رواية الحب أولا الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم دهب عطيه
رواية الحب أولا الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم دهب عطيه
13=الجزء الثانى =ج 2=
كانا ثلاثتهن يجلسوا على الاريكة جوار بعضهن
امام شاشة التلفاز يشاهدوا فيلم درامي حزين كوري…..
وكان هذا اقتراح كيان التي اشترت من أسفل العمارة عدد كبير من الحلوى…كالشوكلاته… البسكويت
الكيك….بطاطا مقرمشة…… الكثير من الاشياء التي
تحتوي على نسبة سكر عالية تسبب الاغماء لشخصٍ
طبيعي….بأستثناء ثلاثتهن فهي تعلاج الاكتئاب الذي يحوم حولهن لأيام طويلة………
مسحت كيان بالمنديل الورقي متأثرة من هذا المشهد
والذي يروى عن بطل يقبل أخرى امام البطلة التي تحبه سرٍ……..
وضعت كيان قطعة كبيرة من الشوكلاته في فمها ومضغتها بتأثر وهي تبكي ……..
“ياواطي……بقاا دي تتخان….دي تتخان من اي زاوية يا حمار…..”
استلمت قمر دفة الحوار وهي تقول بتبرم وعيناها معلقة على الشاشة……
“معدوم الضمير والنظر……لسه معاها ويهمه أمرها
بعد كل اللي عملته فيه….”
“شوفتوا لما طردها من بيته…….”قالتها شهد بحنقٍ وكانت منفردة عنهن فكانت تشاهد دون بكاء بل كانت جامدة الملامح هادئة النظرات لكن يبدو عليها التأثر والانفعال المعقول مع الأحداث التي تروى…..
صاحت كيان وقمر معاً بحرقة…..
“ووووواطي…….”
هتفت شهد بنفسٍ غير سمحة……
“بس الحق عليها… اه الحق عليها…لو كانت حطت حدود بينهما في التعامل كان فكر الف مرة قبل
ما يطردها…….”
هتفت كيان بحرارة وهي تؤمن على كلامها…..
“عندك حق ياشهد…..طول ماهي مرمريه عليه….مش هتنفع…… لازم تركبله الوش الخشب…….”
سالتها قمر باهتمام….
“ودا بيجيب نتيجة يا كيان……”
اجابتها كيان بجدية شديدة……
“بيطفشه…….ولما يطفش هيرجع ويعرف امتها….”
عقبت قمر بريبة…. “طب وفرضي مرجعش……”
مطت كيان شفتيها بنفسٍ
راضية….
“يبقا كسبنا الصلاة على النبي…….”
ردد الجميع…… “عليه أفضل الصلاة والسلام….”
نظرت شهد للشاشة مجدداً ثم لم تلبث إلا وقالت
بامتناع……
“كيان كفاية المسلسل دا قفلني اكتر من مقفولة…”
رفضت كيان بتزمر وهي تقول بكوميديا
سوداء….
“لا ونبي انا مشغله المسلسل الحزين ده بذات عشان اعيط واكل…. اعيط واكل…. لحد متعمي أكل وعياط ودخل اتخمد مقومش…….”
رفعت قمر جاحبيها بصدمة…..
“ياساتر عليكي……. هاتي شوية فشار…….”
مدت لها كيان الطبق وهي تنظر لها
بحنق…. “اتفضلي….”
علقت شهد عسليتاها الحزينة على الشاشة وتصارعت من جديد الأفكار والاقتراحات داخل عقلها المجهد…..
ومزالت غير قادرة على ايجاد حلاً ناصفٍ لها….عليها
إخلاء المكان الأيام القادمة فما تبقى من الشهر الثاني الا بضعة ايام معدودة…وعليها البدء في المغادرة……
حتى الان لم تخبر حمزة عن الأمر…..ومزال لديها
أمل ان يتراجع عاصم عن قرارة ويتركها تتابع عملها
في المطعم……..لمدة سنة كما هو منصوب في العقد
ربما بعد سنة دبرت مكاناً قريب و……
بماذا تفكر اي سنة ستقضيها في مكاناً سيباع في نهاية هذا الشهر……..
ربما ان اخذت رقم هذا المشتري من عاصم ممكن ان تقنعه بأستثمار المطعم وبعمل عقد جديد بينهما….
ويحل وثاق آل الصاوي من على عنقها……وتنتهي الهيمنة والتربص للأبد…..ولن تخشاه بعدها من تهديداً او طرداً……..
ربما المحاولة الاخيرة التي يجب ان تعمل عليها هو التعرف على هذا المشتري الجديد حتى تعقد معه صفقة رابحة…….
(وإذا كان المطعم لم يباع ولم يشترى من الأساس
ومزال في حوزته…..وهذهِ مؤامرة لابعادك عنه….
هل من المفترض ان تجازفِ بكرامتك…….)
انبعث هذا السؤال داخلها… فعجزت عن الرد…..
تكره الفشل، الخسارة في حد ذاتها تقهر قلبها…
والغريب انها طوال عمرها تتخبط بينهما ؟!….
بلعت غصة مسننة وهي تنظر للسقف تناجي الله
سراً بقلبٍ ملتاع حزناً متمنيه أجاد حلاً عادلاً قبل نهاية الشهر……
وضعت كيان حبات الفشار في فمها وهي تشعر بانقباض حاد في قلبها….من كثرة البكاء ومن شدة
الضغط على اعصابها……سواء بالتصرفات الطبيعية
او المزاح……..وكل شيء مطصنع…..
حتى الان تشاهد وتبكي….تبكي دون توقف اقرب للهيستيريا ومزال مشهد القبلات يذبحها بسكين بارد…… حرارة مشاعرهما وهذا الحب الظاهر في اعينهما يحرقها على نيران باردة…….
فهي الطرف الثالث بينهما….الطرف التي تكره ظهورة
بين الثنائيات المميزة في مسلسلاتها…..أصبحت هي
هذا الطرف على أرض الواقع !!…..
لكنها تختلف عن هذه الفئة……هي لا تركض خلفه لا تحاول اغواءه……هو من يحاول لفت انتبها دوماً…
هو من يهتم…..يراقب…..يغار……ينظر….يتحدث…..
هو من يعبث بمشاعرها فأوصلها لهنا………
اسبلت اهدابها بحزناً…..شاعره بمشرط حاد يقسم
روحها لنصفين…..يجب ان تفكر بجدية في الإبتعاد عن كل شيءٍ يتلف اعصابها ويرهق قلبها…..
مسكت قمر هاتفه فوجدت رسالة من حمزة يخبرها
بإختصار بارد……..
(اعمليلي فنجان قهوة على الريحة…. انا قريب من البيت……..)
ابتسمت قمر رغم الجفاء والبرود المنبعث من هذه الرسالة والتي لا تحتوي حتى على( مرحباً…) او
(كيف حالك….)
على من تعقب……صاحب العيون العسلية الضارية
دوماً متقلب المزاج……. أحياناً يصعب عليها فهم
حديثه فتبدأ تصنفه….مزاح….. سخرية…..جدية….
لطف……..
تضيع مع هذا الوسيم صاحب الخصلات المتساقطه على الجبهة من شدة نعومتها… بومض عيناه الشقية المشعة بالخداع ، والحزن بها غير متورياً بل ظاهراً
ظاهراً وظهورة يؤلم قلبها ولا تعرف لما هذا الوجع ينحر في جوف الفؤاد …..
ليتها تهرب من هنا قبل ان تقع في الهوة فلا رجعت
بعدها ؟!…
سمعا بعد لحظات رنة سلسلة مفاتيحُ ثم انفتاح الباب
وحضوره……..
خفق قلبها بشدة وظلت عيناها مثبته على الشاشة..
أقترب حمزة منهن ووزع نظراته عليهن بتساوي…
فوجد ان الجو حزين كئيب……فجلس على مقعد
بجوار الاريكة الجالسين عليها على جانب قمر….
ونظرا اليهن مجدداً بتمعن قائلاً…..
“مالكم….. ليه قعدت المطلقين اللي تسد النفس دي
وبتعيطوا ليه….. يكونش ابوكم مات…….”
زمت كيان شفتيها بنفي قائلة….
“أبوك لسه حي يرزق…. البطلة هي اللي هتموت من القهر……..”
نظر للتلفاز الذي اشارت عليه كيان بعيناها… فأوما
براسه ببرود قائلاً بتأثر….
“لا حول ولا قوة إلا بالله…….واي اللي قهرها… ”
قالت كيان بحرقة متفاعله مع الأحداث
بروحها…
“بتحبوا ياميزو…. وهو بيحب غيرها…….”
انعقد حاجباه وهو يشاهد باهتمام
ساخر…..
“لا إله إلا الله…. طب ما تشوف غيره…….”
اشارت كيان سريعاً على أحد الممثلات في المسلسل
قائلة…….
“بص ياميزو اهي دي اللي سايب البطلة عشانها…”
أنتبه حمزة الى الممثلة التي تشير عليها كيان.. وكانت فاتنة من الدرجة الأولى جريئة العينين بملابس قصيرة شفافة لم تترك للمخيلة شيءٍ…..
فصاح بوقاحة……
“اوووبا…… طب والله عنده حق……..”
أدارت قمر وجهها اليه بدهشة فنظر اليها بسفالة متحدثاً…..
“بذمتك ياقمراية دي تتساب إزاي……دا لو انا كنت كتبت عليها وقتي……”
برمت قمر شفتيها قانطة…..
“طب ما تتفضل روح اكتب عليها اي اللي مانعك…..”
ضرب على ركبته بقلة حيلة….
“المسافات بس هي اللي منعه الواحد… يلا ملناش نصيب……..”
تغضنت زاوية شفتيها مستنكرة….
“على اساس انها هتوافق بيك يعني……”
رفع حاجباه بزهوٍ متشدقاً……
“ومتوفقش ليه….. بذمتك انا اترفض….. كيموو
انا اترفض……..”
وجه حديثه لكيان التي تباهت به قائلة بمحبة
مشبعة بالغرور…….
“مين دي اللي تقدر ترفضك دا انت احلى واجمل
من البطل اللي بيمثل معاها كمان…..ياميزووو ياجاااامد……”
لكز قمر في كتفها قائلاً بمناكفة…..
“شوفتي……. اتعلمي…. انا عايزك تتعملي منها…..”
سالته قمر ببرود…..”اتعلم إيه بظبط……”
اجاب غامزاً…… “فن التطبيل……”
ابتسمت ساخرة…… “كويس انك عارف……”
“بس بطبل على حق مش اي كلام….. عملتي القهوة……..” سالها وعيناه تجري على ملامحها
الجامعة مابين الجمال والشموخ……وأخيراً
لمحةٍ شعبية أصيلة من زمن ولى….
اجابت قمر بوجوم……
“معملتش حاجة قوم اعملها لنفسك……”
قطب مابين حاجباه متعجباً…..
“اي الوش الخشب ده……ماكنا حلوين سوا…..”
ببسمة صفراء قالت بقنوط……
“بقينا وحشين روح اعملها بنفسك مش بتقول ان
قهوتي وحشة ومتشربش…….”
أكد حمزة بفظاظة…..
“حصل وبعصر على نفسي لمونه عشان اشربها….”
فغرت قمر شفتيها مدعية التأثر….
“ياحرام….. وليه تعمل كده في نفسك….قوم اعملها
لنفسك أحسن…….”
تجهم حمزة منهي الحديث بحنق…..
“مش عايز منك حاجة هقوم اعملها لنفسي….”
ثم وجه حديثه الى شهد الصامته والتي تتابع
التلفاز باهتمام……..
“مالك ياشهد ساكته ليه……”
لم ترد عليه فناداها بطبقة صوتٍ
أعلى…..
“شهد……..شهد……”
افاقت شهد من شرودها وهي تنظر الى اخيها
التي تفاجأت بوجود بينهم……
“حمزة………انت جيت امتى……..”
لاحت الدهشة على وجهه سائلاً بقلق….
“بتهزري اللي واكل عقلك…مالك وراجعه بدري من المطعم ليه في حاجة حصلت……”
إجابة شهد بنبرة باهته……
“ولا حاجة تعبت شوية فرواحت…….هقوم اسخن
الأكل احنا مستنينك من بدري…….”
امتنع حمزة وهو يتحسس جبهته بتعب
حقيقي…
“مش هعرف اكل وانا مصدع كده….ينفع تعمليلي قهوة………..”
“حاضر ياحبيبي هعملك…..”قالتها شهد بحنو وهي
تنهض عن الاريكة……
لكن قمر قفزت قبلها وسارت خطوتين امامها قائلة
بسرعة…جعلت حمزة يجفل وهو ينظر اليها…….
“خليكي ياشهد…….انا هعملها….انا كده كدا داخله أعمل شاي……حد عايز……..”
ابتسمت بتفهم وهي ترفع عنها الحرج….
“تمام…… اعمليلي معاكي……”
سالت كيان كذلك….. “وانتي ياكيان……”
زمت كيان شفتيها ببرود….. “مبحبوش شكراً…..”
ابتعدت قمر بوجهاً محمر خجلا وغضبا من
اسلوب التملق أمامه…..عندما ابتعدت عقب
حمزة متعجباً…….
“مجنونة البت دي…….مش فاهمها…..”
قالت كيان بصيحة
ساخرة….
“وانت من امتى بتفهم…….”
صفعها حمزة على مؤخرة عنقها….فتحسست الصفعة ضاحكة وهي تتأوه بحنق…..
فبرمت شهد شفتيها سراً
هامسة…..
“كلنا فاهمين إلا انت……..”
بعد لحظات وضعت قمر المشروبات الدافئة امامهم
على الطاولة المستديرة……ثم عادت وجلست على الاريكة في مكانها بالقرب من الوقح….
والذي مسك فنجان القهوة وشرب منه متلذذاً بطعمه دون ان يصرح بذلك……
ترك الفنجان ثم مالى على قمر هامساً
بمشاكسة…
“عقبال ما نشرب شربات فرحك ياشابة…….”
امتقع وجهها قائلة بعنفوان…..
“انت الوحيد اللي مش هعزمه على فرحي…”
ناغشها حمزة قائلاً بتسلية…..
“ليه دا احنا هنشرفوكي حتى…..وهنرقصه بالعصيان
والمطاوي………”
جحظت عينيها بدهشة…..
“مطاوي؟!……لا شكراً مستغنيين عن الواجب ده…”
كان يشعر بلذة غريبة وهو يشاكسها…
“قطعتي بعيشك…..حد يرفض رقصة المطاوي…
دا مش اي حد يعرف يمسكها…..تعرفي
تمسكيها……”
امتقع وجه قمر قائلة باستهجان….
“كفاية انت بتعرف….هيبقا انا وانت……..”
ابتسم بخبثٍ قائلاً بمراوغة……
“اه صح بكره أعلمك إزاي تمسكيها وترقصي بيها…”
اتسعت عينا قمر…..
“ماشاء الله…..هتعملني كمان……..”
اشار على نفسه بحبٍ أعمى للذات….
“ومالووو……العبد لله استاذ في المعلمة……”
همست بالقرب من اذنه بقلق….
“هو انت فعلاً معاك مطوة…….”
نظر لها بجدية مؤكداً……
“آآه بس شايلها في اوضتي…….ليه عايزة تعوري
حد ولا هترقصي بيها……..”
ابتسمت شهد التي تتابع الحديث….فسمعت
قمر تهتف بهلع…….
“انت بتهزر ياحمزة…..هو في حد محترم يشيل
مطوة معاه……”
اكد حمزة ببرود مستفز…… “آآه انا…….”
مطت شفتيها باستياء….. “مفيش فايدة فيك…..”
نظر حمزة اليهم جميعاً موجه الحديث لهم…
“بمناسبة الافراح وليالي الملاح……انا عندي فرح واحد صاحبي بعد بكرة وبفكر اخدكم معايا…….”
امتنعت كيان سريعاً…..
“انا مش عايزة اروح اعفوني من الخروجة دي روحوا انتوا……”
ضيق حمزة حاجباه مستنكراً……
“غريبة ياكيموو دا انا قولت انت أول واحد شابط معايا………”
اخرجت كيان نفساً ثقيلا حاد وهي تقول
برفضٍ……
“مليش نفس لا النهاردة ولا بكرة ولا بعده……”
سالها حمزة باهتمام….. “ليه يعني….. مالك……”
هزت كيان راسها قائلة بوجوم….
“مفيش عادي مش عايزة اخرج مقفولة من الخروجات……..”
لم يضغط عليها حمزة أكثر فوجه حديثه
لقمر وشهد…….
“طب وانتوا معايا ولا أروح بطولي أحسن……”
قالت قمر بحرج وبنبرة متوهجة….
“لو شهد راحه انا ممكن أروح انا نفسي اخرج أوي …..اي رأيك ياشهد…”
نظرت لشهد التي بدورها هزت راسها
ممتنعه بهدوء…….
“مش عايزة……. مليش نفس للخروجات……”
تدخل حمزة مصراً عليها ان تاتي……
“لا تعالي معايا ياشهد….طالما قمر عايزه تروح…..”
بنظرة حزينة قالت بقنوط…..
“مش عايزه ياحمزة…..مش عايزة أروح في حته.. ”
ترجاها حمزة بعينين حانيتين……..
“عشان خاطري فكي عن نفسك شوية… واهوه كلنا هنبقا سوا……”
ربتت قمر على صدرها قائلة بأنين
الرجاء….
“عشان خاطري ياشهد…….خلينا نروح سوا….. ”
نظرت شهد لهما قليلاً ثم كورة شفتيها
بسأم……..
“خلاص هاجي معاكم….. بعد بكرة صح…..”
هز حمزة راسه بنعم…..فنظرت شهد لاختها
متسائلة…
“تمام…….. هتيجي ياكيان…….”
“لا مليش نفس اخرجوا انتوا وانبسطوا….”قالتها
كيان بنبرة متحملة ثم نهضت من مكانها مضيفة….
“عن اذنكوا بقا….. لحسان فصلت وعايزة انام….”
قالت شهد بتعجب……. “طب والعشا……..”
ضحكت كيان ساخرة وهي تنظر لسلة المهملات الممتلأه باكياس الحلوى المتنوعة……
“عشا إيه بعد اللي كلته ده….لا كده تمام اتعشت
اوي…… ” ثم اتجهت الى غرفتها قائلة بهدوء…
“تصبحوا على خير…….”
“وانتي من أهله………” قالها حمزة وهو يلكز قمر في كتفها هامساً…..
“في الفرح بقا هنرقصوا بالمطاوي انا وانتي…….”
انكمشت ملامح قمر بقرف قائلة…
“احترم نفسك ياحمزة……..”
ضحك حمزة بقوة والتسلية تبرق في عسليتاه
الجميلة بالخداع………
فتدخلت شهد تفسد عليه متعة التسلية بها
قليلاً………
“اللي بيكلمك عن المطاوي ده عمره ما شالها
عشان يرقص بيها….. بس لازم يروش عليكي…..”
في غمرة لانتشاء قال حمزة بعتاب….
“ليه كدا ياشهد كنتي سبيني اعيش الدور عليها شوية………”
عبست قمر بحنق شديد منه….. “يا سلام……”
لم تزول ابتسامته وهو يخبرها…..
“بصراحة الرقص بنبوت كده ليه هيبه تليق بالعبد لله… لكن المطاوي مش لوني…….”
عقدت حاجباها متذكرة فهمست له…..
“دا نفس النبوت اللي كنت بتضربهم بيه لم دفعت عني……”
اوما براسه وهو يمط شفتيه …..
“اه هو بس ياريتوا طمر فيكي…..اهوه الواحد بيعمل الخير وبيرمي للبحر…… ”
اغتصبت قمر الإبتسامة
قائلة بامتعاضٍ…..
“أصيل………والله………”
ابعد حمزة عيناه عنها وهو ينظر الى أخته……
“طب احنا هنأكل بقا ولا هنفضل نحرق…انا جعان…”
نهضت شهد قائلة بهدوء……
“هقوم….اسخن الأكل……..”
لحقت بها قمر بحياءٍ….
“خديني معاكي ياشهد………”
…………………………………………………………….
بعد يومين…..
تافف حمزة بحنق وهو يجلس على الاريكة منتظرهم
فيما يقارب الساعتين ومزالا لم ينتهيا……
“ما يلا ياشهد…….وانتي ياست قمر انجزي شوية….”
خرجت كيان من المطبخ بين يدها كوب من الشوكلاته الساخنة ترتدي منامة طفولية مطبع عليها رسمة طائرٍ من أحد الرسوم المتحركة يُدعى (تويتي..)…..سالته كيان قبل ان تذهب الى غرفتها …..
“انتوا ماشين دلوقتي…….”
مط حمزة شفتيه وهو ينهض من مكانه بطاقم كلاسيكي انيق عبارة عن بنطال رمادي وقميص أبيض ناصع فوقة سترة رمادية اللون دون تزرير……كان الطاقم جميل جداً عليه يبرز
جسده الصلب الرياضي بعض الشيء……تتناثر
الخصلات القصيرة على جبينه من شدة نعومة شعره..ذقنة مشذبة رائعة عليه………كان جذاب
بمعنى الكلمة…..
“المفروض نمشي من نص ساعة…..الهوانم لسه بيلبسوا…”
اتسعت عينا كيان وارتشفت القليل من مشروبها
قائلة بلؤم……
“كل ده……انا لو منك اخد بعضي وروح لوحدي……”
“انا بقول كده برضو……..”قالها حمزة وقد نفذ
صبره وهو يعلي صوته بلهجة صرامة لهما……
“سامعين قدامكم خمس دقايق لو محدش خرج همشي..”
هزت كيان راسها وبنظرة ثعبانية قالت……
“خمس دقايق كتير كفاية دقيقتين..دول من
بدري جوا…”
غمز حمزة لها صائحاً لهن
بتهديد…..
“سامعين دقيقتين وهمشي…….”
شنت كيان الحرب عليهن اكثر فقالت بلؤم…
“دقيقتين كتير برضو……كفاية عشر ثواني……..”
صاحت قمر متعثرة الأحرف من شدة
الحنق…. “كياااان اخرسي…….”
اطرق حمزة براسه ضاحكاً……فنظرت إليه كيان بعينين جاحظتين……..متمتمة بغضبٍ……
“أخرس !!……….انا تقولي اخرسي…..”
همس حمزة بخبثٍ…. “خدت عليكي أوي…..”
دبت كيان الأرض بقدميها وهي تتوعد لها في وقتاً
لاحق…..
“ماشي ياقمر…..انا بس مش فايقه….لو كنت فايقه كنت وريتك من فينا اللي هيخرس على ايد التاني……”
زمت شفتيها وقالت لاخيها بضجر…….
“انا داخله اتخمد……..خدوا المفتاح معاكم…….”دلفت
لغرفتها واغلقت الباب خلفها بقوة……
فتح باب الغرفة الأخرى وخرجت شهد امام عينا
حمزة الذي تاملها عن كثب بعينين حانيتن تشع
حب اخوي صادق……..
كانت متألقه في ثوبٍ من اللون الوردي الشاحب حريري مجسم على خصرها الناعم النحيف ينزل باتساع بسيط حتى آخر كاحلها….ترفع شعرها في
لفة انيقة للخلف وتزينة بدبوس شعر لؤلؤي
وردي اللون على شكل طاووس رقيق….تتناثر خصلتين ناعمتين على جبينها بدلال….وتضع القليل من الزينة بشكلاً رائع ومبهر….جعلها اشبه بأميرة ذات كبرياء عظيم ، أميرة متوجه برقتها وجمالها البري تتربع على عرش قلوب كل من لمح طيفها
الناعم….
“اي رايك ياميزو……..”قالتها شهد بنبرتها الموسيقية الرقيقة وهي تدور مرتين بمنتهى الأناقة……..
اخبرها حمزة بابتسامة مشاعبة…..
“جامد……ربنا بس يسترها ومتغطيش على العروسة…..”
ضحكت شهد وهي تقترب منه وتهندم ياقة
السترة بحنان قائلة……
“يا سلام عليك……بس اي الحلاوة دي…..”
رفع حمزة انفه بزهوٍ ….
“اخرسي….. انا طول عمري حلوو…….”
ضحكت شهد وهي تبتعد عنه…..
“طبعاً طبعاً حد يقدر يقول غير كده…….”
خرجت قمر من الغرفة كذلك وهي تقول
بابتسامة ناصعة الجمال……
“انا كمان خلصت……”
نظر حمزة اليها نظرة شاملة مدققة بكل تفصيلها….
فكانت قمر ترتدي ثوبٍ بقطعتين القطعة الاولى عبارة عن قميص أبيض فوقه ثوبٍ أحمر حريري طويلاً بحمالات رفيعة…. تترك شعرها المموج حراً طليق على ظهرها…
وتضع بعضٍ من الزينة المتقنة على وجهها الفاتن
فتزداد جمالاً وتألقٍ………
كانت جميلة مختلفة…..شامخة الجمال بلمحةٍ شعبية
اصيلة….عينين بنيتين كحيلتين بديعتين دافيئتين
شهيتين كقهوة تقدم في أصعب الأوقات توتراً وأرق
فيزول كل شيءٍ داخلك وقتها إلا مذاقها……
وها هو ينظر لبنيتاها فينسى الحروب المستمرة مع نفسه والحياة……….
عقب حمزة مستهجناً بعد لحظة تأمل
طويلة……
“أحمر تاني؟!……..انتي قصداها بقا……”
ضحكت شهد وضيقت عينيها بعبثٍ لذيذ
قائلة…..
“قولتلها كده واحنا جوا مصدقتش…انك زملكاوي..”
زم حمزة شفتيه وهو ينظر اليها
بعدائية….
“لي هي اهلاوية…….”
امتقع وجه قمر باستياء قائلة…..
“لا…. مليش في الكورة أصلا….ولا بحب اللي بيحبوا الكورة…..”
بلهجة تضاهيها امتعاضا قال……
“ومالوو…..انا بقا مابحبش البنات اللي مش بتفهم
في الكورة……….”
زمت قمر شفتيها قائلة ببرود….
“نبقا متفقين……تخليك في حالك بقا وانا في حالي
ومالكش دعوة باللي لبساه……”
استهزأ حمزة وهو يلوي فمه……
“انا مالي…..خليكي في برطمان الصلصة اللي لسه
طلعه منه…….”
احبطها بتعليقه الاذع لذا رفعت انفها
بتعالِ….
“ولا فرق معايا انا أصلاً قمر……..”
قلدها حمزة بصوتٍ بشع….. “انا أصلاً قمر…….”
احتقن وجه قمر بالغضب والحرج وهي تشير
على شهد بتزمر…….
“شايفه ياشهد أخوكي……”
تاففت شهد قائلة بجزع….
“ما خلاص بقا ياحمزة….. يلا عشان اتأخرنا……”
نظر حمزة لشفتي قمر المطلية بالاحمر
القاني…وقال بعدم استحسان…..
“مش قبل ما تمسح اللي في وشها…..”
انعقد حاجبي قمر…..
“اي هو اللي في وشي ان شاءالله…..”
رمقها ببرود ليقول بحزم……
“الأحمر….خففي الأحمر على شفيفك يامؤدبة……”
زفرة قمر متخصرة……
“أوف بقا…. على فكرة الروج مش باين اوي……”
احتد نظراته عليها….
“طب ماتحلفي انه مش باين……”
استنجدت بشهد قائلة…..
“ياشهد قوليلو حاجة ياشهد……”
زفرة شهد هي أيضاً بملل مبتعدة عنهما….
“أوف عليكم زهقتوني هروح البس الهيلز على متخلصوا منقرة……..”
شعرت قمر انها في ساحة الخطر خصوصاً مع اقتراب
حمزة منها بالمنديل بعينين تقدحان شرراً وبها لمحة ذكورية من التسلية…….تراجعت للخلف بقلب يخفق
بذعر وهي تحذره…….
“حمزة إياك……”
اقترب منها بخطوات بطيئة ثابته وهو يشير
للمنديل بصرامة……
“هتمسحيه ولا امسحه انا وبوظلك وشك خالص…
مانتي مش ماشيه مع سوسن……”
تلبسها التمرد فقالت ببسالة……
“مش مسحاه…….ولي عندك اعمله…..”
“بقاا كده…..طب تعالي……”انقض عليها حمزة لكنها افلتت منه في لحظة خاطفة قبل ان تصل يده
لها… فركضت بعدها باتجاه معاكساً له وهي
تستغيث بشهد قائلة وهي تحاول الافلات
منه…..
“الحقيني ياشهد…..دا مجنون…….”
ردت شهد بالا مبالاة وكان المشهد
طبيعي أمامها……
“خففي الروچ شوية يا قمر….وريحينا…….”
“هو مالوا أصلا…….آآه…….”صرخت قمر بفزع
عندما قبض حمزة على ذراعها وادارها إليه..
“مين دا اللي مالوا…..انت هتلبخي…..”
تاوهت هامسة برجاء….. “حمزة……دراعي… ”
مد لها المنديل قبل ان يترك
ذراعها….
“المنديل اهوه امسحي خلينا نمشي……”
اخذته منه على مضض….. “انت رخم…….”
عندما بدأت تخفف حمرة شفتيها همس حمزة
بنبرة غريبة المعاني….. “وانتي قمر…….”
رفعت قمر عينيها عليه وبدأ قلبها يخفق من شدة
تقارب وجوههما وشباك نظراتهما الغير مدركة
المعاني بعد….
قاطعة شهد اللحظة من خلفهما قائلة
بملل…
“هتفضلوا واقفين كتير…….يلا ياجماعة هنروح
امتى ونرجع إمتى………..”
رفع حمزة عيناه على اخته ثم تنحنح مبتعداً
واتجه الى الباب قائلاً……
“هستناكوا تحت في العربية….”
……………………………………………………………..
وصلا حفل الزفاف في أحد القاعات…..كان حفلاً رائع
ومنسقاً….. وقد بدا العروسان مناسباً لبعضهما وبينهما انسجام واضح….. والحب يشع في أعينهما….
هنأ حمزة العريس والذي كان من الاصدقاء المقربين ثم نظر للعروس والقى بالشفاه تحية مباركة لها
دون ملامسة…….
فهزت العروس راسها مرحبة به….. اتجه الى الفتيات
ووقف جوارهن قائلاً بخشونة……
“وقفين كدا تعالوا نقعد على اي طربيزة……”
القت قمر نظرة اخيرة على العروس قائلاً
باعجاب
“العروسة حلوة اوي ما شاءالله……”
جلس حمزة على المقعد امام طاولة مستديرة
مزينة….
“عقبالك ياقمراية…… هنعملك فرح احسن من كده..”
مطت قمر زاوية شفتيها….
“عقبالك انت الأول……”
“اخص عليكي دي دعوة تدعيها عليا…… انا كائن
بحري أحب البحر وسمك البحر…..”
قالها وعيناه الوقحة تتمعن في كل شيءٍ مؤنث يمر من جواره…..فيفتح شهيته على السفالة…..والكلام
الخارجِ…….وربما المخيلة تحتوي على الاصعب….
اسبلت اهدابها محاولة التغاضي عن الأمر…فالتذهب
عيناه اينما يشاء….الأمر لا يعنيها أصلا…..
غلبها قلبها فرفعت عيناها مجدداً تراقبه……لتجد أمرأه جريئة العينين تنظر اليه وتضحك
بمداعبة صريحة….
فالقى حمزة إبتسامة عابرة عليها من باب الذوق….حتى لا يكسر قلبها المسكين…..ثم
عاد بعيناه لهن…..فأول من واجهت عيناه
قمر فتشدقت ساخرة…….
“كائن بحري أحب البحر وسمك البحر…..”
مد حمزة يده ونكش خصلةٍ من شعرها للأمام
قائلاً بعبث…
“الحلو انك حافظه وفاهمه….استمري يانجيبه…”
رفعت الضحكة بسخافة….. “هاها..ظريف……”
برم شفتيه بقرف ولم ينظر لها…..فنهضت شهد معتذرة منهما وهي تمسك هاتفها…….
“انا هطلع برا أرد على خلود……. الصوت هنا
عالي……”
نهض حمزة خلفها قائلاً…..”استني اجي معاكي……”
امتنعت شهد وهي تفتح الخط وتضع الهاتف
على اذنها……
“خليك ياحمزة مع قمر… مش هتوه يعني…..”
عاد حمزة جالساً مكانه عندما وجدها تبتعد…. فنظر
لقمر بصمتٍ وبادلته النظرة بالمثل حتى شعرا ان هناك لغة أجمل من الحديث والاثر بها لا
يمحى ؟!….
“مش سمعاكي ياخلود…استني بس اخرج برا…..”
هتفت شهد بتلك الكلمات وهي تتخطّى سلم
القاعة الخارجي حيثُ الشارع…….
وعند هبوطها الدرج بتوتر بينما تصب كامل تركيزها
على المكالمة خبطت في كتف صلب يمر من جوارها
صاعداً…فمن من شدة الدهشة والاصطدام ترجت مفاصل ساقيها وكانت على وشك السقوط…….
لولا كف المصطدم الذي تلقف كفها في لحظة
هامساً بصوتٍ رغم حدتهُ حانياً…
“حاسبي……”
هل تحلم ام تتوهم……عاصم الصاوي….امامها الآن
هل هبط من السماء ام خرج من باطن الأرض ؟!…
صدمة ظهورة جمدت اعصابها….. فلفظت اسمه
وهي تستقيم واقفه…..
“عاصم…….”
تكاد تقسم ان حدقتاه اهتزت بعد لفظها
لاسمه….فسالها بخشونة دون مقدمات…
“انتي هنا بتعملي إيه……..”
ردت بهدوء وهي ترجع خصلة خلف
اذنها……
“انا……. العريس يكون صاحب حمزة… وانت….”
رد بهدوء وعيناه اسيرة الكهرمان…….
“العروسة ابوها من التجار اللي بنتعامل معاهم.. وعزمني على الفرح……..”
اتى حكيم من خلف عاصم
قائلاً…..
“واقف كده لي يا عاصم…….”
ثم انتبه حكيم الى شهد فمد يده مرحباً بابتسامة
عريضة تخرج للأناث فقط…..
“اهلاً اهلاً بالانسة شهد…. مش شهد برضو اللي مأجره المطعم من عاصم……”
اومات شهد براسها بإبتسامة ترحيب….فنظر
عاصم ليد حكيم الممدوده وقال بخشونة….
“شهد مش بتسلم يا حكيم….”
