القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية دمعات قلب الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)

 


رواية دمعات قلب الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر   بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)






رواية دمعات قلب الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر   بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)



الدمعة السادسة


6 - 


ظلت(هالة) على موقفها الرافض للزواج بشكل عام, ومن شقيق زوجها بصفة خاصة, وبدا أنها ستنتصر وأن 'حضرة العمدة' قد اقتنع بوجهة نظرها.

ولكن جاءت اللحظة الحاسمة التي كانت تخشاها، واضطرت إلى الذهاب إلى مصلحة حكومية لإنهاء بعض الأوراق لتحويل معاشها ومعاش أبنائها إلى البنك بدلاً من وزارة التأمينات.


يومها تنقلت من مكتب إلى مكتب ومن طابق إلى طابق ومن موظف إلى موظف حتى أوشكت على الانهيار...

وحينها، حينها فقط استسلمت وأخرجت هاتفها المحمول من حقيبتها لتتصل ب(طارق) بصوت مختنق تطلب منه المساعدة.


والشيء الغريب أن مجرد وجود (طارق) إلى جانبها في هذا اليوم منحها نوعاً من الثقة في وجه الموظفين الذين يتعاملون ببرود اكتسبوه من طول تعاملهم مع الجمهور. 

ولكن ظلت غصة ما تخنقها كلما نظرت إليه ووجدته يتعامل بابتسامة واثقة مع الجميع وروح مرحة أجبرتهم على إنهاء ما يريده من أوراق في وقت قياسي.

غصة مبعثها شعورها بخسارة الرهان...رهانها مع نفسها ضد الجميع.

وحينما أنهى (طارق) الأوراق صحب (هالة) إلى سيارته، وما أن جلس هو خلف المقود حتى فوجئ بدموعها تغرق وجهها فهتف بها في قلق ـ"(هالة)...ماذا بك؟ لماذا تبكين"؟


لم تستطع الإجابة، وإن ازداد انهمار دموعها وازداد قلقه معها فتابع ـ"(هالة) لا توتري أعصابي...ماذا حدث؟ هل ضايقك أحد الموظفين؟ أدري أنهم يتعاملون ببرود ولكن...".


قاطعته حينما وجدت صوتها أخيراً، وقالت بانكسار يعكس شعورها بالهزيمة ـ"(طارق)...أنا موافقة على الزواج".


قالتها دون أن تنظر إلى عينيه، ودون أن تستمع إلى ما قاله بعدها...

فما كانت تشعر به وقتها هو أنها وقعت للتو شهادة وفاة حريتها بعيداً عن أبناء الحاج حفني، وأنها عادت بقدميها إلى هذه الأسرة.


وبعد مرور أول ذكرى سنوية لوفاة زوجها, عقد(طارق) قرانه عليها وانتقل ليقيم معها ومع أبنائها.

ولدهشتها فقد كانت سعادة الأولاد بوجود عمهم معهم لا توصف, حتى أنهم وافقوا مرغمين على النوم بعد منتصف الليل كي لا يتركوه.

وحين تبعته إلى غرفتهما وجدته واقفاً أمام الشرفة يحدق في هدوء ليل الشتاء صامتاً فتنحنحت قائلة في حرج ـ"أي من جانبي الفراش تفضل؟"


استدار إليها في هدوء وهو ينقل بصره بين وجهها والفراش في بطء قبل أن يسألهاـ"على أي جانب تنامين؟" 


مطت شفتيها قائلةـ" الأيمن, لكن لو..."


قاطعها بإشارة من يده قائلاً بلا مبالاة ـ" سأنام على الجانب الآخر إذاً."


ثم تابع بنفس اللامبالاة قائلاًـ" يمكنك النوم الآن لو أردت, فأنت ترهقين نفسك كثيراً في المدرسة والبيت, وسأقف قليلاً في الشرفة إذا لم يكن لديك مانع."


هزت كتفيها قائلةـ" كلا, ليس لدي أي مانع, فقط تأكد من ثقل ملابسك, فالجو يزداد برودة في المساء."


أومأ برأسه في صمت قبل أن يدلف إلى الشرفة ويغلقها خلفه تاركاً(هالة) وحيدة في غرفتها التي ملأها الهواء البارد لحظة أن فتح(طارق) زجاج الشرفة.


قاومت(هالة) شعورها بالاختناق وجلست على طرف الفراش وقبضة باردة تعتصر قلبها, لقد صدق حدسها, لقد وافق مرغماً مثلها تماماً, فقط كي يرضي أبيه وكي يعتني بأبناء أخيه.

وللحظة غالبها شعور صبياني بالضيق لأنها لم تخبره بسخرية أن شقيقه لم يضع جانبه على هذا الفراش, فعضت على شفتيها في غيظ, ثم ما لبثت أن هزت رأسها وتنهدت في عمق قبل أن تتمدد على فراشها وتتدثر بالغطاء متظاهرة بالنوم.


أما(طارق) فظل واقفاً في الشرفة يدخن السيجارة تلو الأخرى حتى شعر بشفتيه ترتجفان من البرد حول مبسم السيجارة الرابعة أو الخامسة فألقى نظرة سريعة على ساعة يده ليجدها تجاوزت الثانية صباحاً.

كانت لسعة البرد شديدة وجسده بأكمله تقريباً يرتجف إلا أنه كان عاجزاً عن تصور فكرة مبيته مع(هالة) في غرفة واحدة, ناهيك عن نفس الفراش.


إنه لم يعتد رفض أي أمر من أبيه وهو ما جعله يشعر دوماً بالسلبية. حتى حينما حاول الاعتراض هذه المرة وقف لسانه عاجزاً ولم يجرؤ على النطق, وهذا ما عدّه والده موافقة ضمنية.


إنه يحب والده كثيراً ويدرك جيداً حالته الصحية والنفسية منذ وفاة ابنه البكر, وأنه أصبح أمله الوحيد وأي خلاف ينشأ بينهما قد يودي بحياة الأب. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي لعدم اعتراضه على الزواج من(هالة). 

السبب الآخر هو أبناء أخيه الذين يعشقهم كم لو كانوا أبنائه من صلبه, فهو يدرك مشاعرهم بافتقاد الأب, هو نفسه عانى_وهو الرجل_ حينما توفيت أمه وهو طالب بكلية الطب.

ولكن كل هذا لا يبرر هجره لأحلامه في أن تكون له زوجة خاصة به وحده تعيش معه في بيته الذي جهزه بكل ما يحباه سوياً.


