القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية دمعات قلب الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)

 



رواية دمعات قلب الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)






رواية دمعات قلب الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرون بقلم رباب فؤاد( حصريه وجديده وكامله على مدونة قصر الروايات)



الدمعة السادسة عشر


16 -


فتح (طارق) باب المبرد في ضجر بحثاً عن طعام الغذاء، لكنه لم يجد سوى قارورة مياه نصف ممتلئة وبعض الأطباق الصغيرة التي تحوي جبناً وزيتوناً، وزجاجة حليب شارفت على الإنتهاء، فمط شفتيه وأخرج غضبه في باب المبرد الذي دفعه بعنف هز المبرد بقوة. ثم التفت إلى الموقد الذي لم يجد فوقه أي أواني طهي، ففتح باب الفرن عله يحوي طعام الغذاء الذي طهته زوجته المصون. ولكن بحثه باء بالفشل للمرة الثانية فزفر في قوة وهو يهتف بغيظ من بين أسنانه ـ"حسبي الله ونعم الوكيل...أين ذهبت هذه المجنونة دون أن تطبخ طعام الغذاء"؟


قالها وهو يضغط أزرار هاتفه الجوال ليطلب (سمر) للمرة العاشرة منذ عودته من المستشفى ليسمع نفس الرسالة التي زادت من عصبيته "الهاتف الذي طلبته غير متاح حالياً، من فضلك حاول الاتصال في وقت لاحقThe mobile you…"


لم يمنح السيدة الإلكترونية الفرصة لإتمام رسالتها باللغة الإنجليزية لأنه أنهى المكالمة والشرر يتطاير من عينيه، قبل أن يلقي الهاتف بعيداُ ليسقط على أريكة الأنتريه.


ظل يدور قليلاً في أرجاء الشقة ثم ما لبث أن جلس متحفزاً على مقعد الأنتريه المواجه لباب الشقة في إنتظار عودة زوجته.


وبعد ساعة أخرى من الانتظار_ مرت عليه كالدهر_ سمع صوت المفتاح يدور في الباب، فرفع عينيه في بطء ليرى زوجته تدخل في هدوء ولا يبدو عليها أي انزعاج من التأخير، وابتدرته بقولها ـ"حبيبي...متى عدت"؟


أجابها من بين أسنانه قائلاً ـ"منذ ساعتين...أين كنت؟ لقد طلبتك عند والدتك وأخبرتني أنها لم ترك منذ يومين".


قالت بلامبالاة وكأنها لم تسمعه ـ"عظيم...هل أعددت لنا الغذاء؟ إنني أتضور جوعاً".


إتسعت عيناه وعاد الشرر يتطاير منهما وهو يهتف بها ـ"ماذا؟ أنا الذي أعد الغذاء؟ وأين كنت منذ الظهيرة؟ لماذا لم تعديه مسبقاً مثل باقي الزوجات العاملات"؟


اقتربت وهي تجيبه ببرود أغاظه ـ"ألم نتفق من قبل على تقسيم المهام المنزلية بيننا؟ وما دمت أتيت قبلي فلماذا لم تجهز كيساً من المكرونة وتخرج أي كيس لحم أو دجاج من المجمد"؟


استشاط غضباً وهو يهتف دون وعي ـ"هل تمزحين؟ جراح لم ينم طول الليل بسبب جراحة معقدة وظل في المستشفى حتى الثانية ظهراً دون راحة وعاد إلى منزله يتوق إلى وجبة ساخنة وفراش وثير لكنه لم يجد زوجته ولا أي شيء يؤكل في المنزل، وفي النهاية تسأليني لماذا لم أجهز مكرونة"؟


فتحت فمها لتجيبه لكنه لم يمنحها الفرصة وهو يهتف ثانية ـ"وأين كنت طيلة هذه المدة منذ خروجك من المستشفى؟ ولماذا أغلقت هاتفك الجوال"؟


شعرت بمدى غضبه وحاولت تلطيف الأمر وهي تقترب قائلة بابتسامة مدروسة ـ"لقد انتهى شحن الجوال فجأة، وظننت انك اليوم ستذهب إلى (هالة)، فتأخرت بعد المستشفى".


ضرب كفيه بدهشة قائلاً ـ"سبحان الله. اسم (هالة) أصبح يجري على لسانك دون سخط. راجعي أيام الأسبوع يا دكتورة وسترين أن اليوم عندك أنت".


ثم عاد يسألها وهو يضيق عينيه ـ"لم تجيبي..أين تأخرت"؟


أجابته بتردد ـ"ك..كنت في الجيم".


اقترب منها وقال دون استيعاب ـ"أعيديها على مسامعي ثانية...يبدو أن السمع خانني و..".


قاطعته وهي تقول في سرعة ـ"كنت في الجيم يا (طارق)...صالة الأيروبيكس".


إتسعت عيناه في دهشة حقيقية وهو يتفحص جسمها بعينيه قائلاً ـ"أيروبيكس هكذا فجأة؟ ودون استشارتي"؟


هزت كتفيها قائلة ـ"إنها المرة الأولى اليوم..أردت أن أجرب قبل أن أقرر الإشتراك في هذا النادي الصحي".


عقد ذراعيه أمام صدره وهو يسألها بتهكم ـ"وهل راقك النادي الصحي"؟


لمعت عيناها وهي تجيبه في حماس قائلة ـ"إلى ابعد مدى...المدربة نشيطة للغاية والأجهزة الرياضية حديثة والجا..."


قاطعها قائلاً ببرود ـ"وماذا عن طفلك"؟


أجفلت للحظة وتراجعت برأسها إلى الخلف قبل أن تسأله بصوت مبحوح ـ"أي طفل"؟


أجابها بنفس البرود وهو يقترب من وجهها حتى التحمت أنفاسهماـ"طفلنا...ألم يحن وقته بعد"؟


ارتبكت من سؤاله ونظراته وهي تقول ـ"كل شيء بأوان. فلماذا العجلة"؟


تأملها قليلاً قبل أن يقول بغيظ ـ"عجلة؟ بعد ستة أشهر زواج وتسمينها عجلة؟ ثم أنى للطفل أن يأتي وأمه تمارس الأيروبيكس في النادي الصحي؟ بل قولي أنى له أن يأتي وأمه لا تهتم بأبيه"؟


إتسعت عيناها وهمت بالدفاع عن نفسها لكنه لم يمنحها الفرصة وهو يهتف بها ـ"طلبت مني المساعدة في شؤون المنزل ووافقت، أهملت المطبخ وصرنا نأكل من المطاعم كالعزاب وصمتت، تراكمت ملابسي المتسخة وغسلتها بنفسي ولم أعترض...كل هذا وأنت ماذا تفعلين؟ بالله عليك أخبريني ما الذي تفعلينه في هذا البيت سوى النوم ومشاهدة التلفاز...حتى لا أراك تفتحين مرجعاً لرسالة الماجستير. أخبريني بشيء واحد يبرر انشغالك عن بيتك وزوجك أو يبرر ذهابك إلى الجيم بدلاً من الاهتمام بي".


اختنق صوتها بالعبرات وهي تقول بصوت أجش ـ"أنا...".


قاطعها بنفس الغضب قائلاً ـ"أنت ماذا؟ ماذا ينقصك عن (هالة)؟ تعمل مثلك، بل وأكثر منك في المدرسة ومع الأولاد، ورغم ذلك فبيتها مرتب طوال الوقت، ولم تتأخر يوماً عن موعد الغذاء، ولم أبحث عن ملابسي يوماً أو أطلب منها كي قميص أو خياطة زر...كل شيء مرتب وكأنني شغلها الشاغل. حتى مع أولادها...لا ينقصهم شيء وكأنهم كل عالمها. أما زوجتي التي حاربت من أجلها فتهملني، بل ولا تأبه حتى بإنجاب طفل لي يشغل فراغها".


لم تستطع تحمل كلماته الجارحة أكثر من ذلك فهتفت به بألم ـ"كفى..كفى. كل شيء (هالة) (هالة). لماذا لا تقدر مشاعري؟ لماذا تصر على أن تشعرني بالعجز مقارنة بها؟ قلت لك ألف مرة أنا غيرها، ولا تقارنني بها. وما ينطبق عليها لا ينطبق علي، وأنت وافقت على ذلك منذ البداية. فلماذا التجريح"؟


وبأصابع مرتجفة مسحت دمعة خانتها وسالت على وجهها الملتهب من الغضب وإستدارت بعيداً عنه وهي تقول ـ"من فضلك يا (طارق)...اتركني وحدي الآن كيلا نجرح بعضنا أكثر من ذلك".


لم ير دموعها، لذا لم يشعر بأي تعاطف نحوها وهو يتجه نحو غرفتهما في صمت ليلتقط سترته الصوفية وسلسلة مفاتيحه في سرعة ويتجه إلى باب الشقة قائلاً ـ"هذا أفضل".


وصفق الباب خلفه في عنف تاركاً إياها غارقة في دموع لم ترده أن يراها.


************************************


الدمعة السابعة والثامن عشر


17 -


جلس الطفلان حول جدهما يستمعان إلى حكاياته عن والدهما الراحل وعن عمهما(طارق) حينما كانا صغاراً والضحكات تتعالى مع كل موقف طريف يحكيه الجد الذي سألهما فجأة في دهاء ـ"أين عمكما(طارق) اليوم؟ لم أره منذ حضوري."


