاهيهما أي شعور آخر، وابتلعت ريقها بخوف وقالت وهي لاتزال متمسكة بالباب:

    ـ اتفضل..


    التفت ووقف في مقابلها وهو يقول مشيرًا نحو الباب:

    ـ اقفلي الباب وتعالي !


    تعجبت طلبه، وأثارت نظراته اضطراب معدتها وارتجاف أوصالها، فتقدمت من الباب مرغمةً وأغلقته، ثم عادت بناظريها إليه وهي لاتزال واقفة بمكانها، وأخيرا تنهدت وهي تقول بارتياب:

    ـ اتفضل.


    وقف بثبات، يعقد يديه خلف ظهره ويتطلع نحوها بنظرات ثاقبة، ثم تحدث قائلا:

    ـ ها.. إيه الأخبار ؟! قدرتي تفتكري كل حاجه ؟! ولا لسه بردو في حاجات مسقطة منك ؟!


    ارتبكت إثر نظراته التي كانت تخترق حدقتيها، وأومأت وريقها قد انزلق لاإراديا وهي تقول:

    ـ أيوة.. العلاج اللي كتبه الدكتور جايب نتيجة الحمد لله. 


    أومأ متظاهرًا بالسعادة وقال:

    ـ عال . كويس جدا .. 


    أومأت وهي تشعر بأن داخلها يهتز ، ليهتز فعلا وتهتز معه أرجاء الغرفة من حولها عندما سمعته يقول:

    ـ يعني قدرتي تفتكري اسمك بالكامل ؟! نغم ناجي الزيني ؟! قدرتي تفتكري تاريخ ميلادك ؟! ١٢ أبريل ٩٩ ؟؟ قدرتي تفتكري اسم والدتك ؟! بدر كارم دهشان ؟! 


    شحب وجهها وهي تطالعه بذهول، من أين حصل على كل تلك المعلومات الدقيقة ؟! وما الذي يقصده من كل تلك الأسئلة ؟! ليتابع هو بما جعلها ترتجف خوفا وتقول:

    ـ و يا ترى فاكرة إنك نفس البنت اللي اقتحمت الحفلة بتاعت فريد وباسته قدام الكل واتسببت له في فضيحة كان تمنها خساير بملايين ؟! 


    ابتلعت ريقها بترقب، تشعر أن القادم أسوأ، وما تغاضى عنه فريد لن يتغاضى عنه والده..


    ـ نظرتك بتوضح إنك افتكرتي كل حاجه ، الحقيقة أنا لما عرفت إنك نفس البنت بتاعة الحفلة استغربت ازاي فريد قدر يعدي لك حاجة زي دي ؟! مع إني عارف إنه مش بيتهاون أبدا مع أي حد بيفكر يخسره أو يأذيه، ولما عرفت كمان إنه هو اللي عملك انعاش لما قلبك وقف استغربت أكتر، بس وقتها قلت أكيد بيعمل كده عشان خاطر أخوه، لكن أسأت تقدير الأمور واتضح إنه بيعمل كده لأنه له هدف عاوز يوصل له.


    وتابع وهو ينظر إليها بثبات وقال:

    ـ والحقيقة إن انا كمان ليا هدف ، لأني متعودتش أخلي أي فرصة تفوتني من غير ما أستغلها، عشان كده الاتفاق اللي هنتفقه دلوقتي ده اعتبريه واجب النفاذ.. وإلا…


    زفر مجددا وتابع:

    ـ هنسيب وإلا دي لبعدين. خلينا في المهم. أنا ملاحظ إن في بينك وبين فريد حاجة.  وشفتك كمان وانتي داخلة الاوضة بتاعته النهارده..


    ـ أنا كنت ….


    ـ مش مهم. 


    قاطعها وأكمل :

    ـ ميفرقش معايا كنتي عايزة إيه، أنا ملاحظ إن هو كمان مهتم بيكي، يعني الطريق ممهد قدامنا..


    حكت جبهتها بتوتر وريبة، ثم نظرت إليه قائلة:

    ـ مش فاهمة.


    ـ إنتِ هتتجوزي فريد !!


    ألقاها بنبرة آمرة، فبهتت ملامحها تماما ، وأخذت تحدق به بدون استيعاب ثم تساءلت :

    ـ نعم ؟!


    كانت لهجتها مستنكرة بنفس قدر الاستفهام الذي ظهر بها، فكرر ما قاله بقوة وإصرار أكبر:

    ـ إنت هتتجوزي فريد يا إما هتدخلي السجن !!


    رفعت حاجبيها بصدمة، فإذ به يستطرد قائلا:

    ـ فيديو الحفلة موجود، وبإمكاني أرفع عليكي كذا قضية، أنا معايا محامي عُقر قادر يعمل كل شيء.. وحطي تحت كلمة كل شيء دي مية خط .. عشان كده عاوزك تفكري بالعقل وتحسبيها لصالحك ، شوفي هتستفيدي إيه من جوازة زي دي، أهم شيء وأول شيء هتكوني فرد من عيلة مرسال، هتتجوزي راجل كل الستات تتمناه..


    ـ ولما هو كل الستات تتمناه ليه عايزني أنا بالذات اللي أتجوزه ؟!


    تساءلت بهدوء ولكن سؤالها استوقفه، لم يتوقع أنها ستتسائل بتلك البساطة، فأجابها بتروٍ يضمر بداخله نبرة متجبرة:

    ـ لأن شخصيته مش أي حد هيقدر يتحملها، فريد شكاك وموسوس والتعامل معاه مش سهل أبدا .. ده غير إنه مش سهل ينجذب لأي واحدة، لكن أنا شايف إنه بدأ ينجذب لك ودي فرصة لازم تستغليها..