هنا سيشعر بخيال(حازم) في كل ركن, رغم ثقته بأن شقيقه لم يسكن الشقة يوماً, ولكن كل أرجاء الشقة تذكره بالراحل.

إنه لا يطمع في أن يحتل مكان شقيقه في منزله، ولا أن يفرض نفسه على (هالة), ففي هذه النقطة بالذات يجب أن تكون له شخصيته المستقلة. 

كل ما يستطيع فعله هو أن يحتوي أبناء أخيه بحنانه و بإمكانه إبقاء هذا الزواج بشكل صوري يتيح له دخول المنزل دون إثارة الأقاويل وفي الوقت ذاته يرفع عنه وعن(هالة) الحرج.


تنهد عند هذا الحد وارتجافة جسده تتزايد فاستدار في بطء يراقب(هالة) من وراء الزجاج ليتأكد من استغراقها في النوم قبل أن يعود للغرفة في خفة ويغلق بابها خلفه في هدوء.

و كانت أطول ليلة في حياتيهما.


فقد ظلت(هالة) تتظاهر بالنوم حتى قرب آذان الفجر عندما غفت عيناها أخيراً.

أما هو فلم يحاول التظاهر بالنوم, بل ظل جالساً يحدق في ظلام الغرفة سانداً رأسه إلى ظهر الفراش وذراعاه معقودان أمام صدره, وبين الحين والأخر يراقب xxxxب ساعته التي بدت كسلحفاة تمشي الهوينى.


وأخيراً بزغ الضياء معلناً بدء يوم جديد.

ومع ذلك لم يطرف جفنا(طارق) طلباً للنوم.

وقبل أن تعلن ساعته تمام الثامنة كانت(هالة) تفتح عينيها في كسل وعلى وجهها أجمل ابتسامة, فقد كانت عادة لديها أن تستقبل الصباح الجديد بابتسامة, ويبدو أنها فعلت ذلك متوقعة ألا يراها أحد.

لكن(طارق) رآها وبادرها بقوله ـ"صباح الخير."


لحظتها شعرت بأن هذه الابتسامة لا مكان لها, أو أن هذا ليس هو الوقت المناسب أو...

هي نفسها لا تدري لم نضت الابتسامة عن وجهها وهي ترد في هدوء ـ"صباح الخير."


ربما ظنت أن ابتسامتها تلك تعني موافقتها على الزواج, أو موافقتها على ما فعله معها, ولكنها...

قطع انسياب أفكارها صوت(طارق) الودود يقول ـ"لم أرد إيقاظك لعلمي بأنك مرهقة, لقد استيقظت قبلك بقليل."


نهضت من الفراش في سرعة وهي تغمغم في سخرية ـ"وهل نمت من الأساس؟ لقد ظللت جالساً حتى الفجر, وربما حتى الآن."


شعر بحرج بالغ وهو يسمعها, إذاً فهي الأخرى لم تنم إلا متأخراً وبالتالي أدركت أنه لم ينم و...

قطع صوتها إحراجه وهي تتابع بهدوء ـ"بعض الناس لا يتكيفون سريعاً مع تغيير فراشهم."


بدت عبارتها وكأنها طوق النجاة من الحرج الذي يكتنفه فأسرع يقول موافقاًـ"بالفعل هذا ما حدث."


ارتسمت ابتسامة ساخرة أخرى على شفتيها تؤكد عدم تصديقها له قبل أن تسأله بهدوءـ"ما هي الأطعمة التي تحب تناولها في كل وجبة كي أعدها لك؟"


ارتفع حاجباه في دهشة قبل أن يقول ـ"لاشيء محدد, فأنا أحب كل شيء. سآكل مما تأكلون منه."


هزت رأسها وهي تتجه نحو الباب قائلةـ"حسناً, سأذهب لأعد الإفطار."


استوقفها وهو ينهض مسرعاً من الفراش قائلاًـ"ريثما تعدين الإفطار, أيكون الأولاد مستيقظين الآن؟"


ألقت نظرة سريعة على الساعة المجاورة للفراش قبل أن تقول ـ"عادة ينامون لما بعد الآن يوم الجمعة, ولكن مع وجودك فلا أشك في أنهم استيقظوا في ميعاد المدرسة."


وقد كان حدسها صحيحاً, فـ(هيثم) و(هاني) كانا منهمكين في ألعاب الفيديو, إلا أنهما هرعا إلى عمهما بمجرد أن سمعا صوته وارتميا بين ذراعيه في حب حقيقي بادلهما إياه(طارق) حين احتضنهما بحنان أبوي دافق وقبّل رأسيهما بحب قائلاًـ"صباح الخير يا أحبائي. أين(هند)؟"


انبرى(هاني)يقول في سرعةـ"الحمد لله أنها ما زالت نائمة. لقد ظلت تبكي طوال الليل وجدتي تحاول إسكاتها دون جدوى حتى نامت أخيراً في الفجر."


وتابع وهو يغوص في أحضان عمه قائلاًـ"هذا أفضل كي أحظى بنصيبها من العناق."


ابتسم(طارق) في حنان وهو يداعب شعر(هاني) قائلاًـ"لا تخف, نصيبك من العناق محفوظ تماماً."


تابعت(هالة) بعينيها حوار طفليها الباسم مع عمهما الذي عاد إلى شخصيته الطبيعية دون تحفظ وملأت الابتسامة وجهه الوسيم. 

وفي هدوء اتجهت إلى المطبخ لتعد الإفطار مع أمها التي رمقتها بنظرة تعرف(هالة) معناها جيداً فقالت لتجيب عن نظراتها المتسائلة ـ"لقد ظل يدخن في الشرفة حتى الثانية صباحاً ولم ينم حتى الآن."


ولم تزد عن ذلك رغم الدهشة التي ارتسمت على ملامح أمها.


وعلى مائدة الإفطار اقترح(طارق) أن يخرجوا جميعاً في نزهة خلوية, وبدا الاقتراح مناسباً جداً للطفلين اللذين صاحا في سعادة معلنين موافقتهما.

أما(هالة) فبدت متحفظة قليلاً للخروج معه إلى العالم في ثاني أيام زواجهما مباشرة, إلا أنه قال وابتسامته تضيء وجهه ـ"أنا رجل ديمقراطي, سنأخذ بالأصوات. أنا و(هيثم) و(هاني)و(هند) نوافق على الخروج سوياً. بقى أنت وأمي,إذاً نحن أغلبية وستأتون معنا شئتم أم أبيتم."


