القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية بأمر الحب الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس للكاتبة تميمة نبيل

 رواية بأمر الحب الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس للكاتبة تميمة نبيل



رواية بأمر الحب الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس للكاتبة تميمة نبيل




 الفصل الأول

يوما آخر من أيام حياتي يبدأ، يوما مسالما رائعا، يوما أخطو خطواته  المرسومة ِ بدقة، أشعة الشمس الدافئة تغرق وجهي تنبهني أن بداية جديدة قد  أهلت عليكِ فاغتنميها، انهضي من فراشك أيتها المتكاسلة فاليوم أمامك طويل،  بأهله و أصحابه، بلحظاته و نبضاته...

نهضت حنين من فراشها تتمطع بدلالٍ تمنحه لنفسها، اتجهت إلى نافذتها ذات  الستائر الناعمة، مبتسمة ابتسامتها الجميلة مغلقة عينيها وهي ترفع وجهها  الصبوح لأشعة الشمس الساخنة لتغسله بها متنعمة بتلك اللحظة الخاصة بها من  كلِ يوم، ففي جوانب غرفتها البسيطة تحظى بتلك الخصوصية التي تتلهف للعودة  اليها كل ليلة، بين جدرانها تظهر، حنين رشوان، بكل جنونها و ثورتها، لا  حنين المسالمة التي يحبها الجميع لبساطتها، حسنا، ليس الجميع تماما، فهناك  من تتمنى خنقها لا تعلم لماذا...

لكن بخلاف ذلك، فهي راضية تماما عن حياتها، كانت لتكون قاسية ضائعة لولا  عمها الغالي رحمه الله، الحاج اسماعيل رشوان، والذي جلبها الى أحضانه بعد  وفاة والديها معا إثر حادثا فظيع أودى بحياتهما في الحال.

كانت في العاشرة من عمرها حين فقدت والديها، للحظة عادت اليها ذكريات  هذا اليوم وهي جالسة في أحد أركان الغرفة ذات الجدران المتهالكة و القشور  المتساقطة، في البيت القديم، بيت الحاج رشوان الكبير، والذي كانو يسكنوه  قديما، قبل الانتقال الى الحي الراقي الذي هم فيه الآن...

تذكرت تلك الطفلة الصغيرة وهي تجلس أرضا رافعة ركبتيها الى صدرها، لا  تبكي مثل هؤلاء النساء المتشحاتِ بالسواد، قلبها يخفق بعنف و عيناها  متسعتانِ بشدة، مافهمته هو أنها لن ترى والديها مرة أخرى، وهذا هو أول  تعامل لها مع الموت، تلك الكلمة التي كانت تعرف معنها الحرفي لكن دون أن  تلقي به بالا، الى أن عايشته فجأة و بصدمةٍ منعت دموعها من التساقط حتى،  كان الخوف يفوق الحزن بل أنها تتذكر جيدا أن الحزن كان متواريا تماما بسبب  تلك الصدمة الخاطفة...

والدها الذي تتذكره بتفاصيلٍ قليلة، الأخ الأصغر للحاج اسماعيل صاحب  التجارة المتوارثة أبا عن جد، بينما كان والدها المساعد الأمين للأخ  الأكبر، ما ورثاه عن والدهما الحاج رشوان لم يكن كثيرا من تلك التجارة  البسيطة و قد اختار والدها بيع نصيبه لأخيه الأكبر، حين لم يملك مهارته في  التعامل معها مثله، لكن حين انتهى ما ورثه في وقتٍ ضئيل بسبب ظروف الحياة  القاسية عاد الى أخيه الأكبر ليعمل لديه كمساعد، و الحق يقال أن الحاج  اسماعيل كان هو السبب في النهوض بالتجارة و القفز بها درجة درجة، الى أن  أصبح الحاج اسماعيل رشوان، بينما ظل والدها في الخفاء دون تحقيق ما يذكر،  قد يكون تكاسلا ربما أو أن هذه هي مقدرته، لا تعلم تماما...

بعد وفاة والديها والتي كانت وحيدتهما سارع عمها الى ضمها الى أسرته،  وقد احتضنتها زوجة عمها كواحدة من أولادها تماما، الحاجة روعة، نعم هذا هو  اسمها روعة، فكانت الأم الثانية لها، تتذكر جيدا تلك الأيام التي مرت عليها  وهي تحاول التداوي بين أسرتها الجديدة، في البيت الكبير القديم و الذي رفض  الحاج اسماعيل بيعه تماما أو الإنتقال منه...

الى أن جاء الفقد الثاني في حياتها بعد عامٍ واحد فقط، بطريقةٍ مفزعة  مختلفة تماما عما سبقتها، حالة، مجرد حالة حدثت فجأة أمام أعينهم الصغيرة،  تركت أثرا غائرا في كلا منهم الى الآن لم يستطيع أيا منهم مداواته، إن كانت  هي، أو حور، أو مالك...

لا، لا، ليس هذا وقت تلك الذكريات الحزينة الآن، لقد تأخرت على تحضير  الإفطار ولابد أن زوجة عمها الآن ستسارع الى تحضير كل شيء، بينما تلك هي  مهمتها كما أيضا الاهتمام بمعظم شؤون المنزل فالحاجة روعة لا تسمح بأن يقوم  غيرها بشؤون البيت، الا حنين، وهي ليست تتذمر أبدا بل هي تفعل ما تفعله  حبا لعمتها و إكراما لعمها رحمه الله و الذي ستظل تترحم عليه طوال حياتها،  يكفي أن عاصم قد وافق على عملها والذي لا يتجاوز ساعاتٍ قليلةٍ من النهار،  على الا يؤثر ذلك على مساعدتها الزوجة عمها و التي أصبحت صحتها في تراجع  مستمر، ليست المساعدة عملا مضنيا في وجود سيدة و ابنتها رضا، لا تحتاج أسرة  رشوان الى خادمةٍ اضافية، لكن زوجة عمها في حاجةٍ لها هي على وجه الخصوص  والكل أدرك ذلك، حنين هي المتبقية لها من زمن الحاج اسماعيل نوعا ما، لذا  فالكل أراح ضميره بوجود حنين بجانب أمهم ليعوضونها عن انشغالهم...

و هي لا تريد ترك عملها البسيط أبدا، فبالإضافة أنها تتحمل نفقاتها  الواهية براتبه البسيط موهمة نفسها بأنها تحافظ على كرامتها بهذا الشكل،  الا أن السبب الحقيقي، هو وجوده...

الرعشة المعتادة ضربت قلبها، حبيب القلب، حلمها، حلمها البعيد المنال، سبب  أحزانها و ألامها، ذلك الوغد الذي لم يشعر بحبها يوما، بل كما تظن أنه لا  يتذكر اسمها أصلا ما أن يغادرها، في الواقع لم تبدأ في رؤيته سوى من سنةٍ  واحدة...

سنةٍ واحدةٍ من حبٍ عنيف طاحن، من طرفٍ واحد، طرفها هي، بينما الطرف  الآخر يبدو وكأن طبقةً من الصدأ قد صنعت سدا منيعا حول قلبه الأعمى و الذي  لا يراها أصلا...

تنهدت حنين بيأس...

لازال صدىء القلب كما المعتاد، لم يحدث أي تقدم يذكر، حتى أنه بالأمس مر  بجوارها و لم يلقي على التحية ككل صباح، حتى تحيته الباردة استصعبها، يبدو  أنه لا أمل...

توجهت الى مرآتها و هي تتطلع الى نفسها طويلا، هل من الممكن أن يشعر بها  صدىء القلب يوما، لكن ماذا إن شعر؟، لا فائدة، لا يجب أن تمني نفسها  فلتعرفي قدر نفسك يا حنين، وإياك و التعلق بالنجوم، صدىء القلب يستحق  الأفضل، لأنه الأفضل، لكن لماذا هي ليست الأفضل؟، هل هي انعدام ثقةٍ  بنفسها؟، أم أنه بالنسبةِ لها الشمس و النجوم؟..

نظرت الى نفسها و هي تسألها، هل أنتِ جميلة يا حنين، أيشفع جمالكِ لكِ،  نظرت إلى شعرها الأسود المعقود بإهمال في عقدةٍ متراخية خلف رأسها، فرفعت  يديها لتحلها، فانساب شعرها كشلالٍ اسودٍ ناعم متموج بجنون وصل الى آخر  ظهرها، لطالما ظنت أن شعرها هو أجمل ما فيها، هو الشيء المشترك الوحيد  بينها و بين، حور ...

لكن شتانِ بينهما، لا مجال لمقارنةٍ ستكون خاسرةٍ فيها لا محالة، عادت  لتنظر إلى عينيها العسليتين للناظر من بعيد، أما من ييقترب منهما فسيجد  شعيراتٍ زيتونيةٍ خضراء تخطط الحدقتان.

نظرت الى شفتيها المكتنزتين، إنهما منتفختين بشكلٍ زائد، هل يعتبر هذا  جذابا أم أنه مضحك، لقد قال لها شخصا لزجا في الطريق ذات يوم أنهما تبدوانِ  شهيتين للغاية، بالطبع احمر وجهها لهذا الغزل الفاحش وتعثرت أثناء سيرها،  لكنها عادت لتسأل نفسها، هل هما جميلتين أم مثار سخرية، هل عينيها جميلتين  أم ساذجتين، هل نظر الى شعرها يوما أم لم يرها كلها أصلا؟، لا تملك سوى ما  يراه، لأنه لا يعرف ما بداخلها، لم يرى ما بقلبها تجاهه، و تشك في أنه  لاحظها إطلاقا...

لم تهتم يوما بشكلها بهذه الطريقة، لم تتسائل عن مواصفاتها قبل أن  تعرفه، فهو الوحيد الذي تلهفت شوقا ليمنحها نظرة، الوحيد الذي طعن قلبها  بتجاهلله لها مرارا، وحتى أنها لم تهتم أبدا بتجاهل الناس لها، الا هو، هو  فقط، عمر...

عمر بطلها الخفي و الذي يداعب خيالها منذ عام، لا تعلم لماذا هو تحديدا،  ليس أكثر الرجال وسامة، لكنه بالتأكيد ذو جاذبيةٍ خارقة يلاحظها الجميع...

أغمضت حنين عينيها بحزنٍ مضني، الى متى ستظل معلقة بالسراب، أما من  سبيلٍ للتحرر، ثم عادت لتنظر لنفسها بدفقة الأملِ المعتادة التي تأتي بعد  لحظةٍ من شعور اليأس، وهمست لنفسها بتحدي

لن تبدأي اليأس الآن، سيشعر بكِ صدقيني، أنتِ فقط تحتاجين الى المهاجمة بدلا من الإكتفاء بدور المتفرجة و الذي لعبته طويلا...

ثم تحول الهمس إلى كلامٍ واضح وهي تخاطب صورتها في المرآة، وعينيها  تحدتدانِ ببريقهما المجنون المختبء خلف واجهتها الهادئة و التي حاولت جاهدة  رسمها طوال السنين (بيدكِ أن تحولي السراب الى حقيقة، ومن هو حتى لا  يراكِ؟، إنه مجرد شخصٌ بالغ الجاذبية، شديد الرجولة، عميق الصوت، قوي  البنيان و الشخصية، عيناه ذات سحرٍ أحمق، حتى حواجبه، يالهي لديه حواجب من  أروع ما رأيت، سميكة حادة وكأنها مرسومة، تكمل نظرته ليبدو كالصقر، أستطيع  المتابعة الى مالا نهاية، لكن ليست تلك نقطتنا الآن، النقطة الأساسية في  الوضع أن تنتزعي طبقة البلاهة الفطرية التي تصيبك ما أن يقترب منكِ، تعقلي  فأنت في الخامسة و العشرين، لست مراهقة، ماذا إن مر بقربك شابٌ رائع، عادي  جدا، مجرد رائع في قوافل الرائعين، لكن مع ذلك في النهاية يظل رجلا).

قطعت كلامها وهي تخفض كتفاها إحباطا ثم تتابع بقنوطٍ هامسة (خرافي)

تركت مرآتها و ذهبت لتجهز نفسها فلو تركتها على هواها لن تكف عن محادثة صورتها في المرآة ككل يوم، متبحرة في جمال سيادته...

فارتدت ملابسها المعتادة و المكونة من بنطالها الجينز و السترة الرياضية  التي تعلوه، ثم جمعت شعرها في عقدته المعتادة، لتنتهي بوضع نظارتها  المعتادة، نظرت الى نفسها في المرآة بحنق وقالت وهي تمط شفتيها كأمٍ تؤنب  ابنتها (استمري في ارتداء هذه الملابس، ثم قابليني إن عبّرك أو القى اليكِ  نظرة).

زفرت بغضب وهي تعد نفسها بأن غدا هو يوم ارتداء ثوبا كباقي المصنفاتِ كفتيات ثم اتجهت لتحضر حاسوبها المحمول و حقيبتها...

خرجت حنين من غرفتها الموجودة في الطابق الثاني من منزل اسماعيل رشوان  المبهر في روعته من الخارج فقط، أما في الداخل فهو يبدو أقرب قليلا للبيوت  البسيطة حتى يكاد أن يكون شعبيا، بسجاده الأمر قديم الطراز، النجف المبهرج و  المتدلي من كل مكان تقريبا في المنزل، اللوحات الفنية الرخيصة التي تزين  الجدران، حتى أن بعضا منها كان عبارةٍ عن لوحات كانافا لقططٍ و بطاتٍ  مشغولة يدويا ليدِ أمٍ حانية شعبية الذوق، ثم قام أحدهم ببروزة هذه اللوحات  بإطارتٍ غالية الثمن مذهبة لتنتشر على جدران أروقة المنزل...

كانت حنين تسير في الرواق الطويل حتى سمعت من أوله صوت الموسيقى الشرقية  الصاخبة و التي تنبعث كل يومٍ في نفس الموعد، من نفس الغرفة، غرفة حور...

أكملت حنين سيرها حتى وصلت الى الغرفة ذات الباب المفتوح جزئيا، فتوقفت و  نظرت من على بعد، كانت تتمايل بخصرها على النغمات الشرقية التي توازيها  سحرا، عقدت حنين حاجبيها وهي تتأملها صامتة، إنه العرض اليومي لحور في  الصباح، لو كان بيدها لكانت نامت حتى وقت الظهيرة، لكن القرار الوحيد الذي  أصر عليه اسماعيل رشوان في هذا المنزل هو أن يستيقظ الجميع في وقتٍ واحد  قبل اتجاهه الى العمل حتى يتناول الجميع الإفطار سويا، نظرا لأنه لم يكن  يعود هو و ابنه الهمام عاصم الا في وقتٍ متأخرٍ من الليل...

لذا فقد أصر الحاج اسماعيل على رؤية ابنائه صباحا من كل يوم، فبهذا  يعتقد أنه قد لم شمل تلك الأسرة المشتتة، ومن بعد وفاته واظب عاصم على نفس  العادة، ومن يجرؤ على مخالفة عاصم رشوان...

من يصدق أن ذلك القوام المتمايل قد حمل طفلا يوما، و أما شعرها فهو ليلة  طويلة سوداء يصل الى خصرها بنعومةٍ قاتلةٍ كحد السيف، و بالرغم من أن حنين  و حور قد تشاركتا في الشعر الأسود الخلاب، الا أن حنين ترى فارقا ضخما بين  شعريهما، لا تعرف ما هو هذا الفارق، قد يكون لأنه مجرد شعر حور؟، لا تعلم  حقيقة، ها هي قد عادت لنفس النقطة، كيف تبدو؟..

حور رشوان، في السادسة والعشرين تكبرها بعامٍ واحد، منفصلة (على وشكِ الطلاق منذ سنتين)

ولديها طفل في الثالثة، معتز، أحب افراد هذه العائلة الى قلب حنين...

حور لازالت الى الآن مثار إعجاب كلِ مجتمعٍ تذهب اليه او تختلط به، إنها  حالة غريبة من الإغراء و الأنوثة و العذوبةِ و الدلال الملاوع، منذ صغرها  وهي قادرة على لف من تريد حول إصبعها بغمزة، بحاجبٍ يتلاعب مع نظرتها  اللعوبة...

اختلطو جميعا ليكونو تلك المخلوقة الراقصة أمامها وهي مغمضة عينيها ولا تشعر بما حولها...

رنين أساورها الذهبية له مفعول السحر ليكمل تلك الصورة الحية أمامها،  بالرغم من أن حور خريجة أحد أعرق المدارس الخاصة في البلد و اتقانها لعدة  لغاتٍ حية، ملابسها على أرقى مستوى وتواكب أحدث صيحات الموضة، الا أن سحرها  الخاص يتمثل في بعض الرتوش الشعبية المتوارثة، مثل رنين الأساور الذهبية  التي تصر على ارتدائها، ضحكتها الرنانة التي تتنافى مع مجتمعات النوادي  الراقية و افراد الطبقة المخملية التي تخالطها، ألوان ملابسها الصاخبة  الحارقة، حركة حاجبها المتلاعب أثناء كلامها، حركات يديها المتراقصةِ مع كل  كلمة ٍ وكل نظرة، العجيب في الأمر أن لا أحد يمتعض منها أبدا، الجميع  يسحرون بها و طبيعتها التي لا تميل للتمثيل في أي شيء، وكأنها أدركت أن  اسلوبها الشعبي الفطري هو سر انجذاب الكل اليها، فأتقنته و زادته لفا  ولوعا...

نعم، إن كانت حور تتميز بشيءٍ واحد، فهو أنها منطلقة على طبيعتها، لا  تتصنع أبدا لكنها تضيف المزيد و المزيد من طبيعتها حتى باتت حالة خاصة  مسماة. حور، لا يقمعها شيء، لا تهاب آخر...

ماعدا ذلك الضباب الأسود الذي غطى روحها منذ ذاك اليوم، انطفأ بداخلها  شيئٌ و كأنها تدور كالمهووسة في الدنيا تبحث عن شيءٍ ولا تجده، توهم من  حولها بأنها مسيطرة على نفسها تماما، بينما بداخلها ضياعا لا يراه أو يفهمه  الا حنين ومالك، أما عاصم فلا يرى أبعد من تهورها الأهوج لذا يعاملها  بقسوةٍ توازي قوة ذلك التهور

قالت حنين بصوتٍ عالٍ ليعلو فوق صوت الموسيقى الصاخبة (صباح الخير يا حور).

لكن حور كعادتها كل صباح لا تكترث للرد، وهي تتابع تمايلها الخلاب مغمضة عينيها...

تحركت حنين بتذمر وهي تترك التحليل اليومي لطبيعة حور المحيرة، ثم اتجهت  تلقائيا الى تلك الغرفة الحبيبة إلى قلبها، غرفة ذات رسومٍ كرتونيةٍ على  الحائط الأزرق و الأخضر، أين هو الصغير الحبيب، ها هو يجلس في نفس الركن  الذي يحبه من الغرفة، لا أحدا يعلم أبدا سر اختياره لهذا الركن تحديدا، فهو  يجلس فيه معطيا ظهره للغرفة، ناظرا الى الحائط...

ابتسمت حنين الى المربية الخاصة التي تلازم معتز منذ عامين، ثم دخلت حتى وصلت اليه و هبطت لتتربع بجواره ككل صباح

انحنت لتقبل وجنته وهي تلاعب شعره الأسود الناعم

لم يتحرك معتز ولم ينظر اليها، الا أنه بدأ في الإستجابة المعتادة عند  إحساسه بحنين، فقد أخذ في التمايل الى الأمام و الخلف. ناظرا اليها مبتسما  قليلا...

شعرت حنين بغصةٍ محرقةٍ في حلقها فضمته بشدة ٍ الى صدرها ككل يوم، فهو يشعر بها ويفهمها...

أخذ معتز ينادي اسم حنين باشارة يده و التي علمته اياها، فابتسمت حنين و  ردت عليه ردا مطولا بأصابعها، قد لا يفهم معظم ما تقوله، لكن بالتدريب  سيستطيع...

ظلت تلعب معه وتغني له بيديها العشر دقائق التي تخصصها له من كل صباح،  وهي تشعر بتأنيب الضمير لأن بإمكانها أن تقضي معه مزيدا من الوقت، لكنها  تنشغل عنه دائما، فما أن تعود من عملها تضيع في واجبات المنزل، فيأتي موعد  نوم معتز قبل أن تستطيع الذهاب اليه، لكن ذلك لا يمنع أن في معظم الأيام  تحاول جاهدة انجاز ما عليها بسرعة لتذهب الى غرفته قبل نومه و تحكي له قصصا  مرتجلة من مخيلتها وهو مختبىء في أحضانها...

نهضت على مضضٍ وهي تبتسم له بحزنٍ مودعة فالواجبات الصباحية لن تنتظر،  وهي لا تريد استفزاز عاصم المتذمر اصلا من عملها، بدعوى انها لا تحتاجه و  ان كل طلباتها مجابة، لكن السبب الحقيقي هو ان الحاجة روعة لا غنى لها عن  حنين، نزلت حنين الدرج بسرعة قافزة كل درجتين معا الى أن اصطدمت بالكائن  الضخم الذي يلوح لهم في المنزل كل صباحٍ فقط...