    ـ وافرض أنا حاولت أعمل كده وهو صدني ؟! 


    ـ ده دورك بقا.. اومال أنا اختارتك ليه ؟! لأني شايف إن فيكي حاجة مميزة هتلفته، مش زي كل الموجودين حواليه، هنا بقا شطارتك هتبان، هتقدري تقنعيه بيكي ولا لا.. وأظن أنا واضح، انتي مفيش قدامك حل تاني.. 


    ارتعدت مفاصلها بخوف وترقب ، وأخذ قلبها يرتجف بين أضلاعها، ثم تساءلت بفضول يغلفه القلق:

    ـ طيب إيه لزمة الاتفاق ده ؟! يعني ليه ميكونش كل حاجه عالمكشوف وتطلب منه يتجوزني مثلا ؟! ليه لازم يبقا في خطة واتفاق !!


    ـ لأن فريد طول عمره متمرد، عامل زي الشريك المخالف، لو قولتله شمال يقول يمين، ولو قولتله يمين يقول شمال، حتى لو اللي أنا بقوله ده هو الصح، وحتى لو هو عارف كده.. بس بيعاند معايا لمجرد العِند والتمرد.. تفتكري لو قولتله اتجوز فلانة هيقوللي سمعًا وطاعة ؟!  تأكدي ان لو روحه فيكي حتى وحس إن أنا بأمره هيصرف نظر تماما عن الموضوع.. عشان كده لازم يفضل شايف نفسه ماسك زمام الأمور للنهاية .


    شعرت بالألم يدق رأسها، وأغمضت عينيها لثوان، قبل أن يخطو نحو الباب ويستند بكفه فوق كتفها وهو يقول:

    ـ دي فرصة العمر.. لازم تستغليها.. لو اتجوزتي فريد هتبقا طاقة القدر اتفتحت لك ، ولو لأ.. تبقي فتحتي على نفسك باب من أبواب الجحيم.


    " عودة للحاضر "


    تنهد فريد بعمق، وبطء، وبدا كمن يحمل ثقل العالم كله فوق كتفيه، ثم ابتسم تلك الابتسامة الساخرة خاصته وقال:

    ـ ياااه.. للدرجة دي فاقد فيا الأمل وبيعمل كل الخطط دي عشان بس يطمن :!!


    ـ مش فاهمة !


    نظر إليها وقد بدا على وجهه الاحباط وقال:

    ـ مش مهم تفهمي، على العموم مش لازم يعرف إنك حكتيلي أي حاجه.


    ـ ليه ؟!


    ـ لأن سالم مرسال مبيعرفش يعيش من غير خطط ومؤامرات ، ولو عرف إن الخطة دي خارج حيز التنفيذ هيشوف غيرها، عشان كده لازم يفضل فاهم إن الاتفاق بينكم ساري لحد ما أفوق من اللي أنا فيه وأقدر أفكر وأشوف هنعمل إيه.


    نظرت إليه بتركيز وأضافت بتصميم :

    ـ بس أنا كده كده همشي !! وبصراحة مبقاش فارق معايا أي حاجه ، يسجني ولا يعمل اللي يعمله حتى !! أنا خلاص خدت قرار .


    نظر إليها نظرة لوم صريحة، هزت قلبها في معقله، وجعلت الأحرف تتشرد على طرف لسانها، تلك النظرة تُشعرها بالمسؤولية تجاهه، وكأنه ابنها الذي يطلب منها ألا تفارقه، أن تتحمل مسؤوليتها تجاهه وتسانده لحين يتجاوز أزمته .


    ـ ولو طلبت منك متمشيش ؟! 


    تساءل والأمل يتأهب بعينيه، فتنهدت بضعف، ملعون ذلك الإحساس الذي يُشعر الإنسان أنه فاقد للكرامة وعزة النفس، وملعونة تلك الرائحة التي تجعلها على وشك الارتماء بين ذراعيه وطلب الحماية..


    ـ لو قولتلك إني محتاجلك جنبي ؟! وإن وجودك جنبي هيفرق معايا جداا خاصةً في الوقت الحالي ؟! بردو هتمشي ؟!


    صمتت كثيرا، ثم نطقت بصوت يهتز خوفا، تريد أن تخبره أن ما قاله قد أعادها لنقطة الصفر، وأنها لن تتحمل صفعة أخرى :

    ـ اللي قولته النهارده…


    ـ أنا آسف .


    قاطعها فنظرت إليه ، إلى عينيه المحبطتين الغارقتين في الحيرة، وسمعته يقول:

    ـ أنا آسف لأني خيبت أملك فيا .


    انهمرت دموعها تلقائيا، لقد أصاب الهدف تماما، وهي التي ظنته غير مبالٍ، ولكن اتضح أنه مدرك لما فعله جيدا.


    ـ أوعدك مش هتتكرر ..


    نظرت إليه وغرس الأمل جذوره في قلبها من جديد ، تريد أن تثق، ولكنها تخشى السقوط من أعلى جبل الآمال والتحطم على صخرة الخيبات من جديد..


    ـ صدقيني أنا عمري ما بتعمد أجرح حد، أنا آخر واحد ممكن يفكر يأذيكي أو يهينك.. بس اللي حصل النهارده كان فوق طاقتي، وغصب عني انفجرت بالشكل ده لأني كنت مضغوط جدا وللأسف الانفجار ده كان من نصيبك.. 


