القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية دمعات قلب الفصل الحادي عشرون والثاني عشرون والثالث عشرون والرابع عشر ون والخامس عشرون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)

 


رواية دمعات قلب الفصل الحادي عشرون والثاني عشرون والثالث عشرون والرابع عشر ون والخامس  عشرون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)





رواية دمعات قلب الفصل الحادي عشرون والثاني عشرون والثالث عشرون والرابع عشر ون والخامس  عشرون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)




الدمعة الحادية والثانية والعشرون


21 -


طرقت (هالة) باب غرفتها المفتوح بهدوء وهي تنظر إلى (طارق) يعدل رباط عنقه في المرآه، فابتسم بعذوبة لصورتها المنعكسة وعيناه تحملان تساؤلاً عما تريده. 

دلفت إلى الغرفة بنعومة وهي تتنحنح بحرج قائلة ـ"هل ستتأخر اليوم في المستشفى؟"


التفت إليها وهو يغلق أزرار معصميه قائلاً بنفس الإبتسامة ـ"أعتقد ذلك...فلدينا اجتماع مع المدير العام".


قالها وتنحنح وهو يعدل ياقة قميصه بشكل سينمائي ويضيف ـ"يبدو أنه سيكافئني على مجهودي الخرافي في الفترة السابقة وكأنني الجراح الوحيد بالمستشفى..ولهذا أرتدي الملابس الرسمية".


ضحكت على عبارته وهي تلتقط السترة من فوق الفراش وتساعده في ارتدائها قائلة ـ"ستكون هذه المكافأة إستجابة لدعاء أمي لك..فهي تدعو لك أكثر مما تدعو لي ولأبنائي".


أدخل ذراعه في كم السترة التي تمسكها (هالة) قائلاً بمرح ـ"أهذه غيرة؟ أم محاولة للوقيعة بيني وبين أمي؟"


ضحكت ثانية وهي تعود لتقف أمامه وتربت على كتفه قائلة بنبرة خاصة ـ"لا غيرة ولا شيء..ربنا يهني سعيد بسعيدة".


ضحك هو لطريقتها في الحديث قبل أن يكتسي صوته بالجدية وهو يقترب بوجهه منها ويسألها بود ـ"المهم...بعد الاجتماع سأجري جراحتين بإذن الله..أي أنني سأعود بعد العاشرة مساء إن شاء الله. هل أجبت سؤالك؟"


تخضب وجهها خجلاً لإقترابه منها فتراجعت قليلاً وهي تزدرد لعاباً وهمياً وتحاول أن تقول بشكل طبيعي ـ"تقريباً..بعد إذنك ستأتي (نهى) صديقتي لتزورنا بعد المغرب".


تناول ساعة يده وهو يسألها بإهتمام ـ"هل تريدينني أن أستقبل زوجها؟"


قالت في سرعة ـ"كلا...سيوصلها أخاها بسيارته فقط..زوجها مع الأولاد في الخليج وهي هنا في زيارة قصيرة لتطمئن على والدتها المريضة".


عقد حاجبيه للحظات لاح فيه الضيق على وجهه قبل أن يسألها وهو يلتقط جواله من جوار الفراش قائلاً بروتينية ـ"وهل زرت أنت والدتها؟ عهدي بك أنك تعرفين الواجب".


قالت بثقة ـ"طبعاً زرتها وإستأذنت منك قبلها".


التفت إليها وعادت ابتسامته الهادئة إلى وجهه وهو يقول ـ"دائماً أقول إن الذوق كله عند (هالة) دون جميع النساء".


إلتهب وجهها من الخجل وهي تخفضه أرضاً وتتمتم ـ"شكراً". 


أربكه خجلها غير الطبيعي فضغط فكيه بقوة لثوان قبل أن يسألها ـ"هل أشتري بعض الحلويات وال..".


قاطعته في سرعة لتفلت من حيائها ـ"كلا..سأصنع حلوى مميزة نحبها وهي ستحضر معها القهوة العربية التي اشتقت لرائحتها".


مد يده يلتقط علبة السجائر والولاعة وهو يقول مازحاً ـ"أهم شيء أن تتركوا لي جزءاً من هذه الحلوى".


تابعت عيناها كفه وهو يلتقط علبة السجائر ويهم بوضعها في جيبه فأسرعت تقول بضيق ـ"ألم يكفك أكثر من شهر؟"


توقفت يده في الهواء وعقد حاجبيه مستفهماً لتتابع هي بنفس الضيق ـ"لقد عدت إلى التدخين منذ أكثر من شهر...أدرك أن ما مررت به صعب ولكنك أقوى من أن تخضع لسيجارة".


خفض عينيه أرضاً ثم عاد يرفعهما قائلاً بجمود ـ"أخبرتك أنني أدخن كلما شعرت بالضيق، وليس طوال الوقت".


أدهشته بحنانها وهي تقول ـ"فلماذا لا تعيدها إلى عصمتك إذاً؟ لماذا تكابر وتقاوم حبها في قلبك؟"


إتسعت عيناه في دهشة وهو يسألها باستنكار ـ"ماذا تقولين يا (هالة)؟ أي حب هذا الذي أقاومه؟ لقد كنت أعيش وهماً كبيراً وأفقت منه".


قالت بنفس الحنان ـ"لا تعاند نفسك...أعتقد أن شهراً فترة كافية جداً كي تهدأ أعصابكما وتبحثا ...".


قاطعها قائلاً بحدة أخافتها ـ"نبحث ماذا؟ إنها ليست قضية السلام...لقد إنتهى الأمر ولا يستحق إعادة النظر فيه..هي أهانتني أمام الجميع، وكرامتي لا تسمح بأن أتركها على ذمتي بعد ذلك".


حاولت تهدئته قائلة بإبتسامة مرتبكة ـ"ولكن حبكما..".


قاطعها وهو يشير إلى قلبه قائلاً ـ"قلبي قبل كرامتي لا يقبل الإهانة..هي باعت هذا القلب وتمسكه بها، وأنا كذلك لم أعد بحاجة إليها. لقد كنت وفياً لها حتى النهاية وكنت مستعداً للتضحية من أجلها بكل شيء..لكنها باعتني عند أول منعطف".


قالها وزفر بعمق قبل أن يستغفر ربه بصوت خافت ويعود ليرسم ابتسامته العذبة ويقول ملوحاً بسبابته في تحذير ـ"دعك من هذا..لا تنسي نصيبي في الحلوى".


ثم تابع وهو ينظر إلى علبة السجائر في كفه قائلاً ـ"وإذا كانت السجائر تضايقك أعدك ألا أدخن ثانية".


وأقرن قوله بالفعل وهو يلقي بعلبة السجائر في سلة مجاورة للفراش ويعود بوجهه إليها مازحاً ـ"لقد توقفت عنها من أجلك قبل ذلك، وها أنذا أتوقف ثانية من أجلك".


وبحركة عابثة أشار إلى وجنته وهو يخرج من الغرفة قائلاً ـ"ألا أستحق مكافأة لأنني أطيع زوجتي؟"


قالها ومضى إلى عمله تاركاً (هالة) وقد إتسعت عيناها في ذهول من جرأته التي جعلتها تشتعل حرجاً للمرة الثالثة خلال أقل من نصف ساعة.


حاولت ألا تُحمل مزحته أكثر من معناها وهي تُلهي نفسها بأعمال المنزل التي لا تنتهي مستغلة أنها في إجازة عارضة من عملها بالمدرسة.

ولكن حينما ارتدت ملابسها إستعداداً للقاء صديقتها وقفت تتأمل نفسها قليلاً في المرآة.


لم تكن ملابسها ملفتة قياساً بما إعتادت إرتداؤه لإستقبال صديقاتها حينما كانت في الخليج.


كانت ترتدي سروالاً قصيراً من الجينز يصل إلى منتصف ساقها وبلوزة قطنية حمراء ناعمة بدون أكمام زانتها رسوم لبالونات مختلفة الألوان.


كانت تبدو أصغر سناً في هذه الملابس، وخاصة بعدما أضافت رتوشاً هادئة من مساحيق الزينة لتبرز جمال عينيها السوداوين وتزيد غموضهما، ورفعت شعرها الأسود الفاحم قليلاً ليصل إلى منتصف ظهرها بدلاً من نهايته.


ورغم ذلك راودتها هواجس أن يراها (طارق) هكذا ويسيء فهمها.


إنها ترتدي هذه الملابس لأنها تشتاق لأوقات مرحها مع صديقتها، 

تماماً كما تشتاق لأوقات برائتها قبل أن تتزوج وتخنقها المسؤوليات.


وبتمرد غريب عليها أكملت وضع زينتها بأحمر الشفاه اللامع وهي تتمتم لنفسها في المرآة قائلة ـ"(طارق) لن يعود قبل العاشرة، وحينها تكون (نهى) قد عادت إلى منزلها وأزلت أنا مساحيق التجميل وعدت إلى ملابسي المعتادة...لا يُعقل أن أقابلها مثل ربات المنازل اللائي يهملن أنفسهن...كفاني إهمالاً".


قالتها وأعادت تأمل نفسها وقد ارتسمت ابتسامة رضا على شفتيها ولسان حالها يقول "نعم كفاني إهمالاً".


**************************


الدمعة الثانية والعشرون


22 -


"ماذا؟؟ ساعدته في الزواج من أخرى؟"


هتفت (نهى) بهذه العبارة في ذهول واستنكار بالغين وهي تتأمل صديقتها تتابع في بساطة ـ"(نهى)..لا تنسي أننا تزوجنا مرغمين، ولم يكن من المعقول أن أفرض نفسي عليه كزوجة وأنا التي كانت تعارض فكرة الزواج من الأساس".


ضربت (نهى) كفاً بكف وهي تقول في حيرة ـ"لا حول ولا قوة إلا بالله.. وأنا التي توقعت أن أجدك تحملين طفله على ذراعك. الغريب أنني لم أشك لحظة في سعادتك أثناء حديثنا على الإنترنت وحينما قابلتك في بيت والدتي الأسبوع الماضي".