رفعت حاجبها بتمردٍ فمن هو حتى يقرر نيابة عنها…
تلبسها العناد والتمرد على قوانين ال الصاوي…
فوضعت يدها في يد حكيم بعناد قائلة
بإبتسامة مدعية الود…..
“لا بسلام……. عادي…….أهلا بحضرتك.. ”
جز عاصم على اسنانه وهو يلقي عليها نظرة حانقه قبل ان يغادر سريعاً لداخل القاعة تاركها خلفه……
غمغمت وهي تعاود الهبوط اخر
درجتين….
“كانت ناقصة اشوفك النهاردة كمان……”
وضعت يدها على صدرها شاعرة بحرقة قلبها
النابض بين ضلوعها…..ماذا تفعل وكان الصدف
والاقدار تتزامن ضددها حتى توقع بها في هوة
الظلام……ظلام بإسم الحب…….
وهي تخاف الظلام…..كما تخاف الحب…
اجرت مجدداً بخلود اتصالاً حتى تعرف ما سبب اتصالها المفاجئ فهي غادرت المطعم اليوم قبل ان يغلق لضيق الوقت وحتى تلحق حضور هذا
الحفل…
” ايوا ياخلود……. ”
بداخل هنأ عاصم العروسان مقدما بعدها للعروس هدية فخمة من الالماس والحجر الكريم…….
تنحى حكيم به جانباً يساله
بحيرة….
“مالك ياعاصم قلب وشك ليه…..”
رد بفتور…… “مفيش…….”
ضيق حكيم حاجباه مفكراً……
“تكونش شهد….. هي اللي…….”
قاطعها عاصم بصلابة……
“حكيم…. اقفل على الحوار ده دلوقتي…. خلينا نقضي واجبنا ونمشي…….”
صمت حكيم قليلاً ثم ربت على كتفه
مغير مجرى الحديث…….
“المرة الجايه عندك بقا…. احنا استنينا كتير……”
لم يرد عاصم بل ظل صامتاً يتابع الحفل
بعينين مظلمة التعابير…….فتابع حكيم
بهمساً سرِ…….
“بقولك المدام لسه بتزن عليا عايزة تعمل قعدة تعارف ليك عشان تشوف صاحبتها….. ويمكن
يحصل بينكم قبول…….”
اوما عاصم براسه…. “ربنا يسهل……..”
ظهرت شهد امامه وجرت عيناه على تفصيلها
متأملاً حسنها…….سيدة الحُسن كما يراها قلبه
قبل عيناه……….
كانت جميلة ناعمة الخطى والحضور كعطر مميز خفيف على الأنف أثره في الذاكره أطول من بقاءه على اليد !!……
وهي وجمالها البري النابع من روحها الرقيقة الهادئة
تظل في الأثر وفي القلب….شهد….فقط شهد……
هل تدري سيدة الحسن ان لعينيها سحرٍ لا يبطل
مفعولة….. النظرة الى عيناكِ تخلق فوضى غير قابلة
للاصلاح… فوضى رغم لذتها متعبة على النفس…..
نظر لعينيها الجميلة الكحيلتين الغاضبتين في
النظر اليه……..
سيدة الحسن غاضبة ؟!….
وماذا عني أنا ، فانا المتعب في هواكِ سيدتي… والغاضب في ابتعادك ، والقاسي في عتابك….
والملتاع عند لقاءك…..
مرت من جواره بهدوء مشع بترفع وكانها لا تراه…
مرت من جواره فأثقلت صدره بمشاعر قاتمة….
جلست شهد على الطاولة ونظرت لقمر التي
تجلس بمفردها……
“فين حمزة ياقمر……”
ردت قمر وهي تقرب منها طبق به قطعة من
الكعك…….
“حد من صحابه نداه……حلو الجاتوه ده كلي
منه…..”
امتنعت شهد وهي تشعر ان معدتها تتلوى من شدة
الاضطراب والخجل بعد رؤيته وتواجده في نفس المكان….
“مش عايزه………”
وضعت قمر قطعة صغيرة في فمها باستمتاع
قائلة……
“يابنتي كُلي….دا حمزة راح جبلنا من البوفيه مخصوص……”
رفضت شهد وهي تزيح الطبق عنها
قليلاً…….
“مليش نفس…….انا صدعت أصلا…….”
قالت قمر بهدوء…….
“شويه وهنمشي حمزة قال ان احنا مش
هنتأخر……”
فغرت شهد شفتيها بدهشة متسعة
الأعين……
“اي اللي حمزة بيعملوا ده…….”
رفعت قمر عينيها عليه لتجد حمزة يرقص بالعصا
امام امرأة ترتدي بذلة رقص خضراء اللون تكشف اكثر مما تستر مما لا يعطي شيءٍ للمخيلة….
احتقن وجه قمر وتسارعت انفاسها فبدأت النبضات
داخلها تزداد بوجع…..وهي تراه يرقص بعصا غليظة
امام المرأه التي تتمايل امامه بميوعة وعينيها تغوية
دون كلمات…..
فيضحك تارة ويغمز لها بعيناه تارة أخرى وسط صياح قوي من الشباب المحيطه بهما بتشجيع…..
واثناء رقصه معها كانت عيناه الوقحة تسير
باريحية على مفاتنها…..مما جعل قمر تشمئز منه وتشيح بعينيها نافرة……..
وعندما اتت عينا حمزة عليهن بالخطأ اشارت له
شهد بنظرة جادة بان يتوقف عن العبث…ثم
اشاحت بعينيها عنه فاصطدمت حدقتاها بموقع عاصم الذي كان يقف مع سيدة أنيقة الملابس
جميلة الشكل……يتبادلا الضحك والاحاديث
وبينهما الفه لا تنكر…..
فشعرت بصاعقة كهربائيّه تضربها في جلستها…
فتسمرت عيناها عليهما دون أرادة منها….وقلبها
وعقلها انتابهما شلل مؤقت…….إلا شعوراً واحد
الغيرة….الغيرة تموج بالحلق كعلقم المُر تخنقها….
شعر عاصم انه عرضة للمراقبة فرفع عيناه عليها..
فوجدها تنظر اليه بهدوء مبهماً…..اجفله لوهلة
وكانه يخشى ان تفسر الأمر بشكلاً خاطئ
وان يكن……فما دخلها……هي من انتزعت هذا الحق
بينهما……….فابعد عيناه عنها متابعاً حديثه مع المرأه……..
لم تستطع شهد التحمل أكثر من ذلك لذا انسحبت ناهضة من مكانها ثم اتجهت الى أحد الزوايا المنعزلة عن الضجيج…….وكانت شرفة واسعة أنيقه تحاط ببعض الأشجار المرتفعة من الأسفل……
قطفت ورق الأشجار وبدأت تقطعهُ بيديها بعصبية
مكتومة وعيناها تنظر خارج الشرفة للظلام واعمدة
الانارة البعيدة……وبعضا من سكون الجو والهواء البارد أراح اعصابها التالفه قليلاً…..
فسندت يديها على سور الشرفة ثم اغمضت عينيها
وقد انحنت شفتيها في زاويتان حزينتان…والصمت ساد لا يقطعه سواء صوت انفاسها الهادرة بغضب طفيف……..وقد تركت نفسها فريسة لغضبها والافكار
المتلاحقة……….
سعمت خطوات اقدام خلفها……فادراة وجهها تتطلع
عليه من فوق كتفها….لتجده امامها بحضوره المهيب
والوسامة التي تدغدغ اعصابها…..يرتدي حلة فخمة
انيقة تبرز جسده الصلب الرياضي وقامة طوله المهيبة كان مصفف شعره الغزير الأسود للخلف بجاذبية تليق به والحية السوداء المشذبة قليلاً….وكان يضع عطراً رائعاً غز انفها سريعاً…..
فعادت تنظر للأمام وهي تغمض عيناها باعصاب منهارة بعد رؤيته…….
وقف أمام سور الشرفة وبينهما مسافة متجاهل وجودها وهو يضع سجارة في فمه ويشعلها
بحدة واضحة………
عندما نفث دخانها الرمادي سعلت شهد عندما وصل إليها…. فحركت يدها امام وجهها قائلة بحنق مكتوم……
“ممكن تطفي السجارة………”
رد ببرود والدخان ينبعث من
فمه…..
“لم تخلص……..”
احتدت عينيها متشدقة…….
“والله…….. انت مش شايف انك كده بتخنقني….”
رد بجمود وهو يلتقط عيناها
بشوق….
“احنا في مكان مفتوح يا آنسة…..”
ردت رداً مماثلا له…
“بس الدخان خنقني يا أستاذ……”
لم يرد عاصم بل نظر أمامه بوجوم….والغضب نحوها يتفاقم كلما ابتعدت المسافات بينهما…….
انبعث صوتها فجأه بغضب مكتوم…..واعين
تلمع بدموع……..
“لحقت تخلص قعدتك معاها…….”
انعقد حاجباه سائلاً……. “مين دي…..”
قبضة على السور أكثر بانفعالاً قائلة
بتهدج دون النظر إليه…….
“اللي كنت واقف قدامها وعمال تضحك وتهزر….”
حك اصبعه في أنفه ثم قال بخشونة
وهو ينظر لجانب وجهها……
“آه……. طب وانتي شاغله بالك ليه…..”
رمقته بدهشة فبدلها النظرة بتجهم دون ان تلين ملامحه…..
فاشاحت شهد بوجهها المحتقن تبتلع غصة الاحراج وكسرة الخاطر……..
فساد الصمت بينهما وسط جوٍ معكر متبلداً….
فقالت شهد بصعوبة……
“انا كنت عايزة اطلب منك طلب أخير…….”
نظر لها بملامح واجمة غير متجاوبة…. قائلاً…
“خير……”
شعرت بثقلٍ في صدرها وهي تحاول ان تجلي صوتها بين تراكمات مشاعرها……
“انا عايزة موهلة بس شهرين….. عشان الاقي مكان
جديد انقل فيه العدة……”
تافف عاصم بجزع قائلاً بصلابة….
“وانا قولتلك اني محتاج المطعم آخر الشهر….عشان
ابيعوا….. وزبونه مستني…….”
استندت بجانبها على السور قائلة بصبرٍ….
“تمام مفيش اي مشكلة…. ممكن تديني رقمه وانا اتفق معاه……”
هز عاصم راسه جافلاً….. “رقم مين……”
سحبت شهد نفساً عميقاً ثم قالت بهدوء…..
“رقم الراجل اللي هيشتري منك المطعم…. انا هاتفق
معاه اني محتاجة المطعم شهرين بس وايجارهم
هدفعه زي ما كنت بعمل معاك…….”
زم عاصم شفتيه حانقاً…… “مش هينفع…..”
سالته بنبرة محبطة…”وليه بقا مش هينفع…….”
نظر عاصم اليها بمشاعر متبلدة وهو يقول
بفظاظة….
“عشان انا مش هبيع المطعم انا هقفله خالص… ارتاحتي……..”
وكانه صفعها على حين غرة فرفعت وجهها
بصدمة…. هاتفه….. “دا نظام عِند بقا……..”
أكد عاصم بمنتهى البرود المستفز
للاعصاب…..
“بظبط انا حُر……. كل واحد حُر في ماله…..”
اخذت نفسها بعصبية وسارت خطوتين في
الشرفة بتشنج وهي تستدير له هادرة……
“يعني تقطع عيشي وعيش الناس اللي معايا… وتقولي حُر في مالي….. انت فاكر بكده هتقدر
تذلني…….”
كان في أوج هدوءه وهو يجيبها…..
“حاشى لله…… انا وانتي مفيش بينا حاجة وحشة
عشان توصل للذل والمهانة……”
احتدّ صوتها بحمائية مفرطة…….
“ولا حتى حاجة حلوة…….ماشي هسبلك مالك تشبع
بيه…… ويارب ضميرك يرتاح بعدها……..”
لم يرد عاصم بل ظل واقفا مكانه صامتاً شامخاً
باستفزاز……..فغمغمت وهي تنوي المغادرة…….
“كلكم زي بعض…. مش فارقه كتير…….”
تدفقت الدماء الساخنة في عروقة…فسحبها
في لحظةٍ خاطفة من ذراعها يقربها اليه
حتى تواجه عيناه المتقدة بنيران الغيرة….
“مين دا اللي زيي…… دي تاني مرة تقرريها….”
حاولت الافلات منه بملامح تنزف
الماً….
“سيب دراعي ياعاصم…. سيب دراعي……”
احتد صوته بخشونة وهو يتكأ على ذراعها
بغضب هائل……
“مين دا اللي بتشبهيني بيه…. دا اللي رفضتيني عشانه….. انطقي……”
اتسعت عينيها بدهشة وقد أحمر وجهها من شدة الغضب والكره وازداد تهدج انفاسها…….وهي تهتف
بكبرياء……..
“انت اتجننت انت باي حق تكلمني كده… فوووق..
مش من حقك أصلا……..”
رد ساخراً بمرارة تموج في حلق كلاهما…..
“إيه هو اللي مش من حقي اعرفه…… رفضك ليا…
ولا السبب اللي رفضتيني عشانه…..”
جزت على اسنانها وهي تحاول التملص من بين
يداه القوية بعد هجومه الغير آدمي عليها……
“الإتنين…… سيب دراعي……..”
لم يرد بل اشتدت نظراته قتامة…
“عاصم سيب دراعي انت بتوجعني……”
ظل الصمت بينهما قائم يأبى ان يحررها حتى يعرف
سبب رفضها…..الرفض الذي لم يتقبله كبرياؤه…ولم
يزول صدعه حتى مع مرور الأيام……
صاح صوتٍ رجولي اجفلهما معاً…….
“عاااااصم……..”
نظرت شهد الى حكيم الواقف أمامها عن بعد خطوات……فسحبت ذراعها سريعاً من بين يدي عاصم التي ارتخت قليلاً بعد رؤية حكيم….ولم
تلبث إلا وغادرة مطرقة الرأس بغضب…..
تقدم منه حكيم ووقف أمامه…..
“اي اللي بتهببوا ده…… شهد……..”
أومأ عاصم براسه بغضب وهو يشعل سجاره
أخرى ويضعها في فمه ينفث بها بشراهة تعبر عن
إستنزاف مشاعره في قصص الهوى الفاشلة…
“ايوا شهد…. اللي خلتني اجي لحد بابها ورفضتني قدام اهلها من غير سبب… وفي الآخر زعلانه أوي
اني عايز امشيها من المطعم…….”
تعجب حكيم بشدة متسائلاً…..
“رفضتك…. والسبب……”
لوى عاصم شفتيه هاكماً…….
“السبب عندها هي…. دا لو كان حتى في سبب
يشفع لها عندي…….”
ربت حكيم على كتف صديقه مهون
عليه……
“روق يا عاصم…. خيرها في غيرها زي ما بيقولو..
هي اللي خسرانه……..”
……………………………………………………………
جلس حمزة جوار قمر متسائلا وعيناه تدور على الطاولة الجالسين أمامها…..
“فين شهد……..”
كتفت قمر ذراعيها امام الطاولة وهي تجيب
ببرود…. “معرفش والله…….”
انعقد حاجبين حمزة وهو ينظر اليها
عن كثب بحيرة…….
“مالك قلبه وشك كده ليه في حد ضايقك…….”
هزت راسها بنفي قائلة بفتور…..
“لا بس عايزة أروح ينفع نروح…….”
اكتفى بايماءة بسيطه وعيناه تدور في الارجاء
بحثٍ عن اخته……..
“هنروح ماشي…. بس فين شهد…….”
ظهرت شهد امامهما من احد الزوايا قائلة بصوتٍ
باهت واهٍ………
“انا اهوه ياحمزة…. كنت بشم شوية هوا بعيد عن
الدوشة….. مش يلا بقا ولا إيه..انا صدعت أوي…”
“ماشي يلا بينا…… كده كدا ماشيين……”
قالها حمزة ناهضاً من مكانه وكذلك فعلت قمر
والتي كانت ساكنة واجمة حزينة العينين
تتوارى خلف صمتها…….
سارا معاً للخارج….وقد انتبه حمزة لحزن شقيقته
فمالى عليها بالفطرة يسالها بقلق……
“مالك ياشهد وشك مخطوف كدا ليه……حد ضايقك…….”
نفت شهد وهي تبتلع غصة مسننة بالألم….
“لا هما شوية صداع لم أروح هاخد حاجة ليهم
وهنام….. والصبح هبقا كويسة……”
عندما وصلا للخارج القاعة أمامها تحديداً على احد الجوانب قال حمزة بهدوء…….
“طيب خليكم واقفين هنا….على ما أجيب العربية
عشان ركنها في الجراج………”
اومات شهد برأسها…… “تمام هنستناك…..”
وعندما أبتعد حمزة تطلعت شهد على قمر بحيرة مستغربة صمتها وعبوسها…….فسالتها……
“مالك ياقمر…….”
رفعت قمر وجهها مبتسمة
بفتور…
“مفيش ولا حاجة……..”
بادلتها شهد الإبتسامة من باب المجاملة…
قائلة…..
“اي رايك في الفرح انبسطي……”
مشهد رقصة مع الراقصة يثير حنقها وقرفها منه ويولد داخلها رغبة اجرامية شنيعة في تكسير
عظامه واحده تلو الأخرى……عادت الى أرض
الواقع تجيب على شهد بفتورٍ………
“آه انبسط أوي……….”
لم تزول إبتسامة شهد وهي تبعد عينيها عنها… حتى
انتبهت لعاصم يخرج من القاعة برفقة صديقه
حكيم يتحدثا سوياً اثناء سيرهما للسيارة التي
كانت قريبة من موقعها……
ظلت تتابعه بعينين حانقتين منه ومن الهمجية الغير اداميه والتي يتعامل بها مع كل شخصٍ يرفض تلبية رغبات معاليه !…..
اسبلت اهدابها شاعره بالغضب يتدفق داخلها كحمم
بركانية ثائرة……..
رفع عاصم عيناه عليها فوجدها تقف هي وشابة
جميلة بشعرٍ مموج وهذا اقصى ما لفت انتباهه….
بينما عيناه معلقة على سيدة الحُسن وقلبه طار
من موضعه اليها محطما قوانين العقل كما فعل
منذ قليل ولحق بها في الشرفة…….
ولم يجني إلا وجع قلبه وايلامها !…….
نداه حكيم بملل وهو يقف من الناحية الأخرى
نحو السيارة…… “يلا يا عاصم هنفضل وقفين……..”
نظر له عاصم ثم فتح باب السيارة من جهة
مقعد القيادة وقبل ان يستقلها نظر نظرة اخيرة
الى شهد فانتبه لهذا الرجل الملثم بوشاح صوف
يخفي به نصف وجهه و يقترب منها وبين
يده مدية صغيرة (مطوة)…..وعندما اقترب
من موقع شهد فتحها والشر يقدح في عيناه المظلمة……..
فسريعاً تحرك عاصم وعقله في ان واحد واقترب منها وقبل ان يمسها الملثم بأذى كأن يضرب
المدية بركلة قوية من قدمه…..
وقعت المدية أرضا فانحنى يجلبها الملثم…فلكمه
عاصم بقوة وركلة عدت مرات بوحشية…..
تحت انظار شهد المفزوعه عما يحدث حولها والذي لم يستغرق إلا ثوانِ وبدأ شجار عنيف بين رجلين
أحدهم يهمها أمره بشدة وكانت مرعوبة عليه
والقلق يحرق قلبها وهي تشاهد ما يحدث خوفاً
من ان يصاب بمكروه بسببها…….
تراجعت هي وقمر للخلف قليلاً يتابعا ما يحدث بصراخ حتى يتدخل أحد …….
في لحظة خاطفة واثناء الشجار والذي تدخل به حكيم كذلك يضرب مع صديقه……خطف الملثم
المدية عن الارض وشق بطن عاصم في لحظة
غدر فتدفقت الدماء منها…….
فوضع عاصم يده على بطنه متألماً فتجمع الناس وكذلك شهد التي صرخت بفزع وهي تركض
نحوه لتسنده على كتفها قبل ان يقع وبمساعدة حكيم أيضاً الذي شحب وجهه بهلع عند رؤية
دماء صديقه……
همست شهد بأسمه بشفاه ترتجف وهي تنظر
للإعياء الواضح على وجهه و ارتخاء جفناه قليلاً
رغم مقاومته بإلا يغيب عن الوعي……
“عاصم…….. عاصم…….”
اسكتها عاصم وهو يتحمل على
نفسه…..
“انا كويس…..كويس ياشهد…… لمسك؟……”
كان سؤالا بسيط بكلمةٍ واحده احدث صدعا
وشقا مؤلما في قلبها……..فهزت راسها بنفي
والدموع تغرق وجهها الذي قارب على اللون
الرمادي من شدة الرعب عليه وبشاعة الموقف
الذي تعرضا اليه….
اما جسدها الصغير النحيل كان ينتفض أسفل
ذراعه شعر به بشدة رغم الإعياء البادي عليه
وتخدر جسده من شدة الوجع والنزيف………
واثناء ارتعابهم عليه وتجمع الناس على صوت الصراخ والعراك لم يرى أحد الملثم الذي استغل فرصة التجمع و الزحام ولاذ بالفرار بعيداً
عن الأنظار…..
يتبع…
14=ج 1=رواية الحب أولا الحلقة الرابعة عشر
بعد ان سمح له الطبيب بدخول لها….. دلف إليها وهو يكبح ضحكته على عكس المتوقع كان يجب ان يكون أكثر تأثراً وحزنا عليها خصوصاً بعد ان تعرضت
لكسر بسيط في كاحلها والذي التوى بالخطأ أثناء سيرها وعدم الانتباه للأرض المبللة اسفلها……..
زمت داليدا شفتيها وعقدت ساعديها امام صدرها وهي ترمقه شزراً…. بينما ساقيها ممدده للأمام وكاحلها الأيسر مجبراً……..
علق سلطان وهو يتخذ مقعداً جوار فراش
المشفى…
“من أعمالكم سلط عليكم……”
جزت داليدا على اسنانها وزادت سرعة تنفسها
تشنجٍ وهي تقول بتبرم…….
“هي دي الف سلامة بتاعتك……..”
لم يرد سلطان بل مد يده يلمس باصبعه هذا الملصق
الطبي أعلى جبهتها فاثناء الوقعه القوية اصيبت
في قدم المقعد جوارها مما سبب لها اغماء وجرح سطحي……..
“بتوجعك……”
زمت داليدا شفتيها حانقة بشدة……
“آه بتوجعني… على اساس انك حاسس اوي بيا وخايف عليا……..دا انت داخل بتضحك…..وكانك فرحان باللي حصلي… ”
لم يعقب سلطان بل ظل ينظر اليها طويلاً…نظرة
شاملة…….. ثاقبة……مربكة……..
لم ينكر انها شخصية تبحث دوماً عن الإهتمام والحب بنهم……ظمأنه هي وتريد منه ان يسقِ
هذا الجزء داخلها ؟!….
عليه ان يذكر ان الساعتين الماضيين كانوا الاصعب والاشد عليه…. عندما خرج من الغرفة على صوت صراخها بأسمه انتفض من على الفراش اليها في
سرعة قصوى وعندما وجدها ملقيه أرضا وراسها
تنزف قليلاً وقع قلبه من موضعه رعباً عليها….
حينها جلس على عقبيه جوارها أرضا محاولاً ان يفيقها….. وعندما بدات تستعيد وعيها… صرخت
من كاحلها متأوهتٍ بشدة……
فقال وقتها بخوف وهو يحاول تهدأت بكاؤها الهستيري والذي اشبه بشخصٍ لدغته حيه
لا يقف عن البكاء والصراخ…….
(فين طيب…. وريني بتوجعك فين……)
صرخت داليدا بقوة وهي تضرب يده حتى
لا يمسها….
(مشط رجلي……. شكلها اتكسرت……اتكسرت…) اصدرت صرخة قوية كـ(العرسة) تماماً مما جعله
يجفل ويضع اصبعه في اذنه يرجها بعد ان تأذت
من صرختها…..
فلم يفكر قليلاً وهو ينحني عليها ويحملها بين ذراعيه القويتين وهي مزالت تبكي وتولول…
وضعها على الفراش ودلف الى الغرفة الأخرى واخرج عباءة لها ووشاح رأس واتجه إليها….ثم اقترب منها
وسحب غطاء رأسها عن شعرها……
فقالت بحدقتين مليئتين بالدموع…..
(بتعمل إيه……)
رد سلطان بجدية شديد وقلبه في حالة وجل مما
اصابها……
(هغيرلك هدومك عشان نروح المستشفى……نشوف رجلك ونعمل اشاعه عليها…..)
كانت هيستريا جداً وهي ترفض باكية
كالاطفال…..
(تغيرلي لا……اغير لنفسي….تغيرلي لا…..)
أومأ براسه بنفسٍ سمحة…….
(طب اتفضلي يام لسانين…..غيري لنفسك….)
نظرت داليدا بعجز لوضعها الحالي وكاحلها المتورم
والوجع الناتج منه وجرح راسها كذلك لذا قالت
بقهرٍ وعجز…….
(انت عديم الإحساس…اغير إزاي وانا رجلي مكسوره
وراسي متعورة……انت مش بنادم…….)
أطبق سلطان على اسنانه بقلة صبر ….يكره دلال الإناث يكره المدللات وقد ابتلى بمن تشربت
وتغذت على الدلال من صغرها !……
(الصبر من عندك يارب……)
نظرت داليدا الى وجهه المكفهر واستغفاره
المستمر……فمسحت دموعها بظهر يدها وهي تقول
بحسرة كأمرأه تخطت الستون……
(مش مستحملني صح……تقيله انا على قلبك ماشي…..نطلع من المستشفى على بيت اهلي…..هما ياخدوا بالهم مني ويخدموني……ولا الحوجه ليك…..)
لم تلين ملامح سلطان بل أمرها بنظرة
متجهمة….
(داليدا ارفعي إيدك…….)
برمت شفتيها هازئة…..
(ليه هتذنبني في العمر ده…….)
التجأ الى الحوقلة والاستغفار عدت مرات وهو
يكرر أمره بفظاظة….
(ارفعي ايدك ياداليدا……..)
فعلت وقتها على مضض وهي تتألم بشدة من
وجع كاحلها وراسها….
فرفع سلطان عبائتها بخفة عن جسدها….. وظهر أمام عيناه المظلمة جسدها النحيل ذو البروز الاثنوية الفجة بالاغواء…… كانت ترتدي ثوبٍ داخلي من
اللون الفستقِ الفاتح يغطى بطبقة اخرى من
التل….
بلع سلطان ريقه وهو يغض بصره عنها بصعوبة….بينما جسده اشتعل باحتياجات رجلاً
أعزب لم يمسس يوماً أمرأه !!…..
أحمر وجه داليدا حتى أصبح اشبه بثمرة طماطم ناضجة وهي تتنحنح بارتباك حتى يجلب شيء
تستر به جسدها…..
وفي سرعة بديهية وسط مشاعر ملحه وافكار شيطانية غير شريفة أبداً البسها عباءة الخروج
ووضع الوشاح على راسها بعشوائية…..ثم حملها
للأسفل……
وقتها انتبها لهذا الوضع والديه والذان لحقوا به على المشفى سريعاً……..
“حسى ان رجلي منمله……..”
فاق من شروده على صوتها المتألم….فاعطاها كامل
تركيزة قائلاً بحنو……
“يمكن من المسكن………”
هزت داليدا راسها بتساؤل وهي تدور بحدقتاه في
الغرفة باختناق….
“سلطان احنا هنخرج امتى من هنا…..انا بكره قاعده المستشفيات…. ”
تمتم سلطان وهو يسحب نفساً عميقاً
حاداً اوشك على ان يقتلع أزرار قميصه…..
“ربنا يبعدنا عنها……. شويه وخرجين……”
دلف والديه للغرفة وأول من صاح بلهفة كانت
حنان والدته التي اقتربت من فراش داليدا
تمسد على كتفها…
“داليدا….الف سلامة عليكي ياحبيبتي…..خضتيني
عليكي….. ”
ابتسمت داليدا بمحبة
مجيبة….
“الله يسلمك يامرات عمي…سلمتك من الخضه.. ”
ربتت على كتفها حنان ودمعت عيناها….فقال عمها
عبد القادر بحنية…..
“الف سلامة عليكي يابنتي….مش تاخدي بالك…”
ردت داليدا بهدوء……
“الله يسلمك ياعمي…… اهو اللي حصل…
..الحمدلله…. ”
وجه عبد القادر الحديث لابنه…..
“اي ياسلطان……الدكتور قالك هتخرج إمتى……”
هز سلطان راسه مجيباً على والده
بأحترام….
“اه شويه وهنمشي……هستناه بس يبص عليها
ويكتبلها العلاج اللي هتاخده…….”
…………………………………………………………….
عندما وصلا للبيت فجراً رفض سلطان مبيات امه الليلة معها بل أصر ان يساعدها هو بنفسه متكفلا
بخدمتها……
وحينما كثر الجدال بينهما وازداد تشدد ابنها على رأيه….وافقت على مضض واعده داليدا بأنها
ستحضر عند شروق الشمس لتكن بجوارها…..
ولم تكتفي امه بذلك بل بعد ان ساعدت داليدا على تبديل ملابسها…… احضرت أيضاً لهم وجبة عشاء
بها حساء دافئ خاص بـداليدا ……..
كانت بمفردها جالسة ممدده الساقين على فراش غرفة نومهما التي لم يتشاركا النوم بها سوياً منذ زواجهما……..
كانت تتأمل الحوائط السقف الاثاث البساط
بعينين شاردتين في مكانا آخر………
حتى صدح هاتفها معلناً عن اتصالا……..عندما مسكت
الهاتف وقرأت الإسم شملة الإبتسامة وجهها
المجهد…..ففتحت الخط سريعاً تهتف بلوعة
وعينيها تترقرق بالدموع……..
“ماما…..أخيراً سمعت صوتك……”
اتى صوت سُهير خافضاً حريصاً وهي تقول
بشجن…
(عامله اي ياداليدا….مرات عمك قالتلي انك وقعتي
على رجلك……طمنيني ياضنايا انتي كويسه…..)
مسحت داليدا دموعها وهي تخبرها بصوتٍ
مبحوح……
“لسه رجعه ياماما من المستشفى…كسر بسيط في مشط رجلي وجبسوه……هو انتي لي مجتيش……”
ساد الصمت متوتراً على الناحية الأخرى….
مما جعل داليدا تسبل اهدابها بكسرة نفس وهي تقول بيقين تتوارى خلفه حقيقة كالسياط تهبط
على قلبها…..
“بابا مرضاش….منعك….زي ما علطول بيعمل من ساعة ما جوزني لسلطان…..مش كده……”
بلعت سهير غصة مختنقة وهي تفهم ابنتها
برفق رغم بشاعة فعلتها……
(ابوكي مش وحش ياداليدا….بس اللي عملتيه
كسره قدام نفسه وقدام ابن أخوه اللي بقا
جوزك دلوقتي…..)
لم ترد داليدا ابتسمت بارهاق مضنٍ عندما اضافت
امها بتقريع قاسٍ مزدري…….
(عيزانا إزاي نجيلك ونزورك ونرفع عينا في عينيه بعد اللي حصل…….كتر خيره ان ستر عليكي…بعد
ما جابك من شقة واحد………)
اكدت داليدا بنبرة ساخرة مهتزة…..
“عندك حق كتر خيره فعلاً…….سترني……”
شعرت سهير بسوء نحو ابنتها فقالت
بتقهقر…..(يابنتي افهميني…….)
صاحت داليدا بعنفٍ و عينين حمراوين يمتزج
بهم الكثير من الألم….. والحزن والكرة عاصفاً……
“افهم إيه…انكم رمتوني هنا مفيش حد فيكم بيسأل
عليا……محدش بيرفع سماعة التلفون يطمن عليا…
وكاني موت بنسبالكم…….الفرق بس بدل ما تدفنوني
جوزتوني……..”
هاجت امها عليها بالكلمات القاسية……
(واحنا عملنا كده ليه…مش انتي السبب…مش انتي اللي خليتي عنينا وراسنا في الأرض قدام اللي
يسوى ولي ميسواش…..)
ثم تبرمت سهير مضيفة بتكبد……
(الله أعلم….جوزك قال لمين على عملتك السودة…)
ضاقت عينا داليدا بخوفاً وسريعاً
قالت…….
“مقالش لحد…….عشان دي حاجة متتقلش….”
تكاد تقسم ان امها ابتسمت بسخرية مريرة وهي
تعنفها……..
(كويس انك عارفه انها فضيحة……فضيحة وسترها
لحد دلوقتي كرم كبير من ربنا…….)
صمتت داليدا شاعره بمخالب حادة تنهش في
صدرها…..فقالت بصوتٍ حزين منهزم….يروي
شوق طفله لأحضان امها وتدليلها الزائد عندما
كانت تمرض….
“يعني مش هتيجي تشوفيني…..هتسبيني كده لوحدي……..”
قالت سهير بعد صمتاً بقلة حيلة…..
(هكلم ابوكي تاني واتحايل عليه لـو و…..)
قاطعتها داليدا صارخة فجأه بغضب
هائل…..
“يبقا مش هتيجي….. مش هتيجي…..اسمعي اعتبريني موووت بجد…. مش عايزاكي تكلميني
تاني……ولا حد من اخواتي يكلمني….. سامعه…
اعتبروني مت……. مت…….مت…. ”
اغلقت الهاتف في وجهها ثم القته بعصبية وهي
تدخل في نوبة بكاء مريرة…….بينما لسانها يعجل
بالموت داعياً……….
كان واقفاً امام الباب المتواري قليلاً يتابع ما يحدث
بعينين مظلمة…..انهيارها….شوقها….انهزمها…وأخيراً
عجزها………
عجز أصابه في مقتله…..فكم يكرهها ويكره نفسه
ويكره كل شيء اوصلهما لهنا…..
رغم انها تدفع فاتورة اخطاءها إلا انه تمنى في تلك اللحظة ان يُسددها عنها ولا تحزن أبداً !….
فعندما تحزن تحترق احشائه ويشعر بوخزة بالقرب من قلبه…….وخزة لا تهدأ إلا عندما ينقشع الحزن
من عينيها وقلبها…..عندها تعود لعهدها شقية
مُحتالة تسلب القلوب بضحكةٍ رنانة….
زفر بنفسٍ مهمومة وهو يفتح باب الغرفة اكثر ويدلف اليها بصنية الطعام التي احضرته أمه…….