    مسحت دموعها وهي توميء بهدوء، فتابع محاولا محو أثر تلك القسوة التي تركت آثارها على قلبها:

    ـ نبدأ من جديد ؟! 


    أغمضت عينيها بتوتر ، لم تشعر من قبل أنها قليلة الحيلة مثلما تشعر الآن، وكأن هناك قوة جذب خفية تجذبها نحو ذلك الرجل وتربطها به، وتجعلها صاغرةً تذعن للأوامر وتلبي نداء هاتين العينين الضائعتين.


    أومأت باستسلام أن نعم، فرأت شفتيه المزمومتين في خط مستقيم يمتدان في شبه ابتسامة مهزومة انكمش لها جانبي عينيه بلطف ، ابتسامة فريدة، خاصة، حصرية، تتحلى بسحر مميز ، وتسمو فوق كل مألوف .


    وفجأة ذهبت كل قراراتها في مهب الريح ، وتبخرت كل القرارات أمام رجاء عينيه اللتين كانتا في أشد الحاجة إليها، هي ليست غبية، لقد رأت احتياجا صارخا في عينيه وصوته، رأت ضعفًا وقهرًا جعلاها تتغاضى عن الشعور القاتل الذي عاشته على يديه، وأمراها أن تتخلى عن كل شيء إلا هو.. 


    أعطته إشارة بالموافقة وأعطاها وعدًا مستترًا من خلال نظرته التي قالت فلنبدأ من جديد وكأننا أبناء تلك الساعة، دعيني أنسى أخطائك وعليكِ أن تنسِ أخطائي، دعينا نهب كلانا فرصةً جديدة، امنحيني فيها الحياة وسأمنحكِ الأمان على طبق من ذهب.


    ***


    في تلك الأثناء..


    كانت نيهال تجلس أمام شاشة التلفزيون ، تتابع فيلمًا بملل، فمنذ ذلك اليوم وقد منعها زوجها من الخروج عن عتبة المنزل وإلا ستلقى حسابًا عسيرًا، أمسكت بهاتفها بضجر وأخذت تتصفح مواقع التواصل واحدا تلو الآخر ، فطرأ على بالها خاطرا، حيث أن الفضول والحقد المتوغلين بداخلها جعلاها تبحث عن أي حساب يحمل اسم فريد مرسال أو أي صغحة تحمل أي خبر عنه.


    لم يفلح بحثها في شيء، حيث أنها لم تجد أي حساب باسمه، ولكن ما وجدته كان مجرد أخبار تداولتها المنصات والصفحات المهتمة بتغطية الفعاليات الخيرية ، حيث نشروا بعض الصور لفريد بجوار عناوين عريضة عن آخر المنشآت التي قام بدعمها، أو الأعمال الخيرية التي يسعى لتمويلها أو البدء فيها.


    أخذت تنظر إلى صورة فريد وتكبرها أكثر بتفحص، تراقب وسامته وحضوره الطاغي بحقد واستكثار، ثم أخذت تهز قدميها بعصبية وهي ترمق صوره واحدة تلو الأخرى وتدقق النظر بها وهي تردد بِغل:

    ـ صحيح يِدي الحلق للي بلا ودان .


    انتبهت على صوت المفتاح وهو يدار بالباب فانتفضت وسارعت بغلق الهاتف، فإذ بها تجد وحيد الذي دخل متجهمًا، ثم أغلق الباب وهو ينظر إليها ويقول بإيجاز:

    ـ لمي هدومك بسرعة، هنسيب البيت ده.


    وقفت ودنت منه وهي تعقد حاجبيها بتعجب وتقول:

    ـ نسيب البيت ليه ؟؟ 


    ـ صوفيا شكلها كده شاكة فيا وبتدور ورايا . 


    لوت شفتيها بضيق واستهجان وهي تتسائل:

    ـ وهنروح فين بقا ؟! 


    ـ عندي بيت تاني هتقعدي فيه .. يلا بسرعة.


    تقدمت من غرفتها، وهمت بجمع أغراضها، وهو بجوارها يجمع أشياءا من خزنته السرية فإذ به يستمع إلى صوت طرقات قوية على باب المنزل، نظر كلا منهما للآخر بقلق، فقال:

    ـ مين اللي هييجي في وقت زي ده ؟! 


    وقبل أن تجيبه ، وقبل أن يجدان إجابة منطقية لذلك السؤال، كان الباب قد انفرج محدثًا ضجة عالية، وبعدها استمعا إلى خطوات أقدام تتسارع نحو الغرفة، وفجأة ظهرت سيدة في العقد الخامس من عمرها، ملامحها حادة ولكنها تتسم بالجمال الأرستقراطي ، وقفت تطالعهما بغضب عاصف ثم تهادى صوتها ذو الرنة المميزة وهي تقول:

    ـ هي دي بقا اللمامة اللي انت متجوزها ؟! 


    أخذت نهال تنظر إليها، ثم إلى زوجها، ومنهما إلى زوج الفيلة اللذان يقفان خلفها ، وارتسم القلق بوضوح على ملامحها وقد علمت أن القادم لا ينذر بالخير أبدا.


    ـ صوفيا..