أزاحت (هالة) خصلات شعرها عن وجهها وهي تقول بهدوء غريب ـ"لأنني سعيدة بالفعل...سعيدة بهذه الحياة أياً كانت، ولم أكن لأخبر مخلوقاً بحقيقة علاقتي ب(طارق) لولا سؤالك المُلح عن سبب عدم إنجابنا حتى الآن".


تخضب وجه (نهى) خجلاً وهي تقول بحرج ـ"آسفة يا (هالة)، لم اقصد التدخل في حياتكما..لكنني توقعت أن...".


ربتت (هالة) على كفها قائلة بودـ"حبيبتي أنت أختي التي لم تلدها أمي، ولهذا فتحت قلبي لك".


احتضنتها (نهى) بحب صادق قائلة ـ"يعلم الله وحده مدى حبي لك منذ عرفتك".


ثم ابتعدت عنها وهي تمسح دمعة حائرة على طرف عينها قائلة ـ"المهم كيف هي زوجته تلك معك؟"


هزت (هالة) كتفيها قائلة بلامبالاة مصطنعة ـ"لم أرها سوى في صور الزفاف التي أحضرها (طارق) خلسة كيلا يراها الأولاد..هي فاتنة تبارك الله، وفي عينيها شقاوة محببة و..".


قاطعتها (نهى) قائلة بغيظ ـ"لم أسألك عن رأيك فيها يا (هالة)...أنا مقهورة مما فعلته أنت أصلاً...تسلمينه بيديك إلى أخرى؟؟ ماذا ينقصك أنت كأنثى ها؟؟؟ أشك أنك ارتديت ملابس كهذه أمامه".


شهقت (هالة) في استنكار قائلة ـ"أجُننت؟ كيف يراني هكذا؟ كلانا يعامل الآخر كأخ وصديق، ولا ينبغي أن يتغير ذلك".


سألتها صديقتها بضيق ـ"أخ وصديق؟؟؟ اصبري إلى أن تلد له وحينها سينسى أخته وصديقته وأبنائها و..".


قاطعتها (هالة) هذه المرة وهي تقول بنرة محايدة ـ"إطمئني...لن تنجب".


اتسعت عينا (نهى) وهمت بالتعقيب لولا أن سبقتها (هالة) بقولها ـ"لقد انفصلا".


بدت (نهى) وكأنما أخرستها الصدمة فتابعت (هالة) قائلة ـ"طالبته بالطلاق حينما علمت بأنها لن تستطيع الإنجاب..وطلقها منذ شهر".


لاح بريق ماكر في عيني (نهى) لم يخف عن عيني (هالة) التي قالت في سرعة وكأنها تدفع عنها إتهاماً مباشراً ـ"لقد حاولت معه أكثر من مرة أن يعيدها إلى عصمته، ولكنه يثور في كل مرة..حتى هذا الصباح ثار و...".


قاطعتها (نهى) بإببتسامة هادئة قائلة ـ"(هالة)..أنت تحبينه".


رفعت (هالة) رأسها في حدة وإستنكار فتابعت (نهى) بنفس الهدوء الواثق قائلة ـ"لا تحاولي الإنكار...أنت تحبينه ولكن كبريائك يمنعك من مصارحته بهذا الحب بعدما ابتعد عنك في بداية زواجكما".


حاولت (هالة) الإعتراض ولكن صديقتها تابعت قائلة ـ"أدري أنك كنت ترفضين فكرة الزواج وأنني أقنعتك بها على مضض، وأنه لو لم يضايقك ذلك الموظف يومها لربحت رهانك مع نفسك وظللت أرملة (حازم) رحمه الله. ولكنك أنثى في المقام الأول يا (هالة). أنثى تحب أن تشعر بضعفها وحاجتها إلى رجل يقف إلى جوارها. وحينما يكون الرجل حنوناً، لا تستطيع الأنثى الفكاك من أسر حنانه. صدقيني الحنان هو السلاح الوحيد الذي لا تستطيع المرأة مقاومته."


تاهت نظرات (هالة) بعيداً ولم تحر جواباً وهي تسمع صديقتها ومرآة روحها تقول بصدق وحالمية ـ"ربما تستطيعين مقاومة الحب ووأده في مولده بحجج عديدة، وستنجحين في ذلك. أما الحنان فهو الشعور الذي يدغدغ مشاعرك رغماً عنك ويدفعك إلى التعلق بهذا الشخص وكأنك مسلوبة الإرادة".


أطرقت (هالة) بنظرها إلى الأرض وكلمات صديقتها تدوي في عقلها.

نعم هي تحبه، وتحب حنانه عليها وعلى أطفالها، وحتى على أمها.

حنانه الصادق الذي لا رياء فيه، ولا هدف خلفه.

ربما يبدو ضعيفاً أحياناً أمام والده، ولقد خذلها أمامه من قبل.

لكنها تغاضت عن ألمها من هذا الموقف بعدما أخبرها بأنه يحب أخرى سواها، لأن ألم مصارحته كان أقوى.


لم تكن تتوقع منذ البداية أن يكون زوجاً طبيعياً لأرملة شقيقه الوحيد بعد عام من وفاته.

ولكنها حاولت أن تبدو زوجة طبيعية كيلا تلعنها الملائكة.

ورغم إبتعاده عنها، ومحاولاته الهروب من أن يجمعهما وقت النوم معاً، لم تمنع نفسها من الإشفاق عليه.

فهو طبيب وسيم وخلوق ومن أصل طيب تتمنى أعرق العائلات نسبه، ومع ذلك أُجبر على الزواج من أرملة لديها ثلاثة أطفال.


أياً كان حبه لأبناء أخيه، وأياً كان إحترامه وطاعته لأبيه، فلابد وأن يحب نفسه أكثر.

لابد وأن تكون له زوجة خاصة به يبدأ معها حياته وأحلامه.

زوجة لم تكن لغيره من قبل.


ولهذا شعرت بأنها مدينة له بمعروف لابد من رده.

وهنا داست على قلبها وحافظت على ما تبقى من كرامتها وفضلت أن تساعده في الزواج من محبوبته.

فأن يبقى إلى جوارها وأطفالها أخاً وأباً أفضل من أن يكون لها زوجاً لا يشعر بها ولا يبادلها أية مشاعر، بل وربما يلعنها سراً لأنها كانت سبباً في ضياع حبه.


هو ضحى من أجلها، وهي قادرة على التضحية بدورها.


ومن هنا كان إصرارها على إتمام المعروف إلى النهاية، وإعادة (سمر) إلى (طارق) و...


"(هالة)....أين ذهبت؟"


أجفلت (هالة) وهي تشعر بلمسة صديقتها لكفها فالتفتت إليها في شرود وابتسامة باهتة على شفتيها لتسمعها تتابع ـ"فيم تفكرين؟"


أجابتها (هالة) في هدوء ـ"لا أنكر أنك على حق...ولكني لا أستطيع تغيير موقفي. لقد طوقني هو و(سمر) بمعروفهما، ولابد من رد الجميل".


سألتها صديقتها بعدم إقتناع ـ"على حساب قلبك؟"


أجابتها بثقة ـ"على حساب أي شيء سوى أولادي".


ثم ما لبثت أن هتفت بصديقتها بلهجة مرحة لتغير الموضوع ـ"(نهي) يا ماكرة...ألهيتني في الحديث كيلا أشرب القهوة وأنت تعلمين مدى شوقي إليها..هيا أفرغي لي فنجاناً فرائحتها تزكم أنفي".


قالتها وتظاهرت بتقديم الحلوى لصديقتها التي تناولت حافظة القهوة لتفرغ منها وهي تتابع (هالة) بنظرات آسفة.


جلستا لدقائق في صمت وكلتاهما تحتسي القهوة وعقلها شارد بعيداً عن حدود الغرفة، ولم يخرجا من شرودهما إلا على صوت جرس الباب فقالت (نهى) في دهشة ـ"هل تنتظرين أحداً؟"


هزت (هالة) رأسها نفياً وهي تضع فنجانها على الطاولة قائلة ـ"كلا..عمي لم يخبرنا أنه قادم..ربما كانت (سناء) جارتي".


لم تكد تتم عبارتها حتى تناهى إلى مسامعهما صوت (هاني) الشقي وهو يهتف بجذل ـ"لقد عاد بابا..لماذا لم تفتح بالمفتاح؟"


بلغت دهشتها الذروة وهي تحدق في وجه صديقتها التي ابتسمت بمكر فأشاحت (هالة) بكفها في ضجر قائلة ـ"أمر غريب..لقد أخبرني أن لديه جراحتين بعد الإجتماع مع المدير..اللهم سترك".


قالتها ونهضت باتجاه الباب وفتحته قليلاً وهي تنادي ابنها قائلة ـ"(هاني)...تعالى هنا".


أتاها الصغير يقفز كعادته وهو يقول في سرعة ـ"لقد عاد بابا (طارق)".


قالت بهدوء ـ"أعلم ذلك يا حبيبي..هيا أحضر إسدال الصلاة من غرفة جدتك و(هند) ولا تصدر ضوضاء..فربما كان بابا (طارق) منهكاً من العمل".


أومأ الصغير برأسه وأسرع لينفذ طلب أمه التي تناهت إلى مسامعها عبارة تهكمية


"إسدال الصلاة؟؟؟!!!!!!" 


جلستا لدقائق في صمت وكلتاهما تحتسي القهوة وعقلها شارد بعيداً عن حدود الغرفة، ولم يخرجا من شرودهما إلا على صوت جرس الباب فقالت (نهى) في دهشة ـ"هل تنتظرين أحداً؟"


هزت (هالة) رأسها نفياً وهي تضع فنجانها على الطاولة قائلة ـ"كلا..عمي لم يخبرنا أنه قادم..ربما كانت (سناء) جارتي".


لم تكد تتم عبارتها حتى تناهى إلى مسامعهما صوت (هاني) الشقي وهو يهتف بجذل ـ"لقد عاد بابا..لماذا لم تفتح بالمفتاح؟"


بلغت دهشتها الذروة وهي تحدق في وجه صديقتها التي ابتسمت بمكر فأشاحت (هالة) بكفها في ضجر قائلة ـ"أمر غريب..لقد أخبرني أن لديه جراحتين بعد الإجتماع مع المدير..اللهم سترك".