ويبدو أن لهجته راقت لـ(هيثم)و(هاني) فقد طفقا يصفقان ويضحكان في جذل شاركتهم فيه شقيقتهم الصغرى رغم أنها لا تفهم شيئاً.


ومر اليوم الثاني بسلام.


************************************************



الدمعة السابعة والثامنة


7 -


جلس (طارق) في مكتبه بالمستشفى ساهماً وهو يدق بطرف قلمه على سطح المكتب بشرود، ولم ينتبه لدخول فاتنة ممشوقة القوام في أواخر العشرينات، ذات شعر بني ناعم يصل إلى منتصف ظهرها وعينين عسليتين ناعمتين وشفتين رقيقتين تختفيان خلف طلاء وردي لامع، وعلى محياها الرقيق ارتسمت ملامح متباينة وهي تتأمل شروده قبل أن تحاول أن تبث قدراً من السخرية في صوتها وهي تقول ـ"ما للعريس شارداً؟ أتفكر في العروس؟"


انتفض (طارق) للحظة وهو يخرج عن شروده وينظر إليها بعينين خاويتين، قبل أن تتحول نظرته إلى نظرة تحمل حنان العالم وهو يهمس ـ"(سمر)؟"


اقتربت (سمر) لتجلس على المقعد المواجه لمكتبه وتلتقط القلم من بين أصابعه في دلال وهي تمط شفتيها قائلة ـ"أجل (سمر) التي نسيتها بسبب عروسك".


قاوم رغبة ملحة اجتاحته في أن يحتضن كفيها وهو يلتقط نفساً عميقاً ويحتويها بعينيه قائلاً بصدق ـ"بل (سمر) التي أتنفسها، ولا يمكن أن أتخيل حياتي بدونها".


تخضب وجهها حياءً وهي تخفض عينيها أرضاً للحظات قبل أن ترفعهما إليه ثانية وهي تقول بضيق مصطنع ـ"بدليل أنك لم تكلمني طيلة اليومين الماضيين".


منحها ابتسامة حانية وهو يقول ـ"لكن صورتك لم تفارق مخيلتي لحظة...لقد أوحشتني".


داعبت أصابعه بطرف القلم وهي تسأله في غيرة واضحة ـ"فيم كنت تفكر؟ إنك لم تجب سؤالي".


تأمل عينيها الجميلتين وتاه فيهما للحظات قبل أن يجيبها بحب ـ"من غيرك أفكر فيه؟"


مطت شفتيها بعدم اقتناع وهي تقول ـ"ربما كنت تفكر بعروسك".


ضحك من غيرتها وهو يقول ـ"(سمر)...كيف تغارين وأنت صاحبة الفكرة؟ ألم تشجعيني على الزواج منها من أجل الأطفال؟"


هزت كتفيها وهي تقول بضيق ـ"نعم شجعتك، وألوم نفسي ألف مرة على هذا الاقتراح...فهي أكيد جميلة وشابة و...".


قاطعها بضحكة ثانية وهو يقول ـ"ولكنني لا أرى غيرك...أنت فقط ملكت قلبي".


قالت في عناد طفولي ـ"لا تنكر أنها جميلة، وأنها كفيلة بإدارة الرؤوس".


تأملها بعينين ضاحكتين وهو يقول ـ"الأنثى هي الأنثى مهما درست وارتقت في المناصب...قلت لك أنني لا أرى غيرك...كما أن (هالة) و(حازم) رحمه الله كانا متحابين، ولن تسمح لرجل آخر بأن يحل محله في قلبها. ولا تنسي أن (هالة) مجبرة على هذه الزيجة مثلي تماماً. ألم أخبرك أنها أبلغتني بموافقتها على الزواج وهي تبكي؟".


سألته في شك ـ"وهل لا تزال على موقفها الرافض للزيجة؟"


اقترب بوجهه منها عبر المكتب وهو يهمس ـ"أيكفيك أنها لا تزال ترتدي حجابها كاملاً أمامي؟"


برقت عيناها للحظات قبل أن تباغته بالسؤال ـ"ومتى تنوي إذاً إخبار والدك بشأننا؟"


منحها ابتسامة واسعة وهو يقول ـ"انتظري شهراً أو شهرين...حينها سأخبر والدي أنني لا أرى (هالة) سوى كأختي، وأنني تزوجتها لإرضائه فقط، وأطلب منه أن أتزوج من اختارها قلبي".


عاد الشك إلى صوتها وهي تسأله بترقب ـ"أتظن أنه سيوافق؟"


لاحت نظرة قلق في عينيه لجزء من الثانية قبل أن يحاول ضخ أكبر قدر من الثقة في صوته وهو يقول ـ"ما دمت حققت له طلبه بالزواج من (هالة) والاهتمام بأبناء (حازم) رحمه الله، فلا أظنه سيمانع".


ثم تابع في سرعة وكأنه يحاول إقناع نفسه قبل أن يقنع (سمر) قائلاً ـ"أعتقد أن أبي لم يكن ليمانع زواجنا إذا أخبرته قبل وفاة (حازم) رحمه الله، ولكنه قدرنا أن يأتينا نبأ وفاته في نفس اليوم الذي قررت فيه الحديث مع أبي بشأنك".


تنهدت في عمق ولاح الضيق للحظات في عينيها قبل أن تسأله بتردد ـ"(طارق)...هل يعلم أي من زملائنا أو أصدقائك بزواجك من (هالة)؟"


هز رأسه نفياً فتابعت ببطء ـ"ولا حتى (سامي)؟"


ابتسم ليطمئنها قائلاً ـ"ولا حتى (سامي) صديقي الوحيد".


حركت أصابعها بقلق قائلة ـ"ولكنه من نفس قريتكم...إذا لم يعرف منك بأمر زواجك قد يعرف إذا سافر إلى القرية..وحينها...".


قاطعها بهدوء قائلاً ـ"لا تخشين شيئاً...(سامي) لم يعد يسافر إلى القرية منذ وفاة والديه، وجميع إخوته يقيمون في المدينة وتقريباً قطعوا صلتهم بالقرية...وحتى إذا علم بزواجي من (هالة)، فالغرض من الزيجة معروف، وأنا لم أٌقم احتفالاً ولم أدعه لحضوره كي يتضايق..إنه زواج صوري لا يعلمه إلا المقربين. أما حينما نتزوج أنا وأنت، فلابد وأن أعلن زواجنا أمام الجميع".