انبرى الصغير(هاني)يقول في طلاقةـ"بابا(طارق) في المستشفى, إنه يبيت فيها ثلاثة أيام وهنا أربعة أيام وقبل أن ننام نلقي عليه تحية المساء على هاتفه المحمول."


رفع الجد عينيه إلى زوجة ابنه وأمها الجالستين أمامه وهو يقول بتهكم ـ"هكذا؟! لقد ظننا أن المدير الجديد سيعطينا ما نريد مادام لا عذر له ولكن بعد ستة أشهر!! لابد وان هناك سراً ما."


أدركت(هالة)ما يرمي إليه حماها فأشارت بحزم إلى ابنيها قائلة ـ"(هيثم), (هاني), لم تنتهيا من واجباتكما المدرسية بعد. اذهبا وأنهياها قبل العشاء."


نهض الطفلان في تذمر قبل أن يقول(هيثم) لجده بتوسل ـ"عدني بألا تنصرف يا جدي قبل أن أنهي واجباتي المدرسية. لم يتبق الكثير منها على أي حال."


قبل جده وجنته قائلاً بحنان ـ"أعدك يا حبيبي."


حينها انصرف كلاهما إلى غرفته في سرعة, والتفتت(هالة) إلى حميها قائلة ـ"الأولاد لا يعلمون بموضوع زواج(طارق), ولا يجب أن نتحدث عنه أمامهما."


قال الرجل في ضيق ـ"لقد كانت حجته معك هي أنك أخت له, وعندما قال أنه يحب(سمر) هذه وأصرّ كلاكما على هذه الزيجة وافقت على أمل رؤية أبنائه, لكنهما حتى الآن لم يعلنا عن قرب قدوم وليّ العهد المنتظر."


تبادلت(هالة)نظرة سريعة حائرة مع أمها قبل أن تقول ـ"دعهما يستمتعان بحياتهما سوياً قبل أن يدخلا دوامة إنجاب الأطفال, كما أن(طارق) يعد الترتيبات النهائية لمناقشة رسالة الدكتوراه و(سمر) على وشك مناقشة الماجستير, بعدها لن يكون لديهما أية أعذار لتأجيل الإنجاب."


هتف في غيظ واضح ـ"من يقول أن الماجستير والدكتوراه أهم من إنجاب الأطفال؟"


قالت(هالة) بدبلوماسية ـ"يا عماه, ’ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‘, كما أنه ليس من العدل أن يضيع كلاهما مستقبله من أجل إنجاب طفل, وفي النهاية هذه حياتهما الخاصة ولا دخل لنا فيها."


ورغم منطقية حديثها لم يقتنع حموها الذي جلس قليلاً حتى موعد العشاء كما وعد حفيديه، ثم غادر المنزل قبل أن يصل(طارق) الذي تأخر حتى بعد منتصف الليل. 


ولدهشة(هالة) فقد سألها(طارق) في عصبية عن سبب زيارة والده, فقالت في حيرة ـ"(طارق)! إنه بيت ابنه وله مطلق الحرية في زيارته في أي وقت شاء, ولا أرى سبباً لعصبيتك تلك."


ألقى بسترته الصوفية بعيداً في ضيق وجلس على حافة الفراش واضعاً وجهه بين كفيه في صمت, فاقتربت(هالة) منه في هدوء وربتت على كتفه في حنان قائلة ـ"ماذا بك يا(طارق)؟ لقد ازدادت عصبيتك في الآونة الأخيرة, إنك لم تعد حتى تجلس مع الأولاد كعادتك."


زفر في ضيق وخلل شعره بأصابعه قائلاً بتوتر ـ"لا شيء, إنها بعض المشاكل بالمستشفى."


جلست إلى جواره وهي تقول بتعاطف ـ"أنا لم أعرفك بالأمس فقط, بإمكاني معرفة ما بداخلك من نظرة عينيك ونبرة صوتك. أخبرني بما يضايقك كما اعتدت دوماً. ألسنا صديقين؟"


حوّل بصره إلى عكس اتجاه جلوسها قائلاً ـ"صدقيني, إنها مشاكل خاصة بالعمل."


أدارت وجهه إليها قائلة بابتسامة حنون ـ"ولماذا تدير وجهك؟ كي لا أعرف الحقيقة من عينيك؟"


خفض عينيه في سرعة حينما التقتا عيني(هالة) التي التقطت نفساً عميقاً قبل أن تقول بهدوء ـ"(طارق), أصدقني القول, هل سأمت(سمر) وضعنا الحالي؟ لأنها لو فعلت فلن ألومها فـ..."


قاطعها(طارق) وهو يرفع كفه قائلاً في سرعة ـ"كلا, أقسم لك أنها لم تفعل, إنها تتفهم الوضع تماماً."


تناولت كفه بين راحتيها قائلة في حيرة ـ"إذاً ما الأمر؟ لماذا تبدو حائراً هكذا؟ أخرج ما بداخلك كي ترتاح."


زفر في قوة قائلاً بضيق ـ"اُخرج ماذا أو ماذا؟ إن بداخلي أطناناً من الهموم, فعن أي هم تريدين التحدث؟"


عقدت حاجبيها قائلة ـ"أطناناً من الهموم؟ وتحملها وحدك؟ وما أهميتي إذاً إن لم أقف بجانبك حتى تتخلص منها؟ على الأقل أخبرني بما تريد قوله ويكفي لإراحتك في الوقت الحالي."


تنهد في عمق قبل أن يحسم أمره قائلاً بحنق ـ"إنه أبي, مازال يواصل التدخل في حياتي حتى أحالها جحيماً."


سألته على استحياء ـ"أتعني بشأن الإنجاب؟"


التفت إليها في سرعة قائلاً ـ"كيف عرفت؟"


ازدردت لعابها وأشارت بطرف عينها إلى الخارج قائلة ـ"لقد أشار إلى هذا الموضوع ضمن حديثه."


سألها في حدة ـ"وماذا قال؟"


هزت كتفيها قائلة ـ"لا شيء محدد, لقد أشار فقط إلى رغبته في رؤية أبنائك. هذا كل ما قاله."


سألها ثانية ـ"وماذا قلت له؟"


أشاحت بكفها قائلة ـ" قلت أن هذه حياتكما وليس لنا دخل فيها, وأنكما مشغولان بالانتهاء من تحضير رسائلكما العلمية."


ضحك بسخرية قائلاً ـ"رسائلنا العلمية؟ أراهنك على أنني لن أنهي الدكتوراه قبل تخرج(هند) من الجامعة."


شهقت في لوعة قائلة باستنكارـ"لماذا تتحدث هكذا؟ لم أرك يائساً من قبل. هل ضايقتك أنا أو الأولاد في أي شيء؟"


هز رأسه نفياً وهو يجيبها في سرعة ـ"كلا بالطبع, فأنت والأولاد أجمل ما في حياتي. وعلى عكس ما يتوقع البعض, أنا أشعر بالراحة هنا معكم أكثر من بيتي مع(سمر). تخيلي أنها تثور لأتفه الأسباب، بل وتثير أعصابي معها؟"


قالت بهدوء ـ"لابد وأن لديها عذراً لذلك."


قال بتهكم ـ"عذر؟ أي عذر هذا الذي يجعلها تهمل بيتها وزوجها؟ أنا لا آكل طعاماً منزلياً إلا هنا لأنها تعود من المستشفى مرهقة ولا تقوى على الوقوف أمام الموقد. لا أنكر أنها طهت لي أكثر من مرة, لكن تقريباً مرة كل شهر."


ثم تابع بضيق ـ"ناهيك عن الاهتمام بالمنزل أو حتى بملابسي, فالملابس إما متسخة أو بحاجة إلى كيّ, وهي مشغولة بشيء لا أعرفه. وعندما واجهتها قائلاً أنك أنت الأخرى تعملين ومسئولة عن ثلاثة أطفال ومع ذلك لا تهملين بيتك, ثارت وغضبت."


شعرت(هالة) بحرج بالغ وهي تقول ـ"المرأة بطبعها لا تحب مقارنتها بأخرى أياً كانت. ولا تنس أنها تقيم وحدها بينما أمي معي تساعدني."


أشاح بيده قائلاً ـ"هذا ما حدث, تركت لها الشقة وظللت أدور بسيارتي حتى شعرت بتثاقل أجفاني من الإرهاق، فأتيت إلى هنا."


عقدت حاجبيها قائلة باستنكارـ"أتعني أنكما تشاجرتما اليوم؟ هيا قم حادثها في الهاتف واعتذر لها."


التفت إليها باستنكار أشد قائلاً ـ"أعتذر لها؟"


قالت بابتسامة عريضة ولهجة آمرة ـ"نعم تعتذر لها ولا تتركها تنم وهي حزينة. هل نسيت كم ضحّت من أجلك وأجلي؟ هيا هاتفها ولن أقبل أي حجج بالرفض."


قال بتخاذل ـ"لقد تركتني دون طعام، بل وأطارت النوم من عيني وأنا لم أنم منذ يومين، و...".