قالتها ونهضت باتجاه الباب وفتحته قليلاً وهي تنادي ابنها قائلة ـ"(هاني)...تعالى هنا".


أتاها الصغير يقفز كعادته وهو يقول في سرعة ـ"لقد عاد بابا (طارق)".


قالت بهدوء ـ"أعلم ذلك يا حبيبي..هيا أحضر إسدال الصلاة من غرفة جدتك و(هند) ولا تصدر ضوضاء..فربما كان بابا (طارق) منهكاً من العمل".


أومأ الصغير برأسه وأسرع لينفذ طلب أمه التي تناهت إلى مسامعها عبارة تهكمية


"إسدال الصلاة؟؟؟" 


إلتفتت في حدة لصديقتها قائلة لتغيظهاـ" لا تتخيلي أنه سيراني في هذه الملابس...نجوم السماء أقرب لك". 


لم تتمالك (نهى) نفسها من الضحك وهي تراقب صديقتها ترتدي إسدال الصلاة وتحكم طرحته فوق شعرها ووجهها كما لو كانت تستعد للصلاة بالفعل، فقالت بسخرية وهي تنهض لترتدي عبائتها السوداء ـ"هل تتوقعين أن يصدق زوجك أنك كنت معي بإسدال الصلاة؟"


هتفت بها (هالة) في حنق قائلة ـ"اجلسي وسأنادي أمي تجلس معك..منذ تركتنا لصلاة العشاء وهي مع الأولاد..سأناديها وأرى سبب عودة (طارق)".


حاولت(نهى)الإعتراض فلوحت(هالة)بسبابتها محذرة وهي توسع عينيها كما تفعل مع أبنائها وهي تحذرهم قائلة ـ"قلت اجلسي...ستسافرين قريباً ولا أدري متى اراك ثانية".


قالتها وخرجت إلى غرفتها مع (طارق) الذي كان يوليها ظهره ويخلع سترته.

طرقت الباب بهدوء كالعادة وهي تسأله بقلق ـ"(طارق) لماذا عدت مبكراً؟ هل أصابك شيء؟"


ضحك من نبرتها القلقة وأجابها وهو يستدير ليواجهها ـ"أعتذر عن الحضور مبكراً، ولكن المريض تراجع عن إجراء الجراحة و..."


قطع عبارته وهو يتأملها للحظات وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة.


كان واثقاً من أنها ارتدت الإسدال الآن فقط حين وصوله، وأنها ترتدي تحته شيئاً آخر.

فمع زينتها الرقيقة تلك لا يمكن أن تجلس مع صديقتها بإسدال الصلاة.

لذا قال مشاكساً ـ"ماهذا؟ صوان ملابسك يمتليء بالملابس من كل نوع وتقابلين صديقتك بالإسدال؟"


أربكها سؤاله وحارت في الإجابة للحظات قبل أن تقول بإرتباك ـ"ل..لقد كنت معها في الشرفة لترى صندوق العصافير الذي أحضرته ل(هند) في يوم مولدها، ولذلك ارتديت الإسدال".


تظاهر بتصديقها وهو يتجه إليها قائلاً ـ"أهااا...حسناً. أريني ماذا ترتدين إذاً".


زاد ارتباكها والتهب وجهها خجلاً وهي تشعر بإقترابه فقالت لتخرج من الغرفة ـ"لا يصح أن أترك صديقتي الآن...سأذهب لأودعها وأجهز لك العشاء..ألا تتضور جوعاً؟"


تحسس معدته بكفه قائلاً بألم مصطنع ـ"جئت على الجرح..نعم أتضور جوعاً...أخبريني أولاً أين نصيبي من الحلوى؟"


أشارت بكفها إلى الحمام الملحق بالغرفة قائلة ـ"غير ملابسك وريثما تنتهي من حمامك يكون طبق الحلوى في انتظارك..المهم ألا تكثر منها وإلا فقدت شهيتك".


تحسس معدته ثانية وهو يتجه إلى الحمام قائلاً ـ"لا تقلقي...فأنا اليوم أتضور جوعاً بالفعل".


لم تتحرك من موقعها عند باب الغرفة إلا حينما لمحته يغلق باب الحمام، فأسرعت إلى صوان ملابسها وفتحته لتلتقط أول بلوزة حريرية صادفتها في سرعة قبل أن تغلق الصوان وتغادر الغرفة في خفة ونبضات قلبها كقرع الطبول في أذنيها.


وعند باب غرفة الصالون التي كانت تجلس بها مع صديقتها فوجئت بوالدتها تحاول إقناع(نهى)بالبقاء قليلاً وسمعتها تعتذر قائلة ـ"كان بودي البقاء أكثر، ولكن ينبغي أن أعود إلى أمي، فسأسافر بعد غد إن شاء الله ولابد أن أقضي الفترة الباقية معها".


تدخلت (هالة) في الحديث قائلة ـ"ولكن الحديث لم ينته بعد، وكذلك القهوة".


قبلتها صديقتها على وجنتيها قائلة ـ"نكمل حديثنا على الهاتف، وبعدها على الإنترنت. أعدي القهوة كل خميس واشربيها معي على الماسنجر".


ثم صافحت والدة صديقتها واتجهت إلى باب الشقة قبل أن تلتفت إلى صديقتها التي تبعتها قائلة بضحكة مكتومة وهي تشير إلى البلوزة الحريرية التي تمسكها بيدها قائلة ـ"ارضي بقدرك يا (هالة) وخذي بنصيحتي...أراك على خير".


احتضنتها (هالة) واستودعتها قائلة ـ"لقد أستودعتك، فلا تجعليني أرتكب جريمة الآن...هيا مع السلامة".


وحينما أغلقت الباب خلف صديقتها هرعت إلى غرفة ابنتها لترتدي البلوزة الحريرية فوق بلوزتها الحمراء.

ولكن لسوء حظها لم تنتبه إلى البلوزة إلا متأخراً...


فقد كانت البلوزة شبه شفافة

جزء منها لامع مثل الساتان، وجزء آخر أقرب إلى الشيفون الشفاف

وبالتالي كانت البلوزة الحمراء واضحة من تحتها


دارت بعينيها في الغرفة تبحث عما يمكنها إرتداؤه بدلاً من تلك البلوزة، لكنها لم تجد سوى إسدال الصلاة، وهو طلب منها أن يراها دونه.


راودتها نفسها بالعودة سريعاً إلى الغرفة لتأخذ بلوزة أخرى قبل أن يخرج من الحمام، وعزمت أمرها على ذلك.

لكنها ما أن خرجت من غرفة الصغيرة حتى تناهى إلى مسامعها صوته يناديها من غرفتهما قائلاً ـ"أين الحلوى يا (هالة)؟ لا تقولي إنها إنتهت".


غاص قلبها بين ضلوعها للحظات قبل أن تجد صوتها لتقول بهدوء ـ"حالاً يا (طارق)".


واتجهت إلى المطبخ لتجهز طبقه وهي تدعو الله ألا يلحظ (طارق) ارتباكها.


**********************

الدمعة الثالثة والرابعةوالعشرون


23 -


دلفت (هالة) إلى غرفتهما وهي تحمل صينية أنيقة عليها طبق الحلوى وحافظة القهوة وفنجان صغير وضعتهم على مائدة صغيرة تتوسط مقعدين وثيرين في طرف الغرفة هامسة ـ"الحلوى والقهوة".


إلتفت إليها (طارق) الذي كان أنهى للتو حمامه وقال لها في سرعة ـ"أدركيني بقطعة سريعاً...أشعر بأن جسدي فقد كل ما به من سكريات".


قدمت إليه الطبق وبه شوكة صغيرة وانتظرت أن يلتقطه منها، لكنه قال بتذمر مشيراً إلى كفيه ـ"(هالة)..ألا ترين أن يداي ملطخة بكريم الشعر..من فضلك ضعيها في فمي".


أربكها طلبه وحاولت أن تتماسك وهي تتناول الشوكة وتحاول أن ترفع بها قطعة من الحلوى، ولكن إضطرابها وخجلها جعلاها تعجز عن السيطرة على الشوكة في الوقت الذي يراقبها فيه (طارق) بضجر قائلاً ـ"(هالة)...بالله عليك دعك من الشوكة..فأنا أثق في نظافة يديك".


رفعت عينيها إليه بدهشة وحاولت أن تتحكم في دماء الخجل التي تصاعدت بقوة إلى وجهها وعقلها يهتف بها محنقاً ’ماذا بك يا غبية؟ سيلحظ ارتباكك وقد يسيء فهمه..تعاملي بطبيعية كما كنت تفعلين دوماً..مالفارق بين أن تطعميه الحلوى بيديك الآن وأن تسقيه الحساء وهو مريض من قبل؟‘


استجابت لعقلها الباطن سريعاً ورسمت ابتسامة محايدة على شفتيها وهي تلتقط قطعة من الحلوى بين أصابعها وتقترب منه لتضعها في فمه برفق وهي تمسك الطبق بيدها الأخرى تحت ذقنه وتحاول ألا تلتقي أعينهما.

سمعته يتلذذ بطعم الحلوى ويقول بإستمتاع ـ"مممممممم سلمت يداك يا (هالة)...طعمها رائع".


ابتسمت بثقة هذه المرة وهي تسمعه يطلب قطعة أخرى بعد أن ابتلع الأولى فاقتربت لتضع قطعة ثانية في فمه بعد أن دهن شعره بالكريم، ولكنه أمسك كفها بحركة مباغتة ومال برأسه يلتقط الحلوى بشفتيه من بين أصابعها قبل أن يلعق سبابتها ووسطاها وإبهامها قائلاً ببطء وهو يتعمد النظر في عينيها ـ"طعمها هكذا أفضل".


فاجأتها حركته ففقدت ثقتها المزعومة وعادت إلى ارتباكها السابق وهي تشعر بسخونة غريبة تعتريها جعلتها تحاول جذب يدها وهي تشعر باقترابه أكثر وهو يتشممها هامساً ـ"ما هذه الرائحة الطيبة؟"


أجابته بحروف متقطعة من الإرتباك والحرج ـ"إنها رائحة القهوة و...".