عندما راته داليدا مسحت دموعها سريعاً وقالت
بصوتٍ مبحوح……
“اي الأكل ده….انا مش جعانه…….”
رد بهدوء مقترباً منها….
“لازم تاكلي عشان تاخدي علاجك…….دي شوربة خضار…. حاجة خفيفة…….”
اومات براسها بصمتٍ باهت المعاني…….فجلس جوارها على حافة الفراش ورفع الطبق إليها
قائلاً…..
“خدي كُلي………”
اخذت الطبق بهدوء ورفعت معلقة واحده على فمها
وظلت تمضغها لدقائق بعينين غائرتين بعيدتين عنه…….
فزفر مجدداً وهو ياخذ الطبق منها وينوي
اطعامها…فقالت معترضة….
“انا هاكل لوحدي ياسلطان…….”
لم يهتم سلطان بهذا الاعتراض الاهوج….بل قرب منها معلقة من الحساء وهو يسايرها قائلاً…..
“فاكره يا دودا وانتي صغيرة لما كنتي عايزة تطلعي رحلة تبع المدرسة في الأقصر والكل مرضاش خوف عليكي…..فاكرة انتي عملتي اي يومها…….”
اكلت من يده قائلة بحرج…… “هربت……”
سالها بعينين هادئتين…… “روحتي فين……”
ابتسمت بحرج مجيبة بخفوت….
“انت فاكر……عندكم فوق السطح في عشة البط…….استخبيت…”
مد لها معلقة اخرى من الحساء مندمج في تلك الذكرى الراسخة في أذهان الجميع…..
“تعرفي ان احنا لفينا اسكندريه شرقها وغربها..في سبع ساعات اللي غبتيهم……….”
ابتسمت بسعادة لكونها من صغرها محور اهتمام وحب لدى الجميع….تابع سلطان وهو يعطيها
معلقة أخرى………
“دورنا في كل حته……وسالنا قرايبنا.. وجيران
قرايبنا وصحابك واهل صحابك…لدرجة ان احنا شكينا انك تكوني روحتي الرحلة فعلاً من ورانا….”
ضحكت داليدا فجأه والحزن يزول بتدريج
وبريق الشقاوة بد بالظهور……..فهز سلطان راسه
مبتسماً بقنوط…….
“بتضحكي……مبسوطه بعميلك السوده….طول
عمرك منشفه ريقنا…….”
استلمت داليدا دفة الحوار بشقاوة
تذكره….
“يومها انت اللي لاقتني…..فاكر…….”
اعطاها معلقة أخرى وهو يقول بلؤم….
“فاكر……..كنت يأست اني الاقيكي…يومها طلعت اشرب سجارة فوق السطح في الخباثة من غير ما ابويا يقطع عليا……..”
فضاقت عيناه وهو يقول…….
“ساعتها طلعتي ليا من تحت الأرض تقوليلي اي بقا…….”
حرك سلطان اصبع التحذير مثلما فعلت وقتها مقلد صوتها وفي نفس الوقت لفظت هي الجملة معه بصوتها الرنان………..
“هقول لأبوك انك بتشرب سجاير…….”
انفجرت داليدا ضاحكة وكذلك فعل سلطان…..فمدت
لهُ كف يدها كنوع من المصافحة الودودة عند إلقاء
دُعابة او رؤية موقف طريف….وهذه لم تكون أول
مرة فقد فعلتها سابقاً وهما يشاهدان التلفاز….
فبادلها هذا المصافحة دون ان يندهش بل كان سعيد برؤية ضحكتها اخيراً…….
فتابعت داليدا والابتسامة تزين ثغرها…..
“يومها برقت بعنيك جامد لدرجة اني خوفت منك
لقيتك بعدها بترمي السجارة من إيدك وبتخدني
في حضنك……..”
أكد سلطان مبتسماً بشقاوة وهو يضيف……
“بعدها روحتك علطول….قبل ما ابوكي يروح القسم
زي ماقال لابويا…….”
لمعة عيناها قليلاً و الابتسامة تتوارى
امام عيناه……واردفت بشجن….
“يومها ضربني بالقلم…..وبعدين خدني في حضنه……وعيط…ساعتها حلفت اني مش
ههرب تاني وزعله……..”
قال بصوتٍ معاتباً……. “بس هربتي…….”
هزت راسها مؤكده بندم طفيف…….
“ساعتها نسيت يميني…….ونسيت اني كبرت على الهروب……..”
لم يعقب سلطان بل ظل ينظر اليها طويلاً بملامح رصينة وعينين راسخة المعاني ، بها ألف سؤال
صريح كل إجابة عنه تثبت أدانةٍ لا تغتفر ، اصاب
هذا الجو المتوتر رجفة في اوصالها……مما جعلها تهرب من محور عيناه الثاقبة………..
“انا شبعت……”
نهض من مكانه وهو يحمل الصنية
بعيداً….
“يبقا ناخد علاجنا ونام…….”
قالت داليدا بحرج……
“ينفع تساعدني أروح اوضتي…..”
رد بنفي…….”مش هينفع…….”
عقدت حاجبها…… “ليه بقا……”
اخبرها بخشونة وهو يهيئ الفراش للنوم
عليه…..
“لازم تباتي اليومين دول في اوضة النوم عشان محدش يشك في حاجة….امي هتطلع بكرة…..
واميرة اكيد هتيجي هي وجنة يبصوا عليكي
وعمتك وجيدة كلمتني وجايه بكرة هي
وهدى بنتها ……”
مطت داليدا شفتيها بقرف بينما قلبها انقبض فجأه على سيرة العمة….. “عمتك وبنتها……..ياساتر……”
حذرها سلطان بنظرةٍ جادة…..
“داليدا….احترام الكبير واجب وانتي مش صغيره عشان اعرفك بده……والضيف اللي يجي هنا لازم ياخد وجبه…. وزيادة كمان…… ”
تاففت وهي تغتصب الإبتسامة ممتعضة….
“تمام لم تيجي هقوم معاها بالواجب أطمن…..خلينا في المهم دلوقتي انت بقا هتنام في اوضتي……”
هز راسه بنفياً وهو يشاركها الفراش لأول
مرة………..
“هنام هنا جمبك عشان لو احتاجتي حاجة…..”
ارتبكت داليدا وتلعثمت الأحرف على
لسانها… “بس ياسلطان…….”
استلقى سلطان على ظهره جوارها بعد ان تناولت
من يده قرصٍ من العلاج المتبقي…….
“بلاش بسبسه السرير كبير….ولو ناوي اعمل حاجة هقولك انا مش هتكسف يعني……..”
ثم تثاءب قائلاً بتعب من تبعاب تلك الليلة المليئة بالاحداث المضنية…….
“بس انا تعبان وعايز انام……….”
ارتاحت هي ايضاً جواره قائلة
بتعب….
“وانا كمان…….تعبانه اوي ودماغي تقيله……”
سحبها برفقا لاحضانه وجعل راسها ترتاح على
صدره القوي النابض بشدة بقربها……
اما هي ارتجف قلبها بشدة وانهارت اعصابها بعد
هذا العناق الدافئ فهمست بخجلاً…..وقلبها
وجسدها في حالة ذوبان لذيذ بين ذراعيه….
“سلطان…….”
“هششش نامي…..”قالها بصوتٍ ناعساً ثم طبع
قبله على جبينها…….وبعدها سند خده على راسها
مستنشقاً بأنفه عبق الورد الجوري المنكه برائحة
جسدها المميزة………
فاستكانت راضية في احضانه….. وكانها
وجدت ملاذها اخيراً !…..
ام هو فظل يداعب شعرها باصابعه بحنان بحركة
أبوية جميلة جعلتها ترتاح وتغفو سريعاً….
وهو جفاه النوم وعقله يعيد عليه احداث الليله
بمقتطافات متباعده حتى رسخ في عقله الطاقم الفستقِ الفاتح الملتف حلو جسد انثوي مغوي بالحسن والدلال يفتن قديس…. فأبتسم وهو
يغمض عيناه على تلك الذكرى عالمٍ انه سيحلم بما هو عاجز عن تحقيقه على أرض الواقع !…..
……………………………………………………………..
فتحت عينيها منزعجة بعد سماع جرس الباب مما
جعلها تتمايل قليلاً حتى شعرت بكاحلها ثقيل ويؤلمها بشدة……
فانعقد حاجباها بوجع وهي تتصلب مكانها مستلقيه
على ظهرها بتعب……
سمعت من بعيد أصوات متداخلها من ضمنهم صوت سلطان المرحب بحفاوة …….
ففتحت عينيها ببطء تنظر لسقف الغرفة للحظات متذكرة نومهما سوياً على فراش واحد متعانقاً كالعشاق…..
توردت وجنتاها وخفق قلبها بحرارة فقد نامت بعمق وراحة في احضانه.. وذراعيه كانت تحتويها بدفءٍ يمشط شعرها باصابعه بحنية أب فشعرت وقتها
بانها ابنة وليست زوجة…..
دلف سلطان لداخل الغرفة واغلق الباب خلفه… ناظرا
اليها وهو يقترب منها…..
“كويس انك صحيتي…كنت لسه داخل اصحيكي…”
جلس على حافة الفراش وتلقائياً مالى عليها يقبل وجنتها… اتساعت عينا داليدا وهي تحاول تذكر
ما حدث لليلة أمس ليكن بكل هذه الاريحية
معها !…..
بلعت ريقها متوجسة وهي تنظر اليه بتساؤل…
“هو مين برا……”
اجابها وهو يقف أمامها مشرف عليها بجسده
الضخم وطوله الفارع……كان يرتدي طاقم بيتي
جميل يليق به……رمشت بعينيها عدت مرات وهي تسمعه يقول…….
“عمتك وبنتها…….. يلا عشان تدخلي الحمام تغسلي وشك وتطلعي تسلمي عليهم……”
وشى وجهها توترها وخجلها وهي
تسأله بعجز…. “مامتك مجتش……”
اخبرها برفق…..
“طالعه وراهم…… بتسالي ليه…….”
بلعت ريقها متلعثمه….. “عشان….. عشان…..”
قاطعها بهدوء…. “انا هساعدك…….”
أسبلت داليدا اهدابها شاعره بلسعة حارقة في
عينيها فلو كانت امها معها ما كانت احتاجت لأحد ؟!…خفف سلطان عنها الحرج قائلاً برفق
“مكسوفه من ايه…. انا جوزك ياهبلة… تعالي….”
نهضت معهُ بحرصٍ فعانق خصرها بذراعه يدعمها وجعلها تستند عليه كيفما تشاء……فسارت بعدها
معه ببطء شديد واثناء طريقهما للحمام سألته
بخفوت…..
“هو انت صحيت امتى…….”
رد سلطان بهدوء… “من ساعة……”
نظرة لعيناه قائلة بحياء…..
“وليه سبتني نايمه……. كنت صحيني…..”
رد بخشونةٍ…..
“تصحي تعملي إيه…. احنا نايمين إمتى……”
بللت شفتيها سائلة…… “هي الساعة كام؟……”
أجاب بهدوء… “حداشر…..”
برمت شفتيها متزمرة….
“وهما جايين بدري كده ليه…….”
ادخلها سلطان الحمام قائلاً بجزع……
“اطلعي اساليهم……..لو احتجتي حاجه نادي عليا….
هصب حاجة ساقعه ليهم وجيلك علطول ……. ”
تركها في الحمام حتى تقضي حاجتها دون
حرج……
ثم اتجه الى الضيوف بعد ان احضر لهم العصائر المرطبه…….وضع الصنية امامهما….
فقالت العمة وجيدة بتبرم…….
“تاعب نفسك ليه ياحبيبي….هو احنا غُرب…..”
كانت وجيدة أمرأه مكتنزة الجسد قصيرة القامة
ترتدي عباءة فضفاضة وحجاب كانت عينيها
قوية النظرات ومعاملتها صارمة وجافة
فتعامل معها صعباً جداً لسوء طباعها…..
ثم سألت بلؤم……
“الا داليدا فين يا سلطان…هي لسه نايمة ولا إيه…..”
اتخذ سلطان مقعداً جوارها……
“لا صحيت ياعمتي….هي في الحمام بس……..”
تطوعت (هدى) برد وكانت شابة في عمر الثلاثون
ولم يسبق لها الزواج….كانت ملامحها جميلة على نحو يميزها …..لكنها كانت سلبية فيما يخص
قرارتها المصيريه فكانت تتولى امها عنها ذلك !…
“لوحدها…….. تحب اقوم اساعدها……”
رفض سلطان بإبتسامة متحفظه…..
“لا لا يا هدى….انتي عارفه داليدا بتتحرج انا شويه وهدخلها……”
ثم وزع نظراته عليهن بالتساوي مرحباً…..
“وعاملة اي ياعمتي…..واي اخبارك ياهدى……”
هزت هدى راسها مبتسمة
“الحمدلله…..بخير……”
مصمصت وجيدة بشفتيها متحسرة باسلوب
مبطن المعاني……
“اخبارها لا تسر عدوا ولا حبيب….عيني عليكي يابنتي حظك في الدنيا قليل……اللي قدك ولي
أصغر منك اتجوزا……إلا انتي………”
أحمر وجه هدى بحرج بالغ
امام سلطان…..فقالت…
“يا ماما………دا نصيب……..”
تحسس سلطان ركبته وهو يقول دون
مواربة…..
“كل شيء بأوانه ياعمتي……بلاش تستعجلي…..
وبلاش الزيارات والاعمال اللي بتعمليها دي عند الدجالين….دا شرك بالله وانتي حجه بيت الله… ”
اتسعت عينا وجيدة ورفعت يداها تبرأ
نفسها….
“حد الله بيني وبين الاعمال…..انا بروح عشان افك نحس بنتي……ولاد الحرام كتير…وكذا شيخ قالي
ان بنتي معمولها عمل……..ولي عمله حد قريب مني
ومش بيحبني……..”
ابتسم سلطان باستياء وهو يجاريها في
الحديث……
“ومين بقا اللي عمله……”
قالت وجيدة بهمساً…..
“قالي أول حرف من اسمها سين……”
قالت هدى لأمها بحرج ……
“ياماما حرام عليكي…..بلاش تظلمي حد…”
لكزتها وجيدة بقسوة وهي تصرح بغل……
“اسكتي يابت…. طيبة قلبك دي هي اللي مخلياكي قعده جمبي…….شوفي بنتها عملت إيه عشان
تجوز سلطان………”
لم يعقب سلطان على حديثها احتراماً
وتقدير لوالده…….لذا قال بصبرٍ……
“عمتي……اشرب العصير واهدي…….”
نظرت اليه وجيدة بمسكنة قائلة بلوعة….
“انت مش مصدقني صح….طب والله قالي أول حرف
من اسمها سين…….ومين في عيلتنا أول حرف من اسمه سين غيرها……..”
نهض سلطان من مكانه يغلق هذا الموضوع
قائلاً بتحذير……..
“اشربي عصيرك ياعمتي….هروح ابص على داليدا……وبلاش الكلام ده قدامها عشان
متزعلش منك…… ”
عندما ابتعد سلطان عن مرمى اعينهم….عاتبتها
هدى بصوتٍ حزين يئن بالوجع والمهانة….
“ياماما اي اللي انتي بتقولي ده…. حرام عليكي
هو كل مرة تحرجيني كده….. قدام اي حد تقعدي تجيبي سيرة الجواز والزفت……الكلام ده بيوجعني……..”
لم ترحمها وجيدة بل قالت بحدة…..
“لازم يوجعك وصلتي لسن التلاتين وكل خطوبة
تتفشكل ومتكملش شهر حتى…..بصي وشوفي
عيله أصغر منك بعشر سنين عرفت توقع ابن
خالك على بوزه……ياما قولتلك ادردحي..
مفيش فايدة……..”
شعرت هدى بالكره والحقد نحو داليدا وكل فتاة تصغرها سناً ويسبق لها الزواج قبلها….فقالت بضجر…..
“عشان هو مش شايفني أصلاً…احنا طول عمرنا اخوات وانتوا ربتونا على كده……..”
زمجرة بها والدتها ساخطه…….
“ادي الحجج الفارغه مالسهونة اللي جوا دي…كانت بتقعد على حجره وهي صغيرة يأكلها…..واهي بقت مراته… مين يصدق…..لئيمه زي امها… ”
لوت هدى شفتيها بأسى مصرحة…….
“سلطان بيحب داليدا من زمان ومتعلق بيها….وكلنا
كنا واخدين بالنا من بصاته ونظراته واهتمامه…بذات
في خطوبته الأخيرة……..”
حركت وجيدة حاجبها الرفيع للأعلى قائلة
بحقد أسود………
“هو انا انسى….اكيد امها عملتله عمل عشان يسيب خطبته ويتجوز بنتها…..اه منك ياسهير….. مرا
قادرة بصحيح……ماهي وقعت اخويا بنفس الطريقة…… ”
هزت هدى راسها باستياء…….وداخلها تتمنى ان تتزوج وترتاح من كابوس امها وكلامها المحقن بالسموم….
كلاما جعلها تفقد ثقتها في نفسها نهائياً….وتكره
كذلك بنات عائلتها واصدقائها وتحقد على
الجميع مثل أمها ؟!….
………………………………………………………………
طرق سلطان على باب الحمام ثم دلف بعد ان سمحت له داليدا…والتي كانت تقف امام حوض الاغتسال في محاولة لغسل وجهها……
“خلصتي يا دودا……”
زمت شفتيها قائلة بملل…..
“هغسل وشي ولم شعري وطلع……”
احتوى خصرها بذراعه يسندها عليه وباليد الأخرى فتح الصنبور متطوعٍ بصوتٍ حاني……اصاب رجفة
في أوصالها……
“خليني اساعدك……..”
اغمضت داليدا عينيها باستسلام وجسدها ذأب
بين يداه… فغسل وجهها برفق وبحنان بالغ….
كما انها فرشة اسنانها بمساعدته وسط تعليقات طريفةٍ منه….ثم بدا يجفف وجهها…..وساعدها في تمشيط شعرها ثم أحضر لها عباءة إستقبال أنيقة تخرج بها للضيوف………
كان المشهد يوحي بأبٍ يجهز ابنته حتى تلحق بحافلة المدرسة…….كان مشهد دافئ معبر لمس
قلبها من شدة استشعرها به مما جعل الدموع
تتجمع في حدقتاها دون ان تعرف السبب
خلفها…..
شيءٍ دفعها للتأثر ربما لانها وحيدة ولم تاتي والدتها إليها….وتركتها هكذا شبه عاجزة تحتاج للمساعدة..
مما دفعها للبكاء بعد إهتمام سلطان بها وحنانه
الأكثر من المعتاد عليها………
“ليه بتعيطي…….رجلك وجعاكي…….”
سؤال سلطان سحبها من هوة الظلام المحيط
بها فنظرت اليه بعينين مندية بماء الدموع….
فعقد سلطان حاجباه سائلاً مجدداً وهو ينظر
للعباءة الجميلة الانيقة عليها و التي ارتدتها
فوق المنامة…..
“العباية مش عجباكي……..اجبلك حاجة تانية…”
هزت داليدا راسها بنفي بملامح متشبعه
بالحزن…….
فمد سلطان يده يمسح وجنتيها من الدموع
والحزن فبعد رؤية دموعها وكسرة النفس في
عينيها ها هو يشعر بوخزة في قلبه عائده لتؤلمه
بعد رؤية الأميرة المدلله تبكي…
همس وهو يقرب راسه منها قليلاً….
“طب مالك…….بتعيطي لي يا داليدا…….”
لم يتوقع ان تلقي نفسها في احضانه وتنفجر
في البكاء……حينها أغمض عيناه ببطء متأثراً
بقربها شاعراً بنشوة غريبة عند ملامست جسدها الناعم من جديد…فرفع يده ومسد على شعرها وكتفها مواسياً بكلمات متقطعة لم يجد غيرها الان…….
“اهدي ياداليدا…..بس… هششش….انا جمبك اهدي……. بطلي عياط…..عشان خاطري… ”
خرجت من احضانه تمسح دموعها……فقال سلطان
برفق في محاولة للسيطرة على نفسه معها……
“كفاية عياط…..اغسلي وشك تاني……ويلا بينا…
لحسان عمتك قاعده من بدري…….”
اومات براسها وسندت عليه وهي تخرج من الحمام……..محاولة التحلي بالصبر والهدوء خلال
الساعات القادمة والتي ستقضيها بصحبة عمتها
وابنتها حتى يرحلا…….
فالاحاديث مع العمة وجيدة تنقسم لجهتين….
اما ان تتحسر على حال ابنتها وعدم زواجها حتى الآن وان أصغر منها انجبوا أولاد في الثانوية !….
او التحدث عن الاعمال والدجل وهذه الخزعبلات الخرافية منهية الحوار بالتلقيح على والدتها بكلام خبيث مبطن…..
فهي تكرهها…..ومن يكره أمها تكرهه مهما كانت مكانته في العائلة……..
رحبت بهم داليدا التي دخلت مستندة على
ذراع سلطان…….
“أهلا ياعمتي…. عامله إيه…….”
وقفت وجيدة تبادلها السلام بجفاء
ملموس…..
“الف سلامة عليكي يابنت اخويا… ارتاحي…..ارتاحي…. ”
ساعدها سلطان على الجلوس على الاريكة وهو جوارها….فاقتربت منها هدى تسلم عليها……
“الف سلامة عليكي ياداليدا…….”
ردت داليدا بهدوء…… “الله يسلمك ياهدى……”
نظرة وجيدة لكاحلها المجبر……مستفسرة….
“وزي تقعي كده….مش تاخدي بالك……”
اجابة داليدا مقتضبة…… “نصيب…..”
اكتفت وجيدة بايماءة خبيثة…وهي تستفسر
بلؤم…….
“اه نصيب….وامك مجتش ليه….هي مش واجب تيجي تقعد معاكي اليومين دول وتخدمك لحد ما تفكي الجبس…….”
قالت داليدا بغصة مختنقة…..
“ماما تعبانه شوية……الضغط عالي عليها…. ”
ادعت وجيدة التأثر بحرفية…..
“لا لا الف سلامة……. على كده لازم ازورها……”
ثم تمعنت في النظر اليها بتطفل من أول رأسها
حتى اخمص قدميها وعلقت بحقد…..
“هو انتي وقعتي على رقبتك كمان….”
“لا ليه……”لمست داليدا تجويف عنقها مشدوهة
وهي ترفع عيناها على سلطان الذي بدوره
أبتسم بعبث وغرور بعد رؤية تلك البقعة الحمراء
اثار عضة أمس…….
فقالت وجيدة بتطفل…….”اصلها محمرة……”
أحمر وجه داليدا بخجل وقالت….
“اه……. اكيد حساسية……..”
أبتسم سلطان بانتشاء وهو يراقب خجلها
الذيذ…
بينما مصمصت وجيدة
بشفتيها….
“ممم حساسية……طيب…. ”
قال سلطان مرحباً بخشونة….
“منورانا ياعمتي…….”
ابتسمت وجيدة وهي تربت على ركبته….
“بنورك ياحبيبي…”
ثم وجهت الحديث الى داليدا….
“لو أمك مش هتيجي تخدمك…. اخلي معاكي هدى بنتي تاخد بأيدك…….”
صمتت داليدا وهي تنظر لسلطان بحزن…فهز سلطان
راسه وعيناه تراضيها…
ثم عاد لعمته قائلاً بهدوء…
“كتر خيرك ياعمتي عرفين اللي عندك…بس انا معاها
وامي موجوده….. واميرة وجنة كمان زمانهم على وصول….”
شعرت وجيدة بأنه صفعها بأدب فأغتصبت
البسمة قائلة…….
“اه ومالوا…..ربنا يديم المحبة بينكم…”
ثم نظرة الى ابنتها الجالسة جانبا في
مقعدها….فغمغمت سراً بغل……
“ويعوض عليكي يابنتي……..”
……………………………………………………………..
14= ج 2=
هذا المشهد مطابقا لمشهد قديم عاشته يوماً…
مشهد كانت به الأبواب مغلقة امام عينيها تقف كما هي الان في ممر المشفى الممتد تستند الى الحائط براسها فتنظر بعينين ساكنتين بالحزن فارغتين من الحياة……
كان هذا المشهد القديم يحمل صوت بكاؤها نحيب يكاد يقطع انياط قلبها…..وقتها خرج الطبيب
يخبرها بان والدتها توفت…..
كان الخبر كالصاعقة التي ضربتها فأطاحتها أرضٍ
في أشد واظلم بقعة منزوية في الأرض….وقتها
كانت اضعف من ان تقاوم تلك الصدمة……لذا انفردت بنفسها ونعزلت عن الجميع لأشهر…..حتى عادت للحياة بتدريج لكن جزءا منها مزال منعزل عن الحياة حتى الآن يحبذ الظلام عوضاً عن الخروج
الى النور……..
ورغم وحشة الظلام والوحدة القاتلة به إلى انه
كان ولا زال آمِناً !……
عاد هذا الشعور يستوطن قلبها المنهك من جديد
يرعبها و يشقيها…….فيجعلها تموت بالبطيء في وقفتها الصامدة…… فرغم الصمت والهدوء البادي عليها….. كانت عسليتاها مأساوية النظرات….
تكشف للمطلع حقيقةٍ تنكرها….
وقعت في الحب !…..
والخوف الآن ليس شفقة او إحساس إنساني ينتابها تجاه هذا الشخص القابع خلف الأبواب ، لا اطلاقاً
في الحقيقة هي مرعوبة بان تجرب مجدداً مرارة
الخسارة معه هو ؟!….
فهو يعني لها أكثر مما ظنت…..وكل يوم تتأكد بانها
متورطة في الحب…….
ويالها من ورطة ستشقيها وتعذبها أكثر معه…..
مزالت واقفه مكانها تنتظر خروج الطبيب حتى يطمئنها عنه….. فقد نزف دماءاً كثيرة اثناء
طريقهما للمشفى مما جعله يفقد الوعي
وقتها…….
اسبلت اهدابها بوجع وقلبها يتلوى داخلها بخوف عليه…..ولسانها يدعي له كل ثانية بان يخرج من
تلك الحادثة سالماً……فسلامته في عيناها الان
تساوي حياةٍ كاملة !…..
كان في الممر كذلك يقف حكيم بالقرب من غرفة الطوارئ المغلقة…..وحمزة وقمر يجلسان على أحد
المقاعد منتظرين……وعينا حمزة كانت لا تفارق
شقيقته…… ومن خوفها وهذا الاهتمام المبالغ
فيه والواضح من تصرفاتها دون كلمة واحده
بانها قد وقعت في حب الصائغ وانتهى الأمر !….
خرج الطبيب في تلك الاوقات فظلت شهد مكانها
متسمرة تتابع الحديث بعينين متلهفتين…….
فسال حكيم الطبيب بقلق…..
“طمنى يادكتور…….عاصم عامل إيه دلوقتي…….”
رد الطبيب بعملية …..
“الحمدلله بقا أحسن….الجرح بس احتاج تخيط فعملنا الازم……وهو شويه وهيفوق تقدروا تتطمنوا عليه……..”
زفر الجميع بارتياح فردد حكيم
بإبتسامة شكر…..
“الحمدلله…….الحمدلله……..”
ربت الطبيب على كتف حكيم قائلاً قبل
ان يبتعد….
“حمدلله على سلامته…….”
زفرة بارتياح وهي تشعر بانها تسترد روحها المهاجرة من جديد وقد زال أخيراً الحجر من على صدرها….
فبدات تاخذ أنفاسها واحداً تلو الاخر بصعوبة وكانها
لم تتنفس الساعات الماضية بشكلاً صحيح….وعندئذٍ شعرت بان الدموع تتجمع في مقلتاها بغزارة مما جعلها تستدير وتولي ظهرها للجميع متجهة الى الحمام…..
دفعت باب الحمام واغلقته خلفها فسندت على
الباب بظهرها ثم ارخت جفنيها تاركه العنان لدموعها ونحيبها بالبوح عن مشاعر عدة تخصه هو دون
غيره………..
وظلت على تلك الحالة لفترة طويلة ثم اتجهت بعدها
الى صنبور المياة وبدأت بغسل وجهها من اثار الدموع…..ثم بعد ان جففت وجهها….اخرجت السماعة الطبية من حقيبتها وارتدتها….ثم خرجت ذاهبه اليهم بهدوء……
فوجدت حمزة يخرج من الغرفة التي انتقل عاصم اليها في نفس الممر وكانت قمر منتظرة مكانها
على المقعد……..
عندما وصلت لعنده سالت عنه بهدوء……لكن
قلبها كان ملتاع…….
“شوفته ياحمزة…..عامل اي دلوقتي…….”
ظل حمزة ينظر اليها قليلاً ثم سالها بصوتٍ
رخيم…….”انتي كنتي فين…….”
ردت بصوتٍ شجي….
“في الحمام….. قولي هو عامل إيه…….”
اخبرها بهدوء…..
“كويس…..فاق وسأل عنك……..”
اهتزت حدقتاها بحرج من اخيها….فتابع حمزة
بنبرة غريبة……
“خايف يكون حصلك حاجة….بس انا طمنته انك كويسة…….”
ظلت مكانها صامته تشعر بان مشاعرهما مكشوفة
جداً امام اخيها مما يشعرها بالحنق الممزوج بالحياء…..فقال حمزة بلهجة متجهمة…….
“ممكن تفهميني….اي اللي حصل بظبط…….ولي
ضربُه بالمطوة ده…..كان قاصد مين فيكم……”
توترت شهد فهربت من نظراته
قائلة….
“مش وقته ياحمزة…..”
كان مصرا وهو ينظر اليها بقوة.. “لا وقته…….”
اشاحت شهد بوجهها تزفر
بجزع….
“لم نروح يا حمزة خليني اطمن عليه…….”
احتدت نظرات حمزة قائلاً بغيرة…..
“تطمني عليه ازاي تدخلي لوحدك يعني…..”
هتفت شهد بحنق شديد راجية ……
“وهو هياكلني ياحمزة….. الراجل تعبان…وبطنه مفتوحه……خليني اطمن عليه ياحمزة عشان خاطري…. ”
ظل ينظر اليها قليلاً ثم جز على اسنانه
قائلاً بضيق…….
“خمس دقايق وتطلعي…..مطوليش…….”
اومات براسها….. “حاضر……”ثم مرت من جواره
وفتحت الباب واغلقته خلفها……..
فزم حمزة شفتيه بعدم رضا….وهو يتجه الى قمر ويجلس جوارها منتظراً وقد حانت منه نظر عليها
ليجدها ساكنة صامته على غير عادتها ويبدو
عليها التأثر بما حدث لذا عقب ساخراً…….
“مالك انتي كمان قلبه وشك ليه…تعرفيه عشان تزعلي عليه……”
مطت قمر شفتيها هازئه بجفاء……
“مش شرط اعرفه عشان ازعل عليه….”هز حمزة
راسه وبرم شفتيه مدعي التأثر بعد جملتها….
فاضافت هي بنظرة مشفقة نحو الباب المغلق أمامهما…
“بجد صعب عليا اوي…..نزف كتير…..كله عشان
خاطر اختك لولاه كان زمان اختك مكانه….
احمد ربنا….. ”
انتبه حمزة الى حديثها بجدية شديدة….
فضاقت عيناه وهو يسألها….
“انتي بتقولي إيه…….”
نظرة اليه قمر ببراءة مصرحة عما رأت
بسلاسة…….
“مالراجل اللي ضربه بالمطوة ده….كان ناوي يضرب
شهد بيها لولا عاصم لحقوا……”
جفل حمزة لبرهة وهو ينظر لها ببلادة…ثم قال
بعدها ببطء شديد حتى يستوعب ما حدث لهن
في غيابه……
“لا لا براحه عليا….اهدي كده وحكيلي من الأول اي اللي حصل لما روحت الجراچ اجيب العربية…….”
………………………………………………………………
كان عاصم ممدد على الفراش بتعب…عاري الصدر
وحول خصره المنحوت توجد ضمادة طبية تغطي
الجرح……
ربت حكيم على ذراع صديقه قائلاً….
“الحمدلله انك بقيت كويس….دا انت نزفت يامه
اوي وعلقولك محاليل ودم وليله كبير ياحولم…..”
رد عاصم بخفوت… “الحمدلله…”
” الحمدلله طبعاً……بس معقول تعمل في نفسك
كل ده عشانها…..”ضاقت عينا حكيم بلؤم….
فرد عاصم بخشونة……
“مش عشانها….لو اي حد تاني كنت هعمل نفس
اللي عملته……..ولا انت أول مرة تعرف عاصم
الصاوي…….”
أكد حكيم بإبتسامة مشاغبة…..
“عارفه….وبذات لما يتحمق اوي للي يخصه…بيبقا يجبل ما يهزك ريح……..”
التوى ثغر عاصم بسخرية…..
“اهو هزني……وعلم عليا ابن ال…….”ثم صمت قليلاً…..واضاف بعينين ضاريتين…….
“انا عايز اعرف مين ده….وكان عايز يضربها ليه…”
طمئنه حكيم قائلاً بلهجة جادة…….
“متقلقش هشوفلك الحوار ده…وانت برضو استفسر منها…..يمكن تفيدنا بمعلومة نعرف نوصله…وياخد
جزاءه بالقانون……….”
ثم اردف متذكراً…….
“كمان المستشفى بلغت واكيد هيعملوا محضر وياخده اقوالك…….”
اجاب عاصم ساخراً…….
“دا لو كان عندي حاجة اقولها…..انا لحد دلوقتي معرفش هو مين……..”
“بكرة نعرف…..هيروح مننا فين…….”ثم اخرج حكيم
هاتفه قائلاً……
“انا لازم اتصل بعمك واعرفه باللي حصلك…دي حاجة متستخباش…..خصوصاً انك مطول هنا كام يوم زي مالدكتور قال…..”
اوما عاصم براسه يقول……
“ماشي طمنهم بس قولهم اني كويس والجرح سطحي…….”
مط حكيم شفتيه بغلاظة…..
“سطحي وانت مخيط كذا غرزة اتقي الله……”
أمره عاصم بصيحة حادة….
“اسمع الكلام ياحكيم…….”وضع عاصم يده على الجرح متألمٍ دون صوت….
عندما رآه حكيم هكذا قال برفق…..
“بلاش تكلم كتير اهدى على نفسك جرحك لسه مفتوح……هقولهم انه سطحي بس هما كده كدا هيعرفوا لما يسألوا الدكتور عشان يطمنوا عليك….”