هزت كتفيها قائلة برقة ـ"إذا كان الأمر كذلك، فأنت أدرى يا حبيبي".


أغلق عينيه باستمتاع وهو يردد ـ"حبيبي...يالها من كلمة...أعيديها على مسامعي ثانية".


تخضب وجهها خجلاً وهي تقول بدلال ـ"لا تعتد على ذلك...حينما أصبح زوجتك ستمل من سماعها...أما الآن فهي ليست من حقك أو حقي".


عض شفتيه وهو يهمس بحب ـ"هل سأنتظر حتى زواجنا؟ على الأقل أطربي سمعي بكلماتك الرقيقة حتى تروي ظمأ قلبي قليلاً".


ضحكت في خجل وهي تستدير لتغادر مكتبه قائلة ـ"عجل بزواجنا إذاً حتى لا يطول ظمأك".


وخرجت كما الفراشة الرقيقة، ليعود وحيداً يداعب قلمه بنفس الشرود.


*******************


الدمعة الثامنة


8 - 


انهمكت(هالة) في تصحيح اختبارات تلاميذها حتى أنها لم تنتبه لـ(طارق) الذي اقترب منها وجلس قبالتها يراقبها في هدوء قبل أن يتنحنح ليلفت انتباهها إليه, ولقد نجح في ذلك, إذ أنها رفعت رأسها إليه في تساؤل شجعه ليقول بهدوءـ"(هالة)...كنت أريد التحدث معك بأمر هام."


عقدت حاجبيها للحظة قبل أن تخلع نظارتها الطبية الرقيقة لتقول بابتسامة هادئةـ"خيراً إن شاء الله."


تنحنح ثانية واعتدل في جلسته قبل أن يقول ـ"لقد طرأ الموضوع على عقلي فجأة وأردت أن أحادثك بخصوصه...إنه عملك."


عقدت حاجبيها طويلاً هذه المرة وهي تقول في حيرةـ"عملي؟ ماذا به؟"


قال بنفس الهدوءـ"لاشيء, لقد لاحظت أنك ترهقين نفسك في العمل بالمدرسة دون داع."


شبكت أصابع كفيها قائلةـ"بدون داع؟ وما الداعي المقنع في نظرك؟"


هز كتفيه قائلاً في ثقةـ"أن تكوني بحاجة إلى المال وهو ما ليس متوافراً في حالتك."


رمقته بنظرة طويلة قبل أن تقول بثقة هي الأخرىـ"على العكس تماماً, فكما أخبرت والدك من قبل, فأنا أعمل ليساعد راتبي مع معاش(حازم) رحمه الله في تربية أبنائي لأنني لا أنوي أن أنفق عليهم من مدخرات والدهم."


أومأ برأسه قائلاً ـ"أعلم هذا, ولكنك الآن متزوجة مني وأنا ملزم بالإنفاق عليك وعلى أبنائك."


تابعت وكأنها لم تسمعه ـ"وإذا لم تكن لاحظت, فزواجي منك اقتطع نصيبي من معاش(حازم) وبالتالي فراتبي سيعوض هذا النقص إلى حد ما."


قال بإصرارـ"قلت لك أنني ملزم بالإنفاق علي..."


قاطعته قائلةـ"على أبناء أخيك لأنهم من دمك أما أنا فلا."


هتف بها في حنق ـ"أنت زوجتي."


ارتدت نظارتها بهدوء وهي تقول بلامبالاة ـ"حقاً؟!"


احتقن وجهه في شدة قبل أن يضغط فكيه في غيظ وينهض تاركاً الغرفة لها في غضب واضح.


ولثوان حاولت(هالة)التركيز في عملها إلا أنها فشلت فعادت تخلع نظارتها في عصبية وذكرى مزعجة تطاردها.

تذكرت موقفاً مشابهاً قبل أكثر من عشر سنوات.

موقفاً تعرضت له مع زوجها السابق...شقيقه.


حينها كانت لا تزال عروساً لم يمض على زفافها سوى شهر أو يزيد، وكانت علاقتها بجارتها (نهى) قد توطدت كثيراً بحكم أن كلتيهما وحيدة.

كانت (هالة) تقضي أغلب وقتها في صحبة (نهى) التي لم تكن أنجبت ابنها البكر (عبد الله) بعد.

ولكن مع اقتراب العام الدراسي، انتبهت (هالة) إلى أن صديقتها ستعود إلى عملها في تدريس اللغة الإنجليزية للأطفال في مدرسة مجاورة، وحينها ستعود هي إلى الجلوس وحيدة دون أنيس.

وحينما عرضت (نهى) عليها العمل معها في المدرسة التي تحتاج إلى معلمات جدد، كادت (هالة) تطير من السعادة.

فقد أتتها الفرصة التي كانت تحلم بها...

أن تهرب من الفراغ القاتل الذي يحيطها في غياب زوجها وانشغال رفيقتها الجديدة.

ولأنها لم تكن تعلم بطباع زوجها جيداً...فقد توقعت منه ترحيباً وموافقة فورية على اقتراح العمل، خاصة وأن المدرسة كانت قريبة للغاية من المنزل.

لكنها فوجئت بوجه غريب تراه لأول مرة...

فقد رمقها بنظرة حادة قبل أن يشيح بوجهه بعيداً ويتظاهر بقراءة الجريدة قائلاً بجفاف ـ"انسي هذا الموضوع...فزوجتي لا تعمل".

أدهشها رد فعله وألجم لسانها للحظات قبل أن تقترب منه بوجهها وتلمس ذراعه بدلال قائلة ـ"حبيبي أرجوك...الملل يقتلني في غيابك..وبعد قليل ستعود (نهى) إلى عملها وأعود أنا إلى الفراغ الرهيب وحدي...و..".

قاطعها وهو لا يزال يقرأ الجريدة قائلاً ـ"قلت انسي هذا الموضوع...فأنا لا أتراجع في رأيي".

لم يثنها تجاهله عن محاولة استعطافه ثانية فتابعت بدلال أكثر ـ"حبيبي أنا خريجة كلية التربية، والمدرسة المجاورة بحاجة إلى معلمات جدد، و(نهى)...".

قاطعها بغضب هادر هذه المرة وهو يلتفت إليها ويلقي الجريدة على طول ذراعه هاتفاً ـ"يووووووه (نهى)... (نهى) الله يخر...".