هز رأسه نفياً وهو يواصل الإقتراب حتى صدمها بأنفاسه وصوته لا يزال هامساً ـ"كلا...إنها رائحتك أنت..فأنا لا أخطئها".


خفضت وجهها أرضاً هرباً من وجهه الذي اقترب منها بشكل غير مسبوق، وحاصرتها أنفاسه التي إختلطت فيها رائحة نعناع معجون الأسنان برائحة الشيكولاتة في الحلوى


كانت في قرارة نفسها تتمنى هذا القرب وتنتظره

لكنها كانت أيضاً ترفضه لأنها لا تراه من حقها

وربما لأن كرامتها تأبى الرضوخ لمن نبذها من قبل

فلماذا هذه الرجفة إذاً كلما إقترب

ولماذا يخفق قلبها مع كل همسة ولمسة ولفتة؟

ولماذا...


خرجت من شرودها على لمسته فشهقت بعنف وهي تبتعد عنه وتدفعه بعيداً بقوة هاتفة ـ"ماذا تفعل؟"


أجابها ببساطة أغاظتها ـ"أريد رؤية ملابسك التي كنت ترتدينها قبل عودتي...لقد لمحتك تلتقطين هذه البلوزة من الصوان بعد دخولي الحمام، وخمنت أنك سترتدينها. وأنا...".


قاطعته قائلة بلهجة جافة لم يعتدها منها ـ"سأذهب لأعد العشاء...القهوة في الحافظة إذا كنت تود تجربة مذاقها".


قالتها واستدارت تغادر الغرفة في قوة، أو بالأحرى تهرب منها إلى غرفة ابنتها وهي تتمتم لنفسها بغضب ـ"أنا الغبية...لماذا ارتديت هذه البلوزة، لماذا ارتديت هذه الملابس من البداية؟ لماذا خلعت إسدالي...أنا غبية..غبية".


وفي عنف لم تعهده في نفسها إتجهت إلى بعض الملابس المطوية بعناية على فراش والدتها وفتشت بين ملابسها إلى أن وجدت منامة قطنية واسعة طويلة الأكمام فالتقطتها من بينهم وهي تحمد الله في سرها لأنها لم تأخذ ملابسها إلى صوانها بعد غسيلها.

دخلت الحمام الرئيسي وأغلقته خلفها ثم نظرت لإنعكاس صورتها في المرآة التي تعلو الحوض قبل أن تتجه إليه وتغسل وجهها بغيظ وكأنها تنتقم منه لأنه كان يحمل تلك الزينة.

ثم أبدلت ملابسها بالمنامة القطنية وتنهدت بارتياح وهي تنظر إلى شكلها المعتاد ووجهها الخالي من المساحيق وشعرها الأسود الذي عقصته إلى الخلف بعدما رفعت خصلاته القصيرة عن وجهها بمشبك صغير لا يكاد يُرى.

وعلى العكس من عصبيتها قبل دخول الحمام، خرجت (هالة) وهي تشعر بعودتها إلى سابق عهدها وإلى قوتها التي خانتها اليوم.


وفي هدوء، توجهت إلى المطبخ لتجهز عشاء زوجها، أو بالأحرى غدائه الذي لم يتناوله بسبب عمله. وبعد أن رتبت مائدة الطعام طلبت من ابنها (هاني) أن ينادي عمه للعشاء.

ما أن رأته يقترب من المائدة وابتسامته الجذابة تزين محياه حتى أجبرت نفسها على مغادرة الغرفة لولا أن سبقها وهو يمسك معصمها قائلاً بدهشة ـ"ألن تتناولين العشاء معي؟"


التفتت إليه ببرود قائلة ـ"ومنذ متى أتناول العشاء..عشائي منذ عشر سنوات لا يخرج عن الزبادي قليل الدسم وثمرة فاكهة..وقد تناولت الكثير من الحلوى اليوم، لذا لن أتناول العشاء".


استعطفها قائلاً ـ"ولكنني لا أحب الأكل وحدي. على الأقل اجلسي معي".


قالت بنفس البرود ـ"لا أحب أن أبدو كمن يعد اللقيمات..سأنادي (هيثم) و(هاني) ليتناولا العشاء معك".


وبكل ثقة خطت بعيداً عنه وهي تسمعه يقول بإحباط ـ"أولن تسأليني عما حدث بالإجتماع، أو تهنئيني بالترقية؟"


للحظة فقدت برودها وهي تلتفت إليه في سعادة حقيقية بنجاحه، قبل أن يغلف البرود صوتها وهي تهنئه قائلة ـ"ألف مبروك".


ثم ابتعدت لتنادي طفليها إلى العشاء قبل أن تتجه إلى غرفة ابنتها وتحمل الملابس النظيفة عن فراش والدتها وتندس إلى جوار صغيرتها بين أغطيته وتحاول الخلود إلى النوم.

ولكن قبل إنقضاء خمس دقائق شعرت بخطواته في الغرفة وهو يقترب من الفراش وينحني عليها هامساً بخيبة أمل ـ"هل نمت دون قبلة المساء؟"


شددت من إغلاق جفنيها وهي تضغط كفيها تحت الغطاء وتشعر بإقترابه منها وهو يواصل بنفس الهمس ـ"(هالة)..بالله عليك قبلي (هند) نيابة عني..لقد أوحشتني هذه الصغيرة".


لم تدر لم فتحت عينيها فجأة بعد جملته..ربما لأنها شعرت بأن تظاهرها بالنوم أصبح مكشوفاً

وربما لأنه كان يقصد التلاعب بمشاعرها

المهم أنها فتحت عينيها لتلتقي بعينيه للحظات انكمشت خلالها أكثر وسط الأغطية وهو يقترب أكثر معتمداً بكفه على ظهر الفراش وبكفه الأخرى على الفراش نفسه حتى تجاوزها وهو يضيف قائلاً ـ"لقد غيرت رأيي...أفضل أن أقبلها بنفسي".


قالها وهو يقبل الصغيرة على وجنتها بهدوء قبل أن يرفع جذعه ويستقيم ليسألها بلهجة حيادية ـ"هل ستقضين ليلتك هنا؟"


أجابته بهزة من رأسها، ثم مالبثت أن بررت ذلك قائلة بصوت مبحوح ـ"لقد اشتقت إلى مبيتها بين أحضاني".


هز رأسه متفهماً وبدت خيبة الأمل على ملامحه وهو يقول ـ"حسناً..تصبحين على خير".


ودون أن ينتظر ردها دار على عقبيه وغادر الغرفة سريعاً في الوقت الذي دلفت فيه أم (هالة) ورمقتها بنظرة صارمة تدرك معناها جيداً

لم تستطع أن تواجه نظرة أمها فتظاهرت بالنوم لتهرب مما ستسمعه منها

ولكن الأم أدركت محاولتها فاقتربت منها وهي تقول بلهجة ساخرة ـ"هل ستنامين في مكاني الليلة؟ معنى هذا أن أنام أنا إلى جوار (طارق)".


أجابتها (هالة) قائلة بلامبالاة وعيونها لا تزال مغلقة ـ"عادي..زوج ابنتك مثل ابنك".


جلست الأم على طرف الفراش وجذبت الغطاء عن ابنتها قائلة بنفس اللهجة الساخرة ـ"حقاً؟"


للحظة تذكرت (هالة) نفسها وهي تقول نفس الكلمة ل(طارق) في بداية زواجهما حينما طلب منها أن ينفق هو عليها وعلى أبنائها بحجة أنه زوجها. 

يومها سخرت منه لأن زواجهما كان صورياً

واليوم تسخر منها والدتها لأن الزواج لا يزال صورياً رغم محاولات (طارق) للتقرب منها

نعم هو يحاول التقرب منها وتحويل الزواج إلى زواج فعلي، بينما تتهرب هي منه وهي تدرك ذلك جيداً

تدرك محاولاته وتدرك تهربها منه لأنها لا تريد أن تكون مرحلة مؤقتة في حياته، أو أن تكون قرصاً مسكناً لآلام قلبه الجريح

ولكنها ملزمة بإطاعته شرعاً، وهي لا تستطيع ذلك.


وكأنما شعرت والدتها بما يدور في خلدها فربتت على كفها قائلة بحنان ـ"(هالة)..أين تدينك؟ أنت حرة في حياتك، ولكني لا أستطيع منع نفسي عن نصحك. فأنت لن تتحملي لعن الملائكة طوال الليل، حتى وإن كان لديك عذراً شرعياً".


ثم قطبت حاجبيها بضيق مصطنع وهي تقول ـ"هيا انهضي إلى غرفتك..لا تشاركيني فراشي، فهو من حق (هند) وحدها الآن...فراشي للفتيات فقط وليس للمتزوجات".


قالتها وهي تجذب (هالة) من الفراش لتنهض بتذمر وتمط شفتيها قائلة ـ"ولكن يا أمي...".


ربتت والدتها على كفها ثانية بتعاطف ومنحتها إبتسامة تشجيع وهي تقول ـ"ابنتي الجميلة مطيعة وتعرف دينها جيداً..والأهم أنها تحب زوجها وتكابر هذا الحب بعناد".


تنهدت (هالة) بعمق وعادت تمط شفتيها وتهز كتفيها بإستسلام قائلة ـ"أمري إلى الله...أمي تطردني من غرفتها ومن أحضانها".


اتسعت ابتسامة والدتها وهي تشير إليها بكفها لتغادر الغرفة.


في هذه الأثناء، كان (طارق) يذرع الغرفة المظلمة ذهاباً وإياباً والضيق يملؤه...

الآن فقط شعر بما كان يمزق (هالة) وهو يتجاهلها

فهاهي الآن تتجاهل كل محاولاته للتقرب منها

ولها كل الحق في ذلك

فهو لم يمنحها حبه وإهتمامه بها كزوجة من قبل

هو صدمها منذ بداية زواجهما ووضع حدوداً للعلاقة بينهما

فلماذا يتوقع منها الآن أن تتقبل منه أي تغيير في هذه الحدود؟

ولكنه يعترف الآن بخطئه...وبحبه

نعم حبه

لقد تغيرت نظرته إلى (هالة) منذ طلاقه من (سمر)

فجأة بدأ ينظر إليها كأنثى

أنثى طالما تعامى عن النظر إليها

أو بالأحرى عن النظر إلى عينيها

لأنه لو كان نظر إلى عينيها منذ زمن لوجد فيهما انعكاس صورته...وانعكاس حبها له

ولكان كل شيء مختلفاً الآن.