    حاول وحيد البدء في مخاطبتها باستكانة ولكنها قاطعته بحدة حيث هدر صوتها كالرعد وهي تقول :

    ـ اخرس، اسمي متنطقوش على لسانك. ده كان عيبي من الأول إني وثقت في واحد زيك وعملت له قيمة، كان لازم أعرف إن الأصل غلاب وإنت أصلك واطي..


    ـ صوفيا مينفعش كده.


    نظرت إليه بغضب وأخذت ترمق نهال وجمالها الفتان اليانع بغيرة غريزية لم تنجح في إخفائها ، ثم نظرت الى الرجلين بحجم البوابة اللذان يقفان خلفها، وأشارت إليهما بنظرة ذات مغزى، فأسرعا يقفان بجوار نهال التي اتسعت عينيها بمفاجأة ، وأمسك كلا منهما بإحدى يديها ، ثم نظرت إلى زوجها وهي تقول:

    ـ ارمي عليها اليمين حالا .


    نظر وحيد دون تردد إلى نهال التي أخذت تنظر إليه برجاء وامتلأت عيناها بالدموع، ثم قال:

    ـ إنتِ طالق بالتلاتة ..


    تنفست بهدوء، ثم تساءلت وهي تنظر إلى الأرجاء من حولها بتفحص وقالت:

    ـ الشقة دي باسمها ؟!


    أشاح بعينيه عن نظرات نهال المترقبة، وقال بصوت مرتبك:

    ـ لأ .. إيجار .


    جحظت عينا نهال التي صُعقت بما سمعته، و برز صوتها المصدوم وهي تقول:

    ـ إيجار ؟! ده إنت وقعتك سودا النهارده.. إنت مش مفهمني إنك كاتبلي الشقة باسمي ؟! 


    أطلقت صوفيا ضحكة مبتورة ساخرة، وأخذت تتفحصها من رأسها حتى قدميها وهي تقول بازدراء واضح:

    ـ بقا انتي .. اللي كنتي مجرد خدامة عندي بتمسحي تحت رجليا أنا وولادي.. كان متهيألك إنه هيديكي أكتر من قيمتك ؟! إنتي أصلا كتير عليكي إنك تقعدي في مكان زي ده حتى لو بالإيجار. 


    ثم تخطتها وهي تتجه نحو الخِزانة وأخذت تتفحص محتوياتها بغيظ، ثم نطقت بلهجة آمرة وهي تنظر نحو أحد الرجلين:

    ـ لموا الزبالة دي كلها في اكياس وحطوها في العربية، هنديها لأي حد محتاج.


    لم فتحت أدراج طاولة الزينة، وأخرجت علب المجوهرات منها، وأخذت تنظر إلى وحيد وهي تقول:

    ـ كمان جايبلها من نفس الستور اللي بتعامل معاه ؟! بجد مشوفتش أوقح منك .


    ونظرت إلى نفس الشاب وقالت:

    ـ والحاجات دي كلها لمها وهاتها لي.. يلا .


    ثم سارت خطوات واثقة نحو نهال التي لازالت تحت تأثير الصدمة ووقفت أمامها وهي تشبك أصابعها أمامها وتقول بلهجة مسيطرة:

    ـ و دلوقتي بقا أحب أقوللك هارد لك… حظ أوفر المرة القادمة.


    ثم نظرت من زاوية عينيها نحو وحيد الذي يقف صاغرًا أمامها وقالت:

    ـ اسبقني عالعربية، حسابك معايا أنا وأولادك لما نرجع البيت.


    تحرك وحيد بصمت نحو الخارج، فسارت خلفه لتتبعه، وقبل أن تخرج نظرت إلى الرجلين وأومأت إيماءة يعرفون مبتغاها جيدا، فانقضا على نهال يبرحانها ضربًا شديد الإيلام ، ثم قاما بتركها بمفردها وغادرا سريعا قبل أن يمسك بهما أحد سكان العمارة أو الحراس.


    ***


    في الصباح..


    استيقظ حسن من نومه إثر اهتزاز هاتفه بجواره، فأجاب بصوتٍ ناعس وهو لازال مغلقا عينيه:

    ـ أيوة مين ؟


    ـ صباح الخير يا حسن، معقول لسه نايم ؟


    لوى جانبي شفتيه بنزق وهو يقول:

    ـ خير ؟!


    ـ خير طبعا، وهو أنا ييجي من ورايا غير الخير ؟! يلا البس وتعالى عشان تفطر معايا .


    ـ مش هينفع، أنا بفطر مع أمي كل يوم .. هبقا أفوت عليكي في الصالون.


    وأنهى الاتصال وأخذ يمسح على وجهه بضيق، فانتبه على صوت خطوات والدته حيث أنها تقترب منه ، ثم طرقت على الباب مرتين ودخلت..

    ـ يلا يا حسن الساعة بقت ٩ 


    ـ ماشي ياما، روحي اجهزي عشان بعد الجلسة ورانا مشوار ضروري هنعمله.


    نظرت إليه بتعجب وتساءلت:

    ـ مشوار إيه ده ؟!


    ـ مفاجأة .


    تهللت أساريرها ونطقت بلهفة:

    ـ هشوف نغم ؟!


    قطب جبينه مستاءًا، ثم نظر إليها وقال وهو يشرد بعينيه بعيدا:

    ـ أكيد لا. 


    تراجعت لهفتها وخبا بريق عينيها، ثم قالت بإحباط واضح:

    ـ اومال مشوار إيه فهمني ؟!


    ـ بعدين ياما.. هتفهمي لما نوصل.


    وتخطاها وخرج متجها نحو الحمام، فخرجت هي لتعد لهما الفطور..


