القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي كاملة جميع الفصول مع البرنس محمد السبكي في مدونة موسوعة القصص والروايات

التنقل السريع

    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي كاملة


    وقفت أمام المرآة والابتسامة المُشرقة تعتري وجهها كعادتها، تتأمل ملامحها بإعجابٍ واضح في نظراتها،تعلم أنها على قدرٍ من الجمال وملامح مفعمة بمزيج من الأنوثة والبراءة رغم صغر سنها، عينين عسليتين جميلتين، وجه دائري أبيض وناعم يتوسطه أنف صغير وشفتان ورديتان.. ناهيكٍ عن شعرها البني والذي يتماشى تماما مع لون عينيها الساحرتين..


    زادت من إشراقها حين وضعت أحمر الشفاه الصارخ ببزخ على شفتيها بينما راحت تكحل عينيها فتُصبح جميلة حد الفتنة..

    ألقت نظرة أخيرة على ملابسها بإعجاب والتي كانت عبارة عن بنطال جينز وكنزة وردية اللون لاصقة بجسدها فأبرزت مفاتنها بوضوح! ..


    خرجت من غُرفتها تسير بخطوات مدللة مثلها، وقفت في منتصف الرواق تُراقب غرفته وتنتظر خروجه بفارغ الصبر..


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الأول


    ( مدللته )


    خرجت من غُرفتها تسير بخطوات مدللة مثلها، وقفت في منتصف الرواق تُراقب غرفته وتنتظر خروجه بفارغ الصبر..

    نظرت إلى ساعة معصمها ثم زفرت بغيظ قائلة بحنق:

    - كدا يا يوسف نايم لحد دلوقتي!


    تلفتت حولها في حذر وعبرت المسافة القصيرة بين غرفتها وغرفته في سرعة، ثم طرقت باب الغرفة بهدوء فلم يأتي رد..

    قررت اقتحام الغرفة، فأدارت المقبض وولجت، تعالت دقات قلبها وهي تناظره ببسمة عريضة على شفتيها الناعمتين، اقتربت أكثر وتأملت ملامحه عن قرب بنظرات شغوفة..


    ملامحه تذبذب كيانها وتفقدها صوابها..

    ذاك الوسيم الأسمر ذا البشرة الخشنة صاحب الجسد الضخم والشخصية القوية...

    تعشقه حد الموت، تهيم به ولديها هوس غير طبيعي بشخصه، حُبه وحنانه الجارف معها...

    حاولت استعادة ثباتها قليلًا وهمست بإسمه وهي تدنو منه:


    - يوسف..

    وكررت بصوت أكثر نعومة:

    - يوسف..

    لم يستجيب في البداية، فعادت تكرر بنبرة أعلى:

    -يوووسف..

    هُنا فتح عينيه منزعجًا، وراح يلقي نظرة خاطفة عليها متمتمًا بنعاس:

    - في إيه.. يا روما!؟


    تنهدت " مريم" بعمقٍ وهي تجلس جواره بجراءة معهودة منها.. معه، لتقول بتذمر ودلال في آن:

    - أنت نسيت إن النهاردة أول يوم لي في الجامعة؟ والمفروض إن حضرتك تقوم عشان توصلني!

    تململ في فراشه، ثم تمطع بأريحة قائلًا بابتسامته الرجولية:


    - صباح الفُل الأول.

    بادلته الابتسامة باتساع وقالت:

    - صباح الورد.

    نهض جالسًا على الفراش وفرك عيناه، ثم عاد يتطلع إليها فاتسعت عيناه في غضب جم، بينما يهتف بزمجرة:

    - إيه دا؟!

    سألته مستغربة:

    -إي؟

    نهض عن الفراش بعنف وعيناه قد تحولتا لجمرتان:


    - أنتِ راحة الجامعة بالزفت دا؟ بتستهبلي؟

    انكمشت ملامحها بحدة وهي ترمقه بعتاب؛

    - أنا في أولى جامعة، يعني كبرت مش صغيرة، من حقي أحط الميكب اللي يعجبني وألبس برضوه اللي يعجبني!

    هدر بها بتعنيف:

    - أنتِ مش من حقك أي حاجة، أنتِ ترجعي أوضتك فورًا، تمسحي المهرجان دا اللي في وشك وتغيري لبسك بلبس محتشم عن كدا، ويا كدا يا إما مافيش جامعة، مفهوم ولا لا؟


    نكست رأسها قليلًا وقد أدمعت عيناها في حزن، ثم بكّت في رقة دائمًا ما تُذيب قلبه وتبعثر ثباته، لكنه بقى ثابتا بملامحه الجامدة ولم يتحرك، لم يراضيها كعادته، فيما كرر بنبرة صارمة:

    - سمعتيني قلت إيه؟

    أطاعته واستدارت خارجة من الغرفة وهي تمسح دموعها بظهر كفها، أما هو ذهب إلى الحمام وهو يهمهم غاضبًا:

    - مبقاش ألا أنتِ اللي مطلعتش من البيضة وتقولك حقي ومش حقي! ٱل ميكب ٱل!


    ضحك وهو يغلق باب الحمام خلفه، فتمر نصف ساعة ويُكن بهيئته الجذابة بعد أن ارتدى ملابسه الأنيقة، خرج من غرفته فتقابل مع والدته التي قالت بحنق واضح:

    - المزغودة دي كانت بتعمل عندك إيه؟!

    سار خطواتين للأمام مع قوله الجامد:

    - بتصحيني..

    أخذت تسير خلفه وهي تهتف بغضب:

    - بتصحيك؟ إزاي تسمحلها تصحيك، دي بنت قليلة الأدب أنا لازم أشوف شغلي معاها!

    قال بصوته الأجش في صرامة:

    - شغلك معايا مش معاها يا أمي، مريم ماحدش له دعوة بيها تمام؟!


    وصل إلى مائدة الطعام وجلس ليتناول قهوته التي وِضعت له خصيصا كعادة كل يوم، راحت والدته تجلس قبالته وعيناها تطلقان شرر غاضب وهي تستكمل بحدة:

    - أنا مينفعنيش كلامك دا، دا يمشي على نفسك مش علينا يا يوسف، أنا المسخرة دي ماتحصلش في بيتي..

    صمت يوسف ولم يعقب، إنما أخذ يرتشف من فنجان قهوتهُ في هدوء، بينما أقبل عليهما والده " همام " وراح يهتف بجديته المعتادة:

    - صباح الخير..

    ردت "تهاني" في غيظ:

    - صباح النور..

    قال همام بعد أن جلس يترأس الطاولة:

    - إيه مالك يا تهاني زعلانة ليه؟!

    أجابته حانقة والضيق يطغي على ملامحها:

    - يرضيك اللي بيحصل دا يا همام؟


    سأل متعجبًا:

    - إيه اللي بيحصل يا تهاني؟!

    - بنت أخوك وإبنك مش ناويين يجبوها البر معايا يا همام! تخيل إنها بتدخل عليه وهو نايم رغم إني حذرتها أكتر من مرة متتجاوزش حدودها معاه!

    نظر همام إلى إبنه شزرًا وقال متجهما الملامح:

    - أمك كلامها صح يا بيه! أنت ناسي إن مريم أمانة في رقبتي ولا إيه؟

    تأفف يوسف وقد وهجت ملامحه بصرامة قائلًا:

    - بقولك إي يا بابا أنت عارف إن ماحدش بيخاف على مريم وبيحبها أدي، فياريت بلاش الكلام دا أنا عارف بعمل إيه وبحافظ عليها إزاي، وقولتلك أكتب عليها أنت مش موافق.. براحتك بقى!


    زجرته أمه بشدة:

    - تكتب على مين يا ولد؟ أنت مجنون؟.. دي أصغر منك ب 12 سنة!، ثم إن مش هي دي اللي بتمناها ليك زوجة، دي حتة عيلة لا راحت ولا جات!

    - عجباني يا أمي أنتِ زعلانة ليه!

    تحدث بهدوء استفزها، لتتابع جازة على أسنانها:

    - لا يمكن يحصل أبدًا، أنا أمك ومن حقي إنك تسمع كلامي ولو تم والله لأنا سايبة البيت وماشية من هنا!

    وما إن أتمت جملتها حتى أسرعت إلى غرفتها وهي تهمهم في غضب شديد، تقابلت مع " مريم " على الدرج فحدجتها بشراسة قاسية، فابتسمت الأخيرة بدلال وهي تكمل هبوط الدرج كأن شيء لم يكن..


    اتجهت نحو طاولة الطعام وهي تهتف بصوتها الناعم:

    - أنا جاهزة..

    التفت يوسف يتطلع إليها بابتسامة ارتسمت على شفتيه في رضا، بينما يقول بغزل:

    - أهو كدا، إيه الجمال دا؟!

    فكانت هادئة بملابس أكثر حشمة دون وضع أي مساحيق تجميل فبدت وكأنها طفلة في برائتها ورقتها، ورغم نظراته المعجبة كانت عابسة الملامح لا تنظر له فهي غاضبة الآن.. غاضبة وبشدة. !

    أردف السيد همام في حزم رفيق وهو يُشير لها بيده:


    - إقعدي يا حبيبتي إفطري يلا..

    رفضت وهي تحرك رأسها سلبًا:

    - لا مش هينفع يا عمو، إتأخرت على صحباتي، لازم أمشي..

    ثم نظرت إليه في غضب طفولي قائلة:

    - ممكن لو سمحت تقوم توصلني بقى؟!

    غمز لها بعينه قائلًا بهدوء:

    - مش قبل ما تفطر يا جميل..

    تخضبت وجنتيها بحمرة الخجل وهي تطرق رأسها، بينما قال والده في شدة حازمة:

    - يوووووسف..!

    تنحنح يوسف وهو مازال محدقا بها:

    - سوري يا بابا، أنا عاوزها تفطر بس..

    والده بصرامة:

    - يوسف إتعدل بدل ما أقلب عليك!

    أومأ يوسف برأسه موافقًا ثم قال زافرًا:

    - إتعدلنا أهو..

    همام بجدية:


    - لينا كلام مع بعض، المهم قوم دلوقتي وصل مريم عشان متتأخرش ومش عاوز أي استهبال.. فاهمني طبعا!

    نهض يوسف عن مجلسه وأومأ برأسه مجددًا متابعا بابتسامة عابثة:

    - أنت تؤمر يا باشا..

    والده بعدم ارتياح:

    - متتأخرش، ورانا شغل كتير النهاردة في الشركة..

    هز رأسه إيجابًا وسار خارجا من - فيلتهم العريقة- لتتبعه مريم في سرعة، عبرا الحديقة ليصلا إلى سيارته في الجراج، ركب يوسف أولا وفتح لها الباب كي تدخل، فركبت جواره ومازالت تتصنع الغضب حتى يُراضيها..

    انطلق بالسيارة وهو يرمقها من حين لآخر بنظرات متسلية، بينما هي تبادله النظرات باغتياظ وقد احتقن وجهها من تجاهله وبروده المستفز ذاك..

    ضحك مستمتعًا لرؤيتها غاضبة هكذا، فازدادت غيظًا منه ونهرته بتذمر:


    - بتضحك على إيه.!

    توقفت السيارة فاختل توازنها لتجد نفسها بأرض السيارة على ركبتيها، أما هو فكان مواصلا لضحكاته ثم دنا منها ورفعها مجددًا على المقعد قائلًا من بين ضحكاته:

    - سوري يا روما، قلت أوقف العربية عشان أعرف أصالحك بضمير..

    زفرت بضيق وهي تردد:

    - زعلانة منك أوي..

    - أموت أنا..!

    قالها وهو يميل عليها قليلًا متابعا بنبرة أشعلت مشاعرها:

    - أموت أنا لو زِعل حبيبي...

    ابتسمت كالبلهاء من غزله وراحت تميل عليه هي الأخرى بسعادة.. سعادة لم تذقها إلا معه وقربهُ..

    ابتعد هو وقد ازدرد ريقه قائلًا بتنهيدة حارة:

    - بقول نعدي على أي مطعم عشان تفطري ولا إيه؟

    تذمرت وهي تقول:

    - لا مش عاوزة..

    أردف بصيغة آمرة:

    - لا لازم تفطري..

    لم ترد عليه والتزمت الصمت، فابتسم لها وأدار محرك القيادة وانطلق بسيارته مجددًا، إلى أن وقف أمام مطعم ما ليترجل بصحبتها من السيارة، جلسا معا وطلب لها إفطارًا خاصًا ثم أخذ يتأملها وهي تتناوله بنهم وشهية..


    ضحك قائلًا بمزاح:

    - وأما أنتِ جعانة كدا بتعاندي ليه؟ دماغك ناشفة يا روما..

    رمقته بنظرة غاضبة وهي تواصل تناول الطعام، فاستطرد هو بتنهيدة قوية:

    - زعلانة مني ليه؟

    ابتلعت الطعام الذي بفمها، ثم نظرت له مواصلة:

    - أنت عارف عملت إيه..

    تابع بابتسامتهُ التي تخصها وحدها:

    - عملت إيه يعني؟ زعلانة مني عشان خايف عليكِ؟ مش عاوزك ملفتة للأنظار وكل من هب ودب يبص عليكِ، أبقى أنا كدا غلطان؟

    صمتت مجددًا وهي تتحاشى النظر إليه، فسألها بصرامة:


    - ردي؟ أنا كدا غلطان؟!

    أومأت برأسها سلبًا دون كلام، فقال متصنعا الغضب:

    - بس لو عاوزاني مأتكلمش معاكِ تاني براحتك عادي، ولو عاوزني مأعلقش على لبسك وشكلك عادي برضوه، بس تنسي حاجة إسمها يوسف خالص!


    - لا لا، خلاص أنا هعمل اللي أنت عاوزه يا يوسف بس بليز أوعى تقولي أنساك..

    قالت جملتها بصوت ناعم ودلال كعادتها، فتنهد بحرارة وحاول ضبط أعصابه الثائرة جراء دلالها وبراءتها الشديدين..، ليقول مبتسما:

    - أوك يا رومتي، ممكن تكملي أكلك يلا عشان متأخرش على شغلي..

    نظرت له بشقاوتها المعهودة وعبثت في خصلات شعرها قليلًا وهي تزم شفتاها بدلال، بينما رفع يوسف أحد حاجبيه قائلًا بنبرة ذات مغزى:

    - عاوزة إيه؟

    افتر ثغرها عن ابتسامة وردية ذات تأثير قوي عليه مع قولها:

    - مش عاوزة أروح الكُلية النهاردة، إيه رأيك لو نتفسح؟

    نظر لها بصدمة مستطردا:

    - نعم! من أول يوم يا مريم مش عاوزة تروحي الكلية؟!

    - بليز يا يوسف، عشان خاطري،..

    توسلته بدلالها، فنفى هو بإصرار:


    - لا لا مستحيل أنا كدا هبقى بضرك يا حبيبتي، يوم أجازتي بخرجك المكان اللي أنتِ عاوزاه إنما كدا لا وكمان أنتِ وعدتيني إنك هتاخدي السنة من أولها جد، كفاية إنك عايدة الثانوية العامة يا مريم.

    أومأت برأسها ونهضت تقول:

    - ماشي، أسفة إني بعطلك عن شغلك دايمًا وأسفة إني عدت الثانية العامة أسفة على كل حاجة..

    أنهت جملتها وخرجت متجهة إلى السيارة، فنهض خلفها وهو يكتم ضحكاته بصعوبة، دائمًا ما يشفق عليها ويود توفير الراحة لها بشتى الطرق، حيث أنها فقدت والديها منذ الصِغر وتربت معه وشقيقته ووالديه، ولم تسلم من والدته التي تبغضها بشدها بإعتبارها إبنة من كانت تبغضها أيضًا...

    - أه منك يا مريم، هقول إيه ما أنا اللي دلعتك!


    قالها يوسف وهو يميل عليها ليحكم حزام الأمان عليها وعيناه تحتضن عينيها بدفئ جارف، ثم يهمس بصوت أذابها:

    - ليكِ عندي خروجة حلوة جدا يوم أجازتي، بس دلوقتي عشان خاطري مش هينفع تمام؟

    وفي لحظة أزال غضبها لتبتسم برضى تام وهي تومئ برأسها موافقة على كلامه، لتهمس بعفوية:

    - بحبك..


    اعتدل فورًا على كُرسيه وهو يلملم شتات نفسه الذي تبعثر عقب كلمتها التي أصابت قلبه في الحال، ليقول بصوت خشن:

    - وأنا كمان يا مريم..

    قاد سيارته وهو يتمتم:

    - الصبر يارب..


    - تهاني! لمي الدور وكفاية بقى على البنت..

    هكذا تحدث السيد همام في حزم شديد، لترد عليه بحدة عارمة:

    - البنت دي بتتحداني، نظراتها معايا كلها تحدي، هي عارفة إني مش عاوزاها لإبني ومع ذلك ماسكة فيه، وأنا قلت على جثتي يوسف يتجوزها، أنت ناسي إن دي بنت عدوتي!


    ضرب كفا بكف متعجبا لأسلوبها ليهتف:

    - لا إله إلا الله، أمها وأبوها ماتوا في حادثة وسبوهالك مخضرة، عاوزة إيه وبتتكلمي في إيه يا تهاني!

    تهاني بتهكم شديد:

    - أه ماتت بس سابتلي بلوة زيها وأهي طالعة لها بالظبط...

    همام هاتفا بضيق:

    - إتقي الله يا تهاني دي يتيمة الأب والأم ملهاش حد دا بدل ما تعطفي عليها؟

    تابعت بنفس التهكم:

    - ما كفاية أنت قايد صوابعك العشرة شمع ليها، ولا إبنك المهووس بيها كأن مافيش في الدنيا غيرها!

    همام بصرامة:

    - إبنك بيحبها ولحد الآن مش راضي يتجوزها إلا برضاكِ، فياريت تراجعي نفسك وخليكِ عارفة إن دي بنت أخويا ومش هفرط فيها مهما حصل سامعة!


    وما إن أنهى حديثه برح المكان، ليتركها تنظر إلى الفراغ بحقد جلي..

    لتهمس في وعيد:

    - ماشي يا همام، أنا هعرف أشوف شغلي معاها!


    وصل أمام باب جامعتها وصف سيارته، وما لبثت مريم أن ترجلت من السيارة والابتسامة تملئ شدقيها، ترجل ليهتف بنبرة متلهفة:

    - روما..

    التفتت له بنظرة شغوفة، فقال بحزم رفيق:

    - إلبسي الجاكيت الجو برد..


    أومأت في طاعة وبالفعل أخذت ترتدي معطفها الثقيل، ثم تحركت وهي تلوح له بيدها، فأوقفها مرة أخرى حين هتف:

    - روما..

    نظرت له مجددًا، فأرسل لها قبلة مفاجئة في الهواء، جعلها تتورد خجلًا وتبتسم بنعومة...

    ابتعدت وراحت تسير بخطوات متمهلة، بينما ظل هو يتابعها بعينيه العاشقتين متنهدًا تنهيدًا ممدودًا، ركب سيارته مرة أخرى، فتفاجئ بهاتفه يصدح عاليا معلنا عن اتصال، أجاب بهدوءٍ، فآتاه صوت أنثوي يهمس:

    - جوووو، وحشتني أوووي...


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثاني


    ( اعتذار خاص )


    احتدت ملامح وجهه عُقب سماعه لصوتها الذي يبغضه بشدة، كما احتدت نبرة صوته وهو يرد عليها في جدية تامة:

    - نعم؟ يعني إيه وحشتك؟!

    أجابت نِهال بميوعة:

    - عادي وحشتني.. سوري لو أزعجتك..


    زفر أنفاسه بقوة بينما يردف بثبات:

    - خير يا نهال عاوزة حاجة؟

    تكلمت مرة أخرى بدلال:

    - اتصلت أسلم عليك يا جو لأنك وحشتني كتير.. أسفة مش قصدي، قصدي إني بسلم عليك..

    رد برسمية:

    - شكرا على سؤالك يا نهال، أنتِ اخبارك ايه؟ كويسة وبخير الحمدلله؟

    ابتسمت بهدوء مجيبة عليه:

    - بخير، طالما سمعت صوتك..

    جز على أسنانه بضيق بينما يقول بضجر:

    - ماشي...


    لاحظت نبرته المستاءة فأنجزت في حديثها معه، ثم أنهتهُ وأغلقت الخط وهي تزفر غاضبة من إسلوبه الغليظ معها، راحت تقضم أظافرها بغيظ بينما تهمهم بغضب ناري، ثم أجرت اتصالا عبر هاتفها وهي تهز ساقيها بغير رضى، ما إن آتاها صوت -خالتها- تهاني حتى أردفت بضيق:

    - إزيك يا خالتو..

    - الحمدلله يا حبيبتي، مالك في إيه؟

    أعطتها تقريرًا بما يفعله إبنها معها، إسلوبه الحاد وكلامه المحدود معها، واختتمت جملتها وهي تقول:

    - نفسي أعرف بيعاملني كدا ليه، ومريم فيها إيه زيادة عني!


    لوت الأخيرة فمها بتهكمٍ وقالت:

    - عملي علمك يا نهال، حتة بت مفعوصة لا راحت ولا جات مشقلبة كيانه، ربنا ياخدها عشان أرتاح منها..