للحظة لعن غباءه وغباء قلبه الذي أعمى عينيه

وللحظة أخرى وسوس له شيطانه أن يدخن سيجارة ينفث مع دخانها نيران غيظه

لكنه إستعاذ بالله من شيطانه...لقد وعدها هذا الصباح بالتوقف عن التدخين من أجلها، ولابد أن يلتزم بكلمته

ثم إنه ألقى علبة السجائر أمامها في سلة المهملات بالغرفة، ولابد أنها أفرغت السلة بعد خروجه.

وبدافع من الفضول فقط ألقى نظرة سريعة على السلة المجاورة لفراشه ليجدها خالية تماماً قبل أن يهز رأسه في إعجاب بنشاط (هالة).

ثم مالبث أن عاد إلى غيظه من الموقف الذي يواجهه وهو يقف أمام زجاج النافذة المغلق ويتابع بعينيه أضواء الحي تحته ويعيد حساباته مع نفسه


وفجأة تناهى إلى مسامعه حفيف خطوات هادئة مترددة فإلتفت في لهفة كاد معها يرتطم بالطاولة الصغيرة التي كانت لا تزال تحمل حافظة القهوة

ورآها


رآها وسط الظلام تدلف إلى الغرفة بهدوء عاقدة ذراعيها أمام صدرها كالأطفال وضوء الممر خلفها يخفي ملامحها 

لكنه لم يكن بحاجة إلى الضوء كي يرى ملامحها التي نُقشت في ذاكرته

وتابعها وهي تغلق الباب خلفها بهدوء وتقترب من الفراش كالمجبرة فترفع أغطيته وتسمي بالله وهي تضربه ثلاث ضربات خفيفة لطرد الشيطان قبل أن تندس داخله بنعومة


حينها لم يمنع نفسه من أن يتأملها على ضوء القمر الوليد الذي تسلل من النافذة وحمل صوته إبتهاجه وهو يسألها _"هل تراجعت في رأيك وستبيتين هنا الليلة؟"


أجابته بهدوء وهي تنام على جانبها الأيمن قائلة ـ"الفراش لن يكفي ثلاثتنا فإضطررت للعودة".


تقدم إلى الفراش واندس هو الآخر بين أغطيته على الجانب الآخر قائلاً بجذل ـ"الحمد لله أنك عدت..فلنتحدث قليلاً إذاً..لقد أصابتني القهوة التي شربتها قبل العشاء بالأرق و.."


قاطعته قائلة بضجر _"(طارق) أنا مرهقة طوال اليوم في أعمال المنزل، ولا يزال الغد ينتظرني بالمزيد منها".


شعر بمحاولتها الجافة لصده فاعتدل في جلسته مستنداً برأسه إلى ظهر الفراش وهو يعقد ذراعيه أمام صدره قائلاً في احباط ـ"ستنامين وتتركيني وحدي حتى الفجر؟ ألن تسأليني عن..."


إلتفتت إليه فجأة كمن تذكرت شيئاً وهي تقول _"تذكرت..لا توقظني لصلاة الفجر".


قالتها وعادت توليه ظهرها وتعدل من وضع وسادتها تحت رأسها وكأنها لم تقل شيئاً.

أما هو فتعجب من طلبها وهي التي توقظه دوماً لصلاة الفجر إذا تأخر في النوم، لذا سألها في حيرة ـ"لماذا؟"


وكانت إجابتها البسيطة سبباً للمزيد من الإحباط

فقد أجابته وعينيها لا تزال مغلقة _"عذر شرعي"


وانهارت آماله في التقرب منها هذه الليلة.


*********************************


الدمعة الرابعة والعشرون


24- 


دلف(طارق) إلى غرفة نومه بخفة وقال في مرح موجهاً حديثه إلى(هالة) ـ"لقد نام الأولاد وكل شيء على ما يرام و..."


بتر عبارته حين وجدها جالسة على الفراش ومستغرقة في تأمل شيء في يدها, فأغلق الباب خلفه واتجه إليها على أطراف أصابعه حتى جلس إلى جوارها وهمس في أذنها بنعومة ـ"فيم استغراقك هكذا؟"


التفتت إليه لتلفح أنفاسه الدافئة وجهها, فارتبكت وعادت بعينيها إلى ألبوم الصور الفوتوغرافية الراقد بين يديها, في حين ألقى هو نظرة سريعة عليه قبل أن يسألها ـ"أهذه(هند)؟"


هزت رأسها نفياً وهي تجيبه بخفوت ـ"كلا, إنها أنا وهذا أبي."


أمعن النظر في الطفلة الجميلة ووالدها الذي ارتدى زي رائد بسلاح الطيران ثم ما لبث أن قال في دهشة ـ"أكان والدك طياراً؟"


أومأت برأسها إيجاباً قائلة ـ"أجل, واستشهد في حرب أكتوبر."


هز رأسه متعجباً وقال ـ"لولا ثقتي في أنني لم أنضم لسلاح الطيران يوماً لظننت أنه أنا."


تنهدت قائلةـ"أنت تشبهه بالفعل, وهذه أول ملاحظة أبدتها أمي حين رأتك في حفل خطبتي على(حازم) رحمه الله, ليس في الهيئة والملامح فقط بل في الطباع أيضاً. الفارق الوحيد أن شعره وعينيه كانا سوداوين، وأنت شعرك بني وعينيك مائلة إلى الأخضر".


ثم تابعت وهي تطيل النظر إلى الصورة قائلة ـ" لقد كان والدي رحمه الله حنوناً للغاية هو الآخر, ويبدو أنه كان يشعر بقصر حياته لذا التقط لي معه أكثر من مئة صورة منذ مولدي وحتى وفاته."


أشار إلى صورتها وهي طفلة وداعبها قائلاً ـ"وهذه الصغيرة الفاتنة هي أنت؟! لقد كنت جميلة جداً في صغرك."


لكزته في جانبه بحركة لا شعورية قائلة بدلال ـ"وهل فقدت جمالي؟"


تناول الألبوم في يده واعتدل في جلسته على الفراش كي يواجهها وهو ينقل بصره بين وجهها والصورة وتظاهر بالجدية وهو يتحسس ملامحها وشعرها ويقارنهما بالصورة قائلاً ـ"دعيني أقارن. العينان واسعتان ولونهما الأسود مثير للغموض, الأهداب طويلة تأسر الألباب, الأنف صغير ورقيق, والفم موسوعة جمال؛ أما الشعر فشلال حريري لم أر في جماله من قبل. لو أردت رأيي فقد زادت فتنتك وجمالك أضعافاً."


ارتبكت من لمساته التي بدت أشبه بتيار كهربائي، وتضرج وجهها خجلاً فخفضته أرضاً في حرج وحاولت النهوض من جواره في سرعة, إلا أن يده كانت أسرع وهي ترفع وجهها إليه ثانية وتابع مضيفاً في إعجاب واضح ـ"وأجمل ما فيك هو تورد وجهك هكذا."


أبعدت وجهها عن يديه قائلة بحرج بالغ ـ"ما هذا؟ هل تغازلني؟"


اقترب بوجهه من وجهها هامساً ـ"وما المانع؟ ألسنا زوجين؟"


نهضت بعيداً وتنحنحت قائلة ـ"تصور أنني نمت في أحضان أبي في آخر يوم رأيته فيه ولم أرد مفارقته وبكيت بحرقة حينما انصرف, وحدث نفس الشيء مع أولادي قبل وفاة(حازم) رحمه الله. فقد قضى الليل معهم يلعب ويضحك كما لم يفعل من قبل وأصّر على المبيت معهم في غرفتهم. أتراه كان يشعر بدنو أجله؟"


أدرك محاولتها لتغيير دفة الحوار فهز كتفيه وأجابها قائلاً ـ"ربما كان لديه حدساً داخلياً, فكثيراً ما كان يفعل أشياء بناء على حدسه هذا وتنجح, على عكسي تماماً بحكم اختلافنا منذ الصغر."


وقفت أمام النافذة وشردت بذهنها بعيداً إلى نحو عامين لتتذكر تفاصيل اليوم السابق على وفاة (حازم).

يومها كانت ترتب المنزل نحو الحادية عشرة صباحاً حينما ارتفع رنين الهاتف فجأة، فأجفلت للحظة وهي تشعر بدقات قلبها المتسارعة قبل أن ترفع سماعة الهاتف قائلة باضطراب ـ"السلام عليكم".


أتاها صوته من الطرف الثاني يقول في سرعة ـ"وعليكم السلام..كيف الأحوال؟"


أجابته ودقات قلبها لا تزال سريعة عن معدلاتها ـ"بخير الحمد لله..كيف حالك أنت؟ ليس من عادتك الإتصال وقت العمل".


أجابها بضحكة صافية لم تعتدها من قبل وهو يضيف ـ"لا تخافي..أنا بخير..لقد اتصلت لأطلب منك الإستعداد أنت وأميرتنا الصغيرة...فسنذهب جميعاً لتناول الغذاء في الخارج..في مطعم على الخليج مباشرة"


اتسعت عيناها في دهشة وهي تقول بسعادة طفولية ـ"حقاً يا (حازم)؟ يالها من مفاجأة. لقد يأست من أن نذهب إليه بسبب مشاغلك الكثيرة".


ضحك ثانية للهفتها وهو يقول ـ"وها أنذا مستعد لتنفيذ طلباتكم الليلة. هيا استعدي وسأمرك في الواحدة ظهراً إن شاء الله، ثم نصحب الولدين في طريقنا من مدرستهما".


سألته قائلة ـ"لماذا لا ننتظر إلى الغد؟ إنه الخميس وسيكون الأولاد في أجازة بالفعل و..".


قاطعها قائلاً بمرح ـ"(أم هيثم)..إغتنمي العرض قبل أن يفوتك..وتذكري بيت الشعر ‘إذا هبت رياحك فاغتنمها’".


أكملت بيت الشعر قائلة ـ"‘فإن الريح عادته السكون’. وهو كذلك يا (أبا هيثم). سنغتنم رياحك اليوم..سأكون مستعدة في الموعد بإذن الله".