قاطعته ملوحة بسبابتها في تهديد قائلة ـ"هاتفها ريثما أعد لك ما تأكله...هيا وإلا تركتك أنا الأخرى دون طعام، وأنا أدري جيداً أنك لن تنم على معدة خاوية"


ولم تتركه إلى المطبخ قبل أن تسمع ضحكته الصافية تنتقل عبر أسلاك الهاتف إلى أذني(سمر).


**********************************


الدمعة الثامنة عشر


18- 


جلست(سمر) بتململ إلى جوار زوجها الذي ركز انتباهه في قيادة السيارة وسط ازدحام المرور الذي يميز القاهرة خاصة في وقت الذروة. وعندما طال وقوفهما في إحدى إشارات المرور المزدحمة زفرت في تأفف وفتحت حقيبتها تلتقط طلاء شفاه لامع ثم أدارت مرآة السيارة إليها لتعيد طلاء شفتيها الرقيقتين بلون وردي جميل قبل أن تمط شفتيها في ملل وهي تعدل من تسريحة شعرها الجديدة بعد أن صبغته إلى اللون الذهبي وقصته حتى كتفيها قائلة ـ"ألن تفتح هذه الإشارة اليوم؟ إننا هنا منذ ربع الساعة."


مد(طارق) يده ليعدّل وضع المرآة قائلاً برصانته المعهودة ـ"منذ أربع دقائق فقط يا زوجتي العزيزة."


التفتت إليه عاقدة حاجبيها في صمت ثم ما لبثت أن عقدت ساعديها أمام صدرها وعادت ببصرها إلى الطريق قائلة ـ"إنها مدة طويلة على أي حال."


هز(طارق) رأسه دون أن ينبس بشيء وواصل قيادته الهادئة حتى خرج من الزحام إلى طريق واسع أتاح له الحديث في حرية فقال بلهجة تحمل بعض الضيق ـ"ألم نتفق على تخفيف مساحيق الزينة؟"


إلتفتت إليه في دهشة قائلة ـ"هل أنت جاد؟ فجأة أصبحت مساحيق الزينة سيئة؟"


ضغط بوق السيارة محذراً لشخص كان يهم بعبور الطريق، ثم أجابها وعيناه على الطريق ـ"وهل مزحت بشأنه يوماً؟ لقد طلبت منك أكثر من مرة أن تخففي مساحيق الزينة خارج المنزل، وقلت لك إنني أحبك طبيعية دون زينة على الإطلاق".


جادلته بعناد قائلة ـ"وقلت لك إنك أحببتني وأنا أضع هذه المساحيق، وإنني أضعها حتى أظل جميلة في عينيك".


إلتقط كفها يقبله قائلاً بدبلوماسية ـ"أنت جميلة دوماً في عيني...ولا أريد لغيري أن يتمتع بهذا الجمال. أيرضيك أن يتمتع غيري بالنظر إليك؟"


داعبت كفه بدلال قائلة ـ"أيرضيك أن يُقال إن زوجة الدكتور (طارق) غير أنيقة أو غير جميلة؟"


أدار مقود السيارة إلى أقصى اليمين قبل أن يقف أمام منزلهما ويلتفت إليها قائلاً بهدوء ـ"ومن قال إن الجمال في مساحيق التجميل؟ ومن قال إنني أريد للآخرين أن يروا جمالك؟"


مطت شفتيها بشكل طفولي وأشاحت بوجهها بعيداً وهي تقول ـ"لم يبق إلا أن تطالبني بإرتداء النقاب".


أدار وجهها إليه وقال بابتسامة عذبة ـ"ليتك توافقين".


إتسعت عيناها في ذعر وعادت تشيح بوجهها بعيداً وتفتح باب السيارة وتنزل في سرعة متجهة إلى بوابة المنزل، فتبعها وهو يضحك من رد فعلها على قوله.


صعد إلى شقتهما ليجدها تجلس على الأريكة المواجهة للباب واضعة ساق فوق ساق وتهزهما بعصبية.

اقترب منها مبتسماً وقال ـ"ما سر هذه العصبية يا حبيبتي؟ كل هذا لأنني طالبتك بتخفيف مساحيق الزينة؟"


التفتت إليه بحدة قائلة ـ"بل لأنك تريدني أن أختفي خلف النقاب".


ضحك وأمسك خديها يمطهما كالأطفال قائلاً ـ"أنا لم أقل ذلك..أنت اقترحت وأنا وافقت على اقتراحك".


أزاحت يديه عن وجهها وقالت بضيق طفولي ـ"قلت ياليت...إذاً تفكر في ذلك".


داعب بأنامله آثار أصابعه على بشرتها البيضاء وهو يهمس ـ"حبيبتي كنت أداعبك...وعموماً لن أطلب منك سوى ارتداء الحجاب وعدم إستخدام مساحيق الزينة خارج المنزل".


عادت تلتفت إليه وعيناها تحملان غضباً لم يره من قبل وهي تهتف ـ"(طارق) من فضلك لا تجبرني على أمر لا أريده، ولا تحاول أن تجعلني مثل (هالة)".


رفع حاجبيه في دهشة حقيقية من انفعالها الغريب قبل أن ينهض قائلاً بحنق ـ"الأمر لا علاقة له ب (هالة) لأنه ليس طلبي أنا...إنه تكليف سماوي لك..وإذا كنت ترفضين فرض الله فأنت حرة وستحاسبين عليه وحدك".


قالها وإتجه إلى غرفته في ضيق واضح ورمى سترته على أحد المقاعد قبل أن يتمدد على طرف الفراش ويسند رأسه على كفيه المعقودين...


يحبها نعم...وعرفها سافرة ومتبرجة

لكنه يريد ألا يشاركه أحد النظر إليها

لم ينس بعد منظرها صبيحة يوم زفافهما وهي ترتدي قميص النوم الأحمر، وكيف ثارت الدماء في عروقه حينما رآها كذلك وشعر بأعين الغرباء تأكلها دون حياء

وفي كل مرة يراها في العمل ويشم عطرها عن بعد ويلمح إعجاب المرضى بجمالها وأناقتها ويسمع حديثهم عنها يشعر بنيران الغيرة تحرق صدره

أو ربما هي نيران النخوة

أياً كانت دوافعه...فهو لا يريد لزوجته أن تصبح مشاعاً هكذا

ولا يريد أن يُحاسب أمام الله على ما تفعله

لماذا لا تفعل مثل (هالة)؟

لماذا لا ترتدي الحجاب مثلها وتحتفظ بأناقتها أيضاً؟

(هالة)؟؟؟

مثال الزوجة الأنيقة المحتشمة

بل مثال المرأة المسلمة

يالحظ (حازم) بها

وليت.....


قطع تأملاته صوت (سمر) التي تقدمت منه بهدوء وجلست على طرف الفراش إلى جواره قبل أن تهمس بأسف وهي تلمس ذراعه ـ"آسفة على انفعالي يا حبيبي...لم أقصد أن أرفع صوتي".


منحها نظرة خاوية وكأنه لا يراها، فاستدركت قائلة بحرج ـ"لقد شعرت للحظة أن شكلي الجديد لا يروقك، رغم أنني عدلته خصيصاً من أجلك".


تأمل للحظات شعرها الذهبي المصبوغ وتسريحته الجديدة والعدسات الخضراء التي تغطي لون عينيها الطبيعي..


كانت أكثر جمالاً ولا ينكر ذلك

ولكنها ليست طبيعية

وهو يحبها طبيعية


يحبها حينما تستيقظ من نومها وتفرك عينيها كالأطفال قبل أن تفتحهما

يحبها وشعرها مبعثر بلا نظام حول وجهها البريء

ولكن أين هي الآن من تلك البراءة؟؟؟


تأملها للحظات ثانية قبل أن يقول بهدوء ـ"ها أنت ذا قلتها...عدلته من أجلي...ولكن الآخرين يرونك أيضاً..فما الفائدة إذاً؟ أنا لا أستطيع أن أمنع مرضاك أو زملاءنا من النظر إليك."


ضحكت بدلال قائلة ـ"حبيبي أنا طبيبة عيون...وأغلب مرضاي يرتدون النظارات الطبية..لا تخف. لن يغازلونني".


قال بحنق ـ"بعضهم يأتي خصيصاً ليرى الطبيبة الفاتنة، وأنا لا أحب ذلك".


مطت شفتيها كالأطفال وهي تقول بتبرم ـ"قل إنك لا تحب النيو لوك".


ضحك بخفوت على ملامحها وتبرمها واقترب منها قائلاً ـ"نيو لوك؟ أشعر أنني مع نجمة سينما".


أشاحت بكفها في ضيق ونهضت مبتعدة عنه، ولكنها ما أن وصلت إلى باب الغرفة حتى شعرت بألم شديد في أمعائها جعلها تنحني إلى الأمام وهي تضع كفها على معدتها في ألم وتتأوه بصوت خافت.


لم يكن يتابعها ببصره حينما قامت من جانبه، وإنما كان يقلب أزرار هاتفه الجوال في ضيق.

لكن آهتها الخفيضة خرقت مسامعه وهزت شغاف قلبه وكأنها صرخة مدوية، فانتبه إليها وهرع ليحيطها بذراعيه من الخلف هامساً بهلع ـ"حبيبتي ماذا بك؟"


تأوهت ثانية وهي تشدد قبضتها على معدتها في ألم قائلة ـ"مغص غبي أقاومه منذ الصباح..والأسوأ أنه يسبب لي غثياناً".