    جلس حسن أمامها على المقعد المقابل لمقعدها، وكلا منهما شاردا في شيء ، وبين كل فينة والأخرى كانت تتطلع نحوه بتردد، ثم تساءلت :

    ـ قوللي يا حسن، ناوي على ايه  ؟!


    ـ من ناحية إيه ؟!


    تسائل وهو يدس الطعام بفمه وينظر إليها بهدوء فقالت بحذر:

    ـ بعد ما عرفت نغم فين ؟! 


    تنهد بضيق وقال:

    ـ ناوي أرجعها . و دي فيها كلام دي ؟!


    ابتلعت ريقها وهي تهرب من عينيه الجامحتين وقالت:

    ـ هترجعها ازاي ؟!


    ـ بالطريقة يا ام حسن.. ولا انتي فاكرة اني هسيب نغم كده على كيفها ؟! لأ.. أنا بفكر وبخطط عشان أعرف ارجعها ، بس لسه مش لاقي الحل المناسب.. بس على العموم قربت أوي .


    تنهدت بخوف، ونظرت إليه بطريقة أوحت له بكم الحديث الساكن في عينيها ، فقال :

    ـ عايزة تقولي إيه ياما ؟


    ـ عايزاك توعدني إنك مش هتعمل أي حاجه تأذي بيها نغم أو نفسك ..


    وتابعت وهي تشيح بيدها وكأنها تضيف شيئا غير ذو قيمة بعدم اكتراث:

    ـ ولا الشاب ده اللي من عيلة مرسال .


    نظر إليها متعجبا ثم قال:

    ـ وانتي شاغلة بالك ليه؟ متقلقيش أنا كفيل بيه وبالأشكال اللي زي دي ، وعلى العموم عشان متفضليش خايفه .. نغم هي اللي هترجع بمزاجها وهتعقل وتنسى كل الهبل اللي هي عملته ده، هو بس زي ما بيقول المثل، الغربال الجديد له شدة ، هي فرحانة بالهيلمان اللي هي فيه، لكن لما تاخد على دماغها هترجع هنا غصب عنها..


    وتابع بصوتٍ خفيض يشبع الوعيد:

    ـ بس لازم لما ترجع تتعلم الدرس كويس أوي ، وتعرف إن اللي مليان جيبه مغطي عيبه، وان اللي يبص لفوق تتكسر رقبته .


    لم تجد في كلامه ما يدعوها للراحة أبدا، فهي تعرف ابنها، لا يتخلى عن شيء يخصه ابدا ، فكيف إذا كان هذا الشيء هو نغم التي رباها وتعلق بها منذ كانت طفلة بحجم الكف، تعرف كذلك أن سكوته يشبه الهدوء قبل العاصفة ، فبالتأكيد هو يخطط لشيء هي لا تعلم ماهيته.


    ـ قوللي يا حسن ؛ عمرك فكرت لو كان ليك عيلة وأهل ليهم تقلهم في البلد .. كان حالك هيبقا عامل إزاي ؟!


    تغضن جبينه متعجبا وأخذ ينظر إليها قائلا:

    ـ في إيه ياما مالك ؟! عماله تفترضي حاجات غريبة وتسألي أسئلة أغرب ، ما تخليكي دوغري وتقولي عايزة تقولي إيه  !


    أشاحت بعينيها عنه بتوتر وهي تقول بارتباك:

    ـ هكون عايزة أقول إيه يعني يا حسن أديني باخد وبدي معاك مانا قاعدة طول نهاري لوحدي لا بشوف حد ولا بتكلم مع حد، وانت طول اليوم برا وبترجع على النوم .. حرام يعني لما أتكلم معاك ؟


    نظر إليها بشك واستغراب، يشعر أنها تخفي شيئا ما، أو تمهد الطريق إلى شيئا هو لا يعرفه، ولكنه تنهد وقال:

    ـ لأ مش حرام ، اتكلمي زي ما انتِ عايزة. عالعموم أنا لو كان ليا عيلة وأهل كبار زي ما بتقولي أكيد مكانش هيبقى ده حالي ، لا كنت هبقا بلطجي ولا رد سجون، ماهو اللي له ضهر ماينضربش على بطنه .. ولا إيه ؟!


    اهتزت حدقتيها وهمت بقول شيئا ما ولكنه نهض وتركها مازالت تجلس أمام الصينية الموضوع فوقها الطعام، دخل إلى غرفته وارتدى ملابسه ، ثم جمع أغراضه وخرج، ووقف أمامها قائلا:

    ـ أنا هوقف فتوح على ما تجهزي ، متتأخريش .


    ***


    كان عمر قد استعد للخروج، غادر غرفته وتوجه نحو غرفة چوليا، فقد قرر أن يوليها بعضًا من الاهتمام الذي يوليه نسيم وفريد، هي أيضا شقيقته وعليه أن يقوم بدوره نحوها ولو باليسير.


    طرق الباب فلم تجب، ففتح الباب بهدوء ليجدها تجلس على الفراش ورأسها مطرقة فوق ركبتيها، فتنهد بيأس وهو يخطو نحو الداخل، ثم تقدم منها وجلس بجوارها وهو يقول:

    ـ عامله ايه يا چوليا دلوقتي ؟


    نظرت إليه لثوانى، ثم ابتسمت ابتسامة مليئة بالحسرة وقالت:

     ـ أنا كويسة متقلقش.


    ـ أنا عارف إني أكيد مقصر معاكي، بس أنا بجد آسف .


