رواية فراشة المقبرة الفصل العشرون والواحد وعشرون والثانى وعشرون بقلم اسماعيل موسي
رواية فراشة المقبرة الفصل العشرون والواحد وعشرون والثانى وعشرون بقلم اسماعيل موسي
#فراشة_المقبرة
20
منذ يومها الأول في الوحدة الصحية، غرقت زهرة في العمل. لم يكن هناك وقت للراحة أو للتردد، فالمرضى كانوا يتوافدون منذ الصباح الباكر، يجلسون على المقاعد الخشبية في الممر، ينتظرون دورهم بصبر راسخ.
أطفال بحمى مرتفعة، رجال بأيدٍ متشققة من العمل في الحقول، نساء يحملن أطفالًا باكين، وكبار في السن يعانون من آلام المفاصل التي لم يفلح معها الزمن ولا العلاجات الشعبية.
كانت زهرة تعمل بلا توقف، تنقل سماعة الطبيب من صدر إلى آخر، تفحص الجروح، تكتب وصفات العلاج، وتتابع الحالات المزمنة التي أهملها الوقت.
لم يكن المكان مجهزًا بكل ما تحتاجه، لكنها تعلمت كيف تصنع الحلول بإمكانات بسيطة، كيف تحول قطعة قطن وضمادة إلى إسعاف فعال، وكيف تجعل من الكلمات دواءً يخفف قلق المرضى.
في إحدى الزوايا، وقف رجل يراقبها بصمت. لم يكن من المرضى، ولم يكن من العاملين في الوحدة الصحية. كان يرتدي ثيابًا بسيطة، لكن حضوره كان واضحًا رغم محاولته البقاء في الظل.
لم تشعر زهرة بنظراته في البداية، فقد كانت منشغلة بطفل يبكي بحرارة بينما تحاول تهدئته قبل أن تحقنه بالمضاد الحيوي. لكن مع مرور الوقت، تسلل إحساس غريب إلى وعيها، إحساس بأن أحدهم يراقبها.
رفعت رأسها فجأة، فالتقت عيناها بعينيه. للحظة، كان هناك شيء في نظرته لم تستطع تفسيره، مزيج من الدهشة والشكوك، وربما شيء آخر أعمق، شيء لم تستطع الإمساك به.
لكن قبل أن تتمكن من قول شيء، أو حتى سؤال إن كان بحاجة إلى مساعدة، استدار الرجل واختفى خارج الوحدة، تاركًا خلفه سؤالًا لم تجد له إجابة.
مرّت أيام قبل أن تراه مجددًا.
كانت زهرة قد نسيت أمره تقريبًا، غارقة في دوامة العمل بين الحالات الطارئة والمرضى الذين يتوافدون بلا توقف.
لكن في ذلك الصباح، حين رفعت عينيها من فوق ملف مريض كانت تدون ملاحظاتها فيه، وجدته واقفًا عند باب الوحدة الصحية.
لم يكن قد دخل بعد،كان يقف هناك، كما في المرة السابقة، يراقب بصمت، كأنه غير متأكد من رغبته في الاقتراب.
لكن هذه المرة، لم تنتظره زهرة. وضعت الملف جانبًا، تقدمت نحوه بثبات، وقفت أمامه وقالت بصوت هادئ، لكنه مباشر:
— "هل تحتاج إلى شيء؟" انت تراقبنى؟
لم يبدُ أنه يحاول إنكار ذلك، ولم يكن صوته يحمل أي تبرير، فقط حقيقة مجردة ألقاها أمامها.
قطبت زهرة حاجبيها قليلاً، متوقعة تفسيرًا. لكنه لم يضف شيئًا، مما جعلها ترد ببرود محسوب:
— "لاحظت ذلك."
ابتسم ابتسامة بالكاد تشكلت على شفتيه، ثم ألقى نظرة سريعة على الوحدة الصحية، كأنه يقيم المكان، قبل أن يعيد نظره إليها.
— "أنتِ لستِ من هنا."
لم يكن سؤالًا، بل ملاحظة.
— "هذا صحيح." أجابت دون أن تعطي تفاصيل.
أومأ الرجل ببطء، كأنه كان يتوقع هذه الإجابة،ثم، بعد لحظة صمت طويلة، قال:
— "لكن وجودكِ هنا... ليس مصادفة."