عاصم رشوان، الأخ الوسيم و الحبيب الغالي لأمهم دون منافس، بالرغم من  سنوات عمره الثلاثة و الثلاثين، الا إنه لا يزال مدللها الأول، لكن الحق  يقال أن هذا الدلال لم ينقص من رجولته يوما، فعاصم رشوان مثال الرجولة  الخشنة، وهذا ليس إطراءا، فياليت دلال أمهم كان منح قلبه الجليدي بعضا من  الرقة أو الحنان...

عاصم رشوان من أشرس مقاولين سوق المعمار، لا يرحم أبدا، في ظرف سنواتٍ  قليلة كان السبب في زيادة ثروتهم الى ما وصلت اليه الآن بعد ان اقنع والده  بالبدء في اعمال المقاولات والمعمار بالاضافة الى التجارة القديمة، بالرغم  من أن الحاج اسماعيل رشوان كان قد كون ثروة لا بأس بها، الا أن عاصم رشوان  كان له نصيب الأسد في الزيادة الأخيرة...

صحيح أن لا غبار على سمعته لكن شراسته و قساوة قلبه كانت السبب في القفز فوق المنافسين، إن لم نقل دهسهم، لكن كلا بالقانون...

نظر اليها عاصم بغضب بعد أن اصطدمت به مبعدا نظره عن الأوراق التي كان ينظر  اليها وقال بفظاظة (انظري أمامك يا حنين، وكفي عن احلام يقظتك)

ثم تركها و أكمل طريقه وأصابعه تتلاعب بحباتِ السبحةِ التي يمسك بها، بينما يعاود النظر إلى الأوراق في اليد الأخرى...

سبحة عاصم رشوان، السبب الظاهري لكل الخلافات بينه و بين خطيبته الموقرة  دانا، ابنة الحسب و النسب و التي كان ارتباطها بعاصم هو أعظم ارتباطٍ بين  المال و السلطة...

لكن الخلافات الجوهرية بين عاصم ودانا أصبحت تصيب الجميع بالملل، لكن  بالطبع ليس هناك من أملٍ في فسخ الخطوبة، بالنسبةِ له، عاصم لن يسمح حتى  بالتفكير في الموضوع، كما أنه يعاملها بطريقةٍ تجعلها تلهث خلفه...

و آخر كل خلافٍ يتحدد أن دانا تريد عاصم أن يتخلى عن الإمساك بالسبحةِ  التي لا تلائم وضعه بين معارفها، لكن عاصم لم يستسلم و لم يترك سبحته، فهو  إن كان يتميز بشيءٍ واحد، فهو أنه تماما كحور لا يتصنع شخصا غير شخصه...

ولا تعرف كيف من الممكن أن تنجح حياته مع تلك المدعوة دانا والتي لم  تتوانى عن افهامها قدرها جيدا في هذا المنزل، لذا فهي تحاول تجنبها، فمكانة  دانة كزوجة عاصم المستقبيلة، مكانة لا تمس، لذا يجب أن تأقلم نفسها على  عدم تجاوز حدودها التي تعرفها جيدا...

همست بفتور وهي تنظر اليه (صباح الخير لك أيضا يا عاصم).

لكنه طبعا لم يسمعها، أو لم يهتم، تنهدت وتابعت نزولها لكن بعد عدة درجات سمعت صوته يقول بهدوء (صباح النور يا حنين)

التفتت اليه لتجده يتابع صعوده دون أن ينظر اليها، تفكر في نفسها بوجوم...

هل حزنت حين دخل عاصم المنزل يوما ليعلن بمنتهى الهدوء انه قد وجد شريكة الحياة المستقبلية؟..

ربما، لا تعلم حقا لماذا آلمها هذا الموضوع، كانت طوال سنوات تواجدها في هذا البيت، لا تسمع من زوجة عمها سوى كلمة.

يا زوجة ابني البكر، وترى ابتسامة عمها المصدقة على اللقب، لم تكن تظن  نفسها يوما من النوع العاطفي، لكنها كانت مقتنعة بان عاصم هو قدرها، قدرها  المناسب تماما لإعطاء الصبغة الرسمية لوجودها هنا بين أسرتها الوحيدة التي  لم تعرف غيرها، عاما بعد عام، كان الحرج يستبد بها أكثر، من وجودها بينهم  دون مقابل، لذا كانت تحاول جاهدة أن يكون المقابل هو تفانيها في خدمة  الجميع، حتى تحولت تلك الخدمة الى أمرٍ مفروغٍ منه...

لكنها لم تكن مستاءة أبدا، بل على العكس كانت تفعل بكل حب لكل فرد من  أفراد أسرتها، منتظرة زوال الإحراج نهائيا بزواجها من عاصم فيصبح بيتها  عمليا ككلِ فردٍ هنا، لم يكن ذلك الزواج المرتقب ليكون مكلفا لها سوى في أن  تنتقل من غرفتها البسيطة الحبيبة، الى غرفة عاصم، لطالما ظنت أن الأمر ما  كان ليكون صعبا أبدا، لكن حين أعلن عاصم نيته في الخطبة، أبعد بذلك فرصتها  الأخيرة في الحياة بكرامة في هذا المنزل...

حين نزلت حنين الى طاولة الطعام المهيبة، وجدت مالك، أخاها الحبيب قبل  أن يكون ابن عمها، التفت اليها ما أن سمع صوتها فنظر اليها مبتسما يقول  برقة (صباح الخير حنونة)

نظرت طويلا الى عينيه المنطفئتين و المبتسمتين، فابتسمت بشقاوةٍ لترد عليه (صباح النور يا مالك، دائما مبكرا)

ابتسم مالك وهو يومىء برأسه قائلا بتشدق (بالتأكيد يا رأس الوخم، فأنا لست مثلكما أنتِ و سيدة الصبايا).

امتعضت حنين هي تريح كتفها من حقيبة حاسبها لتضعه على الكرسي المجاور  لتقول بتهكم (لا تجرؤ على أن تقارنني بالفنانة، فأنا مستيقظة منذ زمن)

قال مالك مبتسما (وأين هي؟، ألم توقظيها؟)

مطت حنين شفتيها وهي تنظر اليه رافعة حاجبها دليل الاستهزاء و هي تهز  كتفيها و ذراعيها في حركةٍ راقصة لتعلمه بما تفعل حور ككل يومٍ في هذا  الوقت.

لم يملك مالك نفسه من الضحك على منظر حنين و هي تخبره دون كلام بما تفعل حور، ثم سأل (العرض اليومي؟)

أومأت حنين برأسها، ثم قالت بحنق (أشتهي مرة انزل لأراها قد سبقتني الى  المطبخ ولو من باب المجاملة، على الأقل لتتعرف على تلك الغرفة المجهولة  بالنسبة لها)

قال مالك بخفة (لا اريد النصح فيما لا أعرف، لكن على ما أتذكر ان حور أوشكت  يوما على أن تحرق المنزل بساكنيه ذات يوم، وكانت فقط تقوم بقلي البطاطس).

شردت عينا حنين الى ذلك اليوم التاريخي، ففكرت وهي تومىء برأسها ثم قالت  بعد تفكير عميق (نعم، معك حق، اذن فلنمحي تلك الأمنية المتعلقة بدخولها  المطبخ، حياتنا أهم من القيمة المعنوية للمشاركة، الرقص أفضل لنا)

أومأ مالك برأسه غامزا وهو يقول (ها قد الزمتك الحجة)

قالت حنين تمط شفتيها (نعم مالك، اشكرك على الإفادة العميقة)

فقال مالك برقة (هلا دخلتِ الى أمي وكففتِ عن الثرثرة، لقد تعجبت من تأخرك في النزول اليوم).

أدت حنين التحية العسكرية وهي تقول اثناء توجهها الى المطبخ (ذاهبة على الفور، سيد مالك)

ها هي الحاجة روعة مثالٍ لشكل الأم التقليدي بجسدها الممتلىء قليلا و شالها  الملفوف حول رأسها و وجهها الحاني المبتسم، ونظاراتها الحنونة، جائت حنين  من خلفها لتحاوط خصرها الممتلىء بذراعيها، و تقبلها على وجنتها فشهقت زوجة  عمها بفزع وهي تضع يدها على صدرها، ثم قالت تضحك (الن تكفي عن شغبك هذا  أبدا، لقد كبرت يا حنين).

قالت حنين وهي تتمتع باحتضانها ككلِ يوم (ولو صار عمري سبعين، سأظل طفلتك دائما)

تنهدت الحاجة روعة و قالت مبتسمة بحنان (ومن سيكون حيا وقتها، فليعطك العمر الطويل يا ابنتي)

انقبض قلب حنين وهي تسمع صوت الفراق من جديد، لكنها رفضت الاستسلام له، هذا اليوم سيكون سعيدا و هي قادرة على ذلك

فقالت بتصميم (كفى كلاما وهيا الى العمل، نريد أن نطعم الشعب الجائع).

شمرت حنين كمي سترتها وهي تضع براد الشاي على النار متجاهلة مسخن الماء  الكهربي، فالحاجة روعة مؤمنة بأن طعم الشاي لا يكتمل ولا يضبط المخ الا حين  يُعد في البراد...

و اثناء خفقها للبيض، سمعت حنين صوت مربية معتز تهتف غاضبة و صوت خطواتها  يضرب السلالم، فرفعت رأسها وهي تعقد حاجبيها بفزعٍ ناظرة الى الحاجة روعة  المفزوعة هي الأخرى، فهتفت حنين بخوف (ليس مجددا).

ثم تركت ما بيدها وهي تخرج من المطبخ جريا، ولديها فكرة واضحة عن المشهد  الذي ستراه و بالفعل ما أن خرجت حتى لمحت طيف معتز الصغير و هو يجري عاريا  مبللا بالماء بعد استحمامه، بسرعةٍ لا تتناسب مع خطواته المتعثرة.

فزادت حنين من سرعة جريها عبر بهو المنزل الكبير وهي تراه بفزع يخرج من  بابه المفتوح دائما لا تعلم لماذا، لطالما أخبرتهم أن الوضع قد تغير ولا  أحد يترك أبواب البيوت مفتوحة هكذا مثل الزمن الزمن القديم و خاصة في وجود  طفل...

صرخت حنين بفزع وهي تلحقه مع المربية الراكضة خلفه (يالهي، سيبرد إن خرج مبللا في الهواء).

لكن هيهات أن يسمعهم معتز الذي تمكن من الوصول إلى الباب قبلهم و خرج  منه إلى الحديقة، وكانت حنين خلفه في لحظةٍ واحدة وتمكنت من التقاطه في  أحضانها وهي تكبل حركته منحنية عليه و شعرها الأسود الطويل المفكوك من  ربطته بسبب الجري يتطاير من حولها بجنونه ليكمل من جنون المشهد المجاني في  الحديقة صباحا...

حملت حنين معتز الذي كان يضرب بساقيه معترضا متلويا يريد أن يكمل طريقه  الى خارج الحديقة من بابها المفتوح بكلِ غباء ساكني المنزل الذين يظنون  أنفسهم لازالو يسكنون الحي القديم حيث الأبواب تترك مفتوحة للجيران عادة...

كانت المربية قد وصلت إلى حنين في تلك اللحظة لاهثة وهي تلف معتز  بالمنشفة المزغبة البيضاء من رأسه الى أقدامه، فرمقتها حنين بغضب وهي تلقي  على رأسها باللوم بينما المربية تتلعثم وتخبرها أنها ما أن تستدير لتأخذ  ملابس معتز اثناء استحمامه حتى يغافلها ليخرج من الحمام جريا منذ أن تعلم  نزول السلم...

عادت حنين تصعد الدرجات القليلة أمام باب البيت لتدخل حاملة معتز الملتف  بالمنشفة في أحضانها، و الحاجة روعة تقف في الباب مرعوبة من أن يكون معتز  قد التقط البرد...

و وصل مالك حينها ليلتقط معتز من بين يدي حنين ليرفعه عاليا وهو يضحك قائلا  (ستتسبب في اغماء الفتيات من بنات الجيران بما تفعله كل مرة)

قالت حنين بغضب و نفاذ صبر، (هذا ليس مضحكا يا مالك، فلندخل قبل أن يمرض)

.

ابتسم وهو ينظر اليها بجنونها و شقاوتها، تجري خلف طفلٍ ضاحك عاري تماما...

عيناها تبرقانِ غضبا، و شعرها الهمجي يسرح من حول رأسها بفوضى محببة، اتسعت  ابتسامته وهو يراها تنجح في مهمتها المنشودة و تقبض على الصغير العاري  بغير تهذيب، عيناه تبرقانِ في مضاهاة لبريقِ عينيها، شاردتانِ فيها و شفتاه  منفرجتانِ قليلا بنفسٍ خافت...

ودون وعيٍ منه أخذت يلامس بابهامه. الخاتم الفضي الملتف حول اصبع  الوسطى، رآها تبتعد حاملة الطفل بين ذراعيها وهو متعلق بعنقها ملتفا  بمنشفته، للحظةٍ أراد أن يسأله عن عطرِ عنقها الطويل...

عاد ليلف الحلقة الفضية المنقوشة حول إصبعه، هامسا بحركةِ شفتيهِ دون صوت، خطيبتي، زوجتي!

ثم وعت عيناه لاختفائها عن عينيه فابتسم اكثر وعيناه تلمعان محركا  سيارته الواقفة على الصف الآخر من الطريق أمام منزلهم، لينطلق بها ناهبا  الأرضا بصوتها العالي...

كان الإفطار تماما ككل يوم، عاصم يقرأ أوراقه أو ينظر الى هاتفه الخاص،  الحاجة روعة منشغلة بإضافة أشياء مختلفة الى طبق كلا منهم، حور تتلاعب  بمحتويات صحنها عينيها تسبلانِ بشرودٍ في البعيد، مالك ينتاول طعامه بهدوؤه  الذي يجعل هذا العالم مكانا أفضل بوجود أمثاله...

بينما تظل حنين تراقبهم في صمت، تهوى قراءة ما بداخل كلا منهم، دون أن  يستطيع أحدا منهم قراءة ما بداخل الآخر، وبالطبع قراءة ما بداخلها...

التفت اليها عاصم ليقول بصرامة (هيا ياحنين لآخذك معي)

هزت حنين رأسها نفيا دون أن تنظر اليه وهي تقول بحذر (لا، سأستقل المواصلات)

أوشك على أن يسمعها بعضا من حماقته المعتادة لكن مالك أمسك بذراعه وهو يقول برفق (اتركها يا عاصم، فلتفعل حنين ما تحبه).

ابتسمت حنين وهي تنظر الى مالك الحبيب بامتنان و الذي بدوره ابتسم لها،  فلوحت له وهي تجري الى الباب يرافقها صوت عاصم من خلفها يقول بغضب (لا أفهم  لماذا تصر على استقلال المواصلات العامة، الن تكف عن مظاهر الكفاح تلك؟،  ماذا تريد أن تثبت، وماذا سيقول عنا الناس ونحن نتركها تستقل المواصلات  العامة بينما نمتلك أكثر من سيارة).

لكن حنين كانت قد أغلقت الباب خلفها دون أن تسمع رد مالك، وكان سببها  الحقيقي الا يراها عمر فيظن أنها مرتبطة، خاصة وأنه إن سأل فسيعرف بأن لا  أخوة لديها في الواقع، وهي تريد أن تمنحه كل الظروف الملائمة ليتقدم  بالخطوة الأولى...

أملا واهيا جديدا يليق بمراهقة، لكن اليس هذا هو الحب؟، يجعل الجميع مراهقين...

أثناء مشيها اليومي المعتاد الى محطة الحافلات، و ما أن خرجت من حيهم  الراقي و دخلت إلى الطريق العام حتى سمعت صوت أقدامٍ خلفها، ارهفت السمع  وهي تتباطأ فتتباطأ معها الخطوات التي كانت لاهثة خلفها، لم تمنح نفسها  الفرصة للخوف فليس هناك ما يخيف، الشارع مكتظ في هذا الوقت من النهار و لا  سبيل لأحدٍ أن يقوم بشيءٍ متجاوز، لا بد أنه شخصٌ يسير خلفها بالصدفة، لذا  أخرجت الأمر من بالها وهي تعود الى الإسراع في خطاها، لتجد أن الخطوات تسرع  خلفها من جديد...

الآن بدأ قلبها يخفق خفقة زائدة، إلى أن سمعت صوتا يهمس من خلفها و الذي اقترب كثيرا من أذنها دون أن تدري (أتعلمين أنكِ جميلة؟)

اشتعلت غضبا وهي تتأكد أنه مجرد سمج ممن لا عمل له على الأرجح الا أن  يستيقظ من يومه صباحا ليضيق على الفتيات حياتهن و كأن هذا هو ما ينقصهن...

سمعت همسة أخرى منه وهو يلهث خلفها (مقوماتك في هذا الجينز تبدو).

حينها لم تتمالك نفسها و هي تلتفت اليه وقد فارت بداخلها النزعة الغير  متحضرة القديمة، و تناست تماما التصرف كأي أنثى محترمة خاصة و هي متأكدة  تماما أن الحركة التالية له ستكون مد يده، لذا سبقته هي قبل أن يفعلها و  مدت يدها دون تفكير لتصفعه بكلِ قوتها صارخة بكلمةٍ قديمة من أيام الحي  الشعبي...

للحظة لم يصدق نفسه وهو ينظر الى تلك القصيرة أمامه والتي صفعته للتو،  والتي لم تمنحه الفرصة ليفعل شيء بل قفزت في أول سيارة أجرة مرت أمامها في  تلك اللحظة كإنقاذٍ من السماء...

صفقت الباب خلفها وصدرها يخفق بانفعال، عاقدة حاجبيها بغضب، لو كان هذا  السمج قد فعل فعلته في حيهم القديم لربما كانو الرجال قد طحنوه بسبب ما  قاله، فهي تتذكر أشياء مشابهة من هذا القبيل فيما مضى...

أخذت نفسا عميقا وهي تحاول أن تنسى هذا الموقف السخيف كله، لكم تمنت لو  كان عاصم موجودا معها على غير العادة، فهو لا يتفاهم، يفكر بقبضته أولا ثم  يسأل عما حدث، ابتسمت وهي تهدأ قليلا متخيلة هذا الموقف و عاصم يتصرف  معه...

كان لا يزال واقفا وهو يغلي حنقا من تلك القزمة التي ضربته و هربت،  استدار و هو يتوعدها في سره، لكنه اصطدم بصدرٍ صلبٍ ضخم، رفع رأسه ليواجه  عينين شرستين بريقهما غريب مريب، لكن بملامحٍ جامدةٍ كالصخر

ارتبك للحظةٍ ثم قال بسفاقة (ماذا تريد يا هذا؟، ابتعد عن الطريق).

حاول أن يتفاداه ليمر لكن ذلك الجدار لم يتزحزح وهو يسد عليه الطريق،  فرفع السمج رأسه استعدادا للشجار لكن نبرة هادئة صدمته (هل تعرف ماذا فعلت  للتو؟)

عقد السمج حاجبيه وهو ينظر بريبةٍ الى ذلك الغامض أمامه و الذي تابع بنفس الهدوء (لقد تحرشت بزوجتي)

اتسعت عيناه خوفا ناقض ثقته المقززة التي كان يتحدث بها منذ لحظات، وتابع  الجدار كلامه مبتسما قليلا دون مرح (وهذا عندنا ليس له سوى تصرف واحد).

وفي لحظةٍ خاطفةٍ أمسك بقبضتيه الضخمتين بمقدمة قميص السمج ليبعد رأسه  إلى أقصى الوراء، ثم يعود بها بمنتهى السرعة لينطح بجبهته جبهة السمج  المذهول، أو بمعنى أصح الذي كان مذهولا قبل هذه النطحة، والتي سقط بعدها  ككومةٍ على الأرض...

نفض الرجل يديه ثم ركل ساق المتكوم أمامه ليعبر من فوقه وسط ذهول المتجمهرين ممن بدأو في التجمع حول ما يحدث، و في لحظةٍ اختفى...

سارت الى داخل مقر عملها و الذي تخصصت فيه كمصممة رسوم متحركة، مطرقة  برأسها كالعادة بعد أن حيت حارس الأمن بإيمائة وابتسامة ودودة، سارت إلى  المصعد لتقف عنده منتظرة، عيناها متعلقتانِ بأرقامه...

الى أن سمعت وقع الخطواتِ الرزينة من خلفها، كيف يمكن لصوتِ خصواتِ  هادئة على الأرض الناعمة المصقولة أن يكون لها تأثير مدوي بداخل قلبها،  خطوة، خطوتين، ثلاثِ خطوات، ثم العطر الصادم المميز، نعم، إنه هو، تستطيع  تمييز خطواته دون أن تراه، و قف خلفها مباشرة، و سمعت الصوت العميق الرنان  وهو يقول (السلام عليكم).

ردت عليه بكلمةٍ لم يسمع حروفها حقا، دون أن تلتفت حتى، إن التفتت الآن  فستفضح نفسها بوجهها الذي يكاد أن ينفجر الآن من شدة سخونته، يالهي ماذا  أصابها، إنها ليست مراهقةٍ لتشعر بمثل ما تشعر به الآن...

سيستقلانِ المصعد معا؟، أنها على وشكِ الإغماء من شدة الدوار التي  أصابتها، ليست المرةِ الأولى التي يستقلانِ المصعد فيها سويا، وكل مرة تبدو  أكثر حماقة من المرة التي سبقتها، مرة تتعثر ومرة تسقط ما بيدها، ومرة خطت  فوق قدمه وهي تسبقه للخروج بسرعة، بالرغم من أنه كان يحاول أن يفسح لها  الطريق لتتقدمه...

