رواية دمعات قلب الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)
رواية دمعات قلب الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)
رواية البطلة اسمها هند وكانت متزوجة واحد بشتغل بالبترول وبعدين بموت وبترجع على بلدهم وحماها بزوجها اخو زوجها وبكون دكتور وبتزوجوا عالورق وبعدين هو بتزوج دكتورة معه وبعدين بطلقوا وبحب هند
اسمها دمعات قلب
الدمعة الأولى
1-
وقفت في منتصف ردهة شقتها تتأمل أركانها في صمت, وذكرياتها تتدفق بسرعة البرق عبر عقلها منذ ارتبطت بزوجها وحتى رحيله.
فالطبيعي أن يحمل كل ركن من أركان المنزل ذكرى لها مع زوجها على مر سني زواجهما العشر, إلا أنها اعتادت أن تكون جميع أحدث حياتها غير طبيعية.
منذ صغرها وهي مختلفة, ليس لسواد عينيها الغامض ولا للشلال الحريري الفاحم الذي يتوج رأسها ولا لجمالها البريء ورقتها ولا حتى لأصلها الطيب.
ولكنها كانت مختلفة..فقط مختلفة.
حتى ارتباطها بزوجها كان مختلفاً..
صحيح أنه كان "زواج صالونات" كما يطلق عليه إلا انه كان مختلفاً عما عهدته في زواج مثيلاتها.
وحياتها مع زوجها كذلك كانت مختلفة..
لقد عاشت معه عشر سنوات في إحدى دول الخليج حيث كان يعمل مهندساً بشركة بترول,
عشر سنوات لم تزر فيها أمها سوى مرات قليلة صادفت مواعيد ولاداتها لأطفالها الثلاثة. وفي هذه المرات كان زوجها يعد شقتهم ويجهزها لانتقالهم إليها.
ونسيت أن أقول أنها, بحكم كونها مختلفة, تزوجت دون أن يكون لديها شقة..
لقد اشترى زوجها الشقة ولم يبدأ في تأثيثها إلا بعد أن تزوج وأنجب ولدين واكتشف حمل زوجته للمرة الثالثة.
وهكذا فعلى عكس أي زوجة تدخل عشها لأول مرة مع زوجها مرتدية ثوب الزفاف الأبيض, دخلت هي شقتها برفقة أطفالها وأمها مرتدية السواد حداداً على زوجها الراحل.
لم لا وقد اعتادت أن تكون مختلفة!!!
ومن أعماقها انطلقت زفرة ملتهبة حملت بعضاً من حزنها وخوفها وتوترها, وأقول بعضاً لأن زفرة واحدة مهما بلغت قوتها لن تستطع حمل أكثر من عُشر ما يعتمل في نفسها.
ولهذا لم تشعر بالراحة إلا عندما قفزت دمعاتها السريعة إلى عينيها الجميلتين وفرت خارجهما لتغرق وجهها الحزين.
كان من الصعب عليها أن تُفاجأ بوفاة زوجها وعودتها إلى مصر في منتصف العام الدراسي وما ترتب على ذلك من مشاكل لا حصر لها واجهتها, كعادتها, وحدها في الغربة بحكم اختلافها عن سائر بنات حواء. اختلافها الذي لم تختره ولم تسعد به يوماً.
فقد ذاقت مرارة اليُتم وهي بعد برعمة صغيرة تتفتح للحياة, وحُكم عليها أن تعيش التجربة مرة ثانية وهي ترى أولادها يجرعون من نفس الكأس التي لم تفارق مرارتها حلق أمهم بعد.
فرغم صغر سنها وجمالها الهاديء,رفضت (أم هالة) أن تُحضر رجلاً غريباً ليحتل مكان ومكانة زوجها الراحل ويتحكم في مصير ابنتها الوحيدة, وقضت أحلى سني عمرها راهبة في محراب ابنتها لا يهمها سوى سعادتها.
وعندما وضحت معالم الأنوثة على وجه(هالة) تقدم الكثيرون لخطب ودها ويدها في ذات الوقت إلا أنها رفضتهم جميعاً لأن هدفها كان أسمى من ذلك بكثير.
كان هدفها هو أن تسعد أمها,التي طالما شقت من أجلها, برؤيتها طالبة في الجامعة ثم معيدة ثم دكتورة جامعية...
هكذا كان حلمها.
وفي سنتها الأخيرة بكلية التربية أعلنتها ساكنة الشقة المواجهة لشقتهم بالخبر الذي تسعد لسماعه أي فتاه.."لدي العريس المناسب لك يا (هالة) ".
وتخضب وجه الفتاه يومها في شدة وفرت مع حيائها إلى غرفتها,
ولكن ذلك لم يمنعها من أن تسمع والدتها تستفسر عن أخلاق العريس وعائلته وغيرها من تلك الأمور, بل وسمعتها تحدد موعداً مع جارتها بعد أن أكدت لها هذه الأخيرة طيب أصله وأنه شاب تتمناه أي فتاه, وختمت قولها بأنها لم تكن لتفرط فيه لو كان لديها ابنة, وأن (هالة) هي ابنتها التي لم تنجبها.
وفي حضور خالها حضر العريس بصحبة والده ' العمدة المهيب' الذي شملها بنظرة فاحصة أعادت إلى ذهنها جميع المشاهد السينمائية التي وصفت حزم وشدة العمدة رغم أن هيئة الرجل لم تكن تدل على مهنته,
فعدا طول قامته الواضح كان أنيقاً في السترة الكاملة..
كان نموذج العمدة المعدل.. 'العمدة العصري', ولا عجب في ذلك إذ كان يعمل محامياً قبل أن يرث المنصب عن والده.
وبلمحة سريعة للعريس أدركت (هالة) أنه نسخة مصغرة من والده..طول القامة الواضح, ملامح الوجه, لون العينين الأسود الذي ينافس سواد شعره, حتى الوقار والحزم, وهو ما جعل (هالة) تقول لنفسها' حقاً لكل أمريء من اسمه نصيب, صدق من أسماه (حازم)'
وبعد أن تبادلا الحديث قليلاً, وبعد أن أعملت (هالة) فكرها طويلاً وترددت كثيراً وافقت أخيراً على الارتباط بـ(حازم) وقلبها يتمزق لأنها ستترك أمها وحيدة, إلا أن أمها أقنعتها بأنها ستقيم مع أخيها ولن تكون وحدها, وأن ما يسعدها حقاً هو رؤية ابنتها الوحيدة تعيش في سعادة.