شعرت زهرة بانقباض غريب في صدرها. كانت كلماته تحمل نغمة غامضة، وكأنه يعلم شيئًا لا تعرفه، أو ربما يحاول أن يدفعها إلى إدراك شيء لم تنتبه له بعد.
حاولت أن تبقي نبرتها متماسكة حين ردّت:
— "تم تعييني هنا، كما يحدث مع الأطباء في كل مكان."
نظر إليها طويلًا، ثم قال بصوت منخفض، لكنه حاد كالنصل:
— "ليس كل الأماكن متشابهة، دكتورة."
قبل أن تتمكن من سؤاله عمّا يعنيه، استدار ومشى ببطء خارج الوحدة
خرج الرجل الذي كان يعمل تحت إمرة علي النزاوي من الوحدة الصحية، يسير بخطوات هادئة على الطريق الترابي الطويل المؤدي إلى خارج القرية.
لم يكن هناك شيء في مظهره يلفت النظر، لا حركة عصبية، ولا نظرة متوترة، فقط هدوء متعمد لرجل اعتاد على إخفاء نواياه جيدًا.
حين ابتعد عن الأنظار، توقف عند إحدى الأشجار الكبيرة عند مدخل القرية، حيث كان ينتظره رجل آخر، أقل صبرًا وأكثر قلقًا.
— "هل تأكدت؟" سأله بصوت خافت، وعيناه تراقبان الطريق خلفه.
— "إنها هي." أجاب الرجل الأول دون تردد.
لم يحتج إلى تفسير إضافي، فالرجل الذي بجانبه فهم فورًا، لم يكن الأمر مجرد مصادفة، ولم يكن مجرد تعيين عشوائي لطبيبة جديدة،هذه الوحدة الصحية لم تكن مجرد مكان، بل قطعة من ماضٍ لم يكن من المفترض أن يعود للحياة.
— "هل أخبرته؟" سأل الرجل القلق.
أدار الرجل الأول رأسه ببطء نحوه، وكأن السؤال نفسه لا يستحق الرد.
— "تعرف القواعد." قال بهدوء. "نراقب، لا نتصرف حتى تأتي الأوامر."
تنفس الرجل القلق باضطراب، مسح على وجهه بيده، ثم نظر مرة أخرى نحو الوحدة الصحية، حيث لا تزال الأضواء مشتعلة داخل الغرف.
— "علي النزاوي لن يعجبه هذا."
لم يرد الرجل الأول فورًا، فقط ألقى نظرة أخيرة نحو المبنى البعيد، ثم استدار ليكمل طريقه.
وصل الرجل منزل على النزاوى الذى كان يجلس خارج داره
كان قد مضى ستة عشر عام او اكثر رغم ذلك بدا بصحه جيده، فالاغاد لا يكبرون
سحب على النزاوى من الشيشه متجاهلا الرجل الذى كان يزحف نحوة
ثم استدار فجأه بعيون لامعه، نظره جعلت الرجل يرتعش
ثم همس هى؟
الاسم مختلف والشكل يا زعيم لكن هناك احتمال كبير ان تكون هى نفسها
_قال محسوب الرفاعى قبل أن يتلقى المعلوم انها هى
محسوب الرفاعى رجل خرف معتوة لو عصرت خصيتيه لاعترف بقتل رئيس الجمهوريه
يا زعيم؟ وبدا الرجل متردد
لا آثار لحروق فى جسدها ولا اى شيء اخر
اطلق على النزاوى دفعه من الدخان تسحبت بين شعيرات شاربه الطويل
جميله؟
جميلة جدا يا زعيم، مثل القمر
برم على النزاوى شاربه، اذا كانت مثل القمر على الشمس ان تزورها فى الوحده الصحيه، ثم صرخ يا ولد جهز الكبرته
جلس على النزاوى داخل العربة شاله الصوف فوق كتفه ثم امسك باللجام ولكز الحصان
مرقت العربه على الطريق المترب بين بيوت القريه الساكنه مثل القبر
والناس يلوحون له وينحنون والأطفال يهربون من طريقه
حينما وصل الوحده الصحيه
صرخ التمرجى يا اهلا بالعمدة، دا احنا زارنا النبى
نزل على النزاوى بجزمته الامعه ودلف داخل الوحده الصحيه
كان معتاد ان يركض نحو الأطباء والممرضه
لكن زهره كانت منشغله فى عملها
صرخ التمرجى فى مريض قريب من مقعد زهره
فز قوم للعمده يا راجل انت
#فراشة_المقبرة
٢١
رفع الرجل رأسه ببطء، نظر إلى العمدة بعيون أنهكها المرض، لكنه لم يتحرك. كأن الأوامر الصاخبة لم تصل إلى أذنيه، أو ربما وصلت لكنه لم يجد في نفسه الرغبة في تنفيذها.