وما أن أنهى اتصاله حتى بدأت في الإستعداد للخروج والنزهة التي كانت تنتظرها منذ زمن لتذكرها بأيام زواجها الأولى.

قضت وقتاً رائعاً هي والأولاد معه حتى المساء، ثم عادوا جميعاً إلى المنزل بعد أن أحضر (حازم) طعام العشاء معه.

والغريب أن (حازم) لم يترك أبنائه طيلة الليل..

ظل يلعب معهم في مرح وسعادة حتى تجاوز موعد نومهم، ثم أقدم على شيء أدهشها

فقد ضم فراشي (هيثم) و(هاني) وإستلقى عليهما ليتوسد كل منهما إحدى ذراعيه، ربما للمرة الأولى في حياته

وبعد منتصف الليل، وحينما تأكد من إستغراق الولدين في النوم، تسلل (حازم) إلى غرفته مع زوجته التي كانت ترضع (هند) في هذه اللحظة

وبدلاً من أن يترك الصغيرة تستسلم للنوم بين ذراعي (هالة)، حملها في حنان وهو يداعبها بشكل لم تعهده زوجته من قبل.

وبعدما نامت الصغيرة بين ذراعيه، تأملها قليلاً ونقل بصره إلى (هالة) متسائلاً ـ"ترى هل أعيش إلى اليوم الذي أسلمها فيه إلى عريسها؟"


شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها وهي تقول في سرعة ـ"بإذن الله تحضر زواجها هي وأشقائها وتحمل أحفادهم أيضاً".


لاحت نظرة غريبة في عينيه وهو يتأمل زوجته بتمعن وكأنه يقول لها ‘لا أظن’.


أقلقتها نظراته فاقتربت منه تحمل الصغيرة وهي تسمي بالله وتضعها في فراشها قبل أن تعود لتجلس إلى جواره على فراشهما وتتناول كفه قائلة بجزع ـ"ماذا بك يا (حازم)؟ ولماذا هذه النظرة في عينيك؟"


تلاقت نظراتهما للحظات حاولت خلالها سبر أغواره الغامضة عبر عينيه السوداوين الأكثر غموضاً، لكنه أحبط محاولتها وهو يسبل جفنيه ويسند جبهته على جبهتها هامساً ـ"لقد أرهقتك معي كثيراً".


ابتعدت عنه في سرعة كمن مسه تيار كهربي ووضعت كفها على وجنته قائلة بقلق حقيقي ـ"ماذا بك يا (حازم)؟ مالذي تخفيه عني؟ نزهة اليوم خلفها سر كبير. أخبرني ماهو. هل أنت مريض؟ هل...".


قاطعها وهو يضع أنامله على شفتيها برقة إفتقدتها منذ أيام زواجهما الأولى وهمس لها بابتسامة صادقة وهو يداعب خصلات شعرها الأسود قائلاً ـ" السر هو أنني شعرت بتقصيري في حقك، وبأنك تستحقين مني كل كلمات الشكر والتقدير..والحب. أدري أنني كنت جاف المشاعر معك، وأنني لم أمنحك الحب الذي تستحقينه رغم أنك منحتني السعادة التي يتمناها أي زوج بهدوؤك وطاعتك وأدبك وتدينك وكل صفاتك الجميلة".


وتابع وهو يضمها إليه بكل حب قائلاً ـ"قد لا أجيد التعبير عن الحب بالكلمات، فهذا طبعي الذي ورثته عن والدي. ولكنني قررت أن أعوضك الليلة كل ما فاتك، وأن أشكرك بطريقتي الخاصة".


كانت كلماته الرقيقة غريبة على أذنيها، ولم تفلح في طمأنة قلبها الذي لا تزال تلك القبضة الباردة تعتصره.

وازداد توترها في الصباح حينما استيقظت متوقعة أن تجد نفسها بين ذراعيه..لكنه كان قد رحل إلى عمله

رحل دون أن يودعها أو يودع أبنائهما

وقبل أن تستوعب الوقت وتبدأ حواسها في العمل...كان صوت الإنفجار

الإنفجار الذي دوى في أحشائها قبل أن تسمعه بآذانها

الإنفجار الذي أودى بحياة زوجها ووالد أبنائها

ال.....


قطع (طارق) تدفق ذكرياتها وهو يسألها في دهشة ـ"أين شردت؟"


إلتفتت إليه بعينين خاويتين وكأنها لا تزال تعيش صدمة حادث (حازم) قبل أن تهز رأسها يمنة ويسرة كمن ينفض الذكريات عنه وتعود لتسأل (طارق) باهتمام وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتراقب هدوء الشارع من خلف زجاج النافذة المغلق ـ"كيف كان يصدق حدسه؟"


ارتفع حاجباه في دهشة وهو يقترب منها قائلاً ـ"أظللت زوجته لعشر سنوات ولم تعرفي كيف كان يصدق حدسه؟ بشكل عام كانت لديه بعض وجهات النظر الخاصة به مثل أن الزواج عن طريق العقل أفضل من زواج الحب, وكنت أعارضه بالطبع, لكنه كان يقول بثقة’عندما تحب امرأة فإنك لا تراها على حقيقتها ولا تستطيع فهمها بالشكل الصحيح, أما لو أنك فهمتها أولاً فستقع في حبها فوراً‘. سألته بعد مولد(هيثم) عن رأيه في زواج العقل, أو تدرين ماذا قال؟ يومها منحني ابتسامة صافية من ابتساماته النادرة وقال بنفس الثقة التي تميزه ’أنا أسعد إنسان على وجه الأرض, وأحبها بكل ذرة في كياني‘."


التفتت إليه بدهشة وجملة (حازم) المشابهة تدوي في أذنيها وتنبهها إلى أنه قال ذلك لأخيه قبل حتى أن يعترف لها به. زادها ذلك الإكتشاف توتراً فقالت بصوت مبحوح ـ"أقال(حازم) هذا عني؟"


أجابها بثقة قائلاً ـ"أجل, وانظري إلي. لقد سرت خلف قلبي وظننت أنني أعرفها كنفسي وتغاضيت عن الكثير من عيوبها، ولكنني كنت مخطئاً واكتشفت أنني لم أفهمها أبداً ولم أحظ معها بالسعادة التي أردتها, بينما سعادتي معك ومع الأولاد لا يمكن وصفها."


همت بأن تقول له إنها _علي عكس شقيقه_ لم تكن سعيدة معه وإنه لم يشعرها بالحب الذي تكلم عنه إلا ليلة وفاته بعدما أقنعها أسلوبه الجاف بأنه لم يكن ليعترف حتى بوجوده. إلا أنها آثرت الصمت وعادت تلتقط ألبومها من فوق الفراش وتطالع صورها مع أبيها.

لاحظ(طارق) صمتها ونظرة عينيها التي تخفي الكثير، وشعر أنها لا تريد الإفصاح عما بداخلها فسألها ليغير هو الموضوع هذه المرة ـ"ولكن ما سبب تطلعك لهذه الصور الآن بالذات؟"


اختنق صوتها بالعبرات وهي تجلس على طرف الفراش قائلة ـ"لقد شعرت بحاجة شديدة إلى وجوده بجانبي, أردت أن أقفز في أحضانه وأن أشعر بيده تمسد شعري وأسمعه يغني لي هامساً ويسألني كم أحبه فأفتح ذراعاي عن آخرهما وأحيط عنقه بهما. رغم أنه استشهد منذ نحو ثلاثين عاماً مازلت أفتقده وأشعر بحاجتي إليه في أوقات عديدة." 


اقترب منها وأدار وجهها إليه ليمسح بأنامله عبرة خانتها وسالت على وجنتها هامساً في حنان دافق ـ"أنا إلى جوارك, أنا أبوك وأخوك وزوجك وابنك."


قالها وهو يحيط كتفيها بذراعه ويريح رأسها على كتفه وبيده الأخرى يمسد شعرها في رفق قبل أن يطبع قبلة دافئة على جبهتها، إلا أن (هالة) إبتعدت عنه في سرعة كالمصعوقة ووجهها مصبوغ بحمرة قانية قائلة بإرتباك ـ"أشكرك على مشاعرك الطيبة هذه."


رفع حاجبيه في دهشة قائلاً ـ"مشاعري الطيبة؟!(هالة) إننا زوجان."


رتبت شعرها بارتباك قائلة ـ"هل حاولت إعادة(سمر) إلى عصمتك كما وعدتني؟"


ضغط(طارق) أسنانه في غيظ قائلاًـ"ألا يهمك سوى إعادة(سمر) إلى عصمتي؟ أيريحك قولي إن أمها أخبرتني بأنها سعيدة بابتعادها عني وأنها ستتزوج من آخر؟"


هتفت في ذهول ـ"وهل صدقتها؟ إنها لا تستطيع الزواج قبل انتهاء عدتها أي قبل شهرين. من الواضح أنها تكذب."


أشاح بكفه قائلاً بضيق ـ" تكذب أو لا تكذب, فأمرها لم يعد يهمني بعد ما صدر منها. لقد كسرت شيئاً عميقاً بداخلي ولا أظن من الممكن إصلاحه".


ثم إلتفت إليها وقال بإبتسامة هادئة ـ" كما أنني سعيد هكذا, وأدركت أخيراً أن أبي كان على حق حين قال إنه اختار لي أفضل زوجة, ولن أستبدلك بأخرى مهما حدث."


قالت بتردد ـ"وماذا عن حبكما؟"


قال بثقة وهو يتأمل عينيها ـ"افهميني يا (هالة)..لقد أحببتها بقلبي ولم أكن موفقاً, وهي أدارت وجهها لهذا الحب. أدري أنها كانت مجروحة بعد نتيجة التحاليل، ورغم ذلك إحتويتها وحاولت أن أخفف عنها وطأة الصدمة. بل وسعيت إلى استرضائها أكثر من مرة وهي رفضتني. والأسوأ أنها أهانتني، وكرامتي لا تحتمل أن أعود لمن تجرأت على إهانتي. سأعتبرها تجربة بحلوها ومرها، ولكنني لن أعيدها معها ثانية. لقد طويت صفحتها منذ ذلك اليوم".