وفي غضون أسبوعين تمت الخطبة وعاد(حازم) إلى عمله في الخليج على أن يعود فيما بعد ليتزوجا.
ولكنه لم يعد,
لقد رفض رئيسه السماح له بالنزول فما كان منه إلا أن أرسل لوالده توكيلاً عقد به على (هالة)... ألم أقل أنها مختلفة؟
وبدلاً من أن ترتدي ثوب الزفاف وتجلس إلى جوار عريسها وسط الأهل والأحباب في حفل زفافها, ارتدته وجلست على مقعد في الطائرة المتجهة إلى حيث زوجها وسط أناس لم ترهم من قبل.
وهكذا بدأت حياتها الجديدة في بلد لا تعرفه ولا تعرف أهله ولا عاداتهم.
صحيح أن (حازم) كان معها إلا أنه....
"هل ستظلين واقفة هكذا يا(هالة)؟"
انتبهت (هالة) لصوت أمها الهاديء فمسحت دموعها سريعاً وهي تقول بصوت لم تفارقه الدموع ـ"هل نام الأولاد؟"
تنهدت أمها في عمق قائلة ـ"نعم, بعد جهد جهيد...إلا أنهم في انتظار قبلتك المعتادة."
هزت ابنتها رأسها في هدوء واتجهت ببطء إلى حجرة أبنائها لتقبلهم, وعندما عادت جلست إلى جوار أمها على الأريكة وشردت ببصرها بعيداً إلا أن أمها بادرتها قائلة بحنان ـ"لابد وأن تتماسكي جيداً يا حبيبتي, فأولادك بحاجة إليك."
تنهدت(هالة) في عمق وهي تقول ـ"الأمر ليس بهذه السهولة.. لقد حدث كل شيء فجأة."
ربتت أمها على كتفها في حنو قائلة ـ"إنه قدره يا ابنتي, وقدرك أنت الأخرى."
قالت بصوت يحمل نبرة ضيق وحنق ـ"قدره؟! قولي عادته, فهو دوماً يفعل ما يشاء وقتما يشاء."
قالت أمها في سرعة ـ" 'وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت', استغفري لربك ولا ترددي هذا القول ثانية."
عادت دموع(هالة) للانهمار ثانية وهي تستغفر الله قبل أن تقول في حنق ـ"ولكنه كان يعلم أن عمله خطير وأنه من الممكن أن يموت في أي لحظة."
سألتها أمها في حيرة ـ"وماذا أردته أن يفعل؟ أن يترك عمله وأن يجلس إلى جوارك؟ لو أنني وغيري اتبعنا منطقك هذا لكان أباك وآلاف الشهداء على قيد الحياة ولما تحررت سيناء. أهذا ما تريدينه؟"
ازداد انهمار دموعها وهي تقول بصوت مختنق ـ"على الأقل كان يتوخى الحرص, لقد أخبرني قبل وفاته أن حفار النفط الذي يعمل عليه ليس على ما يرام وأنه أخبر المسئولين في الشركة بذلك إلا أن الشركة لم تحرك ساكناً, والنتيجة انفجار الموقع بأكمله ومصرع ثلثي العاملين به. والأدهى أن مدير الشركة يتهم عمال ومهندسي الموقع بالإهمال حتى يتهرب من دفع قيمة التأمين على حياتهم."
ربتت أمها على كتفها ثانية قائلة بحنان ـ"يا حبيبتي أنت لست بحاجة لقيمة التأمين مهما بلغت."
قالت(هالة) بعناد ـ"إنها ليست لي, إنها لأبنائه مهما بلغت حتى لو كانت خمسة قروش, لقد حرمتهم هذه الشركة من أبيهم ويعلم الله كم طفلاً أخر فقد والده بسبب هذه الذمم الخربة. لذا لن أتوقف عن مقاضاتهم, ووالد(حازم) معي في هذا الأمر."
استسلمت والدتها لإصرارها واكتفت بهز رأسها وهي تسأل ابنتها في اهتمام ـ"وهل ستعملين مدرسة كما أخبرت حماك؟"
أومأت (هالة)برأسها إيجابا وهي تجيب أمها في ثقة قائلة ـ"نعم, لقد اتفقت مع مديرة مدرسة الأولاد الجديدة على أن أعمل معها مدرسة علوم لطلبة الإعدادي, وسأعمل حتى نهاية الفصل الدراسي تحت الاختبار إلى أن يتم تعييني مع بداية العام الدراسي الجديد. فأنت تعلمين أنني لم أتسلم تعييني الحكومي وبالتالي فقدته"
مطت أمها شفتيها قائلة بعدم اقتناع ـ"مازلت غير مقتنعة بمسألة عملك تلك..فـ.."
قاطعتها ابنتها في هدوء قائلة ـ"يا أمي يا حبيبتي...لو أنفقت على أولادي من ميراث أبيهم لن يبق منه شيء عند تخرجهم, تكفينا مصروفات المدرسة الخاصة التي قبلت أبنائي بها في منتصف العام الدراسي. وجود راتبي سيخفف الحمل قليلاً ولولا بعد نظر حماي ما حصلت على معاش(حازم). يبدو أنه كان يشعر بما سيحدث يوماً ما عندما أشرك(حازم) في التأمينات الاجتماعية, وهكذا سيمكننا العيش في مستوى قريب من مستوى معيشتنا السابق."
أضافت أمها في حنان ـ"لقد نسيت معاشي أنا الأخرى و...."
قاطعتها(هالة) قائلة في سرعة ـ"أمي...يكفيك ما قاسيته من أجلي منذ وفاة أبي'رحمه الله' وحان الوقت لأرد إليك بعضاً من أفضالك...معاشك خاص بك وبأدويتك و..."