كان ينوي عاصم الرد عليه لكن طرق انثوي رقيق على الباب اوقفه….ثم دخولها سمره مكانه.. فعلق عيناه المتجهمة عليها…….وقلبه مأخوذ بعد رؤيتها يشعر انهُ نسى كيف يخفق في العادة……..
تقدمت شهد منه بخطوات هادئة بوجهٍ شاحب وعينين حمراوين اثار البكاء……..
كانت مزالت بفستان الحفل…الوردي الفاتح….لكنه
الان مختلف فكان يحتوي على بقعة من الدم
الجافه عند الصدر موضع القلب دماؤه….لطخ بها
الثوب عندما وضعت جسدها أسفل ذراعه تدعمه
قبل ان يقع أرضاً…..كانت حركة غير متوقعه منها
قد جفل وقتها رغم أصابته ومع كل شيءٍ يحدث
حوله جفل ، ورغم ذلك لم يمانع بان تكون عكازة
وقتها ؟!…..
كان شعور رائع يبعث الدفء والنشوة اليه حتى خوفها وقتذاك كان افضل شيءٍ حي رآه منها
حتى الآن…..
“حمدلله على سلامتك….”قالتها شهد عندما وقفت بالقرب من السرير….. تطلع اليه بعينين حزينتين
ملامتين…….
رد بهدوء وعيناه عادتا تأسرها من
جديد…..
“الله يسلمك…… المهم انك كويسة……”
سبحة عيناها في ظلام حدقتاه وبنبرة
معاتبه……
“إزاي ابقا كويسه بعد اللي حصلك بسببي…..”
وزع حكيم النظرات بينهما بفضول وعندما
اتت عيناه على عاصم طرده بنظرة حادة
جعلته يتنحنح بحرج قائلاً …..
“طب ياعاصم…انا هطلع اكلمهم برا…..وهطمنهم متقلقش……..”
عندما خرج حكيم من الغرفة واغلق الباب خلفه…
اقتربت منه شهد وجلست على المقعد جوار
الفراش….هامسة بعينين لامعة بدموع……
“خضتني عليك ياعاصم…….”
ابتسم من زاوية واحده ساخراً……
“على اساس انك مهتمه حتى لو جرالي حاجة..”
هتفت بلوعة صادقة….. “بعد الشر……”
لم يرحمها فمزال غاضباً منها لذا عقب
بنظرة ساخطه… “خايفه اوي….”
مسحت دمعة فارة من عينيها وهي تهتف
منزعجة……
“اكيد خايفه عليك…. بلاش البصه دي يا عاصم..”
لم يرد عاصم ولم ينظر لها بل ظل صامتاً
بملامح متجهمة…..فقالت شهد بعذاب…..
“انا كنت مرعوبه لا يجرالك حاجة بسببي….”
نظر لها بجمود……
“ودا بقا اسمي إيه….شفقه مثلاً…….”
رمشت بعيناها عدة مرات تحاول تمالك
اعصابها المنهارة امام قساوة قلبه……ثم عقبت
عن الأمر بانكسار…..
“انت قلبتك وحشة اوي…..بتخوف……وانا شبعت خوف……..”
لم هزت الجملة قلبه فجعلته ينظر اليها لوهلة
جافلاً ثم استأنف حديثها…..
“مش فاهم……عايزه تقولي إيه……”
نزلت دموعها عنوة عنها…فكل هذه الضغوط
كانت أكبر من طاقة تحملها…..
“بلاش تقسى عليا…….انت بذات بلاش تقسى…”
بنظرة ثاقبة استأنف مجدداً….. “وليه انا بذات…….”
صمتت وهي تحني راسها بتعب…..تحجب عن
عيناه الدموع التي تهطل بصمت حزين كصاحبتها….
فحاول عاصم رفع يده لكن الجرح شد عليه فجز على اسنانه شاتماً بصوتٍ خفيض……ثم امرها
بخشونة حانية….
“ارفعي رأسك وكفايه عياط….انا مش قادر اتحرك حتى عشان امسح دموعك…….”
مسحت دموعها سريعاً وهي تحاول لملمت شتاتها فمنذ متى وهي حساسة بهذا الشكل بل وتبكي
أمامه أيضاً !!…….
سالته بقلق وهي تنظر للضمادة……وقد انتبهت
لصدره العاري الرياضي الجذاب فأحمر وجهها وحاولت التركيز على عيناه فقط………
“الجرح تعبك أوي………”
تنهد قائلا بوجوم….. “انتي شايفه إيه…….”
“اكيد بيوجعك……..انت خيط كذا غرزة…….الف سلامة عليك…….”قالتها شهد بصوتٍ حنون……
بعث الدفء لقلبه لكنه تماسك بقدر الإمكان
محاولاً الا يقع في سحرها مجدداً فلن تخدعه
مرتين……فرد بجفاء…….
“الله يسلمك…….”
بلعة غصة مختنقة وهي تقول…… “شكراً……”
بنظرة مهاجمة حذرها……
“مفيش بينا الكلمة دي…….اسحبيها…….”
قالت شهد بنفسٍ غير سمحة…….
“دي أقل حاجة اقدر اقولها في الوضع ده….انا مش قادرة اسامح نفسي…. ”
برم عاصم شفتيه وهو يلتقط شعور الذنب
بين ثنايا كلماتها…….فقال بهزل…….
“ليه انتي اللي عورتيني…..هوني على نفسك….يا آنسه……”
وكان الكلمة وقفت في حلقها…..فقالت
مستهجنة…..
“آنسة؟!…..تمام انا لازم امشي….الصبح من النجمة هكون عندك….. ”
نهضت عن المقعد واقفه بتردد في الرحيل……
فقال عاصم بجفاء……..
“وليه تتعبي نفسك……واجبك وصل خلاص….”
عضت على باطن شفتيها وهي تشعر بالحنق لتركه
هنا وحده…….
“على فكرة لو ينفع كنت فضلت معاك…..وسهرت جمبك بس……..”
قاطعها عاصم بخشونة وبنظرة غير
متهاونة بالمرة قال….
“دا لو كنتي مراتي……روحي يا شــهـد…….وبلاش تيجي هنا تاني…. واجبِك وصل خلاص…..شكراً… ”
قالت بحزم مماثل له……
“مفيش بينا الكلمة دي….اسحبها…….”
لانت شفتيه في إبتسامة لم تصل لعيناه….فهي
تجيد حفظ كلماته ولعب بها ضده…….
وجدها تخبره بنظرة معتذرة……
“هاجي الصبح من النجمة هتلاقيني عندك….انا آسفه…….”همست بها قبل ترحل……
فرفع عيناه عليها متسائلاً……
“اسفه على إيه……..”
تسربة كالماء من بين قبضته راحله….على أمل ان تعود صباحاً……..وهو ينتظرها بكل شوق حتى ان
انكر هذا امام عيناها !…….
………………………………………………………………
بعد مدة كانت الغرفة مزدحمة بأفراد العائلة….الجميع اتى على وجه السرعة قلوبهما بين ايديهم خوفاً ورهبة من ان يكون قد اصابه مكروه……..
وعندما اطمئنوا عليه اتخذ الجميع مقعداً وبدأت
الأسئلة عن الحادث ومن الفاعل…….
تافف مسعد غاضباً من مناورة ابن اخيه في
الرد….
“يعني اللي ضربك بالمطوة ده كان قصدك انت…”
رد عاصم مجدداً بمناورة……
“لو مش قاصدني هيخبطني بيها ليه……”
اشار مسعد على حكيم الواقف جانباً……
“بس حكيم قالي انكم كنتوا بدفعوا عن واحده
كان بيتعرض لها…. ”
نظر عاصم الى صديقه بسئم….فنظر حكيم للأرض
بحرج…….
فتدخلت الهام مندهشة بصيحة انثوية…
“معقولة…. ومين دي بقا اللي رقدت رقدتك دي عشانها…….”
لم يرد عليها عاصم بل ظل صامتاً بملامح
متصلبة…فتساءل مسعد مجدداً…….
“ما ترد ياعاصم ساكت ليه…… اتكلم خلينا نعرف نجيب حقك……”
هتف عاصم بخشونة……
“انا مش صغير ياعمي…. انا اعرف اجيب حقي كويس أوي….. بس اقف على رجلي الأول….”
تدخلت الجدة نصرة في الحديث بقلق….
“وليه يابني تعرض نفسك للاذى من تاني…. مشيها
قانوني أحسن……..”
هز راسه بالموافقة دون تعقيب…..فاقترب منه
يزن ومالى عليه يقبل راسه قائلاً بمحبة….
“الف سلامة عليك ياكينج….خضتنا عليك يا بطل…”
ثم استقام مضيفاً بحمائية……
“قولي بس مين اللي عملها وانا اكله بسناني….”
“شايلك لوقت عوزه يالمض……”كان رد عاصم مرحٍ…..لذا هتف يزن بجدية……
“بتكلم بجد ياعاصم……”
رد عاصم بفتور……
“لو اعرفه هجيبه بنفسي…..بس انا لسه معرفوش..”
حل الصمت من جديد في الغرفة فبتر الصمت
صوت الهام المتملق تقول……
“الف سلامة عليك ياعاصم…..”
هز عاصم راسه لها مغتصبا الإبتسامة على محياه…..فتابعت هي بخبث امام الجميع…..
“انا خوفت أقول لروفيدة لحسان يجرالها حاجة…
قولت امهدلها الموضوع الأول……مانت عارفها….”
انهى الحوار بجملة مقتضبة……..
“منجلكيش في حاجة وحشة يامرات عمي…..”
وكان دلو بارد من الماء وقع فوق رأسها….فاحمر
وجهها وهي تتراجع للخلف بحرج…..
فقال عاصم للجميع بهدوءٍ……
“انا من رايي تاخدوا بعضكم وتروحوا دلوقتي
وانا كلها يومين وهخرج……”
هتفت نصرة باستنكار……
“ونسيبك لوحدك……اي الكلام ده ياعاصم…..”
لانت ملامح عاصم عند النظر إليها فقال
برفق…….
“متقلقيش ياحاجه….حكيم موجود والدكاتره
هنا بيمروا كل شوية عليا……”
قالت نصرة بحزم….. “ولو هفضل معاك……”
رفض عاصم من أجل وضعها
الصحي…..
“مش هينفع ياحاجة…….”
دوى صوتها بصرامة توبخه……
“اسكت ياواد…هتكبر عليا ولا إيه….انا اللي هبات معاك….وهفضل جمبك لحد ما تخرج من المكان
ده…..”
نداها عاصم معترضاً…… “يا حاجة….”
رمقته نصرة بعتاب…… “هتكسر كلمتي يعني……”
هز عاصم راسه احتراماً…….
“لا عشت ولا كنت……. ربنا يخليكي لينا…….”
لمعة عينا نصرة بدموع فكلما نظرت الى الضمادة
التي تغطي جرحه يتهدل وجهها المجعد حزناً
عليه…….فقالت بخفوت متأثره…….
“ويباركلي فيك…وفي عمرك ويبعد عنك الأذى
وولاد الحرام…….”
ثم مسحت دموعها بيد ترتجف……فقال عاصم
بحنو…….
“كفايه عياط عشان خاطري…..مانا زي الفل أهوه.. ”
اتجه اليها يزن وربت على كتفها بحنان
وهو يخبر عاصم……
“دي اغمى عليها أول ما سمعت الخبر……”
اتسعت عينا عاصم ونظر الى يزن بحنق
بالغ…. “وجبتوها يا يزن…….”
هتف يزن مبرراً…….
“مرضتش تقعد……..وحلفت علينا…….”ثم مالى
على وجنة جدته وقبلها قائلاً…….
“انا كمان هبات معاكم….ومش هسيب الكينج لوحده……”
ثم رفع عيناه على عاصم غامزاً
بشقاوة….
“بس قولي الممرضات هنا حلوين ولا…….”
أبتسم عاصم ساخراً…..
“انت هتقعد معايا ولا هتقعد مع الممرضات….”
رد يزن بوقاحة ضاحكاً……..
“ومالوا ياكينج……..شبرقت عين بس مش أكتر….”
هتفت نصرة باستهجان…….
“اتلم ياواد يا يزن واحترم نفسك…..اي قلة الحيا دي…. ”
“حاضر يانصرة قلبي…”كبح يزن ضحكته ثم
همس لعاصم بزهو….
“بتغير عليا أوي…….واخد بالك…. ”
مط عاصم شفتيه وهز راسه ساخراً….
” واخد…..”
فأدعى يزن الاسى قائلاً…..
“بحاول اكل الجو منك….بس انت برضو اللي في القلب ياجدع……..قولي اعمل ايه……”
رد عاصم بغرورٍ…..
“متلعبش مع اللي أكبر منك…….”
ضحك يزن غامزاً له…..”ماشي ياكينج…..ماشي…….”
نهض مسعد عن مقعده قائلاً بهدوء…..
“خلاص ياجماعة سبوه يرتاح والصبح هنبقا
عنده….”ثم وجه الحديث لوالدته…….
“انتي بايته معاه يا امي……”
اكدت نصرة بهدوء……
“اه ان شاءالله…….روحوا أنتوا…..وانت كمان يا
يزن روح معاهم عشان جامعتك….. ”
هز يزن راسه مقتضباً….ثم خرج الجميع بعدها
وكان اخر شخصٍ حكيم الذي وقف عند الباب المفتوح يخبر صديقه……..
“انا برا يا عاصم…..عشان مينا زمانه جاي…..”
اكتفى عاصم بايماءة بسيطه فغادر حكيم مغلق
الباب خلفه…….
عندما انفردت به الجدة….اقتربت من السرير
بمقعدها المحترك….مستفسرة بسؤالاً……
“قول الحقيقة مين دي اللي دفعت عنها وخدت الخبطه مكانها……”
سحب عاصم نفساً طويلاً ثم أخرجه على مهلٍ
وهو يلفظ حروف إسمها على لسانه من
جديد…..”شـهـد……..”
هتفت الجدة بصدمة……… “تاني……”
تحدث معها باريحية عكس رده على عمه
والآخرين…..فالجدة دائماً لها مكانة خاصة في
قلبه عنهم جميعاً…..
“انا مخدتش الضربه مكانها……انا مسكت في الولا اللي كان ناوي يخبطها بالمطوة وساعة العركه معرفش اي اللي حصل لقيت نفسي بنزف….والناس
اتلموا وهو هرب في الزحمة……..”
اتسعت عينا نصرة بصدمة ممزوجة بالشفقة
نحو الفتاة………
“ابن الحرام…..وكان عايز يضربها ليه بالمطوة….عملت
اي لده كله……..”
زفر عاصم قائلاً بغضب مكتوم…….
“دا اللي لسه عايز اعرفوا منها…….يمكن تعرف هو مين……..”
هتفت الجدة بخوف عليه…..
“ماشيها قانوني يابني…..احنا ملناش في شغل البلطجه وقلة الادب دي ماشيها قانوني …..”
تزمت عاصم رافضاً بعينان تقدحان شرراً……..
“لا ياحاجه دا حقي…..وانا مش هسكت غير لما اجيبوا بايدي……..”
تلك النظر وهذا الوعيد المحتد في صوته….ارعبها
من القادم فهي تعرفهُ اكثر من نفسه….تمتمت
نصرة سراً….”استرها يا رب……..”
…………………………………………………………….
القت شهد جسدها على الاريكة بتعب وعينيها
المجهدتين تنظرا الى اخيها الواقف امامها على
غير هدى يحاصرها بالاسئلة عن الحادث…..
لو كانت تعلم من الفاعل لكانت ابلغت الشرطه على الفور…..لكنها تشك في عدة أشخاص……
ربما مرعي أراد ان ينتقم منها بعد ان تطاولت عليه
ورفعت السكين في وجهه فأرسل شخصٍ حتى يؤذيها…
او إلهام أرادت التخلص منها حتى تبعدها عن عاصم فاتى هذا المجرم عن طريقها…..
او أحد المنافسون في العمل كما حذرتها أحلام من قبل ان نجاحها في شارع الصاوي سيخلق اعداءاً
لها……
لاحت السخرية على وجهها…..
فاي نجاح هذا وهي على وشك ترك المطعم ؟!…
ايا كان في جميع الأحوال لن تتفوه بحرف لحمزة…هي تعرف جيداً تفكيره…….
حمزة كما تراه دوماً….رجلاً يتقامر مع الحياة…
لا يخشى شيءٍ….وليس لديه حدود عند الغضب…
لن تضحي باخيها يكفي ما حدث لعاصم بسببها…
حتى الآن مزالت تلوم نفسها…قربها منه يؤذيه
وها هو راقد في المشفى بسببها……
صاحت شهد بنفاذ صبر توقف اخيها عن الصراخ
في وجهها……
“قولتلك معرفش مين هو…وكان قاصد مين فينا معرفش ياحمزة……معرفش يااخي….”
أشار حمزة بعصبية على قمر التي تتوسط
الاريكة وهي تتابع ثورته بتحفز وصمت مبهماً……
“قمر قالت انه كان قصدك انتي……وعاصم اللي ادخل
ومنعه…….انت مخبيه عني اي فهميني…….”
نظرت شهد الى قمر بضجر بالغ لأول مرة تتلقى
منها قمر هذه النظرة فجفلت واسبلت اهدابها
بحرج……..فصاح حمزة مجدداً بحمائية…..
“هو انا مش اخوكي…..انطقي مين هيجبلك حقك غيري……خليتي الغريب يتصدرلك وانا زي الاطرش
في الزفة وسطكم……..”
رفعت شهد عيناها على اخيها بتهكم من المبالغة
في لوم نفسه عن حادث وقع لها في غيابة….
“يعني انت كنت موجود ووقفت تتفرج…. ماانت مكنتش موجود ياحمزة……”
هدر بصدر متضخم بالغضب….
“لو كنت موجود مكنش هرب ابن الحرام ده.. وكنت
خلصت عليه بايدي……..”
شاهقة انثويه عالية من خلفه صدرت من قمر التي
وضعت يدها على فمها بعدم تصديق……فبرمت شهد شفتيها موجه الحديث لها…….
“امال انتي مفكره لما تحكيله هيعمل إيه….. هياخده
يصلي بيه في الجامع……..”
توترت قمر وهي تقف قائلة بتلعثم…..
“انا….. انا صدقيني ياشهد انا مش قصدي اوقع بينكم…… الكلام جاب بعضوا و…”
اوقف حمزة قمر وهو ينظر الى
اخته بحدة…..
“ملكيش دعوة بيها…. كلميني انا…. مين ده…..”
قفزت من مكانها منهية الجدال بالقسم….
“معرفش…. معرفش ياحمزة… والله ما أعرف……”
نظر لها حمزة لبرهة ثم اوما براسه بملامح تنذر
بالشر……..
“ماشي ياشهد انا هعرفه وساعتها يبقا يقول على نفسه يا رحمن يارحيم…….”
ابتعد عنهن خارجاً من الشقة….فلحقت به قمر
محاولة ايقافه…….
“حمزة….. حمزة……..” لم يلتفت لها وهبط على السلالم دون انتظار المصعد………
عادت مثقله بالهموم وهي تغلق الباب خلفها….. واستدارت الى شهد التي مزالت تقف مكانها
تنظر لشيءٍ وهمي والدموع تتجمع في مقلتيها…
فاقتربت قمر منها بتردد قائلة بحرج شديد…..
“شهد والله انا مقصدتش كل ده…. انا حكيت بحسن نيه معرفش انه دمه حامي اوي كده صدقيني حمزة
الوحيد اللي متمناش ليه الأذى……..”
نظرت لها شهد قليلاً ثم قالت بصوتٍ غريب…..
“قمر نصيحه مني….حمزة بذات مش كل حاجة ينفع
تتقال قدامه….لان زي مانتي شايفه واخد الدنيا بدراعه….وأيده سابقه عقله……..مش بيفكر….”
ثم اتجهت شهد الى غرفتها مغمغمة
بتعب…..
“ربنا يستر من اللي جاي……..انا بجد تعبت……”
ظلت قمر واقفه مكانها بملامح حزينة وعينين غائمة
بالحزن والوجع……..
اضناها الحب…
لم يكن ينقصها وجع….. فاتى الحب لـينهي المتبقي
من روحها………
بان تقع في حب رجلاً شقي ولا يراها أبداً وله
سقطةٍ في الهوى غير موفقة الخُطى ، فهو أمراً
يشعرها بتعاسة حظٍ لا تتمناه لألد اعدائها…….
……………………………………………………………..
يبدو ان الليلة المضنية وتبعاتها لن تنتهي أبداً…
فها هي تدور حول نفسها في الصالة الفارغة
المظلمة……بعد ان نامت شهد وتركتها لضميرها……
عقلها بدأ يخرف مؤلف كل النهايات البشعة عنه….
كل دقيقتين تقف في الشرفة تنظر من الأسفل
لعلها ترى سيارته اتيه……
لكن لا ترى شيءٍ إلا الظلام الدامس……..سينفجر
عقلها وقلبها معاً……رفعت رأسها للأعلى وكانها
تحدثه سراً بلغة المحب……..
الرحمة….
(كن رحيم بي ياحمزة……كن رحيم بقلبي وعود
سالماً……..فانا لن اسامح نفسي ان أصابك
مكروة……..)
وضعت يدها على صدرها وانسابت الدموع على خدها بقهر……مزالت تسأل قلبها بحيرة من أمره……
(لماذا وقعت في حب رجلاً شقي…..شقاءك هو
راحته…. ودموعك هي سعادته……ولوعتك هي بهجته…..واشتياقك هو مجافاته…….لماذا ؟!..)
مسحت دموعها ومزالت تنتظر بالشرفة ظهوره..
حتى اتى أخيراً واثلج قلبها برؤية سيارته…..
ابتسمت بسعادة وهي تمسح دموعها بظهر يداها….
ثم تركت الشرفة ودخلت بانتظاره كي تطمئن عليه
ويرتاح قلبها…….
بعد دقائق قليلة فتح حمزة الباب بالمفتاح ودلف
الى الشقة الشبه مظلمة الا مصباح الصالة والتي كانت تنتظر عندها قمر مرتديه عباءة بيتي وتطلق
شعرها المموج حراً على ظهرها……..
رفع حمزة عسليتاه الضارية بالبريق الاجرامي
الأخذ نحوها وتبدال النظرات قليلاً….حتى سالها
هو بجفاء…….
“اي اللي مصحيكي لحد دلوقتي…….”
كانت صفعة شديدة القوَ تلقاها قلبها بشجاعة
فهذا المتوقع منه………فسالته…..
“انت كنت فين كل ده…….”
اقترب منها ورد بغلاظة وهو يلقي سلسلة
المفاتيح على الطاولة جوارها……
“وانتي مالك…..بتاع اي تسأليني……..”
قالت بلوعة……. “انا خوفت عليك…….”
تافف حمزة بملل……
“وبتاع اي تخافي عليا…..شيفاني عيل صغير…”
تجمعت الدموع في مقلتيها فقالت
بصوتٍ مبحوح…….
“عندك حق….انا آسفه……انا هروح أنام…. ”
عندما ابتعدت قمر مطرقة الرأس بخزي شعر حمزة
بالحنق من نفسه…لكن عاد هذا الشعور يتبخر سريعاً عندما اختلى بنفسه في غرفته……فكان هناك أشياء أهم تستحق حنقه ومقته…
…………………………………………………………….
14= ج3=
تقف منذ اذان الفجر تحضر الطعام في مطبخها المتواضع….. هذا المطبخ وكل ركن منه يعبر عنها هي……
هنا وضعت علب البهارات المحمصة….. هنا وضعت موقد الغاز….. وعلى الرخامة في هذا الركن المنعزل وضعت المايكرويف….. عَلاَقَة الاطباق هنا في متناول يديها… وعلى يمينها دولاب المطبخ يحتوي على اغراضها
كنزها الثمين….. اواني الطهي الرائعة ، ومقلاتها المفضلة……
هذا عالمها….
في هذا المكان تجد نفسها بين اعداد الأطعمة تجد
الجزء المفقود داخلها…..
هذا المطبخ البسيط والمؤسس بحرافية من تحت يدها رأى جوانب كثيرة في شخصيتها ومزال يرى…. هنا بكت… وهنا انهارت… هنا صبت غضبها لاعنه الجميع…. وهنا ضعفت وانهزمت……هنا عاشت الخزي…. والملامة…
والان وهنا تحديداً تروى جانباً نادراً داخلها
الحب…
عندما تحب…..ها هي تخبر عالمها انها قُدر عليها الهوى فقبلت بقدرها على مضض !….
من الفجر وهي تقف في المطبخ تتحرك هنا وهناك
تحضر له عدة اصناف صحية حتى تاخذها معها
إليه…..
لم تذق النوم منذ لليلة أمس……ظلت مستيقظه في غرفتها حتى أذان الفجر وقد اطمئنت على حمزة بعد رجوعه… وعندما نام الجميع أديت فريضة الفجر ثم انعزلت عن العالم في مطبخها الصغير…….
اخرجت تنهيدة طويلة بعد ان اغلقت الإناء…ها قد انهت اخر صنف في الطعام…….
“صباح الخير……”
كان تنحنح انثوي متردد مع تحية الصباح….
استدارت لها شهد بإبتسامة صافية تدعوها
للدخول……
“صباح النور…….مالك وقفه كده ليه تعالي…..”
تقدمت قمر منها بحياء…..
“انا قولت انك لسه زعلانه مني……”
نظرت لها شهد قليلاً ثم اخبرتها بجدية…..
“عذرك عندي انك لسه متعرفيش حمزة كويس..فانا
قولتلك اللي عندي بليل….وحتى لو كلامي طلع عليكي بعصبية فده كان غصب عني…اعصابي كانت
تعبانه امبارح……..”
بللت قمر شفتيها بحرج قائلة…..
“انتي كان عندك حق وقتها…..مكنش ينفع اعرفه بطريقة دي……الاحسن تيجي منك….بس والله انا مش قصدي خالص اوقع بينكم…….”
اوقفتها شهد منهية هذا الجدال بهدوء…..
“خلاص ياقمر الموضوع انتهى مش هنتجادل فيه كتير……وانا والله مش شيله منك….حصل خير….
وياريت متزعليش….امبارح مكنتش في احسن
حال……عشان كده اضايقت منك شوية…..”
هزت قمر رأسها…. “ولا يهمك انا اسـ…..”
اوقفتها شهد وهي تفتح غطاء
القِدر…..
“كفاية اعتذرات….وقوليلي اي رأيك…”
تفحصت قمر القدر بعيناها ثم قالت مبتسمة….
“انا داخله على الريحه أصلا بجد تسلم إيدك…بس الأكل ده تبع مين…”
“الأكل ده لعاصم……”قالتها شهد بعفوية فنظرة
لها قمر بتعجب وحاجب مرفوع…….فأحمر وجه
شهد قائلة بتردد…….
” زيارة مريض يعني…مش معقول هدخل بايدي فاضية…..”
لمعة عينا قمر بشقاوة متشدقة……
“آه…..طب كويس…..ابقي طمنينا بقا….ربنا يقومه
بسلامة….. ”
هزت شهد راسها وهي تبتعد عنها وتفتح المبرد وتخرج منه قنينة ماء….وهي تخبرها….
“يارب….صحيح….انا كلمت أحلام ومعندهاش مشكلة خالص تبدأي تنزلي الشغل معاها من بكرة لو حبيتي…خصوصا ان البنت اللي كانت وقفه معاها سابت المكتبة عشان هتتجوز……”
اتسعت عينا قمر بسعادة……
“بجد يا شهد….هي وفقت……”
اكدت شهد وهي تسكب القليل من الماء في
الكوب زجاجي……
“وفقت….بذات لما عرفت انك كنتي شغالة في مكتبه قبل كده……”
اتسعت إبتسامة قمر وكانها حصلت على الجائزة الذهبية…….
“الحمدلله….دا انا كنت هطق من القعده لوحدي….
انا مش عارفه اقولك إيه…. ”
التقطت شهد هذا الامتنان في صوتها فقالت
بمودة………
“متقوليش حاجة…..دي أقل حاجة اقدمهالك طالما
رافضه تاخدي مني فلوس……”
قالت قمر بنفي موضحة…….
“ياشهد الموضوع مش بس فلوس لا والله…الفكرة
بس اني مش واخده على القعده دي…خصوصا ان
كلكم ماشاءالله في شغلكم….وانا بقعد وشي في وش الحيطان….دا حتى خالي مردش عليا في حوار الورث
لحد دلوقتي….ومن آخر مشكلة حصلت بينكم وهو
بطل يجي…..ومعرفش حتى رقمه وعنوان بيته التاني…”
انزلت شهد الكوب عن فمها وهي تقول
بعتاب…..
“انتي مستعجلة على الورث ليه…..خلاص
زهقتي مننا……”
لمعة عينا قمر بالمحبة قائلة بتأثر……
“مش القصد والله…….انا حبيتكم اوي وحبيت القعده معاكم….خصوصاً اني كنت قبلكم وحيدة بس انا طولت اوي هنا…….”
وبختها شهد وهي تقترب منها…..
“اي الكلام الاهبل ده…. ان شاء الله تقعدي العمر كله
انتي قاعده فوق روسنا…..يابنتي دا بيت خالك يعني
بيتك….ليكي فيه زي مالينا تمام……..”
مسحت قمر دمعة فارة من عينيها….ثم نظرة لشهد
التي ربتت على كتفها بود متابعة……
“سيبي الأمور تمشي ببساطه….واصبري لحد ما تشوفي حوار ورثك هيرسا على إيه……حفظي
بس على الأوراق اللي معاكي…وياريت تكوني
ضمنه المحامي اللي ماسكها…….”
هتفت قمر بعفوية…..
“متقلقيش دا صاحب بابا من زمان….وهو بيراعي
ضميره اوي في شُغله…وواعدني انه هيساعدني…لو
خالي مرضاش يديني حقي…….”
عضت على شفتها في اخر جملة…وقالت
بحنق من نفسها…..
“انا بلبخ في الكلام….انا مش قصدي حاجة…..”
اوقفتها شهد قائلة بجدية تدعمها……
“ولا قصدك……انا اللي بنصحك وبقولك متسبيش
حقك….وحفظي على الأوراق اللي معاكي…..”
رمقتها قمر بتعجب…فمن تحثها على الوقوف امامه
ان راوغ معها هو في الاصل والدها !…..
“انا هروح اغير هدومي…….عشان هنزل علطول….”
قالتها شهد وهي توليها ظهرها….فقالت قمر من
خلفها بلؤم……
“مش بدري كده ياشهد…..”
استدارت لها شهد رامشه بأهدابها عدة مرات
وكانها تجمع افكارها……
“لا يعني……يدوبك…….اكيد صحي من النوم……”
هتفت قمر بمرواغه…….
“مكالمة تلفون برضو ممكن تعرفك اذا كان صحي
من النوم ولا لا……..”
نظرت شهد للأرض وقالت بعفوية….
“فكرت فيها…..بس خوفت التلفون ميكونش معاه…وحد تاني اللي يرد…….”
ضحكت قمر قائلة بتنهيدة
حارة…..
“يا سلام على الحب……عقبالي…. ”
عنفتها شهد بصرامة……
“حب إيه…قولتلك دي زيارة مريض…وواجب عليا…
كفاية اللي حصله من تحت راسي……”
هزت قمر رأسها عدة مرات وهي تتخصر قائلة
بلؤم…….
“ايوا ايوا طبعاً……..انا لو مكانك مسبهوش ابداً….
خصوصا انه حلو كده زي تبوع السيما ومطمع للكل…..خصوصا بقا الممرضات والدكاترة الحلوين اللي بيمروا في نبطشية بليل يطمنوا عليه…….”
رمشت شهد بأهدابها واستأنفت
بصدمة……”يطمنوا عليه ؟!….”
اكدت قمر بجدية شديد ترسخ أفكارها
الشيطانية في عقلها…….
“ايوا طبعا مش ده شغلهم… واوقات برضو لما بيلاقوا المريض لوحده…. بيفضلوا جمبه يونسوا وحدته…”
تمتمت شهد خلفها بعدم تصديق وقد اشتعل
صدرها فجأه…… “يونسوا وحدته ؟!……”
أكدت قمر بنظرة ثعبانية…..
“اه مش لسه بقولك حلو ومطمع للكل……”
لم تعقب شهد بل اتجهت الى غرفتها سريعاً…..
عندما غادرت شهد من أمامها ضحكت قمر
بخبث وهي على يقين ان القليل من الملح
يساعد في نضج الطعام……وأحياناً الحب ؟!….
……………………………………………………………..
بعد لحظات كانت تقف قمر في المطبخ تعد الفطور للجميع بعد مغادرة شهد……
فشعرت بمن يدخل الى المطبخ متنحنح بخشونة
قبل ان يفتح المبرد وياخد زجاجة ماء يشرب من فوهة مباشرةٍ…….
نظرت اليه جانباً بطرف عينيها وهي تعد البيض
فوجدته يقف حافِ القدم يرتدي بنطال بيتي فوقه فنالة بحمالات سوداء عليه سترة قماش مفتوحة باهمال……شعره مشعث….فوضوي بجنون…..
جعلها تبتسم عنوة عنها……فالاول مرة تراه مباشرة
عند الاستيقاظ……رغم حنقها الشديد منه مزال هناك جزاءا يتمرد عليها ويذهب إليه دون إشارة مسبقة…..
سارت عيناها عليه مجدداً في الخفاء….فكان يضج بالعنفوان والقوة….بشرته السمراء المتشربة من اشاعة الشمس مع لحيته المشذبة السوداء وهذا الشعر الأسود الناعم الفوضوي مزيج رائع يجذبها….
فهو يحمل كل سيمات الوسامة المطلقة…..
ام عيناه…..تلك قصة أخرى تحتاج لقصائد من الغزل…….لم تكن من مغرمات بالعيون الملونه
خصوصا على الرجال فهي تراها تليق بالنساء
فقط..
لكن عندما وقعت عيناها على عسليتاه القاتمة…تلك
التي تحمل اشتعال رغم هدوء صاحبها…..تحمل الخطر رغم سلام صاحبها…….تحمل بريق الاجرام
رغم براءة صاحبها…….
عيناه كانت ولا زالت لغز يُحيرها….فالعيون كالستار
تكشف دواخلنا إلا عيناه كانت هي ألغز بعينه…..
ورغم ذلك سأنطقها وانا بكامل قواي العقلية…
(انت أوسم واخطر رجلا رأته عيناي ….)
همس بها قلبها سراً…….