تهربت من نظراته وهي تقول بلعثمة ـ"و..ولكنكما تعملان في نفس المستشفى".


رفع وجهها إليه ليمعن النظر في عينيها ثانية وهو يقول بهدوء ـ"أنا أعمل مع مائة طبيب وممرض..لا أكاد ألتقي بربعهم. فعملي في غرفة العمليات، وهي في العيادات الخارجية، وبيننا ثلاثة أدوار. أعترف أننا كنا نتحين فرص اللقاء من قبل، ولكن بعد ما حدث صارت تتجنب تجاوز الدور الثاني".


تاهت في نظراته وشعرت بالصدق في عينيه وهو يتابع بابتسامة جذابة ـ" أما أنت يا (هالة)، فقد أحببتك بعقلي وكياني كله قبل قلبي, وأجمع ثلاثتهم على أنني لن أجد من هي أفضل منك لأهبها اسمي وحياتي إن أرادت."


ثم أضاف وهو يحتضن كفيها بين راحتيه هامساً ـ"هل تقبليني زوجاً يا (هالة)؟"


اتسعت عيناها في ذهول وهي لا تكاد تصدق أذنيها...

أهذا صحيح؟

أشعر بها أخيراً؟ 

أيبادلها الحب حقاً؟

هي وليس غيرها؟

وبكل دهشتها ولهفة قلبها قالت بارتباك ـ"(طارق) أنا..."


قاطعها وهو يلمس شفتيها بأطراف أنامله ويقترب منها أكثر قائلاً ـ"أريدك زوجة وحبيبة وصديقة. أريدك أن تكوني حياتي الجديدة التي أنسى معها أي ماضي. أريدك لي وحدي يا (هالة)".


اغرورقت عيناها بدموع غزيرة لم تستطع منعها فسالت على وجنتيها وهي تتأمله بكل الحب في أعماقها ولسانها عاجز عن النطق أمام صدق المشاعر الذي تراه في عينيه.

كانت ترى نفس النظرة التي رأتها لأول مرة وهو يحدثها عن (سمر)

نظرة حب صادقة.

طال صمتها وهي تتأمله من خلف دموعها، فإبتسم ومسح دموعها برقة وإقترب بوجهه منها حتى تعانقت أنفاسهما هامساً في خبث ـ"سأعتبر صمتك قبولاً لعرضي."


ثم أضاف بعد أن طبع قبلة دافئة على جبهتها ـ"هل لي أن أسألك مثل والدك عن مدى حبك لي؟"


وأجابته بكل صراحة.


**********************************



الدمعة الخامسة والسادسة 


25 - 


استند(طارق) بكتفه إلى باب غرفة(هند) ليتابع باهتمام حنون(هالة) وهو تهمس لابنتها بكلمات أغنيتها المفضلة ولم يبد عليها أنها تشعر بوجوده. فقد استغرقت في تمسيد شعر صغيرتها والغناء لها حتى استسلمت للنوم. حينها نهضت من جوارها على أطراف أصابعها لتخرج وأشارت لزوجها بالتزام الصمت كي لا يوقظ الطفلة.

وفي غرفتهما جلست(هالة) على الفراش في إرهاق قائلة بابتسامة هادئة ـ"تخيل أن(هند) تفضل غناء جدتها عن غنائي؟ إنها حتى لم تعتد بعد على غياب أمي."


إستلقى(طارق) إلى جوارها قائلاً بهدوء ـ"أنا أيضاً لم أعتد بعد على غيابها. أشعر بأن شيئاً ما ينقص المنزل.أعادها الله سالمة إلينا."


تنهدت في عمق وهي تسند رأسها على ظهر الفراش قائلة ـ"وماذا عني أنا؟ إنها صديقتي الوحيدة, لم أفارقها إلا يوم زواجي ولكنها كانت دوماً في بالي. أتدري أنها كانت تشعر بي عندما أمرض وأنا على بُعد آلاف الأميال؟ طيلة عمري وبيننا توارد خواطر قوي, أشعر بها وتشعر بي دون أن ينبس أحدنا بحرف. لا أدري كيف سأحتمل غيابها فترة الحج؟"


أحاط(طارق) كتفيها بذراعه وقربها منه قائلاً ـ"سيمر الوقت بسرعة, إنها لم تسافر إلا اليوم فقط؛ ومادامت مع صحبة آمنة فلا سبيل للقلق عليها. على العكس, يجب أن تسعدي لها لأن حجها هذا تكريم لها ولوالدك الشهيد."


ابتسمت ابتسامة جانبية دون اقتناع وقالت ـ"تكريم متأخر للغاية, ولكنها كانت واثقة من أنه سيأتي يوماً ما لذلك لم تأت معنا عندما ذهبت أنا و(حازم) رحمه الله للحج."


داعب شعرها المنسدل قائلاً ـ"لم يكن المولى قد أذن لها بعد, وعندما أراد سبحانه وتعالى يسر لها هذا التكريم, وبإذن الله ستستمتع في هذه الرحلة."


تنهدت في ضيق ولسان حالها يعكس إفتقادها لوالدتها فزاد من إحتضانه لها قائلاً بغيرة ـ"ثم ألا يكفيك حناني الدافق؟ يبدو أنني سألجأ إلى أساليبي الخاصة".


رفعت عينيها بتساؤل ليفاجأها بحركته المعتادة وهو يدغدغها ويستمتع بضحكتها الصافية وهي تتلوى بين ذراعيه إلى أن توقف عن دغدغتها وهو يقول مهدداً ـ"ها؟ يكفيك حناني أم لا؟"


دفنت وجهها في كتفه قائلة بدلال طفولي ـ"مازلت مصرّة أنني سأفتقدها بشدة. أدعو الله أن ينتهي الحج سريعاً كي تعود لي أمي بالسلامة."


ابتسم وهو يقبل رأسها ويعيدها إلى أحضانه قائلاً ـ"لقد تغلبت على(هند), لا أدري من منكما أدلل أكثر."


رفعت عينيها إليه قائلة بدلال ـ"من تحب أكثر."


تاه في غموض عينيها الجميلتين للحظات همس خلالها بصدق ـ"أحبك كروحي."


تنهدت في ارتياح عميق وغاصت في أحضانه هامسة ـ"وأنا أحبك أكثر."


خلل خصلات شعرها بأصابعه قبل أن يطبع قبلة حانية عليه قائلاً في ثقة ـ"أعلم, وأكدته لي أمي هذا الصباح قبل أن تسافر."


عقدت حاجبيها وهي تبتعد عنه في حيرة قائلة ـ"أمي أنا؟ ماذا قالت؟"


قال بابتسامة صافية ـ"قالت الكثير."


رجته في دلال قائلة ـ"أخبرني ماذا قالت؛ لو كنت حبيبتك حقاً أخبرني ماذا قالت."


أشار إلى وجنته فرفعت جذعها لتصل إليه وتطبع قبلة دافئة على خده القريب منها، لتجده يدير خده الثاني لها فقبلته ثانية وعادت ترتاح على الفراش إلى جواره لولا نظرته الماكرة التي جعلتها تضربه بقبضتها في كتفه قائلة بحنق ـ"لا تكن طماعاً..هيا قل مالديك، وإلا تركتك ونمت إلى جوار ابنتي".


ضحك منها ومن تهديدها الذي لا يتحمله فقال بسرعة من بين ضحكاته ـ"لا أرجوك..إلا هذا العقاب. سأخبرك".


ثم داعب وجنتها بأنامله وقال بهيام ـ"قالت لي إنك تحبينني منذ تشاجرنا أول مرة، وإن حبك لي هو الذي دفعك لمساعدتي في الزواج من(سمر)؛ وعندما أكدت لها أنني أحبك بكل ذرة في كياني طلبت مني أن أقسم لها على المصحف الشريف أن أصونك وأرعاك وأحميك بحياتي."


داعبت أزرار منامته قائلة بدلال ـ"وهل أقسمت؟"


اتسعت ابتسامته وهو يجيبهاـ"أتسألينني؟ رغم أنني مستعد بالفعل لأن أفديك بحياتي دون قسم, أقسمت كي أرضيها وأطمئنها أن ابنتها وأحفادها في أيد أمينة."


انكمشت في أحضانه ثانية وقالت بثقة ـ"أعلم هذا. ماذا قالت أيضاً؟"


أخذ نفساً عميقاً قبل أن يجيبها بلمحة تردد قائلاًـ"سألتني إن كنت أعرف شعور المرأة حين تحب مرة واحدة في حياتها رجلاً ليس لها ويتحول حلمها فجأة إلى حقيقة ويصبح زوجاً لها وحدها. والحقيقة أنني دُهشت لوصفها لك هكذا, إلا أنها فسرت لي ما عنته."


ابتعدت(هالة) عنه قليلاً وسألته بارتباك ـ"وماذا قالت؟"


نظر إليها بثبات قائلاً ـ"قالت أغرب شيء سمعته في حياتي. قالت إنك لم تحبي(حازم) ولم تكوني سعيدة معه وإنها شعرت بذلك دون أن تصرحي أنت به. ولكن كيف هذا و(حازم) كان يؤكد لي أنه سعيد معك وأنه يحبك. أمن الممكن أن يكون الزوج سعيداً والزوجة تعيسة؟"


نهضت مبتعدة واتجهت إلى الشرفة تنظر من خلف زجاجها إلى لا شيء قبل أن تتمتم بعصبية ـ"ما الذي جعلها تقول هذا؟"


نهض بدوره متجهاً إليها وأدارها إليه ليتأملها قائلاً ـ"أنا رجوتها أن تخبرني بكل ما هو غامض عني. إنك لم تخبريني سوى مقتطفات من حفل زفافك على(حازم) ولم تذكري غيرها؛ لم تعطني فكرة عن حياتكما معاً وأنا لم أطلب ذلك لعلمي المسبق بسعادته معك والتي تعني سعادتكما سوياً. لكن حين تخبرني بأنك لم تحبي سوى مرة واحدة, فماذا إذاً عن زوجك السابق؟ ولا تنسي أنه كان شقيقي الوحيد."