قاطعتها أمها بدورها قائلة باستنكار ـ"هل تدفعين لي ثمن إقامتي معك؟"
اغرورقت عينا(هالة) وقالت وهي تحتضن والدتهاـ"معاذ الله...أنا بحاجة إليك يا أمي, بحاجة شديدة إليك."
مسدت الأم شعر ابنتها قائلة بعد تنهيدة طويلة ـ"أعلم ذلك يا بنيتي...أعلم ذلك."
*******************
الدمعة الثانية
2-
ساعدت(هالة) ابنها الصغير في ارتداء ملابسه وتأكدت من أناقته هو وشقيقه الأكبر قبل أن تصحبهما إلى الردهة حيث كان عمهما جالساً برفقة أمها, والذي ما أن لمح اقترابهم حتى نهض وهو يسمع أرملة أخيه تقول بحرج ـ" آسفة لتعطيلك يا دكتور(طارق). لولا مرض(هند) المفاجيء كنت أحضرتهما بنفسي إلى عمي, و أخشى ما أخشاه هو أن يغضبا جدهما بألعابهما الشقية."
ربت(طارق) على شعر الطفلين بحنان وهو يقول بابتسامة عذبة ـ"من رابع المستحيلات أن يغضب أبي من أبناء(حازم) ' رحمه الله', كما أنهما ليسا بهذا القدر من الشقاوة كما تصفيهما."
همت بقول شيء ما عندما أسرع الصغير(هاني) يقول ـ"أرأيت؟! عمي(طارق) في صفنا وسيأخذنا إلى جدنا كل مرة."
ابتسمت وهي تلوح بإصبعها محذرة قائلة ـ"لا تعتمد على هذا كثيراً, عمك سيصحبكما هذه المرة فقط, وفيما بعد ستذهب مع أشقائك بصحبتي."
مط الصغير شفتيه بامتعاض قائلاً ـ" (هند)كثيرة البكاء, ليتها لا تحضر معنا أبداً كيلا تزعجنا."
عقدت حاجبيها وهي تهتف به ـ" ولد!"
اختفى(هاني) ليحتمي خلف عمه الذي ابتسم قائلاً ـ"دعك منه, أعط لـ(هند) الدواء الذي أحضرته لك وستتحسن بإذن الله."
شكرته وهي تودعهم لدى الباب ـ" أشكرك يا دكتور, سأنتظر عودتكم في الغد إن شاء الله."
ثم وجهت حديثها الحازم لابنيها قائلة ـ"(هيثم) اعتن بأخيك ولا تغضبا جدكما أو عمكما لأني سأعرف كل ما تفعلانه."
أومأ الصبيان برأسيهما في أدب وهما يقبلان أمهما قبل أن ينصرفا برفقة عمهما.
وما أن أغلقت(هالة) الباب خلفهم حتى خلعت غطاء رأسها وهي تقول لأمهاـ"الجو حار للغاية."
هزت أمها كتفيها قائلة ـ"إننا في منتصف أغسطس, ومن الطبيعي أن ترتفع الحرارة هكذا."
اقتربت(هالة) من النافذة وهي تراقب ركوب ابنيها سيارة عمهما من خلف الستائر قائلة في قلق ـ"وهذا ما يقلقني, سيلعب الأولاد في الشمس كعادتهم."
هونت أمها من قلقها بقولهاـ"لا تقلقي هكذا, عمهما وجدهما لن يتركاهما دون رقابة."
ثم تابعت في اهتمام حنون قائلةـ"أتعلمين؟ لقد عوضهما(طارق) حنان الأب, إنه حتى يبدو أكثر حناناً من(حازم) ' رحمه الله'."
تنهدت في عمق وعيناها تتابعان ابتعاد سيارة(طارق) قبل أن تقول لأمهاـ"(حازم) كان شبيهاً بأبيه في الشكل و الطباع, أما(طارق) فيشبه والدته أكثر, وقد ورث عنها حنانها."
هزت الأم رأسها قائلةـ"إنه ابن حلال."
أسدلت(هالة) ستارة النافذة وهي تؤمن على كلام أمها قائلةـ"إنه كذلك بالفعل, ويستحق كل خير."
****************
الدمعة الثالثة والرابعة
3-
استجابت(هالة) لرنين جرس الباب وفتحته لتجد حماها أمامها فقالت بترحاب صادق ـ"عمي؟! يالها من مفاجأة سارة. تفضل بالدخول."
دلف حموها للداخل في حين سألته هي في حيرة ـ"ولكن أين الأولاد؟ لقد ظننت أنهم في صحبتك."
أجابها الرجل في هدوء يحمل الكثير من الوقار في داخله ـ"لقد صحبهم(طارق) إلى الملاهي ولن يعودوا الآن."
دعته للجلوس وهي تقول بابتسامة هادئة ـ"أرجو ألا يكونا تسببا في الإزعاج لك أو لعمهما."
قال بنفس هدوءه الحازم ـ"إنهما ليسا بمثل شقاوة والدهما'رحمه الله' حين كان في مثل عمريهما."
ثم تابع بنبرة اهتمام ـ" كيف حال(هند) الآن؟"
أجابته في سرعة ـ"بخير والحمد لله, لقد تحسنت بعد تناول الدواء الذي أحضره لها عمها. يبدو أن لها مَعَزة خاصة عند جدها ليقطع كل هذه المسافة من أجلها."
لاحت نبرة حنان غريبة في صوته وهو يقول ـ"أنا لم أنجب بنات, لذا عوضني الله بـ(هند). أين هي؟"
نهضت قائلة ـ"نائمة بالداخل مع أمي, سأوقظها حالاً و..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً ـ"لا داعي لإيقاظ الصغيرة, ولكن إذا كانت والدتك متيقظة فأرجو أن تشاركنا الحديث."
عقدت حاجبيها للحظة أو أقل قبل أن تقول في سرعة ـ"بالطبع. سأستدعيها حالاً."
وبعد التحيات التقليدية ابتدر الرجل والدة(هالة) قائلاً بجدية ـ"لقد تقدمت إليك أنا وابني الراحل منذ عشر سنوات لخطبة ابنتك (هالة) بعد أن سمعنا عن أدبها وجمالها وأصلها الطيب, وطيلة هذه السنوات أثبتت كل ذلك عملياً وما زالت تثبته في تربيتها الممتازة لأبنائها رغم كل الظروف السيئة المحيطة بها."