ثم عادت للمقلاة بعيون هائمة فوجدت البيض احترق…..
اللعنة !!….
جزت على اسنانها وهي تتعجل في رفع المقلاة عن النار فقد تفحم البيض حرفياً دون ان تدري…..
فأثناء ذلك لسعة يدها بالخطأ….فالقت المقلاة جانباً
بقوة فانكسرت يد المقلاة سريعاً……..
فاتسعت عينا قمر بعدم تصديق….ماهذه
الكوارث المفجعة
…
هتف حمزة من خلفها ببرود والذي كان يتابع مايحدث وهو يقضم قطعة من الخيارة
التي في يده…….
“خليكي عارفه ان الطاسة اللي كسرتي ايدها دي
هتخليكي انتي وشهد تتقبلوا في المسامح كريم…”
سبته بكلمةٍ بذيئة لأول مرة تعرف طريق
لسانها….فاضاف هو بسماجة….
“دي من ضمن طقم الطاسات اللي بتحب تطبخ فيه……”
لم ترد عليه قمر بل فتحت الصنبور الماء البارد على اصبعها المصاب وهي تتافف متأوه بغيظ…..
فكل هذا بسبب الجلف عديم الإحساس…
الشيء الوحيد الذي انتبه له المقلاة المفضلة لاخته
وماذا عن يدها التي اصابة بسبب المقلاة….
حقير…….
اقترب حمزة منها عندما وجدها تتألم وهي تفرك بيدها بحنق……فسالها…..
“انتي اتلسعتي…..”
تقوس فمها هاكمة…….
“هكون رمتها كده ليه عشان اتلسعت وانا مسكاها…”
نظر حمزة ليدها تحت الماء ثم قال
برفق…..
“حصل خير…….هجبلك كريم للحروق……..”
ذهب امام عيناها الحانقة ثم عاد بعد لحظات….
واشار لها بيده كي تتقدم ففعلت بغيظ….ووقفت
امامه فقال وهو يفتح غطاء الدهان….
“هاتي إيدك…….”
مدت له كفها بحرج…..فنظر اليه بهدوء فكانت يدها بيضاء باصابع نحيلة طويلة ملتفه بجمالاً واظافر طويلة بيضاء………..
“اتلسعتي فين…….”
سالها حمزة بهدوء…..فاشارة على بقعة حمراء بداخل
كفها……
فاخذ القليل من الدهان ووضعه عليها ومرر اصابعه
فوقها بحنان……….
فبلعت قمر ريقها وقلبها جن بين ضلوعها….فاسبلت اهدابها بحياء وهناك رجفة دافئة تخترق جسدها
بعد تلك المسة البسيطه منه…….
رماها بتعليق لاذع وهو يتركها متجهاً الى
الصنبور لغسل يداه……
“طالما ملكيش في المطبخ…..داخله ليه…..”
زمت شفتيها منزعجة من هذه الغلاظة……
“مين قال اني مليش في المطبخ….انا بعرف اطبخ كويس اوي على فكرة…….”
التوى ثغرة في ابتسامة ساخطه……
“اه….ماهو واضح……..بامارة البيض المحروق..”
“رخم…..”غمغمت بها بانفاس متهدجة……
فقال حمزة وهو ينظر اليها…..
“سيبك من البيض المحروق واعمليلي قهوة…عشان
نازل…….”
قالت قمر بلهجة دافئه المعاني…..
“قهوة على الريق….مش هتفطر…….يعني بعيداً عن البيض اللي اتحرق… انا عملت فطار كويس على فكرة……لينا كلنا……..”
امتنع حمزة بتساؤل……
“مليش نفس..هي شهد راحت المطعم مش كده..”
اجابة بهدوء….. “اه راحت…….”
ضاقت عيناه سائلاً……. “وكيان…….”
اجابة بفتور…. “لا لسه هنا…..نايمه… ”
ثم استردت حديثها برجاء…..
“انا هحضر القهوة……بس اشربها بعد الفطار…..وانا هروح اصحي كيان تفطر معانا…….”
عندما اخذت خطوتين اوقفها حمزة منادياً… “قمر……..”
خفقة مؤلمه اصابة هذا القلب البأس….فوقفت
تنتظر باقي الحديث الذي اتى بنبرة اعتذار
تتناقض مع شخصه……
“إمبارح انا كنت ناشف اوي في الرد عليكي…
بس انا..”
بترت الجملة فهي مزالت تخفي أوجاع الليلة الماضية وجفاؤه حينها ، والذي كان أشبه بلدغة سامة تلقتها….
“حصل خير انا نسيت كل حاجة….هروح اصحي كيان…. ”
بعد فترة ليست بقليلة خرجت من غرفة كيان
قائلة بملل……
“بتقول مش عايزه تفطر……”
ثم تخذت مقعداً امام السفرة الموضوع عليها الفطور التي اعدته لهم…….نظر حمزة لساعة الحائط بأستغراب…..
“المفروض تكون راحت المكتب من بدري…..”
ردت قمر بهدوء……
“جايز معندهاش شغل النهاردة……”
“يبقا احسن وفرت عليا المشوار….يدوبك الحق أروح
الموقف احجز دوري…….”
لم تعقب قمر مزالت ترى انه يستحق عمل أفضل من هذا…..
بدأت تراقبه من أسفل اهدابها الكثيفة….. فرفعت
حاجبها عندما انتبهت انه يستعمل يده اليسرى
في الطعام بدلا من اليمنى……
انه أعسر…..
عقبت سريعاً بابتسامة شغوفة….
“انت اشول ليه بتاكل بايدك الشمال……”
وضع اللقمة في فمه قائلاً
ببرود… “تعود…..”
قالت وهي تغمس اللقمة في
الجبن….
“بس بيقولوا حرام……..”
اجابها بهدوء….
“مش حرام هي غير مستحبه…….”
مطت شفتيها بعدم رضا…..
“ربنا يجعلنا من اهل اليمين……”
ابتسم حمزة وهو يشاكسها بعيناه الجميلة…..
“تعرفي الناس اللي بتشتغل بايدها الشمال اكتر
من اليمين….ناس دماغها عالية…….”
تغضنت زاوية شفتيها ببلادة….. “ياسلام……”
اكد وهو يمضغ الطعام مشير على نفسه
بزهوٍ….
“انا اهوه مثال حي قدامك……”
هزت راسها ضاحكة فجأه برنة انثوية
فاتنه….
“انا هموت واعرف انت جايب الثقه دي كلها منين…”
ابتسم لأجل ضحكتها وغمز
بشقاوة…..
“بس عجباكي متكدبيش…….”
انتفض قلبها وهي تلوي شفتيها بانكار….
“مفيش حاجه فيك عجباني…..متحلمش……”
ضحك ضحكة باردة المعاني وهو ينظر للطعام قائلاً…. “متقلقيش انا بطلت أحلم من زمان…….”
تلاشت ضحكاتها بتدريج وهي تنظر الى صمته والخطوط المؤلمة التي برزة في زاوية عيناه
وكانه يحارب نفسه الآن………
فعقبت هي دون ان تمنع نفسها عن هذا السؤال المؤكد……
“بطلت تحلم عشانها صح؟!…….”
رفع حمزة عيناه جافلاً….. “مين دي؟……”
اتى صوت كيان من خلفهما وهي تمط ذراعيها
للأعلى بكسل……
“صباح الخير…….”
أسبلت قمر جفنيها وهي تلعن غباءها وهذا السؤال المتهور………
فمال حمزة بوجهه نحو اخته
قائلاً….
“صباح النور……تعالي افطري…..”
اقتربت منهم كيان واخذت مقعد جوار
اخيها….
“مليش نفس……هي فين شهد…….”
رد حمزة عندما وجد قمر صامته……
“نزلت المطعم……انا صحيت ملقتهاش….”
ارجعت كيان خصلة من شعرها وهي تساله
بتذكر…….
“انتوا كنتوا بتزعقوا ليه إمبارح…….”
ضاقت عينا حمزة ساخراً…..
“يعني كنتي سمعانه وكملتي نوم عادي…..”
ابتسمت بحرج……
“كسلت أقوم….هو في حاجة حصلت في الفرح…”
اخذ حمزة اخر رشفة من قهوته
قائلاً…..
“في حاجات……. قمر تحكيلك….”
عندما نهض من مكانه….
اوقفته كيان……
“انت نازل الشغل ولا إيه…….”
استدار حمزة لها قائلاً……
“آه…. لو نازله المكتب هستناكي…. هاخدك على طريقي…….”
هزت كيان راسها مصرحة بقرارها الأخير والتي وصلت اليه بعد سهرة طويلة مضنية بالوجع….
“لا لا انا مش رايحه المكتب ده تاني……”
انعقد حاجبي حمزة وهو يعود اليها ساندا بكفيه
على ظهر المقعد…..
“ليه بقا اي اللي حصل….هو المحامي اللي شغاله معاه عملك حاجة…”
نفت كيان سريعاً موضحة……
“دماغك متروحش لبعيد….انا بس جالي شغل في مكان تاني مع ناس صحابي من أيام الجامعة……”
سألها بإهتمام……. “شغل إيه…..”
قالت كيان بسلاسة…..
“مكتب محاماة برضو بس اكبر واحسن….لدكتور جامعي كان بيدرس ليا ايام الكلية اسمه خليل الصواح……”
سالها بنظرة جادة…… “وانتي هتروحي…….”
قالت كيان مبتسمة…..
“مانا بعرفك اهوه ياميزو اني ناوية أروح……”
امرها حمزة بخشونة…..
“اديني عنوان المكتب الأول اسأل عن الدكتور ده…”
فلتت منها ضحكة زاهلة وهي تنظر الى
اخيها….
“ياحمزة انت هتعمل زي ما عملت مع سليم الجندي…
طب سليم عشان شاب في التلاتين وكان عندك حق تقلق شويه من شغلي معاه…..بس خليل ده…دا قد
أبونا دا أكيد عنده احفاد……”
أكد حمزة بمروءة وعيناه طارت الى قمر التي
تجلس متحفظة الملامح تتابعهما بصمت……
“ومالوا اطمن برضو….وبعدين انا وفقت على شغلك مع اللي اسمه سليم ده لم عرفت انه خاطب والناس بتشكر في أخلاقه وان بيراعي ربنا في شغله……”
ابتسمت كيان ساخرة……
“وحتى لو مش خاطب هو هيبصلي انا يعني….”
رد حمزة بغيرة…..
“ومين قالك اني عايزة يبصلك….انتي الوحيدة اللي مش هفرط فيكي بساهل……”
وكانه سحبها من دوامة احزانها فضحكت بقوة
قائلة بمرح……..
“ياسلام ياميزو……وفرض اتجوزت بقا….”
“مش هتجوز متقلقيش….”قالها حمزة وهو يستقيم
واقفاً…….ثم أخبرها وهو يستدير مغادراً…….
“ابقي ابعتيلي عنوان المكتب في رسالة…. سلام…”
راقبت قمر ابتعاده عن دائرة عيناها بملامح
مكتئبة…..
فلكزتها كيان في كتفها سائلة بفضول……
“قمر…… هو اي اللي حصل في الفرح إمبارح…”
……………………………………………………………..
“حرما ياجدتي…….”
قالها عاصم بعد ان انهت الجدة نصرة صلاة الشروق
فاقتربت نصرة منه بمقعدها المتحرك….وبدأت
تحرك السبحة بين اصابعها بشكلا رتيب قائلة……
“جمعا ان شاء الله ياحبيبي…..”
ثم استردت حديثها باهتمام….
“هتفطر اي بقا…. لازم تفطر عشان تاخد علاجك…
هما شوية وهيجيبوا الأكل……”
انكمشت ملامح عاصم
رافضاً….
“بلاش اكل المستشفيات…..”
سالته نصرة بتعجب……
“مقلق من إيه يابني… دا المستشفى ماشاءالله شكلها نضيف ولي شغلين فيها كمان……”
نظرة نصرة لزوايا الغرفة المقمين بها والتي كانت تشع اناقة ونظافه تريح النفس خصوصاً هذه النافذة الانيقة المطلة على الحديقة بالاسفل والتي منها تدخل شعاع الشمس والنسيم الرطب….
امتنع عاصم قائلاً وهو يمسك
هاتفه…..
“انا أصلا مليش نفس……”
سالته نصرة مستنكرة….. “وعلاجك يابني……”
“السلام عليكم…….”
طرق بسيط على الباب يليه صوت انثوي مقتحم الغرفة هذا الاقتحام الراقي المشع بالاهتمام يشبه
زيارات الملكات للمرضى في العصور القديمة !…….
وهي كانت واحدة منهن…..
رفع عيناه غير مصدق انها اتت كما اخبرته وفي الصباح الباكر ايضاً……
إبتسمت شهد لهما مرحبة وهي تترك الاكياس على الطاولة جانباً وتتجه الى الجدة نصرة تسلم عليها
بحرارة…….
“أهلا ياحاجه نصرة…….وحشاني جداً…..”
قبلتها شهد وعانقتها بحرارة ملموسة جعلت قلب نصرة يلين لها وهي تبادلها السلام بشوق أكبر…
“وانتي أكتر…. عامله اي ياشهد……..فين من آخر
مرة شوفتك فيها….هو اللي بينا شغل بس….
اخص عليكي…”
استقامت شهد وهي تقول بابتسامة صافية….
“معلش انا عارفه اني مأثره في السؤال بس الفترة
دي كانت صعبة شوية…….”
قالت نصرة بمودة…..
“ربنا يريحلك بالك يابنتي……”
قالت شهد بحرج…..
“يارب………. الف سلامة على عاصم……..”
ردت الجدة وهي تنظر الى حفيدة بوله
الأم…….
“الله يسلمك يابنتي…. ربنا يحميه لشبابه…ومشوفش فيه حاجة وحشة……اهيه جت سليمة…..”
“الحمدلله……”
قالتها شهد وهي ترفع عسليتاها عليه فوجدته جالساً
على الفراش مرتدي كنزة سوداء بنصف كم… كان
ينظر لها كذلك لكن بنظرة تربكها جداً…تلك النظرة التي دوماً تشعرها بأنها أجمل نساء العالم………
ويالها من نظرة عندما تكون من رجلا مثله…
“عامل اي النهاردة…… كويس…….”
رد بهدوء وعيناه تأسر الشهد….
“الحمدلله…….. ليه جايه بدري كده……”
بللت شفتيها بحياء وهي تنظر الى نصرة ثم
إليه……
“كنت قريبه من هنا وقولت ابص عليك….”
أومأ براسه بملامح واجمه… فمزال الغضب يموج
بينهما رافض الخنوع……
عندما حل الصمت وظلت النظرات بينهما متبادلة سألت الجدة نصرة برفق…
“اي الاكياس اللي انتي جيباها دي ياشهد…..”
توترت قليلاً وهي تجيب
بحرج…
“دا اكل….. جيباه لعاصم…..”
انعبث هذا الدفء داخله فجأة….فظلت عيناه
معلقه بها بقوة تأبى تركها وكانها الحياة…….
نظرة الجدة لحفيدها بلؤم ثم عادت لشهد
مدعية الاسى……
“لعاصم……بس دا لسه قايل انه مش عايز ياكل….”
لاح الاحباط على وجه شهد وهي تنظر الى عاصم
ثم للاكياس……
“بجد….. دا انا بحضر في الاكل من الفجر…..”
كثر الدفء حتى أصبح شعاع متوهجاً داخله يبعث نشوة ليس لها مثيل…… فقال بصوتٍ عميق….
“طيب مش هتدوقيني……”
اتسعت عينا شهد وفغرت شفتيها….
“ها….”
لانت زاوية عيناه أكثر قائلاً بمرح…..
“جعان يا شـهـد…ولا الأكل دا ناويه تروحي بيه..”
هزت راسها بعفوية وهي تتجه
الى الطاولة……
“لا طبعاً انا عملاه عشانك…….”
ثم بدأت تفرغ العلب وهي تقول
للجدة…..
“تحبي اجبلك حاجة تاكليها ياحاجه…..”
“لا يا حبيبتي…. انا صايمة…….”ثم نظرة الى حفيدها
قائلة بابتسامة لئيمه…….
“عاصم انا برا شوية ورجعه…..”
سالها عاصم مقطبا جبينه….. “راحه فين…..”
قالت بهدوء وهي تتجه الى الباب بمقعدها المتحرك…. “هعمل مكالمة برا……”
اخذت شهد علبةٍ من الطعام واتجهت بها اليه…كانت
ترتدي ثوب أبيض تتناثر عليه ورود من اللون البني
ضيق قليلاً على خصرها النحيل و ينزل باتساع بسيط حتى اخر كاحلها……ترفع شعرها الأسود على شكل. ذيل حصان……والغرة الناعمة تغطي الجبهة الناصعة والملامح تزداد جمالاً رغم الحزن الساكن
بها…
وجدها تتخذ مقعداً جواره وتفتح علبة الطعام
فلم يمنع نفسه من تأملها عن كثب وقلبه يقص
عليها سراً……
قصة شعرك رائعة…..احبها بشدة كما احب كهرمان عيناكِ حين يضوي بحماسية كم اراكِ الآن وانتِ تتقدمِ مني بعلبة من طعام يفترض ان ينفر
الانسان من الاكلات الصحية خصوصاً الخضراوات
المسلوقة لكن هيهات معكِ انتِ الوضع مختلف
اتعرفين ياسيدة الحُسن ان رائحة خضرواتك المسلوقه فتحت شهيتي على الأكل….
هل لكِ مكون سري لا يطلع أحد عليه سواكِ…
ام انكِ تقومِ بقراءة تعويذة اثناء تحضيرة
ما سرك انتِ وطعامك البسيط تحدثا بلبلة غير
طبيعية داخلي……..
ماسرك ياشـهـد كي اتوخى الحذر منكِ…….
“اتفضل……..”
افاق من شروده بها الى يدها الممدودة بعلبة الطعام
ذات الرائحة والشكل الشهي…….
رفع يده في حركة مفاجأه جعلت الجرح يشتد الماً
عليه انتفضت شهد بقلق وهي تقول برفق…..
“بلاش تتحرك….طالما الجرح لسه شادد عليك….”
بللت شفتيها وهي تبتلع ريقها بصعوبة….
“انا هأكلك…….”
اسبلت جفنيها الى العلبة بين يدها…..فابتسم هو منتشياً فقد أستهدف مشاعرها الرقيقة بجسارة……
الأمر اخذ اكثر من دقيقة حتى لملمت شتاتها واستجمع عقلها القوة الكافية مسيطراً على
مؤاشرت قلبها الولهان في حضور سيده….
رفعت المعلقة اليه وهي تقترب اكثر منه… ففتح
فمه والتقط أول معلقة من يدها… من علبة خضروات
مسلوق اشتهاها من رائحتها فمابالك بالطعم….
لها نصيب من اسمها فيما تعد يداها ويتمنى بشدة
ان تأخذ حياتها من اسمها نصيباً لتحيا بسعادة
وتتذوق الشهد دون اية مرارة لاذعة……
“تسلم إيدك…….” قالها عاصم وعيناه لا تبرح عيناها
فقالت بابتسامة تقطر عسل…….
“بجد عجبك…….”
اكد بنظرة حانية…… “أوي……”
قالت بوجنتين حمراوان….. “بالف هنا……”
صمت قليلاً واعطتها معلقة أخرى فكانت ألذ من السابقة……هل يبالغ….ام هناك شيءٍ خطير في هذا
الطعام وصاحبته !……
“اي سرك……”قالها عندما ضاعت كل حواسه معها
ومع طعامها….
لم تتبع أسلوب المراوغه معه بل ردت
بابتسامة حزينة……..
“لو عرفته مش هيكون سر…..”
تافف عاصم بحنق شديد مصرحاً بتعب……
“انا مش فاهمك… مرة تقربي ومرة تبعدي…. مبقتش فاهم……. انتي عايزه إيه…….”
اتى صوتها بلهجة أشد عذابٍ منه…..
“انا كمان مش فاهمه انا عايزة إيه….. كل اللي بفكر فيه دلوقتي اني افضل جمبك لحد ما تقوم بسلامة..”
ضاقت عيناه متهكماً……
“وبعدين…..هتبعدي……انتي شيفاني صغير على اللعب ده……”
لم ترد فالتزمت الصمت بخجل فقال هو معنفاً
إياها…….
“انا لسه مش قادر اسامحك على اللي عملتيه… وانا
في بيتكم……”
رفعت عيناها الحزينة اليه…….
“حتى انا مش قادرة اسامح نفسي… بس كان غصب
عني…….”
تمعن في النطر اليها سائلاً
بحيرة….
“وانا عايز افهم ليه غصب عنك……”
انحنت زاويتين فمها بانكسار حزين…..
“هتفهم ايه…. في حاجات مينفعش تتقال…”
سالها بحيرة….. “زي إيه…….”
رفضت البوح بملامح شجيه…..
“عاصم ارجوك متضغطش عليا….. قولتلك مش
هينفع……”
هتف بوجوم…..
“وطالما هو مش هينفع ليه بتقربي مني من تاني…شفقه مثلاً……..”
رفعت وجهها مشدوهة…..
“شفقة؟!……اي التفكير ده…..”
لوى شفتيه بقسوة….
“السؤال ده اساليه لنفسك مش ليه……”
قالت بعينين راجيها ولهجة متوسلة تستهدف
قلبه……..
“ممكن نأجل اي حاجة مزعلاك مني اليومين دول
بس…بلاش تكسر بخاطري……”
تقوس فمه بسخرية مريرة……
“خاطرك؟!……بلاش تتكلمي عن كسر الخواطر…دانتي
استاذة في ده…….”
انحنى كتفيها بانهزام….فوجدته يسحب العلبة
من يدها بقوة قائلاً بضجر….
“هاتي انا بعرف اكل لوحدي….مستغني عن خدماتك…..”
رفعت شهد حاجبيها وهي تنظر اليه…..
“ماشاءالله…ما انت رفعت ايدك عادي اهوه…امال
ليه من شويه كنت………”
“السلام عليكم……”قاطعها صوت الممرضة التي القت
التحية وهي تدلف بصنية عليها فطور المشفى…..
وعندما انتبهت الممرضة للعلبة التي بين يداه
قالت بعتاب……
“اي ده يامعلم عاصم معقول كلت…دا انا عملالك الأكل بنفسي….دا اكل المستشفى حلو اوي وهيعجبك……”
تدخلت شهد في الحوار باسلوب جاف…..
“بس هو كل الحمدلله……تقدري ترجعي الأكل مكانه
يستفاد بيه حد جعان….. ”
توجسة الممرضة من هذا الهجوم
الغريب….فقالت بتردد….
“اه طبعاً….. ومالوا…….زي ماتحبوا…. ”
ثم اقتربت الممرضة من فراش عاصم تتنحنح
بحرج قائلة…..
“طبعاً يامعلم عاصم انت فاكرني…انا إجلال
اللي مرت عليك في نبطشية بليل….وكلمتك عن السلسلة المكسورة…. السلسلة اللي اشترتها من
محل الصاغه عندك من سنة……”
ضيقت شهد عيناها وهي تنهض من مكانها مراقبه الوضع بشكلاً اوضح من الإمام…..
ليلاً مرت عليه وتحدثا ؟!…..هذا يعني ان قمر كانت
محقة…….
غل الدماء في عروقها….واشتدت اعصابها بشكلاً
مبالغ وهي تراقب بصمت ما يحدث…….
فرد عاصم عليها بابتسامة اظهرت صف اسنانه
الأبيض……..
“اه فكرك يا إجلال…وقولتلك امبارح لو معاكي السلسلة هاتيها وانا اصلحهالك……”
سلسال ايضاً….يبدو ان الحديث كان طويلاً…ربما
تبدالا الهموم معاً……..
اخرجت المدعوة إجلال من جيب معطفها الأبيض
السلسال الذهبي وقالت بهدوء……
“آه جبتها اهيه…..ودتها قبل كده لواحد صايغ قالي ربنا يعوض عليكي ملهاش تصليحه وعرض عليه يشتريها….بس السلسلة دي غاليه عليا أوي….كانت أول حاجة اشتريها من أول مرتب شهري ليا في المستشفى هنا فمش قادرة افرط فيها بصراحه…..”
نظر عاصم بدقة الى السلسال والكسر به
فقال بعد لحظات…….
“سهله هي هتاخد وقت بس هتتصلح ان شاء الله..”
ابتسمت إجلال مبتهجة……..
“بجد……طب الحمدلله….انا قولت برضو محدش هيعملها غير المعلم عاصم….صحيح ادي العيش لخبازة……..”
بادلها عاصم الابتسامه قائلاً…….
“تمام يا إجلال……هاتي رقمك عشان اول ما اصلحها
اتصل بيكي تيجي تاخديها من محل الصاغه….”
لجمت شهد متسمرة مكانها رافعة حاجبٍ واحد
وهي تراقبهما بوجهٍ محتقن ……
لتجد إجلال تقول بحرارة…..
“اه طبعاً ومالوا اكتب عندك ٠١…….”
فسجل عاصم الرقم وعلى محياه ابتسامة
جذابة يخصها بالإناث جميعاً…فنفسها تماما
كانت لتلك المرأه التي كانت تقف معه في
الحفل مساءاً…….
دعت الممرضة له بامتنان قبل ان تغادر…..
“كتر خيرك يامعلم عاصم….والف الف سلامة
عليك….ربنا يكفيك شر الطريق وشر ولاد الحرام ….عن إذنكم…… ”
عندما خرجت واغلقت الباب خلفها عقبت
شهد بذلك الحاجب المرفوع……
“رقمها ؟!…..”
تمعن عاصم بنظر اليها في وقفتها البعيدة مكتفة
الايدي امام صدرها… وها هي اذنيها وانفها يزداداً احمراراً عند الغضب…….فاستفسر بمناورة…..
“في حاجة…..مالك مناخيرك وودنك محمرين كدا ليه………”
جزت على اسنانها بغضب هائل وهي تشعر انها ستنفجر……..فاستدارت هاربه……..
“لا أبداً شويه ورجعه……..”
ناداها عاصم وهي تغلق الباب بعد
خروجها….. “شــهــد……..”
ضحك منتشياً وهو يضرب كفيه بتعجب…..
“مجنونة…….ماحنا بنعرف نغيير اهوه….امال منشفه ريقي ليه….نفسي افهمك…….”
ارجع راسه للخلف ناظراً للسقف بحيرة……
زمت شفتيها منزعجة وهي تسير في الممر على غير
هدى…..مادخلها فاليضحك ويأخذ ارقام النساء
أيضاً….
ما شأنها…..ألم تنهي القصة منذ أيام واتخذت عهد على نفسها بانها لن تقترب منه مجددا…….
ماذا يحدث انها تغرق… تغرق في حب هذا المخلوق
هذا الرجل يلعب على أوتار مشاعرها….يضعف مقاومتها وينسيها عهودها…….
معه تحترق حبٍ ، وشوقٍ ، وغيرةٍ ، تضارب في المشاعر ليس لهُ مثيل يغلبها الحب وينتصر…
فتقع هي في كنفه منهزمة برضا…….
اغمضت عينيها وهي تعود ادراجها إليه…فحتى البعد عنه يصيبها بالجنون….ماذا ان دخلت أمرأه أخرى اليه
هل سيوزع رقم هاتفه على المشفى بأكملها ؟!…..
فتحت الباب دون استئذان على غير عادتها ربما
ارادت ان تمسكه متلبساً……
فوجدت الطبيب في غرفته يملي عليه بعد
التعليمات الطبية…..
وعندما فتحت الباب بهذا الشكل الغير آدمي بالمرة نظر اليها الطبيب بتعجب سائلاً بتلقائية…..
“افندم مين حضرتك……..”
نظرة شهد الى عاصم منتظرة تدخله في الرد….لكنها تفاجئت به يرفع راسه للأعلى متكبر عن التعريف عنها… منتظر ان تبادر هي بصفتها ……
عندما اتى الجواب في عقلها ابتسمت بوداعه
وكهرمانها كان يضوي بجنون…..
“انا أخته……”
فغر عاصم شفتيه واتسعت عيناه عندما وجدها
تغلق الباب وتقترب منهم قائلة ببراءة……
“طمني عليه يادكتور اخويا عامل ايه دلوقتي…”
“اخوكي…..” تشدق عاصم بها بوجه ممتقع….
ثم نظر الى الطبيب قائلاً بابتسامة باردة….
“معلش يادكتور…. اصل مراتي دمها خفيف….”
جفلت شهد والصفة الذي اطلقها بينهما جعلت
قلبها يخلتج بين اضلعها…..بينما هناك شيء
دافئ احتواها فجأه…..ففغرت شفتيها وأخذت
وضعية الصدمة بدلاً منه…….
وزع الطبيب نظراته عليهما بريبة….
لكن على اي حال ابتسم مرحباً بشهد دون
سلام….
“مراتك….تمام……. تشرفنا يامدام……”
امتزج حنقها مع خجلها
معترضة بشدة….
“انسه…….آنسه لو سمحت…….”
نظر الطبيب بتلقائية لعاصم….الذي حك في لحيته
بحرج مصرحاً……”كاتبين كتابنا…….”
اوما الطبيب بتفهم وهو ينوي المغادرة
قائلاً……..
“اه تشرفنا…..زي ماقولتك ياعاصم….. والف
سلامة عليك……”
عندما غادر الطبيب تشدقت شهد بحرج صارخ
والانزعاج مرسوم على محياها……
“مراتك ؟!……”
اوقفها عاصم باصبعه محذراً……
“ولا كلمة انتي اللي بدأتي استحملي بقا…..”
اقتربت منه بخطوات متشجنة….
“انت….. انت…….انت.. ”
اوقفها عاصم بابتسامة
رائعة……
“كان شكلك حلو وانتي غيرانه…..”
زمت شفتيها وهي تهز راسها
باستنكار…..
“مين قالك اني كنت غيرانه منها……”
رد بزهوٍ….. “مش منها…. عليا…..”
كانت بالقرب من الفراش وهي تهز راسها
بنفي……..
“يسلام على الثقة…… غلط…..”
أكد بحرارة…… “صح…..”
هزت راسها بعناد….. “غلط……”
“قولي انه صح……” سحبها فجأه من ذراعها
فمالت عليه وأصبحت وجوههما متقاربه من بعضها
وانفاسهما الدافئة تمتزج مع نسيم الهواء…….
رمشت بعيناها عدت مرات بتوتر بينما هو
يطوف في فضاء عيناها هامساً بصوتٍ أجش
عميق أذأب فؤادها…..
“شــهــد……انا معرفش اي هو السر اللي بيبعدك عني…بس دلوقتي عرفت السر اللي خلاكي ترجعي تقربي من تاني…”
عند هذا الحد من القرب والهمسات اغمضت عيناها بضعف بمشاعر متناغمة على أوتار كلماته وكانه يعزف مقطوعة شاعرية على اذانها……..
عندما اغمضت عيناها ذاب هو أيضاً في جمالها
فالصمت في حرم الجمال حمالاً فعلاً وهي في
صمتها وضعفها أمام الحب أجمل نساء العالم
في عيناه…….
مسك يدها بين يداه ورفعها الى فمه…وطبع قبلة
حانية طويلة ينبعث الدفء والحب من خلالها…
فتحت عيناها وهمست بخجل…..
“عـاصـم…….”
عاد يقبل يدها مجدداً برقة أذأبت مفاصل
يدها….هامساً وعيناه تأسرها بشوق العالم…..
“وحشتيني يا شـهـد……”
دخولاً مفاجئاً جفل كلاهما فرفعت شهد عيناها بصدمة لتجد إلهام ورُفيدة يحتلا الغرفة بابتسامات
متفاخرة……
لكن لم تدوم الابتسامات على محياهن فقد سقطت
سريعاً عندما وجداهما بهذا الوضع…..
بالقرب من بعضهما بشكلاً عاطفياً وعاصم يمسك يدها ويقبلها……..
اتسعت عينا رفيدة واندلع الحقد والغضب بداخلها…
عاماً مرا على زواجهما لم يفعلها يوماً…..لم يقبل
يدها لم ينظر اليها بهذا الحب…..
ماذا فعلت هذه الطباحة لتنال ما لم تناله هي من
قلب عاصم الصاوي !…..
يتبع…
15=ج1=رواية الحب أولا الحلقة الخامسة عشر
كان الجو مشحون بالغرفة وبد تبادل النظرات بين الشقيقتين نحوها اكثر صفاقة وشرٍ……
لكنها كانت هادئة لطالما كانت تجيد اخفاء ما يعتمل
في صدرها من مشاعر ناقمة تخص تلك المرأه الشقراء وربما شقيقتها كذلك فأصبح هناك شعور جديد يموج في حلقها كمرارة العلقم
الغيرة…..
هي شخصٍ رصين حتى في غيرته… لا تحبذ الانهيار
بهذه السهولة…..دوماً كان الانهيار ياتي عندما يفيض
الكيل بها…….
لكن كتمان الغيرة اشبه بجذوة ملتهبة بين قبضة
اليد مجبر على تحمل الوجع الناتج عنها كما
مجبر على الاحتفاظ بها هكذآ حتى تخمد !….
اقتربت رُفيدة من فراش عاصم امام عينا شهد
الهادئة والتي تنحت جانباً تراقب وقد تلى دخول الشقيقتين دخول الجدة نصرة التي رحبت بهما
بفتور ثم ظلت جوار شهد في مقعدها………
همست رُفيدة بصوتٍ مصبوغ بالحزن….
“الف سلامة عليك ياحبيبي….. خضتني عليك…..”
حبيبي؟!
لفظتها داخلها والجذوة تزداد توهجٍ والماً…. لكن الوجه الرصين والعينين الهادئة ظلا كما هما…
بانتظار الخطوة القادمة……
مالت رُفيدة عليه تحاول تقبيل وجنته وهي تمسح
دموعها لكن نظرة من عيناه المظلمة منعت الأمر
وكذلك إبعاد راسه عنها كان إشارة أنذار بان تلتزم حدودها….
فانتصبت واقفه اكثر وهي تنظر الى الجميع ثم لاختها تطلبها المشورة……فالهام ابتسمت بشفتيها
المصبوغة وقالت بلؤم……
“اعذرها ياعاصم من خوفها عليك…..اللي كان بينكم مكنش قليل ولا يتنسي بسهولة…….كفاية ابنكم
اللي متكتبلوش يشوف النور….انا واثقه انه لو كان
موجود مكنش قبل خالص يشوف امه وابوه بُعاد
عن بعض كده…….دا حـ……”
بترت نصرة الحديث بحزم……
“الهام……..ده مش وقته ولا مكانه……”
انطفأت ملامح شهد سريعاً وانقبض قلبها وهي
تنظر الى عاصم الذي بادلها النظرة بصمتٍ مبهم
يبدو انني لا أملك سواء سرٍ واحد وهو عقدة
الطفولة التي أدت لوكِف عمرٍ بأكمله…….