    وأمنت نهال على دُعائها حيث قالت:

    - يارب يا خالتو يارب، خالتو ينفع أجي أبات عندكم كام يوم، أنا إستأذنت من ماما ووافقت..

    تهاني وقد رحبت بها بشدة:

    - طبعا يا حياتي تنوري وتشرفي يا قلبي وأهو بالمرة تقربي من يوسف كدا ويمكن تلفتي نظره شوية..

    افتر ثغرها بابتسامة متحمسة وهي تخبرها:

    - هجهز نفسي حالا.. ثانكس خالتو..


    ترجل - يوسف- من سيارته أمام مقر شركة والده -همام- ليعبر الطريق بخطواتٍ متزنة ويصل إلى الداخل ثم إلى المصعد وإلى مكتب والده، ولج بهدوء وألقى عليه سلاما خاصا بمزاحه المعتاد معه؛

    - صباح القشطة يا حاج همام...

    كبح همام غيظه منه وهو يرد عليه بعصبية:

    - كام مرة أقولك بلاش شغل التكاتك دا يا يوسف بيه، في بيه محترم زيك كدا يقول لأبوه يا حاج همام وكمان في مقر عمله؟!


    قهقه يوسف قائلًا بلا مبالاة من بين ضحكاته:

    - وإيه المشكلة ياعم، خليك رويح مش كدا..!

    عض شفته السفلى بينما يتمتم بغضب مصطنع:

    - عم؟.. رويح؟ .. عليه العوض فيك يا إبني!

    يوسف في مرح؛

    - ما هو أنا مبحبش شغل ولاد الزوات دا، اللي هو ميرسي وهالوه وبليز والجو دا بيخنقني، خليك إبن بلد وفريش، كفاية الحاجة عليا مش هتبقى أنت وهي!


    ضحك همام بخفوت وراح يضرب كفا بكف قائلًا:

    - إبن بلد حضرتك يعني..

    يوسف مؤكدًا:

    - بالظبط..

    تنهد همام قائلًا بحزم:

    - طيب، قولي بقى يا سيدي وصلت مريم على طول ولا إتلكعت؟!

    - فوريرة..


    قال كلمته بسرعة وهو ينظر إلى بعض الملفات أمامه فوق سطح المكتب، بينما استطرد همام بنبرة ذات معنى:

    - مريم دي بنت الغالي، أنا عارف إنك بتحبها وعشان كدا مش قلقان طول ما هي تحت عنيك، وعارف طبعا إنك محافظ عليها وحاططها جوا عنيك مش كدا ولا إيييه؟

    يوسف وقد تحدث بعتاب:

    - شامم ريحة تلميحات مش اللي هي، عاوزك تطمن على الأخر وتشد حيلك كدا مع الحاجة أم يوسف وتحاول تقنعها توافق، مع إن أنا ممكن أكتب عليها وأحطها قدام الأمر الواقع أصلا..


    رفض همام بقوله:

    - يعني تكتب من هنا وهي تمشي من هنا والبيت يخرب؟ ما هي كل شوية تهددنا بإنها هتمشي وأنا مش هقدر أستغنى عنها بصراحة برضوه يعني..

    غمز يوسف له وقد ضحك مقهقها:

    - قشطة.. الله يسهلووو، خليني أنا متعذب كدا عشانك أنت والحُب..

    ليقول همام بضحكة خفيفة:

    - إتأدب يا ولد وقوم شوف شغلك كفاية كدا هتضيع لي نفوخي يا إن تهاني...


    يوسف غامزًا:

    - قصدك إبن الحُب...

    - مامااااا وحشتيني أووي..

    أردفت " يُسر" بتلك الكلمات وهي تقبل وجنة والدتها بنعومة ورقة، بينما قالت تهاني بحزم هادئ:

    - وأنتِ كمان يا يُسر، يلا حبيبتي إطلعي غيري هدومك وإجهزي عشان الغدا وكمان نهال جاية تتغدى معانا وهتقعد معانا كام يوم..


    اِفتر ثغرها عن ابتسامة هادئة وهي تقول مُرحبة بذلك:

    - ياه طب كويس دي وحشاني أوي، هو يوسف لسه مجاش من الشغل ولا مريم من الجامعة؟!

    امتعض وجه تهاني ما إن سمعت إسمها الذي تبغضه لترد عليها متهكمة في قولها:

    - لا لسه، يلا من فضلك إطلعي أوضتك بقى..


    استدارت يُسر ذاهبة إلى الدرج وصعدت بهدوء حزين لمعاملة والدتها الحادة أحيانا معها، وصلت إلى غرفتها ودخلت ثم ألقت حقيبتها على فراشها الصغير، ثم راحت تقف أمام المرآة تخلع عنها حجابها الذي تُحبه بشدة والذي ارتدتهُ بعد محاولات عديدة مع والدتها فهي ترى أنها بذاك تخفي جمالها وتنكمش أيضًا على ذاتها..

    لكن يُسر وجدت فيه راحتها النفسية وأصرت على ارتدائه خاصة بتشجيع شقيقها -يوسف- الدائم لها..


    ما إن خلعت عن رأسها الحجاب راحت تُمشط شعرها الحريري لينجرف بنعومة فوق ظهرها، فتبتسم برضى وهي تتأمل ملامحها الهادئة المُريحة... ثم تهمس لنفسها:

    - الخطوة الجاية هتبقى الخِمار، بس يارب ماما مش تقتلني!


    مر نصف اليوم...


    وقفت فاتحة ذراعيها والابتسامة تغزو شفتيها الورديتين بسعادة عارمة تحت حبات المطر التي راحت تساقطت لتوها من السحاب بغزارة، جو رائع تُحبذه هي، رائحة الشتاء تخترق أنفها وهي عاشقةً لها بشدة، قفزت وضحكاتها تعلو بصحبة صديقاتها الجُدد اللاتي تعرفت عليهن اليوم فقط، وشاركوها لحظاتها المجنونة وقد غفلن عن هذا التجمع من الشباب الذين يحدقون فيهن باستمتاعٍ ونظراتهم تتجول بحُرية عليهن..


    صوت فرملة السيارة أوقفتها ويبدو أنها أخافتها ويبدو أيضًا أنها نسّت مجيء يوسف إليها وأنها تنتظره!

    ترجل يوسف من سيارته وقد وهجت عيناه بحدة عارمة وهو يرى ملابسها المبللة التي أظهرت مفاتنها إثر التصاقها بجسدها، بينما صر على أسنانه حين شاهد منظر الشباب المتجمع أمامهن، غير أنه كان يستمع إلى ضحكاتها العالية، عَلمت أنه وصل إلى قمة غضبه من أفعالها الطائشة، بادرت هي وركضت نحوه بعد أن ودعت صديقاتها سريعًا، وصلت إليه وهي ترتجف لا تعلم من شدة البرد أم خوفها منه!


    وبدون أن ينطق استقل السيارة فدخلت خلفه وجلست ثم راحت تنظر إليه بصمت، قاد سيارته وهو يغلق عيناه محاولًا ضبط أعصابه الهائجة جراء ما شاهدهُ منذ قليل، عضت مريم على شفتها وبالكاد خرج صوتها مرتجفًا:

    - يوسف..

    كان حاد للغاية في رده حين أشار لها بكفه قائلًا:

    - ولا كلمة ومتنطقيش إسمي خالص..

    شعرت بحجم خطئها وهو قد حذرها من قبل وألقى عليها التعليمات فهو يعلم جيدًا أنها طائشة وعفوية تفعل ما يخطر ببالها دون اهتمام بمن حولها، لابد من عقاب حتى لا تفعل مرة أخرى!


    وضعت يدها على ساقه وهي تقول باستعطاف:

    - يوسف بليز متزعلش مني، أرجوك يا يوسف أنا آسفة، والله ما كنت أعرف إن فيه شباب بتتفرج علينا أنت عارف إني بحب المطر...

    قاطعها بعصبية مفرطة:

    - شيلي إيدك من عليا..

    رفعت يدها على الفور وقد انتفضت من صوته في مكانها وأصدرت شهقة خافتة، فأكمل يوسف وهو يتابع الطريق بتجهم؛

    - واقفة والناس بتاكلك أكل بعنيها وبتتأسفي؟ هو فيه حد يعمل كدا إلا إذا كان مش متربي؟! بتحبي المطر تقومي تعملي كدا؟ وضحكتك العالية دي برضوه عشان بتحبي المطر ولا قلة أدب؟ اللي حصل دا مش هيعدي بالساهل يا مريم، أنتِ غلطتي واتحملي نتيجة غلطك..!


    انفجرت في بكاءً ناعمًا مائلا للدلالِ، بينما تقول بصوت متحشرج:

    - طيب أنا غلطت وآسفة.. آسفة.. آسفة مش هعمل كدا تاني أوعدك يا يوسف أوعدك يا حبيبي..

    للحظة كاد يضحك بشدة على إسلوبها الذي يروق له ويهون عليه أعظم مشاكله، لكنه لم يفعل وبقيّ متجهما الملامح في حين قال بغضب:

    - أسفك مش مقبول.. مش مقبول أبدًا، مالكيش كلام معايا من اللحظة دي، لمدة شهر على الأقل..

    اتسعت عيناها بصدمة، يُخاصمها شهر! هل جن هذا؟!


    شهرًا كاملًا أيها القاسِ!

    حركت رأسها بعنف رافضة بشدة لما يقول، ثم أردفت بصياح ؛

    - لا مش هتخاصمني يا يوسف أنت فاهم، قلت لك أنا أسفة، أنت إيه يا أخي معندكش رحمة!

    للمرة الثانية كاد يضحك رغما عنه، لكنه حافظ على جموده القاسِ ليقول بصرامة:

    - وطي صوتك دا واحترمي نفسك يا مريم، خلاص أنا قلت شهر عشان تحرمي تعملي كدا تاني..


    انسابت عبراتها وقد هتفت:

    - حرمت والله حرمت..

    حرك رأسه مصرًا على عقابه:

    - شهر يعني شهر!

    صمتت لعدة ثوانِ وكأنها تفكر في شيء ما، وبالفعل هتفت بجنون كعادتها:

    - هموت نفسي، والله هموت نفسي..

    وهو تخيل أنه تهديد ساذج منها فلم يعقب وابتسم متهكما، ليتفاجئ بها تفتح باب السيارة عازمة على القفز منها!


    فصرخ بها وهو يضغط بقدمه على الفرامل ماسكا بها من ذارعها لينقذها على آخر لحظة...

    تلك المجنونة كانت ستفقد حياتها بالفعل، بينما أخذ يوسف يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو يضغط على ذراعها بقوة ألمتها، فما كان منها إلا أن ألقت نفسها داخل أحضانه هامسة بصوت متقطع اثر بكاؤها:

    - أنا أسفة أسفة عشان خاطري أسفة...

    ضمها بنفاد صبر إليه وهو يصر على أسنانه غيظا منها، ماذا يفعل وهو يعشقها أيضًا حد الجنون؟

    سيسامحها مؤكدًا...


    ويُقبل جبينها هكذا... ويمسح على شعرها هكذا !

    لكن لا مانع بأن يُعنفها بقسوة هكذا أيضًا:

    - في حد يعمل كدا؟ إيه شغل الجنان دا؟!

    نظرت إلى عينيه اللتين تأسراناها وهي تهمس بصوت مبحوح:

    - أسفة...

    تلك المرة ضحك ولم يعد قادرًا على كبح الضحكة أكثر من ذلك، ليقول وهو يقرص وجنتها بغيظ:

    - تصدقي كرهتيني في الآسف واللي بيتأسفوا، لو قلتِ الكلمة دي تاني! ... مش عارف أعمل فيكِ إيه! يا آخرة صبري...

    تنفست بارتياح.. فها قد نالت رضاه ويبدو أنه عفى عنها، أخيرًا ضحك حبيبها ونظر إلى عينيها وما أجملها ضحكة ونظرة!


    - مريم بجد لو شفت المنظر اللي شفته النهاردة دا تاني والله والله ساعتها مش هكلمك تاني ومش هيبقى شهر بس دا هيبقى العمر كله!

    أخبرها بجدية شديدة، فاعتدلت وهي توعده بصدق وابتسامة كبيرة رُسمت على ثغرها:

    - والله ما هعمل كدا تاني أبدا، سامحتني بقى؟

    أومأ برأسه إيجابا وهو يقول متنهدًا:

    - مسامحك يا تاعبة قلبي ومدوباني فيكِ، ثم مازحها بقوله:

    - ومبللاني بهدومك! يا مجنونة غرقتيني..


    ضحكت برقة وهي تمسك يده وتحتضنها وتهمس:

    - ما تيجي ننزل نجري تحت المطر..

    نظر لها بتحذير:

    - تاني! جري تاني

    قالت بخوف؛

    - لا ما أنت معايا يعني، خلاص خلاص أسفة

    - مش قلت لك متقوليش أسفة تاني!؟

    - معلش..

    - ولا معلش!

    - حقك عليا..

    - بحبك...

    فاجئها بكلمته الأخيرة فتوردت خجلًا وهي تبتسم بصفاء قائلة بارتباك:

    - أنا جعانة..

    ذُهلت ملامحه وظل محدقا بها قبل أن يهتف ضاحكا وهو يقود سيارته مرة أخرى:

    - الله على رومانسيتك يا روما.. بقولك إيه محرومة من الأكل لمدة شهر!


    بعد مرور الوقت..


    قد وصلا معا إلى الفيلا، ما إن رأتهما يُسر حتى ركضت باشتياق إليهما فهي تعشق شقيقها بشدة كما تعشق مريم أيضًا وتعتبرة أختا لها..

    فتح يوسف ذراعاه لها بابتسامة حانية فعانقها بمحبة أخوية بينما تعلقت بعنفه وهي تقول:

    - وحشتني يا جو

    ابتعدت عنه قليلًا فقال ؛

    - وانتِ كمان يا حبيبتي، أخبار الثانوية العامة إيه يا جميل؟

    أجابته سريعا؛

    - كله تمام، ماتقلقش، ثم التفتت إلى مريم وصافحتها ثم قبلتها بحنانها المعهود قائلة:

    - إيه دا أنتوا مشيتوا تحت المطر ولا إيه..


    أومأت مريم برأسها وهي تنظر إلى يوسف بحذر مع قولها:

    - لا دي حكاية طويلة عريضة هبقى أحكيلك عليها بعد ما أكُل لحسن جعانة مووووت..

    ضحكت يُسر وهي تقول بهمس حذر:

    - النهاردة فيه أحلى غدا، أصل نهال هنااا وماما عاملة وليمة..

    انكمشت ملامح مريم فورًا وهي تقول بغيرة قاتلة:

    - أنا بكره البت دي أووووي..

    وما إن أنهت جملتها حتى آتاها صوت الأخيرة وهي تهتف بحدة شرسة:

    - وأنا كمان بكرهكككك أووووي.


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثالث


    ( السؤال الصادم )


    اشتعلت عيني مريم بنظرة تحدي سافرة وهي تتخصر ناظرة لها من علو، بينما لوت الأخيرة فمها بتهكمٍ وهي تقول بلا تردد:

    - أنتِ قليلة الأدب..

    ولم ترد عليها مريم إنما رد يوسف غاضبا بدلا منها معنفا:

    - إلزمي حدودك ومالكيش دعوة بيها أنتِ فاهمة ولا لا؟


    تلون وجهها حقدًا وهي ترمقه بنظرة شرسة وقد صرت على أسنانها غيظًا، بينما أتت " تهاني " من خلفها وهي تزمجر غاضبة بقولها:

    - إيه يا يوسف ما تيجي تديلها قلمين كدا ميصحش! معقول بتزعقك لبنت خالتك وهي في بيتنا؟ لدرجة دي وصلت بقيت قليل الذوق جدا..


    تنهد يوسف بنفاد صبر وهو يرفع وجهه للأعلى محاولا تهدئة أعصابه، في حين تابعت تهاني وهي ترمق مريم بنظرة ثاقبة:

    - نهال ماغلطتش عشان تكلمها كدا، هي فعلا البتاعة دي قليلة الأدب ومش متربية ومين هيربيها يا عيني؟ ما هي ملهاش أهل تربيها!


    وهنا برقت عيناه بوميض غاضبٍ وراح يهتف بصرامة قاتلة:

    - أمي!.. بلاش الإسلوب دا، مش هسمح حد يهين مريم حتى لو أنتِ!

    توسعت عينيها في ذهولٍ وهي تهدر به:

    - يعني هتعمل إيه؟ هتقف قصادي عشان البنت المفعوصة دي؟ أنت إتجننت.


    لم يرد عليها ثانية وراح يمسح على وجهه زافرًا، بينما انسحبت مريم بصمت تام راكضة إلى الداخل وقد إمتلأت عينيها بالعبرات، ركضت نحو الدرج وصعدت بخطوات عجلة غير متنزنة، أما يوسف فقد قال بجمود:

    - مش كل يوم هتنكدي عليها عشيتها، هي معملتلكيش أي حاجة عشان تعملي كدا، ضيوفك اهلا وسهلا بيهم يا ماما لكن لو حد اتعرض لمريم قسما بالله ما هسكت له، أنا ساكت عشان خاطرك لكن بلاش تضطريني أعمل حاجات تزعلك مني، وبرضوه مش هقف قصادك بس هتزعلي...


    سار مبتعدًا عنها، فراحت تهتف بعينين مشتعلتين غضبا:

    إجري وراها.. إجري... ماشي يا يوسف!

    انصرفت يُسر أيضًا في صمت صاعدة إلى غرفتها، وبقيت هي بصحبة نهال التي أردفت في حنق:

    - شايفة يا أنطي بيعاملني إزاي؟

    لتقول الأخيرة:

    - متزعليش يا حبيبتي، إصبري بس..


    طرق باب غرفتها وهو يقول بنبرة حانية:

    - حبيبي.. إفتحي الباب..

    ثوانِ وكانت تفتح له الباب ثم تتراجع للخلف وهي تجفف عبراتها بظهر يدها، ابتسم وهو يقترب منها مراوغا في قوله الهادئ:

    - في حد بيعيط ويبقى قمر كدا؟! سكر سكر يعني..


    لم تبتسم لغزله كعادتها إنما ازداد بكاؤها وهي تدفن وجهها بين راحتي يديها وقد تعالت شهقاتها، أخذ يهدئها بنبرة حزينة بعض الشيء:

    - ليه كدا يا روما بس، هو يعني أنا سكت؟ مش أنا باخد ليكِ حقك على طول؟.. وبعدين واحدة زي نهال دي متخلكيش تبكي كدا، ولا كأنها موجودة أصلا..

    رفعت وجهها إليه بينما تناظره بحزن حقيقي:

    - مامتك بتكرهني أوي يا يوسف أوي، أنا خلاص مش هقدر أعيش هنا تاني أنا لازم أمشي..


    تخضبت عينيه بحمرة غاضبة، بينما أمسك ذراعها ضاغطا عليه بضيق مع قوله:

    - تمشي تروحي فين؟!.. أنتِ مكانك هنا معايا دا بيتك يا هبلة وبيت عمك وليكِ فيه زيك زي أي حد، إن كان على ماما تجنبيها وخلاص يا روما عشان خاطري..

    تابعت من بين بكاؤها:

    - أنا عايشة عشانك أنت، لو أنت مش موجود في الدنيا كنت موتّ نفسي..

    ضحك بخفوت وهو يحاوط وجهها بكفيه قائلًا بهدوء:

    - حرام تقولي كدا، أنتِ عايشة عشان ربنا رايدلك بكدا وأنعم عليكِ بالحياة فلازم تقولي الحمدلله مش تقولي الكلام دا يا حبيبتي.. أوك؟


    أومأت برأسها وهي تقترب منه واحتضنته بدون تردد أو مؤشر لذلك، احتضنته بقوة وتمرغت به كقطة ناعمة، أغلقت عينيها وهي تنعم بدفئ حضنه مع همسها الذي قضى على ثباته وبعثر كيانهُ في الحال:

    - بموت فيك يا يوسف..

    ازدرد ريقه بصعوبة بالغة ولم يلف ذراعاه فيفقد سيطرته على نفسه، لذا تراجع وهو يبعدها عنه برفق قائلًا بخفوت:

    - وأنا كمان يا روما، يلا يا حبيبتي أسيبك تغيري هدومك بقى وتعالي عشان نتغدى..


    انزعجت من ابتعاده عنها وافساد لحظتها الدافئة معه، هي لا تعي خطورة ما تفعله وتأثيرها القاتل عليه، ترى أنه حبيبها.. حبيبها فحسب.

    وأي كلمات بعد هذه الكلمة لا تهم..

    زفرت أنفاسها بضيق وهي تجلس على طرف فراشها، لتقول بتذمر:

    - مش هتغدى معاهم تحت، خلينا أنا وأنت نتغدى مع بعض هنا لو سمحت يا يوسف..

    يوسف رافضًا بهدوء:

    - لا هتنزلي معايا تحت ونتغدى، أنتِ عارفة إن بابا بيحب يشوفك دايما قاعدة معاه تحت، وأنا كمان مش عاوزك تنعزلي لواحدك، ومتخافيش ماما مش هتكلمك دلوقتي في أي حاجة.. وبعدين أنتِ خايفة وأنا موجود؟ معقولة يعني؟!