قالت(هالة) في حيرة ـ"ظروفنا ليست بهذا السوء يا عماه. الحمد لله, نحن أفضل من غيرنا. صحيح أنني فقدت الزوج وأولادي فقدوا الأب لكننا لسنا وحدنا, جدهم وجدتهم وعمهم معهم بعد الله سبحانه وتعالى. إنهم بالتأكيد أفضل حظاً من كثير من الأطفال الأيتام."
وافقها قائلاً ـ"في الوقت الحالي كلامك صحيح, ولكن ماذا عن المستقبل؟ أنا لن أخلد في هذه الدنيا."
قالت في سرعة ـ"الأعمار بيد الله يا عمي, أطال الله عمرك."
رفع كفه في حزم قائلاً ـ"هاأنت قلتها, الأعمار بيد الله. والله وحده أعلم بمن سيموت الآن ومن سيموت فيما بعد, لذا أريد أن أطمئن على مستقبل أحفادي من بعدي."
تبادلت(هالة) نظرة حائرة مع أمها قبل أن تقول بحزم مماثل ـ"مستقبلهم بين يدي الله يا عمي. وبشهادة حضرتك فإن تربيتي لأبنائي مثالية والحمد لله, كما أن أمي معي ولا تنس أنها وحدها قامت بتربيتي, وأنا بإذن الله قادرة على فعل المثل."
تنهد الرجل في عمق قبل أن يقول ـ"لقد تغير الزمن يا ابنتي ومسئولياتك أكبر من مسئولية والدتك حينها كما أنك جميلة ومازلت صغيرة السن و..."
قاطعته بلهجة بدت حادة رغماً عنها قائلة ـ"لقد كانت أمي أجمل وأصغر سناً مني الآن ومع ذلك لم تفكر في الزواج ولو للحظة, وأنا لست بأقل منها."
تابع وكأنه لم يسمعهاـ"وإن لم يجذب جمالك الرجال, سيفعل ما ورثته عن زوجك."
احتقن وجه(هالة) في شدة في حين قالت أمها في سرعة ـ"لقد تنازلت ابنتي عن ميراثها في ممتلكات(حازم) وكذلك عن نصيبها في التعويض لصالح أبنائها."
وجه حديثه إلى الأم قائلاً بثبات ـ"هذا ما نعرفه أنا وأنت وليس العالم كله."
مالت(هالة) إلى الأمام وقالت في تحفز ـ"وأنا لست عديمة الشخصية لأن أستجيب لإغراء أي رجل مهما كان."
تراجع حموها للخلف في سرعة قائلاً ـ"معاذ الله أن تكونين هكذا أو أن أصفك أنا بذلك, ولكن في بعض الأحيان قد تشعرين بأنك وحدك في هذا العالم, ومن هذا المُنطَلَق قد توافقين على الزواج برجل ظناً منك أنه الشخص المناسب لك ولكنه ليس كذلك."
ازداد احتقان وجه(هالة) وعصبيتها التي جعلتها تغرس أظفارها في راحة يدها قبل أن تتمالك أعصابها لتقول في ثقة ـ"أنا على أتم الاستعداد لأن أقسم لك الآن بأنني لن أتزوج ثانية ولن أسمح لأي رجل بأخذ مكان(حازم) في بيته ولن..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً في هدوء ـ"رويدك يا بنيتي, أنا لم أطلب منك ذلك ولن أفعل أبداً. على العكس من ذلك, أنا هنا لأقنعك بالشخص المناسب."
اتسعت عينا(هالة) في شدة وهي تحدق في وجه حميها بذهول, حتى أن صوتها حين بارح حلقها كان متحشرجا من فرط دهشتها وهي تهب من مقعدها هاتفة ـ"ماذا؟!"
مالت(هالة) إلى الأمام وقالت في تحفز ـ"وأنا لست عديمة الشخصية لأن أستجيب لإغراء أي رجل مهما كان."
تراجع حموها للخلف في سرعة قائلاً ـ"معاذ الله أن تكونين هكذا أو أن أصفك أنا بذلك, ولكن في بعض الأحيان قد تشعرين بأنك وحدك في هذا العالم, ومن هذا المُنطَلَق قد توافقين على الزواج برجل ظناً منك أنه الشخص المناسب لك ولكنه ليس كذلك."
ازداد احتقان وجه(هالة) وعصبيتها التي جعلتها تغرس أظفارها في راحة يدها قبل أن تتمالك أعصابها لتقول في ثقة ـ"أنا على أتم الاستعداد لأن أقسم لك الآن بأنني لن أتزوج ثانية ولن أسمح لأي رجل بأخذ مكان(حازم) في بيته ولن..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً في هدوء ـ"رويدك يا بنيتي, أنا لم أطلب منك ذلك ولن أفعل أبداً. على العكس من ذلك, أنا هنا لأقنعك بالشخص المناسب."
اتسعت عينا(هالة) في شدة وهي تحدق في وجه حميها بذهول, حتى أن صوتها حين بارح حلقها كان متحشرجا من فرط دهشتها وهي تهب من مقعدها هاتفة ـ"ماذا؟!"
أما والدتها فقد لاحت رنة الغضب في صوتها وهي تقول ـ"ماذا تعني بقولك هذا يا حاج؟ بل ماذا تظن بابنتي من الأساس؟"
وَجَه حديثه إلى الأم ثانية قائلاً بنفس الهدوء ـ"صدقيني يا سيدتي, أنا أهدف من وراء ذلك إلى تأمين مستقبل ابنتك وأحفادي. ولولا احترامي لكما ما أتيت بعرضي هذا."