زفرت بصمت وهي تفكر بالتظاهر بانها نسيت شيئا ما لتهرب من هنا، الا أن  وصول المصعد قطع عليها خطتها و هو يفتح أبوابه، ظلت متسمرة مكانها لا تعرف  كيف تتصرف، الى أن جاء الصوت العميق من خلفها يقول بما يشبه التسلية  (تفضلي، أنتِ أولا)

استطاعت بوضوح سماع تلك التسليةِ المختلطة بصوته الرزين، هل تذكر ذاك  الموقف وهي تدهس قدمه و كأنها طفلة حمقاء مصصمة على الخروج أولا، لا تعتقد  أنه يتذكر أي شيءٍ يخصها...

أخذت نفسا عميقا وهي تحاول جاهدة السيطرة على عضلاتِ جسدها التي تبدو  على وشكِ التفكك، دخلت متثاقلة و كأنها تمن عيه بدخولها، ثم لم تجد بدا من  أن تستدير ما أن دخلت، ليقع نظرها عليه...

للحظاتٍ توقف الوقت كالعادة، و طافت عيناها الحنونتين بحنينٍ دافىء فوق  ملامحه القريبة الى القلب، انه طويل. جذاب جاذبية رجولية خارقة، عيناه،  عيناه حين تصطدمان بعينيها تبدوانِ كلحنٍ يسافر بها الى البعيد، للحظةٍ  واحدة تعلقت عيناهما، للحظةٍ واحدة تلكئت عيناه لا تبتعدانِ ككل مرة، ثم  انخفضت العينانِ العسليتانِ لتمسحا وجنتيها الحمراوين، انتفضت بشدةٍ وهي  تشعر و كأنه قد لمس وجنتيها بالفعل، أطرقت برأسها سريعا وهي تحاول جاهدة  التنفس دون جدوى، وفي أحدى محاولاتها لأخذ نفسا عميقا سعلت بشدة، تبعتها  عدة شهقات متتالية، حتى دمعت عيناها، فمدت يدها لتبعد النظارةِ عنهما...

شعرت به يقترب منها خطوة، فالتصقت بمرآة المصعد و سعالها يزداد بغباء،  وما كاد أن يوقف قلبها هو انحنائه اليها قليلا وهو يهمس بقلق، (هل أنتِ  بخير، حنين)

توقف سعالها، و اتسعت عيناها فبدتا بجمال بدرينِ مكتملين وهي تنظر اليه  بصدمة، إنه يعرف اسمها، صدىء القلب يعرف اسمها، عمر لفظ باسم حنين...


3وال2=رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل  

ارتبكت صبا للحظة وهي تسمع ذلك المديح الغير صريح من ذلك البشري  الشديد الوسامة المتمثل أمامها بينما عيناه تطوفانِ بعينيها دون أن تتجرآ  أكثر من ذلك، حتى أنها في تلك اللحظة البسيطة شعرت به يتوه سابحا في  بحورِعينيها فقط، دون أي شيءٍ آخر، ارتبكت، واحمرت خجلا بالرغم من أنها  اعتادت على نظرات الإعجاب الهادىء بجمال وجهها، لكن هذا الشخص المفزع  بهيبته أثار مشاعرا غريبة من التوتر بداخلها، رفعت يديها مرة أخرى وهي  تتأكد من اعتدال حجابها ثم رفعت نظرها تحاول أن تعود لإتزانها المعروفة به  ثم قالت بهدوء (السلام عليكم، أية خدمة؟).

أفاق عاصم الذي كان لايزال مسحورا بحلمٍ جميل من النعومة و الدفء، الى  أن سمع الصوت الرائع يعيد السؤال مرة أخرى، فهز رأسه هزة غير مرئية ليستعيد  نفسه من جديد ثم قال و كأنه يسأل نفسه هامسا (الآنسة، صبا عمران؟).

للحظة أدركت لهجته الشاردة قليلا، هذا الشخص يتسائل إن كانت صبا، والتي  يعرفها قبل أن يراها، هذا الشخص جاء خصيصا لها، لهدفٍ محدد، والآن تعتقد  أنها بدأت تتعرف هويته، اذن فقد بدأت الحرب الفعلية، وكانت تتسائل متى  ستندلع نيرانها، رفعت ذقنها عاليا و ارتدت نظرتها الحازمة، تنظر اليه في  عمق عينه وكأنها فتاة أخرى غير تلك الخجولة التي فتحت الباب منذ دقيقة  واحدة، ثم قالت مبتسمة بهدوء (أعتقد أنني أتشرف الآن بالنظر الى، السيد  عاصم رشوان، إن لم أكن مخطئة).

اتسعت عيناه قليلا، لكن الإندهاش اختفى في لحظة ليعي نظرة التحدي التي  ظهرت جلية في عينيها الرائعتين، ارتفع حاجبه قليلا و ظهر طيف ابتسامة ساخرة  على زاوية شفيه، القطة الصغيرة أمامه تستعد لإبراز مخالبها، وسيكون أكثر  من سعيد لأن يقلمها لها، لا تخلو من الذكاء بحيث أدركت شخصه، وحين أدركته  أخفت الخجل والرقة بمهارة تثير الإعجاب، ابنة المستشار ليست سهلة أبدا،  إنها خصمٌ، لطيفٌ للغاية، ويبدو أنه سيحب جدا التعامل معها على عكس غضبه  منذ ساعاتٍ قليلة، لم تكن تلك الفتاة المستفزة التي توقعها قبل أن يراها بل  هي نسمة ما أن فتح الباب أطلت تلامس وجهه بنعومة، للحظةٍ أراد أن ينسى أمر  ذلك البيت الذي جاء من أجله، أراد أن يتأملها فقط طويلا الى أن يتشرب كل  ذرة من هذا الجمال الملائكي أمامه، أراد أن يتوه أكثر في سحر عيني الغريبة  التي لا يعرفها بعد، و ليست تلك التي الفيصل بينهما هذه الأرض التي يقفانِ  عليها الآن، والتي تحولت من نسمةٍ إلى ريحٍ عاتية ما أن أدركت شخصه، كله  فقط من نظرة عينيهاأخفض نظره قليلا و ابتسامته الجميلة التي عادة تسحر  الجنس الناعم به دون قصدٍ منه، تزداد تدريجيا دون أن يعرف سببا وجيها لذلك،  تبدو الأيام القادمة مثيرة للإهتمام، رفع رأسه لينظر اليها من جديد محاولا  السيطرة على ابتسامته المتسلية، ثم قال بصوته العميق الرخيم (وعليكم  السلام و رحمة الله و بركاته، هل سبق أن تعارفنا يا آنسة، صبا).

ابتسمت هي الأخرى ببرودٍ وتحدي، صامتة تتطلع اليه من طولها الأقصر منه  بحوالي الشبرين، ومع ذلك ارتفاع ذقنها المستفز و نظرتها التي ضيقتها بتحدي  جعلته يشعر بأنها تفوقه طولا، أجابته بصوتٍ أثار بداخله مشاعرا غريبة لا  يستطيع تحديدها (لم أحظى بهذا الشرف، وإن كانت المسألة لا تحتاج الى ذكاء،  لكن أخشى أن تكون قد ضيعت وقتك الثمين هباءا بهذه الزيارة، الغير مسبوقة  بموعد).

تحركت عضلة صغيرة في فكه و قد بدأ الغضب يتسلل اليه وهو يقف هنا على  الباب، تجادله فتاة لا يصل طولها الى كتفه، مهما بلغ جمال محياها، وتنظر  اليه أيضا باستعلاءٍ مستفز، إن تجرأ أشد الرجال بأسا النظر اليه بهذه  الطريقة لكان له تصرفا آخر لم تكن لتتحمله ابنه المستشار، حاول أن يبتسم  بهدوء ثم قال ببرود (هل تصرفينني من على بابك، دون حتى دعوة للدخول أو  تقديم ضيافة، لا أعتقد أنك بهذا البخل).

قست عيناها و اشتد بأسها وهي تبادله بنظرة اعتادت أن توقف بها المتطفلين  عند حدودهم فلا يتجاوزوها، ثم قالت بحزم لا يقبل النقاش (الضيوف لا بد أن  يأتون بموعدٍ مسبق يا سيد عاصم، كما أن دخولك غير مقبول بالمرة فكما تعلم  جيدا، أنني أعيش بمفردي، لذا أعتذر منك، خاصة وأنه لا سبب وجيها للزيارة).

قست عيناه حتى بدتا مخيفتان للغاية لكنهما لم ترهباها ولو لمثقال ذرة،  ثم قال بصوتٍ خطير (لما لا تدعيني أنا لأقرر إن كان سببا وجيها أم لا، ثم  أنني لم آتي الا بمعرفتي أن هناك سيدة تقيم معك، الكذب صفة غير محمودة على  فكرة).

اشتدت قسوة شفتيها و اتسعت عيناها وهي تجيب بخفوتٍ خطير (من الواضح أنك  قد جمعت المعلومات التي تحتاج اليها، عمل جيد، لكن هذا لا يمنحك الحق في أن  تدخل بيوت الناس وقت أن تحب، أنا لا أدخل غرباء الى هنا)

قال بغضبٍ لايزال يسيطر عليه (لم يكن هذا ما أجبت به الوسيط الذي بعثته،  فحسب علمي أنه دخل الى البيت أكثر من مرة، ألم يكن رجلا غريبا هو الآخر؟).

لم تصدق فعلا شدة وقاحته، بالتأكيد، وماذا كانت تنتظر من ابن أحد تلك  الطبقات الحديثةِ الطافيةِ على السطح و التي اختلطت لديها المفاهيم، فابتعد  الدين عن القانون و ارتبطت السياسة بالمال، و أصبح الحال مستعصي الفهم على  أمثالها، أصحاب الطراز القديم، ذلك الطراز الذي أنشأها عليه والدها، رجل  القانون و الشريعة، ظلت تواجه نظراته بنظراتها المشعة المتحدية لعدة لحظات  دون أن يرف لها جفن، بينما بداخلها تشعر بأنها تود رميه بالكثير من آرائها  المتعلقة بشخصٍ مثله، لكنها لزمت الصمت فلا جدوى من الجدال معه، فقالت  بهدوء (الوسيط الذي أرسلته بالنيابةِ عنك، هو مجرد مأمورا من سيادتك، لذا  ليس من العدل أن أرجعه صفر اليدين حتى و إن لم أستسغ عروضه و التي تبدو و  كأننا في سوقٍ للبيع و الشراء، لكن كما قلت، هو مجرد رسولا حرصت تماما على  تحميله رسالتي لك على أمل الا أتشرف برؤيتك، لكن يبدو أن رسالتي لم تصل،  لذا فها أنا أقل بكل وضوح حتى لا نضيع وقت كلانا، عرضك مرفوض، والآن هل  تسمح بالإنصراف؟).

أصابتها عيناه بشكلٍ أعنف و أقسى، يبدو أنه لم يعتد الرفض يوما، لكن  لسيت مشكلة فلكلِ شيءٍ بداية، لكنها سمعته يقول بصوته الهادىء هدوءا خادعا؛  (ومع ذلك أفضل لو تكلمنا قليلا، لن آخذ من وقتك طويلا، يا ابنة المستشار).

عقدت حاجبيها وهي تسمع كلمته الأخيرة، ابنة المستشار!، لماذا شعرت بأنه  ينطقها كإهانة، لم تشعر يوما بالبغض تجاه شخصا تقابله للمرة الأولى و لمجرد  عدة دقائق، كما تشعر الآن، ما مشكلته هذا الكائن العضلي الضخم، يبدو أن  عقله الرأسمالي قد تحور مع مرور السنين الى كتلة من العضلات لا تعمل الا  لحساب الصفقات الرابحة، تماما كمن يعمل بساعده، بل أن من يعمل بساعده يفوقه  شرفا و عقلا، لكنها و بالرغم من كلِ ما تشعر به من غضب، الا أن شعورا  بالحرج انتابها، لم تعتد أن تترك أحدا على باب بيتها كل هذه الفترة. مهما  كان، هي لم تغلق باب بيتها تجاه ضيف أبدا، أخذت نفسا عميقا ثم تنحت وهي  تفتح الباب اكثر دون أن تنظر اليه متعمدة وهي تقول بتهذيب مجبرة عليه  (تفضل، لكن رجاءا، لا تعقد الآمال، فلن تحصل الا على واجب ضيافتك).

ضحكة رجولية ضاربة، هزت المحيط حولها فجأة، لكنها ظلت مصممة على عدم  النظر اليه منتظرة أن ينهي ضحكته المستفزة و يدخل، خفتت ضحكته تدريجيا الى  أن صمتت تماما، لكنها لم تشعر بحركة، لحظة، لحظتين، فلم تستطع منع نفسها من  النظر اليه بغضب ظاهر، ففوجئت به ينظر اليها بنظرةٍ كالسهم الذي يكاد أن  ينفذ الى روحها، يتخلل أعماقها، غابت التسلية عن عينه، وزال المرح عن  شفتيه، أخفضت عينيها رغما عنها و زفرت بحنق، ماذا به؟، ألم يرى نساء من  قبل، مدت يدها مرغمة في حركة دعوة غير نابعة من القلب، دخل بعد لحظة  يتخطاها بصلفٍ و عنجهية، فنظرت الى ظهره العريض بحيرة ثم هزت رأسها متعجبة  من ذلك الشخص الغريب المتناقض، ما أن دخل عاصم حتى شمل البهو كله بنظرةٍ  واحدة، متمعنا في كل تفصيلة بعينه المسجلة لكل ما حوله بدقةٍ لم تتعد  لحظاتٍ من الزمن، ثم اختار مقعدا وثيرا ليجلس عليه مستندا بظهره مرتاحا  واضعا ساقا فوق الأخرى، يتصرف و كأنه في بيته، دمدمت في داخلها بغضب، وهي  تغلق الباب ثم اتجهت اليه لتقف أمامه، صامتة للحظات ثم قالت بأدب (ماذا تحب  أن تشرب؟).

شعرت بقلبها يغلي غضبا وهو يرمقها بنظراته المتفحصة، من جلسته  المتعالية، ابتسامته الجانبية المستفزة وو هو يتفحص عبائاتها المنزلية  الرقيقة، الوشاح الوردي الذي يغطي شعرها، ها هو يعود لعينيها من جديد، ما  باله لا يتركهما، رد بهدوء مبتسما (هل تجيدين صنع القهوة؟، لا أحب أن  أتناولها الا إن كانت، ذات وجهٍ،!)

صمت ولم يكمل، ظل محدقا بها الى أن قالت بتهديد (أكمل من فضلك).

اتسعت ابتسامته قليلا، ولم يرد حالا فنظرت إلى عينه رافعة أحد حاجبيها  بنفس ذلك التحدي، الى أن قال بتسلية (نعم، الا اذا كانت ذات وجهٍ صبوحٍ  كوجهك، يا ابنة المستشار).

لم تستطع هذه المرة أن تسيطر على الغضب الأسود الذي عصف بداخلها تجاه  ذلك الوقح الذي يغازلها وهو ممسكا بسبحة في يده فقالت بنبرةٍ خطيرة اعتادت  أن تستعيدها لحظات اللزوم (سيد عاصم، إن كنت قد سمحت لك بأن تدخل من باب  الأدب فهذا لا يعني أن تتجاوز حدودك و تستخدم تلك عبارات الغزل السخيفة  تلك).

ارتفع حاجباه في دهشة مصطنعة ثم قال بهدوء (غزل؟ ّ!، اعذريني لا أقصد  الإهانة لكن ما الذي يدعوني لأغازلك، وجهك الصبوح كلمة أستخدمها عادة كل  صباح لأدلل بها ابنة مدبرة المنزل، رضا الصغيرة، عفوا يبدو أنني قد اعتدت  الكلمة).

شعرت صبا فجأة كمن سكب عليها دلوا من الماء البارد، ماذا بها؟، لماذا  يخرجها عن طورها الى هذا الحد الأحمق باهانته المخفية المتعمدة، ولكي تداري  احراجها قالت بعصبية (سأذهب لأعد القهوة، فأنا أجيد صنعها تماما).

ثم سارت مبتعدة شاعرة بنظراته النافذة كالسهم في ظهرها، لم يضيع عاصم  الفرصة، بل قام من مكانه ليتجول في أنحاء هذا البهو و الذي يغلب عليه طابعا  مميزا، عتيقا، محملا بعبق ماضٍ راقي، أثاثه البسيط ذو اللون الدافىء  المخملي، يتناقض مع ذلك المذهب بزخرفةٍ ضخمة والذي يحتل منزله، تلك المكتبة  العريضة التي تحتل عرض حائطا بأكمله، اتجه اليها. أرففٌ من كتبٍ في  القانون، الكثير منها خط عليه اسم محمود عمران، كتبا في القانون و الشريعة،  هل عاش عمره كله ليكتب هذه الكتب؟، الم يكن لديه ما يشغله غير كتابة هذه  الكتب؟، صحيح أنه يعتبر نفسه مثقفا للغاية و خاصة سياسيا و اقتصاديا بما  يلائم أعماله و يفيدها، لكن غير هذا لم يفكر يوما في قراءة الأدب مثلا، أو  تلك المدعوة فلسفة، أو، القانون، فلديه فريقا قانونيا كاملا يزوده بما  يريده، عجبا لهذه الدنيا، بعض الناس يفني عمره بين الكتب و المبادىء، فقط  ليقوم الآخر باختراقِ ثغراتها، كلا يقوم بدوره في هذه الحياة، انتقل الى  تلك المدفأة الحجرية، والتي تعلوها صورا عديدة في إطاراتٍ ذهبية و فضية  مزخرفة، لرجلٍ خط الشيب شعره مبتسما لا يحمل للدنيا أي هم، يبدو كمن ضميره  مرتاحا فلا يخيفه في هذه الدنيا أي شيء، بجواره صورا عديدة لنفس الشخص، بزي  القضاة، بعضها الآخر بجوار امرأة في نفس جمال ابنتها، وأخرى بجوار فتاة  شابة تشبه البدر في تمامه، صبا عمران، لكم يليق اسمها بها، فهي الصبا و كل  الصبا، صورة أخرى مندسة خلف الصور، نفس الوجه القمري و نفس الصبا، لكن وهي  في نسخةٍ طفولية، ابتسم دون وعي وهو ينظر الى تلك الطفلة ذات الجدائل  الذهبية النحاسية الناعمة كأمواج البحر ساعة الذهبية لحظة الغروب، ضحكة  واسعة تضيء الكون. غمازتين عميقتين في وجنتيها الحمراوين، لم يرى  الغمازتين، بالتأكيد فابنة المستشار لم تبتسم في وجهه منذ رأته، أمسك تلك  الصورة ليخرجها من مخبئها خلف الصور الأخرى ليتطلع اليها مبتسما، تلك  الجميلة لم يقلل الحجاب ذرة من جمالها، لكن تلك الروعة التي يراها في  الصورة تعد بالكثير، في لحظةٍ واحدة وجد الصورة تختطف من يده بقسوةٍ، ليجد  القطة البرية الذهبية تقف ممسكة بها ناظرة اليه بشراسة، تكاد أن تقتله  بسهام عينيها الغاضبتين، ثم هدرت بصوت ٍ حازم (أنت تتخطى كل حدودك في هذا  المكان يا سيد عاصم، فإما أن تحترم حرمته و إما أن تغادره حالا).

نظر اليها بهدوءٍ دون أن يرف له جفن، ثم قال بصوتٍ خافت فاتر (وأنتِ ثان  مرة تهددين بطرد عاصم رشوان يا ابنة المستشار، ماذا كان والدك ليقول لو  عرف بقلة تهذيبك؟).

نارا جامحة أطلت من عينيها، وفتحت شفتيها تنوي برمي كلماتِ الطرد  النهائية حتى يكون له سببا وجيها يدعوه لقول، أنها قليلة التهذيب مرة أخرى،  لكنه لم يمهلها لتنطق حرفا واحدا، بل اتجه الى مكانه في كرسيه الوثير وجلس  بكل ثقةدخلت في تلك اللحظة سيدة متقدمة في السن. ترتدي عباءة و وشاح على  رأسها، تبدو على وجهها علامات الرضا و الطيبة وبابتسامة بشوشة و ضعت صينية  القهوة امام عاصم الذي ينظر اليها هو الآخر مبتسما، ثم قال مكلما صبا مازحا  (لم تصنعي القهوة بيدك؟، الا تعلمين أن الفتاة التي لا تجيد إعداد قهوة  جيدة لا تجد من يتزوجها بسهولة؟).

للحظةٍ وقفت أمامه دون حراكٍ وهي تنظر اليه بلا تعبير بينما العينان  العسليتانِ تستعدان لشنِ الهجوم المتوقع، ومن موقعه رأى متسليا أنه الهدوء  الذي سيسبق عاصفة منفجرة الآن، لكن تلك السيدة الطيبة لم تمنحها الفرصة وهي  تهب مدافعة بحماس (من تلك التي لا تجيد اعداد القهوة؟، صبا؟، لقد أعدتها  بيدها كما كانت تعدها دائما للمستشار رحمه الله، وماذا ستقول أن تذوقت طعام  يديها؟، صبا سيدة منزل ممتازة، هنيئا لمن سيتزوجها).