زمّ العمدة شفتيه بضيق، ثم ألقى نظرة جانبية نحو التمرجي، الذي فهم الرسالة فورًا، فاندفع نحو المريض وأمسك بذراعه بخشونة، كأنه ينتزع جذعًا متيبسًا من الأرض.
— "قلت لك قوم، العمدة بنفسه واقف قدامك!"
لكن قبل أن ينهض الرجل، وقبل أن يخطو العمدة خطوة أخرى داخل الوحدة، ارتفع صوت هادئ، ثابت، لكنه حاد كحد السكين:
— سيبه
لم يكن هناك صراخ في نبرة زهرة، ولا غضب. فقط أمر واضح، جاف، لا يقبل النقاش.
التفت العمدة ببطء نحو مصدر الصوت.
ورآها.
كانت تقف بثبات، بملابسها الطبية البيضاء، يدها ما زالت ممسكة بالسماعة التي تدلّت من عنقها، وشعرها مشدود في عقدة خلف رأسها، لم يكن في مظهرها شيء خارج عن المألوف، لكنها لم تكن مثل الأخريات.
العمدة علي النزاوي كان رجلًا اعتاد أن يرى الخضوع في أعين الناس قبل أن ينطقوا بأي كلمة، لكن في عيني هذه الطبيبة، لم يكن هناك شيء من ذلك.
كانت تنظر إليه مباشرة، دون تردد، دون خوف.
لم يُجِب على الفور، بل أخذ لحظة ليدرسها،راقب الطريقة التي وقفت بها، الطريقة التي لم تنحنِ فيها، لم تتهرب فيها من نظراته.
ثم، وببطء مدروس، ابتسم.
— "الطبيبة الجديدة."
لم يكن سؤالًا، بل تأكيدًا.
أومأت زهرة برأسها دون أن تغير من وقفتها.
رفع العمدة يده إلى شاربه الطويل، مرر أصابعه عليه بتؤدة، ثم قال بصوت متثاقل:
— "نحب نعرف مين اللي بيخدم عندنا
— "الطب لا يفرّق بين الناس." ردّت زهرة ببساطة، ثم أشارت بيدها نحو الرجل الذي كان التمرجي قد أجبره على النهوض. "وهذا المريض هنا قبلك، وعليه أن يُكمل كشفه قبل أي شخص آخر، حتى لو كان العمدة نفسه."
ساد صمت ثقيل للحظات. في الركن، شعر التمرجي بالعرق يبلل قفا عنقه.
الرجال الواقفون في الزاوية تبادلوا نظرات سريعة، نصفهم ينتظر العاصفة، والنصف الآخر ينتظر المعجزة.
أما العمدة، فقد ضاقت عيناه قليلًا، لكنه لم يتحرك.
ثم فجأة، انفجر ضاحكًا.
ضحكة قوية، خشنة، تناثرت في أرجاء الوحدة الصحية كأوراق شجر في مهب ريح مفاجئة.
— "هاهاها! والله حاجة!" قال وهو يهز رأسه، ثم نظر إليها نظرة طويلة، كأنه يزن شيئًا في داخله
ثم صوب عينيه تجاه الرجل المريض، قوم اكشف دا دورك :!
تسمر الرجل فى مكانه لم يتحرك انش واحد، ارتعش جسده وبدا مثل دجاجه اغرقها المطر
قوم، مالك خايف ليه؟ خاطبته زهره بنبره صادقه
قال الرجل بتلعثم انا بقيت كويس مش عايز اكشف
صرخت زهره خايف ليه؟
دا دورك ودور إلى بعدك، محدش هياخد دور اى حد طالما انا هنا
صوب على النزاوى نظره مطوله على وجوه المرضى، نظره صارمه كلها تحذير
ثم، بخطوات بطيئة، استدار ليغادر، لكنه قبل أن يصل إلى الباب، التفت إليها مجددًا وقال:
— "هنشوفك قريب، دكتورة."
ثم خرج، وخلفه خيالات رجاله، تاركًا وراءه ثقلًا غير مرئي استقر في هواء الغرفة.