    حركت رأسها سلبا وهي تبتسم قائلة؛

    - لأ عمري ما خفت من حاجة وأنت معايا..

    ابتعد متجها خارج الغرفة وهو يقول بغمزة من عينه:

    - هغير وأجيلك سلام مؤقت يا جميل..

    ضحكت برضى وهي تنهض من مكانها متجهة نحو الخزانة لتُبدل ثيابها بسعادة.. لطالما كان هو حبيبها ستكون السعادة نصيبها..


    توجهت يُسر نحو طاولة الطعام وسحبت مقعدها الخاص الذي دائمًا تجلس عليه والذي يقع جوار مقعد والدها همام الذي قال بابتسامة عريضة:

    - أهلا أهلا يا حياتي..

    ابتسمت يُسر في خجل لمغازلة والدها الحنون، لتهمس بهدوء:

    - شكرا يا بابا..

    جلست ولم تستطع التحدث مرة ثانية حيث أتتها عاصفة أمها بقولها المتجهم:

    - إيييه اللي أنتِ لابساه دا يا بنت؟! ليه كدااااا

    يُسر وقد انزوى ما بين حاجبيها بضيق:

    - دا إسدال الصلاة بتاعي يا ماما، في إيه؟


    تأففت تهاني حينما قالت بغضب:

    - وليه تلبسيه دلوقتي، أنتِ بنوتة صغيرة يا حبيبتي مينفعش تخفي نفسك كدا، شوفي نهال عاملة إيه قمر ما شاء الله..

    لم تعقب يُسر على كلامها فهي تعلم أن مجادلتها معها لن تجدي بشيء، بل سترهقها نفسيا وهي بغنى عن ذلك.. فصمتت..

    تكلم همام في جدية حازمة:

    - جرى إيه يا تهاني، ما تسبيها تلبس اللي يريحها دا أنتِ غريبة أوي، مش كدا!


    نهضت بعنف عن مقعدها وقالت بعصبية مفرطة:

    - ماشي يا همام، أنا طالعة أوضتي، بجد أنتوا بقيتوا حاجة تحرق الدم..

    فصاح همام قائلًا:

    - والله ما حد غيرك يحرق الدم يا تهاني، إيه النكد دا ياربي!

    أتى في هذا الحين يوسف بصحبة مريم، وراح يسأل والده بحذر:

    - مالك يا بابا في إيه.؟

    لينهض همام هو الآخر قائلًا بحدة:

    - دي مبقتش عيشة، أنا طالع أتخمد..


    تركهم وصعد بالفعل، فضرب يوسف كفا بكف قائلًا باستغراب:

    - في إيه يا يُسر، مالهم؟!

    قصت يُسر له ما حدث بإيجاز، ليجلس يوسف على مقعده قائلًا بلا مبالاة:

    - أهاااااا، يا ستي كبري دماغك فين الأكل أنا هموت من الجوع وروما جعانة..

    اختتم جملته بغمزة من عينه لها، فقالت يُسر ضاحكة:

    - خلاص أهم بيحضروه في المطبخ..


    كانت نهال تجلس بصحبتهم وعيناها تتوهجان بشراسة قاسية بينما تهز ساقها بعصبية تامة، خاصة وهي ترى ابتسامة مريم الوردية الناتجة عن دلال يوسف لها، وازدادت غضبا حين أردفت مريم متعمدة إغاظتها بقولها الناعم:

    - يوسف، ممكن بعد الغدا تجبلي الشكولاتة بتاعتي، أنت نسيت تجيبها لي النهاردة، ممكن؟


    أومأ يوسف موافقًا وهو يقول:

    - ممكن يا روما، أنت تؤمر يا سكر..

    ضحكت مريم وهي تشكره بدلالها الذي كاد يقتل نهال قتلا ويطيح بها أرضا أو ينسفها بالأحرى..

    وضِعَ الطعام أخيرًا وشرعوا في تناول الطعام، بينما يوسف يطعمها تارة بيده ويطعم شقيقته تارة أخرى بمزاحه وحنانه المعتاد معهما، شعرت نهال أن لا وجود لها بين ثلاثتهم ولهذا انسحبت بهدوء...


    في المساء..


    تناولت مريم قطع الشوكولاتة بفمها، تتذوق مذاقها الرائع وهي تمنحه ابتسامة ناعمة قبل أن تشكره بمحبة:

    - ثانكس يوسف..

    فرد بمرح ضاحكا:

    - لا ثانكس على واجب يا روحي

    قهقهت ضاحكة بصوت ظهر به بحة خفيفة، فأردف يوسف بجدية:

    - شكلك أخدتي برد يا مريم..

    أومأت مريم مؤكدة وهي ترد:

    - أه شكلي كدا فعلا حاسة إني مرهقة وتعبانة


    يوسف وهو يضع يده فوق جبهتها ليرى درجة حرارتها:

    - كله من المطر!.. شوفتي هبلك بيعمل إيه؟ لو تعبتي يا ويلك مني يا مريم يا ويلك..

    مريم بتذمر طفولي:

    - يعني هتعمل إيه فيا؟ وبعدين هتزعلني وأنا تعبانة؟

    هز رأسه إيجابًا وقال بحزم رفيق:

    - أيوة أزعلك عشان تعبانة، عشان أنا مبعرفش أركز في أي حاجة وأنتِ تعبانة يا مدوخاني السبع دوخات..


    صمتت قليلًا وهي تأكل قطع الشوكولاتة بنهم، ليقول يوسف ضاحكا:

    - على مهلك ماحدش بيجري وراكِ..

    مطت شفتيها وهي تقول مترددة:

    - يوسف

    استطرد هائما:

    - عيونه

    قالت في خفوت حذر:

    - ممكن أقولك على حاجة اتكلمنا فيها النهاردة أنا وصحباتي الجداد بس ماتزعقليش؟


    انتبه يوسف لها وقال باهتمام:

    - قولي، خير يا روما؟

    صمتت قليلًا وتورد وجهها بحمرة خجلة، بينما راحت تفرك كفيها في بعضهما في توتر وارتباك شديدين، فتعجب يوسف لأمرها وهو يعقد حاجباه باستغراب ليسألها بهدوء:

    - إيه يا روما؟ في إيه؟

    تنحنحت وهي تعتدل في جلستها قائلة بنبرة خافتة ومتحشرجة:

    - ي يعني كنا.. ب بنتكلم.. ف.. ه.. هما قالولي إن اللي بيحبوهم... آآ


    كان يتابعها بفضول شديد منتظرًا ما ستقوله وقد خمن وعلى وشك التيقن لما ستتفوه به، هو يعرفها جيدًا!

    بالفعل أكدت تخمينه، حين قالت بصوت متقطع:

    - قالولي إن كل المخطوبين بي ب... ليه.. أنت.. مش مش.. مش ب.. بتبوسني!

    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الرابع


    ( انقلب السحر على الساحر )


    اعتلت الصدمة ملامحه، وسيطر الذهول عليه رغم أنه كان متوقع مثل هذا السؤال، لكنه صُدم.. وبشدة!

    ظل محملقًا بها لعدة لحظات، توترت مريم أكثر وأخذت تناظره بقلبٍ واجل، وحينما اقترب منها ركضت مبتعدة وخائفة فملامحه كانت لا تبشر بالخير، ظنت أنها أخطأت خطأ فادح، من الممكن ألا يغفره لها، كيف تفوهت؟.


    ليتها لم تسأله.. ليتها!

    اقترب منها مجددًا، اقترب اقترابًا قاتلًا متمهلًا، اصطدمت بالحائط من خلفها، فحاوطها وقد لفحت أنفاسه بشرتها، شعرت لوهلة أنه سيقبلها، سيقبلها كما سألته وها هو على وشك فعل ذلك!

    أغمضت عينيها بشدة واستسلمت!

    ثوانِ تمرُ وهو قريبا منها للغاية، هي مازلت مغلقة لعينيها حتى سمعته يقول بهدوء:

    - إفتحي عيونك يا مريم وبصي لي!

    فتحت عينيها ببطء، راحت تنظر إليه بقلب خافق، بخجل..خوف.. توتر.. أنفاس متسارعة..


    تحرر من صمته القصير وهو يسألها بهدوء صارم:

    - عاوزاني أبوسك؟

    أغلقت عينيها مجددًا وكادت تموت خجلًا وحرجا، في حين تابع بعصبية:

    - ردي؟

    فحركت رأسها نافية وهي تفتح عينيها مجددًا وتقول بخفوت:

    - لا.. آآ أنا كنت بسألك و.. و بقولك اللي حصل..

    قال وهو يتأمل ملامحها بعينيه:

    - أنا ممكن أبوسك يا مريم، بس عارفة أنتِ هتبقي إيه؟

    صمت قليلًا ثم استطرد بنبرة ذات مغزى:

    - رخيصة!


    رمقته بذهولٍ وهي تفتح فاها ببلاهة، بينما يردد يوسف بصرامة:

    - كل المخطوبين اللي بيعملوا كدا مش محترمين ومش متربيين ومعندهمش أخلاق يا مريم، مش كل حاجة الناس بتقولها او بتعملها تبقى صح، او نقلدهم..

    مريم وقد نظرت إلى الأرض باحراجٍ تام، ثم قالت بهمس خافت:

    - بس أنا مش عاوزة أعمل زيهم، أنا قلت لك اللي هما قالوه، وكنت بسألك كدا عشان أعرف إن ليه مش زي اللي بيحبوهم هما، أنا أسفة..


    أومأ يوسف بتفهم، ثم أخبرها في جدية:

    - بصي يا روما، أنتِ طيبة جدا وفيه حاجات كتير مش فاهماها، أنا عشان بحبك محافظ عليكِ صحيح أنا مش ملتزم أوي بس بحاول أعمل اللي أقدر عليه، الحب مش زي ما صحباتك قالتلك كدا، دا عيب وحرام، أنتِ غالية واللي بتعمل كدا زي ما قلت لك رخيصة، وهي اللي بترخص نفسها بإيديها، وأي واحد في الدنيا مش بتعجبه البنت اللي زيهم هو بس بيقضي معاها وقت حلو وياخد منها اللي هو عاوزه ويسيبها ويشوف غيرها ما هي رخصت نفسها أصلا هيبقى عليها ليه؟ واحدة مش خايفة على نفسها هيخاف هو عليها؟! أكيد لا صح ولا إيه؟


    أومأت برأسها موافقة على ما قال، ثم استطردت بابتسامتها المُحببة له:

    - يعني أنا غالية يا يوسف؟

    أومأ برأسه ضاحكًا بشدة قائلًا من بين ضحكاته:

    - غالية جدا والله، بس عاوزك تركزي شوية وتتصرفي بعقل وحكمة وتنقي البنات النضيفة المؤدبة وتصاحبيها إنما اللي بيتكلموا في الحاجات دي سيبك منهم خالص..


    هزت رأسها بإيجاب وقالت متسائلة في هدوء حزين:

    - طيب أنا مش متربية؟

    رفع حاجبيه بدهشة مرددًا بحزم رفيق؛

    - مين قال كدا؟!

    تابعت مجيبة عليه بضيق؛


    - مامتك هي اللي دايمًا تقول عني كدا، وأنا عارفة إن كلامها صح، عشان أنا من غير أهل على رأيها، يوسف أنا كان نفسي أبقى مؤدبة والله مش بإيدي إني متربتش!

    انفجر ضاحكا بقوة وهو يُحرك رأسه بعدم تصديق لما تقول صغيرته العفوية، بينما زفرت هي بغيظ وهي تدفعه برفق وتقول متذمرة:

    - شوفت، بتضحك عشان دي الحقيقة..

    هدأت ضحكاته ولم يتخلى عن ابتسامته وهو يُخبرها بنبرة حانية:

    - أنتِ مؤدبة ومتربية يا روما، أومال أنا بعمل إيه وبابا؟


    حركت رأسها نافية وتابعت:

    - أنت بتنصحني كتير أعمل الصح بس أنا مش بسمع كلامك ودا دليل على إني مش مؤدبة، غير يُسر اللي على طول بتسمع كلامك وكلام عمو

    جلس إلى جوارها وهو يقول متنهدًا بابتسامة هادئة:

    - روما أنتِ بريئة جدا هو فيه كدا يا ناس؟.. وبعدين أنتِ بتغلبيني أه شوية بس بعد كدا بتسمعي الكلام ومش معنى إنك لمضة تبقي مش مؤدبة يا هبلة..


    انزوى ما بين حاجبيها وهي تهتف بضيق:

    - أنا هبلة؟

    - جدا

    - مخصماك يايوسف


    شاكسها قليلًا إلى أن ضحكا معا وتعالت ضحكاتهما، فتفاجئا بالباب يُفتح مرة واحدة وتدخل والدته بصحبة والده!

    ومعهما " نهال" أيضًا!

    يبدو أن حدث خطب ما! ..

    راحت والدته تهتف بحدة شرسة وهي تلوح بيدها:

    - شايف يا همام! شايف المسخرة! لولا إن نهال جات ونبهتني للي بيحصل كان زمانا نايمين على ودانا وإبنك غرقان هنا مع اللي ما تتسمى دي!


    هب يوسف واقفًا مزمجرًا في غضب ناري:

    - إيه في إيه! جات قالتلك إيه إن شاء الله يا ماما!؟

    اندفعت في قولها لتُخبره بعصبية:

    - أنا نهبت عليك ميت مرة متدخلش أوضتك ولا تقفل عليكم وأخرتها تحصل المسخرة دي! لاااا وألف لا..!


    كاد يوسف يتكلم، فصمت حين أشار له والده بكف يده هاتفا بحزم:

    - قولي اللي سمعتيه يا نهال..

    قالت نهال بلا تردد وعلى وجهها ابتسامة منتصرة:

    - سمعتها بتقول له بوسني يا أنكل، وكلام تاني أتكسف أقوله وأخلاقي متسمحليش..

    يوسف وقد صاح بها:

    - دا على أساس إن عندك أخلاق يا...

    - يووووسف

    قاطعه والده بصراخ حاد، فتوقف يوسف عن كلامه، ليقول بعدها جازا على أسنانه:

    - يا بابا أنت هتصدق الفيلم اللي عاملينه دا؟


    همام بصرامة شديدة:

    - أنت غلطت يا يوسف وأنا حذرتك كتير ودلوقتي هتعمل اللي بقول عليه وبالحرف الواحد فاهم؟

    يوسف وقد تأفف بضجر شديد، بينما راح ينظر إلى مريم التي تتابع بصمت وتقف إلى جواره، هدئها بنظراته.. ألا تخاف!

    تابع والده بصوت أجش صارم:

    - الغلط دا يتصلح، معنديش حل غير إنك هتكتب على مريم تمام؟

    رمش يوسف بعدم تصديق وناظره بصدمة، بينما شهقت تهاني وهي تصيح بانفعال:

    - إيه التخريف دا يا همااام؟!


    همام بهدوء أثار استفزازها:

    - اللي غلط يصلح غلطه يا تهاني، أنتِ مش جيتي تصحيني من النوم أنتِ وبنت أختك عشان أشوف المسخرة بتاعة إبني، أنا بقول بدل ما أطرد بنت أخويا في الشارع زي ما أنتِ عاوزة، الأحسن نخلي المسخرة تبقى رسمي ونفرح وكلنا يا تهاني واللي زعلان بقى يبقى يوريني عرض كتافه عشان أنا زهقت!

    ابتسم يوسف حينها بارتياح شديد وتنفس الصعداء.. أين كنت يا همام؟!

    أخيرًا سينول المراد...


    حركت تهاني رأسها بعدم تصديق وهي تصرخ بغير رضى:

    - لا يا همام مش هتمشي كلامك عليا، دا مش هيحصل أنت فاهم؟!

    صرخ بها بحدة مماثلة:

    - مش فاهم يا تهاني، اللي أنا عاوزه بس هو اللي هيتم وأنتِ اللي لازم تفهمي كداااا

    برح الغرفة ما إن أنهى حديثه القاتل لتهاني التي راحت تضغط أسنانها بغضب شديد، وراحت تخرج من الغرفة تتبعها نهال التي كادت تصيب بسكتة قلبية، حيث أن السحر انقلب على الساحر!


    وباتت خطتها في فشلٍ ذريع! ...

    وكاد يوسف أن يطير من شدة سعادته، رمق حبيبته بنظرات شغوفة قوية وهو يقول برومانسية:

    - مبروك مقدما يا رومتي أنا..

    بينما مريم لا تعلم أتفرح أم تحزن؟..

    ستتزوج ممن تُحب وتخشى..!

    تخشى أن يُفتح عليها بابا لا يُسد.. هل ستتركها تهاني وشأنها لتنعم بالسعادة مع حبيبها؟!

    لا تظن.. لا تظن أبدًا..


    لاحظ يوسف تغيرها فقال بهدوء وقد فهم ما يدور بخاطرها:

    - مريييم متفكريش في أي حاجة ومتخافيش يا حبيبتي طول ما أنا موجود..

    ابتسمت وأومأت برأسها قائلة:

    - مش خايفة يا يوسف، أنا كنت مستنية اللحظة دي من زمان أصلا يا حبيبي

    يوسف مراوغا:

    - مش أكتر مني على فكرة يعني! يا سلام لو بابا يخليها دخلة على طول تبقى حاجة زي الفل بصراحة..


    أخذت تسير تهاني ذهابا وإيابا في غضب شديد، تدور حول نفسها وهي تعض على شفتها بحنق، بينما تهمهم غير راضية على ما فعله زوجها!

    - أه يا ناري أه.. ماشي يا همام ماشي

    بينما تهتف الأخيرة بحقد:

    - اتصرفي يا أنطي، دول هيتجوزا معقولة هتسمحي بكدا؟!

    تهاني وقد رفضت بعنف:

    - لا لا مش هسمح أبدا، أنا ماليش قعاد في البيت دا أبدًا بعد اللي حصل..

    تابعت نهال بنظرة شيطانية:

    - طب ما أنتِ لو مشيتي برضوه هيتجوزا فأنتِ مش لازم تمشي أبدًا يا أنطي، لازم نفكر في حل يفرقهم عن بعض..

    فكرت تهاني في كلماتها السامة ووجدت أنها محقة في قولها ربما تذهب ويتزوجا بالفعل، فعليها ألا تذهب وتبقى لتُفسد علاقتهما أولًا، عليها أن تتخلص من تلك الصغيرة وتسترد إبنها ثم تزوجهُ بمن تستحقه كنهال مثلًا!


    في الصباح..


    أفاق يوسف من نومه بحيوية شديدة، نهض بخفة عن فراشه ثم توجه إلى الحمام واغتسل، أخذ يرتدي ملابسه وهو يحدث نفسه بابتسامة:

    - مريم معقولة نايمة لحد دلوقتي! مجتش ترخم عليا يعني!

    انتهى من ارتداء ثيابه سريعًا وخرج من غرفته متجها إلى غرفتها وطرق الباب..

    مرة وإثنان وثلاثة ولم تفتح بعد!


    شعر بالقلق ففتح الباب برفق وأطل بوجهه ليجدها مازالت نائمة بفراشها، عقد حاجبيه ودخل يهتف بمشاكسة:

    - رومااااا، معقول نايمة لحد دلوقتي، قومي يا كسلانة!

    لم يأتيه رد أيضًا، فاقترب أكثر ونزع الغطاء عن وجهها برفق ليجدها تئن بصوت خافت، بينما وجهها مُتعرق وأنفاسها غير منتظمة، انقلع قلبه بقلق بالغ وهو يضع يده فوق جبينها ففُزع من درجة حرارتها المرتفعة.. ليقول بخوف حقيقي:

    - مريم.. مريم، حبيبتي أنتِ سمعاني؟

    - يوسف أنا تعبانة أوي..


    قالتها وهي بالكاد تنظر له وتحرك رأسها يمنة ويسرة بثقل، فقال سريعا وهو يتجه نحو الباب:

    - ثواني يا حبيبتي وراجعلك متخافيش هتبقي كويسة

    ركض سريعا هابطا الدرج ثم إلى المطبخ وأحضر صحن به ماء مُثلج وقطع قطن لعمل كمادات علها تخفض من درجة حرارتها تحت أنظار العاملين بالمطبخ الذاهلة..

    عاد إليها من جديد في سرعة وراح يجلس جوارها ثم بدأ فعليًا بفعل الكمادات وقلبه يخفق خوفا على صغيرته المدللة..


    بينما يحدثها بهمس حنون:

    - روما، أنتِ حاسة بإيه يا حبيبتي، كلميني متسكتيش كدا..

    تنهدت بثقل وهي تتكلم بصوت خافت جدا:

    - تعبانة أوي يا يوسف..

    فأخبرها بحنان:

    - هتبقي كويسة يا قلب يوسف...


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الخامس


    ( وعد )


    انتهى الطبيب لتوه من فحصها بدقة كما طلب يوسف في وجلٍ شديد على محبوبتهِ الصغيرة، ألقى الطبيب عليه تعليماته بالراحة التامة والطعام الصحي وبعض الأدوية ك خافض الحرارة وما شابه ذلك.