ثم غمزت لصبا و الفرحة تكاد تغرق وجهها ظنا منها أن هذا الضخم الجالس  بفخامةٍ واضعا ساقا فوق الأخرى هو خاطبا محتملا، أغمضت صبا عينيها غضبا  منها. يالهي انها تقوم بالدعاية لها، عادت لتفتح عينيها و ترمقها شزرا تهز  رأسها لتنصرف من أمامها الآنفأومأت فتحية برأسها و الجدية المضحكة ترتسم  على وجهها، بينما هي ابعد ما تكون عنها، ثم أهدت عاصم ابتسامة أمل وحنان و  زادت أن اقتربت لتربت على كتفه بيدها المكتنزة، فضحك عاصم وهو يربت هو  الآخر على يدها الموضوعة فوق كتفه، بعد انصراف فتحية، حاولت صبا أخذ نفسا  لتهدىء نفسها من هذا الوضع المستفز. بينما كان عاصم ينظر مبتسما الى فنجان  القهوة الموضوع أمامه على الطاولة، و الذي كان، ذو وجهٍ صبوح، و رائحةٍ  تماثل سحر المكان و سحر صاحبته الآتية من زمن الفرسان، أعاد وضع ساقه فوق  الأخرى ثم أشار بكلِ عنجهية بيده دون أن يتكلم الى الأريكة بجواره، في  دعوةٍ سمجةٍ منه، لأن تجلس بقربه، ظلت واقفة للحظات تتمرد على غطرسته،  لكنها آثرت أن تجلس في النهاية حتى يلقي الكلمتين المحجوزتين في حلقه ثم  يخرج سريعا، اتجهت بإباءٍ ثم جلست على الأريكة لكن في أبعد نقطة منه، جلست  على حافتها كأنها تريد أن تخبره كم هي متشوقة لرحيله، نظر اليها متغلغلا  أعماقها لا تعلم إن كان بوقاحةٍ أم سيطرة، ثم التقط فنجانه يرتشفه بصمتٍ  متلذذا بكلِ رشفة، تاركا إيها تتأمله بغضبٍ يتزايد في كلِ لحظة، لم يتكلم  الى أن أنهى قهوته لآخرها، تطلع اليها بعدها في تحدٍ صامت للعيون، وظلت هي  تنظر اليه تريد أن تتحدى نظراته، الى أن تغلب عليها حياؤها فطرفت بعينيها  تبعدها عن حينه لتنزل متحججة بالنظرِ الى سبحته التي يتلاعب بحباتها، أنزل  ساقه فجأة فباغتها وهو يميل في مقعده الى الأمام مستندا بمرفقيه إلى  ركبتيه، حتى يقترب منها على قدر استطاعته، رفعت ذقنها تنتظر كلامه، وتكلم  بالفعل، بكلِ هدوءٍ قال (أريد البيت يا صبا، فقط ضعي الثمن الذي تريدينه و  لا داعي لتضيع وقتينا أكثر).

لمعت عيناها بوحشية، مصدومة من وقاحته التي لم تر لها مثيلا، قالت بمنتهى الهدوء بعد لحظة (و البيت ليس للبيع، سيد عاصم)

لاحظ كيف شددت على لفظة سيد تهدده بأنها لا تسمح له بلفظ اسمها دون ألقاب،  لكنه لم يأبه وهو يبتسم ابتسامة لم تصل الى عينيه ثم قال بنفس الهدوء لكن  مع لمحة أعلى من الخطر (لا يوجد في قاموسي ما هو ليس للبيع، يا صبا).

شدد هو الآخر على اسمها فردت عليه بعينين اشتعل فيهما العسل ليصبح حمما لهبية (قاموسك لا أعترف به، يا سيد عاصم).

مالت ابتسامته بشكلٍ خطير وهو يبعد نظره عنها و كأنه يفكر في الأمر، ثم  قال بصوتٍ خافت منذر (لكنه القاموس المفعل في عالمي، يبدو أنكِ لا تدركين  حجم الأشخاص اللذين يريدون هذه الأرض، ولا حجم المشروع الذي سيخدم اقتصاد  المدينة، هل تتخيلين أنه من الممكن أن نتنازل عن هذا كله، لأنه قطة صغيرة  قررت اظهار مخالبها، معجبة بشجاعتها في مواجهة الأعاصير القادمة).

كانت نظراتها معلقة طوال الوقت بحباتِ سبحته التي يتلاعب بها بين أصابعه  أثناء كلامه، لا تعلم لماذا تثير انتباهها بهذا الشكل. ولماذا يتمسك بها  بهذه القوة، رفعت نظرها اليه لتقول بنعومةٍ وخفوت (هل تهددني سيد عاصم).

لم يرد عليها للحظة، وهو يتطلع الى عمق عينيها لا يحيد عنهما ثم قال  أخيرا بوضوح (العند للعند لا فائدة منه، بل على العكس، قد يؤذيكِ يا صبا،  لقد باع كل أصحاب المنازل المجاورة لك، لذا لا تحاولي الوقوف في وجه  التيار، الأمر أكبر منكِ ومني صدقيني)

قامت من مكانها في حركةٍ واحدة وهي تقول بصوتٍ قاطع (لقد انتهت الزيارة يا سيد عاصم).

رفع رأسه ينظر اليها بوجه قد من حجر، لاتعبير له، حتى عيناه الجامدتان  بدتا و كأنها صخرتين من حجر الرخام الأسود، لكن هذا الجمود كان يخفي خلفه  غضبا يهدد بإحراق المكان، ابنة المستشار تنظر اليه من عليائها و تنهي  الزيارة، قام من مكانه ببطء، يعدد حبات السبحة بيديه الاثنتين انتقل نظرها  إلى أصابعه مرة أخرى فأفتر فمها عن ابتسامة واهية لترفع نظرها من السبحة  اليه، وكأنه سمع ما تقوله فاشتد ضغط شفتيه و تضاعفت قسوة عينيه، وقف أمامها  كجبلٍ عالٍ يطل عليها وهو على بعد خطوةٍ منها، ثم قال لوجهها الذي أشاحته  بعيدا رافضة النظر اليه أكثر، (لا قبل لكِ على مواجهتي، يا، صبا، ولا  مواجهة من يريدون الأرض و أنا لا أحب أن أكون طرفا في الضغط على امرأة).

ابتسامتها ظلت على شفاهها وهي تنظر اليه، لتقول بعد لحظة (أمثالك من،  الرجال قد انقرضو منذ زمن يا سيد، أفق، فتلك، المرأة قادرة على مواجهتك أنت  ومن خلفك، لذا فقم بدورك و أبعد قلقك المخزي، أنا لا أخاف الا من خالقي).

ماهو ذلك البريق الذي اشتعل في عينيه لحظة، لمحة اعجاب، أم أنها تتوهم  وهي اشارة الخطر، أيا يكن فهو لا يهمها، فليشعر بما يريد وليفعل ما يستطيع،  الوقح الذي مجرد وقوفه في هذا المكان يعتبر جريمة في حق صاحبه، المستشار  الذي تثير مجرد ذكراه الاضطراب في أمثال ذلك الواقف أمامها، لذا فستريك،  ابنة المستشار، أنها تستحق ذلك اللقب الذي جعلك تأتيها بنفسك لترى غريمتك،  قالت بأدب (الى لقاءٍ قريب، سيد عاصم، لكن بالتأكيد ليس هنا).

نفث نفسا ساخنا ضرب وجنتيها فابتعدت بحدةٍ عنه لتتجه الى الباب المفتوح  وتمسكه متعمدة تنتظر خروجه لتغلقه خلفه للأبد، خرج مندفعا الى الباب، لكن  قبل أن يخرج وقف أمامها عندما مر بها ليقول بقوة (تذكري أنني قد أتيت الى  بابك يوما، وأغلقته خلفي)

نظرت اليه مبتسمة وقالت برقة (سأتذكر، حين أضحك مرة تلو مرة على محاولاتكم  الفاشلة، فلتركبوا أقوى خيولكم، حتى وإن لم تكونوا فرسان هذا الزمن).

قال لها بصوتٍ هدر الغضب فيه بالرغم من خفوته، (حسنا يا صبا، قرار الهزيمة كان لك، تذكري هذا).

ثم خرج دون كلمة أخرى، و لم يكد يمر من الباب حتى تسمر مكانه بصوت  انصفاق الباب بشدةٍ خلفه، حتى اهتزت عواميده النحاسية بزجاجه الملون حتى ظن  أن سيتحطم الى شظايا، التفت لينظر الى الباب المغلق ثم أعاد ارتداء نظارته  الداكنة التي دخل بدونها و خرج بها، ليخفي غضبه و الذي يكاد أن يشتعل في  صدره في تلك اللحظة، من هي تلك التي تجرأت للتو على رفض عرض عاصم رشوان!،  تحدي عاصم رشوان!، صفق الباب خلف عاصم رشوان.!، لم يشعر أنه أهين يوما كما  أهانته تلك الوقحة الآن، رجلا أشداء لم يتجرأو أبدا على فعل جزء من ذلك  الذي فعلته، أخذ يتوعدها و هو ينظر من حوله الى العمارات التي صار يملكها،  بينما هو يقف في الأرض الوحيدة التي لم يملكها بعد، حسنا يا صبا، يا ابنة  المستشار، فلنرى من سيضحك في النهاية، نظر إلى ساعة يده وهو يفكر، أين هي؟،  لقد جاء موعد القاء القمامة، لقد تأخرت اليوم، يبدو أن حدثا جلل قد أخرها  فهي لا تتأخر عن موعد إخراج الحقيبة البلاستيكية السوداء الضخمة و التي  تعادل نصف طولها تقريبا الى خارج المنزل حيث السلة الضخمة الموجودة بجانب  السور لتأتي عربة القمامة لتأخذها ككل يوم، لقد تأخر على عمله و يجب أن  يتحرك الآن، ألن تخرج هي وقمامتها ككلِ يوم؟، وأثناء انتظاره أبصرها أخيرا  تخرج من باب البيت تتوازن وهي تحمل القمامة عبر الحديقة الصغيرة لتصل الى  البوابة، اتسعت عيناه قليلا وهو يدقق في جسدها الذي كانت أشعة الشمس تغطيه  من الخلف ليتحول ثوبها البيتي الخفيف و الذي يحف بركبتيها الى شاشةٍ  سنيمائية شفافة أظهرت جسدها بكل تفاصيله، للحظاتٍ قليلة ترك لعينيه حرية  الاستمتاع بهذا الصباح المذهل المكلل برؤية مثل هذا القوام، لكم تغير  قوامها! غادرت عباءة الطفولة، والجسد المسطح أصبح ذو انحناءاتٍ خلابة تكاد  تخطف أنفاسه و هي يتذكر يوما لامس جسدها الطفولي بشوقٍ تفجر في أعماقه،  فكيف سيكون حاله ما أن يلامسها الآن، أغمض عينيه وهو يشعر بدقاتِ قلبه  تتسارع كحالِ أنفاسه الغاضبة، يبدو أن الصيف قد وصل و ستكثر من ارتداء تلك  الأشياء القليلة التي لا تغطي سوى القليل خاصة مع أشعة الشمس الفاضحة،  شعربرغبةٍ في كسر عظامها حتى تتنبه الى ما تخرج به الى الطريق العام، ثم  زفر بحنقٍ وهو يخرج ورقة من مفكرته ليكتب عليها شيئا بقلمه الذهبي، دق جرس  البوابة الخارجي فخرجت حنين الى الصبي الصغير الممسك بملابسهم الآتية من  التنظيف الجاف، ابتسمت له حنين كالعادة وهي تمازحه قليلا قبل أن تأخذ منه  الملابس، لكن قبل أن ينصرف أخرج من جيب بنطاله ورقة مطوية وناولها إياها  مبتسما ببراءة، وهو يقول (هذه لكِ آنسة حنين، شخصا ما أعطاني إياها ثم  انصرف).

تناولت حنين الورقة و هي تقطب جبينها بحيرةٍ لتقرأها قبل أن يأخذها الشك  طويلا، لحظة واحدة و اتسعت عيناها صدمة وهي تقرأ (الثوب الذي ترتدينه شفاف  الى درجة الكرم القصوى، و سيشكرك كل ابناء الحي ما أن يرون هذا العرض  الصباحي).

شهقت حنين عاليا وهي تغطي نفسها محتضنة الملابس التي تحملها بينما أخرجت  أخذت تتلفت برأسها يمينا و يسارا تتطلع الى من يراقبها، ثم صرفت صبي  التنظيف لتدخل جريا كالمجنونة إلى البيت، وهي تفكر، يالهي، من ذلك الذي  شاهدها بهذا الشكل، يبدو أنه بالفعل أحد أبناء الحي و أراد تنبيهها دون أن  يظهر نفسه حتى لا يحرجها، ياللغباء، ياللغباء، كان من أصعب الايام بالنسبة  اليها في العمل، منذ أن وطأت قدماها الى مقره وهي تحاول تجنب النظر الى أي  شخص، بالنسبةِ الى الجميع فمن المؤكد أن ما من أحدٍ سيتذكر موقفا تافها  كالذي حدث في المقهى، لكن بالنسبةِ لها، فإن خللا معينا لا يعرفه الا  المقربين ينتابها بين الحين والآخر، على مر السنين نجحت في إخفاء تلك  الحالة عن معظم من عرفوها، الا أنها فشلت مع قليلين، حين سقطت علنا في  مراتٍ قليلة، قد تكون بسبب شيئا أخافها، وأحيانا تكون سقطة بلا أي سبب،  اختلال في التوازن، اختلال في نفسها، هي لا تعرف تحديدا ولم تحاول المعرفة  يوما، ولا تريد أن تعرف أبدا، فقط فلتكون أكثر حرصا في مداراتها، حين أتى  موعد الإستراحة في منتصف اليوم، كانت قد نجحت في تجنب الجميع، متشاغلة  بعملها عما حولها، لكن الآن الى أين ستذهب، فلتظل هنا في مكتبها، قطعا لن  تتوجه الى المقهى، لن تتحمل دخولها أبدا بعد اليوم، لكن دخول عامل النظافة  الى المكتب لينظفه أجبرها على الخروج، الى أين ستتجه الآن فهي لن تستطيع  الوقوف في الممر هكذا الى وقتِ الراحة كله، أمسكت بلفافة الشطائر التي  أعدتها في البيت نفسها، تحتضنها وهي تنظر حولها، ثم عقدت القرار الى الخروج  الى سلم الطوارىء، فخرجت منه و اغلقت بابه خلفها، جلست على أولى درجات  السلم الضيقة وهي تفتح لفافة الشطائر متنهدة بأسى، وهي تقضم الشطيرة بعنف،  تمضغها بقسوةٍ وكأنها نشارة خشبية، لكم تختلف حالتها الآن عن حالتها بالأمس  وهي تدخل الى ذلك المقهى اللعين باحثة عنه، بينما هي الآن تجلس على الأرض  مختبئة عن الجميع، انتفضت مكانها وهي تسمع صوتِ الباب يفتح من خلفها، أغمضت  عينيها وهي تدعو الله أن يكون عامل النظافة، لكن من تخدع، فهي تعرف هذا  العطر جيدا، وتعشق صاحبه، ما العمل؟، ما العمل الآن؟، هل ترمي بنفسها من  فوقِ سور السلم لتهرب منه نهائيا و ترتاح، شعرت به يجلس بجوارها على درجة  السلم، ففقد قلبها خفقاته، وتجمد الدم في عروقها بينما اختارت وجنتاها  اللون الفاضح المعتاد للتزين به في وجوده، لقد ملأ وجوده المكان و ساقه  كادت أن تلتصق بساقها القصيرة، حجمه الضخم يكاد أن يحجب الضوء الأبيض عنها  ليغيبها في ظلهلم تنظر اليه، ولم تنطق بكلمة، وهو أيضا منحها الوقت لتهدأ  قبل أن يقول بهدوء (لماذا تجلسين هنا بمفردك؟).

يالهي إن صوته رجولي للغاية، يبعث رعشة دفءٍ غريبةٍ بداخلها، لكنها لن  ترد، لن ترد، لن ترد، ستتظاهر بالصمم، وحينها سيبتعد للأبد، وستموت بعدها!،  لذا اختارت بعد تفكيرٍ عميق أن ترد باختناق (كيف عرفت بأنني هنا؟)

ضحك قليلا ثم قال (حين لم تظهري في المقهى عرفت بأنك ستختبئين في مكانٍ ما،  فذهبت الى مكتبك لأحضرك، وحين لم أجدك قادتني قدماي إلى الباب التالي).

أطرقت برأسها بينما قلبها لازال يضرب صدرها كأرنبٍ مذعور، أخذت تدعو  الله لألا يفتح موضوع السقوط الآن، كفى ما شهدته من احراج، لن تتحمل أن  تتحدث به أيضا، ومع من؟، معه هو، (ماذا تأكلين؟).

قاطعها هذا السؤال الذي لا أثر للمزاح فيه، فنظرت اليه بطرف عينيها من  تحتِ عدساتِ نظارتها، و خدها ممتلأ بقضمةٍ كبيرةٍ منتفخة، وشعرها، تلك  الضفيرة قد تمردت و مالت خلال الساعات الماضية الى احد جانبي رأسها منسابة  على كتفها، مفلتتة الكثير من الخصلاتِ الناعمة، أي أن ملخص القول، شكلها  يرثى له كالعادة، أجابت على مضض وكأنها تتمنن عليه بالإجابة (شطائر جبن،  بالخيار).

مد يده ليلتقط الخيارة الصحيحة الموجودة بين الشطائر، وقضم نصفها في مرة واحدة وهو يقول (كانت شطائري المفضلة في أيام الدراسة).

بعد لحظةٍ مدت يدها ليه بواحدٍ، هو الأغلى على قلبها، فتناوله منها  مبتسما، لتلتقي عيناهما، فتتوه منها الكلمات بينما هو ينظر مبتسما متناولا  نصفه هو الآخر في قضمةٍ واحدة، فكرت وهي تنظر اليه مسحورة، بأنها لم ترى من  هو يملك فما أوسع من فمه من قبل، كيف يمكن لشيءٍ كهذا أن يجعله أكثر  جاذبية، استمر الصمت بينهما أثناء تناولهما الشطائر، لا تجرؤ على تصديق  أنها و صدىء القلب يجلسانِ معا، يتناولانِ من الشطائر التي أعدتها بيدها،  الى أن قاطع شرودها صوته الرجولي وهو يقول دون أن ينظر اليها (حنين، حين  تستنبت زهرة في صوبةٍ زجاجية، فهي تنجح في الحياة التي صممت من أجلها، أما  حين تنمو زهرة برية بين الصخور فهي تصمد، فما عليك سوى الاختيار، لكن في  كلتا الحالتين، ستنجين بنفسك).

نظرت اليه مذهولة، هل يتكلم معها؟، عنها؟، أم عن ماذا؟، زهرة مستنبتة،  أم زهرة برية؟، نظرت أمامها لتكمل طعامها بصمتٍ امتد بينهما، مع ابتسامةٍ  متسعةٍ حمقاء على شفتيهما، ومرت بهما الدقائق القليلة وهو يحاول جذبها الى  موضوعاتٍ مبهجة، تارة تصمد و تارة تبتسم، وأخرى تفقد القدرة على التحمل  فتنفجر ضحكا، وهو ينظر اليها مبتسما سعيدا برؤية ضحكتها التي لم يرها من  قبل، والتي حولت تلك البطة الخرقاء الى أوزةٍ رائعة، فقط إن كانت تدرك ذلك،  بينما من الواضح أن الغبي الذي يهاتفه كل يوم لا يعلم كم هي قابلة للعطب  تلك البطة الصغيرة، هل يمكن أن يحسب عمر الإنسان بعدد الدقائق الثمينة  الماسية التي تمر به؟، هكذا فكرت حنين و هي دائخة في هواه، شاردة فيما  يقصه، تاهئهة ما بين سحر عينيه الحنونتين و دفء فمه المتكلم، والذي يتوقف  فقط ليلتهم المزيد من شطائرها ثم يعاود الكلام مبتسما، هل يمكن أن أكون  أكثر سعادة يوما؟، هل سيحمل لي القدر يوما أجمل من هذا؟، هل ستعود تلك  الدقائق الماسية من جديد لتطويني بين ثنايها و تغيبني في نظراته؟..

لكن للأسف انقضت الدقائق كما ينقضي كل وقتٍ جميل بسرعة البرق، وبعد أن  خرجت حنين متثاقلة من باب سلم الطوارىء، يتبعها عمر، التفتت اليه مبتسمة  دون أن تجد القدرة على الكلام ثم أطرقت برأسها مباشرة ما أن طالعتها عيناه  حتى عاودها الاحمرار الأحمق، لذا لم تقل سوى (اذن، سأذهب الى، مكتبي).

ابتسم عمر ابتسامته التي أهلكتها من الأعماق

يالهي ما أحنها من ابتسامة، هذا الرجل خلق ليكون أبا، حتى لمن سيحبها، يالهي اجعلني أنا هي، يا رب اجعلني أنا هي...

أفاقت على صوته وهو يقول برفقه المعتاد (الى اللقاء، وهذه آخر مرةٍ تتناولين طعامك هنا بمفردك كالمساكين، مفهوم؟).