قالت الأم بحزم ـ"أي عرض تقصده يا حاج؟ لقد مرت ستة أشهر فقط على وفاة ابنك الأكبر وأنت تطلب من أرملته الزواج؟ أهذا معقول؟"
تنهد الرجل في ألم قائلاً ـ"لم يحزن أحد على(حازم) قدر حزني عليه. لقد كان أول أبنائي وأشبههم بي في الشكل والطباع, وكانت صدمة فقدي له قوية. أنت تعرفين بالطبع أنني أصبت بعد وفاة (حازم) بذبحة صدرية ما زلت أعاني من آثارها حتى الآن, وليس أصعب على نفسي من أن أطلب من أرملة ابني أن تسمح لرجل آخر بأن يحل محل(حازم), لكن هذا الرجل لا يختلف كثيراً عنه, فلكليهما نفس المَعَزة في قلبي لأن كلاهما ابني."
التفتت(هالة) إليه بحركة حادة عكست رفضها واستنكارها للأمر خاصة حين تابع حموها قائلاً بهدوء ما زال مشوباً برنة ألم ـ"أنا أعرض عليك الزواج من ابني الدكتور(طارق)."
و كانت مفاجأة قاسية ل(هالة).
**************************
الدمعة الرابعة
4- "لا وألف لا...مستحيل."
هتفت(هالة) بهذه العبارة في إصرار بعد انصراف حميها وهي تذرع الغرفة جيئة وذهاباً قائلة بثورة مكتومة ـ"هل أصبحت حكراً على هذه العائلة؟ أيظنوني جزءاً من ميراث ابنهم؟ وكيف..."
قاطعتها أمها قائلة بهدوء ـ"اجلسي لنتحدث بهدوء يا ابنتي."
التفتت(هالة) إليها هاتفة بانفعال ـ"هدوء؟ إن دمي يغلي منذ سمعت عرض حماي العزيز. آه لو رأيت(طارق) الآن لـ..."
قاطعتها أمها في حزم هذه المرة قائلة ـ"قلت اجلسي, إنك تثيرين أعصابي بحركاتك المتوترة تلك."
أطاعتها(هالة) وملامحها تشي بتبرمها الشديد, في حين تابعت والدتها في حنان قائلة ـ"ما وجه اعتراضك على(طارق)؟ لقد قلت بنفسك أنه ابن حلال وحنون, وأبلغ دليل على ذلك هو حب أولادك له وتعلقهم به."
أجابتها(هالة) في حدة قائلةـ"حب أولادي له لا يعني بالتبعية الزواج منه, وإلا انتظرت عرض بالزواج من كل من يقدم لهم قطعة شيكولاتة."
ربتت أمها على كتفها في حنان قائلةـ"حبيبتي...(طارق) إنسان متميز وحموك يهدف إلى..."
قاطعتها(هالة) هذه المرة هاتفةـ"أنا لست ساذجة لأصدق ما قاله, حماي يهدف إلى فرض وصاية دائمة علينا بصفتنا جزء لا يتجزأ من تركة ابنه الراحل, وإذا كان ولا بد من زواجي, فلأتزوج ابنه الثاني وأنفق ميراثي عليه باعتباره أولى من الغريب."
رمقتها أمها بنظرة صارمة وهي تقول بحزم ـ"لن أواصل الحديث معك وأنت بهذه العصبية. أنت الآن ميئوس منك بالمرة."
قالتها وهي تنهض متجهة إلى غرفتها مغمغمة في حيرة ـ"إنك لم تكوني أبداً بمثل هذه العصبية والفظاظة, لقد تغيرت."
اغرورقت عينا(هالة) بدموع ساخنة, وهي تخفي وجهها بين كفيها بعد ابتعاد أمها, وكيانها يصرخ ألماً نعم تغيرت...منذ ارتبطت بهذه الأسرة وأنا في تغير مستمر,
تعلمت أن أعاشر زوجاً عمله هو أهم ما في حياته,
تعلمت أن الحب ليس أساس كل شيء و...
ولكنني تحملت المسئولية وحدي, وهاأنذا حائرة بين ما أؤمن به وبين ما تعودت عليه مع زوجي.
هل أجعل الحب أساساً لحياتي و حياة أبنائي,
أم أمشي على نهج زوجي؟
والأدهى موضوع شقيقه هذا...
كيف أجرع من ذات الكأس مرتين؟
صحيح أن(طارق) على طرفي نقيض من شقيقه, إلا أنه كما يقولون 'العرق دساس'.
ثم كيف تتحول علاقتي ب(طارق) من كونه أخ لزوجي الراحل وعم لأبنائي إلى زوج مثله مثل أخيه؟"
إنها بالفعل لم تفكر في الزواج, ولن تفعل بعد ما عانته في زواجها السابق, لكن مع إصرار أمها وحميها...
أمها تحاول إقناعها بأن الأمر مدعاة لفخرها, خاصة بعد أن قال حميها أنه لن يجد زوجة لابنه أفضل منها, وتشدد على أن الزمن تغير وأنها وحيدة في هذا العالم دون أخ أو أخت, وحملها أثقل من أن تحمله وحدها.
ولكن كيف ستواجه الناس بزواجها قبل انقضاء عام على وفاة زوجها, ناهيك عن أن الزوج الجديد هو شقيق الزوج الراحل.
يقولون في الأرياف إنها التقاليد, ولكنها ليست في الأرياف. إنها في العاصمة, في قاهرة المعز حيث لا يعرف أحداً ما يجري للمحيطين به إما لانشغاله أو لعدم اهتمامه.
قد تكون هذه نقطة في صالح زواجها من(طارق), ولكن ماذا عنها هي؟
ماذا عن حالتها النفسية؟
كيف ستغير نظرتها إليه من أخ وصديق إلى زوج؟
"يا الهي!!! إن جسدي يقشعر لمجرد تصور الفكرة."
همست بهذه العبارة لنفسها سراً وهي تسترجع في ذهنها كل الأفلام العربية التي تزوج فيها البطل من أرملة شقيقه مرغماً.
نعم مغرماً, لقد صارحها حموها بقوله أن ابنه لم يعتد رفض طلبات أو أوامر والده.
إذاً حاله ليس أفضل من حالها, فكلاهما في الهم سواء.
لذا ستنتظره حين يعود وتواجهه و...
وأخذت تخطط لما ستقوله.
*********************************
الدمعة الخامسة
5-
استجابت (هالة) لرنين الهاتف ورفعت سماعته ليبادرها صوت أنثوي تفتقده يهتف بمرح ـ"لقد عدنا".