بداء المرضى يغادرون الوحده الصحيه واحد تلو الآخر
لم يتبقى ولا حتى مريض واحد
الكل رفض ان يتلقى العلاج او ان تعاينه الطبيبه زهره
وقفت زهره فى الشرفه غير مصدقه لما حدث، كانت متأكده انها فعلت الصواب
بعد لحظات قررت أن تحتسى فنجاه قهوة فدلفت تجاه الاستراحه
كان مضى ربع ساعه عندما قدم التمرجى صارخا
يا دكتوره يا دكتوره
الحقى فيه واحد بيموت
تركت زهره فنجان القهوه وركضت على غرفة الكشف
ولم تصدق نفسها، كان المريض نفسه كان عليه الدور الذى رفض ان تعاينه زهره مضرج فى دمائه ينازع الموت
#فراشة_المقبرة
٢٢
عندما دخلت زهرة إلى غرفة الكشف، توقفت أنفاسها لوهلة.
كان الرجل ممددًا على الطاولة الخشبية القديمة، التي لطالما جلست عليها الأمهات بأطفالهن والرجال بأوجاعهم المزمنة، لكنه هذه المرة لم يكن مريضًا ينتظر تشخيصًا.
كان جسده مغطى بالدم، صدره يرتفع وينخفض بصعوبة، كأنه يحاول التشبث بآخر أنفاسه.
وضعت يدها على موضع النزيف في بطنه، حيث انغرس جرح عميق، ربما سكين، ربما شفرة حادة، الدم كان يتسرب من بين أصابعها، ساخنًا، لزجًا، ينذر بنهاية لا مفر منها.
— "من فعل هذا؟" صاحت، وهي تضغط بيدها بقوة، تحاول وقف النزيف، رغم أنها كانت تعلم أن الأمر قد فات أوانه.
لكن لم يجبها أحد، التمرجي واقف عند الباب، جسده متوتر، عيناه تتحركان بقلق بين الرجل المحتضر والطبيبة التي تحاول إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه.
فتح الرجل المصاب عينيه بصعوبة، نظر إلى زهرة كأنها آخر شيء سيراه في هذه الدنيا حاول أن يتحدث، شفتاه ارتجفتا دون أن تخرج الكلمات، ثم أخيرًا، همس بصوت خافت، متقطع:
— "أولادي... يا دكتورة... خلّي بالك منهم..."
شعرت زهرة بجسده يرتجف بين يديها، أنفاسه تتباطأ، عينيه تغيم،كانت قد رأت الموت من قبل، في المستشفيات الكبيرة حيث كانت تتدرب، لكنها لم تره بهذه القسوة، في غرفة ضيقة، على طاولة قذرة، لرجل لم يُسمح له حتى بأن يمرض في سلام.
ثم، في لحظة، سكن جسده تمامًا.
أبعدت يديها ببطء، أناملها ملطخة بالدم الذي بدأ يبرد حدّقت في وجهه للحظة، كأنها لا تصدق أنه مات بهذه السرعة، بهذه السهولة، كأن الحياة نفسها كانت تنتظر لحظة ضعفه لتنتزعه دون رحمة.
استدارت بحدة نحو التمرجي:
— "اتصلوا بالشرطة فورًا!"
لكن التمرجي لم يتحرك فقط خفض رأسه، ولم ينبس بكلمة.
— "قلت اتصلوا بالشرطة!" صرخت، والغضب والذهول يتشابكان في صوتها.
رفع التمرجي عينيه ببطء، نظر إليها كأنه يراها لأول مرة، ثم قال بصوت خفيض:
— "مفيش حد هيبلغ، يا دكتورة."
حدّقت فيه، غير مستوعبة.
— "إيه؟!"
أخذ خطوة للوراء، كأنه يهرب من نظراتها.
— "إحنا هنا... مفيش حاجة اسمها شرطة، مفيش حد بيشتكى
شعرت بقشعريرة باردة تزحف على جسدها، كما لو أن يدًا خفية أحكمت قبضتها على عنقها، نظرت إلى الرجل الميت، ثم إلى التمرجي، ثم إلى الباب الذي بدأ الناس يقفون عنده، يراقبون بصمت، وجوههم خاوية من أي تعبير.
— "يعني إيه؟!" سألت بصوت مرتجف، رغم محاولتها للتماسك.
جاءها الرد من أحد الرجال الواقفين عند الباب، بنبرة هادئة، كأنما يشرح أمرًا بديهيًا:
— "يعني مفيش جريمة حصلت، يا دكتورة."