أومأت برأسها مبتسمة، ثم استدارت لتبتعد بتعثر، وما أن اختفت من أمام  ناظريه حتى رن هاتفه، نظر الى الإسم المضيء، بوجوم ليرد في النهايةِ قائلا  مغتاظا قليلا (مرحبا، كيف حالك يا صديق؟، نعم، نعم الحمد لله)

سكت وهو يسمع السؤال اليومي المعتاد ليجيب في النهايةِ بالرغم من عدم اقتناعه بما يحدث (إنها بخير، لا تقلق، هل تعلم أنها)

ثم سكت بعد لحظةٍ ليقول (لا، لا شيء، اطمئن، حسنا هل سأراك هذا المساء؟).

بعد أن أغلق هاتفه، زفر بعمقٍ وهويضع يديه في جيبي بنطاله ناظرا أمامه  الى الممر الطويل الفارغ، متسائلا إن كان ما يفعله صائبا أم أنه يخطىء في  حق فتاة صغيرة لم ترى سوى الألم في حياتها...

في مساءِ هذا اليوم، شعرت حور بهمجية الغضب الأحمق وهي تستمع الى  المربية المتلعثمة و التي تبلغها بأن والد معتز قد اتصل و أعلمها بنيته في  ابقاء معتز للمبيت معه الليلة، اشتعلت عينا حور وهي تنظر اليها، أيجرؤ على  أن يبلغ المربية دون أن يهاتفها هي، و قد اتخذ القرار دون حتى أن يسألها  الموافقة، هل نسي أنها أم معتز وهي الوحيدة صاحبة أي قرار يخصه...

كانت لتوافق بالطبع مقابل أن تسمع صوت نادر يأتيها لطيفا مطالبا بإبقاء  معتز، هي لن ترفض فمعتز لا ينام بجوارها في أي حال من الأحوال، لكنها كانت  تود استغلال أن يهاتفها نادر ويطلب منها شيئا، أي شيء، قد يقرب بينهما من  جديد حين يسمع صوتها الموافق و الذي كانت لتودعه كل إغراء العالم و سحره،  منذ أن واجهها بطلب الطلاق و هي تبدو كالمجنونة، تشتعل حين يقترب منها أي  أحد، سبحن من صبرها أمامه ساكتة هادئة، ضائعة العينين لكنها صمدت حتى خرج  دون أن تنطق بكلمة...

بينما همست ما أن انصرف (في أحلامك يا نادر)

خرجت من غرفة معتز كالسهم وهي تدفع شعرها الأسود المجنون، في موجاته التي  تشاركها غصبها الأسود بجنونه، نزلت درجات السلالم تلتفت حولها، لا تعلم أين  هي ذاهبة، الى من ستلقي بغضبها الذي يحرق أحشائها بذلك الوخز المعتاد، حين  تريد شيئا ولا تحصل عليه، أو حين يضيع منها شيئا رغما عنها...

وجدت أمها الحبيبة تحيك سترة لمعتز قد تكون العشرين ربما، لا تهتم حقا،  اندفعت لترمي نفسها على الأريكة الكبيرة بجوار أمها تنظر اليها بعينينِ  تشتعلانِ نارا، فنظرت اليها أمها بهدوء ثم أعادت نظرها الى ما تحيكه، تنتظر  هبوب عاصفة حور التي تعرفها جيدا من نظرتها المجنونة، لكن رغم ذلك ستظل  الأجمل، فهي الغالية حور...

صمتت الحاجة روعة، لن تتكلم، الى أن صرخت حور بحنق (لقد أبلغ نادر المربية أنه سيتبقي معتز لديه الليلة)

تنهدت الأم بتعب وهي تفكر، ها هي قد بدأت حور حملتها المعتادة، لكنها عاودت  الحياكة بصبر، صمتت لعدة لحظات ثم قالت بهدوء دون أن تنظر اليها، تهتم فقط  بما تفعله يداها، (وهل أنت غاضبة لأنه سيستبقي معتز، أم لأنه أبلغ  المربية).

صمتت حور وهي تنظر غاضبة الى أمها، تلك المرأة البسيطة و التي لا تستطيع  القراءة، لكنها تفهمها أكثر مما يفهمها العالم كله، لطالما شعرت حور  بالحنق من انكشافها التام أمام تلك المرأة، لا تستطيع أخفاء مابداخلها  أبدا، وهذا هو ما يجعلها تغتاظ من أمها لكن تعود اليها في النهاية، فهي  تفهمها أكثر من نفسها...

كتفت حور ذراعيها تزفر بتذمر كالأطفال وهي تنزلق في جلستها قليلا، تعض  شفتها السفلى بغضب، تبا لكلِ شيء، انها تريده، تريده لدرجةٍ أصبحت على وشكِ  أن تسبب لها المرض...

تنهدت الحاجة روعة مرة أخرى، فنظرت اليها حور قليلا ثم قالت (ماذا بك؟).

ردت أمها بصوتٍ قلق (عاصم، عندما هاتفته كان غاضبا وصوته لم يعجبني  أبدا. يبدو كالمجنون، يبدو أن هناك ما قد ضايقه اليوم في العمل، لكن أنتِ  تعرفين شقيقك، مهما بلغت سيطرته فان الغضب يستبد به أحيانا، فلتمر تلك  الليلة على خير فأنا لم أعد أحتمل نوبات غضبه).

شردت حور بعيدا، عاصم غاضب، لا يكون في هذه الحالة كثيرا، لكن حين  تنتابه يكون قادرا على هدم الجدران فوق رؤسهم و تشهد أيام الحي القديم على  ذلك، اتق غضب الحليم...

للحظة قالت لأمها بهدوء (متى سيعود عاصم؟)

قالت الأم بلهجةٍ قلقة (في منتصف الليل ككلِ يوم، لماذا تسألين؟)

لم ترد وهي ترمق أمها بنظراتٍ غامضة، ثم قالت أخيرا (أمي، أنا أشعر باختناق فظيع، و أريد أن أخرج قليلا).

نظرت اليها امها بنظرةٍ قاطعة وهي تقول بتهديد (انسي تماما، أخبرتك الآن  أن عاصم يبدو كالمجنون دون حتى أن يقترب منه أحدا، فماذا إن عرف بخروجك،  وليلا أيضا؟، انسي يا حور، لا تفتعلي المشاكل)

ابتسمت حور تلك الابتسامة التي لا تخيب ابدا وهي تقترب من أمها بدلال،  لتقول بترجي (أمي، أرجوكِ، إنها لا تزال السابعة، وسأعود قبل عودته  بالتأكيد).

زفرت الأم بحيرة، أنها تعلم بأن حور تعاني كثيرا هذه الأيام، بسبب  انفصالها الذي طال عن نادر، وبسبب حالة معتز، لكن هذا لا يمنع أنها متهورة  ومندفعة...

نظرت اليها وقالت، (يا حبيبتي، عاصم يسمح لك بالخروج نهارا كما تريدين، فلماذا الخروج مساءا أيضا طالما أن هذا يغضب أخاكِ).

اقتربت حور بدلال من أمها فتعلقت بذراعها وهي ترمش بعيونها بالحركة ِ  التي لا تخيب أبدا، فما كان من الحاجة روعة الا أن ضحكت وهي تستقبلها في  صدرها الرحب تضمها اليها بينما قلبها يتوجع من أجلها، تلك الشابة الجميلة  التي راهن الجميع على أنها ستحصل على حياةٍ لا مثيل لها، لكن عين الحسد قد  أصابتها، بالطبع و هذا ما كانت تخشاه دائما على حور...

ها هي قد أصيبت في زواجها و في إبنها، تنهدت الأم بحزنها المعتاد ثم  قالت على مضض (إن وافقت فهل تعدينني بالرجوع قبل موعد أخيك، صدقيني يا  ابنتى لم أعد أتحمل هذا الضغط عليا أكثر من ذلك).

ابتسمت حور وهي مختبئة في حضن أمها، وهي تهمس بداخلها، سامحيني يا أمي،  نذرت لنفسي بأن أبذل كل ما بوسعي لأستعيده، وسأفعل، سأفعل كما حصلت عليه في  المرة الأولى، حتى وإن كنت ستتألمين الآن قليلا، لكن أعلم بأنك ترتاحين و  تقر عينك حين أعود اليه...

أغمضت عينيها تشعر بالسعادة المؤقتة من صواب نظرتها للأمر...

ما أن دخلت إلى منزل رنيم، حتى اندفعت لتلقي بنفسها على الأريكة المعتادة وهي تقذف بحقيبتها الجلدية الثمينة دون اهتمام...

نظرت رنيم اليها بحيرة ثم اغلقت الباب لتلحق بها، فجلست بجوارها تنظر اليها بتمعن، ثم قالت أخيرا (أنتِ تنوين ارتكاب جريمة).

تناولت حور وعاء المقرمشات الموضوع على المائدة أمامها لتتناول منه دون  أن تنظر إلى رنيم بالرغم من ظهور تلك الإبتسامة الجانبية الغامضة على  شفتيها، ثم همست بعد فترة (لست أنا من سترتكب الجريمة)

تنهدت رنيم بيأس ثم اسندت ظهرها وهي تنظر الى حور المتقدة بمشاعرٍ مختلفة ظاهرة على وجهها، قالت بهدوءٍ تسألها (من؟، وماذا سيفعل؟).

نظرت اليها حور من طرف عينيها و ابتسامتها تتلاعب بقسوةٍ على شفتيها ثم  قالت (يكفي أن تعرفي بأني سأمضي وقتا طويلا معكِ الليلة، لذا أحضري كل ما  لديكِ من العاب)

نظرت رنيم الى ساعة معصمها ثم قالت بحذر (بالتأكيد لن يكون وقتا طويلا جدا،  اذكر حين جاء عاصم ليصطحبك من هنا آخر مرة ولم أسلم يومها من شظايا لسانه  الطائشة).

ابتسمت حور أكثر وهي تقول بدلالٍ ماكر (اطمئني، لا أحد يعرف أنني عندك،  أمي تعتقد أني خرجت الى أحد تلك الأماكن التي لا تعرف اسمها حتى)

ضحكت رنيم قليلا. ثم همست (اذن أنتِ تنوين افتعال مصيبة من مصائبك بالفعل)

ضحكت حور هي الأخرى تهز أكتافها بغموض، بينما هي تفكر، أخطر الخطط أبسطها، قد تصيب و قد تخيب، لكن الأمر يستحق التضحية...

تابعت رنيم بهدوء و ثقة وهي تسند رأسها الى يدها (وطبعا الأمر يخص نادر، اليس كذلك).

نظرت اليها حور بصلابة دون أن ترد عليها فتابعت رنيم (لقد مضى عامان على  انفصالكما يا حور، لما لا تدعيه يغادر حياتك لتستطيعين البدء من جديد)

اشتعلت نظرات حور وهي تقول بهمس شرس (أنتِ من تقولين ذلك يا رنيم، لقد كنتِ  معي من البداية، هل تظنين أن بعد كل ما بذلته سابقا، بأني سوف أستسلم هكذا  بمنتهى السهولة، أنا زوجته، وأم أبنه، لقد وصلت الى ما لم تصله غيري، فما  الذي يجعلني استسلم الآن).

تاهت رنيم وهي تنظر اليها بشرود، نعم بالفعل، فحور تصل دائما الى مالم  يصل اليه غيرها، وحين رأت نادر لأول مرةٍ وضعته هدفا أمام عينيها، و أقسمت  الا يكون لغيرها...

تريد أن توهم نفسها بأنه الحب، لكن رنيم تفهمها جيدا، ولا تعتقد بأنه الحب  أبدا، فما أن يسلم نادر مانحا قلبه إياها وهذا ما تعتبره من درب المستحيلات  بعد تريخهما القصير معا، لكن أيا يكن لو حدث فسوف تزهد حور حبه...

تماما كما تزهد ما تشتريه كل يوم و تكاد تحترق رغبة في الحصول عليه وما أن يكون في يدها حتى تسأمه...

بالرغم من تشابهما في كثيرٍ من الأمور الا أن رنيم تشعر بفارقٍ جوهري يفصل  بينهما، حتى و إن كانت قد ساعدتها في ما مضى لتحصل على نادر...

نظرتا الى بعضهما، صداقتهما تمتد منذ سن السادسة عشر، بالرغم من الفارق  الإجتماعي بينهما فرنيم هي ابنة أحد الدبلوماسيين، من مستوى عالٍ تماما  كدانا لكن شتان بين الاثنتين فرنيم بالنسبةِ لحور تهتبر حالة مختلفة،  تقريبا عاشت معها كل يومٍ بيومه. دخلت بيتها البسيط الطراز، والذي لا يقارن  ببيتها العالي المستوى والتي حرصت والدة رنيم على أن تصمم كل ركنٍ فيه  بنفسها و تجميع أجزاؤه من كل مكانٍ سافرت اليه في العالم...

لكن رنيم كانت دائما الأقرب لها من كلِ من عرفتهن، دائما بجوارها ظالمة  أو مظلومة، هذه هي أحد أهم أعمدة صداقتهما، التضامن معا ضد أي شيء أو أيا  كان، في سبيل نيل ماتريده الأخرى...

لكن إن أرادت حور أن تكون منصفة. فعلى الأغلب هي التي تكون المحور  دائما. فرنيم ليس لها طلبات أو أحلام كثيرة أو مبهرة، و حور أيضا، ماعدا  حلما واحدا، نادر، والذي لم تنله الى الآن، بالرغم من كل ما وصلت اليه الا  أنها لم تصل الى نادر الى الآن وهذا هو ما يقتلها...

نظرت رنيم أمامها وهي تتنهد قليلا، محتضنة أحد وسائد الأريكة مسندة ذقنها اليها بوجوم، فقالت حور وهي تنظر اليها (ما بكِ؟).

لم تنظر اليها رنيم لكنها قالت بخفوت (هل أنتِ على استعداد لتسمعي)

التفتت اليها حور رافعة ركبتها الى الأريكة وهي تقول مقضبة جبينها (بالطبع، ماذا بكِ؟)

رفعت رنيم عينين جميلتين حزينتين وهي ترجع شعرها الى الخلف، ثم همست (تعرضت اليوم لموقف محرج للغاية)

قاطعها صوت رنين هاتف حور فاشارت اليها باصبعها ذو الظفرِ الطويل المصبوغ لتقول (لحظة، لحظة).

ثم ردت على الهاتف بصوتها الناعم (نعم، نعم يا أمي لا تخافي، لن أتأخر، أخبريني، هل هاتفك عاصم؟)

ظلت تستمع قليلا ثم ردت بغموض (متى سيعود تحديدا يا أمي؟، لا، لا تخافي سأعود قبلها بالتأكيد، حسنا، الى اللقاء)

اغلقت هاتفها وهي تنظر اليها بابتسامة رائعة شريرةٍ في روعتها، ثم همست  بشرود (يبدو أن عاصم قد تعرض اليوم الى ما أغضبه بشدة، رائع، عاصم في غضبه  يكون كالثور الهائج).

رفعت رأسها بحماسةٍ وهي تنظر مبتهجة الى رنيم لتقول (حسنا جهزي العاب الفيديو، أنا مستعدة لأمزقك شر تمزيق)

نظرت اليها رنيم للحظات ثم همست (نعم أعرف أنك مستعدة لاللعب، أرى نظرة  عينيكِ البراقة، وأنت لست مستعدة لأي شيءٍ آخر الليلة، حسنا سأبدا لأعد ما  نحتاجه).

ثم قامت من مكانها دون أن تلمح حور نبرة الحزن في صوتها، لأن تلك النشوة  و التشوق في عينيها كان يمنعها عن ترقب ردة فعل نادر، والتي تتشوق لأن  تراها و لو لمرةٍ في حياتها...

نظرت حور الى هاتفها الذي حولته للنظام الصامت في الأربع ساعاتٍ  الماضية، لتجد أن لديها عشر مكالمات من أمها، وثلاثا من عاصم، كما أن أمها  قد هاتفت رنيم لتسأل عن حور، لكن رنيم الضعيفة الإرادة أمام صديقتها  الوحيدة اضطرت للكذب و انكار وجودها، إنها الواحدة صباحا، هذا يكفي تماما،  فلتتجه إلى البيت الآن...

و بالفعل خلال نصف ساعة كانت تفتح باب البيت لتدخل بكلِ هدوء، رفعت  رأسها لترى هيئة الاستقبال في انتظارها كما توقعت تماما، والدتها المرعوبة  بوجهها الأصفر...

كان عاصم أقل ما يوصف به أنه مرعبا في غضبه، يبدو على وشكِ أن يقتلها،  واجهت نظرته بنظرة تحدي مستفزة أشعلت غضبه أكثر و أكثر، لكنه لم ينطق سوى  بسؤالٍ بسيط بمنتهى الهدوء (أين كنتِ؟).

نقلت نظرتها بينه وبين أمها المرعوبة الا أنها رفضت تماما الانصياع  للشفقه المتجهة لأمها المسكينة، فقالت بمنتهى الصفاقة (ولماذا تسأل؟، من  عينك وصيا علي؟)

اتسعت عينا عاصم قليلا و شهقت أمها من خلفه، لكنها لم تجد القدرة على النطق  بشيء من شدة رعبها لمعرفتها بطبع عاصم في مثل هذه المواقف...

اقترب منها عاصم ببطء ليقول بصوتٍ خطير أكثر خفوتا (ماذا قلتِ؟).

ردت تدفع شعرها الى الخلف بتحدٍ أكبر وهي تعيد بنبرةٍ أعلى (ما سمعته)

امتدت يد عاصم لتقبض على لحم ذراعها بشراسةٍ كادت أن تمزقه، وهدر فيها  بصوتٍ أثار رجفة بداخلها لكنها منعت ظهورها بمنتهى القوة (هل جننتِ كيف  تجرؤين على مكالمتي بهذه الطريقة؟، أين كنتِ؟، انطقي حالا و ارحمي نفسك من  غضبي).

لم تحاول التملص من يده المتشبثة في ذراعها و صرخت بثورةٍ زائفة (سهرت  مع بعض أصدقائي، هل هي جريمة؟، ثم ما دخلك أنت؟، أنا متزوجة و في عصمة رجل  أما أنت فلا سلطة لك على أبدا).

تركت يده ذراعها وامتدت لتجذبها من شعرها فصرخت بشدة بينما صرخت أمها و  اقتربت جريا لتحاول أن تخلص شعر حور من يده لكن دون جدوى، فاخذت تستعطفه  برحمةِ والده دون جدوى وهو يهدر بشدة (ماذا بكِ؟، هل جننتِ أم تناولتِ شيئا  أفقدك صوابك. هل تظنين أن كونك متزوجة مع إيقاف التنفيذ فإن ذلك سيمنحك  الحرية لتتصرفي كما يحلو لك، كما يتصرف اولائك السفهاء اللذين تختلطين بهم،  إن ظننتِ للحظة أنكِ منهم أو أني أصبحت من مؤيدين تلك الحريةِ الهمجية  بدعوى التحضر فأنتِ مخطئة تماما، أنا لازلت ابن الحاج اسماعيل رشوان، وحين  تحاولين ولو من بعيد المساس بأحد قواعد هذا البيت فسأنسى تلك الحلة التي  أرتديها وقسما بالله العظيم سأريكِ وجها لم تعرفيه طوال حياتك).

صرخت في وجهه و قد دفعها الخوف الى الصراخ أعلى و أعلى حتى لا تتراجع  (من تظن نفسك، إن كنت أسكت لك أحيانا فهذا فقط لأريح نفسي من طباعك الغبية،  لكن لا تظن للحظة واحدة أنك تخيفني، إن كنت حتى لا تخيف خطيبتك الغبية فهل  تظن أن?



4=رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

تحركت حور تصعد أولى درجات السلم والتي كانت حنين تجلس عليها ضامة  معتز المتسع العينين الى صدرها، وما أن مرت حور بهما حتى التقت عيناهما في  حوارٍ طويل، حوارٍ يظلله العتاب في عيني حنين، نظراتٍ متهمةٍ بألم،  فاستشاطت حور غضبا وهي ترد اليها نظراتها بشراسة، رفعت ذقنها بقوةٍ وألقت  عليها نظرة استعلاءٍ واضحة ثم تجاوزتهما لتصعد الى غرفتها...

هي لا تهتم بأيٍ منهم، هي لا تهتم، أخذت ترددها بنفسها أثناء صعودها،  لقد حصلت على ما أرادت وبمنتهى السهولة فلماذا تنظر الى الوراء، فلتفكر في  نفسها، فأمامها الطريق الأصعب الآن، اكتساب قلب نادر، وياله من طريقٍ  طويل...

أثناء ترتيبها لملابسها في الحقيبةِ الموضوعة على الفراش وقلبها ينبض  بجنون الترقب للعودةِ اليه، جاءت حنين ووقفت بالباب المفتوح تنظر اليها  بجمود، القت عليها حور نظرة لا مبالية ثم أعادت نظرها الى ما تفعله، وهي  تقول ببرود (يبدو أن لديك ما تريدين قوله، لكن اعذريني لست مهتمة لسماعه).

ظلت حنين صامتة لعدة لحظات ثم قالت بصوتٍ خافت (لقد تسببتِ في شرخٍ كبير  بينك وبين عاصم، دون سببٍ معقول، هل تظنين أن تلك هي الطريقة المثلى  لتعودي لنادر، وماذا بعد أن تزول تلك العلامات من على وجهك، الى ماذا  ستلجأين وقتها؟).