لم تكد (هالة) تتعرف على صاحبة الصوت حتى هتفت كالغريق الذي ينتظر العون قائلة بلهفة ـ"(نهى)!! حمداً لله على سلامتكم..متى عدتم"؟
أجابتها (نهى) بنفس المرح ـ"عدنا فجر اليوم...افتقدتك يا (هالة) كثيراً، وأبنائي لم يتأقلموا بعد على سفر (هيثم) و(هاني)".
اختنق صوت (هالة) بالعبرات وهي تقول لصديقتها ـ"وأنا أيضاً افتقدتك...بل إنني أحتاجك اليوم أكثر من أي وقت مضى يا(نهى)".
تسلل القلق إلى صوت (نهى) وهي تسألها ـ"ماذا بك يا حبيبتي؟ لقد كنت بخير حتى آخر اتصال بيننا منذ شهر تقريباً".
سالت دمعة متهورة على وجه (هالة) التي لم تحاول منعها وهي تقول بألم ـ"بخير؟ لقد نسيت هذه الكلمة".
تصاعد القلق في صوت صديقتها الوحيدة وجارتها في الخليج طيلة عشر سنوات، فسألتها بلهفة ـ"أريحي قلبي أولاً...هل والدتك وأبنائك بخير"؟
مسحت (هالة) دمعة أخرى حاولت اللحاق بسابقتها وهي تهز رأسها قائلة ـ"لا تخافي...كلنا بخير جسدياً، لكني أنا المنهكة نفسياً".
لم ترتح (نهى) لنبرة (هالة) ولا لكلماتها المتألمة فهتفت بها ـ"لقد أثرت فضولي...سأطلب من (عمر) زوجي أن يقلني إليك فوراً، فهي المرة الأولى التي أزورك فيها في مصر. (هالة) إياك أن تؤذي نفسك".
ابتسمت (هالة) رغماً عنها وهي تطمئن صديقتها وتنهي المكالمة قائلةـ"لا تخافي...أنا يائسة ولكن ليس إلى هذا الحد. في انتظارك".
وبالفعل لم تكد تمر ساعة حتى كانت (نهى) تطرق باب صديقتها مرتدية عباءتها السوداء الفضفاضة التي اعتادت ارتدائها منذ سفرها إلى الخليج مع زوجها قبل اثنا عشر عاماً.
كانت (نهى) أكبر عمراً من (هالة) بنحو عامين، متوسطة القامة وملامحها الهادئة تشي بطيبة قلب وحنان لا حدود لهما، وإن كانت عيناها اللامعتان تنمان دوماً عن روح مرحة وخفة ظل تجعل من يعرفها لا ينساها بسهولة. زوجها (عمر) مهندس في نفس الشركة التي كان يعمل بها (حازم)، وكان يقطن في الشقة المواجهة للعريسين (حازم) و(هالة) التي كانت بحاجة إلى صديقة جديدة، وكانت (نهى) هي تلك الصديقة، ونعم الصديقة التي وقفت إلى جوارها منذ بداية زواجها وحتى نهايته بوفاة (حازم) المفاجئة. حتى بعد عودة (هالة) إلى مصر قبل ستة أشهر لم تنقطع الصلة بينهما، وظلتا على اتصال بين الحين والآخر، و...
قطع (هاني) سيل ذكرياتها وهو يفتح الباب ويصرخ في سعادة ـ"طنط (نهى)...أين (عبد الله) و(عبد الرحمن)"؟
انحنت (نهى) تحتضن الصغير بشوق، فقد كانت تفتقد شقاوته وخفة ظله، وقبلت رأسه قائلة ـ"لا يزالا نائمين...لقد أتيت اليوم وحدي ولكني سأحضر بهما في المرة القادمة إن شاء الله. أين أمك"؟
أتاها صوت (هالة) المنهك وهي تقول بابتسامة باهتة ـ"ها أنذا...حمداً لله على سلامتك يا (نهى)".
التفتت (نهى) إلى صديقتها وراعها الشحوب على وجهها الذي طالما عرفته نضراً، حتى ابتسامتها العذبة كانت شاحبة بشكل أثار قلقها وهي تحتضن صديقتها قائلة ـ"(هالة)؟ ماذا ألم بك؟ ماذا حدث"؟
احتضنتها (هالة) بكل ما تبقى لديها من قوة قبل أن تصحبها إلى الداخل قائلة ـ"سأخبرك بكل شيء...تفضلي إلى الداخل أولاً".
صحبتها في هدوء إلى غرفة الاستقبال الأنيقة، بينما هرع (هيثم) هو الآخر ليعانق والدة أصدقائه في شوق بعد غياب ستة أشهر، فقبلت رأسه قبل أن تداعب شعره الأسود الناعم قائلة في حنان ـ"ما شاء الله تبارك الله. لقد صرت رجلاً يا (هيثم)..حماك الله يا ولدي".
ثم تلفتت حولها متسائلة ـ"أين والدتك يا (هالة)؟ وأين (هند)؟ لقد أوحشتني تلك المزعجة".
تنهدت (هالة) وهي تشير لصديقتها بالجلوس قائلة ـ"أمي تزور خالي...إنه يمر بوعكة خفيفة. أما (هند) فنائمة كالعادة...متعبة هذه البنت، تنام ونحن يقظى وتستيقظ ونحن نستعد للنوم".
جلست (نهى) على الأريكة إلى جوار صديقتها وهي تضحك قائلة ـ"والله أنا راضية أن أظل طول الليل مستيقظة...المهم أنجب بنت...ربنا يهدي (عمر) ويوافق أن ننجب ثانية".
ضحكت (هالة) نفس الضحكة الباهتة ولم تعقب، بينما تابعت (نهى) قائلة ـ"بارك الله لك فيها وأشقائها، وألف سلامة لخالك".
ثم مالبثت الجدية أن غلفت صوتها وهي تسألها باهتمام ـ"والآن ما سر هذا الذبول؟ إنها المرة الأولى التي أراك فيها هكذا، حتى بعد وفاة(حازم) رحمه الله".