ام انت ففي خاطرك الكثير من الأسرار التي كلما خرج واحداً منها اطيح معها في العراء البارد لأشعر كم ان غريبة بان أقع في حب صائغ لا أعرف
الكثير عنه ، المعلومة المؤكدة هنا
انه محنكاً في صناعة الحلي….وماهر في تقيم
كل قطعةٍ على حِدا…… كم هو بارع في تعامل
مع النساء واقناعهن بذوقه ؟!….
كما اقنعها بالحب في عز بؤسها !…….
التوت شفتيها ساخرة عندما خرجت تلك الجملة
من ظلام افكارها…….
اقنعها بالحب نعم ، لكنها لم تسلم للحب بعد….
هذا يعني انها مزالت على الحافة ؟!…..
اما عاصم نظرتها المندهشة والتي تحمل نوع من الالم والعتاب جعلت لها صدى مؤلم في صدره…….
جعلته يشعر بندم !….
الندم انها لم تكن الأولى في حياته…..
تابعت الهام بنظرة حزينة……
“عندك حق ياماما…..انا بس بحسن صورة اختي اللي
بتعاني من ساعة طلاقهم….وكانت هتموت النهارده لما سمعت خبر الحادثة…….”
اومات نصرة براسها بتفهم وهي تنظر لرُفيدة
التي تقف بالقرب من عاصم ترمقه بنظرة
كسيرة………
“الحمدلله انها عدت على خير….اطمني يابنتي
هو كويس ارتاحي……”
جلست رُفيدة بالقرب من عاصم عن بعد
خطوتين…تقول بحنو…….
“واي اخبارك دلوقتي…….”
رد عاصم مقتضباً……
“الحمدلله مكنش لي لازمه مجيتك لحد هنا…..”
تدخلت الهام بخبثٍ……
“انت بتقول اي ياعاصم…هو اللي بينكم كان شويه..”
اوقفها عاصم بنظرة حادة متحدثاً بجدية
شديدة الخطورة……
“أم يزن…….ملوش لازمه الكلام ده…..احنا مش صغيرين……ومش هنتكلم في اللي فات…لانه
خلص خلاص…….اللي بيني وبين روفيدة انتهى
لكن اللي بينها وبينك دم….روفيدة هتفضل من العيلة…… زيها زيك تمام عندنا….”
اسبلت شهد عيناها شاعره بالم حارق في صدرها
ستظل من العائلة ، وانت واحد من تلك العائلة !..
ابتسمت نصرة برضا تام عن تصريحة الأخير
لتقول……
“كاني شايفه جدك قدامي….ربنا يرحمة…و يباركلنا فيك ياحبيبي……”
بنظرة حانية قال……
“تعيشي وتفتكري ياحاجة……”
ثم نظر الى سيدة الحُسن…..حتى في صمتها
بُرعم الرقي بها مُشع بجلالة سلبت قلبه وعيناه
هي ملكة العصور القدمية كما يراها…….
“شـهـد…….”
رفعت عسليتاها اليه واختلج قلبها بين ضلوعها
عندما نطقه بطريقتهُ المميزة……..
قال عاصم وعيناه تعانقها……..
“ممكن كوباية مايه………”
اومات براسها ومزالت نظرة العتاب تستوطن حدقتاها الحزينة…….. “ثواني……..”
سكبت له القليل من الماء في الكوب
التي احضرته معها….واعطاته له….
اخذه منها….وقربه من انفه قليلاً قبل ان يشربه
فابتسمت بأستياء…….تخشى ان تكون تلك الوسوسة
في حياته العامة وليس في الطعام والشراب فقط…
قالت يوماً بانها (تكره الموسوسين) فاخبرها بصلف
(انه ستحبهم)……ويبدو فعلاً انها أحبت واحدا منهم !…
اتى صوت الهام من خلفها مصبوغ
بالحقد……..
“صدفة غريبة…….اني اقبلك هنا ياشهد……”
ابتسمت شهد وهي تستدير لها قائلة بظفر….
“مش غريبة ولا حاجة……وجودي هنا شيء مفروغ منه……..”
انعقد حاجبي عاصم ولم يتوقع تلك الاجابة الغريبة
وكذلك تلونت نظرة رُفيدة بالغل ولولا تماسكها
في اخر لحظة لكانت قفزت على شهد وافرغت
احشائها بيديها……..
رفعت الهام حاجبٍ غاضباً…….
“وليه بقا……..”
اقتربت منها شهد خطوتين كانا كفيلين بشحوب
وجه إلهام وفزع قلبها وكانها……وكانها رأت كريمة
في عيناها فكانت عيناها نسخة طبق الأصل من
امها !….
والان انتبهت انها هي ابنة كريمة بالعيون الجميلة
لكن وهج الانتقام بهم كان أشد خطورة…..
فارعبها لوهلة….ثم تماسكت وهي تسمع شهد تقول
بإبتسامة خطيرة……
“كل حاجة في وقتها بتبقى أحلى…..صحيح عثمان الدسوقي……”
بلعت الهام ريقها بخوف….فضحكت شهد في وجهها
دون صوت…..ثم استدارت الى عاصم تبلغه بفتور…
“ناوي يجي يزورك ويطمن عليك……”
رغم انه يشعر ان هناك شيءٍ مريب بينها وبين زوجة عمه الا انه رد بهدوء………
“ملوش لازمة……بلغي ليه سلامي…..المرة الوحيدة
اللي قابلته فيها ملحقتش اتعرف عليه……”
“مصيرك تتعرف عليه….”قالتها شهد وهي تعود
بعيناها الناريتين الى إلهام تخبرها بحبور
وكانها تتعرف عليها…….
“صحيح عرفت ان ابنك هيبقا دكتور….دكتور ليه مستقبل……. افتكرت حمزة اخويا…. كان نفسه
برضو يبقا دكتور او ظابط او لاعب كرة…..كان
لسه صغير وبيدور على نفسه…… ”
شعرت الهام بالاختناق وتعرق جبينها بعد هذا الحديث فهي تعرف جيداً ما جناه عشقها السام
في نفس عثمان….وكان هذا يرضيها بشدة !…..
وجدت شفتي شهد تنحني بيأسٍ…….
“بس لما ملقاش نفسه ضاع حلمه…فبقا من دكتور
لسواق خط المنشية….. على البحر ياسطا……”
ضحكت ضحكة باردة خالية من المشاعر…….
التقط صداها عاصم فظل ينظر اليها طويلاً محاول فك الشفرات والنظرات المتبادلة بينهن……
قالت الهام بتوتر…. “واي دخلي بالكلام ده……”
ازدادت ابتسامة شهد اتساعاً مسترسلة
بتسلية…..
“مجرد دردشة….. اصلي ارتاحتلك…… قلبك أبيض
اوي… باين من عينك…… واضح انك عمرك مأذيتي حد……”
اهتزت حدقتي الهام وازدردت ريقها برعب….
فاستأنفت شهد حديثها برنة خاصة وعيناها
تتشفى بها…..
“وباين اوي انك كنتي وفيه مع كل صحابك…وعمرك
مابصيتي لحاجة غيرك……وواضح انك صفية النيه
عشان تبقا حماتك الحاجة نصرة…… ”
“محظوظه بيها حقيقي ام تانية…..” ببراعة خرجت
من الجحر الضيق التي القتها به……عندما نظرة الى الجدة نصرة التي ردت عليها بود……
“كتر خيرك ياشهد يابنتي……. كلك ذوق….تعرفي
اني حبيتك من أول يوم شوفتك فيه……”
سحبت نفساً عميقاً وهي تعود ادراجها اليهما
تاركه الهام خلفها تلملم شتاتها……
“انا كمان حبيتك أوي…… وحبيت السراية….”
هتفت نصرة بتعجب…..”السراية ؟!…”
بمهارة غيرت مجرى الحديث وبددت الجو
المتوتر قبل لحظات…….
“بيتكم شبه سراية المماليك……وكانه قطعة أثرية…
التحف والانتيكات حتى الديكور كل حاجة حساها أثرية اوي…. وغالية جداً وقيمة شكلا وموضعاً….”
ابتسم عاصم وقد لانت ملامحه قليلاً….لكن علامات الاستفهام مزالت تحوم حولها……..
“كل ركن في سراية المماليك زي ما بتقولي….
اختارته جدتي بنفسها……”
بادلته شهد الإبتسامة… “عارفه…. ذوقها هايل….”
ردت نصرة على المجاملة بالمثل……
“عينك بس هي اللي حلوه…. حبيت سراية المماليك ياعاصم…….” عقبت على اخر جملة بضحكة خافته……
اوما عاصم براسه مبتسماً وعيناه تأسر الشهد من جديد….
اقتربت رفيدة من اختها ومالت عليها بهمساً محتقن……
“مالها الطباخة دي شايفه نفسها كده ليه عليكي…وكانها ماسكه عليكي زله……”
نظرة لاختها بتمعن….”انتي تعرفيها يا الهام….”
لوت الهام ثغرها بتعالٍ……
“هعرفها منين….دي حتة جربوعه….انا هخلص منها
بطرقتي……”
عادت رُفيدة تنظر نحو شهد بشك…..
“متاكده يا الهام….انا حساها مش سهلة خالص..”
قالت الهام بنظرة شيطانية…….
“كل واحد وليه نقطة ضعف…..لازم تعرفيها قبل
ما تحاربيه…….”
مطت رُفيدة شفتيها بكرهٍ…….
“واي هي نقطة ضعف الحية دي….”
لمعة عينا إلهام بالشر هامسة بفحيح
الأفاعي…..
“مستقبلها………مستقبلها يارافي…….”
……………………………………………………………..
كنت اظن نفسي حصِنة من الهوى حتى قابلتك واكتشفت مع الوقت انني من أصحاب الهوى !….
دلفت الى غرفتها بعد يومًاطويل صباحًا في المشفى
معه وامس في المطعم الذي اهملت وجوده منذ ان تخاصما……..
وقعت على الفراش بتعب والساعة تشير لمنتصف الليل…….
نظرت جوارها لتجد قمر تغوص في نوما هنيئاً…
فرفعت عيناها على السقف شاردة في ذكرى الصباح
نظرات الهام النارية وحقد رفيدة الواضح…..وحنان الجدة نصرة الفطري…واجتياح عاصم المهيب….
مزالت تشعر بالغضب لكونها المرأه الثانية في
حياته وانه كان مقدر له انجاب طفلا من أخرى
لولا النصيب…..
بلعت غصة مريرة في حلقها وهي تزفر بتعب شاعره بحجر ثقيل فوق صدرها….فلم تقاوم كثيراً تلك الرغبة الملحه في الإتصال به الآن…
داخلها أسئلة كثيرة يجب ان يجيب عليها…داخلها نيران مستعارة يجب ان تخمد الان…
نهضت من مكانها وارتدت شال أبيض لفته حول كتفها ثم اتجهت الى الشرفة تقف بها وبين يداها
الهاتف تقاوم أوامر عقلها الصارمة….وتجري الإتصال
كما ترغب……
رفعت الهاتف على اذنها ولفح وجهها نسيم البحر
البارد فرفر خصل الغرة الجميلة عن جبهتها وملأت
رئتيها من عبيره المالح…..
فتح الخط بعد لحظات هامساً….
(الو……شـهـد………)
ازدردت ريقها بتردد قائلة…”عامل اي يا عاصم…….”
اتاها صوته متعجباً……
(الحمدلله….اي اللي مصحيكي لحد دلوقتي…..)
زمت شفتيها بعدم رضا وصدرها توهج
فجأه…….
“إيه اتصلت في وقت غير مناسب……”
اكد بنبرة مراوغة…..(بصراحة آه……)
قصف صوتها كالرعد…..
“والله…… ومين معاك….الممرضة صح…….”
كبح الضحكة الماكرة…….(أيوا…….)
انعقد حاجبيها بحنق……
“بتكلموا في ايه بظبط…….”
اجابها باستفزاز…..
(اهوه بندردش…..كنتي متصلة ليه……)
مطت شفتيها وهي تغلي داخلها….
“ولا حاجة كمل سهرتك… سلام……”
اوقفها وهو يضحك ضحكة رجولية
جذابة…..
(يامجنونة استني…..انا قعد لوحدي أصلا……)
عضت على باطن شفتيها
بضجر…..
“لوحدك؟!…..وليه قولت كده…….”
اتى صوته المتسلي……(انتي عارفه ليه….)
قالت شهد بغصة مختنقة……
“على فكرة انا مش غيرانه انا……”
قاطعها بلهجة عميقة…..
(كنت مراهن نفسي انك هترني……)
خفق قلبها وتوهجت وجنتيها وهي تقبض
بيدها الحرة على سور الشرفة أكثر…..
“ياسلام ولو مكنتش رنيت…..”
اتى صوته الرزين…….
(كنت هرن انا يا شـهـد…..عشان عندي كذا سؤال لازم تجوبيني عليه…….)
هزت راسها هي أيضاً وعيناها تحلق في
الأفق أمامها…
“انا كمان عندي أسئلة لازم تجوبني عليها……”
اتى صوته الخشن حاسماً…..(انا تحت أمرك……)
خفق قلبها ولم تصدق ان اعصابها ذأبت بعد
رده الخاضع لها….فقالت بنبرة مصبوغة
بالغيرة……
“كنت بتحب مراتك……”
عدل الجملة بنبرة محتده…
(اللي كانت مراتي……اه كنت فاكر اني بحبها…..)
انعقد حاجباها بتساؤل…. “مش فاهمه…..”
سحب عاصم نفساً عميقا ثم زفره على مهل
قائلا بخشونة……
(هحكيلك…..يعني بحكم انها اخت مراة عمي فكنا بنتقابل وبنقعد مع بعض كتير……كنت شايفاها
فرد من عيلتنا….لحد ماهي بدأت تقرب وتلفت
نظري اكتر ليها……بدأت تحلو في عيني اكتر
ضحكتها كلامها نظراتها…….)
اغمضت شهد عيناها بعصبية مقتضبة الوجه
وصدرها يشتعل كأتون حارق…..
فتابع عاصم بصوتٍ مغلف بكبرياؤه
المطعون….
(فبدات انجذب ليها….وعلى أساس الإحساس ده اتجوزتها…….ومع الوقت الانجذاب ده بدأ يقل
وبدأت اشوف الصورة كاملة ست جميلة بتهتم
جداً بشكلها ومظهرها قدام الناس…لم وفقت
على جوازنا كان السبب الوحيد اني هليق
أوي على الفستان والعربية بتوعها……)
(عريس لقطه زي مابيقولوا ……ليه ماتوفقش عليه
خصوصاً ان إلهام كانت بتخطط لكل ده من زمان
ضاقت عينا شهد بتساؤل….
“إلهام…….واي خططها……”
بعينين نافرتين ونبرة متهكمة أخبرها……
(الفلوس.. ثروة الصاوي….هي متجوزه عمي وام ابنه
الوحيد….. واختها تتجوز ابن اخوه الوحيد الوريث التاني….وبكده الفلوس متخرجش برا دايرتها…….)
تشدقت شهد بصدمة…..
“معقول…..كنت عارف كل ده وساكت……”
زفر نفسا ثقيلا وبلهجة غير سمحة…….
(كل ده اتعرف لما خسرت ابني……روفيدة كانت قبل
الجواز موديل إعلانات.. وطبعاً لما اتجوزنا رفضت
شغلها بعد الجواز…. فوفقت ولما عرفت انها حامل
كان وقتها مشاكلنا واختلافتنا كترت…لكن خبر حملها
خلاني اسامح في اللي فات واحاول أبدا معاها من الأول……..عشان ابننا….)
(لكن هي مكنتش مقدرة ده….وأول مازغلل عينها عرض كويس في شغلها راحت تعمله بكل انانية…فربنا عاقبها وحصل اجهاض وقت
التصوير……)
لاحت الصدمة على وجه شهد متأثره بتلك
الاحداث المتتالية…….فتابع عاصم ساخرا
بمرارة……..
(ساعتها قالولي انها وقعت من على السلم اتكعبلت
وقتها خوفي كله كان عليها هي لاني استعوضت
ربنا في اللي راح…….)
فضحك ضحكة هازلة تتناقض مع جدية
الذكريات وقواتم لونها…..ثم أكمل….
(لكن اكتشفت انها لعبة عملتها اختها عشان تداري عليها في عملتها السودة……فكانت النتيجة اني مقدرتش اسامحها ووفقنا على الطلاق بعد سنة جواز….. وانفصلنا وقتها وخدت كل حقوقها بدون شوشرة وبدون مشاكل….)
ثم صمت قليلاً وكانه يلملم اوجاعه منهيا
الحوار بـ…….
(دي كل الحكاية……عايزه تعرفي اي تاني……)
مسحت دموعها بظهر يدها….ولم تصدق انه
سيأتي اليوم التي تتشارك به وجع أحد آخر
غير شقيقيها !…
بكت لانها لمست كسرة قلبه وكبرياؤه المهشم
بعد ان قص لها تجربة زواجه السابقة من أخرى والتي لم تكن موفقة أبداً وتركت آثر في نفسه
تراه بوضوح…….
ولسوء حظه وقع مجدداً في تجربة جديدة شبه
حب يطرق باب كلاهما !…..البطلة أمامه ليست طامعه في مالٍ وجاه بل هي طامعه فعلاً بأخذ
الثأر عن طريقة هو ؟!…
سالته شهد بصوتٍ مختنق بالمشاعر الكثيرة….
“سؤال أخير يخصني أكتر….اللي حسيتوا معاها في
الأول نفس الاحساس اللي حسيته معايا….هو هو الانجذاب…….”
حل الصمت من الجهة الأخرى….فجلست على مقعد
خشبي متواجد في الشرفة…..هامسة بلوعة….
“رد يا عاصم….صرحني وانا هقدر صراحتك….”
رد عاصم بنبرة غريبة……..
(انتي مش روفيدة ياشـهـد…في فرق كبير بينكم..)
اكدت والغيرة تنبش في صدرها..
“عارفه… لكن مشاعرك ياعاصم……”
بإبتسامة لمستها مع نبرة صوته الواثقة….
(معاكي انتي عدت مراحل…… بقت أكتر من ست حلوة عجباني وعايز اوصلها….)
ذاب قلبها فاغمضت عيناها مستمتعه بهذا
الصمت بينهما فكان للجملة صدى كالحناً
رائع اطرب اذنيها…….
(مش هنكر انك حلوة وعجباني…..بس في حاجات
أول مرة بحسها…. بحسها معاكي انتي يا شـهـد…..)
فتحت عيناها البراقة وبلهفة سألت
برقة…. “زي إيه……”
لم يتابع اكثر يكفي هذا القدر……فهو أصبح لها
كتابًا مفتوح ماضية وحاضرة بين راحتيها….لكن
ماذا عنها….. لذا سالها بهدوء….
(انا جوبت على اسئلتك… ينفع تجوبيني انتي
كمان على سؤالي…….)
سالته بلؤم……. “اللي هو……”
بصبرٍ سأل……..(اي سرك……)
سمعت صوت نفسها المضطرب….
“صعب احكيلك……”
رد عاصم بجمود…..
(وانا ليه مقولتش كده مع كل سؤال كنت بجوبك عليه……)
ساد الصمت من جهتها….فقال بحسم…..
(اي اللي بينك وبين إلهام…… حاسس اني فيه بينكم حاجة نظراتكم مش مريحاني……تعرفيها قبل كده..)
اجابة بلهجة طلاسمها معقدة…..
“من زمان….. من قبل ما تولد……”
مطت عاصم شفتيه بعدم
رضا….
(إزاي يعني فزوره دي…….)
حاولت التملص من السؤال…..
“أجل الموضوع دلوقتي وطمني عنك…..”
اخرج نفساً مشحونا بالغضب……
(مش هتهربي مني كتير… مصيري اعرف كل
حاجه……صحيح عايز اشوفك بكرة…في
المستشفى قبل ما مشي……)
اتى صوتها بلهفة….. “انت هتروح امتى…….”
رد عاصم بفتور…..
(اخر النهار هكمل علاجي في البيت اليومين الجايين…..)
قالت بصوتٍ بائس.. “خسارة كده مش هشوفك…..”
ابتسم بمراوغه ذكورية……
(هتروحي مني فين هجيلك انا…..لسه فتحه المطعم مش كده……)
قالت بنبرة معاتبه…….
“فاضل يومين على الشهر وهسيبه زي ماطلبت…”
قال عاصم بصوتٍ رخيم……
(اجلي دلوقتي اي حاجة لحد ما وصل لابن الحرام اللي عمل كده……..)
(وياريت تاخدي بالك من نفسك الفترة دي……)
دق قلبها بتساؤل……”عرفت حاجة عنه….”
سالها عاصم بحزم……
(لسه بدور عليه……بس انتي متأكده انك متعرفيش عنه حاجة…….)
سالها في المشفى اليوم قبل ان تغادر وراوغة في الاجابة وهو يشعر بذلك لذا كرر اعادة السؤال
مجدداً……….فكانت اجابتها الان متناقضه عن
السابق….
“في حاجة هحكيلك عنها بكرة……يمكن تفيدنا..
وتلقيه بسرعة……..”
كانت متناقضة لكنها اكثر صدقا من الصباح ربما
لانها علمت اليوم ان مرعي مختفي عن الأنظار وهذا يثير الشكوك حوله ويبدو انه هو الفاعل……
لا تعرف لكن يجب ان يعرف عاصم بكل شيء….
حتى تحمي نفسها واياه من بطش هذا المجرم
الذي اختفاؤه يوحي بانه يدبر لهما مكيدة ما…..
اوما عاصم بتفهم دون ان يضغط عليها
أكثر….
(يبقا هستناكي بكرة…….هتنامي….)
رفعت راسها للأعلى تنظر للسماء القاتمة وهي
ترتاح على المقعد….”مش جيلي نوم….وانت……”
رد مقتضباً…..
(مبعرفش انام لم بغير مكاني……)
اومات براسها ضائقة العينين بعبس……
“اها…..يعني لم أقفل هتعمل ايه هتفضل
صاحي لوحدك…”
اتى صوته المراوغ يناكفها…….
(مش هفضل لوحدي كتير دلوقتي تدخل اي ممرضة تسليني…….)
احتد صوتها مصرحة بتجهم……
“وليه يعني انا هفضل معاك على الخط…… انا كمان
مش جيلي نوم…….”
ضحك عاصم ضحكة اصابتها في مقتلها
فاغمضت عيناها تشتم نفسها……..
(وداينا جربنا نار الغيرة……)
تقوس فمها بترفع…… “عقبالك…..”
رد بصوتٍ بين ثناياه شيءٍ مخيف تلحف قلبها فجأه….
(دي مش هتبقا نار….دا هيبقا جحيم….خافي على نفسك…..)
تلونت شفتيها بابتسامة واهيه…..
“قولتلك اني شبعت خوف ليه مش مصدق…..”
تابعا الحديث في أشياء عدة حتى غفت على
مقعدها في قلب الشرفة وهو غفى على فراش المشفى والهواتف بين أيديهما متعلقة ، كما علق
الحب قلوبهما من النظرة الأولى…….
………………………………………………………………
داعب انفه رائحة البُن المحمص الممزوج مع شيءٍ
اخر لم يتعرف عليه بعد….
فتح عيناه ورفع راسه على النافذة ليجد الشمس تتسلل من بين الفراغات بحياء…مد يده الى المنضدة
ونظر في الهاتف بعينين ناعستين فوجد الساعة تشير
لثامنة صباحاً….فاستيقظ ناهضاً عن الفراش بتكاسل
ومزالت رائحة البُن المحمص تداعب انفه تجذبه
إليها……
فأرجع شعره للخلف وبدأت بطنه تصدر أصواتٍ مزعجة معبرة عن حاجتها للطعام……
آخر مرة أكل بها كانت أمس وجبة الفطور التي اعدتها (قمر)لهم ثم عاد للمنزل في وقتٍ متأخر وسريعاً ألقى جسده على الفراش من كثرة التعب
والارهاق…..
خرج من غرفته يبحث عن آثر الرائحة الشهية والتي تاتي من المطبخ…….
كان يشبه الرسوم المتحركة عندما يتبعوا روائح الوجبات الشهية…….
وقف عند الباب يتابع ما يحدث ليجد قمر تنحني
على باب(الفرن)لتخرج منه صنية بسكويت
كان البسكويت اقراصه صغيرة من اللون البني على شكل حبوب البُن به رائحة زكية تجمع مابين القهوة
وعجينة البسكويت الهشة……
كان شكله يشهي خصوصاً لجائع مثله لم يأكل أمس إلا وجبة فطور من يدي نفس المرأه التي تخبز الآن بسكويت القهوة الذي ايقظه من نومه منادياً
عليه؟!…
“حمزة…… صباح الخير……..”
نظر حمزة الى عينا قمر التي القت عليه تحية الصباح
وهي منعقدة الحاجبين تستغرب وجوده الآن…فهذا ليس معاد صحوته……
تقدم منها ووقفا معاً جوار الطاولة المستديرة بقلب المطبخ وصنية البسكويت الساخنة موضوعه
عليها…..رد حمزة بتساؤل…….
“صباح النور…… بتعملي إيه…..”
بابتسامة مشرقة كبنيتاها المتلألأة قالت…
“بسكوت…. تدوق……..”
لم يقاوم اكثر فمد يده ليأخذ قرصٍ من البسكويت
ليتأوه سريعاً من شدة حرارته…..
هتفت قمر حينها بلهفة……
“حاسب د سُخن….” ثم اتجهت الى الرخامة
وجلبت طبق من البسكويت ووضعته أمامه
على الطاولة…….
“خد الطبق ده طالع من شوية……”
مسك حمزة واحده ووضعها في فمه ثم مضغها وكانت تحمل ثلاثة اطعمه يتنافسا معاً مابين القهوة
المُرة والسكر الحلو وعجينة البسكويت الهشة فصنعا معاً مذاقٍ رائع ليس له مثيل…….
ولانه من عشاق القهوة فكان البسكويت في القمة
الان بنسبة له…….
ابتسمت قمر وهي تساله بتراقب حماسي……
“اي رأيك……”
بأختصار أجاب وهو يأخذ واحدةٍ
أخرى… “حلو……”
شعرت بشمسٍ جديدة تشرق صدرها فأقترحت
بحنان….. “تحب أعملك لبن معاه……”
قال بأمر…….. “لا…..قهوة……..”
زمت شفتيها بعدم رضا…..
“ما كفايه القهوة اللي في البسكوت…..”
نظر اليها بعسليتاه تلك العيون المشتعلة بومضٍ
مخيف رغم سلام وهدوء صاحبها…….
“هتعمليها ولا اعملها انا…..”
نظرت اليه قليلاً ثم اومات براسها مقتضبة وهي تتجه الى الموقد لتعد له القهوة…….
جلس حمزة في المقعد امام الطاولة فبدأ ياكل
من طبق البسكويت عابساً الملامح ثم قال بعد
لحظات بصعوبة……”تسلم إيدك……”
ابتسمت بقلبٍ صافي وهي تنظر اليه من فوق كتفها…..
“بالف هنا……انا عملتوا عشـانك… قصدي عشانا كلنا…….” ادراة راسها وهي تعض شفتها بغباء…
أخذ واحدة اخرى ومضغها باستمتاع فكان حجم
البسكويت صغير قليلاً وكانه يمسك حبة بُن….
“حلو…… بس مين اللي علمهولك……”
ردت بعد تنهيدة شوق ….
“ماما…. كانت بتحب تعملوا لبابا…..وتعلمتوا منها…”
حاول مشاكستها فقال بمناكفة…..
“اه…. شكلك بتحسني صورتك بعد البيض المحروق……”
هزت راسها ضاحكة وهي تمسك الركوة وترفعها
على النار…. “مفيش فايدة فيك……”
نظر الى ظهرها قليلاً والعباءة الفضفاضة التي ترتديها وشعرها الغجري المتراقص خلف
ظهرها طويلاً جداً يلامس اخر ظهرها……
بدا بمناغشتها قائلاً…..
“مكملناش كلمنا إمبارح ياقمرايه……”
نظرة اليه بتساؤل…. “كلام إيه…….”
نظر لعمق عيناها قائلاً دون مواربة…..
“انتي عارفه.. مين دي اللي بطلت احلم عشانها؟…”
ردت هي أيضاً بصراحة
مطلقة……
“اللي كانت خطيبتك مثلاً…..”
اظلمت عيناه فجأه فعقب
بغلاظة…..
“وانتي اي دخلك بالموضوع ده…..”
اتجهت اليه ووضعت فنجان القهوة قائلة….
“بما اني بنت عمتك…. فمجرد نصيحة بلاش
توقف حياتك عشان حد…..”
نظر لوجه الفنجان ثم لعيناها المماثله بلونها البني
المميز…..فأبتلعهما الصمت للحظات حتى سألها
بفضول…..
“انتي حبيتي قبل كده ياقمر……”
جفلت قليلاً من بعد السؤال لكنها ردت
سريعاً…..
“آه…….. ولسه بحب……”
قطب حاجباه عابساً……
“بجد ؟!…. ومين ده اللي امه داعيه عليه…..”
رمقته بحنق شديد….فابتسم حمزة والفضول
يدفعه بمعرفة هذا المجهول التي تكن له
الحب……
“بهزر بلاش تقفشي كده…. هو من القاهرة…..”
اومات براسها مؤكده…..
“أيوا…..ابن عمي…… بيحبني وبحبه… بس…..”
عندما توقفت تابع حمزة بهزل مرير…….
“بس ايه…. مش معاه يجيب شقه ولا رجع لعقله…”
انها توقفت فقط لتألف السيناريو بحبكة مقبولة
كما يجب ان يكون… ففي الحقيقه هي لم تقع في الحب أبداً وليس لديها ابناء عم لانها ببساطه ليس لديها أعمام !….
وجميع اقارب والدها في محافظات متفرقه
والاغلبية لا تعرف عنهم ولا عن ابناؤهم شيءٍ
كنفس الحال مع ابناء خالها سابقاً…
ربما تألف قصة حب وهميه حتى ترفع السياج
على قلبها ….فقالت بتأثر …..
“لا معاه يجيب شقه طبعاً بس امه مش موافقة
ممم….اصل عمي الله يرحمه..وهي بقا مش بتحبني….فا لسه ابن عمي بقا بيحاول يقنعها
وادينا مع بعض….”
اوما حمزة براسه وهو يأكل غير مبالي…..
“ربنا يسعدك…بس هو بجد بيحبك ولا بيتسلى بيكي……”
“بقولك ابن عمي……”
جزت على اسنانها من برودة اعصابة….. هل كانت تتوقع رد فعل اخر ؟!….
لم يبتلى أحد بهذا الحب سواكِ يا غبية……
قوس حمزة شفتيه وهز راسه ساخراً…..
“واي يعني ابنك عمك شيخ جامع هو…صوابعك
مش زي بعضها… مش كل القرايب اللي ينفع يكون فيه بينهم نسب…عندك انا مثلاً مستحيل اتجوز واحده قربتي…….”
اتسعت عيناها وهي تردد بعفوية بعد ان القى سهام
سامة في صدرها….”مستحيل…. مستحيل……”
اكد حمزة مقتضباً……
“سابع المستحيلات….هي ناقصه وجع دماغ….”
اشاحت بوجهها دون تعقيب….فدفعه الفضول من جديد بسؤالٍ نحو هذا الحبيب الغامض والذي
خرج من العدم……..
“مقولتيش…. بيحبك على كده……”
اجابة بوجوم….. “بيحبني…..”
اجاب ساخراً….. “اه هو قالك كده…..”
اومات برأسها بتأكيد….
فسالها بهذا الفضول الغريب…. “وانتي……..”
نظرت لعسليتاه مصرحة بنبرة صادقة….
“انا كمان حبيته من أول ما عيني وقعت
عليه….”
اهتز قلبه فجأه بعد تصريحها فبلع ريقه
وهو يسألها….”وهو حلو…….”
اكدت وهي تسبل جفنيها بخجل…. “اه أوي……”
“شبه مين…..”فاجئها بسؤال…..فرفعت عيناها مترددة وتلعثمت وهي تفكر…..
“مش شبه حد…..هو شبه نفسه……اقولك شبه حسين فهمي…..عينه خضرة وشعره اصفر…..”
فغر فمه معقبا بتشكيك…..
“اه بدأنا كدب…….ابن عمك ها……”
بلعت ريقها بخوف من ان تنكشف
كذبتها….
“أيوا هو طالع لامه ملون…….”
أراد استفزازها بشدة فعلق بغلاظة….
“بلاش الجوازة دي لحسان انتي كده هتبوظي
النسل بتاعهم……”
أحمر وجه قمر من هذا المتنمر العين فقالت
بأنف مرفوع بتكبر……
“ياسلام طب دا كذا مرة يقولي انا نفسي عيالنا يطلعوا شبهك…….”
ضحك حمزة معقباً بوقاحة…..
“كدااااب دا بيثبتك….قولنا الكلام دا كتير قبل
كده…اسمعي مني…….”
اطبقت على اسنانها بحنق بالغ….
“قولته لمين يعني…. لخطبتك…….”
اكد بعبثٍ يفوح منه الزهوة…….
“لخطبتي وبنت الجيران وصاحبة بنت الجيران
وليله كبيرة ياقمراية…..”
أرادت قمر ان تضربه في مقتله فقالت بترفع….
“بس هو كذا مرة يقولي بحب ملامحك وشعرك….”
“ملامحك ؟!…لا إله إلا الله….هو مشافش مناخيرك
ولا إيه….”عقب حمزة بصفاقة قاصدا مضايقتها….
فأهتزت ثقتها بنفسها لوهلة وهي تلامس انفها
وعيناها ترمقه شزراً……
“مالها مناخيري دي منمنمه……”
“آه منمنه…….طيب “اكد بهزل مقصود وهو ينظر لوجهها الجميل وانفها الصغيرة المرفوعة بشموخ انثوي لذيذ……
“انت شايفني وحشة……”سالته بضجر…
فقال باستفزاز وهو يأكل من البسكويت
بتسلية تضاهي تسلية التلاعب بها…..