قطع كلمته التي خرجت رغماً عنه وزفر في عمق قبل أن يستغفر ربه ويقول من بين أسنانه ـ" قلت إنني لا أتراجع في رأيي، ولا أحب أن أقول الكلمة مرتين. أنا لا أحب أن تعمل زوجتي خارج المنزل لأنني لا أقبل أن يُقال إنني أتركها تعمل لأقبض راتبها".

اتسعت عيناها في ذهول واستنكار وهي تستمع إليه وترى عصبيته الشديدة ومفهومه عن عمل المرأة، وقبل أن تفتح فمها للاعتراض تابع هو موضحاً ـ" ولا تقارني بين وضعنا ووضع (عمر) وزوجته...فهو مسؤول عن تزويج شقيقاته وعن إعالتهن بعد وفاة والده، ولهذا سمح لزوجته بالعمل حتى تساعده قليلاً في ترتيب حياتهما الخاصة. أما أنا فأعمل هنا لنفسي وحياتي، ويكفيني ما أجنيه من عملي".

اغرورقت عيناها بدموع الصدمة من عصبيته وهي تقول بصوت مختنق ـ"ولكنك لم تجهز شقتنا في مصر حتى الآن".

منحها ابتسامة ساخرة وهو يقول بتهكم ـ"وهل تعتقدين أنني سأتركك تعملين حتى يُقال أن زوجتي ساهمت في شراء الشقة؟ أنا لم أشتر شقة وأجهزها لأنني لم أستقر على مكان إقامتنا حتى الآن...كنت في انتظار معرفة رأي زوجتي وأين تحب أن تسكن".

قاومت دموعها التي أثرت على صوتها فخرج متهدجاً وهي تقول ـ"أنا لا أريد العمل لأنني بحاجة إلى المال...أريد أن أعمل كي أثبت ذاتي...كي أفيد الآخرين مما تعلمته...كي..".

قاطعها في سخرية قائلاً ـ"اسمعيني جيداً...أنا رجل شرقي، ولا أحب أن تُثار الأقاويل عني أو عن زوجتي لأي سبب. وكيلا أطيل عليك، فأنا لا أقتنع بالثرثرة التافهة عن حقوق المرأة وعمل المرأة ومجلس المرأة".

ثم تابع قائلاً بنظرة تجسد معنى اسمه ـ"فحقوق المرأة عندي محفوظة لدى زوجها، وعملها هو الاهتمام به وبأبنائه".

عجزت عن كبت دموعها التي تمردت واندفعت تغرق وجنتيها دون قصد، وقد تحطم حلمها على صخرة أفكاره المتشددة.

ورغم ذلك استجمعت شجاعتها وهي تراقبه يستعيد الجريدة ويرتب أوراقها المبعثرة وتقول في حيرة ـ"من هؤلاء الذين تخشى من أقاويلهم علينا؟ من هؤلاء الذين تهتم بهم أكثر مني؟"

لم يجبها بشكل مباشر وإنما قال بلهجة من أنهى الحديث ـ"(هالة)...أنا رجل البيت وكلمتي هي الأولى والأخيرة، ولا أريد مزيداً من المناقشة. وإذا أردت الهروب من الملل فأنجبي طفلاً. وقتها لن تجدي أي وقت فراغ".


عادت من ذكرياتها القديمة إلى أرض الواقع وهي تشعر بغصة مؤلمة في حلقها لم تهدأ حتى أفرجت مقلتيها عن دمعتين ساخنتين وهي تقارن في عقلها بين موقف (حازم) رحمه الله وموقف (طارق) قبل لحظات.


يا إلهي...إلى هذا الحد يختلفان وكأنهما نقيضان كالليل والنهار؟

فالاختلاف لا يقتصر على الشكل الخارجي فقط، وإنما يتعداه إلى الأسلوب أيضاً.


ولوهلة تخيلت (طارق) ثائراً مثل شقيقه ويتحدث بنفس الصرامة والحزم، ولكنها ابتسمت رغماً عنها لأنها موقنة أن الصرامة و(طارق) لا يجتمعان. 


وفي هدوء، مسحت دمعتيها عن وجهها ووضعت النظارة من يدها فوق أوراق الإختبارات، قبل أن تنهض وتخرج من الغرفة لتبحث عنه في أرجاء الشقة حتى وجدته في شرفة غرفتهما واقفاً يدخن في عصبية فاقتربت منه في هدوء قائلةـ"أتدخن هكذا كلما كنت عصبياً؟"


التفت إليها في حدة للحظات قبل أن يعود بوجهه إلى حيث كان ينظر؛ فمطت(هالة)شفتيها قبل أن تقول ـ"ألا تعلم أن التدخين ضار جداً بالصحة؟!"


نفث دخان سيجارته في قوة أشعرتها بمدى ضيقه فقالت بخفوت ـ"أنا آسفة, لم أستطع توضيح وجهة نظري بالطريقة الصحيحة."


قال بسخرية و وجهه مازال معلقاً بالأفق ـ"حقاً؟! أهناك ما هو أوضح مما قلتِ؟"


تنهدت في عمق قبل أن تقول ـ"(طارق)...الطريق لا يزال طويلاً ونحن مازلنا في بدايته. يجب أن نحتمل بعضنا البعض كي تسير بنا الحياة. أعلم أن كلينا يشعر في قرارة نفسه بأنه مجبر على هذه الحياة بشكل أو بآخر. ونظراً لأننا لم نعتد هذه الحياة بعد فسيحدث بيننا العديد من الصدامات في البداية والتي أرجو أن تختفي فوراً من حياتنا. الغرض الأساسي من زيجتنا هذه هو تربية أبنائي وأثق تماماً في أنني لن أجد لهم أباً أفضل منك. وفي الوقت نفسه, أرجوك لا تضغط علي في قبول أي شيء خاصة مسألة الإنفاق هذه حتى أعتاد على هذه الأمور."


ألقى بما تبقى من سيجارته بعيداً وهو يستدير إليها قائلا ًـ"وحتى تعتادي الأمور, هل سيظل شعرك مغطى بالحجاب كما لو كنت رجلاً غريباً عنك؟"


تصاعدت الدماء سريعة إلى وجهها وهي لا تدري أهي دماء الخجل أم الحرج قبل أن تقول في ارتباك لتغير الموضوع ـ"لقد نسيت وأنا أوضح وجهة نظري أن أخبرك بأهم سبب لعملي."