تنهدت (هالة) في ألم وأسبلت جفنيها قليلاً قبل أن تفتحهما وتشير إلى (هيثم) قائلة ـ"(هيثم) حبيبي، أحضر العصير من الثلاجة وخذ أخيك للداخل".
أطاعها ابنها البكر في هدوء بينما وقف المشاكس الصغير وعقد ذراعيه أمام صدره قائلاً ـ"أريد أن أظل مع طنط (نهى)".
رمقته أمه بنظرة صارمة لا تتناسب وضعفها الحالي وهي تقول بحزم ـ"اذهب إلى غرفتك وحينما ننهي حديثنا سأسمح لك بالجلوس معها..هيا".
أطاعها الصغير بتبرم وخرج من الغرفة في الوقت الذي دخل فيه (هيثم) حاملاً صينية أنيقة وعليها كوبين من العصير المثلج وضعها أمامها ثم خرج وأغلق الباب خلفه في هدوء ورصانة. حينها التفتت (نهى) إلى صديقتها قائلة ـ"ما شاء الله تبارك الله...لقد صار (هيثم) رجلاً بتصرفاته رغم ملامحه الطفولية...لقد نضجت قبل الأوان يا صغيري".
تنهدت (هالة) ثانية وهي تهز رأسها قائلة ـ"كلنا تغيرنا يا (نهى). أنا أيضاً لم أعد كما كنت. لقد تغيرت حينما تزوجت (حازم)، وتغيرت ثانية حينما توفى فجأة. وربما أتغير من جديد، والمشكلة أنني لم أستسغ هذه التغيرات بعد".
ربتت (نهى) على كفها لتشجعها على الحديث قائلة ـ"(هالة) كفى تلاعباً بأعصابي...أخبريني ماذا حدث".
خللت (هالة) شعرها الأسود بأصابعها للحظات قبل أن تعتدل وتقدم العصير إلى صديقتها قائلة بلهجة محايدة ـ"حماي العزيز حضرة العمدة".
عقدت (نهى) حاجبيها قائلة بفضول ـ"ماذا به؟ هل يضايقك"؟
هزت (هالة) كتفيها قائلة ـ"لا أدري بم أصف ما يحدث...حماي العزيز يريدني أن أتزوج".
توقفت (نهى) عن شرب العصير الذي شعرت به يخنقها فسعلت في قوة وهي تضع الكوب على الطاولة أمامها ثانية قائلة ـ"ماذا؟ تتزوجي"؟
هزت (هالة) رأسها في ألم قائلة ـ"نعم، المهم أنه يريد مني أن أتزوج (طارق) شقيق (حازم) رحمه الله".
سألتها في حيرة ـ"أليس متزوجاً"؟
هزت (هالة) رأسها نفياً فتابعت (نهى) ـ"وهل يشبه أخيه"؟
تنهدت (هالة) في عمق وهي تقول ـ"مختلف تماماً قلباً وقالباً. مختلف في الشكل والطباع وكل شيء. ولكن ليس هذا ما يضايقني".
عقدت (نهى) حاجبيها ثانية في انتظار (هالة) التي تابعت قائلة بإحباط ـ"هل أصبحت حكراً على أبناء حضرة العمدة؟ يتوفى الكبير فأتزوج الصغير"؟
سألتها رفيقتها في حيرة ـ"وما مبرر حميك لهذا الزواج؟ هل لا يزال يؤمن بالتقاليد الريفية القديمة"؟
هزت (هالة) رأسها في صمت، فتابعت (نهى) باهتمام ـ"وما هو موقف (طارق)"؟
مطت (هالة) شفتيها قائلة ـ"برود وصمت مطبق...إنه لم يتحدث معي في شيء، ولا أظنه يستطيع الوقوف في وجه والده".
عقدت (نهى) حاجبيها ثانية وهي تقول ـ"هل يعني هذا أنه مجبر على الزواج منك؟ ألا يزال هناك آباء بهذه القوة وأبناء بهذا الاحترام"؟
هتفت بها صديقتها في ضيق ـ"(نهى) لا أريد تحليلاً...أريد الخروج من هذا المأزق..أنا لا أريد الزواج من (طارق) أو غيره. لقد انتهت حياتي بوفاة (حازم) رحمه الله ونذرت حياتي لأبنائنا. كما أنني لا أريد أن أظلم (طارق) بزيجة كهذه..إنه طبيب شاب ووسيم ويستحق من هي أفضل مني، فلماذا أظلمه بزوجة مستهلكة وأم لثلاثة أطفال"؟
شعرت (نهى) بقبضة باردة تعتصر قلبها مع وصف صديقتها لنفسها بأنها "مستهلكة" فهتفت بها ـ"لا تقولي ذلك...أنت لا زلت صغيرة ولا زالت هناك فتيات في عمرك وأكبر منك لم يتزوجن بعد و...".
سالت دموع (هالة) وهي تقاطعها قائلة ـ"فلماذا لا يتزوج أي منهن إذا؟ لماذا يربط نفسه بي"؟
ربتت (نهى) على كف صديقتها قائلة بهدوء ـ"إما لأنه لا يحب في الوقت الحالي، أو لأنه لا يعترف بالحب، أو لأنه يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه بعد وفاة شقيقه".
وكأنها ضغطت زراً فجر ذكريات كامنة في عقل وقلب (هالة) التي انتفضت في غضب قائلة ـ"لا يعترف بالحب؟ هل انتهيت من (حازم) وجمود مشاعره لأقع في نسخة ثانية منه"؟
فوجئت (نهى) بارتجافة صديقتها فاحتضنتها في حنان لتمتص انفعالها قائلة ـ"(هالة)..ماذا بك؟ إنك تحيرينني...أترفضين الزواج أم ترفضين الشخص أم ترفضين المشاعر"؟
ازداد انهمار دموعها على كتف صديقتها وهي تجيب بصوت مختنق ـ"لم أعد أعلم ماذا أريد وما لا أريد...لقد فقدت تركيزي وفقدت القدرة على التمييز و...".
ربتت (نهى) على ظهرها لتحاول تخفيف توترها قائلة ـ"لا داعي لهذا كله...اهدئي قليلاً حتى نستطيع التفكير بشكل عقلاني".