توقفت حور عما تفعله، ثم اقتربت منها ببطءٍ شرس وهي تحدق في عينيها  بتهديد، الى أن توقفت على بعدِ خطوةٍ منها وهمست (كيف تجرؤين على التدخل  فيما يخص حياتي، من أعطاك الحق لتبدي رأيك أصلا، يبدو أننا قد تهاونا معكِ  طويلا، أفيقي، أفيقي يا حنين واعرفي مركزك في هذا المنزل، هل اعتقدت حقا  بأنك بمثابة أختنا ولك نفس حقوقنا؟).

شعرت حنين بنصلٍ سام يغرس في قلبها، لطالما عاملتها حور على هذا الأساس،  لكنها المرةِ الأولى التي تنطقها بمثلِ هذه القساوة، فغرت شفتيها قليلا  وهي غير قادرة على ابعاد عينيها عن عيني حور المخيفتين بالرغم من  جمالهما...

ابتلعت ريقها ثم همست باختناق (لو كان عمي لا يزال حيا، لما أسمعتني هذا الكلام).

ضحكت حور ضحكة قاسية وعينيها تلمعانِ بشر ثم قالت (اتركي تلك النغمة  الحزينة يا حنين، فقد مللت منها، اتظنين حقا أنني لا أعرف السبب الحقيقي  لاستياؤكِ؟)

عبست حنين وهي تهمس بألم (من قال أنني مستاءة؟)

ضحكت حور بغنجٍ مرة أخرى ثم اقتربت من وجه حنين المصدوم وهمست (لن تستطيعي  إخفاء مرارتك من أن عاصم لم يفكر في الزواج منكِ، ليفضل عليكِ دانا ابنة  العز و النسب، لا تستطيعين تمني السعادة لغيرك اليس كذلك؟).

شعرت حنين بأنها ماتت في هذه اللحظة الف مرة. إنها لم تحب عاصم يوما ذلك  الحب الذي تكنه لعمر، بل من الظلم المقارنة أصلا، عاصم بالنسبة لها ليس  اكثر من أخ، الآن فقط تعرف بأنه لو كان تزوجها بالفعل لكانت وقعت بيدهاعلى  شهادة توقف حياتها...

لكن طريقة حور في سرد الموضوع الآن قد أظهر لها مقدار ضآلة مكانتها في  أعينهم هنا في هذا المنزل، الجميع ينظر اليها بشفقة ٍ لا تستحق غيرها، زادت  بعد أن خطب عاصم غيرها...

بادلت نظرات حور الفلاذية بنظراتٍ مجروحةٍ ندية، دون أن تستطيع انكار ما  كان جليا لهم، همست باختناق (أنا، لم، عاصم لم يكن، يوما الا أخي، وهذا  الكلام لا يصح)

ابتسمت حور وهي تمد يدها لتلاعب خصلاتِ شعر حنين الناعمة وهمست (فقط أحببت  أن أنبهك، بدلا من اهتمامك بشؤوني الخاصة، اشغلي نفسك بالتفكير في وضعك  الجديد)

نظرت اليها حنين بدموعٍ حبيسةٍ وهمست بتلعثم (أي وضع؟).

قالت حور بتشفي (بعد خروجي من هنا سيكون وجودك في هذا المنزل محرجا جدا  بوجود عازبين به، وحتى بعد زواج عاصم، فلازال مالك موجود، وهذا وضعا لا  يصح)

اتسعت عينا حنين بالم و اخذت تهذي متلعثمة (أنا، أنا هنا منذ سنين، فمالذي سيختلف الآن؟).

اجابتها حور بلامبالاة وهي تستدير لتتجه الى حقيبتها بعد أن أكملت  مهمتها المؤذية، (كان عمك على قيدِ الحياة، أما الآن فالوضع اختلف ولن يعجب  الناس اللذين يتهافتون على ابتداع الاخبار عن غيرهم، وأنا أعتقد أن أمي لن  ترضى بمثل هذا الوضع).

أخذت حنين تنشج من هذا الجو الخانق من حولها والذي أوشك ان يطبق على  صدرها، ما هذا الكابوس المحدق بها، استطاعت، أن تهمس مختنقة في النهاية  ودمعتين قد فرتا من عينيها الى وجنتيها (فليوفقك الله يا حور بما يسعد  قلبك)

ثم استدارت لتغادر الغرفة جريا الى غرفتها الآمنة، مبتعدة عن الأذى المفجع الذي أصابتها به حور...

توقفت يدا حور عما تفعله واحنت رأسها مغلقة عينيها وهي تفكر، الى متى  يضيع بها الطرق، الى متى ستجرح كل من يعوق جموحها، لقد كذبت في كلِ كلمةٍ  نطقت بها الآن بمنتهى الخسة و الوضاعة.

تابعت ما تفعل والفرحة بداخلها تهتز دون الإكتمال وكأنها تأبى أن تمنحها  الأمل وقفت للحظةٍ مرة أخرى، تلتفت الى مرآتها لتنظر الى صورتها، هل زاد  تشوه وجهها أم أنها تتوهم؟، صورتها بعيدة كل البعد عن الجمال، هناك شيئا  ناقص، لاتعلم ما هو، وهي متأكدة بأن هذا الشيء هو الذي يبعد نادر عنها، لو  وجدت ما تكمل به وجهها المشوه في المرآة لعاد اليها نادر في طرفة عين، أم  أن التشوه اعمق و أكثر اثرا مما تظن، هناك شيئا غائرا يفسد كل ما تفعل، أو  هو سبب كل ما تفعل، تفقد السيطرة على نفسها يوما بعد يوم، لكن ليس الذنب  ذنبها، الذنب ذنبه هو، هو من يغذي فيها تلك الروح الهاجعة التي تحرق من  حولها، حسنا، حسنا، لم يفت الوقت بعد، هي تعرف حق اليقين بأنها تكون أفضل  معه، أنقى و أجمل، لذا تريد قربه ليتلاشى تشوهها بين أحضانه، هو دائها  ودوائها، هو إكسير عشقها المضني، ابتسمت تحاول طمأنة نفسها، كل شيء سيكون  على ما يرام...

كان وداع الحاجة روعة لحور مؤلما غاية الألم لها تعتصرها بين ضلوعها،  لتعاود تركها واحتضان معتز الصغير، ثم تعود لضم حور مرة أخرى، متألمة من  طريقة عودتها بهذا الشكل الذي لا يليق بابنة الحاج اسماعيل لكن في نفس  الوقت قلبها كأم لا يتمنى الا أن تعود المياه لمجاريها، وما الذي تتمناه  الأم الا استقرار ابنتها في زواجها، لكن ما حدث بالأمس بين ولديها، لم يكن  ليريح والدهما في قبره...

من ناحيته عاصم لم يتحرك من مكانه لتوديعها، بل رماها فقط بنظرةٍ بلا  روح، أغفلت عنها عمدا وهي تسير حاملة حقيبتها و حقيبة معتز، تتعثر بهما،  فتناولهما نادر منها و الذي كان عابسا بشدة، ومرسوما على ملامح وجهه، أنه  قد وقع في الفخ...

خرجت حور وهي تلقي الى أمها الباكية نظرة وداع وابتسامة مشجعة تحاول أن  تطمئنها بها، ثم أغلقت الباب خلفها مصدرة صوتا كئيبا على كل من بالمنزل...

جلست حنين أرضا مستندة بظهرها الى ساقي زوجة عمها بعد خروج عاصم هو  الآخر، تستمتع بوضع رأسها على ركبتيها المريحتين كما كانت تفعل منذ أن كانت  طفلة، و زوجة عمها تمشط لها شعرها في تلك الضفيرة الطويلة، عيناها  متورمتانِ من البكاء وقلبها كسيرا ينزف، لقد تأذت جدا بسهامِ حور، لكنها  فضلت أن تظن زوجة عمها بأن بكاؤها سببه فراق حنين ومعتز...

تنهدت وهي تستمع الى بعض نشيج زوجة عمها الباكي الناعم، فهمست حنين بحزن (كفى بكاءا عمتي، الستِ سعيدة بعودة حور الى زوجها؟)

تابعت تضفير شعرها وهي تقول من بين دموعها (لم أكن أتمنى أن تعود بتلك الطريقة القاسية، ومعتز، كيف سأتحمل فراقه)

ابتلعت حنين غصة في حلقها لكنها تماسكت وقالت (الأفضل له أن يكون بين والديه).

أومأت الحاجة روعة برأسها، وهي تكفكف دموعها ثم قالت بصوتٍ حازما (هيا أيتها الصغيرة لقد انتهيت، و أنتِ قد تأخرتِ على عملك اليوم)

تفتح قلب حنين قليلا و هي تسمع كلمة العمل

ربتت الحاجة روعة على شعرها الناعم وهي تقول بحنان (هيا، الآن، كفى كسلا واذهبي لعملك)

أومأت حنين برأسها على مضض، آخذة نفسا عميقا، ثم قالت قبل أن ترحل (ألم يبيت هنا مالك بالأمسِ أيضا؟).

هزت الحاجة روعة رأسها بأسى وهي تقول (لا، لقد قضى ليلته في البيت  القديم كما يفعل أحيانا، لكني أحمد الله أنه لم يكن موجودا بالأمس، والا  لكانت قامت الحرب بينه وبين أخيه الأكبر)

وافقت حنين على كلامها، بالرغم من توجعها قلبها على مالك، الذي لايزال الى  الآن يذهب في بعض الليالي الساكنة ليقضيها بجوار ذكرى بعيدة...

مع شروق الشمس كانت تلك الألوان الوردية تلون السماء، لتكمل الصورة  الرائعة مع أسطح البيوت القديمة و مآذن الجوامع والبحر الظاهر من بعيد،  مهما طال به الزمن سيظل يعشق تلك اللوحة...

جالسا على السور الأحمر القديم، رافعا إحدى ساقيه علية، ينظر متشربا كل  تفصيلة من هذا الصباح الرائع، بينما يظل قلبه الحزين أسيرا لتلك الذكرى،  ذكرى بعيدة، أسيرا لها بقرارٍ منه، يأبى أن يعطيه الاذن بالحريه، كان  بامكانه النسيان و التجاوز منذ زمنٍ بعيد، الا أنه كان يعود ليذكرنفسه عمدا  بكلِ تفصيلةٍ تخص تلك الصغيرة، ضحكتها، نظرتها المترقبة، نوار، ابتسم  بحنان وهو يتذكر تذمرها بشأن اسمها، هاتفة بحنق أنه اسم يليق بالصبيان،  لكنه كان يضحك مقنعا إياها بأنه اسما على مسمى، زهرة الفاكهة الصغيرة، كان  هناك رابطا سحريا يربط بين صبيا و طفلة، منذ أن كانت في الخامسة، بخصلاتها  الذهبية التي تماثل هذه الشمس الدافئة...

أمسك بتلك الدمية القديمة الموجودة بجواره ليتأملها مبتسما بحزن، تلك  الدمية بان أثر الزمن عليها، منذ سنين وهو يخفيها هنا في هذا السطح بداخل  الجرة الطينية التي لم تتحرك من مكانها منذ سنين، كلما جاء ليبيت هنا في  البيت القديم يصعد الى السطح ليجلس الى سوره ممسكا بهذه الدمية، يخاطبها و  يقص عليها كل أخباره...

لقد صار عمرها الآن خمسة وعشرون عاما، ابتسم وهمس (عيد ميلاد سعيد يا نوار، عيد ميلاد سعيد يا صغيرة).

ثم قام من مكانه ليضع الدمية الحبيبة في الجرة القديمة، حيث مخبئها  الآمن، ثم أمسك بالدمية الجديدة التي جلبها تماما كما يفعل كل عام، حتى صار  عددهم خمسة عشر دمية، موضوعاتٍ بعناية داخل صندوقٍ قديم، من ضمن الأشياء  القديمة المرمية في السطح هنا وهناك...

ثم نفض بنطاله الجينز من الأتربة، وأخذ نفسا عميقا يملأ صدره بهواء الصباح  المنعش وهو يقول (ها قد بدأ يومٌ جديد، تمني لي الخير يا نوار الصغيرة).

ثم غادر السطح مغلقا بابه الخشبي القديم بكل حرص، حيث يحفظ فيه كنزه الغالي...

إن أعصابها على وشكِ أن تنهار، منذ ساعة تقريبا وهي تقف هنا منتظرة دخول  السيارة السوداء، نظرت الى ساعة يدها فوجدت أنه قد تأخر نصف ساعة على غير  المعتاد، فالمعروف عن عاصم رشوان أنه دقيقا في مواعيده كالساعة، فمالذي  أخره اليوم؟، طبعا طالما أنها تريده فمن المؤكد بأن شيئا ما سيعرقل الأمور،  أنه الحظ العاثر و الذي يلازم أسرتها منذ فترة...

لقد تعبت قدماها من الوقوف، لكنها لن تستطيع التحرك من مكانها فلقد  انتظرت طويلا الى أن استطاعت التسلل الى المرآب ما أن اختفى الحارس  للحظة...

أخذت تنقل ثقلها من قدمٍ لأخرى وهي تتلاعب بعصبيةٍ بقماشِ تنورتها السوداء  البسيطة التي تصل الى ركبتيها، ترفع يدا لتلف خصلة منسابة من شعرها على  إصبعها بنعومةٍ وهي تعض على شفتها بتوتر.

تلك المقابلة هي أملها الوحيد في أن يقبل عاصم رشوان الإستماع اليها،  بعد أن أبلغتها سكرتيرته بأن لا وقت لديه أبدا للمقابلات، لكنها تعرف تماما  بأنه رفض مقابلتها بعد أن عرف باسمها كاملا، فهو غير مستعد للخوض في  جدالات عقيمة، كل مايريده هو اخلاء البيت...

لذا لم يكن لديها سوى أن تقابله رغما عن أنفه، إن كان ذلك سيحول دون رميهم في الطريق...

توقفت عن التفكير تماما حين وصل اليها صوت دخولِ سيارة، فأطلت برأسها لتنظر، إنها هي، إنها هي، السيارة السوداء

سيارة عاصم رشوان...

أعادت رأسها بسرعةٍ خلف العامود الخرساني المختبئة خلفه، الى أن سمعت صوت  وقوف السيارة، وصوت الباب يفتح ثم يغلق، حينها خرجت من مخبئها، ليطالعها  شابا ذو قوام رياضي رشيق معطيا ظهره لها مستعدا للخروج من المرآب...

فنادت بسرعةٍ قبل أن يغادر (سيد عاصم).

توقف الشاب مكانه ثم التفت اليها مندهشا، للحظةٍ نسيت ماكانت على وشكِ  قوله، أهذا هو عاصم رشوان؟، كانت تظنه أكبر سنا، هي لم تقابله من قبل لأن  كل التعامل كان مع محاميه...

لم تتخيل أنه بهذه الجاذبية و، يبدو أنها نسيت فمها مفتوحا كعادتها دائما  لعدة لحظات الى أن رأته يتحرك ببطءٍ تجاهها فوقف أمامها تماما يتأملها  عابسا بحيرةٍ لكن مع ابتسامة، يالهي ما أجملها، ماهذا الحنان المتدفق من  ابتسامته المتحيرة...

ابتلعت ريقها وهي ترمش بعينيها فتطوع هو ليبدأ الكلام حين شاهد تلك  الصعوبة التي تحاول بها التقاط كلمتين لتقولهما (عذرا، هل تقصدينني؟)

أومأت برأسها وهي تحاول عبثا استحضار بداية تلك الخطبة الطويلة التي ظلت  تحفظها طوال اليلة الماضية، الى أن استطاعت في النهاية أن تهمس متلعثمة  (نعم، أنا، أنا، لقد كنت أنتظرك منذ فترة، لقد تأخرت اليوم).

اتسعت ابتسامته تسلية مع ارتفاع حاجبيه قليلا فعضت على شفتها مرتبكة  تلعن غبائها، مطرقة برأسها، يبدو أن أن الحوار سيفشل قبل أن يهدأ، لم تستطع  منع الدموع من الظهور في عينيها فأبقت رأسها منخفضا حتى لا يراها...

ترك لها لحظة وهو يقف بصمتٍ أمامها مبتسما برقة ثم قال أخيرا برقة (أعذريني  إن كنت قد جعلتك تنتظرين طويلا، لكن لم أكن أعرف أن هناك من ينتظرني، في  المرآب).

رفعت عينيها اليه وهي تسمع صوته الهادىء الذي يحوي لمحة مزاحٍ رقيقة،  فقالت أخيرا مرتبكة بسرعة (لم، لم أقصد، أعني، كنت أنتظرك من أجل، أنا في  مشكلةٍ كبيرة، و أنت كنت ترفض مقابلتي دائما، لذا لم).

لم تستطع أن تكمل وهي تشعر أن الأمر يزداد سوءا، كانت تريد أن تباغته  بعد رفضه لمقابلتها، وكان أسلوبها المنمق في الكلام الذي أخذت تتدرب عليه  طويلا هو وسيلتها الوحيدة لتجعله يستمع اليها، لكن بعد دفعة الفشل التي  أصابتها الآن فربما على الأرجح سينادي على الحارس ليرميها بالخارج، كما  سيفعل مع أسرتها خلال اليومين القادمين...

لكن أثناء تفكيرها المبتئس سمعته بدهشةٍ يبادر بالقول (لما لا تعرفيني على نفسك أولا، ثم ننظر الى مشكلتك)

يالهي بالفعل انه لم يعرفها بعد، وكيف سيعرفها، فقالت بتردد مختنق وهي تخشى  من ذكر اسمها الذي سيجعله يرميها خارجا دون تردد (أنا، أنا أثير القاسم)

انتظرت هدير غضبه ما أن يسمع اسم القاسم، لكن لدهشتها أعاد اسمها هي وحدها  همسا وهو يقول مبتسما برقة (أثير، اسمك جميل للغاية يا اثير).

نظرت اليه بذهولٍ للحظات ثم ضحكت بعصبية وهي تهذي تقريبا (ليس إن سمعت  بأنه في الكيمياء عبارة عن سائل عضوي لا لون له، يذيب الموادَّ العضويةَ)

ضحكة بخفة وهو يتطلع الى رأسها المنخفضة خجلا بخصلاتها النحاسية الناعمة، ثم قال برقة (لكنه أيضا يعني المفضل)

ابتسمت بخجل ووجها يتحول الى اللون الأحمر القاني، فتابع بعد أن لاحظ هدوءها أخيرا (الآن يا أثير، كيف دخلتِ الى هنا؟).

عادت لتعض شفتيها من جديد دون أن تملك القدرة على النظر اليه، فقال برفق  (لا تكوني مرعوبة بهذا الشكل، أنا أسألك فقط، تكلمي ولا تخافي)

قالت بخفوت بعد أن اطمئنت لصوته الرقيق (لقد تسللت دون أن يراني الحارس)

ثم ما لبثت أن رفعت وجهها اليه بعينين خائفتين متسعتين وهي تقول بسرعة (لقد تسللت دون أن يراني، ليس خطؤه أبدا، أرجوك لا تعاقبه).

عاد ليبتسم من جديد وعيناه تشعانِ دفئا وتسلية، ثم قال (حسنا أثير، لا تقلقي على الحارس و أخبريني عن مشكلتك)

نظرت اليه بحيرةٍ و حرج ثم همست وهي تتمنى أن تنشق الأرض و تبتلعها (أنت  تعلم المشكلة يا سيد عاصم، كل فقط ما نريده هو المزيد من الوقت، نحن لم  نستطع أن نتدبر أمرنا الى الآن)

عبس قليلا ثم قال بلهجةٍ رقيقة (لما لا تقصين الأمر باختصار، فأنا تتوه منى الأمور قليلا).

ارتبكت أكثر وعبست، هل يعقل أن يكون قد نسي، هل هو قاسي القلب الى هذه  الدرجة، يكاد أن يرميها هي ووالدها خارج بيتهم و يرفض مقالبتها تماما، ثم  ينسى بكلِ بساطة...

قالت بصوتٍ لا يكاد يسمع، حتى أنه أحنى رأسه قليلا ليستطيع سماعها وهي  تهمس (بيت القاسم، لقد أبلغتنا بموعد الإخلاء، بعد يومين، والى الآن لم  نستطع أنا ووالدي أن نجد مكانا ليأوينا، أنا أعرف أنك قد منحتنا وقتا أطول  مما ينبغي، لكنك تعرف حالة والدي، فقط لو تتكرم وتمهلنا بعض الوقت)

سألها بهدوءٍ تام بعد فترة صمت قصيرة (هل تم البيع بالفعل؟، هل قبضتم الثمن؟).

عبست أكثر لكن دون أن ترفع رأسها اليه، ماذا به؟، بالطبع يعرف أنهم قد قبضو الثمن، أم يريد أن يفهمها الإجابة بتلك السخرية الفجة...

قالت بصوتها الخجول (أعرف أنه بعد أن أخذنا المال من المفترض أن نترك  المنزل، لكن الى الآن لم نتمكن من ايجاد مكانا آخر فلو تكرمت بإمهالنا  مزيدا من الوقت)

لم يجبها، بل سألها بعد فترة صمت (هل كان المبلغ أقل من ثمن المنزل الحقيقي؟).