سألها في هدوء ـ"وما هو؟"


ازدردت لعاباً وهمياً وهي تكرر ما قالته يوماً لشقيقه ـ"أنا أعمل كي أثبت ذاتي, وكي أستفيد من دراستي الماضية, ولكنني إذا شعرت بتعارض عملي مع واجباتي الأسرية سأتفرغ لبيتي فوراً."


منحها ابتسامة صافية شجعتها على أن تواصل قائلة ـ"أعدك بذلك مقابل أن تعدني بالتوقف عن التدخين."


فوجيء بمطلبها واضطر أن يقول بارتباك ـ"أنا أدخن فقط حين أشعر بالضيق والتوتر أو أكون عصبياً."


قالت بإصرار ـ"عدني."


رفع كتفيه في استسلام قائلا ًـ"أمري لله...أعدك."


***********************************


الدمعة التاسعة والعاشرة


9- 


دلفت (هالة) إلى شقتها في هدوء وهي تمني نفسها بقضاء بعض الوقت في سكينة قبل وصول ولديها العاصف، 

ولكنها ما أن تقدمت خطوتين إلى الداخل حتى وجدت أمها وزوجها بل وحميها أيضاً جالسين في الردهة والصمت يلفهم. 

لوهلة انقبض قلبها إلا أنها سارعت برسم ابتسامة ترحيب على وجهها لم تنجح في محو القلق من صوتها وهي تقول ـ"مرحباً بك يا عماه..يالها من مفاجأة سارة."


ثم ما لبث قلقها أن تغلب عليها فقالت في سرعة ـ"ماذا هناك؟ لماذا انتم صامتين هكذا؟ هل حدث شيء لـ(هند)؟ أين هي؟"


وبفزع قلب الأم هرعت إلى غرفة الصغيرة لتجدها نائمة في هدوء وحرارتها عادية فتنهدت في عمق وارتياح قبل أن تعود إلى الردهة ثانية وتقول بابتسامة مرتبكة ـ"آسفة لانفعالي...لقد قلقت على(هند)."


ثم ما لبثت أن قالت لحميها ـ"كيف حالك يا عماه..لم نرك منذ فترة."


تنهد الرجل قائلاً ـ"عندما لم تأت جئت أنا."


جلست إلى جوار أمها قائلة ـ"إنها المشاغل يا عماه..فأنا في العمل صباحاً وبعد الظهر أراجع مع الأولاد دروسهم وهي مسئولية مرهقة للغاية كما تعلم، لذا ما أن ينام الأولاد حتى أنام أنا الأخرى فوراً، حتى أنني في بعض الأوقات لا أرى الفراش من شدة التعب."


قال بتهكم ـ"واضح."


عقدت حاجبيها للحظات ولم تعقب في حين تابع هو بنفس اللهجة التهكمية ـ"لقد ظننت أن هناك سبباً أكثر أهمية يمنعك من زيارة البلدة، كان يكون ركوب السيارة لمسافات طويلة خطراً عليك."


سألته في دهشة ـ"وما الذي يجعل ركوب السيارة خطراً عليّ؟ أنا لا أعاني من دوار المركبات وصحتي, والحمد لله, على ما يرام."


قال الرجل بخبث ريفي ـ"إذاً فلا يوجد شيء في الطريق."


انتبهت فجأة لمغزى حديثه فقالت بابتسامة مرتبكة وهي تتبادل النظرات مع أمهاـ"لا, لم يأذن المولى بعد."


اقترب بوجهه منها قائلاً بتهكم ـ"طبعاً لا يوجد شيء لأنه لا يأتي باللاسلكي."


احتقن وجهها بدماء الحرج وشعرت بحرارة فائقة تلهب جسمها كله وهي تسمع حميها يقول هذا, وأغاظها صمت زوجها الذي أحنى رأسه أرضاً, فالتفتت إلى أمها تطلب منها العون؛ ولم يكن حال الأم بأفضل من حال ابنتها, لذا هبت(هالة) واقفة وهي ترتجف من الانفعال قائلة ـ"ماذا تعني يا عمي؟"


وضحت نبرة العزم في صوت حميها وهو يقول ـ"أعني أنه ما من زوجة صالحة تتمنع عن زوجها مهما كانت الأسباب."


أدارت عينيها إلى زوجها في حدة إلا أن وجهه كان لا يزال أرضاً, وشعرت بجفاف حلقها فقالت مدافعة عن نفسها ـ"أأخبرك هو بذلك؟"


زاد الحزم في صوت حميها وهو يقول ـ"أخبرني أو لم يفعل ليس هو المهم, المهم هو أنني أعرف بالفعل؛ كما أنني لست أعمى. (طارق) ابني تتمناه ألف فتاة لم يسبق لها الزواج بعد, ومع ذلك وافق على الزواج منك, ولا أعتقد أن هذه طريقة سويّة لرد الجميل."


شعرت(هالة) بالأرض تميد تحت قدميها فجلست على أقرب مقعد ذاهلة وعيناها لا تفارقان وجه(طارق) في حين اعترضت أمها قائلة ـ"يا حاج(حفني), هذا الكلام لا داعي له؛ كلانا يعلم ظروف الزواج وليس لنا أن نتدخل في حياتهما."


التفت إليها قائلا ـ"أتعنين أنك على علم بما تفعله ابنتك مع ابني؟"


أجابته بثقة ـ"هذه أسرار شخصية ولا يحق لمخلوق سواهما معرفتها, حتى أنا وأنت."


سألها بحدة ـ"أتقصدين أن الخطأ يقع الآن على ابني لأنه باح لي بمكنونات صدره؟ لأنه شاركني همومه؟"


همت بالرد عليه عندما هتفت(هالة) بـ(طارق) بصوت مبحوح قائلة ـ"قل الحقيقة, قل أنني بريئة من هذا الاتهام."


إلا أن القول لم يأت من بين شفتي زوجها الذي أحاط رأسه بكفيه وكأنه يسد أذنيه عن صوتها.


القول أتى من حميها, العمدة, فقد قال في غلظة ـ"الحقيقة هي أنك إن لم تعدلي عن أفعالك غير المسئولة تلك فسأزوجه من أجمل بنات مصر. أتفهمين؟"


قالها ونهض مغادراً الشقة لينهي المناقشة بأوامره كالمعتاد.