تهللت أساريره وهو يديرها لتواجهه هاتفاً بسعادة ـ"حامل؟"


لم يكن يتابعها ببصره حينما قامت من جانبه، وإنما كان يقلب أزرار هاتفه الجوال في ضيق.

لكن آهتها الخفيضة خرقت مسامعه وهزت شغاف قلبه وكأنها صرخة مدوية، فانتبه إليها وهرع ليحيطها بذراعيه من الخلف هامساً بهلع ـ"حبيبتي ماذا بك؟"


تأوهت ثانية وهي تشدد قبضتها على معدتها في ألم قائلة ـ"مغص غبي أقاومه منذ الصباح..والأسوأ أنه يسبب لي غثياناً".


تهللت أساريره وهو يديرها لتواجهه هاتفاً بسعادة ـ"حامل؟"


رفعت عينيها إليه بحدة وهي تقول بضيق ـ"(طارق)..ما دخل المغص بالحمل؟ لقد أصبت ببرد في المعدة، هذا كل ما في الأمر".


إحتوى وجهها بين راحتيه هامساً وهو لا يخفي سعادته بحملها المرتقب ـ"وقد يكون حدسي صحيحاً و...".


قاطعته وهي تبتعد بوجهها عنه وتتجه إلى أقرب مقعد لتجلس عليه وتنحني لتحتضن معدتها بذراعيها المتشابكين دون أن تنبس ببنت شفه.

أدهشه رد فعلها فاقترب منها وانحنى على ركبتيه أمامها ورفع وجهها إليه ليسألها بقلق حقيقي ـ"(سمر) ماذا بك؟"


تضاعفت دهشته حينما تحركت فجأة لتدفن وجهها في كتفه وتحيط عنقه بذراعيها وهي لا تزال على صمتها، فأحاطها بذراعيه بدوره وهو يشعر بارتجافتها الخفيفة التي لا يدرك سببها.

ظلت على وضعها لدقيقة أو أكثر قبل أن تبتعد عنه بهدوء غريب وكأن شيئاً لم يكن، ثم نهضت وتناولت كفه لينهض هو الآخر قائلة ـ"هيا نجهز الغذاء..لابد وأنك تتضور جوعاً".


تأملها بدهشة حقيقية بدت وكأنها الشعور الوحيد الذي يسيطر عليه في هذا اليوم، ورغم ذلك تبعها إلى خارج غرفتهما وهو يسألها بحنان ـ"هل زال المغص؟"


تحسست معدتها للحظات قبل أن تجيبه بلا مبالاة ـ"إنه متقلب...لقد هدأ الألم الآن ولكنه سرعان ما سيعود.. سأتناول قرصاً مسكناً للألم الآن".


لم يستطع التغلب على القلق الذي يكتنفه، لذا قال بلهجة حاسمة ـ"سأصحبك إلى الطبيبة لتفحصك..لابد وأن أطمئن عليك".


أشاحت بكفها وهي تشعل الموقد قائلة بلامبالاة ـ"لا تشغل بالك يا حبيبي..لقد نمت أمام المكيف واصبت ببرد في المعدة سرعان ما سيزول..ولا تنس أنني طبيبة أنا الأخرى وأفهم جيداً ما بي".


تأمل ظهرها وهي تعمل بهدوء قبل أن يقول بلهجة طبيعية ـ"إذاً نجري فحوص الزواج الجديدة".


إلتقطت نفساً عميقاً وهي تتظاهر بتسخين الطعام وحاولت ألا يبدو توترها في صوتها وهي تقول ـ"إنها للمقبلين على الزواج يا (طارق) ونحن متزوجان بالفعل. فلا داعي لإجرائها إذاً".


إتجه إلى المبرد وفتحه ليلتقط بعض الخضروات الطازجة لصنع السلاطة قائلاً بنفس الهدوء ـ"على العكس تماماً.. ربما كانت هناك أشياء خافية علينا, فقد يكون الـrh عندك أو عندي سالباً وهو ما قد يؤثر على الأجنة فيما بعد."


لم تستطع كبح أعصابها فأفلتت منها وهي تلتفت إليه قائلة بتوتر ـ"أي أجنة؟ ما بك متسرعاً هكذا؟ إننا مازلنا في بداية حياتنا وآخر شيء أريده الآن هو الأطفال. يجب أن أنهي رسالة الماجستير أولاً قبل أن أفكر في الإنجاب."


عقد هو حاجبيه هذه المرة وترك الخضروات في حوض المطبخ والماء يتدفق عليها وهو يقول بحنق ـ"ما معنى هذا؟ إننا لم نتفق على هذا الرأي, وأنا أريد أطفالاً."


هتفت به في حدة ـ"فيم تريدهم؟ أليس لديك ثلاثة بالفعل؟ما الداعي إلى المزيد؟"


أغلق صنبور المياه وإلتفت إليه يجذبها من ذراعها لتواجهه قائلاً من بين أسنانه ـ" ما هذه النغمة الجديدة؟ صحيح أن أبناء(حازم) أصبحوا أبنائي ولكنهم ليسوا من صلبي. أريد أطفالاً منك أنت ليشهدوا على حبنا, وأنت ترفضين؟!"


أدارت وجهها بعيداً عنه قائلة ـ"الأطفال لا تشهد على الحب, مع مولد أول طفل ستبدأ المشاكل, ورغماً عنك ستفرق في المعاملة بين أبنائنا وأبناء أخيك مثلما فعل زوج أمي حينما أنجبت أمي له صبياً."


ورغماً عنها سالت دمعة ساخنة على وجنتها وهي تقول ـ"حتى حينما توفى أخي هذا ظل يعاملني وكأنني المسؤولة عن وفاته".


أدار وجهها إليه في حنوّ ومسح دمعتها بإبهامه هامساً ـ"حبيبتي, أنت تعرفينني جيداً, ولست أنا من يفرق بين أولاده.لا تخافي من هذه النقطة, فقط أرجوك ألا تحرميني من حمل ابننا بين ذراعيّ. اتفقنا يا حبيبتي؟ سنجري الفحوصات من أجل الإطمئنان لا غير".


رفعت عينيها إليه ثم ما لبث عنادها أن طغا عليها وبدا في عينيها وهي تقول ـ"أنت طبيب وتدرك جيداً أن القلق من عدم الحمل يبدأ بعد عام من الزواج، ونحن لم نكمل سبعة أشهر بعد. فلم العجلة؟"


قرص وجنتيها كالأطفال وهو يقول كمن يداعب طفلته ـ"لأنني أريد الإطمئنان فقط..ولأنني أريد طفلة تشبهك كي أقرص وجنتيها كما أشاء".


ضحكت رغماً عنها وأفلتت وجهها منه وهي تدفنه في صدره قائلة ـ"إدع لنا..وإفعل بها ما تشاء".


ربت على ظهرها بحنان قائلاً ـ"لا نملك سوى الدعاء يا حبيبتي والأخذ بالأسباب...وأملنا في الله كبير".


وفي أعماقه إبتهل إلى الله أن يرزقهما الذرية الصالحة.


**********************

الدمعة التاسعه عشر


19-


جلست(هالة) وأمها والأطفال حول مائدة الطعام التي خلا مقعدها الرئيسي, لليوم الخامس على التوالي, من وجود(طارق) الذي يضفي دوماً على الطعام مذاقاً خاصاً, مذاقاً عائلياً افتقده الجميع وعبّر عنه(هاني) بأسلوبه الطفولي وهو يقول بضيق ـ"أين بابا(طارق)؟ إنه لم يأت منذ خمسة أيام وهاتفه المحمول مغلق, لا أستطيع الأكل في غيابه."


تبادلت(هالة) نظرة سريعة حائرة مع أمها قبل أن تقول لابنها في هدوءـ"بابا(طارق) في مؤتمر كما أخبرتكما من قبل, وعندما ينهي أعماله سيعود بإذن الله. وحيث أننا لا نعلم متى سيعود, فأنت لا تستطيع البقاء دون طعام. تناول غداءك الآن, وبعد الأكل أعدك بأن نحاول محادثته ثانية.اتفقنا؟"


أومأ الولدان برأسيهما وتظاهرا بتناول طعامهما بتكاسل وهي تراقبهما بعينين حزينتين.

فقد تعلق أبناؤها بعمهم بطريقة لم تكن تتخيلها أبداً وصار وجوده معهم في المنزل أهم إليهم من الأكسجين في الهواء.

هو أيضاً كان لا يمل الجلوس معهم حتى لو طالت جلستهم لساعات أو حتى لأيام.


لكنه تغير في شدة مؤخراً ولم يعد(طارق) الذي عرفته وتزوجته,

لقد صار شخصاً آخر. 

شخصاً عصبي المزاج متقلبه وكأنه يخفي بداخله شيئاً لا يريد البوح به وهو ما ينغص عليه حياته بهذا الشكل, بل ويجعله منطوياً عنها ولا يرغب في مشاركتها إياه.


وما يقلقها عليه هو غيابه الطويل هذا, 


لقد اعتاد أن يحادثهم كل ليلة يبيت فيها في بيته الثاني مع(سمر) لكنه لم يفعل هذه المرة.

والأدهى أن هاتفه الخلوي مغلق وهي لا تجرؤ على محادثته في المستشفى لا بنفسها ولا حتى بواسطة الأولاد لاقتناعهم بأمر المؤتمر المزعوم هذا.