    نفّذ يوسف ووفر لها الراحة التامة آملا في معافاتها عاجلًا، عدل وسادتها تحت رأسها في وضعٍ مُريح وهو يميل عليها قليلًا سائلاً إياها باهتمام ونبرة حملت في طياتها فيضا من الحنان:


    - أحسن دلوقتي يا روما؟

    هزت رأسها إيجابا وأجابت بصوت رقيق:

    - الحمدلله كويسة يا يوسف..

    منحها ابتسامة راضية وهو يقول مرددًا:

    - يارب دايمًا يا روح يوسف، شوفتي أخرة لعبك تحت المطر عمل فيكِ إيه؟

    زفرت بإرهاقٍ بينما تردد متذمرة بغضب طفولي:

    - خلاص بقى يا يوسف مش إحنا انتهينا من الموضوع دا؟


    ضحك قائلًا بغمزة:

    - خلاص من غير عصبية بس، براحة عليا يا رومتي أنااا

    ابتسمت رغمًا عنها وهي تشيح بوجهها للناحية الأخرى، فتابع يوسف متنهدًا بحب:

    - عاوزك تخف عشان كتب الكتاب يا جميل..

    عادت تنظر له بشرود وقد لمعَ الحُزن بعينيها الصافيتين، كشر يوسف عن جبينه مخبرًا إياها بهدوء صارم:

    - مريم، مش عاوزك تقلقي من حاجة خالص، ماحدش يقدر يقرب منك ولا يزعلك، ثقي فيا يا روما.. ممكن؟


    أومأت موافقة وهي تقول بمشاكسة:

    - ممكن يا سيدي، ها هنروح نجيب الفستان إمتى؟

    ضحك وأخبرها:

    - أما تخفي يا قلبي..

    قالت في سرعة:

    - خفيت بقى أنا عاوزة الفُستان أحمر ويكون حمالاته رفيعة وضيق من فوق ونازل بوسع من تحت و...

    بتر عبارتها حين قال بملامح متجهمة:

    - حمالات؟ وضيق من فوق؟ وكمان أحمممر؟! مين قالك إنك هتلبسي فستان يكشف منك حاجة أصلا؟


    حاولت الاعتدال فلم تستطع.. وتابعت بغيظ رغم ارهاق صوتها:

    - ليه ؟

    تابع بجدية حازمة:

    - عشان أنا مش عاوزك تلبسي كدا، إلبسي حاجة محتشمة وهادية دا كتب كتاب عائلي مش فرح العمدة هو يعني يا روما!

    لم ترضيها كلماته لتردف بضيق شديد:

    - لا عاوزة فرح وهلبس الفستان اللي يعجبني يا يوسف، دا كتب كتابي أنا وأنا حرة أنت مالك؟!

    رفع أحد حاجباه متابعا بلهجة صارمة:

    - دا كتب كتابك لوحدك؟ ما أنا اللي هكتب عليكِ يا روحي، يعني الكلمة اللي أقولها تتسمع وتتنفذ فاهم يا جميل؟


    أومأت سلبًا وقالت:

    - مش فاهمة، مش هسمع كلامك أساسا.

    ضيق عيناه بمكر وهو يقترب منها هامسًا بتنهيدة عميقة:

    - ممم خلاص أوك، مالكيش دعوة بيا بقى لمدة شهر كدا على الأقل، وتنسي يوسف خااااالص خاااالص!

    رمشت عدة مرات قبل أن تقول بقلة حيلة ؛

    - مش عاوزة ألبس فستان مين قالك إني هلبس؟.. وياريت منعملش أي دوشة كدا ويبقى عائلي...


    كتم ضحكاته بصعوبة وهو يهمس غامزًا بغزل:

    - أحبك وأنت بتسمع الكلام.. مش هتقولي كلمة حلوة كدا قبل ما تنام؟

    - أنت بتقول شعر يا يوسف؟

    - حد يقعد مع الحُب وميقولش شعر دا حتى يبقى جبلة!

    زفرت بضيق رغم مزاحهُ، ليضحك قائلًا ؛

    - فُكي بقى يا روما، وبطلي دلع عاوز أروح الشغل همام هينفخني


    ارتعشت ما إن قال جملته الأخيرة، ليظهر الخوف جليًا بعينيها وهي تقول:

    -يوسف أنت هتسبني وتمشي؟

    تنهد قائلًا برفق:

    - والله يا حبيبي لو عليا مش عاوز أسيبك خالص بس أعمل إيه في شغلي بس..

    ترقرقت عينيها بالعبرات، ثوانِ معدودة وكانت تجهش في بكاءً ناعمًا هز قلبه وحرك مشاعرهُ الخامدة، بينما دقات قلبهُ تتقافز في سرعة وهو يطالعها بابتسامة عذبة اِفتر ثغره عنها، وراح يقول بهدوء:


    - ليه البكاء دلوقتي يعني؟!

    فقالت من بين دموعها:

    - أنا هخاف أقعد هنا من غيرك، عشان خاطري خليك جنبي عشان خاطري يا يوسف..

    ماذا يفعل معها؟ تدللت وانتهى الأمر.. فليذهب العمل للجحيم وكُل شيء يذهب معه، سيبقى معها ولأجلها...

    ووالده؟

    فلينتظر إذن.. هكذا حدث نفسه، ثم قال بصوت يحمل في طياته عواطف قوية:

    - يولع الشغل يا حبيبتي، إن شاء الله حتى أبويا يرفدني وأشحت على باب السيدة فداك يا قمر، المهم مشوفش الدموع دي أبدا..


    ابتسمت له ابتسامة عاشقة تعبر عن مدى سعادتها ثم وبدون سابق إنذار تعلقت بعنقه قائلة بفرحة عارمة:

    - ثانكيو يا حبيبي، ربنا يخليك ليا جدا..

    يوسف وقد تصنع الجدية في قوله:

    - يخليك ليا جدا؟ أنتِ لسه سخنة أكيد، ممكن بس تفكي ايدك عن رقبتي عشان أنا بنهار دلوقتي؟

    بالفعل تركته بخجل وقد أغمضت عينيها قائلة:

    - أسفة.


    للحظة تاه في ملامحها الذي يعشقها بشدة وكاد يقترب أكثر فأكثر،لكنه توقف قائلًا بأنفاس متسارعة:

    - اللهم أخزيك يا شيطان!

    هب واقفًا عن مجلسه وهو يقول بزفرة قصيرة:

    - خمسة هعتذر لهمام وراجع وبالمرة أشم شوية هوى بدل ما أطب ساكت..

    توجه إلى الشرفة وضحكاتها الناعمة تلاحقهُ، ليحدث نفسه مغتاظًا:

    - اه يانا من دلالك..

    آتاه صوت والدهُ عبر الهاتف شاتما، فتنحنح يوسف وقال بتهذيب قدر استطاعهُ:

    - إحم.. ليه كدا يا حاج همام؟ بتشتم ليه دلوقتي؟


    فقال والده مزمجرًا:

    - أنت فين يا زفت لحد دلوقتي، بتستهبل يعني ولا إيه؟

    يوسف وقد حك صدغه بإبهامه متابعا:

    - أشكرك، أنا في البيت.. أنت متعرفش إيه اللي حصل أصلا!

    والده باهتمام رغم انفعاله:

    - حصل إيه؟

    فقال يوسف مُهولًا الأمر:

    - مريم يا بابا مريم، أسكت أسكت متعرفش إيه اللي حصلها!

    والده وقد قال بقلق بالغ:

    - مالها يابني مريم، انطق جرى لها إييييه؟

    أخبره يوسف بهدوء حزين:

    - تعبت أوي، فجأة سخنت واحمرت ووشها بقى أصفر زي اللمونة!


    والده بنفاد صبر:

    - هااا وبعدين؟

    - جبتلها الدكتور

    - وقال إيه

    - شوية برد متقلقش

    أطلق والده سباب بعنف وهو يهتف غاضبا:

    - لما أشوفك يا إبن تهاني، وقعت قلبي يا جزمة، بقولك إيه خمس دقايق وتكون عندي أنت فاهم؟


    يوسف وهو يقول ببساطة:

    - بصراحة كدا وبدون زعل يا حاج أنا مش جاي، اتصرف النهاردة محبكتش يعني، مريم خايفة تقعد لوحدها هنا وأنت عارف إن فيه اتنين مش طايقينها أمي والحرباية التانية دي.. قلبها في دماغك كدا وفكر كويس، قدر جيت وحصل كارثة هترجع تقول ياريت اللي جرى ما كان صح؟

    تابع والده وهو يصر على أسنانه بقوة:

    - اترزع يا يوسف بس والله ما أنا عاتقك خد النهاردة بمزاجي ها، وبكرا لينا كلام تاني!

    ابتسم يوسف وقال مراوغا:

    - أنا محتاج أجازة عشان أنا عريس وكدا


    أغلق والده الخط بنفاد صبر في وجهه،ليضحك يوسف مقهقها ويخرج من الشرفة إلى الغرفة هاتفا بمزاح:

    - أي خدمة يا روما، همام إداني إفراج أخيرًا بس مسخرني أخر مسخرة.

    ضحكت قائلة بنعومة:

    - معلش يا حبيبي، لما يجي عمو هقوله أنا اللي قلت لك..

    يوسف بمرح:

    - إذا كان كدا ماشي يا رومتي...


    بعد مرور إسبوع..


    حفل عائلي بسيط للغاية، موسيقى هادئة، حركات ساكنة، وهناك ابتسامات راضية... ونظرات شرسة حاقدة!

    كان يوسف في سعادة عارمة، وفرحة تغمر قلبه المتقافزة دقاته عشقًا..

    فاليوم.. مميز.. رائع.. مبهج.. تمناهُ طويلًا..

    صغيرته التي تربت على يده ستُكتب اليوم على إسمه، ستكون زوجته وهو قد وعدها أن لن تفارقها الابتسامة يومًا...


    لكن يبدو أن الصغيرة تبكي اليوم، وتبدو عيناها حزينتان تترقرقان بالعبرات، رغم جمالها الآخاذ وأناقتها وطلتها المُتألقة في فُستانها المُحتشم صاحب اللون الأحمر القاني!

    تشعر أنها وحيدة.. لم تكن والدتها جوارها ولم يكن لها شقيقة.. ولم يكن لها أب يضع يده في يد حبيبها.. تلك الأشياء الهامة التي افتدقتها للأبد تركت أثرًا بقلبها الصغير...

    جففت عبراتها سريعًا وهي تحاول ضبط هيئتها، وراحت تعدل من خصيلات شعرها الناعمة وهي تغتصبُ ابتسامة على شفتيها..


    طُرق الباب ودق قلبها معه، نهضت واقفة فقد علمت أن الآتي هو..

    فتح الباب وولج بكامل أناقتهُ المعهودة، افتر ثغره عن ابتسامة سعيدة وهو يتقدم منها بهدوء، وما إن لمح الحُزن بعينيها تلاشت ابتسامتهُ فورًا، وراح يسألها في لهفة:

    - مريم أنتِ بتبكي؟

    حركت رأسها بنفي، ثم أخبرته هامسة:

    - أبدًا يا حبيبي، دا أحلى يوم في عمري هبكي إزاي؟

    لم يقتنع بقولها، ليقول بإصرار:

    فيكِ إيه يا مريم؟ هتخبي عليا؟ أنتِ زعلانة من حاجة وجدا كمان!


    نظرت إلى الأرض بصمت وهي تجاهد في حبس عبراتها التي هددتها سريعًا بالإنفجار، لتقول بصوت خافت للغاية:

    - مافيش، كان نفسي ماما تبقى معايا في اليوم دا، زيي زي كل البنات.. بس خلاص ماتشغلش بالك يا يوسف، أنت كفاية أوي وبمجرد ما شُفتك دلوقتي كل حاجة بقت كويسة..


    أخبرها يوسف بنبرة واعدة محملة بالدفئ:

    - أوعدك إني أعوضك عن أي حاجة يا روما، واثقة فيا ولا لا؟

    أومأت بلا تردد قائلة:

    - واثقة أوي يا يوسف.. وأنت واثق فيا؟

    ضحك بخفوت مقلدًا صوتها:

    - واثق أوي يا مريم..

    استطردت بنبرة جادة:

    - مهما حصل يا يوسف هتفضل واثق فيا، وهتفضل تحبني بنفس الدرجة، أوعدني يا يوسف..


    - أوعدك يا روما، أوعدك بجد..

    أخبرها بوعده ثم تابع في مزاح:

    - شوفي حتى كسرتي كلامي ولبستي الأحمريكا!

    مطت شفتيها متابعة في تذمر:

    - ما هو محتشم أهو يا يوسف، الله!

    - لينا كلام تاني بعد كتب الكتاب على فكرة!


    غمز لها بنبرة ذات معنى جعلها تتورد خجلًا بشدة وراحت تتأبط في ذراعه وخرجا معا من الغُرفة، ثم هبطا الدرج حيث والده.. ووالدته وشقيقته وبعض المقربين مثل خالته ونهال.. التي بكّت بالفعل على تلك الزيجة.. بينما ترمق خالتها بعتاب، حيث سيتم عقد القران ولم توفي بوعدها بعد بإفساد علاقتهما!

    تم عقد القران رغمًا عن تهاني، وبرضى تام من والده وشفيقته يُسر التي سعدت لسعادتهما..


    لتبقى مريم زوجتهُ رسميا وشرعيا..

    ويبدو أن افساد لحظاتهما الأولى معا قد أتى، حين تقدم منها أحد الخدم وبيده باقة من الزهور قائلًا:

    - الورد دا عشانك..

    تعجبت مريم وهي تلتقطه بيدها قائلة بابتسامة عفوية:

    - مين اللي بعتلي ورد

    بينما وقعت عيني يوسف على الكارت الموضوع داخل الباقة ليقوم بجذبه ثم قراءته، وتتوسع عيناه في دهشة وهو يقرأ محتواه:

    - ألف مبروك يا روما، يا بختهُ بيكِ...

    ثم توقيعه أسفل الكلام! .


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل السادس


    ( حلوى الحياة )


    مازالت الدهشة تُسيطر على قسمات وجهه التي وهجت بالغيرة القاتلة، أما عنها فقد ارتبكت وتوترت بشدة وهي ترى تعبيراتهُ غير المُبشرة..

    لكنها رأتهُ يطوي الورقة ويضعها في جيب بنطاله ثم يبتسم لها بهدوء وكأن شيئا لم يحدث، مما أثار دهشة أمه ونهال، اللتين لم تتوقعا ردة فعله هذه..

    أين نخوتهُ وهو يرى مباركة من شخصٍ غريب؟ ..


    اعتدلت مريم في جلستها وهي تهمس بجوار أذنه محاولة انقاذ موقفها:

    _ يوسف...

    لكنه أسكتها وهو يسحبها من يدها خارجًا بها إلى الحديقة، سار بها عدة خطوات حتى وقف أمام شجرة ما، راح ينظر إلى عمق عينيها متسائلًا بلهجة صارمة:

    _ مين دا؟..

    صمتت مريم حينها وأطرقت برأسها في خوف، فركت كفيها معا في توتر بالغ ولم تجد إجابة مناسبة.. تعلم أنه سيغضب ومن الممكن أن يعاقبها..

    تابع مرة أخرى في هدوء حازم:

    _ كنت هقول إن دا ملعوب من اللي في بالي، لكن لما شفت تعبيرات وشك يا مريم قلت لا، أنا عارفك كويس، قوليلي مين دا يا مريم!؟


    رفعت رأسها إليه مجددًا، وراحت تقول بنبرة خافتة:

    _ دا واحد معايا في الجامعة، من أول يوم وهو بيضايقني، وامبارح لما رحت وعرفت صحباتي إن كتب كتابي بكرا وهو سمع وباركلي و...

    _ باااركلك!

    هتف بها بصوت أرعبها وجعلها تنكمش على نفسها بوجل، بينما يستطرد بغضب عارم:

    _ بيضايقك من أول يوم وساكتة؟! ليه مقولتليش؟

    حركت كتفيها بعفوية مع قولها المتلعثم:

    _ ماحبتش أضايقك يا يوسف والله، أنا أسفة..


    فاجئها بقوله القاسِ حين هتف:

    _أسفك مش مقبول يا مريم، أنتِ إزاي تخبي عليا حاجة أنتِ عارفة كويس إنها هتضايقني جدا، وأديني عرفت! وقوليلي بقى الزفت دا يعرف عنوانك منين؟!

    حركت رأسها سلبا وقالت بصدق:

    _ مش عارفة..

    التفت مولّيها ظهره بعصبية تامة وهو يزفر أنفاسه بغضب جلي، بينما دمعت عيناها حزنا على ليلتها التي تعكرت في غمضة عين، والأصعب غضبه هو منها ونظراته المعاتبة التي أوجعتها..


    راحت تواجهه، التفتت إليه وعانقته بدون مقدمات وقد تعالت شهقاتها معتذرة:

    _ أنا أسفة إني خبيت عليك، بس أنا معرفش إنه هيعمل كدا، حقك عليا يا يوسف..

    ويبدو أن قلبه لم يرق كعادتهُ معها، يبدو أن الغيرة قضت على رفقه بها الآن والغضب حل مكانه..

    لذا أبعدها عنها بحزم وهو يخبرها:

    _ لازم تعرفي يا مريم إن مش كل حاجة هسامحك فيها، أنا قلت لك قبل كدا اللي يغلط لازم يتعاقب، مش معنى إني بدلعك دا يديكِ الحق تخبي عني، ومعنى إنك خبيتي مرة يبقى هتخبي كل مرة...


    بينما كانت نبرتها منكسرة وهي تسأله ببراءة:

    _ يعني هتخاصمني؟

    هز رأسه مؤكدا ذلك وهو يُخبرها بقسوة:

    _ أيوة، وخصام طويل، ودلوقتي مش عاوز عياط ولا عاوز حد يلاحظ حاجة مفهوم ولا لا؟

    لم ترد عليه بل كانت غارقة في بكائها، فكرر بصرامة أشد:

    بقول بطلي عياط!


    أخذت تمحي عبراتها سريعًا عن وجنتيها، بينما أخرج منديل من جيبه وراح يمسح دموعها بملامح جامدة وما إن انتهى قال بصيغة آمرة:

    _ يلا إدخلي..

    دخلت أمامه مطأطأة الرأس عائدة إلى حفلها البسيط بغير نفس، وكذلك هو، كان حازما معها ورُبما بالغ في ذلك، لكنه حقا تمزق قلبه من شدة غيرتهُ، صغيرته ومن غيرها يسكن قلبه!

    ليس من حق أحد أن يحادثها أو يدللها غيره.. هو فقط، يعلم أنها نقية كنقاء المياه العذبة تماما.. كما يعلم أيضًا براءتها التي من الممكن أن تودي بها إلى مئازق كثيرة ليس لها نهاية...


    لم تسلم مريم من همزات نهال وخالتها وضحكاتهما الساخرة الواضحة، ضحكاتهما المغتاظة التي أشعلت فتيل غضبها وجعلت النيران تتأجج في صدرها، اليوم أصبح تعيس للغاية، ليس كما توقعت، ألم يكفي غضب يوسف منها!

    كيف ستتحمل سخافة نهال تلك أيضًا؟


    بالطبع لن تتحمل كثيرًا إن لم تكُف هذه عن سخافتها، ويبدو أنها لن تتوقف نهال وتزال تصرُ على مضايقتها، حيث مضت نحوها وتعثرت عن قصد، لينزلق كأس العصير من يدها على فستانها الأنيق...

    كز يوسف على أسنانه وهو يشاهد الموقف ودماؤه تغلي من شدة غضبه، ولم يكد يتحدث حتى وجد صغيرتهُ تقوم باللازم، حيث جذبت الكعكة المُزينة ودفعتها بوجهها، لتصرخ نهال شاتمة بغل سافر، وتتعالى ضحكات البعض على الموقف..


    بينما احتقن وجه "تهاني" بالدماء وكادت تهجم عليها بشراسة، إلا أن يوسف بلحظة واحدة كان يحميها خلف ظهره واقفًا أمام والدته كجبلا شامخًا، صاحت تهاني باهتياج وهي تريد الامساك بها قائلة:

    _أوعى كدا، البت دي لازم تتربى، دي وقحة..

    هدر يوسف في المقابل:

    _ هي برضوه اللي وقحة؟.. لكل فعل رد فعل يا ماما، الوقحة هي اللي وقعت عليها العصير وهي خدت حقها كدا يبقوا خالصين..


    تدخل والده بقوله:

    _ روحي يابنتي إغسلي وشك الاول، روحي معاها يا تهاني بدل ما تعمى بعنيها ولا حاجة!

    ركضت تهاني بإبنة شقيقتها إلى الحمام في خوف، بينما قام همام بتعنيف إبنه وهو يقول:

    _ يوسف، متسوقش فيها، مريم زودتها ازاي تلطخ وش البنت كدا؟

    أجاب بثبات:

    _والتانية إزاي توقع عليها العصير كدا؟

    والده بنفاد صبر:

    _ العصير مش زي التورتة يابني، كانت جات اشتكتلي وانا كنت بهدلها..

    استطرد يوسف بحزم:

    _ مريم مبتشتكيش لحد غيري يا بابا، أنا راضي عن تصرفها، ما هو دا اللي ينفع مع الأشكال دي..

    والده وقد ارتفع أحد حاجبيه:

    _ ليه يا أخويا مش بتشتكي لحد غيرك، ولاااااا اتعدل بدل ما أعدلك..