وساد صمت مطبق للحظات قطعه صوت(هالة) المنفعل وهي تهتف بزوجها قائلة ـ"لماذا لم تعترف؟ بل لماذا كذبت من الأساس؟ أنا تمنعت عليك؟ لماذا لم تخبره أنك قضيت ليلة زواجنا في الشرفة؟ لماذا لم تخبره بأنك غيرت نوباتك في المستشفى لتقضي الليل بطوله هناك وتنام هنا فترة وجودي بالمدرسة؟ لماذا لم تخبره بالحقيقة؟"


وأخرجت غيظها في الحجاب الذي نزعته عن رأسها في حدة وألقته بعيداً قبل أن تسمح لدموعها بالانهمار على وجهها في سرعة.


وظل(طارق) على وضعه للحظات أخرى قبل أن يقول بصوت خفيض ـ"آسف يا(هالة), لقد حدث سوء تفاهم."


هتفت من بين دموعها قائلة ـ"سوء تفاهم؟! أبعد كل هذا تقول سوء تفاهم؟ ألم يلحظ والدك أنك لا ترتدي دبلة في إصبعك؟ ألم يلحظ أن زواجنا مقصور فقط على العائلة ولا يعلمه أي من أصدقائك أو زملائك؟"


فتح فمه ليجيبها عندما بادرته قائلة ـ"وحتى لو أنني ابتعدت عنك, فكيف تخبر والدك بأسرار زواجنا؟ أمي نفسها, والتي تقيم معنا تحت نفس السقف لا تدري شيئاً عن هذا, وأنت تخبر أبيك بالأكاذيب عني؟ لماذا لم تخبره بأنك أنت بدأت بالابتعاد؟"


هتف بها بارتباك قائلاً ـ"(هالة)! أنا لم أخبره أياً مما قال."


ثم استدار يستنجد بأم زوجته قائلاً ـ"صدقيني يا أمي, أنا لست صغيراً إلى هذا الحد."


مسحت(هالة) دموعها في عصبية ونهضت قائلة ـ"صغيراً أو كبيراً, لا فارق. يكفي أن تخبر أباك أنك مكره على هذا الزواج. ليس هذا فحسب, فأفعالك هذه لا تصدر عن رجل مكره على الزواج فقط, بل عن رجل يحب ويخشى أن يخون حبيبته."


اتسعت عيناه في دهشة وارتجفت شفتاه للحظات قبل أن يلتقط مفاتيح سيارته ويسرع مغادراً المنزل.


*****************************

الدمعة العاشرة


10- 


فتحت(هالة) باب غرفتها في هدوء ودلفت إليها في خفة كي لا توقظ(طارق) من نومه؛ فقد عاد من عمله منذ بضع ساعات فقط, ومن المؤكد أنه نائم الآن.

إلا أن حدسها خانها, إذ كان(طارق) مستيقظاً بالفعل أو بالأحرى لم ينم بعد رغم عينيه الناعستين وشعره المشعث وملابسه المتهدلة وجلوسه على طرف الفراش.

ولعلمها أنه لن يحادثها كما اعتاد منذ شجارهما الأخير, فقد اتجهت مباشرة إلى الصوان وفتحته لتأخذ ما أتت من أجله. وعلى غير توقع جاءها صوته الهاديء يقول ـ"(هالة), أريد التحدث معك."


ورغم دهشتها العارمة, فقد حافظت على جمود ملامحها وهي تستدير إليه قائلة في برود ـ"خيراً"


تنهد في عمق وهو يرمقها بعينيه العسليتين قبل أن يقول بهدوء حازم مشيراً إلى الفراش ـ"اجلسي."


مطت شفتيها قبل أن تجلس متصلبة على طرف الفراش دون أن تنبس بحرف وعيناها تنظران في عكس اتجاه جلوسه.

وللحظة ظل(طارق) يراقبها في صمت وأصابعه تغوص بين خصلات شعره البني الناعم في حركة اعتادت عليها(هالة) كلما كان زوجها مرتبكاً.

وأخيراً تمالك(طارق) جأشه ثم تنحنح قائلاً ـ"إننا لا نتحادث منذ أسبوع رغم أننا نعيش في نفس الشقة."


التفتت إليه قائلة ببرود ـ"وهل أنا السبب في ذلك أيضاً؟"


تنهد قائلاً ـ"أنا لا أبحث عن السبب, وأعتقد أنه يجب على كلانا أن يخرج ما بداخله كي تستمر الحياة كما قلت أنت من قبل."


تنهدت بدورها قائلة ـ"لقد أخرجت ما بداخلي بالفعل وأنت تعرفه جيداً, المهم هو ما بداخلك أنت. أم أنك كتوم مثل(حازم) رحمه الله؟"


هز رأسه قائلاً ـ"ربما أكون كتوماً إلى حد ما حتى على أقرب الناس إليّ, ويجب أن تثقي في أنني لم أقل لأبي أي شيء عن حياتنا سوياً. كل ما هنالك أنه سألني عن أحوالي معكم وقال بفخر أنه اختار لي أفضل زوجة, وأنني سأسعد معك إلى آخر هذا الكلام, ورداً على ذلك أخبرته بأن هناك حاجزاً نفسياً يفصلني عنك ويجعلني_حتى الآن_ لا أستطيع رؤيتك في صورة مغايرة لصورة(هالة) زوجة أخي الراحل؛ أما الأولاد فهم قرة عيني وأحبهم أكثر مما لو كانوا أبنائي بالفعل. وهكذا لم يمهلني أبي الفرصة كي أتم ما عندي لأنه اكتفى بما سمعه وأتى خصيصاً لينهي ما أسماه بالمهزلة."


أشاحت بوجهها بعيداً وهي تقول بمرارة ـ"وأي مهزلة! إنك لم تنطق حرفاً واحداً للدفاع عني, أو حتى لنفي وإيضاح سوء التفاهم الذي طرأ على حياتنا."


قلب كفيه في حيرة قائلاً ـ"كيف أعارضه؟ إن أبي صلب الرأي لأقصى مدى, لو أنك لا تعرفيه فأنت بالطبع ما زلت تذكرين صلابة(حازم) رحمه الله. إنها نقطة في بحر صلابة أبي. لا يوجد من يستطيع الوقوف أمام أوامر والدي في أي شأن مهما كان الشأن ومهما كان الشخص."