وبينما هي غارقة في التفكير تناهى إلى مسامعها صوت مفتاح يدور في الباب الأمامي و(هاني) يقفز من فوق مقعده هاتفاً بسعادة لا مثيل لها ـ"لقد عاد بابا(طارق)."


قالها وهو يهرع مع(هيثم) إلى الباب ليستقبلا عمهما قبل أن يدلف إلى الشقة, وكان(هاني)هو الأسرع حيث أحاط ساقي عمه بذراعيه هاتفاً بلهجة تجمع بين السعادة والعتاب ـ"حمداً لله على سلامتك يا أبي, لماذا غبت طويلاً هكذا؟" 


ولدهشة جميع الحضور, فقد خرج صوت(طارق) قاسياً وهو يزيح الصغير بعيداً عنه بخشونة قائلاً ـ"ماذا تفعل؟ تلوث ملابسي بيديك المتسختين وتحاول إيقاعي على الأرض؟"


شحب وجه الولدان و(هيثم) يقول مدافعاً عن شقيقه الأصغرـ"ولكن يدي (هاني) مازالتا نظيفتان, فنحن لم نبدأ الأكل بعد."


التفت إليه عمه هاتفاً بغضب ـ"وهل انتدبك لتدافع عنه؟"


ومن موقعها أدركت(هالة) سخونة الموقف فهرعت لتقف بين أولادها وعمهم الذي كان في أشد حالات الغضب حينها ويهم بصفع(هاني), وفوجئت بنفسها تمسك ذراع(طارق) المرفوعة وعلى وجهها ابتسامة مرتبكة قائلة بلطف ـ"هديء من ثورتك يا(طارق). الأمر لا يستحق ذلك"


ثم استدارت إلى ابنيها قائلة بحزم ـ"اعتذرا لعمكما وحسابكما معي فيما بعد."


نظر الولدان إليها في ذهول وقد عجز عقلاهما عن فهم السر خلف عقابهما لأنهما هرعا لاستقبال عمهما, إلا أن عنادهما وترددهما ذابا مع نظرة(هالة) الصارمة, فاعتذرا في هدوء وأسرعا إلى حجرتهما والدموع تسبقهما.

وبعد أن أسرعت أمها خلف الطفلين استدارت(هالة) بوجهها نحو(طارق) وهالها ما رأت...


فقد كان ذابلاً, أشعث الشعر, وقد نمت لحيته لتعطيه عمراً يفوق عمره الحقيقي...


ولكن ما أدهشها حقاً هو أنه لم يكن وحيداً, فقد كانت بصحبته حقيبة سفر كبيرة.


نفس الحقيبة التي ساعدته في ترتيبها قبل زواجه من(سمر).


وغاص قلبها بين ضلوعها لمعنى عودة الحقيبة إلى شقتها...


وبكل قلقها ولهفتها عليه هتفت به ـ"ماذا بك؟ ماذا حدث؟"


ولم تندهش حين سحب ذراعه من قبضتها ورمقها بنظرة طويلة قبل أن يتجه إلى غرفتهما ويغلق بابها خلفه.

وللحظة وقفت حائرة في الردهة, أتتجه إلى طفليها أم إليه؟ ثم ما لبثت أن حسمت أمرها واتجهت إلى طفليها تهديء من روعهما, و(هاني) يقول من بين دموعه ـ"لم أقصد تلويث ملابسه يا أمي, أقسم لك. انظري إلى يديّ, إنهما نظيفتان."


احتضنته في حنان وربتت على ظهره قائلة ـ"أعلم هذا يا حبيبي, لقد انفعل لأنك اندفعت إليه مسرعاً وكان من الممكن أن يفقد اتزانه ويقع."


أما(هيثم) فلم يبد عليه الاقتناع بما قالته أمه إذ مسح دموعه وهو يقول بثبات يفوق عمره ـ"لقد تغير بابا(طارق) وأصبح مثل بابا(حازم) رحمه الله, لم يعد يجلس معنا كما اعتاد في السابق وتغيرت معاملته معنا."


التفتت(هالة) إلى ابنها في دهشة وأدركت لحظتها أن(هيثم) نضج قبل أوانه, وأن ذهنه تفتح ليدرك ما ظنته مرئياً لها وحدها, فمدت يدها إليه لتأخذه هو الآخر بين ذراعيها قائلة بهدوء ـ"لا تقل هذا, إنها ضغوط العمل. سيعود بابا(طارق) إلى ما كان عليه في السابق, أعدكما بذلك."


*****************************************


الدمعة العشرين


20- 


وقف(طارق) في شرفة غرفة النوم وأشعل سيجارة نفث دخانها بعيداً في قوة علها تخفف توتره, وقلبه يقرّعه على ما فعله في ابنيّ شقيقه للتو.


كان تأنيب ضميره كلسعات السياط تمزق قلبه و أحاسيسه, فما كان ينبغي أن يثور هكذا على الولدين خاصة وهو يعلم بمدى حبهما له وافتقادهما لوجوده.

واستغرقته أفكاره فلم يسمع طرقات(هالة) الهادئة على باب الغرفة, و فوجيء بها إلى جواره.


فعندما لم يجبها فتحت(هالة) باب الغرفة ودلفت إليها لترى_أول ما رأت_ حقيبته موضوعة إلى جوار الفراش. وعندما بحثت عنه بعينيها في الغرفة لم تجده, كان بالشرفة, ولم ينتبه إلا وهى تربت على كتفه وتسأله في تعاطف ـ"ماذا بك يا(طارق)؟ماذا حدث؟ ولماذا عدت إلى التدخين ثانية؟"


انتفض في فزع للحظة قبل أن يستدير إليها بعينين دامعتين, ويسحب نفساً عميقاً من سيجارته ثم يقذفها بعيداً في الهواء بأصابع مرتجفة ويعود بوجهه ثانية إلى الشارع وينفث الدخان بعيداً في صمت.

ضايقها صمته وأقلقتها دموعه فقالت بلهجة خاصة ـ"(هيثم) و(هاني) يبكيان في الداخل, وأنت هنا تعود للتدخين ولا تبالي بإجابة أسئلتي و..."


قاطعها وهو يرفع كفه الأيمن أمامها صامتاً, وهالها مرأى ارتجافة كفه القوية فأمسكتها برفق وهي تقول بهلع ـ"ما هذا؟ إن كفك ترتجف في شدة."


نظر إلى كفه في ألم ولم يجبها فازدردت لعابها الجاف وسألته في جزع ـ"هل حملت شيئاً ثقيلاً أو..."


قاطعها قائلاً بصوت مختنق ـ"أتدرين ما هي ثروة الجرّاح؟ إنها أصابعه. تخيلي خطورة أن تهتز أصابع الجرّاح أثناء عمله. لقد كدت أفقد مستقبلي اليوم حين اهتز المبضع في يدي, ورغم أن أحداً لم يلحظ ما حدث فقد شعرت بانهيار ثقتي في نفسي دفعة واحدة وطلبت من زميلي إجراء الجراحة بدلاً مني."


اتسعت عيناها في ذعر وهي تستمع إليه وأصابعها تكتم شهقة عنيفة من حلقها قبل أن تقول بحزم ـ"هيا إلى الداخل, إنك ترتجف من البرد."


قال معترضاًـ"أنا لا أرتجف من البرد."


أشارت إليه بالدخول قائلة في ثبات ـ"أياً كان السبب, يجب أن ندخل سوياً إلى الغرفة لأننا لن نناقش ما أنت فيه أمام مدينة نصر بأكملها."


بدا قولها مقنعاً إلى حد كبير فتبعها في هدوء للداخل وجلس على أول مقعد صادفه واضعاً وجهه بين كفيه, فركعت(هالة) على ركبتيها إلى جواره وربتت على كتفه في حنان قائلة ـ"(طارق)! لا تقلق, ستكون بخير غداً إن شاء الله. أؤكد لك أن الأمر لا يعدو كونه إرهاقاً زائداً لعضلات ذراعك وستعود لطبيعتك بعد قليل من الراحة."


رفع وجهه إليها قائلاً في سخرية ـ"راحة؟ ومن أين تأتي الراحة؟ من أبي, أم من(سمر), أم من المستشفى؟"


عقدت حاجبيها قائلة في قلق ـ"ماذا حدث؟ وما سر هذه الحقيبة؟"


ألقى نظرة سريعة على الحقيبة قبل أن يقول بتهكم ـ"الحقيبة؟ إنها نهاية الفصل."


سألته في حيرة ـ"أي فصل؟ وماذا تقصد بذلك؟"


تنهد في عمق قائلاً ـ"نهاية الفصل الأخير من المسرحية المؤلمة التي كنت أعيشها في الفترة الماضية والتي بدأت بتدخل أبي في حياتي مع(سمر) بحجة رغبته في رؤية أبنائي, وبعدها إصراري على إجراء فحوصات شاملة لي ولها, وانتهت المسرحية بانفصالي عن(سمر)."


قفزت واقفة على قدميها هاتفة في استنكارـ"ماذا قلت؟ انفصالكما؟ كيف ولماذا؟"


نهض بدوره مبتعداً وقال بخفوت ـ"لا رغبة لي في الحديث عن هذا الأمر الآن."