    يوسف بجدية:

    _ لا تعدلني ولا اعدلك أنا طالع أنام أحسن وياريت تمشي الناس دي من هنااا عملولي صداع..

    لم يعطيه الفرصة للتحدث ثانية، جذب مريم معه وصعد بها الدرج، ليقف والده مذهولا وهو يقول بتوعد:

    _ يا إبن الذين، أخدت غرضك وخلاص مش همك، طيييب يا يوسف يا جزمة إن ما وريتك!


    وقف أمام باب غرفتها وأشار لها بحزم شديد قائلًا:

    _ يلا على جوا، غيري هدومك ونامي..

    زفرت بضيق وهي تناظره بحزن، بينما تردف بدلالها الفطري:

    _ بس أنا مش عاوزة أنام يا يوسف، عاوزة أسهر معاك دا النهاردة يوم كنت بتستناه ليه عاوز تقلبه تكد علينا يعني؟

    لم تلين ملامحه وهو يرد عليها بغضب:

    _ مين اللي نكد على مين؟! أنتِ السبب، إتحملي نتيجة هبلك يا مريم..

    رأته مصرا على تعكير ليلتهما الخاصة، فأولته ظهرها دون كلمة أخرى وولجت إلى غرفتها وأقفلت الباب خلفها، فتنهد بغيظ من افساد ليلته هكذا... ولج إلى غرفته هو الآخر بحنق شديد وأخذ يدور بأنحائها بصبر قارب على النفاد..


    توجهت يُسر إلى غرفة شقيقها وطرقت الباب في هدوء، وبالداخل ركض يوسف إلى الباب ظنا منه أنها حبيبته أتت معتذرة مرة ثانية، لكنه وحدها شقيقته، فابتسم لها بحنو وهو يقول:

    _تعالي يا حبيبتي..

    ولجت إلى الغرفة وهي تسأله برقة:

    _ ممكن أتكلم معاك شوية؟

    أومأ قائلًا بلا تردد:

    _ طبعا، خير محتاجة حاجة ولا اية؟


    أومأت سلبًا وهي تخبره:

    _ بصراحة كدا أنا متابعة الموقف في صمت، وعارفة انك زعلت من مريم وليك حق تزعل منها عشان خبت عليك، بس مريم بتفكيرها بتحاول تبعد اي حاجة تعكر مزاجك عنك وطبعا هي عارفة ان حاجة زي كدا هتزعلك فخبتها عليك..

    تنهد يوسف بعمق وقال:

    _ عارف يا يُسر، وعارف كمان هي بتفكر إزاي، لكن لازم أكون حازم معاها عشان متكررش دا تاني، مريم بالبلدي كدا على نياتها أوي وممكن أي حد يضحك عليها، عاوزها بس تركز شوية وموضوع انها تخبي عليا حاجة دا مرفوض تماما وهي لازم تعرف كدا..


    قالت موافقة على كلامه:

    _ ماشي بس بلاش عقاب النهاردة يعني، دا كتب كتابكم مش لطيف انكم تبقوا كدا..

    ضحك يوسف وهو يقول بمزاح:

    _ ودا بقى عشان مريم صاحبتك فجاية تروقي لها الجو؟

    أردفت ضاحكة:

    _ مريم أختي على فكرة مش صاحبتي، وبحبها جدااا

    قرص وجنتها بخفة متابعا:

    _ وأنا بحبكوا انتوا الاتنين على فكرة..


    مطت شفتيها متابعة بتذمر مصطنع:

    _ممم، بس مريم أكتر على فكرة.. ما هي الحُب كله بقى..

    ضحك مقهقها وهو يخبرها من بين ضحكاته:

    _ لا أنتِ كمان الحب كله بس أنتِ حب أخوي يا هبلة إنما هي حب من نوع أخر وأنت فاهمني بقا يا صغنن!

    أومأت رأسها بطريقة مسرحية قائلة وهي تتجه صوب الباب:

    _أيون عارفة عارفة..


    مرت ساعة أخرى على يوسف وعقله يُراوده بالذهاب إليها أم مواصلة عقابهُ لها، ولكن هيهات!

    لن يتحمل.. لن يتحمل خصام صغيرتهُ أبدًا سيذهب إليها بخطواتٍ متعجلة هكذا، ويطرق الباب هكذا.. وينتظر بشوق هكذا أيضًا..!


    فتحت له الباب بعد قليل بوجه عبوس وعينان متورمتان من كثرة بكائها، تركت الباب وعادت إلى فراشها مرة أخرى، فدخل وأغلق الباب خلفه وسار نحوها وهو يزدر ريقه الذي جف مجرد أن رأها، تلك البيجامة الوردية الطفولية ذات الرسومات الكرتونية أفقدتهُ ما تبقى من ثباته، هي تماما كقطعة الشكولاه الناعمة بعينيه، هي حُلو حياته...


    زفر بنفاد صبر وراح يستلقى جوراها على فراشها الصغير، فشهقت وهي تبتعد عنه مصدومة من فعلته، إلا إنه ثبتها مع قوله:

    _ إيه مالك؟ براحتي! أنتِ ناسية إنك اتكتبتِ على إسمي الليلة ولا إيه يا صغنن!

    زفرت بغيظ وهي تعتدل جالسة وتخبره:

    _ إيه اللي جابك هنا مش أنت مخاصمني خصام طويل! يلا إمشي..

    اقترب منها اقتراب مُهلك لمشاعره وراح يُقبل وجنتها بتهمل مع قوله:

    _ مش قادر.. مش قادر خاااالص..


    اقشعرت إثر لمستهُ وقبلته لتقول بخفوت شديد:

    _ مش.. مش ه هينفع كدا، عيب أنت قلتلي إني كدا هبقى رخيصة! ..

    ضحك بشدة وهو يُقبل وجنتها الأخرى قائلًا بغمزة:

    _ لا ما ده كان قبل ما نكتب يا عسل، دلوقتي الوضع اختلف..

    تخضبت وجنتيها بخجل وهي تحدق بعينيه المشعتين حبا مع همسها الدافئ:

    _ يعني خلاص سامحتني ورضيت عني؟

    رفع حاجب مع قوله:

    _ لا هأجل العقاب لوقت تاني، النهاردة استثنائي..


    ضحكت وهي تومئ برأسها قائلة:

    _ ماشي..

    هو غامزًا:

    _ طبعا أنتِ عارفة إني فشار ولا هعاقبك ولا هتنيل على عيني صح؟

    هزت رأسها إيجابا وابتسمت بحب، ليتابع بتنهيدة عميقة متأملًا ملامحها بشغف:

    _ عارفة يا روما، أنتِ حلويات حياتي، سكر وعسل كدا في بعض، إزاي أنا بعشقك بهبل كدا، نفسي أخد منك موقف وأظبطك كدا مش عارف.. بحس إني بعاقب نفسي أصلااا


    تابعت هادئة بنبرة حانية:

    _ عشان أنت عارف إني ماليش غيرك.

    أومأ قائلًا بجدية:

    _ ماتخبيش عني حاجة تاني يا روما..

    حركت رأسها موافقة، لكنها توترت قليلاً وهي تقول:

    _ حاضر..

    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل السابع


    ( غيرته )


    ومع تأملهُ لملامحها البريئة المُحببة إليه كاد يتعمق أكثر في قُربه المُهلك هذا، إلا أنها أفسدت عليه كُل شيء بقفزها من الفراش إلى الأرض، ثم صياحها بتدليلها الطفُولي:

    -يوووسف، تعرف كان نفسي في إيه ولسه محققتهوش معاك؟

    عض شفته السفلى في غيظ، بينما يرمش بعينيه وهو يسألها:

    - إيه يا قلبي؟


    افتر ثغرها بابتسامة ناعمة وهي تخبره بعفوية:

    - هوت شوكلت.

    صُدمت ملامحه وهو ينهض واقفًا قائلًا بحدة نوعا ما:

    - نعم ياختي!؟

    فضحكت بتسلية وهي تستطرد:

    - أقصد نفسي أشرب هوت شوكلت معاك في البلكونة، خصوصا إن الجو برد والقمر ساطع كدا وحاجة واو جدًا..


    مسح على رأسه بتنهيدة عميقة وهو يخبرها غامزًا:

    - إذا كان كدا ماشي..

    ابتسمت برقة، ثم قالت بامتنان:

    - ثانكيو يا حبيبي..


    فُتح الباب فجأةً وولج همام بملامحه الصارمة، وعيناه كانتا متوهجتين بشرر غاضب، ليهتف بصوتهُ الأجش:

    - إيه اللي بيحصل هناااا؟ وإيه اللي جابك هنا أنت؟

    وجّه حديثهُ ليوسف الذي أجابهُ ضاحكًا ببساطة:

    - أنا جيت هنا عشان أصالح مريم، أصل كان فيه بينا تاتش صغير وخلاص متقلقش المياه رجعت لمجاريها..

    اقترب منه، بينما يرمقهُ بنظراتٍ مغتاظة ثاقبة:

    - مياه إيه ومجاري إيه يا جزمة أنت، أنت هتستهبل، ماتخلنيش أندم إني نفذت رغبتك، مش عشان كتبت يقبى ليك الحق تيجي هنا كل شوية وبعدين الباب دا ميتقفلش نهائي طول ما أنت موجود فاهم ولا أفهمك؟!


    يوسف وقد واصل في ضحكاته:

    - مش عاوزك تفهمني صح، وبعدين أنت متعصب ليه كدا يا حاج همام، ريلاكس من فضلك مجراش حاجة، دي كل الحكاية انها عاوزة تشرب هوت شوكلت بس صدقني!

    انتقل همام بنظراته إلى مريم، ليقول بغضب بان على ملامحه:

    - وأنتِ يا هانم، لحد دلوقتي أنا مش عاوز أزعلك ومتضطرنيش لكدا لأنك أمانة في رقبتي، لازم يكون فيه حدود بينك وبين الزفت دا..

    اختتم جملته وهو يشير له بسبابته، فتنهد يوسف بنفاد صبر وهو يرد عليه:

    - باباااااا، متزعقش لمريم كدا أرجوووك..


    رفع همام حاجب مع قوله الحازم:

    - اتفضل إخرج من الأوضة واسبقني على المكتب عاوزك في شغل مهم.. يلااااا

    يوسف وقد حرك رأسه نفيًا قائلًا بجدية تامة:

    - مش هينفع دلوقتي، شغل إيه دا السعادي حضرتك، وليلة كتب كتابي اللي اتضربت دي؟!..

    كز همام على أسنانه قائلًا:

    - أنا مش هعيد كلامي مرتين، قدامي على المكتب!

    زفر يوسف بعنف واصطحب صغيرتهُ معه خارجًا من الغُرفة، بينما يستطرد همام بحنق:

    - أنت يابني!.. بقول عاوزك في شغل!

    يوسف بلا مبالاة:

    - تمام يا بابا في إي؟

    أغمض همام عينيه بصبر وهو يشتم بخفوت، في حين انفجر يوسف ضاحكاً متابعا من بين ضحكاته:

    - سامعك على فكرة!


    بعد عدة دقائق بالمكتب الخاص ب همام..


    انتفض يوسف في جلسته وهو يقول بضيق شديد:

    - أسافر إزاي وأسيب مريم؟

    أردف والده بهدوء استفزه:

    - زي الناس دا شغل يا أستاذ، مريم هتكون معايا مينفعش تخاف عليها وهي معايا..

    رفض يوسف قائلًا بجدية:

    - لا.. مستحيل أسيب مريم لوحدها.

    وأكدت مريم على ذلك حيث قالت بحزن حقيقي:

    - لا يا عمو بلاش عشان خاطري، مش هقدر أعيش من غير يوسف.!


    زفر همام بحدة وهو يرمقها بنظرة جامدة مع قوله:

    - بطلي دلع يا مريم، إيه مش هنشتغل بقى ونقعد في البيت عشان حضرتك مش قادرة تعيشي من غير سي يوسف بتاعك؟!

    تشنجت واختنق صوتها وهي تقول:

    - أيوة، مش بقدر أعيش من غيره، مافيش حد بيحبني غير يوسف في الدنيا دي، أعيش من غيره إزاي؟.. ياريت حضرتك تسافر أنت..


    لقد نفد صبر همام الذي قال بصرامة شديدة:

    - طب أنا هشوف كلامي هيمشي ولا لا يا يوسف أفندي، عاوز كلامي ميتنفذش، فاهم؟!

    نهضت مريم وبرحت الغرفة راكضة إلى غرفتها وهي تبكي...

    أما عن يوسف فقد نهض هو الآخر قائلًا بجدية:

    - براحة شوية عليها يا بابا، قلتلك مابحبش حد يزعلها حتى لو كان أنت، هي عملت إيه يعني؟.. هي بتقول اللي حاسة بيه وبعدين أنت من إمتى بتزعقلها كدا، مش دي اللي دايمًا بتوصيني عليها؟..


    استند همام بظهره على ظهر كُرسيه، ثم واصل في هدوء صارم:

    - أنا مش بزعقلها يا أستاذ، هي لازم تفهم إن الدنيا مش زي ما هي عاوزة وإن الشغل ليه حق عليك زي ما هي ليها حق عليك، وأنت لازم بنفسك تفهمها كدا

    يوسف بتفهم:

    - أنا بفهمها بس أنت مش مديني فرصة!.. وبعدين لو ماما كانت بتعاملها كويس من زمان مكنش دا بقى حالها ولا كانت إتعلقت بيا كدا، أنت في شغلك على طول وهي مش لاقية غيري شيء طبيعي يعني هتعيش مع مين؟.. فمتلومش عليها! وعلى العموم يا بابا أنا هسافر وهعملك اللي أنت عاوزه بس مريم هسيبها أمانة معاك وأنا مطمن لأن هي أصلا أمانة في رقبتك من زمان..


    ما إن أنهى حديثه برح غرفة المكتب في هدوء، وراح يصعد الدرج فتقابل مع " نهال".. ليتجاهلها ويصعد قاصدًا.

    وتزداد نظراتها حدة وشراسة محملة بالتوعد..


    كان بشرفتها تبكي في صمت وهي تحتضن نفسها بكلا ذراعيها وترتجف قليلًا، دخل يوسف في صمت يراقبها بابتسامة هادئة، لم يمل منها يومًا، كما لم يغضب إلا قليلًا.. يعلم أنها مدللة حد الهلاك.. لكنه يعشقها. بكُل ما تحمل من عيبٍ وميزة.. هو يعشقها!


    شعرت بذراعيه يحتضناها من الخلف وبه يتكئ بذقنه على كتفها، وهي استدارت فورًا تسأله بتلهف من بين دموعها:

    - أنت هتسافر؟

    صمت قليلًا وهو يجيب عليها بحذر:

    - يومين بس، وهكون عندك في التالت، وأنا واثق إنك هتقدري تقعدي من غيري، مع بابا ويُسر.. وهتروحي كمان الجامعة وهتواصل أنا معاكِ فيديو يعني الحكاية سهلة وبسيطة خالص..

    نكست رأسها للأسفل غير راضية عما يقول، فتابع بابتسامة حانية:

    - عشان خاطري بلاش زعل، هو مش مريم كبرت ودخلت الجامعة؟ إزاي عقلها صغير كدا!؟

    رفعت رأسها إليه مرة أخرى قائلة بغضب:

    - أنا عقلي مش صغير، أنا بحبك فهمت؟

    ضحك وأومأ برأسه قائلًا:

    - فاهم، وأنا كمان بحبك أكتر وأنتِ عارفة يا روما، بس فعلا عندنا شغل كتير ولازم أسافر بنفسي ولو كان ينفع أخدك معايا كنت أخدك، بس وعد عليا يا ستي لما أفضى خالص هاخد أجازة طويلة ونسافر مع بعض، أنا وأنتِ لوحدنا والمكان اللي تقوليلي عليه كمان..


    زفرت زفرة قصيرة قبل أن تخبره بضيق:

    - أنا مش عاوزة حاجة ولا عاوزة أسافر، وبعدين وجودك جنبي بيغنيني عن كل الحاجات دي، بس خلاص أنا مش هقدر أكون عقبة وأقف في طريقك وأعطلك عن شغلك..، بس ياريت تقولي أتصرف إزاي مع مامتك في غيابك؟

    مسح على وجنتها بهدوء وهو يقول مبتسما:

    - سيبي الموضوع دا على بابا، هو مش هيخليها تكلمك خالص وانتِ عارفة أنه مش بيقدر على زعلك برضوه ويحبك.


    أومأت برأسها وقالت:

    - ماشي، تروح وتيجي بالسلامة يا يوسف.

    اقترب بوجهه من وجهها وهو يهمس بحنان:

    - مش من قلبك على فكرة، لسه زعلانة أنتِ يا رومتي

    حركت رأسها نافية وأردفت:

    - مش زعلانة، صدقني..

    تابع في مرح:

    - طب إثبتي لي إنك مش زعلانة.

    نظرت إلى عينيه وابتسمت قائلة:

    - أعمل إيه طيب؟

    - حضن..

    قالها وغمز، فتوردت بخجل وهي تمنحه إياه بدون تردد، فيضحك بخفوت وهو يخبرها بصدق:

    - أغلى حاجة في حياتي..


    صباح يوم جديد، يوما مشرقا قد شعشع فيه ضوء الشمس ناشرا دفئه في كل مكان..

    ارتدت مريم ملابسها في حيوية استعدادًا للذهاب إلى جامعتها، ثوانِ وطرق بالباب فعلمت أنه يوسف، حتى طرقاته على الباب تعلمها وتُميزها..

    قالت هاتفة بنبرة مرحة:

    - إدخل..


    فتح الباب وولج مبتسما بإشراق بينما يقترب طابعا قبلة فوق جبهتها قائلًا بغزله المعتاد:

    - صباح الورد على الورد، أخبارك إيه نمتي كويس؟

    أجابته قائلة:

    - أيوة نمت كويس..

    شرعت في تمشيط شعرها ما إن أنهت جملتها، فجذب منها فُرشتها وقال بمشاكسة:

    - هسرحهولك أنا..

    تركته مستمتعة بذلك، وبدأ يمشطه بهدوء وتركيز، كأنه عملا هاما للغاية..


    كانت الابتسامة تملىء شدقيها وهي تراقب تعبيرات وجهه في المرآة، بينما يقول بحماس:

    - هعملك ضفيرة..

    تركته أيضًا يفعل ما يروق له، وظلت تراقبه فقط، حتى انتهى بعد مرور وقت ليس بقليل، لكن كانت النتيجة مبهرة والضفيرة في غاية الآناقة..

    - ها إيه رأيك يا روما؟

    - تحفة يا حبيبي...

    أجابته وهي تتلمسها بيدها ثم تستدير له متابعة؛

    - تسلم إيدك

    منحها ابتسامة، ليسأل بعدها:

    - فين بوكيه الورد بتاع امبارح يا روما؟

    مطت شفتيها وهي تسأله باستغراب:

    - ليه؟

    - عاوزه!


    تأففت وهي تجيب قائلة:

    - ليه هو احنا مش خلصنا يعني؟

    يوسف بحزم رفيق:

    - بطلي لماضة وهاتيه ويلا هتتأخري على الجامعة خليني أوصلك قبل ما أروح الشركة..

    أسرعت تجذبه وأتت به قائلة بتذمر:

    - أهو..

    ثم تسأله ؛

    - هتسافر إمتى بالظبط؟


    أجابها؛

    - هخلص شغل في الشركة وهجيلك زي كل يوم أوصلك البيت وبعدين أسافر..

    أومأت في هدوء وخرجت معه وهي تعود تسأله باستغراب:

    - أنت واخد الورد معاك ليه طيب؟

    قال بإيجاز:

    - هقولك بس اصبري .


    ركبا معا سيارته وانطلق بها، وقف أمام جامعتها بعد مدة قصيرة من الزمن، ترجل من سيارته وهي كذلك..

    دنى منها وهو يسألها بجدية:

    - هو فين بقى؟

    احتدت ملامحها قليلًا وهي تسأله بقلب واجل:

    - هو مين؟!

    - صاحب الورد دا، شاوري عليه يلا

    وقفت مرتبكة وتملكتها حالة من الخوف الشديد، لتقول بقلب خافق بشدة:

    - بلاش يا يوسف، بالله عليك عشان خاطري..


    أغلق عينيه لثوان ثم أعاد فتحهما مع قوله الصارم:

    - مريييم، إسمعي الكلام، هو فييين!

    وبعد محاولات أشارت له عليه، فاقترب منه بعينين جامدتين حادتين...

    والأخير كان موليه ظهره، فوضع يوسف يده فوق كتفه قائلًا بجدية:

    - لو سمحت..

    التفت الفتى له وهو يقول باستغراب:

    - أفندم..

    رمقه بنظرة ساخرة أولا، ثم رفع باقة الزهور بيده وراح يدفعها بوجهه قائلًا بصرامة قاتلة:

    - مريم مش بتقبل الهدايا...


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثامن


    ( سفر )


    كانت بقمة غضبها منه وهي تجلس ثانيةً بجواره في السيارة، بعد أن تصاعد الحوار بينهُ وبين ذاك الشاب ووصلت إلى مُشاجرة عنيفة شاهدها جميع الطلاب، بينما تنتهي المُشاجرة على جرح أعلى رأس الفتى ونقله إلى المستشفى مما أدى إلى احراجها وسط زميلاتها وطلبة الجامعة..