التفتت إليه قائلة ـ"وأنت؟ألا تملك بعضاً من صلابة رأيه؟"


ابتسم في مرارة وهو ينهض ليقف أمام زجاج الشرفة قائلاً ـ"أنا!؟ لقد ورثت عن أمي كل شيء, الشكل والمضمون.يكفي أن تعرفي أنني لم أتخذ قراراً واحداً طيلة حياتي, ليس عن ضعف مني ولكن لسيطرة والدي على حياتي منذ صغري؛ لقد اختار لي الدراسة والكلية وحتى التخصص. ولا تظني أن(حازم) أفلت من هذه السيطرة, لقد كان خاضعاً لها هو الآخر. وبالطبع لا يخفى عليك أن زواجنا كان تحت ضغط شديد منه, ولم أستطع الاعتراض كعادتي في الاستسلام."


شعرت بحديثه عنها يمزقها من الداخل. لقد كانت واثقة دوماً أن كلاهما مجبر على هذه الزيجة, لكنه لم يصرح لها بذلك أبداً, وليته ما فعل.

وهكذا هتفت به كرامتها ـ"ولماذا لم تقل لا؟"


استدار إليها قائلاً في دهشة ـ"أقول لا؟! أقول لا لدخول أجمل ثلاثة ملائكة إلى حياتي؟! أي مجنون يفعل هذا؟"


حاولت أن تضخ الثقة في صوتها وهي تقول ـ"الأولاد سيظلوا أبناء أخيك للأبد, ولا تنس أن الزواج بالذات لابد وأن يقوم على اتفاق واقتناع وليس مجرد تنفيذ لرغبات الوالد مهما كان حبك واحترامك له."


اقترب منها وركع على ركبتيه أمامها قائلاً بصدق ـ"أنت أفضل زوجة قد يحظى بها إنسان, وتستحقين الأفضل في كل شيء, ولا أجاملك في ذلك. فمن هي في مثل جمالك وحنانك ورقي تفكيرك وسلوكك تستحق الزواج من أعظم الرجال. صحيح أنني تزوجتك من أجل تربية أبناء أخي, إلا أنني عرفت ولمست فيك في فترة زواجنا القصيرة تلك ما لم أعرفه طيلة العشر سنوات التي كنت فيها زوجة لـ(حازم) رحمه الله. وما يؤنبني هو أنني لا أستطيع أن أكون الزوج الذي تستحقينه."


هزت كتفيها وهي تقول بكبرياء جريح ـ"المشكلة هي أنني أنا أيضاً لا أستطيع أن أكون لك هذه الزوجة لأن كلانا يحاول الاعتراض لأول مرة في حياته ونريد تنفيذ رغباتنا نحن, خاصة رغباتك أنت."


مط شفتيه في حيرة قبل أن ينهض قائلاً بارتباك ـ"لقد قلتِ في نهاية شجارنا الماضي جملة تحمل كل أبعاد المشكلة بالنسبة لي."


عقدت حاجبيها وهي تلتفت إلي حيث يقف قائلة ـ"أية جملة تقصد؟"


أخذ نفساً عميقاً كي يشجعه على الإجابة قائلاً ـ"لقد قلت أنني أحب وأخشى أن أخون حبيبتي."


غاص قلبها بين ضلوعها وامتقع لونها وهي تسأله بصوت مرتجف ـ"وماذا تعني هذه الجملة بالنسبة إليك؟"


شبك أصابعه بحركة عصبية وهو يحاول إيجاد الكلمات المناسبة, وأخيراً حسم أمره قائلاً ـ"لقد كان حدسك صحيحاً, فأنا مرتبط."


وكانت صدمة قوية لها تضاف إلى قائمة الصدمات في حياتها.

فعندما نطقت عبارتها كانت في لحظة غضب, ولم تتوقع أن يكون تنبؤها حقيقياً.

ولكنه حقيقة, لقد قال أنه مرتبط.

وفي ذهول استمعت إليه يروي في سرعة قصة ارتباطه والكلمات تتدفق كالسيل من بين شفتيه, يخشى أن يتوقف لحظة فيفقد شجاعته للأبد.


سمعته يقول في حرج ـ"(سمر) زميلتي في المستشفى وأعرفها منذ زمن, كنت في الامتياز وكانت هي في السنة الأولى, وبعدها عملنا سوياً واكتشفنا وجود مشاعر جميلة بيننا. لن أطيل عليك, فهي في رأيي فتاة مثالية في كل شيء، وبها جميع الصفات التي أتمناها في شريكة حياتي؛ ولا أقصد أنك لا تملكين هذه الصفات. أنت بالطبع تفهمين قصدي."


سألته بصوت خافت ـ"وهل تعلم بأمر زواجنا؟"


قفزت نبرة حماسية إلى صوته وهو يقول ـ"(سمر) تعرف كل شيء من البداية لأننا نتشارك في التفكير دوماً, ولا أخفي عليك أنها هي من شجعتني على إتمام زواجنا لأنها جربت مرارة اليتم وذل زوج الأم. إنها مثالية بحق."


أومأت(هالة) برأسها إيجاباً وهي تقول ـ"فعلاً, ليس من السهل أن تثق فتاة في حبيبها وأن تجعله يتزوج من أخرى مهما كانت الأسباب."


تنحنح ليكمل في حرج ـ"ولكن كان لها شرطاً واحداً وهو أن يكون زواجي منك صورياً, على الورق فقط. وطبعاً لم أعترض لأن هذه أبسط حقوقها."


أزاحت خصلة نافرة من شعرها المتمرد خلف أذنها في حركة عصبية قبل أن تتنحنح بدورها لتكسب صوتها قوة ليست فيه وهي تقول ـ"وهل يعلم والدك بهذا الارتباط؟"


هز رأسه نفياً وهو يضع كفيه في خاصرته قائلاً ـ"لقد توفى(حازم) قبل أن أفاتح أبي مباشرة. وبالطبع لا أمل في مفاتحته في ذلك الأمر الآن."


هزت رأسها في صمت ثم تنهدت في عمق قبل أن ترفع عينيها إليه قائلة ـ"أعتقد أن كثيراً من أمور حياتنا قد اتضحت الآن, صحيح متأخراً ولكن أفضل من لاشيء."


قالتها وهي تنهض لتغادر الغرفة فأسرع يقف أمامها وهو يسألها بحنانه المعهود ـ"(هالة) هل ضايقك حديثي؟ هل أنت حزينة؟"


رسمت ابتسامة هادئة على شفتيها وهي تقول ـ"لقد أسعدني حوارك معي وأراحني كثيراً, أنا حزينة لحالك أنت و(سمر). ولكن اطمئن, ستسعدان قريباً جداً."


وتركت الغرفة في هدوء وقلبها يقطر دماً.


**********************************



تكملة الرواية من هناااااااا

تعليقات

التنقل السريع