قالتها وهي تبعد صديقتها عنها قليلاً وتلتقط كوب العصير الثاني وتعطيه لها قائلة ـ"اشربي العصير يا حبيبتي...سيهدئ أعصابك".
التقطت (هالة) الكوب بأصابع مرتجفة وارتشفت منه قليلاً قبل أن تعيده إلى الطاولة وتدفن وجهها بين كفيها الباردين من الانفعال. وحينها قطعت (نهى) حبل الصمت الذي امتد لدقيقة أو يزيد قائلة بلهجة من يفكر بصوت مرتفع ـ"حموك يريد أن يضمن وجود من يهتم بالأولاد ويعتني بهم دون أن يثير وجوده الأقاويل...فلماذا لا يتزوج من والدتك ويقيم معكم هنا أو تنتقلوا أنتم إلى حيث يقيم و..".
قاطعتها (هالة) حينما رفعت وجهها عن كفيها في حدة ورمقتها بنظرة مستنكرة قبل أن تنفجر في الضحك بشكل يتناقض ودموعها التي لا تزال تغرق وجهها، فعقدت (نهى) حاجبيها قائلة ـ"ما الذي يضحك في كلامي"؟
استمرت (هالة) في الضحك وهي تنظر إلى صديقتها وقالت من بين ضحكاتها ـ"أعانك الله يا (عمر)...لقد أذابت شمس الخليج مخ زوجتك".
لكزتها (نهى) في كتفها قائلة بحنق ـ"يا سخيفة...أهذا جزائي لأني أفكر معك"؟
مسحت (هالة) وجهها من أثر الدموع قائلة ـ"بل جزائك لأنك لا تفكرين بشكل منطقي...فالسبب الذي دفع حماي إلى اقتراحه هو أنه أُصيب بذبحة صدرية حينما علم بوفاة (حازم) رحمه الله، وبالتالي فصحته لم تعد كما كانت، وهو يريد بزواجي من (طارق) أن يضمن وجود من يهتم بنا حتى بعد وفاته. وتعلمين جيداً أن أمي رفضت الزواج بعد أبي رحمه الله واستطاعت تربيتي والتكفل بي وحدها حتى الآن و..".
قاطعتها (نهى) قائلة في حيرة ممزوجة بالسخريةـ"ما دمت تتمتعين بهذا العقل المتفتح وتدركين الهدف من الزيجة، فلماذا ترفضينها؟ هل تعتقدين يا سوبر وومان أنك قادرة على تكرار نموذج والدتك؟ هل تعتقدين أنك قادرة على تربية ثلاثة أطفال في عصرنا هذا وحدك"؟
همت (هالة) بالاعتراض حينما تابعت (نهى) قائلة بهدوءـ"لقد كانت والدتك مسئولة عن طفلة واحدة وكان إلى جوارها شقيقها، وربما شجعها ذلك على عدم الزواج ثانية...ولكن انظري إلى وضعك...أرملة وحيدة ومعها ثلاثة أطفال في زمن قلما يساعد فيه الشقيق شقيقه، فممن تنتظرين المساعدة؟ من خالك المريض؟ أم والدتك التي لم تنس معاناتها السابقة كأرملة، أم تتوقعين أن يترك أبناء خالك مصالحهم وزوجاتهم من أجلك؟ هل لك أن تجيبي"؟
اتسعت عينا (هالة) وهي تنظر إلى صديقتها التي صدمتها بالحقائق كلها كمدفع رشاش سريع الطلقات، فظلت تتأملها للحظات في صمت قبل أن تقول بتخاذل ـ"(نهى)..أنا..".
استحثتها (نهى) على الحديث قائلة ـ"أنت ماذا؟ أنت لا تزالين مضطربة المشاعر، وكما قلت بلسانك فاقدة للتركيز والتمييز...لكني أرى أن هذه الزيجة قد تكون التعويض الذي أرسله الله إليك بعد معاناتك مع (حازم)...معاناتك التي لم تخبري بها والدتك، والتي لولا صداقتنا وجيرتنا ما عرفت بها...استخيري يا (هالة) وحينها سيرتاح قلبك".
لمعت عينا (هالة) فجأة وكأنها تذكرت شيئاً، فعاد العناد إلى صوتها وهي تقول ـ"وماذا عن معاش (حازم) رحمه الله؟ إذا تزوجت فسيُلغى نصيبي من المعاش و...".
قاطعتها صديقتها في سخرية قائلة ـ"هل تريدين إقناعي بأن معاش التقاعد يكفيكم؟ حتى وإن تعدى الألف جنيه فلن يفيدك في شيء، ولن يكفي لفتح بيتك. إذاً فلن تتأثر حياتك بضياع بضعة جنيهات من المعاش يا (هالة)...العبي غيرها".
اعترضت بعناد جعلها تبدو أشبه بصغيرها (هاني) وهي تقول ـ"ولكني مصرة على أنني أستطيع العناية بأبنائي وحدي دون مساعدة خارجية".
أحاطت (نهى) رأسها بكفيها هاتفة ـ"يا ربي...لقد سببت لي صداعاً بعنادك يا (هالة)...اسمعي...ما رأيك أن تراهني نفسك"؟
بدا الحماس في عيني (هالة) وهي تنصت باهتمام إلى صديقتها التي قالت ـ"راهني نفسك قبل الذهاب إلى أي مصلحة حكومية لإنهاء أي شيء يتعلق بأبنائك والمجلس الحسبي، فإذا استطعت إنهاء ما تريدينه دون مساعدة حميك أو (طارق) ارفضي الزيجة...أما إذا فشلت فلا يوجد أمامك سوى القبول بالزواج".
اتسعت عينا (هالة) وهي تسأل صديقتها بذهول ـ"(نهى) ماذا تقولين"؟
نفضت (نهى) كفيها قائلة بحزم ـ"هذا هو الحل الوحيد...استخيري ثم راهني نفسك، ولن أفتح فمي أياً كان قرارك بعدها".
وكان إختباراً قاسياً.
*************************************
تعليقات
إرسال تعليق