اتجهت إليه وتابعت وكأنها لم تسمع ما قاله ـ"وأين ذهب حبكما؟هل نسيت كل ما فعلته(سمر) من أجلك وأجلي ومن أجل أولادي؟ هل نسيت كم عانت وكم ضحت في سبيل حبها؟ كيف تتركها بهذه السهولة؟"


هتف محنقاً ـ"قلت أنني لا أريد الحديث عن هذا الموضوع."


جذبته من ذراعه ليلتفت إليها قائلة بحزم ـ"بل ستتحدث لأن هذا الأمر لا يتعلق بكما وحدكما, بل بي وبأبنائي أيضاً. لقد احترمت صمتك فيما مضى رغم إحساسي بوجود مشاكل في حياتك, وقلت لنفسي إنك حر في الاحتفاظ بأسرار بيتك لنفسك وإنك ستحلها بشكل أو بآخر. لكن أن يصل الأمر للانفصال فهذا ما لن أسكت عليه وأصر على معرفة أسبابه."


رمقها بنظرة حادة فتابعت بلهجة ناعمة ودود ـ"موضوع يدك له علاقة بالأمر, لذا اجلس في هدوء وأخرج كل الضغوط التي انعكست على أعصابك وتوشك أن تفقدك مستقبلك."


قالتها وهي تقوده برفق إلى مقعده ثانية وتُجلسه عليه بهدوء.


أما هو فقد ظل ينظر بألم إلى كفه اليمنى التي ترتجف رغماً عنه والدموع تترقرق في عينيه, وعقله يضخم له الأمر موحياً إليه بأنه سيفقد مستقبله كجرّاح إذا ظل على هذه الحالة.

وشعرت(هالة) بقلبها يتمزق لمرآه هكذا فركعت أمامه ثانية وتناولت كفه المرتجفة بين يديها وهمست بحنان ـ"إنك تزيد الأمر سوءاً هكذا, صدقني ستتحسن يدك قريباً و..."


قاطعها وهو يتأمل عينيها السوداوين قائلاً ـ"لقد طلبت(سمر) الطلاق بنفسها."


اتسعت عينا(هالة) وهي تستمع إليه قبل أن يخرج صوتها مبحوحاً وهي تقول ـ"بسببي؟"


هز رأسه نفياً في صمت قبل أن يتنهد بعمق ويعود بذاكرته إلى خمسة أيام مضت.


كان قد عاد لتوه إلى شقته وقد بلغ معه الإرهاق مبلغه بعد يوم عمل طويل، وأدهشه ألا يجد (سمر) في الردهة تشاهد التلفاز كعادتها.

حتى حينما أدار بصره في أرجاء الشقة لم يجدها حوله، فاتجه إلى غرفتهما وما أن اقترب حتى تناهى إلى مسامعه صوت نحيب مكتوم ففتح الباب في سرعة ليجد زوجته تحتضن وسادتها وتبكي بألم.

راعته دموعها وصوت نحيبها فهرع إليها ورفع وجهها عن الوسادة قائلاً في لهفة ـ"ماذا بك يا حبيبتي؟ لماذا تبكين؟"


رفعت إليه عينيها المتورمتين من شدة البكاء ثم عادت لتدفن وجهها في الوسادة وتجهش بالبكاء لتزيد من قلقه، فسألها بتوتر وهي يمسح ظهرها براحته ـ"هل تتألمين؟ هل تُوفي أحد من أقاربنا؟ أجيبيني يا (سمر) فأنا لا أطيق التوتر".


رفعت عينيها ثانية وإلتقطت مظروفاً كبيراً من جوارها ناولته إليه دون أن تنطق وعيناها تتبعان ملامحه لمعرفة ردة فعله.


أما هو فتناول منها المظروف وعقله لا يزال متوقفاً من الإرهاق الذي يشعر به وفتحه بعد أن جلس على طرف الفراش ليجد به مجموعة من صور الأشعة السينية والموجات فوق الصوتية ونتائج التحاليل.


حينها بدأ يدرك أنها ولا شك نتيجة تحاليله وأشعاته هو و(سمر)، وبدأت دقات قلبه في التسارع وهو يحاول التكهن بما تحمله النتائج ويربطه ببكاء زوجته الشديد.


بدأ بأشعته وتحاليله أولاً وإلتهمت عيناه أسطر التقارير في سرعة إلى أن تأكد من أنه سليم تماماً ولا يوجد ما يمنعه من الإنجاب.


لحظتها فقط سمح لأنفاسه الحبيسة بالخروج من رئتيه في صورة تنهيدة قوية أعقبها بقوله ـ"الحمد لله".


ثم ما لبث أن إنتبه إلى النتائج الأخرى...لابد وأنها تحمل سبب بكاء (سمر).


تزايدت دقات قلبه ثانية وهو يفحص أوراقها وأشعاتها وعيناه تتسعان أكثر وأكثر، ثم ما لبث أن شعر بقبضة باردة تعتصر قلبه وهو يقرأ النتيجة النهائية لتقرير أشعة الموجات فوق الصوتية، فأغلق عينيه في ألم وإلتقط نفساً عميقاً يهدئ به توتره الذي فاق كل حد قبل أن يلمس كف (سمر) قائلاً بصوت حاول أن يبثه قدراً من الهدوء ـ"حبيبتي هذه ليست النهاية...الطب يتقدم كل يوم وكل ساعة...ومع الإجتهاد في الدعاء سيرزقنا الله بالذرية الصالحة و..".


قاطعته من بين دموعها قائلة بلهجة جافة ـ"أي طب وأي دعاء؟؟؟ألم تقرأ التقارير بعناية؟ أنا عقيم يا دكتور...عقيم ولا يمكنني الإنجاب".


هتف بها مستنكراً ـ"أستغفر الله العظيم...هل سنكفر مع أول إبتلاء؟"


إستغفرت ربها بصوت خفيض في حين تابع هو بهدوء وثبات ـ" يا (سمر) لا تقنطوا من رحمة الله..لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالدعاء ووعدنا بالإستجابة..ولا يوجد ما هو مستحيل على قدرة الله. ومن يدري..فقد تسيقظين يوماً لتجدين طفلي بين أحشائك".


عادت إلى دموعها ثانية وهي تقول بإنهيار ـ"أعد قراءة التقارير يا (طارق). الأمر واضح. أنا لا أستطيع الإنجاب لأن رحمي لا يستطيع التمدد مع نمو الجنين. ألا تدرك معنى ذلك؟ معناها أنه لا يمكنني الإنجاب حتى بواسطة التلقيح الصناعي. لقد إنتهى الأمر".


إقترب منها ووضع رأسها على صدره وإحتواها قائلاً بحنانه المعهود ـ"لن أفقد الأمل..وحتى إذا لم ننجب أطفالاً فوجودك معي يكفيني. أستطيع الحياة معك دون أطفال. ألم تقولي أن لدي ثلاثة بالفعل...سأكتفي بهم ونستمر في حياتنا وكأن شيئاً لم يكن و...".


قاطعته وهي تبتعد عن صدره في حدة قائلة بعنف ـ"طلقني".


اتسعت عيناه وهو ينظر إليها وكأنه يراها لأول مرة، ثم حاول أن يقربها إليه ثانية ليمتص إنفعالها لكنها دفعته في صدره بقوة قائلة بشراسة لم يرها من قبل ـ"ألم تسمعني؟ قلت لك طلقني".


تنهد بقوة وإستعاذ بالله من الشيطان في داخله قبل أن يقول بهدوء ـ"وحدي الله يا (سمر)...ما الداعي للحديث عن الطلاق الآن؟ قلت لك إنني راض بقضاء الله ولن أفقد أملي فيه، وإنني لا أريد أطفالاً وإنما أريدك أنت..فلماذا الحديث عن الطلاق؟"


سألته في حدة ـ"أتستطيع مواجهة والدك بذلك؟ أتستطيع أن تقول له بكل صراحة زوجتي عقيمة يا أبي وأنا لا أريد الإنجاب".


قال في ضيق ـ"وما دخل أبي بالأمر؟"


أجابته بنفس الحدة وقد إرتفعت نبرة صوتها الباكي قائلة ـ"أتنكر أن السبب الحقيقي في موافقته على زواجنا كان رغبته في رؤية أبنائك؟ أتنكر أنه لمح إلى تأخر حملي أكثر من مرة؟ قل لي كيف ستمنحه ما يريد من أحفاد..هل تتبنى أطفالاً أم تتزوج الثالثة لتنجب لك وبذلك ترضي جميع الأطراف. تتزوج (هالة) لتربي أبناء شقيقك الراحل وتحمي إرثهم، ثم تتزوجني لأنك تحبني، ثم تتزوج الثالثة لتنجب لك ولي العهد المنتظر".


كان يسمع كلماتها القاسية بضيق، ولكن كلماتها الساخرة الأخيرة أخرجته عن هدوؤه فهتف بها من بين أسنانه ـ"(سمر).. لقد تغاضيت عن الكثير من حديثك لعلمي بحالتك النفسية الآن، ولولاها لكان لي تصرفاً آخر. لقد إنتهت المناقشة ولا رجعة في ذلك، ولن أسمح لك بالحديث عن الطلاق ثانية."