    نظرت إليه باستغراب، لماذا تراه الآن مراعيًا وحنونًا على غير العادة ؟! فهي تعودت أن تكون علاقتها به سطحية نوعا ما، لا يتشاركان الأحاديث والذكريات كأخ وأخته، لا يتبادلان الطرائف والنكات ويتذكران مواقف من طفولتهما، تراه قريبا إلى نسيم أكثر بالرغم من أنها لا تفتح فمها سوى في المناسبات، أما هي وچيلان فلا يجمعهم سوى الحديث الجانبي أو بعض المواقف التي تفرض نفسها عليهم.


    ابتسمت بوهن، ومدت يدها نحوه فاقترب منها وعانقها بقوة وهو يقول:

    ـ أنا جاي أقوللك متزعليش، شريف ده أصلا ميتزعلش عليه ، بقا بذمتك النخلة ده كنتي بتحبي فيه إيه ؟! 


    ضحكت وهي تبكي فتابع:

    ـ على فكرة أنا كنت ناوي أروح له وأمسح بكرامته الأرض، بس ماما هي اللي منعتني وقالتلي إن الموضوع بسيط ومفيش داعي أتدخل..


    أومأت بتأييد فقال متسائلا :

    ـ هو الموضوع بسيط فعلا ولا انتي مخبية عني حاجه ؟!


    ربتت على ذراعه وهي تقول:

    ـ متقلقش يا عمر، الموضوع مش مستاهل انك تتكلم معاه، أنا خلاص شيلت الموضوع من دماغي تماما.


    تنهد مطمئنًا وقال:

    ـ كويس.. أصلا شريف أنا مش برتاح له. وانتي تستاهلي واحد أحسن منه بكتير.. وحلال عليه اللي عمله فيه فريد .


    ابتسمت بانكسار وأومأت فقال:

    ـ أنا رايح المستشفى ، أوعدك أول ما أطمن على نسيم وحالتها تتحسن هنسافر أنا وانتي نقضي أسبوع في مدريد .


    ـ مدريد تاني ؟!


     نطقتها بحدة فضحك قائلا:

    ـ مدريد تاني بس من غير عط .


    هزت رأسها بيأس من رعونته اللامتناهية، فغادر هو واستقل سيارته متجها بها نحو المشفى. 


    ***


    كانت نغم تقف أمام غرفة العناية المركزة ، تراقب نسيم من خلف الجدار الزجاجي الفاصل بينهما، حيث تقوم الممرضة برعايتها ومتابعة مؤشراتها الحيوية، فقفز إلى بالها ما أخبرها به سالم، حول إنقاذ فريد لحياتها عندما كانت بالمشفى.


    تنهدت بانهمام، وأسندت جبهتها على الزجاج من أمامها وهي تردد بأسى:

    ـ يا ريت ما كان ساعدني وكان سابني أموت. كنت ارتاحت وريحت.


    انتبهت من شرودها على صوت خطوات تقترب منها، فنظرت لمصدر الصوت فإذ بها تجد عمر يدنو منها وعلى ملامحه ترتسم ابتسامة هادئة ، ثم توقف أمامها وهو يقول:

    ـ صباح الخير..


    ـ صباح النور.


    ــ أخبارك إيه ؟! 


    ـ الحمد لله.


    أجابته باقتضاب وعادت بنظراتها حيث كانت، فوقف بجوارها ينظر الى نسيم المسچاة باستسلام ، وتمتم متحسرًا:

    ـ مسكينة يا نسيم .. طول عمرك مظلومة .


    أثارت كلماته فضولها الذي أخمدته الأحداث المتسارعة ، ولكنه لايزال متأصلا بدمها، فقالت بهدوء:

    ـ إن شاء الله هتبقى كويسة. 


    أومأ وهو يقول:

    ـ أنا متشكر جدا إنك اتبرعتي بدمك ليها، وقبل كده أنقذتيني من السجن، انتي بجد ملاك .


    كلمته أثارت ضحكها، لا تعرف ما السبب ولكن ربما لأنها لا ترى نفسها كما قال أبدا..


    ـ شكرا.


    ـ هو انتي لسه شايلة مني ولا حاجة ؟!


    نظرت إليه مجددا وعقدت حاجبيها بتعجب وسألته:

    ـ وأنا هشيل منك ليه ؟!


    ـ يعني.. لأني انسببت لك في كارثة.. خبطتك بعربيتي وفقدتي الذاكرة وحياتك اتلخبطت..


    استدارت واتكأت بظهرها على الزجاج وهي تزفر بانزعاج وقالت:

    ـ أنا حياتي متلخبطة من يوم ما جيت على الدنيا أصلا، متقلقش إنت معملتش حاجة جديدة.


    ـ هو أنا ليه حاسس إنك دايما حزينة ولوحدك ؟! عينيكي دايما فيها حزن .


    نظرت إليه من طرف عينها، ثم تساءلت بسخرية مبطنة:

    ـ هو إنت من بتوع عينيكي فيها حزن ؟! 


    وابتسمت بخفة فضحك ضحكةً كاملة ثم قال:

    ـ لأ بجد والله مش بهزر .. أنا كل ما أشوفك بلاقيكي حزينة وعينيكي فيها كلام كتير مستخبي .


    أطلقت تنهيدة طويلة ثم قالت:

    ـ يمكن عشان الكلام مش هيريح فالسكات أحسن .


    ـ بس الكلام أحيان كتيرة بيبقا علاج .