ابتلعت ريقها.
— "بس الراجل مات قدامي...!"
— "محدش شاف حاجة."
— "لكن—"
قاطعتها امرأة عجوز بصوت متعب:
— "سيبيه في حاله يا دكتورة... وكمّلي شغلك."
شعرت زهرة وكأنها علقت في كابوس، كأنها في عالم موازٍ، حيث الجريمة تُمحى بمجرد أن يرفض الجميع الاعتراف بها. نظرت مرة أخرى إلى الجثة، ثم إلى العيون المتفرجة، وبدأت تدرك الحقيقة.
هنا، الموت ليس مجرد نهاية. الموت هنا رسالة.
جاء الليل ومعه جاء الدفن.
لم تكن هناك جنازة كما يحدث في القرى الأخرى، لم تكن هناك زغاريد النساء الكبيرات وهن يودعن الميت، ولا صفوف الرجال تتقدم في صمت مهيب خلف الجثمان، لم يكن هناك سوى صمت ثقيل، كأنه الغبار الذي يسبق العاصفة.
حُمل الجسد إلى المقبرة على عربة خشبية قديمة، تآكلت أطرافها من الزمن، يجرها حمار هزيل، عيناه معتمتان كأنه يدرك المصير البائس لمن يحمل.
لم يسر خلفه إلا رجلان فقط، أحدهما حفّار القبور العجوز، والآخر ابن عمه، الذي مشى برأس منخفض، وكأنه يخشى أن يراه أحد فيُحسب عليه أنه شارك في الجنازة.
لم يجرؤ أحد من رجال القرية على الحضور.
كانوا يعرفون أن مجرد الوقوف في الجنازة قد يكون بمثابة توقيع على حكم غير مكتوب، وقد تكون العواقب ثقيلة، أثقل من أن يتحملها أي رجل لديه بيت وأولاد.
لكن النساء كن هناك، على بعد خطوات من المقبرة، متشحات بالسواد، يراقبن في صمت، وبعضهن يخفي وجوههن خلف أطراف الأوشحة خوفًا من أن تُرصد دموعهن.
أما زوجته، فكانت مختلفة.
وقفت أمام بيته الطيني، حيث جلست طوال النهار تبكي دون توقف، حتى جفت دموعها وصار صوتها أجشًّا كصوت الرياح التي تهب قبل الشتاء. كانت ممسكة بطفليها الصغيرين، أحدهما لم يتجاوز الثالثة، والآخر رضيع يتشبث بثوبها وكأنه يشعر باليتم قبل أن يفهم معنى الموت.
— "مين هايربّيهم؟!" صاحت فجأة، بصوت كسر الصمت كأنه حجر ألقي في بئر عميقة.
لم يجبها أحد.
— "مين هايربّيهم؟!" صرخت مرة أخرى، ونظرت حولها، تبحث عن أي وجه يمكن أن يعطيها إجابة.
لكن الوجوه كانت مكسورة، مطأطأة، تتجنب النظر إليها.
اقتربت منها امرأة عجوز، وضعت يدها على كتفها في محاولة يائسة لتهدئتها، لكن الأم الشابة دفعت يدها بعيدًا، وصرخت:
— "جُوزي مات! قتلوه قدام عنيكو! وانتو واقفين ساكتين!"
أطبقت أناملها على كتفي طفلها الأكبر، الذي كان ينظر إلى القبور بعينين واسعتين، كأنه لا يفهم ما يحدث، لكنه يشعر أن شيئًا كبيرًا سُلب منه.
— "هتسيبوني لوحدي؟" سألت بصوت خافت، متوسل، كأنها تنتظر أن ينشق أحدهم عن صمته.
لكن الرد كان نفس الصمت نفس الخوف الذي جعل الرجال يختبئون في بيوتهم، والنساء يسرن بسرعة قبل أن يُسألن لماذا وقفن طويلًا.
وفي النهاية، حين انتهى الدفن، وانطفأت الفوانيس القليلة التي كانت تضيء الطريق إلى المقبرة، عادت الزوجة إلى بيتها، وحيدة.
أما القرية، فقد استمرت كأن شيئًا لم يكن. كأن الحياة لم تُنتزع من رجل كان يمشي بينهم قبل يوم واحد فقط كأن الموت هنا لا يُسجَّل، بل يُطوى في العتمة، مثل سر قديم لا يجرؤ أحد على نطقه.
تعليقات
إرسال تعليق