    - مش عارف أنا إنتِ إيه اللي مزعلك أصلااا؟

    زفرت أنفاسها والتزمت الصمت وهي تتطلع إلى النافذة بحِنق، فعَلا صوتهُ مزمجرًا:

    - لما أكلمك تردي عليا!

    زمجرت في المقابل قائلة:

    - أنت عاوز إيه دلوقتي مني؟ سبني في حالي..

    كز على أسنانه بشدة وراح يقف بالسيارة وقد التفت لها قائلًا بحزم:

    - أنتِ زعلانة إني ضربت الواد الملزق دا؟ أوعي تكوني خايفة عليه!


    رمقته بنظرة ثاقبة ذات معنى مع قولها:

    - أنا مسمحلكش يا يوسف! هخاف عليه ليه هو أنا أعرفه أصلا، بس كل الحكاية إن منظري بقى وحش أوي وسط صحباتي بعد اللي عملته، أوريهم وشي إزاي بعد كدا لأ وكمان تجرني من إيدي كدا وتقولي مافيش جامعة دلوقتي إزاي تعمل كدا؟

    أمسك يدها بين راحة يده وراح يضغط عليها برفق، بينما يخبرها بلهجة صارمة:

    - أنا أعمل اللي أنا عاوزه يا مريم، ووطي صوتك وأنتِ بتكلميني، فاهمة!؟


    نزعت يدها عنه بقوة، وراحت تعقد ساعديها أمام صدرها وصمتت مرة أخرى، ليقترب منها قائلًا بتوعد:

    - ماشي يا مريم، أنا الغلطان صدقيني أنا الغلطان عشان دلعتك زيادة عن اللزوم!..

    صمت قليلًا ليُكمل:

    - وماله منظرك قدام الناس إن شاء الله؟.. ولا كنتِ عاوزاني أسيبه يضايقك وكمان يتطاول عليا!؟.. وفعلا مافيش جامعة لحد ما أرجع من السفر، هتقعدي في البيت أنتِ فاهمة ولا لا؟


    رمقته بنظرات معتاظة حانقة وهي تهتف بضيق عارم:

    - أقعد في البيت مع مين بالظبط؟.. مع مامتك ولا نهال؟

    تنهد بنفاد صبر قبل يضرب محرك السيارة بيده هاتفًا بصرامة:

    - بطلي بقى دلع يا مريم، قلت لك هتقعدي مع بابا ويُسر! .. في إيه؟ كلمة كمان يا مريم وهزعلك بجد..


    ورغم أنها تعلم أن تهديده هو بذات نفسهُ سيضرب به عرض الحائط، وسيتبخر بعد دقائق، إلا أنها بكت بشدة وهي تدفن وجهها بين راحتي يديها.. تماما كالطفلة.. في براءتها وعفويتها، تركها قليلًا ريثما يهدأ ويحاول ضبط أعصابه، ثم راح يقول بحزم رفيق:

    - مريم، مش عارف أعمل معاكِ إيه بجد، إعقلي شوية وخليني أسافر وأنا مش زعلان منك ممكن يا روما؟

    راح يمسح دموعها بأنامله مع استطراده:

    - بقى أنا خليت شكلك وحش قدام زمايلك يا مريم؟.. أناا؟


    رفعت رأسها مجددًا، وقابلت نظراتهُ المعاتبة قائلة من بين شهقاتها:

    - أنت بتعاملني كأني طفلة مش عارفة مصلحتي!

    ضحك مرددًا من بين ضحكاته:

    - أومال أنتِ إيه؟ طبعا بعاملك كدا ومأعرفش أعاملك غير كدا أصلا!.. بخاف عليكِ وبغير عليكِ دا يزعلك في إيه مش فاهم أنا؟

    ردت وقد هدأت قليلًا:

    - مش زعلانة، قلتلك أحرجتني وإتكسفت بس


    هو بنفاد صبر:

    - خلاص طالما اتكسفتي بلاها جامعة، ذاكري في البيت وروحي على الامتحانات..

    رفعت حاجبيها مندهشة وقالت:

    - عندك حل لكل حاجة!

    أومأ برأسه قائلًا بجدية:

    - بالظبط، إفردي وشك بقى مش عاوز نكد وإلا...

    قاطعته بغضب طفولي:

    - وإلا إيه؟!


    ابتسم وهو يناظرها بغيظ:

    - وإلا بحبك طبعا يا تاعبة قلبي!

    واختتم جملته بقبلة على وجنتها المتوردة، ليهمس بالقرب من أذنها:

    - هزعل منك إمتى؟.. قوليلي إمتى هاخد منك موقف؟!

    بدا الإرتباك واضحًا على ملامح وجهها وزادت سرعة تنفسها كما ارتعشت شفتيها الناعمتين، وكل هذا لفت انتباهُه بالطبع، لينظر إلى عينيها متسائلًا بجدية نوعا ما:

    - مخبية عني حاجة؟


    حركت رأسها نافية مع قولها المُتلعثم:

    - لا م ما أنت عارف إني مش بعرف أخبي عليك حاجة..

    أومأ برأسه بعدم اقتناع وهو يعاود قيادة سيارتهُ مع قوله الذي لا يحمل رفق الآن:

    - عارف يا مريم، يارب تكوني مش مخبية حاجة..

    التزمت الصمت وراحت تنظر من نافدة السيارة بقلب خافق، ماذا تفعل في مُصيبتها تلك؟

    لم يكن لها ذنب في تلك المصيبة، فجأة وجدت نفسها مُتورطة، ثم خشت تتكلم فيحدث ما لا يحمد عقباه..!

    على كُل هي ستحاول جاهدة التخلص من هذا الوحل الذي غرقت به على غفلةٍ..


    - الليلة هنخلص منها..

    أردفت " تهاني" بنظرة شيطانية كابتسامتها أيضًا، لتستطرد بصوت مُصر على فعل ذلك:

    - وهتروح بلا راجعة..

    فتسألها نِهال وقد لمعت عيناها بأمل:

    - إزاي؟

    فأجابتها:

    - هطردها من بيتي

    امتعض وجهها وهي تعود تسأل:

    - إزاي، ويوسف؟ .. هو هيسمح بده؟


    قالت ببساطة:

    - يوسف هيسافر..

    فردت عليها:

    - هيسافر وسايبها في أمانة أنكل همام، وأنكل هيبقى عينه عليها وكمان يوسف لما يرجع هيحصل إيه؟

    تهاني بنفاد صبر:

    - اسكتي بس أنتِ وأنا هتصرف!


    بعد مدة من الزمن قد وصل يوسف بصحبة مريم وصعد إلى غرفته بعد أن تناول وجبة الغداء معها وقام بتدليلها كعادتهُ يوميًا، وقف أمام خزانة ملابسه ينتقي ملابسه بصحبتها، بينما يهتف بمشاكسة:

    - روما، إختاري لي أنتِ هدومي وكل حاجة وجهزيلي الشنطة، ممكن؟

    أومأت برأسها بابتسامة ودودة قائلة:

    - ممكن جدا يا حبيبي..

    احتنضنها.. ورفعها بين ذراعيه قائلًا بمزاح:

    - قلبك حبيبك، بعشق أمك..

    كركرت ضاحكة وهي تتطوق عنقه بذراعيها وتطبع قبلة على وجنته الخشنة، بينما يستطرد غامزًا بمرح:

    - هو فيها حاحة لو طنشت لهمام وقعدت معاك يا جميل؟ أنا مجنون وأعملها..

    ختم جملته بقبلة مبادلة على وجنتها، بينما قالت مريم:

    - ياريت تعمل كدا

    ضحك وأنزلها على الأرض قائلًا بايجاز:

    - كلها يومين وهاجي أزهقك تاني، والوقت بيعدي هوى يا روما، المهم تخلي بالك على نفسك كويس..


    أومأت في طاعة قائلة بهدوء:

    - حاضر

    راح يُقبل جبينها قبلة أخرى قبل أن يتجه صوب الحمام ويدخل ثم يغلق الباب، وتُجهز مريم ملابسه وكل متعلقاته بمحبة، بينما الابتسامة تغزو شفتيها إلى أن خرج وارتدى ملابسه وأصبح مستعدًا للرحيل.

    حينها بكت.. بكاءً حقيقيًا كما لو أنه والدها وهي طفلتهُ المدللة، وهو يتفهم ذلك جدًا لأنه دومًا كان يشعرها بأنها ابنته.. صغيرته.. مدللته ؛ اقترب منها ومنحها عناقًا دافئًا بعث لقلبها الأمان، وأخبرها بهمس حنون:

    - أنا معاكِ حتى وأنا بعيد، مش عاوزك تخافي من أي حاجة طول ما يوسف موجود على وش الدنيا..


    ثم أبعدها قليلًا عنه ليمسح دموعها بإبهاميه ويقول بحزم رفيق:

    - مفهوم يا روما؟

    أومأت برأسها وهي تقول بنبرة حزينة:

    - إرجعلي بسرعة

    ضحك فقال:

    - هوا والله..

    ابتسمت أخيرًا من بين عبراتها الساخنة، لتخبره بنبرة عاشقة مُحملة بالصِدق:

    - بحبك..


    افتر ثغره بابتسامة ودودة وهو يخبرها كذلك:

    - أنا أكتر على فكرة، أخر مرة بقولك خلي بالك من نفسك، ومافيش جامعة لحد ما أرجع تمام؟

    هزت رأسها موافقة، لتقول:

    - تمام..


    ودعته وانصرف، فتوجهت إلى غرفة يُسر، حيث أنها الوحيدة التي تحمل من روح يوسف وتتشابه مع في الشكل، لذا هي تحبها ووجودها معها سيهون عليها بُعده، ولجت إلى غرفتها بعد أن طرقت الباب وفتحت لها قائلة بترحيب:

    - يُسر حبيبتي، تعالي..


    جلست معها على الفراش، لتبتسم يُسر وهي تقول:

    - كلها يومين يا مريم مش مستاهلة الحزن دا..

    ظلت مريم صامتة وعيناها شاردتان كأنها تفكر في شيء ما، فتابعت يُسر بهدوء:

    - مالك يا مريم في إيه؟ شكلك عاوزة تقولي حاجة صح،؟


    تحررت مريم من صمتها وقد هتفت بخوف شديد:

    - يُسر أنا في مصيبة ومش عارفة أعمل إيه، ممكن تساعديني؟

    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل التاسع


    ( دفئ وجوده )


    تسرب القلق إلى قلب يُسر وهي تسألها مجددًا باهتمام:

    - خير يا مريم قلقتيني في إيه؟

    تنهدت مريم بحزن، بينما يتجمد الدمع بمحجريها وهي تتكلم بالكاد مواصلة:

    - هحكيلك...


    فلاش باك..


    - لسه عندك صداع؟

    كان سؤال تهاني لها وهي ممدة على فراشها في وقت مرضها، لتتعجب مريم من سؤالها وتجيب عليها بارهاق:

    - أيوة..

    بسطت تهاني كف يدها بشريط به حبوب مع قولها الهادئ:

    - طب خُدي حبيتين من دا هيضيع الصداع خالص، دا واحدة صاحبتي جبتهولي ومن ساعتها مافيش صداع بيجيلي.. إمسكي.


    ظلت مريم تنظر لها باستغراب شديد، بينما تسألها بخفوت:

    - بس أنتِ مش بتحبيني، ليه عاوزة تساعديني؟

    ردت عليها بتهكمٍ:

    - لأن مابحبش أشوف إبني متضايق، وطول ما أنتِ تعبانة هو بيكون متضايق، مش بساعدك عشان سواد عيونك.. إتفضلي..

    تركته أمامها وبرحت الغرفة، لكنها بقيت عند الباب تراقبها بفضول، أما عن مريم فقد تناولت الحبتين كما قالت، وتناولت خلفهما كوبا من الماء، وراحت في سبات عميق وبالفعل ذهب عنها ألم رأسها..


    باك...


    وبعدين؟

    سألت يُسر بعينين جاحظتين من هول الصدمة، لتجيبها مريم تلك المرة وهي تنفجر باكية:

    - وبعدين.. كل ما يجيلي صداع أخد منه، ولما رحت الصيدلية عشان أجيب زيه الدكتور قالي إنه برشام مخدر!

    شهقت يُسر بفزع وهي تردد:

    - مخدر! .. إزاي؟! إزاي ماما تديكي حاجة زي كدااا، وأنتِ إزاي متقوليش ليوسف حاجة زي كدا أصلا؟

    أجابت عليها بضيق:

    - أنا لسه عارفة من كام يوم الكلام دا، ولما رحت سألتها ليه عملت كدا قالتلي عشان أخلص منك ولو قلتِ ليوسف هرمي على وشك مية نار..


    تجمدت قسمات يُسر وهي لم تستوعب جبروت والدتها، إلى أي مدى وصلت والدتها؟..

    وصلت للخطورة ولابد من موقف فتتمادى فتضيع وتضيع من حولها!

    بعد صمت قصير قالت يُسر بجدية:

    - لازم يوسف يعرف كل حاجة في أسرع وقت يا مريم، وأنتِ أوعي تاخدي من البرشام دا أبدًا تاني..

    مريم من بين دموعها الكثيفة:

    - أنا بقيت أحس بتعب من غيره أصلا وهو كدا كدا مش موجود في أي صيدلية، بس أنا تعبانة وكنت بحاول أداري عن يوسف ومش عارفة هيعمل إيه لما يعرف، وكمان خايفة مامتك ترمي عليا مية نار زي ما قالتلي..


    يُسر وهي تحاول تهدئتها:

    - ماتخافيش يوسف هيحميكِ مهما كان، هو ممكن يزعل إنك خبيتي عليه وبصراحة أنتِ غلطانة فيه حد يخبي حاجة زي كدا؟ ماما بتهددك بس مش هتقدر تعملك حاجة..

    ردت مريم بقلق:

    - هقول ليوسف أول ما يرجع ويارب يسامحني..


    مساءً..


    أصبح الجو أكثر برودة كما تساقطت حبات المطر من السماء، ليلة شتوية رائعة كان يتأملها يوسف من خلف الزجاج وهو يبتسم بود متذكرًا صغيرتهُ المهووسة بجو الشتاء خاصة المطر، تمنى لو كانت معه الآن بين أحضانه تحتسي من نفس فنجانه هذا كما عودها..

    راح يسحب هاتفه من جيب بنطاله وقرر محادثتها لكنه وجد الهاتف مغلق، فخمن أن تكون نائمة أو ربما فصلت بطارية الهاتف..


    على الجانب الآخر..


    تسحبت تهاني على أطراف أصابعها متوجهة إلى غرفة مريم وهي تتلفت حولها حتى لا يراها أحد وخاصة "همام" رغم أنه غير موجود. !

    فتحت الباب عازمة على إخراجها من البيت هذا كما خططت، ولجت إلى الغرفة وبحثت عنها لكنها لم تكن بالداخل، ظنت أنها بالحمام فذهبت إليه فلم تكن هناك أيضًا..

    تجهم وجهها وخرجت تبحث عنها في غرفة ابنتها يُسر، فتفاجأت بيسر بمفردها!


    عقدت حاجبيها وسألتها بحدة:

    - هي فين؟

    استغربت يُسر من حديثها وقالت؛

    - هي مين؟

    أجابتها بنفاد صبر:

    - مريم!

    يُسر بدهشة:

    - معرفش، هي مش في أوضتها؟

    - لا..


    تعجبت يُسر وقررت الذهاب إلى الحديقة ربما تمكث هناك، فهي تعلم أنها تحبذ هذا الجو الشتوي، بالفعل ذهبت وبحثت عنها أيضًا لم تجدها..

    شعرت بالقلق يجتاح قلبها، هتفت بارتجافة احتلتها:

    - مريم راحت فين، مرييم..

    توقعت على الفور أن والدتها هي وراء اختفائها المفاجئ، لتزمجر فيها بحدة:

    - فين مريم يا ماما؟ مريم فييين!

    والأخيرة ردت بعنف:

    - وأنا مالي ياختي، تلاقيها هربت ولا شافت لها شوفة!


    كادت تتكلم يُسر لولا مجيء والدها الذي بتر عبارتها وسؤاله الحاد وهو يقول:

    - في ايه؟ مالكم؟

    أجابت يُسر بقلب وجل:

    - مريم مش لاقينها..

    اتسعت عينيه بصدمة وهتف:

    - نعم؟.. مش لاقينها يعني إيه؟

    تابعت تهاني بشماتة:

    - يعني مش لاقينها ايه بنتكلم عبري ولا إيه يا همام!


    رمقها حينئذ بنظرة شرسة هاتفا وقد جزّ على أأسنانه:

    - أنتِ نهارك إسود، ورب الكعبة لو ما ظهرت البت لأكون مطلقك فيها، البت فين يا تهاني؟

    تهاني وقد هتفت بحدة مخيفة:

    - تطلقني يا همام؟ دي أخرتها، معرفش هي فين والله ما أعرف أنت إزاي تتهمني إن أنا اللي ضيعتها..

    همام بعدم ثقة لكلامها:

    - إومال مين العفريت هيجي ياكلها ولا هي تكون طفشت إن شاء الله؟

    أومأت تهاني مؤكدة:

    - أيوة طفشت..


    تحكم همام بأعصابه قدر المستطاع، ليكمل وهو يشير إليها بسبابته:

    - والله العظيم لو مشيت بسببك ليكون فيها طلاقك يا تهاني..

    أسرع يركب سيارتهُ مرة أخرى عازمًا على البحث عنها عله يجدها! بينما يردد في نفسه بتوتر:

    - يا نهار إسود البت إتخطفت ولا إيه!


    وطئت بقدميها ذاك البيت الخُرافي، صاحب الأثاث الرقيق وألوان الحائط الهادئة وفرشهُ المُبهج.. ما هذا؟

    ما هذا الجمال، المنزل في غاية الأناقة وصغير الحجم به حديقة مليئة بالورود والأشجار التي كانت تتمايل بفعل الرياح والأمطار..

    مسحت على وجهها وهي تبتسم بارتياح متسائلة:

    - إيه دا يا دادة عطيات؟ دا بيتك؟


    هزت عطيات رأسها قائلة:

    - لا يابنتي أنا مأجراه من ناس معرفة كدا، المهم أنتِ ارتاحي وأنا هفضل هنا في خدمتك..

    مطت مريم شفتيها قائلة بتحيّر:

    - دادة أنتِ بجد سمعتي نهال وهي بتقول لها انها هتسمني؟! أنا مش قادرة أصدق انهم بيكرهوني للدرجة دي.

    قالت عطيات:

    - والله يا بنتي ما بكذب عليكِ، أنا قلت أنجيكي منهم لحد ما يرجع الاستاذ يوسف وتبقي في حماه زي ما كنتِ، أنا عملت اللي يرضي ضميري وبس..

    مريم بامتنان:

    - شكرا يا دادة مش هنسى إنك وقفتي جنبي طول عمري..


    في اليوم التالي..


    لم يغمض لهمام جفنا، حيث لف الشوارع كلها بحثا عنها، الأقسام والمستشفيات وحتى المساجد ربما تكن بأحدهم!

    لكنه لم يجدها أيضًا أخذ يوبخ زوجته وبكل من في البيت بجنون، أين هي؟

    سيجن بالتأكيد، وماذا سيقول لابنه حين يعود من سفره؟

    تلك الأمانة التي تركها بحوذته أين هي؟

    جلس على المقعد بانهاك وبدا الحزن واضحا بشدة على ملامحه وعقله سينفجر من كثرة التفكير..


    كانت تسير مريم بحديقة ذاك المنزل المُريح الذي أسعدها وبشدة، أنه منزل تماما كما تخيلته وحلمت به، وهناك أرجوحة أيضًا كما تمنت بوسط الحديقة، هل هذا منزل الدادة عطيات؟

    كيف؟ ..


    سألت نفسها بتعجب وهي تشعر بشيء غريب يحدث، لم تفكر كثير لتنتشلها تلك الرائحة المميزة التي اخترقت أنفها...

    إنها رائحته.. يوسف هي رائحة يوسف!

    التفتت لتنظر خلفها فتشهق بعدم تصديق، بالفعل هو يقف خلفها ويبتسم ابتسامته الخاصة بها، سريعا وتلقائيا ألقت بنفسها داخل حضنه، وهو لم يتردد كثير للف ذراعيه حولها يضمها بقوة إليه، بينما يتنشق عبيرها مستمتعًا وهامسًا بنبرة دافئة:

    - قلبي..


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل العاشر


    ( الحب في أبهى صوره )


    لم تصدق أنهُ عاد بهذه السهولة؟، ليشعرها بدفىء وجوده وأمانه الذي حُرمت منه ليوم واحد فقط، ابتعدت عنه قليلًا كي تتمكن من رؤيته وتُشبع عيناها من ملامحه المحفورة داخل قلبها الصغير، مررت أناملها على وجنته وذقنه وهي تهمس بابتسامة ودودة:


    - حبيبي، أنت رجعت بجد؟ ..