تأملته للحظات وأدركت كيف يجاهد للحفاظ على هدوء اعصابه في وجه كلماتها الجارحة، وحمدت ربها سراً أنه يجيد كبت إنفعاله وإلا لكان صفعها في قوة على إهانتها له.

ولدهشتها فقد أشار إليها بسبابته قائلاً بلهجة شبه آمرة ـ"هيا اغسلي وجهك وغيري ملابسك..سنخرج للعشاء".


إتسعت عيناها وهي تتأمل ملامحه المرهقة قائلة بدهشة ـ"ماذا؟"


لاح شبح إبتسامة على طرف شفته وهو يقول بإرهاق ـ"ماذا ماذا؟ إني أتضور جوعاً وأنت لم تجهزي العشاء فما الحل؟؟ هيا سنتناول العشاء في الخارج".


ترددت وهي تتأمل أصابعها كفيها الرقيقة في حرج قائلة ـ"لا داعي للخروج...سنطلب خدمة التوصيل و...".


اقترب منها باسماً وتناول كفيها في رقة قائلاً ـ"كلا..العشاء في المطعم مقصود كيلا تطاردك الأفكار السوداوية وكي تضطرين إلى الحفاظ على مظهرك ولا تبكين".


ابتسمت رغماً عنها واحتضنت أصابعه بين أصابعها قبل أن تبتعد لتستعد كما طلب منها.

حينها تنهد في عمق وإعتقد أن المشكلة إنتهت على خير.

ولكنها كانت أبعد ما تكون عن الخير...


ففي الصباح التالي حينما إستيقظ (طارق) مبكراً كي يستعد للذهاب إلى عمله جلست في الفراش وإبتدرته بسؤالها ـ"لماذا ستذهب إلى المستشفى الآن؟ مواعيدك اليوم بعد الظهيرة".


أجابها بتلقائية وهو يصفف شعره في المرآه ـ"لقد أرسلوا إلي في الفجر كي أحضر عمليات الدكتور (سلطان) بدلاً منه لأن زوجته تل..".


قطع عبارته فجأة وهو ينظر إلى إنعكاس صورتها في المرآه وقد حمل وجهها تعبيراً غريباً فإلتفت إليها سريعاً كي يعتذر لكنها كانت أسرع وهي تقول بألم ـ"هل علمت المستشفى بهذه السرعة؟"


وضع كفيه على رأسه قائلاً بصبر نافذ ـ"لا حول ولا قوة إلا بالله..أصبحنا وأصبح الملك لله...مالذي علمته المستشفى يا (سمر)؟ ومالحياتنا الشخصية بها؟"


اغرورقت عيناها بدموع سريعة وهي تقول ـ"ما تفسيرك إذاً لهذا الإستدعاء؟ لماذا لم يستدعوا أي جراح آخر؟ لا يوجد تفسير سوى أنهم يعلمون أن زوجتك لن تلد يوماً ولهذا فأنت متاح في أي وقت".


زفر في ضيق وخلل شعره بأصابعه قائلاً ـ"يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم...(سمر) يا حبيبتي..ما أدراك أنهم لم يطلبوا غيري؟ ثم كيف تعلم المستشفى بتقاريرنا الصحية التي أجريناها في مستشفى آخر؟ إستعيذي بالله من شيطانك وهيا لتذهبي معي إلى العمل".


اعتدلت على طرف الفراش وهي تقول ـ"أفضل ألا أذهب اليوم...حالتي النفسية ليست...".


جذبها من كفيها ليوقفها على الأرض قائلاً برقة وكأنه يتعامل مع طفلة كبيرة ـ"الحل الأمثل لحالتك النفسية هو الخروج من البيت..أتنكرين أنك كنت أفضل بالأمس بعد عودتنا؟ هيا إستعدي فلن أنتظر طويلاً".


وأطاعته ثانية وظن أن الأمور في تحسن.


لكنه فوجئ بعد إنتهاء عمله في المستشفى بأنها غادرت منذ الصباح وبأن هاتفها الجوال مغلق.

عاد منهكاً إلى المنزل فلم يجدها، ولم يجد بالطبع ما يأكله.

حاول الإتصال بجوالها ثانية دون جدوى، ثم ما لبث أن أرشده عقله إلى الإتصال بمنزل والدتها التي قالت له بهدوء إن زوجته بحاجة إلى إراحة أعصابها وإلى البقاء وحدها بعيداً عنه لفترة.

لم يحاول الجدال معها لعلمه بأن (سمر) لن تغير رأيها بسهولة وأنها بحاجة إلى وجود أمها إلى جوارها في حالتها تلك.

وإتخذ قراره حينها بالذهاب إلى (هالة)...فمؤكد أنها ستهتم به وسيجد عندها الطعام الساخن والملابس النظيفة و...


قطع عليه تفكيره صوت هاتفه الجوال برسالة من المستشفى تطلبه بشكل طارئ فزفر في ضيق قائلاً ـ"أستغفر الله العظيم...ألا يوجد جراح غيري في هذا المستشفى؟"


قالها وإلتقط سلسلة مفاتيحه وغادر الشقة متجهاً إلى عمله ثانية، والذي إستغرقه حتى الصباح التالي. وحينما أنتهى كان الإرهاق قد بلغ معه حداً يجعله لا يكاد يرى أمامه، فلم يهتم حتى بسؤال زملائه ما إذا حضرت (سمر) إلى عملها أم لا.


غير أنه حينما فتح باب شقته ودلف إليها تبخرت من عقله كل أحلام النوم.

فقد كان شكلها يبدو مختلفاً...

ليس مختلفاً بشكل كبير، ولكنه مختلف بالنسبة لمن عاش فيها طيلة سبعة أشهر أو يزيد، ويتمتع بقوة ملاحظة خارقة


فقد لفت إنتباهه تحرك أحد مقاعد الأنتريه الوثير عن موضعه أمام غرفة النوم، مما يعني أنه كان يعوق خروج شيء من من بابها.

أسرع عند هذه النقطة إلى غرفة نومه وفتح بابها بقوة ليجد خزانة الملابس التي تحوي ثياب زوجته فارغة ومفتوحة على مصراعيها...

إلتفت برأسه إلى حيث المرآة ليلحظ إختفاء عطور زوجته ومستحضرات تجميلها...

وكأنما كان يحتاج إلى براهين أقوى على رحيلها فهرع إلى الحمام وفتحه ليكتشف إختفاء باقي متعلقاتها من شامبو وملطف و و و


حينها أسند ظهره إلى الجدار ورفع كفيه إلى وجهه للحظات قبل أن يخلل شعره بأصابعه ويتجه إلى الهاتف ويطلب رقم والدة زوجته.

وعلى غير هدوؤه المعتاد فوجئ بنفسه يهتف بوالدتها بعصبية ـ"أريد التحدث إلى (سمر) من فضلك".


أجابته والدتها بنفس الهدوء الذي يميزها قائلة ـ"(طارق) يا بُني..لا داعي للإنفعال..فالأمر لا يستحق". 

سألها في حنق ـ"إذا كان الأمر لا يستحق فما تفسير إختفاء كل متعلقات (سمر) من شقتها؟"


أجابته بثقة ـ"لقد أخبرتك من قبل أنها بحاجة إلى البقاء بعيداً لفترة، ومن الطبيعي أن تأخذ ملابسها لأنها لن تذهب إلى العمل بنفس الملابس كل يوم".


لم يبد عليه الإقتناع بما قالت، لكنه تنهد في عمق قائلاً ـ"سأتظاهر بالإقتناع بمبرراتك..ولكن من فضلك صليني ب(سمر)".


قالت بصدق ـ"أقسم لك يا بُني أنها في المستشفى...ستعود في المساء...هاتفها حينها وتفاهما سوياً".


هز رأسه بإستسلام ثم ما لبث أن عاد صوته إلى هدوؤه وهو يقول ـ"حسناً إذاً. سأهاتفها حينما أستيقظ".


قالها ثم أنهى المكالمة بود، فآخر ما يريده الآن هو أن يفقد دعم أهلها لموقفه وإصراره على بقائهما معاً.

وفي تكاسل نهض ليأخذ حماماً سريعاً، قبل أن يستلقي على فراشه ويستغرق في نوم عميق.


لم يدر كم مضى من الوقت وهو نائم، لكنه حينما إستيقظ كان الظلام يحيطه من كل جانب والجوع يقرص معدته...تذكر حينها أنه لم يتناول شيئاً منذ مساء اليوم السابق فنهض إلى المطبخ وأعد لنفسه طعاماً سريعاً تناوله بدافع من الجوع فحسب.

وبعد أن قضى ما فاته من صلوات إرتدى ملابسه وخرج إلى منزل أهل (سمر).


كان يتوقع ترحيبها به، لكنها على العكس إستقبلته ببرود وكأنه المسؤول عما بها...

والأدهى أنها لم تستمع إليه وهو يؤكد لها إستعداده وإصراره على مواصلة الحياة معها كأن شيئاً لم يكن...

وفي النهاية فاجأته بطلب الطلاق ثانية.


حينها نهض من مقعده بهدوء يتناقض وغليان مشاعره الداخلي وتنهد في عمق قائلاً ـ"سأتظاهر بأنني لم أسمع شيئاً، وسأنتظر عودتك في بيتنا".


قالها وخرج دون أن يضيف حرفاً، بعدما شعر بضيق يطبق على أنفاسه.