مرة أخرى ازداد احمرار وجهها وهي تشعر به يعايرها بأسئلته فأجابت بحزن (كان مناسبا تماما أنا أعرف ذلك جيدا)

(انظري إلى وأنتِ تتكلمين)

صعقت تماما حين قاطعها بهذا الأمر الهادىء فرفعت اليه عينيها السماويتين  الناعمتين، فابتسم وهو يقول برقة (لا تحني رأسك لأحدٍ أبدا مرة أخرى).

ظلت ناظرة الى عينيه دون أن تجد القدرة على النطق بشيء، في الحقيقة  بالإضافة الى احراجها من التذلل له الا أن النظر في عينيه يصيبها باضطرابٍ  يجعلها تنسى ما تريد قوله، لكنها حاولت رغما عنها التركيز على الرقة  النابعة من جملته، هل سيلين لطلبها؟..

يبدو أنه ليس ذلك الظالم الذي ظنته، فلربما يتعطف عليها، فهمست  باستعطافٍ منبعثٍ من تلك العينين الشبيهتين بزهرتي بنفسج (هل ستمنحنا بعض  الوقت يا سيد عاصم؟، أعدك ألا يطول الأمر، سأفعل ما بوسعي لكي أتدبر مكانا  لاقامتنا في أسرع وقت).

ظل ينظر الى عينيها بعينيه الغريبتين اللتين تجمعانِ بين الرقةِ و  الحزنِ معا، ثم قال بصوتٍ هادىء (هل أستطيع أن أسأل لما لم تستخدموا المال  في ابتياع شقة ملائمة الى الآن؟، بإمكاني مساعدتك في ايجاد شقة ٍ مناسبة  بالمبلغ المدفوع)

ارتبكت مرة أخرى، وعادت الى النظر أرضا وهي تلوي قماشِ تنورتها بعصبيةٍ بين  أصابعها المتعرقة، فقال بهدوءٍ حازم (قلت لكِ انظري إلى يا أثير، لا أحب  مخاطبة من لا ينظر الي).

رفعت وجهها المرتسم عليه ملامح الأسى دون أن تلتقي عينيها بعينيه، الى أن تمكنت من النطقِ باختناق (لقد، ذهب المال، كله)

ارتفع حاجبيه قليلا، الا أنه لم يتكلم منتظرا إياها لتكمل إن أرادت، فتابعت  بعد فترة بصوتٍ أكثر اختناقا (كانت والدتي في حاجة الى إجراء جراحة عاجلة و  خطيرة لكن، لهذا اضطررنا لبيع البيت).

للوهلةِ الأولى أدرك قميصها الأسود البسيط و تنورتها السوداء البسيطة  كذلك، و أدرك أنها قالت الآن بأنها تريد الإنتقال هي ووالدها فقط دون ذكر  امها، لذا استنتج الأمر فقال برفقٍ أكبر (البقاء لله).

أومأت برأسها وهي مختنقة بدموعها، لقد فشلت تماما في الحوار المنطقي  الذي كانت تنشده، لذا التزمت الصمت بدلا من أن تنفجر البكاء و حينها ستكون  عبارة عن كارثة بشريةٍ لن يتوانى عن طردها في الحال، فهو بالتأكيد لا وقت  لديه لمثل هذا الإستعطاف الإستعراضي

عاد ليسأل فجأة (كم عمرك يا أثير)

للمرةِ الثالثة تندهش من أسئلته الغير متوقعة لكنها أجابت بصوتها المنخفض بفعل الدموع المحجوزة (خمسة وعشرين).

ابتسم ابتسامة شاردة قليلا لكنه لم يعلق، الى أن قال بعد فترة (حسنا يا أثير، اتركي الأمر لي، لا تقلقي)

اتسعت عيناها بأملٍ ملهوف وهي لا تصدق ما سمعته، هل وافق بهذه البساطة، بعد  كل عذاب الفترة الماضية من الانذارات بالاخلاء و رفض المقابلة، فهمست  بذهول لتتأكد (هل، تعني ذلك، حقا؟، هل ستمنحنا بعض الوقت؟)

أومأ برأسه وهو يقول بهدوء (نعم، سيكون لكما الوقت اللازم الى أن نرى حلا للموضوع).

حل؟، ما الحل الذي يستطيع تقديمه لها؟، لكنها لم تشأ أن تفسد فرحتها  باللحظةِ الراهنة بالتفكير في المستقبل الصعب، لذا قالت بلهفةٍ و امتنان  يكاد أن يقفز من عينيها (أشكرك، أشكرك جدا يا سيد عاصم، لا أستطيع، أنت لا  تعرف كم، أنا حقا)

ضحك برقةٍ وهو يقول (حسنا، حسنا يا أثير لقد فهمت، استجمعي كلمتين مفهومتين).

ابتسمت وهي تنظر اليه ممتنة من بين الدموع المظللةِ لعينيها، واللتين  تعلقتا بعينيه لأطول من لحظة، فأشاحتهما بعدها ووجنتيها تحمرانِ بشدة،  سمعته يقول بعدها مداعبا (حسنا أثير، أنا مضطرا للصعود الآن، والا لكنت  قضيت معك المزيد من الوقت الممتع هنا).

اتسعت عيناها و ارتاعت نظراتها وهي تعي بانها كانت تحتجزه هنا في المرآب  لتشغله عن عمله الذي أتى اليه متاخرا أصلا فقالت برعب (أنا آسفة، أنا آسفة  جدا، لقد عطلتك جدا، لقد كنت في طريقي للخروج)

قطعت كلامها وهي ترى بريق الدعابة في عينيه، وابتسامته، يالهي ما أجمل  ابتسامته، هزت رأسها وهي تنهر نفسها لتحثها على الخروج حالا، فقالت بخفوتٍ  مرتبك (عن اذنك، وأشكرك جدا، على كلِ شيء).

واستدارت بالفعل تنوي المغادرة، لكنه قال من خلفها (أعتقد أنه من الأفضل أن تخرجي معي، لأن الحارس لن يتركك تخرجين بسهولة)

تسمرت مكانها وهي تعض على شفتها، نعم بالتأكيد، كيف كانت ستخرج هكذا من المرآب الخاص بسيارة عاصم رشوان...

لكنه لم يتركها لإحراجها طويلا و تحرك ليصبح في محاذاتها وقال مبتسما وهو ينظر اليها (هيا بنا).

احمر وجهها بشدة حتى أنه خشي أن تنفجر وجنتاها لذا لم يزيد في الحديث  رأفة بخجلها المريع، تحركت الى جواره وهي تتطلع بطرف عينيها الى كتفه الذي  هو على مستوى نظرها، كم هو طويل، كيف يرى العالم من هذا الطول العالي...

أخفضت نظرها وأكملت سيرها، وما أن اقتربا من البوابة حتى توقف والتفت اليها  مبتسما ليقول برقة (نسيت أن أخبرك شيئا واحدا يا أثير، عاصم لديه عملا  ينهييه بالخارج، أما عني، فأنا مالك رشوان، هيا بنا).

فتحت شفتيها وعينيها ذهولا، مالذي حدث للتو، مالذي قاله، اليس هذا عاصم،  بعد أن ترجته و شرحت له كل الوضع المخجل، كانت تكلم الشخص الخاطىء، مالك،  من هو مالك...

ابتعد عنها مالك عدة خطوات ثم التفت اليها ليجدها متسمرة كتمثال منحوتٍ  بفمٍ مفتوح ببلاهة، فكتم ضحكته بصعوبة وهو يقول (هيا أثير، و أغلقي فمك  أعتقد أنكِ نسيتيه مفتوحا).

اشتعل الغضب بداخلها في لحظةٍ واحدةٍ و برقت عيناها غيظا، فاقتربت منه  بخطواتٍ خرقاء جذبت نظره الى ساقيها المتقدمة تجاهه بتهديدٍ صامت الى أن  وقفت أمامه ورفعت نظرها البراق اليه كقطةٍ منفوشة الشعر بتحفز، وهتفت  متناسية الى من تتخاطب (الست عاصم رشوان، و تركتني أتكلم كل هذا عن أمورٍ  خاصة، كيف تستطيع أن)

قاطعها وهو يضع إصبعه على فمه قائلا بهمس (هششششش، سيسمعك الحارس و موقفك سيكون سيئا للغاية).

زمت شفتيها بحنق فتابع بهدوء وهو يمد يده اليها (يبدو أنك لم تلاحظي  الإسم الأخير، أنا مالك، رشوان، شقيق عاصم، لذا لا تقلقي فالموضوع في  داره).

يالهي، كل يوم تتفنن في أن تثبت لنفسها بأن غبائها لا مثيل له، لقد صرخت  للتو في شقيق عاصم رشوان، لكنها لم تجد بدا من أن ترفع يدا مرتجفة ليده  القوية، وما أن أحاطت أصابعه بأصابعها حتى توقف الزمن للحظات، شعرت، شعرت  بشعورٍ غريب وكأن تلك الأصابع الدافئة، قد واستها للتو، كحضنٍ دافىء،  انتزعت يدها بسرعةٍ قبل أن يظهر عليها أيا مما شعرت به...

ثم همست بصوتٍ تمكنت من اخراجه بصعوبة (اعتذر، اعتذر عن كل ما).

لم تستطع الإكمال فتطوع مالك ليقول عنها مبتسما (لم تفعلي شيئا لتعتذري عنه يا أثير، لكن لا مانع من سماع اعتذارك).

ثم استدار ليعاود السير، فحثت خطاها لتسير خلفه، تكاد أن تكون ملاصقة  لظله، شاردة في طيفه وهو يسير أمامها، تفكر بصمت، من أين انبعث اليها، في  هذا الوقت تحديدا، وكأنه كان ينتظرها ليلبي طلبها، عادت لتنهر نفسها حتى لا  تمني نفسها بالمستحيل، فهي تعرف أن عاصم رشوان هو الآمر الناهي، لكن  فلتأمل خيرا، فلربما بعثه الله اليها ليساعدها بالفعل...

حين تجاوزا الحارس الذي القى التحية الى مالك رشوان باحترام محدقا في  أثير بحيرة، التي اخفضت رأسها بارتباك وهي تعلم جيدا ما يدور في رأسه، لابد  و أنه يتسائل كيف لم يلحظها جالسة في سيارة مالك رشوان أثناء دخوله الى  المرآب و الا لكيف دخلت الى هنا، ما أن خرجا الى الشمس الدافئة ووقفا  متواجهين حتى تنفست الصعداء، فالساعة الأخيرة كانت مرهقة عصبيا لها بشكلٍ  يفوق قدرتها على التحمل، أخذت نفسا عميقا من هذا النسيم الدافىء لتملأ به  رئتيها مغمضة عينيها المرتفعتين للشمس...

بعد نفسا آخر سمعته يقول بقلق و لمحة دعابة (هل سيكون على أن أحملك الآن  إن سقطت مغشيا عليك ِ؟، سيكون منظرنا مريعا و أنا اصعد حاملا اياكِ).

لكم كانت محتاجة لأن تضحك في هذه اللحظة، لماذا هذا الشخص الذي لم تكن  قد رأته من قبل الساعة الماضية يثير فيها هذه الرغبة المضنية للإبتسام. بل  وحتى الضحك، كل كلمةٍ ينطق بها تستحثها مستجدية لترسم بسمة على شفاهها،  والآن لم تلك القدرة على رفض استجداء كلماته، فابتسمت ببطء، لتنفجر  الإبتسامة ضحكة، لتنفصل الضحكة الى ضحكاتٍ عاليةٍ رنانة. تصاحبها دموعٍ  ناعمة من عينيها اللتين تبرقانِ ارتياحا، للحظاتٍ ظل مالك ينظرمبتسما الى  ضحكها الجميل، يتركها لينظر حوله ليتأكد من أحدا لا يرى مظاهر الجنون على  تلك الغريبة، ثم يعود لينظر اليها مبتسما من جديد، كم يحب أن يرى ضحكة  فتاةٍ صغيرة مبتسمة للشمس، لوحة يحب أن يرسمها كثيرا، و لقد رسم العديد  منها، الفتيات الضاحكات للشمس...

وها هو يرى لوحة جميلة سيرغب بالتأكيد في رسمها، يوما ما...

حين هدأت قليلا رفع يديها لتمسح دموع الضحك المنبعثة من عينيها المرهقتين  دون أن يفقدا بريقهما الناعم، ثم نظرت اليه وهي تلهث قليلا، وهمست (هل  سأكون مملة إن شكرتك مرة أخرى؟)

اتسعت ابتسامته ثم أومأ برأسه وهو يقول مرحا (نعم ستكونين مملة للغاية في الواقع، هيا اذهبي، لقد أخرتني جدا).

عادت لترتبك احراجا مرة أخرى لكن هذه المرة ظلت الإبتسامة مظللة لشفتيها  وهي تومىء برأسها، رفعت يدها لتلوح له بخفة من عند رأسها، ثم استدارت  لتغادر، أوقفها صوته الرقيق ليقول (هل تريدين أن أرسل معك من يقلك الى  المكان الذي تريدين؟).

التفتت قليلا وابتسمت له وهي تهز رأسها نفيا، فأومأ برأسه دون أن يتكلم،  متابعا إياها بنظره وهي تبتعد بخفة راقصة باليه، تكاد لا تلامس الأرض  القاسية بقدميها الصغيرتين المنتعلتين حذاءا يشبه ذلك الخاص بالباليه...

قد يرسمها وهي تضحك لكن مع حركة رقصٍ ناعمة، ستكون رائعة و سيكون الأروع اظهار طفولة روحها المنبعثة من عينيها في تلك اللوحة...

دخل عاصم الى مكتبه بكلِ هيبته المخيفة. لكنه شكله اليوم كان مثيرا  للرهبةِ بشكلٍ أكبر، عيناه حمراوين، ذقنه النامية قليلا غير حليقة على عكس  عادته، أصابعه متوترة على حباتِ سبحته...

ما أن أغلق الباب خلفه حتى التفت اليه الشاب الواقف ينظر من النافذة، وقال مبتسما (صباح الخير، لقد تأخرت).

نظر اليه عاصم بنظرةٍ تجمع مابين الغضب و القسوة، وظلا من الأسى المتبقي  من ليلة الأمس، مماجعل مالك يعبس قليلا وهو يسأله برفق (ماذا بك يا عاصم؟،  هل كلِ شيئٍ على ما يرام؟).

جلس عاصم بتعبٍ على كرسي مكتبه، يعدد حباتِ السبحة وكأنها السبيل الوحيد  لراحته، ينظر أمامه واجما مما جعل مالك يتأكد من أن شيئا قد حدث فاقترب من  عاصم ليضع يده فوق كتفه وهو يسأل بقلق (عاصم هل أمي و حور بخير؟، لم  أكلمها الى الآن، لقد أقلقتني)

قال عاصم باقتضاب دون أن ينظر اليه (لقد عادت حور الى بيتها)

ازداد عبوس مالك مع الدهشة الظاهرة في عينيه، ليقول بحيرة (أي بيتٍ هذا؟).

تنهد عاصم وهو يضغط أعلى أنفه مابين عينيه بإجهاد ثم قال (لقد جاء نادر و أخذها هي ومعتز صباحا).

ازدادت دهشة مالك وهو ينظر اليه، نادر، الم يكن كل طلبه الإنفصال عن  حور، حتى لأنه قد بنى في قلب مالك حاجزا من ناحيته، بالرغم من كلِ طباع حور  الصعبة، الا أن مالك كان يعرف بداخلها شيئا ضعيفا، قبسا من براءةٍ تحاول  أخفاؤها منذ سنين، وحين رأى بعينه حبها العاصف لنادر تأمل خيرا، و شعر بأن  حور قد وجدت ضالتها ومن سيمسك بيدها و يمسح الغبار عن روحها المخفية بقسوة  منها، رأى بنفسه كم كانت تحاول أن تهذب من تلك الروح المجنونة وتطوعها من  أجل نادر، فقط نادر دون غيره، لكنه كان متفائلا بالرغم من ذلك، للأسف لم  ينجح أحد في احداث هذا التأثير على حور الا نادر...

لكن لم يكد يمر على زواجهما عدة أشهر حتى أعادها نادر اليهم، غاضبا  يتكلم بتهذيبٍ معتذر لكن مع عنفٍ مكبوت وكأنه لايطيق أن يتحملها لأكثر من  لحظةٍ أخرى، وحتى مجيء معتز الى الدنيا والذي كان قد نما بداخلها حين  أعادها، لم يشفع لها عنده، حينها شعر بأنه قد بدأ يكره نادر قليلا، شعورٌ  بغيضٌ من كرهٍ لم يعرفه من قبل، وهو يرى حور بكلِ عنفوانها تنكسر نظرتها  أمام شخص واحد، وهو من استأمنوه عليها...

لذا يأتي عاصم الآن ويخبره بكل بساطة بأن نادر قد قرر المجيء صباحا  متعطفا ليأخذهما معه، بعد عامين كاملين من الفراق، تاركا إياها معلقة دون  زواج او طلاق!..

لم يستطع مالك من منع الهتاف الغاضب الذي خرج منه (كيف سمحت بهذا يا عاصم؟، كيف؟، بعد عامين؟، ليأتي هكذا و يصطحبهما دون تنازلات)

لم ينظر اليه عاصم بل ظل ناظرا الى حباتِ سبحته، شاردا بملامحٍ قدت من حجر،  الى أن قال أخيرا بجفاء (أنت لا تعلم مالذي تكبدته حور في سبيل ذلك، لقد  خسرت أخاها من أجل ما أرادته، فقط فلتأمل الا تعود مرة أخرى، لأنها حينها  ستكون قد خسرت كل شيء).

عبس مالك وهو ينظر الى الملامح القاسية، مالذي فاته، ومالذي تسببت فيه حور هذه المرة فسأل عاصم بصوتٍ خافت قلق (مالذي حدث بينكما؟)

لم يرد عاصم ولم تفقد ملاحه قسوتها ولا ظل الإجهاد النفسي من خلفِ عينيه  المسبلتين، يرفض النظر الى مالك فقد يرى في عينيه انعكاس الليلة الماضية،  لذا لم يقل سوى (فلتتمنى لها ما ما تمنته هي).

تنهد مالك بغضب وهو يستدير مبتعدا، يتذكر كلمات والده قبل أن يموت، حور،  حور بحاجتكما، حور وحنين أمانتكما فيإكما والتفريط في ما أمنتكما عليه...

وبالرغم من ظروف حنين، الا أنه يشعر بأن حور هي من تستوجب القلق ما بداخلها  قابلا للشرخ إن لم يكن قد شرخ بالفعل، بينما هو مطمئن القلب على حنين،  حنين البريئة تمتلك قوة بداخلها تذكره بصخرة صغيرة صامدة بشموخ في سيلِ  نهرٍ مندفع لا يستطيع جرفها...

قال وهو معطيا ظهره لعاصم (وأين سيذهبان؟، إلى شقتهما؟، أنا أعرف أنه تركها الآن ليسكن بجوار مقر عمله في حيٍ متواضع).

سكت عاصم للحظة ثم قال بهدوء (لا علم لي الى أين سيأخذها، مكانها عند  زوجها أيا كان موجودا، وقد آن الأوان للتحمل المسؤلية، إنها في السادسة  والعشرين يا مالك، الى متى ستظل على هذه الحالة من الضياع دون هدفا في  حياتها، لقد سعيت لأوفر لها عملا مناسبا كما فعلت مع حنين الا أنها فشلت  تماما لعدم التزامها، حتى ابنها لا تستطيع التواصل معه أبدا، بل أن حنين هي  من تنجح أكثر في التواصل معه بالقليل من المجهود، أنها ليست حياة تلك التي  تحياها بل هي مجرد تضييع لسنوات عمرها، لذا فقد يكون خيرا رجوعها لزوجها  أخيرا، ونادر رغم كل عيوبه الا أنه هو الوحيد القادر على توجيهها، فقط إن  استطاع الصمود معها دون ارجاعها الينا مرة أخرى).

تنهد مالك مرة أخرى بغضب، لكنه لم يستطع إنكار بعض الحق في كلام عاصم،  والأهم في الموضوع كله هو معتز الذي هو في أمس الحاجة لوجوده بين والديه،  فالحالة الاجتماعية المستقرة له ستسهل تأقلمه مع حالته الخاصة...

لم يشأ عاصم أن يسترسل أكثر في موضوع حور والذي يسبب له ضغطا خانقا منذ  الأمس فقال محاولا تناسي ماجرته حور الى ارتكابه بكلِ سذاجة منه (أخبرني،  هل اطلعت على أيا من مشروعاتنا الأخيرة).

التفت اليه مالك مبتسما قليلا بحرج وهو يحك شعر رأسه ثم قال بهدوء (لم أجد الوقت الكافي، لكن أعدك أن)

لم يدعه عاصم ليكمل وهو يقول بصرامة (لا أعرف لماذا تؤخر العمل معي كل هذا  الوقت، أصبحت أحتاج الى مساعدتك حتى لا أعتمد على شخصٍ غريب، فما المميز في  عملك حتى ترفض تركه والعمل معي، اخرج لتقرأ اللافتة المكتوب عليها أولاد  الحاج اسماعيل رشوان وأنا الوحيد الذي يعمل فيها من بين ولديه).

أطرق مالك برأسه متحرجا من حديث كل يوم، هو سعيدا بعمله كمهندس انشائات  في شركةٍ حديثة مكونة من مجموعة شباب، يريد أن يسلك الطريق من بدايته، والى  الآن وصلو الى مرحلة لا بأس بها من النجاح، فلما يتخاذل ويتخلى عنهم  الآن...