هتفت بصوت خنقته الدموع وهي تشيح بوجهها بعيداً ـ"أعلم هذا ولا أستطيع نسيانه, لكن للأسف شقيقك لم يكن الزوج الذي تمنيته. أسلوبه الصارم جعلني أجفل منه. لا أنكر أنني أحببته في بداية زواجنا _أو بالأحرى حاوت أن أحبه_لأنه كان يحاول امتصاص خوفي من الغربة. إلا أنه مع عودته للعمل ازداد ابتعاداً عني, وشعرت بأنني لا أفهمه ولا أتكيف مع عصبيته ولا أسلوبه الآمر الناهي كأني أحد العاملين معه. لم أتقبل الوضع ومع ذلك لم أشتك, لوصول(هيثم) ولإحساسي ببعض الهدوء في طباعه, إلا أنه كان سرعان ما يعود بسرعة البرق(حازم) بجبروته وسطوته, وأنا بطبعي لا أحب تلقي الأوامر."


ثم تابعت ودموعها تنهمر على وجهها دون توقف ـ"لقد كان (حازم) رحمه الله يعتبر المشاعر نوعاً من الضعف، لذا كان يعوضها بأشياء أخرى. كان كريماً معي ومع الأولاد في كل شيء..ماعدا المشاعر. (حازم) لم يعترف يوماً بأنه يحبني إلا ليلة وفاته، وحتى يومها لم يقلها صريحة. ربما كنت الزوجة المثالية بالنسبة له. الزوجة التي تهتم به وتلبي جميع طلباته وتحافظ له على هدوء وجمال المنزل، وفي الوقت نفسه تحفظه في غيابه. هذه مميزات الزوجة التي كان يتمناها (حازم) ووجدها في شخصيتي. أما مميزات الزوج الذي كنت أتمناه فلم يوجد منها في (حازم) سوى التدين والذكاء والوسامة والأصل الطيب".


حاولت مسح دموعها المنهمرة التي أفسدت كحل عينيها الجميلتين، ولكن مجرد ذكرى زواجها ب(حازم) كانت تدفع الدموع سريعة عبر مقلتيها وهي تضيف ـ"أكثر ما كنت أريده في زوجي هو الحنان. لقد نشأت يتيمة وكنت بحاجة إلى زوج يحتويني ويعوضني حنان الأب، ولهذا وافقت على الزواج بعد تخرجي مباشرة على أمل أن أجد ضالتي عند زوجي. ولكن (حازم) للأسف لم يكن ليعترف بالحنان. كان يعتقد أن حنان الرجل هو أقصر الطرق لسيطرة زوجته عليه. ولا تسألني كيف وافقت على (حازم) من البداية لأنه كان قدري, قسمة ونصيب."


تنهد في عمق قائلاً ـ"نفس الكلمة التي قالتها أمي ’قسمة ونصيب‘."


ثم أدار وجهها إليه برفق وهو يتابع بحنان ـ"حبيبتي أنا لا أعاتبك ولا أريد نبش الماضي, ولكن حديث أمي ترك العديد من علامات الإستفهام في عقلي".


وأضاف مبتسماً وهو يمسح دموعها بأنامله ويزيل آثار الكحل السائل قائلاً ـ"ولكن لا أنكر أن كوني حبيبك الأول أرضى غروري كرجل".


ثم قبل جبهتها في حنان وهو يقول ـ" أعدك ألا أعيد فتح هذا الموضوع ثانية, اتفقنا؟"


قالها بصدق قبل أن يضمها إليه بقوة وحنان ويدفن وجهه في شعرها للحظات قصيرة كان من الممكن أن تطول لو لم تبتعد(هالة) عنه في حركة عنيفة ويدها على فمها وعلى وجهها ارتسم تعبير امتعاض أقلقه, خاصة حينما تركت الغرفة في سرعة متجهة إلى الحمام وتناهى إلى مسامعه صوتها وهي تفرغ معدتها رغماً عنها.

وعندما عادت إلى الغرفة بعد دقائق أدهشها التعبير المرتسم على وجه زوجها.

فقد كان جالساً على طرف الفراش يهز ساقه في عصبية والقلق_ وربما الضيق_ بادي على وجهه, ولم يكد يرها حتى سألها في لهجة بدت حادة إلى حد ما ـ"هل تسمحين بتفسير ما يحدث لك حينما أقترب منك؟ هل أصيبك بالاشمئزاز أم أنك لا تطيقينني؟"


ارتفع حاجباها في دهشة بالغة وهي تقترب منه هاتفة باستنكارـ"أنا؟ أنسيت أننا منذ دقائق كنا نتبارى من منا يحب الآخر أكثر؟"


سألها في حيرة ـ"إذاً ما السبب؟ إنك لم تكوني هكذا من قبل, هذا الأمر جديد عليك."


جلست إلى جواره وربتت على كتفه قائلة بتردد ـ"أنت لست السبب بشكل مباشر ولكنه...إنه عطرك يا حبيبي."


عقد حاجبيه وهو يتشمم ملابسه قائلاً ـ"عطري؟ أي عطر هذا؟ أنا لا أشمه, كما أنني لم أغير نوع العطر الذي أستخدمه."


ابتسمت وخفضت وجهها وصوتها وهي تقول بخجل ـ"أنت لا تشمه لأنك اعتدت عليه, ولا أنكر أن رائحته طيبة لكنها بدأت تثيرني وتجعلني أفرغ معدتي أكثر من مرة في اليوم بمجرد اقترابك مني؛ أنا آسفة."


إلتفت إليها وربت على وجنتها قائلاً بحنان ـ"لابد وأن هناك سبباً ما. يجب أن تستشيري طبيباً متخصصاً في الجهاز الهضمي لأنني قلق عليك للغاية."


استكانت للمسة كفه وأسبلت جفنيها للحظات قبل أن تفتحهما قائلة ـ"لا داعي لقلقك يا حبيبي, موضوع استثارة الروائح النفاذة لمعدتي أمر قديم ويتكرر كل فترة."


عقد حاجبيه وبدا القلق في صوته وهو يسألها في اهتمام قائلاً ـ"يتكرر بأي معدل؟"


ابتسمت في خبث قائلة ـ"ليس معدل متقارب, فقد حدث لي أربع مرات خلال اثني عشر عاماً, وسبب عدم قلقي هو أنه يزول تلقائياً بعد تسعة أشهر."


اتسعت عيناه في دهشة وهو يهتف بانفعال ـ"تسعة أشهر؟تسعة بالضبط؟إذاً فأنت حامل!! يا إلهي..."


قاطعته بلكزة في جانبه قائلة ـ"يا لك من طبيب غير متمرس.ألم تفهم إلا الآن؟ ظننتك أنت ستسألني متى يأتي ولي العهد, مثلما فعل والدك."


أحاط وجهها بكفيه قائلاً ـ"لم أسألك لأنني تزوجتك فعلياً من أجلك أنت وليس من أجل الإنجاب. ولكن ذلك لا يمنعني من سؤالك متى سنحتفل بقدومه؟"


هزت كتفيها قائلة ـ"لا أدري متى بالضبط لأنني لم أستشر طبيباً مختصاً بعد؛ إلا أنه من المحتمل أن ألد بعد سبعة أشهر ونصف من الآن."


هب واقفاً يهتف في جذل وهو يتحرك في الغرفة كالمجنون ـ"يا إلهي...سأصبح أباً حقاً. لا أدري ماذا أفعل؛ أريد أن أرقص, أريد أن أغني, أريد أن أخبر العالم كله أن زوجتي وحبيبتي حامل, أن أخبر أبنائي أن أخاهم قادم في الطريق. يا إلهي...سأجن من السعادة."


انفجرت(هالة) ضاحكة وهي تراه حائراً في التعبير عن سعادته بحملها, ثم ما لبثت أن نهضت متجهة إليه إلا أنه هتف بها ويداه ممدودتان عن آخرهما قائلاً ـ"إلى أين؟ إنك لن تتحركي أو تقومي بأي مجهود طوال فترة الحمل. ستأخذين أجازة من العمل حتى تلدي, ومن الأفضل أن تكون أجازة مفتوحة. ممنوع الإرهاق أو الانفعال. سنذهب سوياً لأفضل الأطباء وستخضعين لنظام غذائي صحي يضمن عدم زيادة وزنك عن الوزن المطلوب و..."


قاطعته قائلة من بين ضحكاتهاـ"على رسلك يا حبيبي.أنا لا أشعر بأي شيء غير طبيعي, ولا تنس أنها رابع مرة أحمل فيها."


تابع وكأنه لم يسمعها قائلاً ـ"وأهم شيء ألا تنظري في وجهي كثيراً وإلا أتى المولود شبيهاً بي."


قبلت وجنته في حب قائلة ـ"وهذا ما أريده, أن يكون نسخة عنك في الشكل والطباع, أن يكون له عيناك ولونهما الدافيء وابتسامتك الهادئة وبساطتك التي أعشقك من أجلها."


تأمل ملامحها في دهشة_وكأنه يراها لأول مرة_ ورأى الصدق في عينيها يثبت مدى حبها له ووجد نفسه يهمس تلقائياً قائلاً ـ"يا إلهي...إنك تحبينني بحق."


لاحت نظرة عتاب سريعة في عينيها السوداوين وهمست ـ"وهل شككت في هذا؟"


هز رأسه نفياً ومال يطبع قبلة حانية على جبينها هامساً بصدق ـ"ولا َتشُكي ولو للحظة واحدة في حبي لك."


رفعت عينيها إلى عينيه في لحظة هادئة قطعها(طارق) حين هتف فجأة ـ"لقد نسيت, يجب أن أغتسل فوراً."


عقدت(هالة) حاجبيها وهي تتابعه بعينيها يلتقط منشفته فهتفت به ـ"ماذا بك؟ ولماذا الآن بالذات؟"


تناول زجاجة عطره قائلاً بابتسامة جذابة ـ"ما دام عطري يثير معدتك فلا بد أن أزيل آثاره من جسمي وملابسي."


وفي حركة سريعة قَبَّل الزجاجة قبل أن يقذفها في سلة المهملات ويتجه للحمام تاركاً(هالة) مستغرقة في الضحك.


************************************


تكملة الرواية من هناااااااا

تعليقات

التنقل السريع