    حدجته بنظرات مارست القهر طويلا، وامتهنها الحزن واستنزف دمعاتها كل ليلة بدون شفقة ، ثم قالت:

    ـ على حسب الكلام اللي جوانا.. مش كل الكلام ينفع نحكيه ولا كل الفضفضة علاج. أوقات بيبقا أسلم حل نكتم جوانا ونداوي نفسنا بنفسنا .


    رأى نفسه يقف أمام فتاة نالت منها الحياة بغير عدل، ولاطمتها أمواج الغدر من كل اتجاه، فتنهد طويلا وقال:

    ـ معاكي حق بردو . كل واحد تجربته مختلفة عن التاني. 


    أومأت بموافقة وصمتت، فقال :

    ـ انتي ناوية تعملي إيه ؟! هتفضلي معانا ؟! ولا ناوية تسيبينا وتمشي ؟! أنا شخصيا من رأيي تفضلي ، محدش ضامن إيه الكوارث اللي لسة جاية لنا في الطريق .. أهو وقتها نلاقي حد ينقذنا .


    وهز رأسه بيأس وهو يبتسم فابتسمت رغما عنها وقالت:

    ـ واضح إنك متفائل جدا ..


    أومأ وقال:

    ـ التفاؤل في قمة مستوياته الصراحة.


    لم يلحظا فريد الذي كان يتقدم منهما وهو يطالعهما بنظرات حادة ثاقبة شملت تلك الابتسامات الخرقاء التي كانا يتبادلانها، ثم توقف أمامهما وهو يقول بهدوء:

    ـ صباح الخير يا عمر .


    ـ صباح النور يا فريد .. إيه أخبارك ؟


    أومأ فريد باقتضاب وهو يناول نغم ذلك الكيس البلاستيكي ويقول:

    ـ اقعدي افطري الأول .


    ثم نظر إلى شقيقه متسائلا:

    ـ فطرت ؟! 


    أومأ عمر قائلا :

    ـ أه أنا تمام .


    أومأ ونظر إلى نغم مجددا وقال: 

    ـ لو محتاجة حاجة تانية قوليلي وأنا أجيبهالك .


    تناولت منه الكيس وهي تقول بهدوء:

    ـ شكرا .


    بينما عمر كان يطالعهما بقليل من الاستغراب، لقد ظن أن شقيقه قد وصل المشفى لتوه، ولكن على ما يبدو أنه متواجد منذ فترة.. وعلى ما يبدو أيضا أنه مهتم بها كثيرا، فهو يعرف أنه لا يعير أي إمرأة اهتمامه ، ولكن من الواضح أن نغم ستعيد صياغة دستوره من جديد .


    جلست نغم على المقعد وبدأت بتناول تلك الشطائر التي ابتاعها لها فريد ومعها العصير، وهي تراقب الأخوين وهما يقفان أمام بعضهما البعض ويرسمان سويا لوحة متناقضة التفاصيل تماما ، ظاهريا وباطنيا.. الاثنين لا ينتميان لنفس البيئة ابدا.. مستحيل .


    حانت من فريد نظرة خاطفة نحو نسيم ، ثم تنهد بضيق وقال:

    ـ الحيوان ده اللي اسمه شريف، لو عرفت إنك بتتكلم معاه أو بتشوفه أنا مش عارف رد فعلي تجاهك هيكون عامل إزاي .


    تنهد عمر بضيق أشد وقال:

    ـ طيب إنت ليك عنده تار واحد وبتقول كده .. أنا بقا تارين.. چوليا ونسيم .. تفتكر هتعامل معاه عادي بعد كل ده ؟!


    أخذ فريد يمسح على وجهه وجانب عنقه باستياء ثم قال:

    ـ اللي نسيم فيه مش بسبب شريف، بسبب ضغط أبونا عليها، ولولا خوفها من إنه يجوزها ليه غصب عنها مكانتش هتفكر تعمل كده، أما بقا اللي چوليا فيه فده ميخصنيش.. حضرتك عايز تتدخل كأخ وتحل مشكلتهم مع بعض أنا مليش دخل، أنا كل اللي يخصني نسيم اللي مفيش حاجه وحشة محصلتلهاش لحد دلوقتي.


    تنهد عمر بانزعاج وقال:

    ـ أنا اتكلمت مع چوليا وقالتلي إن الموضوع منتهي .


    ـ كويس.. حلو جدا ، هي الكسبانة، شريف ده عامل زي المرض الخبيث بالظبط، مش بيتمكن من حد إلا لما يجيب أجله.


    أومأ عمر مؤكدا وقال:

    ـ معاك حق، على العموم أنا حاسس إن اللي حصل ده فوقني وخلق جوايا إحساس بالمسؤولية تجاهها، بصراحة اكتشفت إني مقصر في حق چيلان وچوليا جدا، وأكيد هما متضايقين من ده..


    قرص فريد بين عينيه بتعب وأردف:

    ـ كونك لاحظت إنك مقصر فده مؤشر حلو جدا إنك في بداية الطريق الصح .. وعلى فكرة .. چيلان وچوليا محتاجين لسند وداعم غير نادية هانم . محتاجين حد يحتويهم والمفروض إنك تكون الحد ده.


    ثم نظر إلى نسيم بحسرة وتمتم:

    ـ بلاش بسلبيتك تساهم في إنهم يوصلوا لحافة الضياع .