“وانا مالي هو انا ابن عمك……طالما هو شايفك حلوة وشاري خير وبركة…….اولعوا سوا…. ”
اصرت على السؤال وهي على وشك البكاء
كالاطفال……
” لا رد ياحمزة…. هو انا بجد مناخيري كبيرة……”
عندما اقتربت منه وجلست جواره على المقعد
مسك فكها وادارها اليه بمداعبة……
“وريني كده……”
نظر لعيناها قليلاً وهي كذلك وكانت لغة اعينهما
تعزف لحناً ثنائياً موحداً لا يعرف أوتار بل خفقات قلوبهما توحدة……
“لا تصدقي منمنه فعلاً…….”
ضربت كفه حتى يترك وجهها ثم نهضت من مكانها
تفرغ البسكويت من الصنية الى الطبق…..
“بس مقولتليش اي اللي عجبك في حسين فهمي بتاعك…..هو اسمه ايه صحيح…….”
“اسمه….اسمه أشرف…….”أول اسم اتى في
خاطرها قالته….
فبرم حمزة شفتيه مستهيناً……
“اشيف…..ماشي….و اي اللي عجبك في اشيف
ده…”
قالت سريعاً……. “مؤدب…..”
هتف حمزة مستنكراً بصفاقة…..
“دي مش صفه دا وباء !!….طالما مؤدب يبقا عايز كورس انحرف على ايد العبد لله……”
نظرت قمر اليه بنفور…….
“شكرا مستغنيين عن خدماتك….ابن عمي…. محترم……”
لوى حمزة شفتيه في ابتسامة
وقحة….
“ماهو المحترم ده مش هينفع معاكي……”
نظرة اليه بعدم فهم فتابع بلؤم…..
“انتي عايزة واحد زيي…يصبحك بعلقه ويمسيكي بعلقه…….”
وقفت متخصرة بتبرم……
“ياحلاووة….على اساسي اني هسكتلك….”
“هتعملي ايه يعني…….”نهض من مكانه ووقف امامها…….فقالت ببسالة……
“هضربك……”
أخذ خطوة اخرى بالقرب منها…….
“متقدريش……”
ابعدت عيناها عن وجهه بحياء.. “أقدر…….”
مسك وجهها من جديد ورفع راسها اليه حتى تنظر لعيناه مباشرة وعندما فعلت قال هو بثقة عمياء……
“مسافة ما هبص في عينك هتنخي….احنا جامدين أوي…. ”
زمجرة وهي تضرب كفه من جديد…”مغرور…..”
“بس يا بتاعت اشيف….”قالها وهو يبتعد عنها ضاحكاً…….فغمغمت من بين اسنانها…..
“بارد…….”
اشار حمزة على طبق البسكويت الذي إنتهى
منه للتو……..
“هاتي بسكوت كمان الطبق خلص…….”
وضعت الطبق الاخر امامه بجزع….
“اتفضل…..”
وضع واحده في فمه وهو يسالها
بفضول……
“هو اشيف بيحب البسكوت……”
ردت ببرور…… “مسالتوش والله…….”
قال حمزة بسماجة…….
“وإياكي تسأليه…..طالما مؤدب يبقا ملوش في البسكوت….. ناشف عليه…….. ”
لم ترد عليه قمر بل القت عليه نظرة حانقة وصمتت قليلاً…..ثم بعد دقيقتين اغلقت الموقد وقالت
وهي تغسل يديها تحت صنبور الماء……
“انا هروح البس بقا لحسان اتاخرت……”
قطب حمزة حاجباه متعجباً….
“اتاخرتي على إيه ؟!……”
نظرة اليه بتعجب…..
“على الشغل أول يوم ليا النهارده في مكتبة أحلام…..هي شهد مقالتلكش… ”
لوى شفتيه ساخراً…….
“هو حد يعرف حاجة عنكم برضو…..انتوا بتقولوا اللي يجي على هواكم بس……”
التوى ثغر قمر بنزق……
“على اساس ان سرك معانا يعني ما انت نفس الكلام…..”
نظر لها حمزة باستهانه….
“واقولك اسراري ليه….بمناسبة إيه……”
قالت قمر مقتضبة……
“وانا استأذنك ليه في الشغل بمناسبة إيه…..”
هتف حمزة بخشونة……
“مش بقول تستأذني بس على الأقل تعرفيني…انتي بنت عمتي ومسئوله مننا دلوقتي…لحد ما تاخدي ورثك وترجعي مكان ما جيتي……”
وكانه القى قذيفة فتاكة قصفت صدرها فتمزق
قلبها في لحظة…..فقالت بمرارة…..
“واضح انك مستعجل اوي على مشياني من هنا….”
اغتاظ حمزة منها قائلاً بخشونة….
“متغيريش الموضوع ياقمر….انتي هتنزلي الشغل ليه محتاجة فلوس……”
لم ترد بل اشاحت وجهها عنه بحزن….فتابع
هو بحمائية…….
“كذا مرة أقول لشهد تسألك لو محتاجة حاجة.. وانتي اللي مش بترضي……”
رفعت وجهها اليه قائلة بحزن…..
“لاني مش محتاجة فلوس ياحمزة…انا زهقانه ومحتاجة اشتغل واشوف ناس لحد ما خالي يرد
عليا في حوار الورث……وارجع مكان ما جيت زي
ما بتقول…”
رفع حاجباه بعدم فهم مزمجراً……
“ليه بتصطادي في الماية العكرة….مش فاهم اي الغلط في كلامي……”
“ولا اي حاجة…..شغلي مع احلام مؤقتا…وشغلي في المكتبة احسن بنسبالي عشان دي نفس الشغلانه
اللي كنت بشتغالها في القاهرة….”ثم اولته ظهرها
قائلة بهدوء…..
“عن إذنك هروح البس…….”
زفر حمزة بحنق بالغ وهذا الشعور السخيف يتغلغل
داخله !….
اتجه الى الشرفة وهو يشعل سجارته بضيق…وعندما
فتح باب الغرفة كانت شهد على وشك الخروج منها
تبادلا النظرات للحظات فكانت شهد يبدو انها قضت ليلتها هنا في الشرفة ؟!…..
فكانت عيناها ناعستين شبه مغلقتين…..تعانق نفسها بذراعيها الاثنين وتمسد على كتفيها شاعره بالبرد
يتخلل جسدها……تمسك الهاتف في يدها اليمنى
وتلتحف بشالها الأبيض…….
فكان أول سؤال قاله حمزة بعد هذا
المنظر…..
“انتي كنتي نايمة هنا ؟!….”
لم تجد مفر بعد هذا الموقف والسؤال من
بعده فقالت بصراحه…..
“ايوا…… راحت عليا نومه……”
ضاقت عيناه مستفسراً بشك…. “وليه بقا…….”
ارتبكت والسؤال الثاني يدفعها للكذب….
“مكنش جيلي نوم….وفضلت قعده شوية العب في التلفون وبعدين راحت عليا نومه وانا قعده….”
لم تلين ملامح حمزة وهذه الجلسة تذكره
بأحد الليلي العاصفة بالحب…..
فالمكالمات ليالٍ هي إكسير الحب بين العشاق
فهل سيغفل عنها….وعن ما مضى منها في
حياته !….. مستحيل….
لذا ازداد شكه فعقب…..
“تلعبي في التلفون… ولا كنتي بتكلمي حد….”
اهتزت حدقتاها….. انه يدفعها للكذب للمرة الثالثة
على التوالي……
“اه كنت بكلم خلود وبعد ما قفلت قعدت على النت
شويه اشوف الرسايل ولاوردرات وكده يعني فنمت……”
لم يعقب حمزة بل ظل ينظر اليها طويلاً…..فقالت
وهي تبعده عن طريقها برفق…….
“انا سقعانه اوي هدخل اوضتي……”
عندما ابتعدت شهد….تابع حمزة هروبها منه ولم يلبث
الا وناداها مجدداً بوجها مكفهر…….
“استني ياشهد عندك…..”
توقفت شهد في صالة المنزل تنظر اليه بتردد كالتلميذة المذنبة….. تدعي سراً ان لا تضطر
للكذب عليه للمرة الرابعة……
“في اي بس ياحمزة…… مالك…..”
قال حمزة بحدة….
“انتي اللي مالك… بتكدبي ليه عليا…..”
قالت شهد بخفوت….
“هكدب… هكدب في ايه……”
“انا خلصت……”
انطلقت هذه الجملة بعفوية على لسان قمر التي خرجت من غرفة شهد للتو مرتديه طاقم خروج
وكان عبارة عن بنطال من الجينز الفاتح عليه قميص أنيق من اللون السماوي….وربطت شعرها الغجري الطويل للخلف يتأرجح خلف ظهرها متراقصاً
بجنون مغوي…..تضع القليل من الزينة التي تناسب وضح النهار…. من ضمنها هذا الكحل الأسود المرسوم باحترافية حول حدقتاها فيجعل بنيتاها واسعتين جميلتان بديعتان عند النظر إليهم….
اسبل حمزة اهدابه بغضب….. ليست جميلة لكنه يبالغ في وصفها….. عادية ككل النساء…..حضورها جذاب وليست ككل النساء…… عيناها عادية ككل النساء….عيناها في الكحل آية من الجمال
فهي ليست ككل النساء !!…
تناقض رهيب يخضع له الان مابين شخصٍ يؤيد
واخر معارضا بشدة……
لكن المتفق بينهم انها الان مختلفة في عيناه…وكانه يراها من زاوية اخرى لم يقف بها يوماً !…..
سالتها شهد بلؤم…..
“اي ده انتي نزله لوحدك…..معقول…. ”
قالت قمر بتردد….
“انتي مش هتروحي الشغل…..”
هتفت شهد وهي توزع النظرات بينهما…..
“هروح كمان ساعة بشير وخلود هيعدوا عليا…”
نظر حمزة لأخته يشم رائحة غدر….فقالت
شهد بمكر…..
“بس انتي معادك دلوقتي في المكتبة….. احلام مستنياكي لازم تروحي……دا أول يوم ليكي.. ”
قالت قمر بحيرة….. “طب هروح إزاي لوحدي……”
“خلاص حمزة هيوصلك…..”اشارة شهد على اخيها الذي رفع حاجبه ذاهلاً….
“نعم يا اختي…”
ابتسمت شهد تستهدف قلبه الحنون….
“اي فيها يا حمزة ما انت كده كدا كنت هتوصلني
النهاردة للمطعم… قدر اني راحه وخد قمر معاك…”
“دا أول يوم ليها وهي عمرها ما دخلت شارع الصاوي……يرضيك تروح لوحدها… ”
جز حمزة على اسنانه وهو ينظر لاخته بتوعد..
فوجهت شهد الحديث لقمر قبل ان تبتعد…
“حمزة هيوصلك يا قمر وانا ساعة وهكون عندك.. وهعدي عليكي متقلقيش…..وكمان اخر النهار هنروح سوا…. مع حمزة……”
هتف حمزة.. “شـ…..”
بترت شهد الكلمة منهية الجدال…..
“انا هدخل اوضتي انا سقعانه أوي……”
تابعت قمر دخول شهد غرفتها فعادت عيناها
اليه لتقول بحرج…..
“لو مستعجل انا ممكن اخد اي موصلة…. توصلني لشارع الصاوي…..”
اظلمت عيناه وكانها قالت شيءٍ مشين…..فامتنع
عن الرد متجه الى غرفته……
خطت خطواتها خلفه بعدم فهم…..
“حمزة……”
توقف والقى عليها نظرة حانقة……
“هغير هدومي….. استني عندك…..”
توقفت مكانها كما أمرها…..وعندم اغلق هو الباب
على نفسه شتم قائلا بتهكم……
“واضح اني السواق بتاع الهوانم……”
………………………………………………………….
استقلا معاً المصعد بصمت واتكأ حمزة على الازرار للهبوط للأسفل….
بلعت قمر ريقها وهي تنظر اليه بين الحين والآخر
بقلب مغرمٍ بهذا الجلف صاحب السان السليط و العيون العسلية الذابحة……
فوجدت قلبها ينزف وجعاً هامسا سراً…….
(لو كان بيدي ماكنت وقعت في الهوى….. فهواك علة وقلبي عليلاً بها……)
اسبلت اهدابها سريعاً عندما رفع حمزة عيناه عليها وكانه سمع لعنات قلبها عليه…….
بنظرة شاملة مدققة رمقها ثم ابعد عيناه عنها حانقاً
“ياترى بقا اشرف بتاعك عارف بشغلك…..”
اومات براسها وهي ترمقه بأنتصار…
“أكيد….. استأذنت منه…..ووافق علطول…..”
سخر حمزة بقرف….
” وافق؟!….. عيني على الرجالة…..”
هتف قمر بوجوم….
“في مشكلة في شغل الست عندك…..”
رفع شفتاه للاعلى مشمئزاً وهو يقول بتجهم….
“لو فيه مشكلة مش هطلع اخواتي يشتغلوا ويشوفوا مستقلبهم….المشكلة ان سبع البرمبة بتاعك فاتح على البحري دا بدل ما يبقا معاكي هنا وياخد باله منك لا سايبك وزي ما تيجي…. تيجي…..”
قالت بمناكفة…..
“وانت اي اللي مضايقك اوي كده…..”
اندفع الغضب داخله دفعة واحده…..
“مانا اللي بشيل القرف في الآخر… وصلنا يا حمزة
روحنا ياحمزة… شغال عند اللي جابكم انا…”
اتسعت عيناها من هجومه المبالغ فيه فتشدقت
منزعجة……
“احترم نفسك وتكلم معايا عدل…. وبعدين قبل ما ننزل قولتلك لو مستعجل أمشي…..”
كان سيرد عليها يعنفها بالكلمات لكن فتح باب المصعد وانضم اليهما ثنائي اخر لكن كان اكثر
تجانسا و اندمج وحب…… فقد دخلا معا يدٍ بيد والنظرات متبادلة حتى…..
حتى انتبهت لوجه المرأه والتي لم تكن إلا (نجلاء)
خطيبته السابقة…. تجهم وجه الرجل سريعاً عندما رأى حمزة وكان ينوي الخروج من المصعد لولا إمتناع
نجلاء وتصميمها على استقلاله معهما…..
حل صمت غريب مشحون بالكثير من المشاعر
في تلك الفترة القصيرة…..
عيناها حصدت كل ردود الأفعال… بدايةٍ من اندماج
نجلاء مع هذا الرجل الذي اتضح انه يدعى سامح
من كثرة دلالها عليه ومنادتها باسمه امامهما بمنتهى الميوعة…
كانت حركاتها مكشوفة ومستفزة تحاول لفت
الانتباه أكثر حتى تشعل غيرة حمزة نحوها
وتحرق فتيل صبره فيعض اصابع الندم على
ضياعها منه…….
حانت منها نظرة على حمزة……
دوماً تسمع عن قهر الرجال لكنه لم يتجسد امامها
كالان…….
رغم ان ملامحه كانت متصلبة المعاني إلا ان عيناه
كانت مقهورة من الحب……قهرة تحتاج لمعجزة
حتى تتلاشى !……
كان يضع ذراعه جواره ويقبض على كفه بقوة مؤلمه
حتى ابيضت مفاصل يده بشدة……
ففصلت قمر الخطوة الوحيدة بينهما ومسكت
قبضة يده بين راحتي يدها الناعمة بحنان تتضامن
معه بكل جوارحها…..
فنظر لها حمزة بدهشة….فابتسمت وهي ترفع
وجهها اليه قليلاً……
“انت كويس…….”
مط شفتيه بسخريةٍ معتادة….
“ليه مش هبقا كويس…….”
نظر ليدها المعلقة بيده فأرخى قبضته بتدريج
وعانق اصابع يدها برفق قائلاً بمناغشة……
“بنسبة لأشرف اي نظامه بعد مسكت الايد دي…”
ابتسمت هامسة بمرح…..
“ماهو عارف ان احنا زي الاخوات……”
رفع حاجبٍ متعجباً…….
“انتي حكياله عني كمان…لا دا الموضوع كبير أوي….”
ضحكت قمر واطرقت براسها بخجل…فابتسم هو ورفع عيناه على نجلاء التي نسى وجودها للحظة
واحده….وعندما تقابلت أعينهما كانت ترمق كليهما
بعينين حاقدتين…….
بعد لحظات دلفت الى المكتبة بعد ان اوصلها حمزة…….
ابتسمت بسعادة بعد ان غمر انفها رائحة الكتب المميزة…..فدارت عيناها في المكان بلمحة سريعة
رأت مكتبة كبيرة منوعة بالكثير من الكتب..
آلة تصوير الأوراق…..ركنا خاص بالهدايا والاغلفة…..مجموعة متنوعة من أدوات
الدراسة…….
رحبت بها سيدة جميلة ترتدي عباءة ووشاح بهم طابع شعبي اصيل………
“أهلا وسهلا…. قمر مش كده……”
اكدت قمر وهي تقترب منها….
“أيوا أهلاً بحضرتك……”
مدت قمر يدها فبادلتها أحلام المصافحة قائلة
ببشاشة……
“بلاش حضرتك دي اسمي أحلام…أهلا بيكي..شهد
قالتلي انك كنتي شغاله في مكتبه قبل كده صح…..”
اكدت قمر بحرج……. “ايوا…..”
هزت أحلام راسها بتفهم وقالت برفق….
“ان شاءلله يعجبك الشغل معايا…زي ما انتي شايفه
هي المكتبة صغيرة لكن بيجالها زباين من كل
حته…ومتقلقيش كلهم ولاد ناس ومحترمين… ”
نظرت قمر لأنحاء المكتبة من جديد مستشعرة بالالفة
والسعادة في هذا المكان…….
فأستردت أحلام حديثها تطمئنها…..
“وانا باذن الله هفضل معاكي الفترة دي لحد ما تاخدي على المكان والناس……”
قالت قمر مبتسمة …
“ان شآء الله متقلقيش انا بستوعب بسرعة….”
إبتسمت أحلام أيضاً وقالت بود……
“ماشي ياست قمر….. تعالي بقا معايا اعرفك على
كل حاجة في المكتبة….”
………………………………………………………….
15=ج2=
كانت تسير في ممر المشفى بخطوات هادئها يتأرجح
ثوبها الناعم الرقيق حول ساقيها بدلال…. تترك شعرها الأسود الناعم حراً يرتاح على كفتيها والغرة
الجميلة تتناثر على جبهتها……وعيناها العسليتان تظللهم بكحلاً أسود رفيع وأضافة بعضٍ من ملمع الشفاه كي يتوهج وجهها ولو قليل…..
لم تنام بشكلاً جيد فأرادت ان تخفي ارهاقها البادي عليها ببعض الزينة البسيطه……
رغم انها متعبة جداً ولم تنام سواء ساعتين وامامها يوماً طويل في المطعم وعمل متراكم….. إلا انها تغمرها سعادة جنونية تريد ان تقفز من شدة
الفرح…..
مبتهجة هي من مجرد أمسية كلامية في الهاتف
ماذا ان أقتربا اكثر فيما بعد وأصبحت الامسية الكلامية وجها لوجه…..
هل ستشعر بالسعادة، ام ستهرب كالعادة !…..
زفرة تنهيدة مثقلة بالهموم وشرد ذهنها اكثر معلقة يدها في حزام حقيبتها المرفوع على كتفها وهي تسير في اخر الممر حيثُ الغرفة الماكث بها…
وعندما اقتربت من الغرفة واثناء سيرها خبطت
في كتف صلب جعلها تهتز قليلا وهي ترفع عيناها
عليه جافله بهلع…….
ابتسم الشاب قائلا
باعتذر….
“انا اسف مخدتش بالي…….”
وضع الشاب هاتفه في جيب بنطاله وكان يبدو عليه انه مراهق ربما لم يصل للعشرون بعد….لكن يفوقها
جسداً وطولاً….بشعرٍ اشقر وعيون زرقاء…..
عند تلك الخاطرة اتسعت عينا شهد وهي تدقق النظر
به أكثر……عيناه تشبهها كيف تغفل عن هذا….وكانه
ورثهما منها…..
هل هذا هو ( يزن)……
رأى يزن تمعنها في النظر لعيناه فابتسم بزهوٍ…يعرف
ان عيناه جذابة توقع الإناث في حبه….لكن عليه ان
يعترف ان رغم جمال عيناه ولونهما المميز….إلا ان عسليتاها تفوز بجدارة دون وضع مقارنة حتى !…
صافيتين براقتين وفي العمق سرٍ جليل كالمغارة
تريد ان تكتشف دواخلها ، عفواً فكيف لا تفوز !…
وضع سحر في هاتين العينين يُلقى على كل
ناظراً……
ليست العينين فقط انها جميلة الكمال بشكلاً
مميز……
“ولا يهمك…..”
قالتها شهد وهي تنوي المغادرة فنظرت شهد الا اخر الممر المغلق والذي لم يبقى به إلا غرفة عاصم..
فسالها يزن بتعجب……
“هو انتي داخله لعاصم…….”
عادت اليه ورفعت عيناها
قائلة…..
“ايوا….هو جوا مش كده……”
اكد يزن قائلاً بهدوء……
“ايوا هيمشي كمان شوية……انا يزن ابن عمه…”
ابتسمت شهد بترحيب فاتر….
“تشرفنا….وانا شهد….معرفة قديمة…وجايه أطمن
عليه……”
انعقد حاجباه مستفسراً…..
“معرفة قديمة……بس انا أول مرة أشوفك….”
اكدت بوجه مبهم التعبير….
“مانا بقولك معرفة قديمة يمكن من قبل حتى ما تتولد……”
هز يزن راسه مستفهماً…..
“ازاي الكلام ده….انتي مش كبيره لدرجادي….يعنى
اديكي واحد وعشرين سنة مثلاً…….”
بنفي قالت بجمود… “لا… أكبر منك بسنين……..”
لاح الأحباط على وجهه فقال عابساً….
“بكام سنة يعني……”
عليك ان تأخذ الإجابة من ماما ؟!….
ابتسمت شهد بعصبية واضحة……
وقالت بملل…..
“عاصم جوا مش كده……”
أومأ يزن برأسه..
رأى يزن تمعنها في النظر لعيناه فابتسم بزهوٍ…يعرف
ان عيناه جذابة توقع الإناث في حبه….لكن عليه ان
يعترف ان رغم جمال عيناه ولونهما المميز….إلا ان عسليتاها تفوز بجدارة دون وضع مقارنة حتى !…
صافيتين براقتين وفي العمق سرٍ جليل كالمغارة
تريد ان تكتشف دواخلها ، عفواً فكيف لا تفوز !…
وضع سحر في هاتين العينين يُلقى على كل
ناظراً……
ليست العينين فقط انها جميلة الكمال بشكلاً
مميز……
“ولا يهمك…..”
قالتها شهد وهي تنوي المغادرة فنظرت شهد الا اخر الممر المغلق والذي لم يبقى به إلا غرفة عاصم..
فسالها يزن بتعجب……
“هو انتي داخله لعاصم…….”
عادت اليه ورفعت عيناها
قائلة…..
“ايوا….هو جوا مش كده……”
اكد يزن قائلاً بهدوء……
“ايوا هيمشي كمان شوية……انا يزن ابن عمه…”
ابتسمت شهد بترحيب فاتر….
“تشرفنا….وانا شهد….معرفة قديمة…وجايه أطمن
عليه……”
انعقد حاجباه مستفسراً…..
“معرفة قديمة……بس انا أول مرة أشوفك….”
اكدت بوجه مبهم التعبير….
“مانا بقولك معرفة قديمة يمكن من قبل حتى ما تتولد……”
هز يزن راسه مستفهماً…..
“ازاي الكلام ده….انتي مش كبيره لدرجادي….يعنى
اديكي واحد وعشرين سنة مثلاً…….”
بنفي قالت بجمود… “لا… أكبر منك بسنين……..”
لاح الأحباط على وجهه فقال عابساً….
“بكام سنة يعني……”
عليك ان تأخذ الإجابة من ماما ؟!….
ابتسمت شهد بعصبية واضحة……
وقالت بملل…..
“عاصم جوا مش كده……”
أومأ يزن برأسه…فقالت قبل ان ترحل……
“عن إذنك……..”
دلفت امام عيناه الى الغرفة…..تاركه اياه يتخبط بين
الجمل الغامضة و…..وعيناها……..
……………………………………………….
دخولها الى الغرفة كالنسيم معطر بكل ماهو طيب
ناعم على الانف……
أصابته نفحات من البهجة عندما رفع عيناه عليها وادرك وجودها بعد ان شم عطرها الزكي الطيب…..
رفعت وجهها الابي…بري الجمال والروح……قائلة
بابتسامة صافية…….
“صباح الخير………”
ومن جديد قص عليها بنظرة واحدة قصائد عن
الهوى قبل ان يجيب بابتسامة حانية……
“صباح الشهد…….اتاخرتي ليه….”
خفق قلبها فأسبلت اهدابها بوجها محمر خجلا
ثم قالت بخفوت…..
“يدوبك…..على مالبست……”
هيمن عليها بالنظرات والكلمات الكاسحة….
“تعرفي انا لحد دلوقتي قاعد مستنيكي…كان المفروض أخرج من نص ساعة…….”
“عامل اي النهاردة…….” قالتها شهد وهي تتمعن في النظر اليه فكان يقف بجوار الفراش يرتدي بنطال
جينز وقميص، مصفف شعره الأسود الغزير للخلف ولحية السوداء تعطي له وقر وهيبة…كان جذاب جداً وأنيق بهيئة لامعة تغطي على كل شيءٍ من حوله كما تراه دوماً……
“الحمدلله…..أحسن… ” رد بعينين تترصد لكل حركة بسيطة تصدر منها بداية من احمرار وجهها خجلاً للسؤال الهامس لنظرة عيناها المتفحصة له بحياء انثوي شهي…..
أرتاح على حافة الفراش مشيرا لها بيده بان تتقدم وتجلس على المقعد المقابل له……
فاقتربت بخطوات خرقاء شاعره بأسهم عيناه
تلاحقها……. جلست كتلميذة مهذبة امام استاذها
صاحب الحضور المهيب والعينين الحانية….
بلعت ريقها ورفعت عيناها عليه… لتجد عيناه تتوهج
نحوها…… توهج يشعل وجنتيها أكثر خصوصاً انه
كان ينظر لشفتيها دون ان يلاحظ على نفسه…..
“دا أحمر…….”
رفعت عيناها مصدومة من السؤال….ثم لم تلبث
إلا واجابت بحرج…….
“لا……. ليب بالم……”
عقد حاجباه بعدم فهم…فبلعت ريقها
موضحة…”زبدة كاكاو……..”
لم يمنع سؤال قفز في خاطره فجأة وهو يرى شفتيها مغوية بهذا الملمع الوردي…… “بطعم إيه……”
ردت بعفوية….
“العسـ…………….نعم…….” بلعت لسانها وهي تدرك
مدى غباؤها وتوترها أمامه…….
فنظرت اليه بحنق يمتزج بخجلها….فتخلل هو خصلات شعره باصابعه معتذراً بحياء ذكوري…..
“واضح ان قلة النوم أثرت عليا……”
اخرجت تنهيدة مضطربة وهي تسبل اهدابها
بعفو… فقال بمشاكسة لذيذة……..
“قولتي بطعم العسل صح…….”
رفعت عيناها بنظرة نارية حتى يتوقف عن
هذا العبث…….
“عاصم…… الزم حدودك…….”
بنظرة جامدة تساءل….. “لحد إمتى ؟!…..”
طالت حرب النظرات بينهما بتحدٍ حتى وجزة
عيناها منسحبة من أرض المعركة……
بينهما كيمياء غريبة من نظرة واحدة يلامس
اعماقها من همسة واحدة يزلزل كيانها…..
بللت شفتيها امام عيناه المظلمة ثم سحبت نفساً
مرتجف وقالت بايجاز….
“خلينا نتكلم في المهم….. عايزة اعترفلك بحاجة
تخص اللي حصلك يوم الفرح……”
اعطاها كامل تركيزة
بتساؤل…..
“شكلك عارفه مين هو……”
حسمت امرها معترفة…..
“مرعي الجن…. مفيش غيره اللي عملاها….”
تغضنة زوايا عيناه بعدم فهم…..
“إيه ؟!… مرعي وليه يعمل كده أصلاً……”
قالت شهد بتردد…..
“عشان انا رفعت عليه السكينة وهددته اني هقتله..”
اشتعلت حدقتاه وهو يساله بحدة…..
“انتي بتقولي اي ياشهد…. انتي مخبية عني إيه…..”
قالت شهد بحرارةٍ تسعطف قلبه بعيناها
الراجية…
“هحكيلك كل حاجة من الأول…. بس اوعدني انك هتصرف صح ومش هتوسخ ايدك في واحد زي ده
بلغ عنه وسيب القانون هو اللي ياحاسبوا…”
لم تلين ملامحه بل صاح أمراً…..
“انـطـقـي يـاشـهـد…..”
خفق قلبها بخوف تترجاه مجدداً…
“اوعدني…اوعدني ياعاصم وانا هحكيلك على كل حاجة….”
بصوت صلب جاف كرر…. “انـطـقـي يـاشـهـد…..”
اقتربت منه اكثر بمقعدها حتى اصبحب بالقرب
منه……وهتفت برجاء حاني……والخوف يتربع
قلبها الولهان……
“اوعدني ياعاصم وحياة اغلى حاجه عندك..”
فقد اخر ذرة صبرٍ فهدر باسمها وهو يمسك
ذراعها بغضب……
“شــهــد……..”
لفحت انفاسه الملتهبة بالغضب صفحة وجهها
الشاحب فأغمضت عيناها بضعف تترجاه بصبابة
الهوى……..
“لو بتحبني اوعدني انك مش هتأذي نفسك……”
ابتلعهما الصمت بعد جملتها ولم تسمع إلا صوت انفاسه المشتعلة غضبٍ وربما……
فتحت عيناها ترى أول انطبع بعد جملتها الغبية…
فرأت الغضب مرسوم على محياه وعيناه تتوهج
بشكلاً مريع……..فقالت بتخوف معدلة الجملة….
“قصدي عشان خاطـ…….”
قاطعها بصوتٍ خشن…..
“اوعدك……قوليلي مخبية عني إيه….وماله مرعي
بيكي……”
سحبت ذراعها من بين قبضته وتراجعت في مقعدها للخلف قائلة بصوتٍ متهدج…….. “هحكيلك……”
كل حقيقة كانت تخرج من فمها تنزل على اذانه كالسياط……اظلمت ملامحه بشكلاً مخيف وتصلب جسده بتشنج واضح والانفعال بد على عيناه المظلمة فبات يشبه القاتل المتسلسل الذي لن
يرتاح إلا بسفك دماء أحدهم…..فتسيل
الدماء أمام عيناه منتشياً بعدها !!….
رفع عيناه المحتقنة
بالغضب….
“كل ده مخبياه عني……”
قالت وهي تمكث راسها مذعنة….
“مكنش ينفع أقولك…خوفت تحصل مشاكل بسببي…”
هتف بنفسٍ غير سمحة وعيناه تقدحان شراراً….
“فتسبيه يبتزك وياخد منك فلوس….وفي الاخر يأجر
عيل ابن***يقتلك……كنتي هتعرفيني امتى ياشهد..
لم تبقي غرقانه في دمك……..”
رفعت عيناها مبررة الوضع…..
“عاصم مش انا لوحدي اللي كان بيعمل معاها
كده…. في ناس كتير كان بيشاركهم في رزقهم
لوي دراع…”
قاطعها بصرامة…. “يستاهلوا طالما قبلوا بده……”
نظرة اليه بدهشة….. “انت اللي بتقول كده…..”
قال عاصم غاضباً…..
“ايوا انا اللي بقول كده……طالما قبلوا على نفسهم يتذلوا من حتة عيل زي ده لا وبيعملوا كمان ليه
الف حساب يبقوا يستاهلوا…… ”
قالت شهد بشفقة…… “دول ناس غلابة…..”
بملامح نافرة ولهجة جامدة أخبرها…..
“دول ناس جبانة……مستنين البطل اللي يخلصهم منه….مع انهم لو اتحدوا سوا…..هما اللي هيطردوا
من شارع الصاوي مش العكس…….”
لم ترد شهد بل ظلت على صمتها…فهذا كان رأيها
من البداية لكن جبن خلود ومخاوفها أصابها فأصبحت لا تقل عنهم جبنا……
سحب عاصم نفساً متهدج وهو يقول
بصرامة….
“على العموم هو خلاص دوره انتهى لحد هنا….جاب
اخره معايا….وشكل القديم والجديد هيطلع عليه..”
نظرت اليه شهد مترجية بحنو…..
“عاصم انت وعدتني….أوعى تعمل حاجة تأذيك..”
بنظرة جادة تساءل…… “خايفه عليا…..”
اخرجت تنهيدة مضنية….”معقولة لسه بتسأل……”
لوى شفتيه ساخراً بمرارة…..
“على أساس ان في حاجة وضحة من ناحيتك تخليني ابطل اسألك……”
المها قلبها بعد تعليقه فقالت دون
تقهقر…
“أكيد خايفة عليك……”
تساءل…..”ليه؟….”
لعقت شفتيها وهي تقول بضعف….
“عشان انت عاصم….ومعنديش اكتر من كده
إجابة…. ”
ابتسم بحنق….. “لا كتر خيرك……”
نطقت اسمه بمشاعر متعبة من كثرة المعافرة
مع الحياة ومع نفسها في قصتهما المعقدة…
“عـاصـم………”
نظر لعيناها خاضعاً لعسليتاها الراجية
هامساً بصدق العالم……
“نعم ياست الحُسن…معاكي…..بقلبي وعقلي معاكي…”
انتفض قلبها بجنون فاغمضت عيناها تطلب الرحمة
منه سراً ولكن يبدو ان لسانها خانها فقالتها علناً……
“كده كتير عليا……..”
رد رداً زلزل القلب والمشاعر……
“يبقا لسه متعرفيش اللي جوايا ناحيتك…..”
لم تقوِ على فتح عيناها مما اعطى لضعفها امام تصريحاتُ منظراً شهياً جعله يتأوه عنوة عنه
هامساً…….
“آه يا شـهـد…….”
فتحت عيناها ونهضت عن المقعد
متقدمة منه بقلق…..
“سلمتك……الجرح بيوجعك…..”
فتح الباب سريعاً وهتف يزن……
“عاصم حكيم مستنيك في العربية مش يلا بينا…”
انتبه يزن الى هذا المشهد المتقارب نوعاً ما بين عسلية العينين وابن عمه……..