    تنهد بهدوء تنهيدة ممدوة، وراح يقبض على كفها دون كلام ثم يصطحبها داخل البيت، سار حتى جلس وأجلسها جواره على الأريكة بينما يقول بهدوء أخافها قليلًا:

    - إيه اللي أنا عرفته دا؟

    تلعثمت في قولها بينما تزوغ عيناها بتوتر بالغ:

    - ع عرفت إيه؟

    ثبت نظره عليها فيقول بجمود:

    - مقولتليش ليه من أول يوم؟، إزاي تستني وتتمادي وتخبي عليا حاجة زي كدا؟، أنتِ بتستهبلي يا مريم؟، بجد أنا مش مصدق!


    ودون مُقدمات كانت تجهش في بكاءٍ حار متحاشية النظر إلى عينيه المُحاصرتين لها، بينما يستطرد يوسف بغضب جم:

    - أنا مش عاوز عياط، بتبكي ليه دلوقتي؟ شيفاني عملت لك حاجة؟ بكلمك تردي عليا متبكيش!

    أومأت برأسها إيجابًا، بينما تقول من بين شهقاتها:

    - بعيط عشان أنت زعلان مني، وكمان أنا كنت خايفة..

    تابع بنفاد صبر:

    - خايفة من إيه؟، مني أنا؟

    استطردت بحزن:

    - منك ومنها، هي هددتني وأنا كنت خايفة تنفذ التهديد، وكنت خايفة أنت تغضب وتسيبني لما تعرف إن مامتك خلتني مدمنة..


    ضغط على ذراعها بغيظ بينما يهتف بحدة:

    - هبلة أنتِ؟ ولا إيه؟، قلت لك ميت مرة مافيش حد يعرف يأذيكِ طول ما أنا موجود حتى لو أمي، وأنتِ عارفة كدا كويس، يبقى بتخبي عليا ليه؟ مافيش مبرر يا مريم للي حصل بس حسابك معايا مش دلوقتي، بعدين.. بعدين يا مريم..

    هتفت برجاء:

    - أرجوك ماتزعلش مني، أنا أسفة والله هتكون أخر مرة أعمل أي حاجة تزعلك..

    - يا دادة..

    هتف مناديًا، لتحضر السيدة عطيات لتوها قائلة في تهذيب؛


    - أفندم يا أستاذ يوسف؟

    قال يوسف بجدية:

    - ياريت تحضري الغدا من فضلك..

    أومأت في طاعة وانصرف بينما نهض عن مجلسه واتجه نحو النافذة واضعا يديه في جيبي بنطاله وهو يتأمل الزهور المتراقصة بفعل الهواء، تنهد بضيق يجتاح قلبهُ، لا يعلم ماذا يفعل بوالدته؟

    وكيف يواجهها، تخطط لقتل حبيبته؟ بأي حق وأي قلب لديها؟

    لمَ تسعى لخراب حياته مع من أحببها عنوة؟


    شعر بيدها تربت على ظهره بهدوء ولم يسمع صوتها، لم يلتفت لها ليقول بجدية تامة:

    -نعم يا مريم؟

    صوت أنفاسها المضطربة وصله قبل أن يصله صوتها المرهق وهي تقول:

    - هتسامحني؟.. وناوي تعمل إيه معايا يعني هتعالجني ولا لا؟

    التفت لها واقترب منها خطوة، ثم أخبرها بحزم رفيق:


    - اللي حصل مش ذنبك أنتِ يا مريم، إهدي، قلت لك حسابك بعدين وحسابك دا عشان خبيتي عني، إنما أي حاجة تانية أنتِ مالكيش ذنب فيها، كمان أنتِ مش مدمنة لان المخدر مالحقش يتمكن منك، أنا سألت قبل ما أجيلك وعرفت كل حاجة، هو علاج هتاخديه بانتظام بعد الأكل كل يوم لمدة اسبوعين عشان الآلآم اللي بتحسي بها وبعدها هتكوني كويسة..

    ابتسمت بارتياح وهي تقول بامتنان:

    - شكرًا يا يوسف..


    لم يبادلها الابتسامة إنما قال بنبرة مهمومة:

    - العفو..

    تابعت مريم في حذر:

    - ممكن أسأل سؤال؟ لا اتنين؟

    أومأ لها دون أن ينطق، فاستأنفت بفضول:

    - مين اللي عرفك باللي حصل؟


    أجابها وهو يعود ينظر من الشرفة بلهجة صارمة:

    - أنا أصلا كنت ماشي ومش مطمن عليكِ، ساعتها كلفت دادة عطيات بمراقبة أمي والزفتة التانية دي، ولما بلغتني باللي ناويين عليه قلتلها تجيبك هنا، إنما موضوع البرشام دا يسر اتصلت وقالتلي.. ها والسؤال التاني؟

    تابعت وهي تنظر حولها تتأمل المكان وألوانه بانبهار:

    - البيت دا بتاعك؟

    عاد ينظر إليها، يتأمل ملامحها بعينيه، ثم يثبت عينيه على عينيها قائلًا بهدوء صارم:

    - لا..


    تعجبت وقد خاب أملها، لتسأله بحنق:

    - إومال بتاع مين؟

    فأجابها بحماس منتظرًا ردة فعلها:

    - البيت دا بتاع مريم..

    افتر ثغرها عن ابتسامة راضية وهي تردد بملامح مبتهجة:

    - إيه، بتاعي!

    ابتسم رغمًا عنه على ردة فعلها الطفولية وهو يستطرد بتوضيح:


    - بقالي تقريبا سنة بجهز فيه، كل اللي كان نفسك فيه عملته فيه، المرجيحة وشجرة التوت اللي في الجنينة وكمان صغير في الحجم زي ما طلبتي وألوانه طفولية ومبهجة، كل حاجة زي ما تمنتيها، كنت ناوي أفاجئك بيه قبل دخلتنا بكام يوم بس أهو ملقتش مكان مناسب تكوني فيه غيره، إيه رأيك فيه زي ما اتمنيتي ولا؟

    أسرعت تلقي بنفسها داخل أحضانه وأغلقت عيناها بشدة بينما تبتسم بسعادة عارمة وهي تدفن وجهها عند عنقه قائلة:

    - دا أحلى ما اتمنيت، دا جميل وروعة، أنا مش مصدقة نفسي، إنت إزاي كدا؟ إزاي بتقدر تخليني أسعد واحدة في الدنيا؟! بحبك بحبك أوووي وعمري ما حبيت حد أدك..


    منحها ابتسامة عذبة، ليقول برفق:

    - مش أكتر مني يا مريم، لما بشوفك سعيدة بكون أنا أسعد واحد في الدنيا ولما بتزعلي بتعكنن أنا ومبعرفش أعيش طبيعي..

    صمت قليلًا قبل أن يواصل بهدوء ونبرة ذات معنى:

    - بس دا ميمنعش إن حسابك لسه جاي يعني!

    أومأت بابتسامة وهي لا تشعر بذرة من الخوف، كيف تخاف؟

    من إنسان يوفر لها الحب كما يجب؟ كما أُنزل، يسعى لإسعادها ويرفق بقلبها لطالما أهدته إياه على الرحب والسعة! ..

    - أوك حاسبني براحتك وأنا مش هعترض، بس أهم حاجة متبعدش عني

    ابتسم وهو يحرك رأسه موافقًا بينما يتجه بها نحو طاولة الطعام ليتناولاهُ معا...


    بعد مرور وقت طويل، حيث حل المساء، غفت عيني مريم بعد أن استلقت على الفراش وأخذت الدواء وقضت وقتها مع يوسف، رفع الغطاء عليها بهدوء واستقام واقفًا وهو يرمقها بنظراتٍ مطولة تحمل الكثير من المشاعر الخاصة، مستحيل أن يقسى عليها، لم يستطع ذلك، دائمًا يراها طفلتهُ، ناهيكٍ عن فقدانها لوالديها من صغرها ومعاملة أمه الجافة لها، كل هذا يجعله يرفق بها دائما، قد وعدها أن الابتسامة لم ولن تفارق ثغرها طالما كان حي يتنفس... وهو يحاول جاهدًا أن يوفي بوعده، وأن يعلمها كيف تفعل الصواب دون قسوة أو عنف!خرج من الغرفة وتوجه حيث توجد " عطيات"، ليقول بهدوء حمل الرجاء:

    - لو سمحتي يا دادة خليكِ جنب مريم، أنا خارج وهرجع بعد شوية، لو صحيت وحست إنها تعبانة كلميني بس..

    أومأت إيجابا مع قولها:

    - حاضر في عنيا..

    تنهد بأريحة وبرح المكان، عازمًا على الذهاب إلى الفيلا، بالفعل بعد مرور وقت قليل كان هُناك..

    ولج إلى الداخل وسأل عن والده فأخبروه أنه بغرفة مكتبه، راح يطرق الباب ودخل، ليجده في حالة يرثى لها، جالس في وادٍ أخر، عيناه حزينتان متعبتان للغاية، والارهاق بدا.


    واضحا بقوة على قسماته، رفع نظره إلى يوسف الواقف أمامه في صمت حزين، بينما يقول بنبرة متعبة:

    - حمدلله على السلامة، رجعت قبل معادك يعني؟

    يوسف وقد تجاهل سؤاله عن عمد ورسم الغضب على ملامحه كما رسم الحزن المصطنع:

    - مريم فين يا بابا؟، فين الأمانة اللي سبتها في رقبتك؟!

    تنهد همام بمرارة وهو ينهض عن مقعده مجيبا بنبرة شبه منكسرة:

    - مش عارف أقولك إيه، من حقك تزعل بس...

    يوسف وقد قاطعه بتجهم:

    - بس إيه؟ بقولك فين مريم؟! أنت المسؤول عن اللي حصل دلوقتي، أنا عاوز مريم سمعتني؟


    زفر زفرة قوية وهو يقول بضيق حقيقي:

    - كفاية تأنيب أنا قلبت الدنيا عليها، أنت فاكر إني زعلان عشانك؟، دي بنت أخويا وأمانة أخويا، أنا قلبي بيتقطع عليها، أنا منمتش من إمبارح إسكت شوية بقى..

    أنهى كلامه وراح يجلس على الأريكة بارهاق شديد، دفن وجهه بين كفيه وكان على وشك البكاء..

    ليسمع صوت قهقهة يوسف تصدح في الغرفة، رفع وجهه مذهولًا وهو يردد بغضب جم؛


    - أنت بتضحك على إيه؟

    قال يوسف بحذر وهو يتراجع خطوة للخلف:

    - من غير ضرب، مريم عندي!

    توسعت عيناه بصدمة وذهول في آن، حدق فيه بغيظ شديد رغم صمته، نهض متجها إليه وهو يرمقه بنظرة شرسة، في حين ابتعد يوسف وهو لم يستطع التوقف عن ضحكاته، لينحني همام ويخلع نعله عن قدمه وهو يشتم بعنف، بينما يدفعه بالنعل وهو يهتف بحنق شديد:

    - أنت واد مش متربي، يا جزمة يا..


    ليشير له قائلًا من بين ضحكاته:

    - إهدى بس، هفهمك، إهدى..

    صرّ على أسنانه بقوة بينما عينيه مشتعلتين بغضب ناري، ليقول بصرامة شديدة:

    - تفهمني إيه، إنطق؟!

    بعد أن هدأ قليلًا جلس معه وقص عليه ما حدث، من الألف إلى الياء..

    ليتوجه همام كالعاصفة إلى زوجته معنفًا إياها وألقى عليها تهديده قائلًا:

    - هطلقك!


    لوت الأخيرة شدقها ساخرة، لتقول بلا مبالاة:

    - طلقني يا همام، مبقتش فارقة معايا..

    كان المتحدث يوسف فقد استفزته كلمات والدته ولا مبالاتها تلك، ليهتف بغضب:

    - ليه بتعملي كدا؟، ليه مصرة تدمرينا بأفعالك؟ ليه مصرة تبوظي حياتي؟ ليه مصرة تفسدي الحاجة الحلوة الوحيدة في حياتي؟!

    نظرت له بتهكمٍ سافر قبل أن تجيبه ببساطة:

    - عشان بكرهها وهفضل أكرهها، وعمري ما هرضى عليك طول ما هي معاك وأنت متمسك بيها..

    رد عليها في المقابل:

    - تكرهيها دا أنتِ حرة في نفسك لكن مش من حقك تأذيها وتخططي لقتلها، ايه قلبك دا إيه؟ مش من حقك كمان تمنعيني عنها، أنا اللي هعيش مش أنتِ؟


    مريم هي حبيبتي ومافيش حد غيرها هيدخل قلبي كمان مافيش حد هيقدر يأذيها طول ما فيا نفس!

    انتقل ببصره إلى نهال وقال جازا على أسنانه:

    - وياريت الكل يعرف كدا، ويخلي عنده دم بقى..

    - أنتِ، إطلعي برا بيتي فورا أنا مش عاوز أشوفك تاني، مفهوم؟


    أردف همام بهذه الكلمات وهو يُشير إلى نهال بسبابته والغضب يعصف بعينيه، تحرجت نهال ونظرت إلى الأرض بانكسار، بينما يتابع همام:

    ولو شفت وشك تاني متلوميش إلا نفسك!

    تحركت نهال منصرفة وهي تبكي بحرقها فقد خاب أملها وضاع حلمها، فهل استسلمت بهذه السهولة؟!


    ليستمعوا إلى صوت ارتطام حاد، فقد سقطت تهاني مغشيا عليها...


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الحادي عشر


    ( شتاء دافئ )


    خرج الطبيب من الغُرفة بعدما انتهى لتوه من فحص " تهاني " بدقة، راح يقول بنبرة رسمية:

    ‎- هتمشي على العلاج دا لمدة اسبوع لحد ما تجي لي العيادة وأشوفها، وياريت صورة تحاليل كاملة وأشوفها في الاستشارة إن شاء الله.


    أومأ يوسف بصمتٍ وهو يسير معه كي يوصله إلى الخارج شاكرًا إياه، عاد إلى الغرفة مجددًا وولج إلى داخلها، نظر إلى والدته بصمت وهي كذلك، التزم صمتهُ بينما قال همام بصوتٍ أجش:

    ‎- أنا خلاص مابقتش مأمنلك يا تهاني، رغم كل اللي كنتِ بتعمليه ورغم إسلوبك الزفت، إلا إني كنت باقي عليكِ لكن أنتِ طلعتي جاحدة ومعندكيش قلب، معقولة هان عليكِ البنت؟ ليه بتنتقمي من مين؟ من واحدة ماتت في بنتها؟ مش معقولة أنتِ مش طبيعية..!


    أغلقت عينيها بضيق هاربة من نظراتهُ، بينما تتأفف بضجر وهي تواصل بنبرة مستفزة:

    ‎- ضغطي عالي أنا مش ناقصة، مجرد ما أقدر أقف على رجلي هسيب لك الدنيا كلها وأمشي وإشبع بيها أنت وإبنك وربنا يهنيكوا!

    ‎صرّ سعد على أسنانه غاضبًا، مازال حديثها فظا غليظا؟!

    ‎لم يلين قلبها المتحجر، لم تُهد كونها مرضت!


    تتمسك بأخلاقها البشعة، تهند يوسف بيأس تام من إسلوب والدته وفقد الأمل فيها بحسرة، حسرة تجتاح قلبه حيث أنها ستبقى أمه مهما فعل هي أمه، كيف يراضيها ورضاها فيه عذابه؟

    ‎لم ينتظر أكثر من ذلك وخرج من الغرفة مختنقا، تبعه همام وهو يضرب كفا بكف بغضب قاتل، نادى على إبنه بنبرة متعبة:

    ‎- يوسف..

    ‎التفت يوسف إليه وراح يقول بنبرة متكلفة:

    ‎- نعم؟

    ‎تابع همام في صرامة:

    ‎- مريم فين؟


    أجاب يوسف ببساطة:

    ‎- عندي في البيت، اللي كنت قلت لك عليه قبل كدا، أنت عارف إني كنت بجهزه..

    ‎همام وهو يحك ذقنه قليلًا بينما يرد كاظمًا غيظه:

    ‎- أها، بتعمل إيه يعني عندك مش فاهم؟ مريم ترجع النهاردة تمام؟

    ‎حرك رأسه بنفي قاطع قائلًا بجدية تامة:

    ‎- مريم مش هترجع هنا تاني، أرجعها إزاي؟.. مستحيل طبعا خلاص أنا وهي هنعيش هناك..

    ‎اقترب همام من إبنه يهتف بصرامة:

    ‎- مش عاوز استهبال، تعيشوا هناك لوحدكم إزاي؟ .. إيه التهريج داااا، لسه الدخلة ما تمتش دا مجرد كتب كتاب!


    - تتم..

    ‎قال يوسف كلمته بنبرة ذات معنى وتابع بلا مبالاة:

    ‎- إيه مشكلتك دلوقتي، الدخلة وهتم فيه طلبات تاني؟

    ‎مسح على وجهه بضيق فيقول:

    ‎- تتم بأصول مش منك لنفسك، ولازم تخرج من عندي هنا زيها زي أي بنت وبعدين تبقى حر أنت وهي إنما كلامك دا ميمشيش معايا تمام؟


    يوسف بغير رضا:

    ‎- لا مش تمام، مريم مش هتدخل البيت دا تاني مش هضمن أسيبها دقيقة واحدة هنا، وكدا كدا هي خرجت من عندك أصلا برضوه يعني في إيه بقى؟

    ‎- فيه استظراف

    ‎قالها جازا على أسنانه، بينما يستكمل:

    ‎- أنت تسمع اللي بقولك عليه، على الأقل اسبوع واحد وبعدين نعلن جوازكم وتغور تروح على بيتك بعد كدا ومش عاوز نقاش..

    ‎زفر يوسف مع قولها المتجهم:

    ‎- ماشي بس لما صحة مريم تتحسن شوية وكمان الوضع هنا يهدى شوية، أنا ماشي..

    ‎انصرف على ذلك وترك والده يشتم سرًا في غيظ..


    جلست يسر جوار أمها في صمت وهي تتردد في النطق بتلك الكلمات التي تريد قصّها على والدتها..

    ‎تنهدت بعمق قبل أن تتحرر من صمتها قائلة بهدوء:

    ‎- حمدلله على سلامتك يا أمي، بإذن الله هتكوني بخير..

    ‎اكتفت تهاني بهز رأسها دون أن تنطق، فقط ملامحها كانت متجهمة بشدة..

    ‎- ماما ممكن أتكلم معاكِ شوية بعد إذنك؟

    ‎أردفت يسر، لتثبت تهاني بصرها عليها رغم ضيقها الشديد، قالت بضجر؛


    - عاوزة إيه؟

    ‎تابعت يُسر بنبرة متزنة بينما ابتسامة عذبة تغزو شفتيها:

    ‎- ممكن أفهم ليه بتكرهي مريم بالدرجة دي، فهميني بس، أنا عارفة إن مامتها الله يرحمها كانت مش بتحبك أو حاجة زي كدا بس مريم ذنبها إيه؟ وإيه المشكلة لو عاملتيها زيّ؟


    تنهدت تهاني بثقل وهي تشيح بوجهها عنها ناظرة للجهة الأخرى في غضب،وساد الصمت بينهما لدقائق قبل أن تقول تهاني بنبرة محملة بالألم:

    ‎- لأن أمها كانت بتكرهني من غير سبب، كانت بتحب همام وهي متجوزة!، يعني بتخون جوزها وأنا كنت بموت لما بشوف نظرات الاعجاب الواضحة في عنيها، زائد إنها في مرة حاولت تقتلني! أه تقتلني متستغربيش، أخو همام كان من الناس اللي على نياتها أوي وعشان كدا كانت بتستغفله وتبص لهمام، وكانت عاوزة تخلص مني عشان الجو يخلى ليها! بس ربنا قادر على كل شيء ماتت قبل ما دا يحصل في الحادثة..


    تابعت يُسر في تفهم:

    ‎- وبابا كان إيه موقفه منها؟ كان بيبادلها النظرات؟

    ‎حركت رأسها نافية بجدية:

    ‎- الشهادة لله لأ..

    ‎يُسر بابتسامة ودودة:

    ‎- طب دي حاجة كويسة جدا، المفروض تعتزي ب بابا دا العمر كله لأنه مخلص والمخلصيين قليليين دلوقتي يا ماما..


    صمتت تهاني وهي تمسح على وجهها بكفها، بينما تتابع يُسر بهدوء:

    ‎- وبعدين يا ماما مريم مش زي أمها خالص، متستاهلش كل اللي شافته منك، مريم طالعة لبابها الله يرحمه، مش أنتِ بتقولي أنه كان طيب؟.. والله مريم ما فيه أطيب منها.. جربي تفتحي لها قلبك وهتعرفي أد إيه هي كويسة وبريئة أوي..

    ‎ردت بتهكمٍ:

    ‎- البنت بتطلع لأمها دايمًا، مافيش بنت مش بتطلع لأمها، دا حتى في الأمثال الشعبية بيقولوا " إقلب الأدرة على فمها تطلع البنت لأمها"

    ‎ضحكت يُسر بتعجب من هذه الخرافات، لتواصل حديثها باتزان؛


    - دا مجرد مثل يا ماما مالوش أي أساس من الصحة، مش لازم البنت تطلع لأمها، يعني مع إحترامي ليكِ يا ماما أنا مطلعتش زيك، مش بقول إنك لا سمح الله وحشة وأنا حلوة، بس أنتِ ليكِ طبع وأنا لي طبع واحنا الاتنين مختلفين أنا حتى بحب اللبس المحتشم وأنتِ بترفضي دايما، وليا أسلوب حياة مش بيعجبك يعني دا أكبر دليل على إن البنت مش بتطلع لأمها.. بلاش تحكمي عليها من غير ما تعرفيها كويس..