    فهم عمر مقصد شقيقه جيدا ، فهو يعرف أن فريد دائما يلوم نفسه ويحملها فوق طاقتها ويؤنبها، دائما يرى نفسه بوسعه فعل شيء ما، وشعوره بالعجز يضعه في مواجهة عنيفة مع وسواسه الذي يتغلب عليه في النهاية.


    فربت على كتفه قائلا بنبرة مرحة :

    ـ hey man بلاش العمق الأوڤر ده إنت عارف إني بتخنق بسرعة .


    حدجه فريد بنظرات ساخطة أضحكته، ثم تجاوزه ووقف أمام نغم التي كانت تراقب حديثهما بفضول وتسائل بلطف:

    ـ خلصتي فطارك ؟!


    أومأت بموافقة وقالت:

    ـ الحمد لله.


    ـ بألف هنا .


    نهضت وهي تمسح فمها بلطف بالمنديل، فأخذ يراقب حركاتها دون وعي منه وثبت نظراته على عينيها مما أربكها فحمحمت تعيره انتباهه الذي فقده وقالت:

    ـ المفروض إن الدكتور هيطمنا إمتا ؟!


    ـ أنا سألت قالوا كمان نص ساعة تقريبا .


    هزت رأسها بتفهم وقالت:

    ـ إن شاء الله خير .


    قال وهو لازال ينظر إليها مباشرة: 

    ـ إن شاء الله. مش حابة ترجعي البيت ترتاحي ؟!


    أومأت بلا وقالت :

    ـ حاسة إني خايفة أرجع لوحدي.


    وتابعت بتوتر :

    ـ كمان إنت مشيت ..


    وبترت كلماتها لأنها لم تجد التعبير المرغوب فيه ، فسألها بترقب:

    ـ قصدك إنك هتكوني مطمنة لو أنا رجعت ؟! 


    حسنا هنيئا لها ، هناك رجل أمامها، دوما ينجح في فك الشفرات وحل الأحجيات.. ولقد عثر على ما تريد قوله تماما ، فأومأت وهي تحارب شبح الابتسامة الذي ظهر على شفتيها، فرأت عيناه تبتسمان ثم قال:

    ـ اوكي.. لو رجوعي الڤيلا هيطمنك أنا معنديش مانع أرجع. إنتِ تؤمري .


    رآها تبتسم وهي تخفض رأسها أرضًا، فأخذ يتأملها للحظات، إمرأة تفيض بالرقة، تمتلك كل مقومات الحب، عيناها بحر وشفتاها سحر، جسدها الضئيل يحتاج لحصنٍ منيع يُشيد حولها ويحميه من السهام الذي قد يتلقاها بغتة .. نظراتها الحزينة الصارخة تأسر الناظرين وتترك خلف كل نظرة أثرا من الحب .


    في تلك اللحظة كانت چيلان تقترب منهما، فإذ بها تتوقف عندما رأته ينظر إليها نظرة الولهان وهي تتصنع الانشغال عنه بمكر ، غلت الدماء بعروقها وأخذت تُرغي وتزبد بضيق ، ثم أكملت الطريق نحوهم وهي ترفع رأسها بأنفة وإباء، وتوقفت في المنتصف، بينهما وبين عمر المنشغل بهاتفه وقالت:

    ـ صباح الخير.


    انتبهوا جميعهم عليها، و رددوا التحية بهدوء، فتجاهلت فريد ونظرت إلى عمر قائلة:

    ـ إيه الأخبار ؟! 


    فأجابها عمر قائلا بهدوء:

    ـ مستنيين الدكتور .


    في نفس اللحظة ظهر الطبيب الذي دخل غرفة نسيم ليباشر حالتها، فوقفوا جميعهم يترقبون لحظة خروجه، ما عدا فريد الذي كان يفكر في شيئا آخرا… والده !! لماذا تأخر ؟! 


    ***


    خرجت نادية من غرفتها متأهبةً للذهاب الي المشفى، توقفت قليلا أمام وهي تنظر إلى غرفة چوليا بأسى، ثم تنهدت بضيق وتجاهلتها، وفي طريقها للدرج استوقفها اتجاه زينب نحو غرفة سالم، فتسائلت نادية باستغراب:

    ـ رايحة فين دلوقتي ؟!


    وقفت زينب أمامها وهي تشير نحو غرفة سالم وتقول:

    ـ بقالي كذا مرة أدخل أصحي الباشا مش راضي يصحى ، قلت أكيد عشان نايم متأخر وتعبان، بس خايفة تيجي على دماغي أنا في الآخر ويتهمني إني أخرته عن مرواحه المستشفى لنسيم هانم.


    ـ هو سالم لسه منزلش ؟!


    تساءلت بتعجب، فأومأت الأخرى بتأكيد، فقالت نادية:

    ـ طيب روحي انتي وأنا هصحيه .


    انصرفت زينب، فدخلت نادية إلى غرفة سالم، وتقدمت من سريره، ثم جلست بجواره على طرف الفراش وهي تهزه برفق وتقول:

    ـ سالم.. سالم.. يلا اصحى !!


    لم تحصل منه على رد، فابتلعت ريفها بتوتر وهي تكرر نداءها وتهزه بقوة أكبر:

    ـ سالم.. سالم… 


    وأخذت تهزه بعنف وهي تقول بصوت يشبه الصراخ:

    ـ سالم… انت سامعني ؟!!!!! 

    ***

    #يتبع..

    تكملة الرواية من هنااااااا

    لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

    بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

    متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

    الرواية كامله من هناااااااااا

    مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

    مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


    تعليقات