تجول بسيارته قليلاً في شوارع القاهرة المزدحمة قبل أن يجد نفسه بالقرب من النيل في منطقة هادئة.

فنزل من سيارته وإكتفى بالجلوس وهو يدخن ساهماً أمام صفحة النيل وهواء الليل المنعش يداعب شعره ويدغدغ أعصابه المتوترة حتى ما بعد منتصف الليل.

حينها شعر برجفة خفيفة تسري في أوصاله فخرج من شروده ووضع كفيه في جيبي سترته متحركاً إلى حيث سيارته، وأدارها متجهاً إلى شقته.


كان يتمنى الذهاب إلى (هالة) حتى يشعر ببعض الراحة، ولكنه كان يشفق عليها من الدخول في دوامة مشاكله مع (سمر)، لأنها ستلحظ توتره وضيق أعصابه ولن تهدأ حتى يُخرج ما بداخله.

لذا وجه السيارة إلى شقته الخاصة وهرب من ضيقه إلى النوم، عسى أن يرتاح عقله قليلاً.


حينما إستيقظ في الصباح التالي كان يشعر ببعض النشاط، ولكنه لم يستطع تجاهل الشعور بثقل يجثم على أنفاسه فإستهل يومه بتدخين سيجارة علها تزيح ذلك الشعور.


كان يدرك بحكم دراسته أن التدخين لن يفيده وإنما سيضره بشكل قاتل، ورغم ذلك كان يلهي نفسه بالتدخين حتى أجهز على نصف العلبة قبل أن يغسل وجهه.


وعلى عكس ما كان يمني نفسه، لم يزده التدخين إلا ضيقاً فوق ضيق، فنهض يأخذ حماماً منعشاً قبل أن يتصل بالمستشفى ويطلب إجازة عارضة لهذا اليوم بعد مجهود عمليات اليومين الماضيين.


قضى يومه يقلب في قنوات التلفاز، وبين الحين والآخر ينظر في شاشة هاتفه الجوال ليتأكد من تغطية الشبكة، ثم يرفع سماعة الهاتف الأرضي ليتأكد من وجود حرارة...ورغم ذلك لم يأته أي إتصال.

حتى كانت السابعة مساء.


تزامنت دقات ساعة الحائط مع رنة جرس الباب حتى أنه لم ينتبه إليه في البداية

ثم مالبث أن إنتبه مع الرنة الثانية وقام ليفتح الباب...


ولدهشته فقد كانت (سمر) أمامه هي وأمها وزوجها وأبنائه...ووالده.

ألجمته الدهشة للحظات قبل أن يهمس لزوجته ـ"لماذا تدقين الباب ومعك مفتاح؟"


لم تجبه وتهربت من نظراته فأشار إلى ضيوفه بالدخول وهو يقبل ظاهر كف والده بإحترام قائلاً ـ"مرحباً بك يا والدي".


وحينما جلس الجميع في صالة الإستقبال الأنيقة توقع أن يكون الهدف من الزيارة إعادة زوجته إلى بيتها فقال لها بإبتسامة واسعة ـ"لقد فعلت الصواب بعودتك إلى بيتك وبيت زوجك يا (سمر). هو أولى بك".


ولكن ما نطقه زوج والدتها في اللحظة التالية جعل الإبتسامة تتجمد على شفتيه و..


خرج من ذكرياته على صوت (هالة) الحنون وهي تسأله بإهتمام ـ"ماذا حدث يا (طارق)"؟


منحها نظرة خاوية وتنهد قائلاً بخفوت ـ"لقد أظهرت التحاليل والأشعات التي أجرتها(سمر) أنها لا تستطيع الإنجاب بأي شكل من الأشكال, ويبدو أنها كانت تعلم بذلك مسبقاً أو أنها أجرت هذه التحاليل من قبل دون أن تخبرني لأنها وافقت مُجبرة على إجرائها معي. وحين تأكدت من استحالة حملها طلبت الطلاق."


سألته بصوت مختنق وعيناها لا تفارقان وجهه ـ"وماذا فعلت؟"


هز كتفيه قائلاً ـ"رفضت بالطبع. إنها زوجتي وأحبها فلماذا تطلب الانفصال؟"


ازدردت(هالة) لعابها في صعوبة وهي تجيبه قائلة ـ"لأنها تحبك, وحين أيقنت أنها عاجزة عن تحقيق حلمك في أن يكون لك ابناً من صلبك شعرت بأنها تظلمك بالبقاء معها."


هز رأسه نفياً وهو يقول بإصرار ـ" من تحب لا تفعل ما فعلته(سمر)."


قالت بهدوء ـ"إحساسها بالنقص جعلها..."


قاطعها قائلاً بحنق ـ"جعلها ماذا؟ جعلها تترك البيت وتجمع أهلها وأبي لإقناعي بتطليقها؟ جعلها تحرجني أمام كل العاملين بالمستشفى بطلبها الطلاق علانية؟"


اتسعت عيناها في دهشة وقالت باستنكار ـ"أفعلت كل هذا؟ لماذا؟"


هز كتفيه في حيرة قبل أن يقول ـ"لقد كنت مصراً على أن نواصل حياتنا سوياً بشكل عادي, وأن الطب يتقدم كل يوم وأنها قد تستيقظ في أحد الأيام لتجد نفسها حاملاً, وكنت أكثر إصرارا على أنني أستطيع الحياة معها دون أطفال على الإطلاق, إلا أن اهانتنها لي وجرحها لكرامتي أفقدني اتزاني وجعلني أطلقها في غمرة انفعالي أمام الجميع."


شهقت باستنكار قائلة ـ"أتعني أن كل هذا حدث بالمستشفى؟"


أومأ برأسه إيجاباً في صمت ثم ما لبث أن قال ـ"فوجئت بها تأتي إلى شقتنا بصحبة أهلها ووالدي، والذين اجتمعوا لإقناعي بتطليقها, وفوجئت بأبي_ على غير توقع_ يطلب مني أن أطلقها ما دامت تريد ذلك. شعرت بأن شيئاً عزيزاً يؤخذ مني غصباً والمطلوب أن أعطيه عن طيب خاطر, لذا رفضت وبشدة أن أترك زوجتي وأصريت على أنني مازلت أحبها وأن موضوع الإنجاب لا يشكل فارقاً كبيراً بالنسبة لي. ويبدو أن والدي لم يكن يعرف بأمر الإنجاب هذا, إذ إزدادت حدة لهجته فجأة وهو يحاول إقناعي بالطلاق. المهم هو أنني رفضت طلبهم جميعاً وقلت إنها ستظل زوجتي وإنه ما من قوة في الأرض ستجعلني أتركها أو أضحي بها."


وتوقف عن الحكي للحظات أشعل فيها سيجارة بيده اليسرى تاركاً يمناه راقدة بين كفي(هالة), وقال بعد أن نفث الدخان بعيداً عن وجهها ـ"بعد انصرافهم ظل أبي معي يحاول إقناعي بتركها ما دامت غير قادرة على الإنجاب, وأثارني موقفه. شعرت لحظتها بأن الغرض الرئيسي لزواجي منها هو الإنجاب وليس لأننا متحابان. وسألته حينها هل كان رأيه سيظل كما هو لو أن ابنه هو العاجز عن الإنجاب؟ لكنه لم يجبني. وبعد انصرافه أحسست بالدماء تزداد غلياناً في رأسي وعدت إلى التدخين بشراهة."


وتوقف عن الحديث للحظة أخذ فيها نفساً عميقاً من السيجارة أتى على نصفها وتابع بعد أن نفثه في هواء الغرفةـ"لم يغمض لي جفن بقية الليل, وصباح اليوم فوجئت بيدي ترتجف فخرجت من غرفة العمليات محطماً نفسياً. خرجت لأجدها واقفة أمامي عاقدة ذراعيها أمام صدرها وتنظر لي في تحفز. سألتها في هدوء عن سبب وقوفها هكذا فأجابتني ببرود قائلة’طلقني‘. حاولت إثنائها قائلاً أننا سنواصل الحديث في بيتنا فعلا صوتها وطالبتني بتطليقها فوراً واتهمتني بأنني عديم الكرامة لأنني أريد الحياة معها غصباً, فلم أتمالك نفسي وطلقتها".


قالها وعاد لأخذ نفس آخر من السيجارة قبل أن تلتقطها(هالة) من بين أصابعه وتطفئها في منفضة مجاورة وتنهض قائلة في ذهول ـ"أكاد لا أصدق ما تقول, إنك تتحدث عن(سمر) أخرى غير التي طالما تحدثت عنها في حب. لكن تفسيري الوحيد لما فعلت هو أنها أرادت أن تبتعد عنك برغبتها قبل أن تهجرها أنت. ولا تنس أنها كانت تشعر بانعدام الأمان من قبل, وعاد إليها هذا الشعور عندما اكتشفت مشكلتها تلك. قد يكون رد فعلها مبالغاً فيه ولكنني واثقة من أنها مازالت تحبك وأنها ستهدأ بمرور الوقت. وقريباً جداً ستعودا إلى منزلكما سوياً."


هز رأسه نفياً وقال بشك ـ"أستبعد ذلك."


وبداخله كان يشعر بأن قلبه لم يعد عاشقاً كسابق عهده.


**************************************



تكملة الرواية من هناااااااا


تعليقات

التنقل السريع