    ‎تشوش تفكير تهاني للحظة، ورغم أنها قاربت على الاقتناع بحديث ابنتها المتزن، إلا أنها زمجرت معنفة إياها بقسوة:

    ‎- قومي روحي أوضتك، أنا عاوزة أنام!


    استيقظت من نومها لتجد نفسها وحيدة في الغرفة، نهضت جالسة بارهاق وهي تنظر حولها بحثا عنه، انكمشت ملامحها بعبوس وهي تترحل من سريرها بتمهل، خرجت إلى بهو المنزل لتجد السيدة " عطيات " تجلس وهي غافية..

    ‎اقتربت تربت على كتفها برفق مع قولها:

    ‎- دادة!


    فتحت عينيها تطالعها بلهفة مع سؤالها:

    ‎- إيه يابنتي محتاحة حاجة؟

    ‎قالت مريم بهدوء:

    ‎ليه منمتيش يا دادة وقاعدة بتنامي على نفسك كدا؟ وفين يوسف؟

    ‎أجابتها بابتسامة صافية:

    ‎- قعدت يمكن تصحي وتحتاجي حاجة، والأستاذ يوسف قال خارج شوية وزمانه راجع، أعملك حاجة تاكليها؟


    حركت رأسها بنفي وهي تقول متنهدة:

    ‎- شكرًا يا دادة، أنا هخرج الجنينة أستنى يوسف، وأنتِ قومي نامي وارتاحي..

    ‎أومأت السيدة قائلة بلطف:

    ‎- تصبحي على خير يابنتي..

    ‎بادلتها ابتسامة لطيفة كذلك مع قولها:

    ‎- وأنتِ من أهله يا دادة..


    خرجت إلى الحديقة وهي تحكم شالها عليها، فالجو شديد البرودة لكنه رائع بالنسبة لها، أخذت تتنفس بعمق وهي تحتضن نفسها بذراعيها تملأ رئتيها بالهواء ونسمات الشتاء المُحببة لها، مشت حتى وصلت إلى شجرة التوت التي لم تطرح ثمارها الآن، ابتسمت باتساع ابتسامة عاشقة سعيدةً لتلبية طلبها، تمنت أن يأتي موسم التوت فتتفتح الشجرة وتزدهر بالثمار لتتناول حباتها مع حبيبها وحدهما..


    أفاقت من شرودها على شيء دافئ اقترب منها، وبذراعين يضمناها بحنو، أغمضت عينيها دون الالتفات له وافتر ثغرها بابتسامة واسعة، ومن ثم همسهُ الحانِ:

    ‎- واقفة في البرد ليه؟

    ‎أجابته بنبرة دافئة وهي تلتصق به:

    ‎- أنا بحب البرد، وقت أستناك!

    ‎أدارها إليه كي يتمكن من رؤية وجهها الحبيب، يلثم وجنتها بتمهل مع قوله المثير:

    ‎- بعدين الجميل ياخد برد وأموت أنا!

    ‎ضحكت بخفوت وهي تردف نافية بثقة:

    ‎- لا مش هاخد اطمن!


    قهقه ضاحكا مع قوله:

    ‎- أحبك وأنت واثق من نفسك يا صغنن..

    ‎شاركته ضحكاته وهي تضع رأسها على صدره تَسمع دقاته المتتالية النابضة بحبها، توقفت وتوقف..

    ‎ضمها متنهدًا بحب جارف، سمع صوتها وهي تسأله:

    ‎- إنت كنت فين؟

    ‎فأجابها بايجاز:

    ‎- كنت بقضي كام مشوار كدا عشان كنت لسه مخلصتش شغل..

    ‎كادت تتحدث مرة أخرى فقاطعها وهو يداعب وجنتها هامسا:

    ‎- وحشتيني على فكرة، مافيش كلام حلو هسمعه النهاردة ولا إيه؟


    حركت رأسها نافية بمشاكسة ودلال، ليحملها فجأة قائلًا بغمزة من عينه:

    ‎مش عاوز، أسمعك أنا..

    ‎ضحكت بشدة وهي تركل بقدميها الهواء في سعادة من غزله وتدليله الوافران، دخل بها إلى غرفتهما وهو يقول بخبث:

    ‎- هتنامي جنبي النهاردة..

    ‎شهقت فاغرة شفتاها بصدمة وهي تقول باعتراض:

    ‎- مش هينفع يا يوسف، بتهزر؟

    ‎يوسف متصنعا الجدية:

    ‎- ليه بقى إن شاء الله؟


    أجابته بتوتر:

    ‎- عشان إحنا لسه ما إتجوزناش يا دوبك كتب كتاب، وكتب الكتاب مش يديك الحق تنام جنبي ولا حتى تيشلني دلوقتي ولا أي حاجة، يُسر فهمتني كدا وأنا وعدتها إني مش هخليك تعمل كدا، نزلني بقى أنا كنت نسيت، نزلني يا يوسف

    ‎ضحك بتسلية على تعابير وجهها وهو يقول مراوغا:

    ‎- تدفعي كام؟


    - ولا مليم مش معايا فلوس..

    ‎ضيق عينيه بمكر متابعا:

    ‎- مش عاوز فلوس أصلا!

    ‎قالت ببلاهة:

    ‎- أومال عاوز إيه؟!

    ‎تأملها مليًا، قبل أن يهمس مازحا:

    ‎-أعطيني قُبلة! ..


    رواية صغيرتي نوفيلا للكاتبة فاطمة حمدي الفصل الثاني عشر


    ( أحبك للنهاية )


    نجحت في الفِرار منه دون تلبية طلبهُ، وبدلالها خضع لها بالطبع! فهي من تأسره بعشقها الآخاذ..

    لكنهُ لم يكُف عن مُغازلته لها وتدليله الخاص..

    - طب كويس إنك بتسمعي كلام يُسر، ليه ما تحاوليش تعملي زيها؟

    أردف يوسف بتلك الكلمات بنبرة ثابتة، وابتسامة عذبة تٌزين ثغره، فتابعت مريم متساءلة بعدم فِهم:


    - إزاي؟

    أجابها بتنهيدة عميقة ولهجة تحمل البساطة:

    - أقصد يعني في لبسها، جميل ومحتشم وفي نفس الوقت شيك، أنا مش هضغط عليكِ ولا عاوز أضغط بس أنا مش عاجبني لبسك يا روما ولا عاجبني إنك مش محجبة أصلا! بس سايبك على راحتك فترة..

    زمّت شفتيها في هدوء قبل أن تخبره بعفوية:

    - بس أنا لبسي مش ضيق، بسمع كلامك وألبس واسع، الحجاب خطوة حاسة إنها كبيرة عليا وممكن مأعملش بيه وربنا ممكن يغضب عليا لو ماعملتش بيه!


    منحها ابتسامة خفيفة وهو يردف موضحا:

    - ربنا هيغضب عليكِ عشان أخدتي خطوة في رضاه؟، مش صح طبعا، الحجاب طاعة لوحده ولو أخدتيها هتؤجري عليها، مافيش حاجة اسمها لازم أعمل بيه، فيه حاجة اسمها دا هيسترني وهيرضي ربنا وتقولي ربنا يقدرني أكتر وأطيعه في كل حاجة، فهمتِ؟

    هزت رأسها بإيجاب بينما تواصل:

    - أيوة، طيب أنا مش عندي لبس زي بتاع يسر، أعمل إيه؟


    يوسف وقد رد هادئا:

    - أشتريلك اللي تشاوري عليه يا روما، بس كدا؟ وبالمرة نشتري لاوازم الفرح والحاجات الحلوة بتاعة العرايس دي..

    أنهى جملته بغمزة وقحة من عينه، فصعدت حُمرة الخجل إلى وجنتيها بتدفق، وفركت كفيها معا في توتر وهي تستطرد:

    - أنا مش عارفة هجهز إزاي للفرح يا يوسف، يعني أعمل إيه وأبدأ منين مش عارفة..

    أطال النظر إليها مبتسما، هو يعلم أنها لا تفقه الكثير عن مطلبات الزواج والتجهيزات اللازمة، وهو سيصعب عليه ادراك حاجة الفتيات في هذا الوقت، لذا بادر يقول وهو يمسح فوق شعرها برفق حنون:

    - يُسر هتكون معاكِ وتجهزوا مع بعض، اه وصحيح دادة عطيات هديكِ من خبرتها برضوه اسأليها واستعيني بيها، وطبعا أنا معاكِ يا حبيبي بس الحاجات دي مش بفهم فيها أوي بس لو عاوزاني أفهملك مخصوص يعني وكدا..


    تعالت ضحكاته وهي تلكزهُ في ذراعه بقبضتها، بينما يتورد وجهها بشدة جراء غمزاتهُ ونظراته، تنهدت بضيق رغم قربه الذي يجعلها وكأنها تطير فرحا، أخبرته بحزن لمع بعينيها الواسعتين:

    - هنتجوز إزاي ومامتك مش موافقة يا يوسف؟.. أنا خايفة..

    لم يرد بأن تُفسد لحظته معها ولهذا قال بإيجاز:

    - متخافيش، هي ميسرها تعرف الصح، ومسيرها تهدى بالله وتعيش مع الأمر الواقع وتنسى الماضي، بس عاوزك متفكريش كتير، وسبيها على الله وطالما أنا جنبك خلاص ماحدش هيقدر يعملك حاجة، وبالمناسبة بابا طرد نهال من البيت وخلاص هتبعد تماما..


    صمتت تتنهد بحزن دفين، فرفع ذقنها بأصابعه إليه وأخبرها بنبرة حنون:

    - ممكن الجميل مايزعلش، عشان أنا مش بحبه يزعل! وكمان لازم الجميل يعرف إني بحبه للنهاية وهفضل أحبه مهما حصل، ممكن؟!

    افتر ثغرها عن ابتسامة سعيدة وهي تومئ برأسها مع قولها بامتنان وصدق:

    - هفضل أحبك لحد آخر نفس فيا..


    صدح هاتفها عاليًا ينبئ عن اتصال، التقطه بضجر وهي تنظر إلى شاشته متأففة، فقد كانت نهال وهي تمر بمرحلة مرهقة نفسيا وجسديا وتلك تثرثر كثيرًا رغم أنها تحبها..

    لذا لم ترد فأعادت نهال الاتصال مرارًا وتكرارًا، اضطرت لأن تجيب عليها، فوضعته على أذنها بعد أن ضغطت زر الاجابة، أردفت مغمضة العينين بتعب:

    - أيوة يا نهال..

    تابعت نهال بتمردٍ منها معتاد:

    - فينك يا أنطي، مش بتردي ليه على اتصالاتي كل دا؟

    أجابتها تهاني باختصار:

    - ما أنتِ عارفة إني تعبانة، وأكتر الأوقات مبقدرش أتكلم!


    تنهدت نهال بلا اكتراث بينما تواصل:

    - ألف سلامة، أخبار يوسف إيه؟ خلاص مش هنقدر نكمل الخطط بتاعتنا؟

    ترد تهاني بضيق شديد:

    - الظاهر إن النصيب أقوى من خططنا يا نهال، خلاص مبقاش عندي طاقة أعمل أي حاجة، إبني مصر عليها وهمام هيطلقني، خلاص أعمل إيه تاني!.. أنا هبعد عن حياتهم كلهم بكرامتي وهعيش بعيد وأنتِ سبيني في حالي..

    أغلقت الهاتف ما أن أنهت الحديث، لتحدق في الفراغ بنظرة حزينة، لا تعلم أهو حزن أم ندم؟ وهل عادت تهاني إلى رشدها؟ ..


    مر إسبوعين، استعادت مريم جزءً كبيرًا من عافيتها وحيويتها ووميض روحها المرحة، أما عن يوسف فكان بجانبها دائمًا رغم حنق السيد همام والده والذي وبخه بما يكفي وأحيانا كان يقذفه بنعله غير مباليا بمن حوله، والأخير كان يقهقه ضاحكا فوالده يبدو كوميديا دائما رغم عصبيته المفرطة...

    لكنه يستطيع دائما تهدئته بأسلوبه الخاص..


    وها هو معه داخل أكبر محلات الملابس الرجالي الكلاسكية ذات الماركة، ينتقي بذلة تليق به استعدادًا لزفاف ابنه على ابنة أخيه، ولابد بأن يظهر بمظهر يليق بهمام الرجُل الخمسيني الوقور ذا الروح الشبابية..

    وقف أمام المرآة يتطلع إلى هيئته وهو يسأل بجدية تامة وملامح جامدة:

    - ها يالا كدا حلو ولا أشوف واحدة غيرها؟

    يوسف وهو يتجول بعينيه على بذلته الأنيقة صعودًا وهبوطًا بابتسامة استفزته، لينهره همام قائلًا بغضب:

    - ما تنطق، ساكت ليه؟!


    ضحك يوسف مندهشا وهو يقول من بين ضحكاته:

    - أديني فرصة، بدرس الأمر عشان أديك قرار نهائي يا حاج..

    - تدرس؟ تدرس إيه يا بغل، ما تنجز في ليلتك!

    قهقه يوسف مجددًا وهو يقول متعمدًا إغاظته:

    - مش حلوة، شوفلك غيرها حاسك مراهق كدا وأنت لابساها..

    كظم غيظه وهو يعود ينظر إلى المرآة بحنق واحباط، ليهتف بضجر:

    - بس أنا شايفها حلوة ومناسبة، ولا أنت خايف ليقولوا أبو العريس أحلى من العريس نفسه؟


    يوسف وقد رفع أحد حاجباه متابعا ؛

    - دا شيء يسعدني يا حاج همام، بس أنت فاهمني غلط وخلقك ضيقك، خليك رويح كدا، أقولك خدها مبروك عليك وخلاص..

    همام بضيق:

    أنت بتهاودني وخلاص؟

    يوسف بملل:

    - حلوة وبعدين أنا العريس ولسه ماجبتش بدلتي، أنت مستوعب؟


    همام بنبرة ثلجية متعمدة اغاظته:

    - أنا أهم..

    تركه يوسف وأخذ يتفحص المكان قائلًا:

    - طب مع نفسك بقى..

    ضحك همام وهو يقول جملته المعتادة:

    - ماشي يا جزمة!


    في اليوم الموالي..


    طرقت يُسر باب غرفة والدها الذي فتح بابتسامة عريضة يقول بنبرة مرنة:

    - صباح الخير يا حبيب بابا..

    بدا وجه يُسر شاحبا وهي تناظره بخوف بينما تهتف:

    - بابا..، ماما مش في البيت، شكلها مشيت وسابتنا، دورت عليها في كل البيت مش موجودة!

    صدمت ملامحه قليلًا، لكنه حافظ على اتزانه وهدوئه وهو يقول:

    - يمكن راحت عند أختها!..


    أردفت يسر نافية:

    - كلمتها مراحتش، مش عارفة أنا قلقانة عليها أوي يا بابا

    همام بتفهم يقول بهدوء:

    - إهدي، أمك مش صغيرة وهي محتاجة تبعد لعلها تعيد حسابتها يا يُسر!


    رتبت أشيائها في ضلفة خزانتها بسعادة عارمة والتي قامت بشراءها ليلة أمس بصحبة يُسر والسيدة عطيات، التي ألقت عليها النصائح وما يجب فعله في حياتها الزوجية بما فيها من واجبات عليها ونهج تسير عليه، وأنصتت مريم لها باهتمام ثم شكرتها ممتنة لها، كان يتابعها بعينين مشعتين حبا وهو يستند إلى الباب مبتسما، ما إن انتهت هي التفتت إليه تبادله ابتسامته العذبة تلك، اقتربت منه وهي تسأله بدلال قاصدة إياه:


    - بتبص على إيه؟

    أرجع خصلة من شعرها خلف أذنها وراح يهمس بمراوغة:

    - على حاجاتي..

    رفعت حاجبيها مندهشة تسأله بتذمرٍ طفولي:

    - حاجاتك إيه؟ دي حاجاتي أنا!

    ضحك مستمتعا ليواصل غامزًا:

    - لا الحاجات اللي في الدولاب دي بتاعتي أنا، بما إنك هتلبسيها ليا تبقى ليا!

    تخضبت وجنتاها بحمرة الخجل سريعًا وهي توكزه في معدته قائلة:

    - بطل بقى يا يوسف، بتكسفني بكلامك!

    راح يُقبل جبينها بحُب،بينما يخبرها:

    - بحبك؟

    افترت شفتيها بابتسامة ناعمة وصمتت، فعاد يكرر بتنهيدة حارة:

    - بقول بحبك؟

    أطلقت ضحكة خجلة وهي تخبره كذلك:

    - وأنا كمان!

    زمّ شفتيه قائلًا:

    - لا مش كدااا!

    ضحكت بدلالٍ وأخبرتهُ ثانيةً:

    - بحبك..


    اليومِ الموعود، اليوم المنتظر، ها هي الصغيرة أصبحت عروس في غاية الجمال، تأسر من ينظر إليها صغير كان أو كبير..

    جمالها آخاذ توهج عقب ارتدائها فستان الزفاف، لتبقى أميرة يتحاكى عنها الجميع بانبهار بالغِ..

    أما عنه فكان تائهُ وكيف لا يتيه، فالأميرة تتألق بابتسامتها الناعمة التي وهجت مشاعره الجياشة، فغر فاهُ وعيناه قد فُتحا بانبهار وهو يقترب منها رويدًا حتى وصل إليها، بينما يهمس متنهدًا وهو يستعيد ثباته:


    - فين روما؟ مشوفتهاش؟

    ضحكت بخفوت وبصوت لا يسمعه إلا هو همست:

    - مين روما دي؟

    التقط كف يدها بين راحة يده وراح يضغط عليه برفق مع اعترافه:

    - حتة من قلبي، حبيبتي الصغيرة ودلوعتي، بنت جميلة وجمالها هلكني، والليلة بقت ملكتي!

    ضحكت بنعومة وهي تمنحه ابتسامة عاشقة بينما تتشبث به مردفة:

    - طب الناس بتتفرج علينا وأنت بتقولي الكلام الحلو دا..

    جعلها تتأبط في ذراعه وهو يوعدها بحب:

    - نتقابل في بيتنا لسه ورانا ليلة كبيرة أوي!


    وصلوا إلى القاعة الذي سيقيم بها الحفل، استقبلوهم استقبالا حسنا مبهجا، كان السيد همام بجوارهما سعيدًا بتلك السعادة التي تجتاح إبنه وإبنة أخيه، لكنه كان يبتسم بحزن بين الفينة والأخرى، فزوجته لم تحتضر زفاف إبنها ولم تكن راضية وجانبه بهذا اليوم، تنهد بعمق محاولا عدم التفكير بما يعكر صفو هذه الليلة، بينما ينظر إلى إبنته ويجذبها نحوه يعانقها ويقبل رأسها داعيا لها..

    ومر وقت ممتع للغاية، ولم تكتمل الصورة بعد بغياب تهاني...


    تمُر بضعة دقائق أخرى وتدخل من باب القاعة في تردد، فقد أكلها الحنين لمساندة إبنها في يومه المميز، واشتعلت مشاعر الأمومة بداخلها رغم كبريائها وجبروتها، لتتجه صوبهم بنظرات مُهتزة، تقف وتنظر إلى ابنها ببسمة حزينة، والأخير بادلها بابتسامة عريضة تنم عن فرحه بوجودها وشيء ما يخبره بأنها مؤكدًا أعادت الحسابات، اقترب منها فعانقته بمحبة أم، بادلها كذلك وهو يقول لها بسعادة:


    - نورتي الفرح يا أمي..

    ربتت على كتفه قائلة بهدوء:

    - ألف مبروك

    نحت ببصرها إلى مريم لتبتسم لأول مرة وهي تحدثها:

    - ربنا يسعدك مع إبني يا مريم، وألف مبروك..

    ابتسمت مريم باتساع وهي ترد عليها:

    - الله يبارك فيكِ..

    انتقلت تهاني إلى همام، الذي كان يتابع بصمت هادئ، فتقول بتنهيدة حملت في طياتها الكثير:

    - أنا أسفة يا همام، أرجو إنك تسامحني وخلينا نبدأ صفحة جديدة..


    رفع همام أحد حاجبيه متصنعا الجدية، ليقول بصوت أجش:

    - وأنا أرجو إنك تكوني إتخليتي عن إسلوبك العنيف دا وتكوني حطيتي عقلك في راسك!

    أردفت بابتسامة خفيفة:

    - دا اللي حصل وإلا ماكنتش رجعت يا همام!

    اقترب يوسف منهما يقول بإيجاز:

    - خلاص يا حاج همام بقى المسامح كريم، صافي يا لبن؟

    ضحك همام وشاركته تهاني التي احتضنت ابنتها يُسر معها، لتعمُ البهجة على الأجواء وتسكن السكينة قلوبهم وتكتمل الصورة العائلية أخيرًا..


    تمت







     

    تعليقات