فتنحنح وهو يشعر بالحنق من هول المفاجأة….
هز عاصم راسه موجه الحديث
لشهد…..
“يلا انا جهزت….تعالي عشان اوصلك……”
رفضت شهد بحرج……
“انا مش هروح البيت…انا راحه المطعم عندي شغل هناك…….”
قال بهدوء….
“هخلي حكيم يوصلك على سكته…..”
رفضت شهد بارتباك…..
“لا ياعاصم….بلاش…..هاخد اي موصلة المكان
قريب مش بعيد……”
ناداها عاصم بجدية…… “شـهـد…..”
قالت بتصميم….
“عشان محدش يتكلم شكلها مش حلو…….”
اقترح برحابة صدر……
“مش هندخل الشارع هخلي حكيم ينزلك قبلي بشوية……..”
غمغمت بتردد….. “عاصم……”
اصر عاصم بصلابة…..
“اسمعي الكلام روح يا يزن……انا جاي وراك….”
نظر لهما يزن بصمت….فأشر عاصم عليه
بتعريف…
“يزن ابن عمي….يعتبر ابني انا اللي مربية…..”
رحبت شهد به بنظرة باردة…..
“اتعرفت عليه قبل ما ادخلك….أهلا مرة تانيه يا يزن…….”
انتظر يزن تعريف عاصم عليها لكنه لم يفعل فقال
هو ببرود….. “مش هتعرفني عليها……”
تولت شهد الرد ببرود……
“مانا قولتلك اني معرفة قديمة…ليه مش مصدق…”
انزعج يزن من ردها المبهم والفاقد للمصدقية وكانها
تحدث رضيع……..
بينما استأذنت شهد من عاصم
بهدوء…..
“انا اللي هستناكم برا…….”
عندما خرجت شهد امام ابصارهم سأله
يزن بتجهم… “مين دي ياعاصم ؟…..”
أمتنع عاصم عن الإجابة وهو يخطو بخطواته للخارج…. “بعدين يايزن.. بعدين….. يلا بينا……”
…………………………………………………………….
(يعني اي مش جاية تاني…..هو احنا بنلعب يا كيان…….) قصف صوته عبر سماعة الهاتف بنفاذ صبر…
فبلعت ريقها وارتسم على محياها كرها شديد نابع
من قلبٍ مجروح مفتقر صلاحية العتاب بما رأى…
ومع ذلك حفظت على نبرتها المبهمة قائلة…..
“زي ماقولتلك يا استاذ.. شغلي في مكتب خليل الصواح هيبدأ من بكرة ان شاء الله….”
سالها بنبرة عابسة حانقة…..
(يعني إيه…. مش هتيجي المكتب تاني…..)
سحبت نفساً مرتجفاً مجيبة بعدها…..
“القرار دا انا مبلغاك بيه من شهر فات….. واظن اني صبرت الفترة اللي فاتت دي كلها منتظرة حد يحل مكاني…..”
اخبرها بتلقائية خشنة
غاضبة……
(مين اللي يقدر يحل مكانك…….)
خفق قلبها بشدة فذاب الكلام على لسانها
وتسمرت للحظات من هول جمال الجملة
الكاذبة !….
أوضح هو متابعاً بتجهم عبر الهاتف…..
(شغلك في المكتب مهم….. انتي كده بتعجزيني….. والقضايا اللي ماسكنها….انا مش عارف انتي بتفكري إزاي….)
انحنت زاويتان من شفتيها بحزن وهي تقول
بصوتٍ كئيب…….
“أستاذ سليم احترم قراري لو سمحت…. انا مش هقدر إرجع الشغل تاني……”
سالها سليم بتهكم……
(اي اللي حصل…. اكيد في سبب….. لسه فاضل اسبوع على ما الشهر ينتهي…….)
ليتني قادرة على مصارحتك…. الغريب ان شعورنا
متبادل وتدعي العكس حتى يقع الذنب عليا وحدي
فأكون انا المرأة العقربة الصة التي تاخذ كل ما هو ملكا لغيرها ، وتبقى انت في الزاوية النظيفة رجلا مناضل في حب امرأته !….
هل تعرف عندما يصل لي هذا الشعور انفر منك ومن قلبٍ أحبك….لماذا انت…..حقاً لماذا انت…. هل أهوى عذاب نفسي ؟!…..
شيئين اذا اقترنا معاً تعد معجزة على المرء ونعمة من نعم الرحمن عليه هما الحب و النصيب….
فأنا أحببتك نعم واعترف بها ، لكن ماذا عن
النصيب ؟!… فحتى لا تدنس قدسية حبك في
قلبي سأحتفظ بحبك لعله مع الأيام يزول يوماً
فاشفى وأعود لعهدي أقوى ؟!……
(ساكته ليه يا كيان…….ردي عليا……)
تماسكت وهي تقول بجمود…..
“معنديش حاجة اقولها اكتر من اللي قولته… احنا
بقالنا اكتر من ساعة بنتكلم و بنعيد في نفس الكلام..
وبرضو اجابتي هي هي مغيرتهاش….”
حل الصمت من ناحيته فتوترت داخلين وانتظرت
قليلاً حتى اتى صوته الغاضب منهياً الحديث…
(واضح اني معطلك اوي تمام… براحتك ربنا يوفقك في مكتبك الجديد……)
قبل ان يغلق في وجهها هتفت كيان بصوتٍ
بارد…..
“متنساش تعزمني على الفرح….. سلام…..”
أغلقت الهاتف هي في وجهه شاعره براحة
سادية بعد فعلها……..
لكزتها داليدا في كتفها تزفر بتعجب شديد….
“اووف ياقلبك يا كيان….ازاي قدرتي تتكلمي معاه بكل برود كده….. بعد كل اللي قولتيلي عليه….”
نظرة كيان الى داليدا…وكانوا الاثنين يجلسا على الاريكة في الصالون بشقة سلطان….
فقد اتت كيان للاطمئنان على داليدا بعد معرفتها بكسر كاحلها…..فقالت كيان بسأم…
“كان سهل يعني….بس اعمل إيه….يستاهل اكتر من كده…….انا بكرهه ياداليدا…….”
كانت داليدا ممدة الساقين على الطاولة الاماميه
وتضع اسفلها وسادة ناعمة…….فعقبت بحيرة..
“مش شوية اعترفتي انك بتحبيه…ودلوقتي بتقولي انك بتكرهيه…..انا احترت معاكي……”
لم ترد كيان بل ظلت على صمتها بملامح
واجمه…..فاضافت داليدا بتذكر….
“بس اللي هيجنني….لي قلبك دق لده بذات….انا فاكرة انا كان في واحد اسمه نائل مش ده بتاع القُرص……”
تاففت كيان ساخرة….
“همك على بطنك دايما….اه هو……”
رفعت داليدا كاس العصير على فمها عابسة…..
“ليه محبتهوش….طب والله القرص بتاعته
كانت حلوة..”
زفر كيان مستاءة من تافهة صديقتها….
“اوف ياداليدا هحبُ عشان جبلي دونتس انتي هبلة……اوعي يكون سلطان بيعمل معاكي كده.. ”
سالتها داليدا بتراقب…. “بيعمل إيه……”
قالت كيان ببرود…..
“بيجبلك حاجات حلوة عشان تحبيه…..”
هزت داليدا راسها مندهشة تؤمن على
كلامها بعفوية… “مين قالك !……”
توسعت عينا كيان ذاهلة…..
“انتي هبله….. عيله انتي….هتحبيه عشان بيجبلك شيبسي وشكولاته……”
اكملت داليدا بحرج……”وجيلي كولا…..”
ضحكت كيان وهي تهز رأسها بسأم…..
“هبله انتي…. لا وياريت باين عليكي… مسلوعه….”
رقصة داليدا حاجبها بأسلوب
كياد….
“مسلوعه آه….. بس كلِ امكانيات……”
انفجرت كيان في الضحك وهي تضع يدها على بطنها……. “آه ياسافلة….يابتاعت الإمكانيّات… ”
اصيبت داليدا بعدوى الضحك فضحكت معها بقوة حتى قلت الضحكات بينهما بتدريج فقالت بود…
“ايوا كده اضحكي…….”
ثم اطرقت براسها وهي ترتشف من كوب العصير بتلذذ……مضيفة بحنو…..
“هو سلطان علطول بيعاملني بطريقه دي….من وانا صغيره لما يزعلني ويحب يصالحني بيجبلي حاجة
حلوة او يعملي حاجة بحبها….هو مش بيعرف
يعبر أوي عن اللي جواه…..”
هللت كيان بيداها بمكر….
“الله…..الله….ودا من امتى بقا…..”
توردت وجنتي داليدا… “هو اي اللي من امتى……”
بغمزة شقية سالتها كيان بمرح…….
“من امتى اشتغلتي محلله نفسية لسي سلطان…”
قالت داليدا بثقة…..
“من زمان انا عارفه سلطن……”
رفعت كيان حاجباها…..
“سلطن ؟!…انتي كده بدلعيه……”
قالت بشفتين ممطوطتين….
“الله بقا هو انتي وهو عليا……طب والله سلطن
أحلى من سلطان….”
هزت كيان كتفيها بفتور…..
“جايز دي مسائل عائلية مليش دعوة بيها….”
حاصرتها داليدا بسؤال
مجدداً……
“مردتيش برضو ليه هو……”
قالت كيان بنبرة مصبوغة بالوجع والخزي…..
“لو عندي اجابة هرد….. انا خدت قراري خلاص هبعد
عنه وربنا يوفقه مع خطيبته اللي كلها كام يوم وتبقا
مراته…. وربنا انا كمان يوفقني في حياتي الجايه…”
اومات داليدا براسها بتفهم…..
“انتي قولتيلي انك هتشتغلي في المكتب ده مع
نائل صح……..”
اكدت كيان بابتسامة ظفر…..
“ايوا… دا طاير من الفرحة…. مش مصدق اني هبقا معاه في نفس المكتب….. كمان يارا صاحبتي اللي
حكتلك عنها هتبقا معانا….شغاله في نفس
المكتب…… ”
ابتسمت داليدا لأجل فرحتها….فقالت كيان
بوهن…..
“انا مبسوطة اني هكون مع صحابي.. وهبعد عن ضغط الأعصاب ده…… انا لحد دلوقتي مش قادرة
انسى القرف اللي شوفته…..”
علقت داليدا بجفاء…..
“هوني على نفسك… لما يتجوزها هيعمل معاها اكتر من كده……”
رمقتها كيان بحنق بالغ…..
“وانتي كده بتريحي قلبي يعني……”
هزت داليدا راسها بجمود….
“لا انا كده بوعيكي…. فكري في حياتك وانسيه…”
سالتها كيان ببرود….. “انتي نسيتي عادل……”
جفلت داليدا بصدمة وبهت وجهها وهي تعقب بمرارة……
“علطول كنتي بتلوميني وتغلطيني في حبي ليه..
اي اللي خلاكي تساليني السؤال ده….”
ابعدت كيان وجهها عنها نادمة….
“عشان بقيت زيك دلوقتي محتاجة حد يغلطني ويلومني…….”
مسكت داليدا يد صديقتها تمدها بالقوة والأمل
التي افتقدتهما بعد زواجها غصباً……
“انتي مش زيي ياكيان انتي لسه عندك فرصة.. تختاري حد أحسن منه… قريب من سنك..
يفهمك وتفهميه يحبك وتحبيه…..لكن انا…”
سحبت داليدا كفها ومسحت دمعة خائنة
فارة من عيناها…مغيرة مجرى الحديث
“أنسي……قوليلي هتروحي فعلاً فرحة لو عزمك…”
رفضت كيان بشدة…. “لا طبعاً مش هقدر……”
قالت داليدا بقوة جبارة…..
“ليه لا…. لازم تعملي كده وتبصي في عينه بالقوي كمان… لازم تثبتي ليه انه مش فارق معاكي…..”
غامت عينا كيان وقالت بنبرة تقطر قهراً….
“بس هو فارق معايا ياداليدا…وصعب اعمل كده.. انتي بتحكمي على الصورة من برا لكن لو انتي
اللي جواها مش هتقدري تحكمي…….”
لوت داليدا شفتيها بالامبالاة….
“أشوف سلطان بيتجوز يعني… يااختي بركة اللي خدته الهانم تاخده مسحت السلالم……”
إبتسمت كيان بمرح زائف…..
“طول عمرك لسانك متبري منك…..قوليلي بقا
وقعتي ازاي……”
ضحكت داليدا بهزل…..
“هو على رأي سلطان… من اعملكم سلط عليكم..”
انعقد حاجبي كيان معقبة….
“إزاي يعني هو انتي قصده تكسري نفسك…”
قالت داليدا بنفي وهي تقص عليها ما
حدث….”لا مش كده…. هحكيلك…..
…………………………………………………………
كلما نظر الى ملفات القضايا يتشتت عقله….وكلما وقعت عيناه على سطور الاورق ينسى ابجدية
الكلمات……
ترك القلم الذهبي الخاص به على سطح المكتب بعصبية وسحب نفساً عميقا متهدجٍ كاد ان يقتلع ازرار قميصه……ثم فرق مابين عيناه باصابعه بآرق
رحلت !…
لم تعد تغرد بمرح ، وتزقزق بأزعاج…..وتحوم
حوله بجمالا مشع بالبراءة التي افتقد أثرها
في هذا العالم….
أين ذهبت عصفورة الكناري الصغيرة….. كانت في العَشَّ كان يحكم غلقه عليها ، كان العَشَّ ذهبياً باهظٍ
ألوانه زاهية تغري العين ، وقد حسدها كل من رآها بين قضبانه ؟!…
لم يصدق انها استغلت أول فرصة اتتها ورحلت من
مكتبه هو…. رافضة العمل معه ، الفرصة التي يتمناها
الكثير ولا ينالوها ولو بعد الأف المحاولات….
تاتي هي ببساطه وتضرب كبرياؤه عرض الحائط
مصرحة بكل صفاقة انها ستذهب للعمل مع غيره
جوار حبيب القلب…….
زفر بغضب يحدث نفسه بمنتهى التجهم…..
“تروح تشتغل مع اللي يعجبها… انا مالي بيها… الموضوع انتهى خلاص…..”
هل فعلاً الأمر انتهى بينهما هنا.. وان انتهى لما كل
هذا العصبية المبالغ بها ، لما التشتت والحزن على عدم رؤيتها كل صباح كما تعود…….
إرجع راسه للخلف وسند على ظهر المقعد وهو ينفث في سجارته بحدة والدماء تغلي بعروقة وراسه قارب على الانفجار…..
سيحظى نائل بقربها حوله ضحكتها الرائعة ثرثرتها الذيذة وخفة ظلها المنكهة بروح الأطفال…سينظر نائل لفيروزيتاها المضيئتين بألق الشقاوة كل
صباح !….
كل صباح ؟!..
كل صباح ؟!..
كل صباح معه هو ، يضحكا ويثرثرا وهو… هو
هنا كمن يحترق على صفيح ساخن… اللعنة….
أنبثق صوتٍ معارضاً داخله….
(هل نسيت انت أيضا ان بعد أيام قليلة ستستيقظ
من أحضان زوجتك صباحا ، بعد قضاء لليلة
حميمية طويلة معها…..)
(كن عادلًا يا سليم واعترف انك تلعب بمشاعرها وتظلم ايتن أيضاً معك……)
(ادخلتها الى دائرتك ، وخرجت هي منها الان
بأعجوبة… فأتركها تحيا مع من يقدر قلبها…
فهي تستحق الأفضل..)
عارض هذا الصوت اللعين وهو يهمس داخليا
مهلوساً….
«انها ملكا لي»
(لن تمتلك امراتين….كيف هو شعورك بينهن….)
شرد وهو يقارنهن وهو تحت تأثير الهلوسة
فهو يحيا حربٍ ضارية بينه وبين ضميرة…….
«ايتن المرأة التي يتمناها اي رجل انوثه طاغية
فتنة متحركة صاحبة الاصل والنسب الرفيع
العروس التي يتمناها اي رجلا ذي مستوى..»
توهجت عيناه بومضٍ خاصة للعصفورة
الهاربة……
«لكن (كيان) هي العصفورة الجميلة التي لا غنى عنها
انها بهجة الحياة… زهرةٍ ربيعية مزدهرة…انها الدفء
والحب الذي احتاجه……»
«لكن في النهاية تبقى في عيني مثل الكأس المحرم الذي أريد تذوقه…. ملامسته ، الغوص بالذاته…..»
«انها امرأة بروح طفلة… أمرأه ظمأنة الى الحب وتريد من يروي عطشها وانا هنا……وهي هناك…..»
«كلها اشياء تستفز رجولتي…جمالها…حديثها.. نظراتها.. اوجاعها.. ودموعها.. انهزامها.. وقوتها
واحتياجها ، كلها أشياء تحولني لشخصٍ..»
«خائن ، وغير متزن ؟!….»
«لأول مرة أرى نفسي بتلك الصورة لكن ماذا علي ان أفعل…..ليس بيدي كان علي ان أختار ،لكن يبدو انها
وضعت النهاية الحتمية بيننا وانتهى الأمر…..»
«وعلي الآن انا اخمد نيران أفكاري..واصمت واكتفي بهذا القدر واعود الى رُشدِ والى من أحببتها في البداية فهي لا تستحق كل هذا التخاذل !….»
أغمض عيناه بتعب محاولاً الهروب من صوت ضميرة
من وجع قلبه ، من حسابات عقله ، من احساسه
بالذنب……
فهو لم يظلم الإثنين فقط بل ظلم نفسه معهن….
…………………………………………………………….
انفجرت كيان في الضحك وهي تضع يدها على بطنها
بعدم تصديق بعد ان قصت داليدا عليها أحداث هذا
اليوم الذي انتهى بالتواء كاحلها وجبرة……
“انتي فظيعة…..بجد انا مش فاهمه هو صبر عليكي
إزاي……”
بادلتها داليدا الضحك فقالت كيان بغمزة ماكرة….”شكله بيحبك……”
تحولت ضحكات داليدا لسخرية مريرة….
“اه بيحبني أوي….بقولك بعد ما تجبست دخل عليا يضحك وبيقول من اعملكم سلط عليكم…امال لو بيكرهني هيقولي إيه……”
ارتفع حاجبي كيان بتعجب….
“مكنش باين خالص انه خايف عليكي…..”
بشفتين ممطوطتين
قالت…..
“أبداً كانه ما صدق…….”
تبسمت كيان برفق مصرحة……
“بس والله غلبان….انتي بتقولي انه علطول معاكي
واخته وامه مش بيسبوكي……”
تنهدت داليدا بعمق شاردة…..
“فعلاً اليومين اللي فاتوا دول عرفت قد إيه انا غالية عندهم…..دول عملوا اللي اهلي معملهوش عشاني…”
ربتت كيان على كتف صديقتها تواسيها…..
“هوني على نفسك ياداليدا معذورين لسه واخدين
على خاطرهم منك……”
نظرة لها داليدا بحزن ، فهتفت كيان مقترحة بفيروزيتين مضيئيتان…….
“أقولك كلمي سلطان واتفقي معاه على عزومة لأهلك هنا….. بعد ما تفكي الجبس يعني يمكن لم تشوفوا بعض وتتكلموا النفوس تتراضى…. اي رأيك…”
اسبلت داليدا اهدابها مفكرة بحسرة……
“وافرضي رفضوا…ومرضاش حد فيهم يجي خصوصاً بابا دا بقا بيكرهني أوي……”
هزت كيان راسها قائلة….
“معتقدش ان ابوكي وحش أوي كده….من كلامك عنه وعن مواقفة وتصرفاته معاكي بتاكد انه اب
حنين لكن شديد شويه في التعامل معاكي…وده
مش غلط….انتي كمان مش ملاك ياداليدا….انتي طايشة ومتهوره ومش بتسمعي لكلام حد….”
لمعة عينا داليدا بدموع…..
“بس الفترة اللي فاتت كان قاسي عليا أوي….دا غلب
ابوكي في القسوة والجبروت……”
ارتفع حاجب كيان بصدمة متشدقة
بسخرية….
“غلب عثمان الدسوقي !!……ياشيخة اتقي الله
مفيش حد يتقارن بعثمان……دا القسوة والجبروت
بنفسهم اتظلمه قصاده……”
ثم اخرجت ضحكة خالية من المرح
متابعة….
“انتي بس اللي عضمك طري….عشتي طول عمرك برنسيس… دلوعة العيلة ولما زعلوا منك وبعدوا
عنك شوية حسيتي انك مضطهده منهم……”
نظرة لها داليدا معتذرة…..
“شكلي قلبت عليكي المواجع……”
قالت كيان بنفيا……
“مش بظبط……انا بس عيزاكي تواجهي مشاكلك وتعترفي بغلطك قدامهم…..لو اعترافتي بغلطك
أكيد هيسمحوكي……”
شع التمرد من سوداويتين عيناها فقالت…..
“ومين قالك اني غلطانه….هما اللي غلطانين يا كيان
غصبوا عليا وخلوني اخد واحد مش بحبه بحجة انه
بيستر عليا….يستر عليا من أيه ان صاغ سليم…”
لوت كيان شفتيها مستاءة من غباء صديقتها…
وحدثتها بقسوة لعلها تعود لرشدها…..
“صح…….سلطان لحق جسمك وشرفك….بس قلبك
وعقلك عليه العوض ومنه العوض….لسه موجودين
في شقة الحشاش ده….مش كده…”
صاحت داليدا بحمائية…..
“مش حشاش ياكيان….هو بطل القرف ده…. ”
“وانتي عرفتي منين بقا انه بطل……”
لم يكن هذا صوت او سؤال كيان أبداً…بل كان صوتٍ
رجولي جهوري قصف من خلفهما فجأه فجعل كلتاهما ينتفضان في جلستهما…….
وجعل داليدا تنظر اليه بتخوف….وقد تجمدت الدماء
في عروقها فور رؤيته هكذآ….
فكانها ترى عزرائيلا وبالفعل كان أبشع مما تتخيل
عليه قابض الأروح….قد أسود وجهه فجأه واحتدت
ملامحه وعيناه في النظر مريعتين مشتعلتين كجمار اللهب تتقافز…. وقد جاشت مراجلة بالغضب الأسود وتناثرت من حوله مسببه رعبٍ دب في اوصالها
فانكمشت بخوف تلعن لسانها وعدم انتبها لدخولة
من باب الشقة للتو….
كرر السؤال بصوتٍ قوي مهيباً بد كقذيفة نارية
قصفت في احشاؤها فمزقتها إرباً…….
“انطقي عرفتي منين انه بطل…..”
بلعت داليدا ريقها بصعوبة ورفعت عيناها عليه
بتردد
تردد أصابه في مقتله… فجعل قلبه يهوى أرضا
بضعف ، فقد تحققت مخاوفة الآن مسببه أبشع
انواع الألم التي ممكن ان يحياها رجلاً في نفس
موقفه الحساس ؟!……
……………………………………………………………..
وجد نفسه امام فيلا( الشهاوي) حيث المنزل الفخم
الانيق التي تقطن به ايتن…….
أغمض عيناه بتعب وهو يغلق مقود السيارة ويترجل منها بملامح واجمه ونفساً مثقلة بالكثير من التعب والهموم…..
اتى اليها حتى يجد ملاذه بين ذراعيها كما كانت دوماً
له ، اتى حتي يكفر عن أخطاؤه في حقها…اتى كي يجدد الحب والود ويعتذر عن كل لحظة خانها باحساسه ومشاعره بنظراته وهمساته السرية…….
دلف الى الفيلا بعد ان سمحت له الخادمة وبعد دقائق ارشدته بالصعود لها في أحد الطوابق
الخاصة بممارسة الرياضة والمساچ….وهذا بعد
ان اخذت الأذن من ايتن التي تنتظره في أحد
الغرف……
صعد على الدرج وعيناه تدور في أركان الفيلا الانيقة
والتي تحمل طابع عصري في كل الزوايا بها…
أخرج تنهيدة حانقة جزء من هذه العصرية باهظة الثمن والمبالغ بها تم تطبيقها في شقتهما الجديدة على يد ايتن…..التي أثرت ان تصنع من شقتهما متحف فخم مرموق…. من كثرة غلاء الفرش
تخشى الجلوس عليه !….
إحساس غريب انتابه بعد إنتهاء فرش الشقة منذ أيام…بأنها غير مريحة ويشعر داخلها بالاختناق !…
كيف سيبدأ من خلالها حياة زوجية سعيدة…وهو
يشعر بعد الراحة داخلها…..
عاشق هو للبساطه وينتمي لكل شيء يعبر عنها……وعاشقة هي للثراء والنزاهة الفارغة……
فكيف سيصد فجوة الاختلاف بينهما..مزال يكابر
معتقد انه قادر على ردعها وتأقلمها على طباعة
وهي كذلك الأمر….والاثنين يحاربا على أرض
بور ؟!….
عندما فتح الباب كما ارشدته الخادمة وجدها مسطحه على بطنها بقلب الفراش الصغير شبه عارية تغطي جسدها بالشرشف وتعري جزءاً من ظهرها……
الصدمة لم تكن هنا بل بمن يقف جوارها يدلك ظهره
بيداه الإثنين وهي تتأوه بتعب هامسة له بأحد الكلمات الإنجليزية…….
مشهد جعل الدماء تغلي في عروقه وجعل النفور يتناثر على محياه وعيناه كانت متقدتين باللهب
الحارق……..صاح بعصبية…..
“اايتن……”
مطت شفتيها ببرود عالمة ما أزعجه… لتهمس لهذا العامل بالإنجليزية كي ينصرف.. فلبى طلبها مغادراً
نهضت من مكانها تلتف بمئزرا حريري…. ثم تقدمت
منه وهي تشعل سجارتها ببرود قائلة…..
“بتزعق كده ليه……. اي أول مرة تشوفني بعمل مساچ…….”
احتدت نظراته ككلماته…….
“من امتى بتخلي واحد هو اللي يعملك مساچ…”
ابتسمت بتشفي لرؤيته يغار …..
“تغيير يابيبي….. الستات ايدها تقيله اوي… ام الرجالة ايدهم خفيفه……”
صك سليم على اسنانه والغضب يتطاير من
عيناه…
“انتي بتستفزيني صح…….واي القرف ده… ” سحب
السجارة من فمها والقاها ارضاً بعصبية……
كشرت عن انيابها بغضب……
“سليم انت اتجننت…اي الأسلوب الهمجي ده…”
بنظرة ساحقة قال…..
“اسلوبي انا اللي همجي والقرف اللي بتعمليه
ده يتسمى إيه ياهانم…..”
“قرف؟!…..” اتسعت عيناها مرددة الكلمة بزهول
ولم تلبث إلا وضحكة بميوعة…….
“من امتى الكلام ده…. هي دي تصرفاتي من أول
يوم شوفتني فيه.. ومع ذلك عمرك ما علقت عليها…”
رد هاكما بصلابة….
“تقدري تقولي كنت اعمى وفتحت……”
مطت شفتيها ساخرة وهي تبتعد عنه توليه
ظهرها…..
“جديد الكلام ده…..بس واي نوت…. انا كده ياسليم هي دي حياتي ولازم تأقلم نفسك على كده…..”
صاح بانفعال خلفها….. “وان رفضت…..”
استدارت اليه بدهشة حقيقية…..
“مش معقول هتسبني بعد كل حاجة حصلت بينا…”
رد بنبرة خالية من المعالم…….
“وانا عمري ما جه في بالي اني اسيبك.. بس انتي اللي بضطريني لده…..ياتتغيري عشاني…. يا بلاش جواز من أصله…….”
ارتفع حاجبها بصدمة واشتعلت نيران الغيرة بصدرها فقالت بسخط….
“هتسبني عشانها مش كده… جاي تعمل اي حجة عشان تسبني… لا برافو يابيبي…..طب ماتقولي
إنك زهقت وعايز تغير…..كنت هوفر عليك…”
قطع سليم المسافة بينهم هاتفاً بحدة…..
“انتي اتجننتي انتي شربه ايه بظبط… مين دي
اللي هسيبك عشانها…..”
صاحت ايتن بغل وهي تدفعه في صدره….
“الزفته بتاعتك…..المقرفة اللي انت بتخوني معاها..
انا ايتن الشهاوي تخوني مع حتة جربوعة زي
دي…..”
فارة الدماء في اوردته وهو يسمع هذا الكلام
عنها مما جعله يغضب بحمائية……
“اخرسي يا ايتن متكلميش عنها كده….مفيش حاجة
بيني وبين كيان…..”
اتسعت عيناها بعدائية مريبة…..
“اوميجاد……كل ده ومفيش حاجة بينكم….انت نطقت إسمها ياسليم……ليه واثق اوي ان هي اللي اقصدها بكلامي….مش يمكن حد تاني……”
بلع ريقه وكانه وقع في شر بلية…..غامت عينا ايتن بالحزن وهتفت وهي تشير على نفسها بحرقة….
“بتخوني يا سليم بعد كل الحب اللي بينا….مش مصدقه…مش مصدقة بجد…….”
هتف سليم بنبرة غلبها الإعتذار…..
“انا عمري ماخونتك…..يمكن اتشديت لكيان لكن
عمري ماخونتك…….”
صاحت ايتن بوقاحة ونظرة عيناها الجريئة إليه
تقتل اي شعور بذنب نحوها……
“الخيانة مش بس علاقة جنسية يامتر….انت خونتني….خونتني بقلبك وبمشاعرك…..مش
شرط تنام معاها عشان تثبت خيانتك…”
لوت شفتيها بغل وهي تضيف بسفاهات…
“مع إنك لو كنت عرضت عليها كانت وافقت…
حقيرة ورخصية……..”
من جديد شعور بالغضب يندفع في دماؤه
كلما افترت عليها بالكلمات المشينة…..
“كفاية يا ايتن…كيان مش كده….كيان بنت محترمة
ومؤدبة….واحنا عمرنا مافكرنا كده……”
صرخت ايتن بجنون……
“قصدك ايه ببنت محترمة….. قصدك إني….”
اوقفها هو أيضاً بصرخة أعلى….. “ايتن……”
صاحت ايتن بعصبية وهي تشعر بامعائها تحترق من كثرة الغيرة والغل…….
“انا فعلاً عرضت عليك نفسي بس لاني بحبك..مش لاني رخيصة زيها….اللي زي دي طمعانه في أسمك
وفلوسك…..وأكيد بتعمل المستحيل عشان توصلك…”
هز سليم راسه مدافعا عنها بصرامة….
“مش صحيح….كيان معملتش حاجة…ايوا حسيت
من ناحيته بحاجات مينفعش احس بيها…كانت مختلفة…مختلفة عنك يا ايتن…ودا اللي خلاني
احس من ناحيته بكل ده……”
ابتسمت ايتن بمرارة وهي تتذوق مرارة
الهزيمة……
“مختلفة….زمان كان الاختلاف ده عجبك…ولا ناسي
انت عملت إيه عشان اوافق نكون سوا…..ناسي ؟!. ”
وضع يداه في جيبه مصراحاً ببرود…..
“قولتلك اني كنت اعمى وفتحت….ويمكن كيان
كانت السبب في اني اشوف الصورة كاملة…..”
سالته برعب بعد تلك الوقفة الهادئة والملامح
الرصينة……”اي صورة !… تقصد إيه ؟!……”
صرح سليم بحزم منهياً الأمر….
“احنا مش هننفع يا ايتن….مش هننفع لبعض…..”
ابتسمت بعصبية مرددة بقساوة…..
“واكتشفت اننا مش هننفع لبعض غير دلوقتي…”
سحب نفساً عميقا يليه صوتٍ في أوج العمق
والهدوء يبدو الان كمن يلقي كلمة شكر قبل
الانصراف……
“من فترة كبيرة….وكنت بصبر نفسي بانك ممكن تتغيري بس للأسف كل مرة احس اني انا اللي بتغير على إيدك… بقبل بحاجات ميقبلهاش راجل في طبعي….. بس لاني كنت بحبك كنت بقبل ده……”
نزلت دموعها متشدقة
بصدمة….
“كنت….كنت ياسليم…….”
اخرج يداه من جيب بنطالة مؤكداً بملامح صخرية كعيناه الان في النظر الى وجهها الباكٍ….
“دا اللي حاسس بي دلوقتي يا ايتن اني كُنت…ماهو
لو مكنتش فوقت من حبك وعلاقتنا دي..مكنش زماني واقف بقولك الكلام ده…….”
كان يجلدها ويجلد نفسه بنفس السياط ربما لانه
لم يتوقع تركها تحت اي ظرف كان، فهو كان يحبها بشدة كان كالمغيب في حبها……
كيف بدا حبها داخله يتلاشى؟!.. حتى الان غير مصدق انه يقف امامها بقوة جبارة منهياً
علاقتهما نهائياً ؟!…
لكن من يخدع….انهما غير مناسبين لبعضهما….ربما
فجوة الاختلافات بينهما وكثرة المشاكل جعلت حبهما يتلاشى مع الوقت…..
حدثها بواقعية كانت مغيبة عنه…..
“احنا مش شبه بعض يا ايتن…..وعمرنا ما هنعرف نعمل عيلة ويبقا بينا أطفال… احنا بين اختلاف السما والأرض لا انا عارف اطلع ليكي ولا انتي عارفة تنزليلي……يبقا كفاية……”
اتسعت عيناها المبللة بدموع…..
“انت اكيد اتجننت الفرح كمان يومين….عايز الناس تقول عليا إيه….انا هبقا مسخرة الكل……انت اكيد اتجننت….. ”
قال سليم بهدوء……
“نبعد دلوقتي احسن ما نبعد وبينا أولاد..انا مش
عايز كده…….عن إذنك…….”
قبل ان يرحل مسكت ذراعه تترجاه….
“سليم…….انت بجد هتسبني….انا بحبك….خلينا
نبدأ من جديد وانا اوعدك هتغير……”
ابعد سليم كفها عنه بحزم قائلاً
بنفور…..
“مش هينفع يا ايتن……كده أحسن.. ”
خرج أمام عيناها الذاهلة ولم تصدق ان القصة انتهت
بهذه السرعة والسهولة وكانها لم تكن…..صرخت كنمر
الجريح وهي تكسر كل شيءٍ توصل إليه يداها…
لاعنه اياه بوحشية…..
“انت ندل. وخاين…..وحيواااااااااااان…… “….
يتبع…
تعليقات
إرسال تعليق