لكن عاصم معه حق في تحمله كل هذا العبء وحده، فجأة أثناء تفكيره برز الى عقله عينان مستعطفتان في زرقةِ بحرٍ ساكن...

ابتسم قليلا، لقد نسي في غمرة قلقه على حور تلك الزوبعة الصغيرة التي  قابلها منذ قليل مختبئة في المرآب، فالتفت الى عاصم يقول برقة (اذن إن كنت  تريد التحدث حول العمل، ما هي آخر المشاريع المعمارية المتعقدة معك).

للحظة برقت عينا عاصم واشتعلتا، فقط للحظة واحدة لم يستطع اخفاؤها عن  عيني مالك المتفرستين باهتمام، أعاد عاصم نظره ال سبحته وهو يتراجع الى ظهر  مقعده، بملامحٍ قاسية أخبرت ماللك الكثير، هاهو قد وصل الى بيتها، فليواصل  الدخول، فقال بخفة (هل هو مستعصٍ الى هذه الدرجة؟)

أجاب عاصم بشراسةٍ مكتومه (ليس هناك ما يستعصي على عاصم رشوان، لكن الخصم، يدفعني لدخولِ حرب ٍ لا أريدها وليست من شيمي).

حرب!، فكر مالك بغضب وهو يتخيل عاصم بكلِ قوته وجبروته يحارب تلك الزوبعة الصغيرة لينتهي به الأمر ساحقا إياها بين أصابعه

تنفس مالك بعنفٍ خفي، لكن ما الذي يستدعي الحرب، فمهو يستطيع رميها و  والدها الى الطريق في أية لحظة بعد أن صار البيت ملكه، هل يتكلم عن غيرها؟،  سيكون من الأحسن أن يكون غيرها هو المقصود بذلك التهديد الشرس الظاهر في  عيني عاصم رشوان...

الا أن أمله قد خاب حين رفع عاصم إصبعا وحيدا وهو ينظر اليه قائلا  (امراءة، امراءة وحيدة، إن لم تكن فتاة صغيرة، تقف أمام عاصم رشوان لتتحداه  بكل صلف وقلة حياء).

ثم ضم اصبعه الى قبضة ابيضت مفاصلها وهو يضرب بها على سطح المكتب بغضب،  فلمعت عينا مالك بشراسةٍ موازية لا تظهر الا نادرا دفاعا عما يؤمن به، أو  عما يأخذه على عاتقه، لكنه سيطر على غضبه بمهارة اكتسبها عبر السنين بعكس  عاصم الذي لم ينجح يوما في اكتساب مثل هذه المهارة

فقال بهدوءٍ خطير (الأمر لا يستحق حربا يا عاصم، لماذا تفقد أعصابك بهذا الشكل؟، إنها ليست سوى فتاةٍ بظروفٍ صعبة).

نظر اليه عاصم وهو يقول بغضب (أيه ظروفٍ صعبة؟، هل تتخيل المبلغ؟، سيجعلها ملكة)

أجاب مالك محتدا قليلا (لكنك لم تستمع اليها، الى ظروفها التي منعتها، لم تقبل حتى بمقابلتها)

نظر اليه عاصم بدهشةٍ غاضبة وقال (لقد ذهبت اليها بنفسي، لكن من أين لك تعرف بكلِ هذا؟)

سكت مالك تماما، هل كانت تخدعه لتستدر عطفه؟، فأجاب بوجوم (وأنا أيضا قابلتها، ووعدتها بالتدخل).

قام عاصم من كرسيه محتدا وهو يقول بعنف (قابلتها؟، أين ومتى؟)

أطرق مالك برأسه وهو يقول (اليوم منذ قليل أتت إلى لتطلب المساعدة، وقد أعطيتها كلمتي، إنها مجرد فتاة ضعيفة و تتحمل الكثير).

نظر اليه عاصم بغضبٍ لا يعرف له سبب، لماذا منذ أن قابلها وهي تبث فيه  هذا الطوفان الأحمق بكلِ ما يخصها؟، وماذا إن قابلت مالك؟، هل تظن أنها  بهذا ستأمن منه؟، هل هذه هي حركتها السريعة؟، لا فهي اذن واهمة، وذلك  الأحمق الذي ينظر اليه بنظره الفارس الممسك بدرعه ليحمي الأميرة، صاحبة  بركتي العسل، لا بد وأنها قد أسبلت الأهداب الحريرية له تجعله في مثل هذه  الحالة الدفاعية، أما بالنسبةِ له فكانت تواجهه كشوكةٍ مسننة...

لعن بداخله غاضبا من مظهر التحفز المرتسم على وجه مالك، بالطبع، ومن  يراها ولا يبذل الكثير في سبيل مساعدتها خاصة حين تتهادى اليه بنفسها...

كان مالك ينظر اليه مسمرا نظراته في العينين الغاضبتين، ما باله عاصم يمنح  هذا المنزل غضبا خاصا، حتى بعد أن صار يملكه، كيف نجحت فتاة صغيرة في رقتها  في اثارة عداوة عاصم رشوان الى هذا الحد، أم أن الأمر يتعدى ذلك، ولم  تعجبه الإجابة التي قفزت الى رأسه...

فقال مالك محاولا التحدث بعقلانية (أعرف بأن الثمن كان عادلا و يوازي قيمة المنزل، لكن)

هتف عاصم غاضبا وهو يتميز غيظا (لا تثير جنوني و تخبرني بأنه معادلا لقيمة  المنزل، لقد وصلت الى رقمٍ خيالي يفوق قيمته الفعلية، ومع ذلك رفضته بكلِ  عنجهية و غرور أعرفه جيدا من أمثالها، أولائك الذين يظنون أنفسهم في رفعةٍ  عن)

قاطعه مالك فجأة متحيرا (لحظة، لحظة، من تلك التي رفضت؟، كنت أظن أنك دفعت).

تنهد عاصم بنفاذ صبر وهو يهتف حانقا (إن كنت قد دفعت فماذا أفعل أنا هنا شارحا منذ فترة، مالذي أخبرتك به تحديدا؟)

قضب مالك جبينه، لا مجال للخطأ، لماذا تكذب في أنها قد باعت و قبضت الثمن،  الا اذا كان عاصم رشوان في هذه الفترة لا عمل له الا مواجهة الفتيات  العنيدات

ابتسم وهو يكتف ذراعيه سائلا عاصم (هل تتحدث عن بيت القاسم؟، لأني الآن لا أعتقد ذلك).

اشتد عبوس عاصم وقد صمت تماما لعدة لحظات، ثم انفجر أخيرا (هل تتحدث كل  هذا الوقت عن بيت القاسم؟، لقد أصبح ملكنا منذ شهور، ومن هي تلك اذن التي  قابلتك؟، نعم نعم، إنها بالتاكيد تلك اللحوحة التي تصر على مقابلتي منذ أن  بعثت بانذارٍ اليهم ليخلو المنزل).

لا، ليست لحوحة أبدا، قد تكون مجنونة قليلا، متهورة ولا تحسن التصرف في  المواقف الصعبة، لكن ليست لحوحة من الأفضل أن يتولى الكلام الآن قبل أن  يزيد عاصم في نعتها بصفاتٍ لن تعلمها بينما هو سيضطر لسماعها، وهذه الفتاة  صارت ضمن نطاق حمايته منذ الآن، لم يخذل يوما من لجأ الى مالك رشوان ولن  يبدأ الآن...

قال مالك محاولا استحضار كل مهارته في الإقناع (عاصم، اعطهم الفرصة  ليجدو مكانا ملائما، فقط بعض الوقت، الرحمة يا عاصم، والدك رحمه الله لم  يكن ليرد سائلا أبدا).

التفت اليه عاصم منفعلا ليقول هادرا (الآن أصبحت ظالما؟، هل تعرف كم من  الوقت منحتهم؟، شهور طويلة، كان من المفترض الآن أن يكون المنزل قد هدم  وصبت أساسات الأبراج الجديدة، ثم مالذي يؤخرهم والمبلغ المدفوع سيمكنهم من  السكن في أرقى الأحياء و أفخمها بدلا من ذلك المنزل المتواضع).

هل سيكون من العقل اخباره الآن بأن المال لم يعد في حوزتهم؟، فمن ناحية  يريد أن يستثير عطف عاصم حين يخبره بوفاة أم أثير و المبلغ الذي ضاع في  الجراحة والعلاج، لكن من ناحية أخرى يخشى إن أخبر عاصم بأن المال لم يعد  موجودا فسيعتقد أنهم باقون لا محالة...

لذا حاول أن يأتي النهاية دون دباجةٍ طويلة فقال بمنتهى البساطة (لقد لجأت  لي يا عاصم و أعطيتها كلمتي، فهل يرضيك أن تتخاذل كلمة ابن اسماعيل رشوان  رحمه الله؟).

بعد فترة عبوسٍ طويلة أخذت ملامح عاصم في اللينِ تدريجيا الى أن قال أخيرا بما يشبه الدعابة (هل تبتزني عاطفيا يا مالك؟)

كتف مالك ذراعيه وهو ينظر الى عاصم متحديا مبتسما و أجاب (نعم)

ضحك عاصم قليلا ثم أومأ قائلا برفق (حسنا يا صاحب الدرع، لن تتخاذل كلمتك  الآن، لكن لفترةٍ محدودة، وستكون أنت المتولي أمر هذا البيت تحديدا، وحين  نتسلمه ستشرف بنفسك على المشروع القائم على الأرض، أتوافقك تلك الصفقة؟).

اتسعت ابتسامة مالك وهو يقول بهدوء (ليس تماما، لكن ما باليد حيلة، وها أنا أتورط في أحد مشروعاتك)

ثم تابع ملوحا بيده (اعذرني الآن فأنا مضطرا للذهاب الى العمل فقد تأخرت جدا).

لكن قبل أن يتحرك كان عاصم قد اقترب ليمسك بكتفه ليديره اليه وهو ينظر  في عينه ليقول بحزم (مالك، لقد تعبت بشكلٍ يفوق قدرات البشر حتى أصل الى ما  وصلت اليه، لذا فلا مجال للعواطف في هذا العمل، الأرض، هي كل ما يجب أن  تصبو اليه، لقد قارب اسم رشوان أن يكون على نصف أراضي المدينة، هل تعرف  معنى أن تمتلك ما يقرب من نصف المدينة، دع هذا في عقلك وثبته يا مالك،  الأرض، أراضي رشوان).

أومأ مالك برأسه متفهما غير مقتنعا، طموح عاصم لا سقف له، لاحدود أو  حواجز تمنعه و إن وجدت فإنما وجدت لتهدم بالثغرات أو بالقوة الغاشمة دون أن  يخالف ضميره، تركيبة غريبة لا يستطيع أن يقرر صوابها من خطأها، الا أن  الأكيد هو اختلافهما على النقيض، لكن سيظل عاصم علما مميزا في حياته...

استدار مالك لينصرف، وعند الباب نظر الى عاصم بخبث وهو يقول مبتسما (لم تذكر لي من هي تلك النمرة التي وقفت في مواجهة عاصم مهران)

عاد عاصم لعبوسه وهو ينظر بعينين مشتعلتين الى مالك والذي ضحك وهو يخرج مغلقا الباب خلفه دون أن ينتظر الإجابة.

هل تدخل أم لا؟، هل تدخل أم لا؟، انها أمام مكتب عمر و تريد أن تلفي  اليه التحية فهل تمتلك الجرأة لتفعل؟، إنهما أصدقاء الآن، أم هل تتعجل  الأمور؟، انها فقط تريد القاء التحية، فهل هناك قانونا يمنع ذلك؟..

أخذت نفسا عميقا وهي تطرق الباب برقةٍ، وما أن سمعت صوته الهادىء يسمح  لها بالدخول حتى ابتسمت و فتحت الباب بهدوء لتدلف الى مكتبه، وجدته واقفا  بجوار مكتبه فالتفت اليها ما أن دخلت، لماذا ارتبك هكذا؟، هل أتت في وقتٍ  غير ملائم؟..

حسنا فلتلقي اليه التحية ثم تنصرف سريعا، قالت بهدوءٍ و ارتباك وهي كالعادة  تحمر خجلا مبعدة خصلة شعرها الناعمة عن عينيها (مرحبا، فكرت أن ألقي اليك  التحية و أخبرك أن).

للحظةٍ أوقفت كلامها وهي تلاحظ حركة بجوار النافذة الجانبية البعيدة،  يالهي هناك شخصا كان معه واقفا و ظهره الى الباب، كيف لم تشاهده ما ان  دخلت، انه موقف غباء مثالي في تلك اللحظة...

تلعثمت وهي تقول بضعف (أنا، أنا أعتذر للغاية، لم أكن أدرك أن)

توقفت كلماتها هذه المرة لكن مع اتساع عينيها بصدمة، وشهقة صامتة أفلتت من  بين شفتيها حاملة اسما قديما دون صوت، عمره عشر سنوات منذ آخر مرة تذوقته،  جاسر!..

طالعها الوجه الوسيم بإجرام، وعينانِ مشتعلتانِ بشراسةِ الماضي، هل هو  كابوس من جديد، أغمضت عينيها و فتحتهما لعلها تصحو منه لكن همسة من خلف عمر  جاءت مشتعلة بشوق، حنيييين...

لحظتها كانت اللحظة المثالية لتسقط، تماما كما ينتابها منذ سنين، لكن هذه  المرة ما ان لامست الأرض حتى شعرت بذراعين قاسيتين تتلقفانها الى صدرٍ عضلي  ضمها من قبل، وصوتا يهمس في اذنها دون أن يسمعه عمر، (لقد تلقيتك زوجتي،  فلا تخافي)

.

حينها غاب عنها الوعي بكل ما يحمله من ماضٍ كانت قد دفنته طي النسيان.



5=رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

كان الظلام لا يزال محيطا بها. تحيط بها أصواتٍ خافتة الا أنها تهدر  في أذنها كالصراخ، أخذت تخفت و تخفت الى أن استطاعت تمييز صوت قوي النبرات  يهمس في أذنها مصاحبا لأنفاسٍ دافئة تلامس ذقنها (ستكونين بخير حنين، لا  تقلقي، أنتِ معي)

شعرت بجسدها الضئيل يسحب أكثر وأكثر الى حصنٍ دافىء و ذراعين قويتين تحيطانها و تخبئانها عن العالم بأسرهِ...

دون وعيٍ منها أرادت الا تفيق، أرادت أن تظل مختبئة في هذا الحصن للأبد،  لم تشعر سوى بالألم و التخاذل في حياتها القصيرة حتى الآن، وكل ما تبتغيه  الآن هو أن تضيع بين أحضانِ من يحميها، فأدارت وجهها الى مكانٍ دافء دست به  أنفها تستمتع بذلك الأمان المجهول، وبين أشعة الظلام التي تحيط بعقلها  شعرت بالذراعين تشتدانِ من حولها ومن تحتِ ركبتيها حتى شعرت بالألم في  أضلعها من شدة الضغط، وظنت للحظةٍ أنها عادت طفلة في الخامسة يحملها  والدها...

غابت عنها الأصوات بعد أن تداخلت في ارتباك، و شعرت بالبرد و الرجفةِ  بعد أن هجرها الحصن الدافىء، ثم جاء صوتا آخر متسللا الى عالمها المظلم  ليجرها جرا الى عالم الواقع، يقول لها بحزمٍ حنون (حنين، أفيقي، هيا أفيقي)

ووصل أنفاسها عطره القوي الحبيب المألوف لأحسيسها، لينتشلها من أحلامها  الضائعة فخفق قلبها بقوةٍ و هي ترمش بعينيها أكثر من مرة، تفتحهما ببطءٍ  ليطالعها الوجه الذي ملك قلبها طويلا.

ابتسمت بضعفٍ وهي تهمس بتنهد (عمر)

ابتسم هو الآخر مرتاحا وهو يجلس القرفصاء بجانبها ووجه قريبا من وجهها، فأدركت فجأة أنها ممددة على أريكة مكتبه

استقامت جالسة بسرعةٍ وهي تنظر حولها باحثة عن شيءٍ ما، أو شخصٍ ما...

ثم التقت عيناها بعيني عمر المدققتين لها، همست بعد لحظة (كان كابوس، لقد رأيت كابوسا للتو)

رد عليها عمر بعد لحظة وهو يقول (ماذا رأيت؟).

أخفضت رأسها و رفعت يديها بإعياءٍ لجبهتها، ثم همست (لا، لا أتذكر تماما)

رفعت عينيها اليه من جديد وهمست مبتسمة بضعف (المهم أنه انتهى)

قال لها عمر بجديةٍ (لكن لماذا أصبتِ بالإغماء ما أن رأيتِ العميل الجديد؟، هل تعرفينه؟)

اتسعت عيناها ارتياعا، عميل؟، أي أن شخصا ما كان هنا؟، لم يكن كابوس. بل كان واقعا

فتحت شفتيها لتتكلم ثم عادت لتغلقهما وعيناها على حالهما من الاتساع، وهي تفكر، هل كان هنا فعلا؟، ومع عمر؟

لا، لا، قد يكون مجرد شخص يشبهه، لذلك أصابها الهلع...

ارجعت شعرها المتناثر خلف أذنها وهي ترنو اليها بنظراتها المرتبكة، وهي تقول بصوتٍ دعت الله أن يكون طبيعيا (من، من هو ذلك العميل؟)

سكت عمر لحظة قبل أن يجاوب ثم قال بوضوح (جاسر رشيد، رجل أعمال عاد حديثا من الخارج، أتعرفينه؟)

لا رد، إن كان ينتظر ردا فسينتظر طويلا، تحولت أمامه إلى تمثالٍ من شمع، شفتيها منفرجتين و عينيها متسعتين شاردتين في البعيد...

كانت تبدو هشة للغاية بشعرها الناعم المنسدل خلف أذنيها على جانبي وجهها الشاحب، عيناها ازداتا كبرا بلونهما الزيتوني...

شعرعمر بالغضب يغلي في داخله، منذ أن وصاه جاسر على أن يرعاها من بعيد وهو بالفعل يشعر أنها كأخته الصغيرة.

تماما كواحدةٍ من شقيقاته، خاصة بعد أن عرف قصتها بأكملها، و لولا أن  جاسر أصبح أعز أصدقاؤه بعد أن دافع عنه بحياته ذات مرةٍ في الغربة، لم يكن  ليقبل أبدا أن يراقبها حتى و لو من باب الاهتمام والحماية، لكنه كان أيضا  يتعاطف مع وضع جاسر نوعا ما...

لذا قبل أن يقوم برعايتها و لو من بعيد، ليطمئنه عليها دائما، الى أن يحين الوقت و يأتي جاسر بنفسه...

لكن المرعب له في الفترة الأخيرة، هي نظرات حنين له!، أي رجلٍ لن يلحظ هيامها الواضح؟، وهذا ما يقتله توترا من هول الأيام القادمة...

فقط يدعو الله أن يكون مجرد اهتماما كمراهقةٍ متأخرة و سيذهب فيما بعد،  فحنين لم تحيا كمراهقةٍ أبدا في بداية شبابها، لذا هو يعذرها على هذا  الإهتمام البريء، لكن أيعذرها جاسر؟..

قال برفقٍ بعد فترة (حنين، ماذا بكِ؟، الازلتِ تعانين من الدوار؟).

أومأت برأسها بينما انسابت دمعتانِ حائرتانِ على وجنتيها الشاحبتين  كأوراقِ الورد الأبيض، انسابتا بنعومةٍ دون أن يصدر عنها صوت، ودون حتى أن  ترمش عيناها، فابتلع عمر غضبه الذي يتزايد من هذا الوضع المزري الذي وُضِع  فيه...

نهضت حنين تتعثر من مكانها و كادت تسقط لولا أن أسندها عمر بيده بعد أن  نهض هو الآخر، ظلت مطرقة أمامه قليلا دون حراك ثم رفعت رأسها تنظر إلى  عينيه الحنونتين لتهمس فجأة و بإبتسامة ضعيفة (لا أعرفه، اعتقدت فقط أنه  يشبه شخصا ما)

تصاعد الغضب بداخل عمر أكثر، كان يتمنى لو تعترف بأنها تعرف جاسر فلربما استطاع مساعدتها، لكن ها هي تختار الهروب من جديد...

مشت ببطءٍ الى باب مكتبه لتخرج منه بتثاقل، وهو ينظر الى رأسها المحنى  بوجوم، كان يريد بالطبع أن يقلها الى منزلها لولا أنه تلقى أمرا من الأحمق  الا يفعل...

كانت تسير و تسير، تنهب الأرض بحذائيها الأرضيين، لم تشعر بالمسافات و لا  بالإعياء، عيناها شاردتانِ في البعيد، عقلها يأخذها الى عمرٍ مضى عليه أكثر  من عشر سنوات...

حين كانت تجلس أمام عمها الحاج اسماعيل رشوان وكانت لا تزال في الرابعة  عشر، حيث مرت ثلاث سنوات على فراق نوار، ثلاث سنوات من الجحيم، ضرب و معارك  يدويةٍ ضارية...

تسفر عن اصاباتٍ عديدة و حتى تطاول الأمر وصار المشاغبين يستغلون الأمر و  يحرقون العديد من ممتلكاتِ العائلتين، عائلة رشوان و عائلة رشيد...

وعاصم كاد أن يُقبض عليه أكثر من مرةٍ بسبب الشغب المرتكب من قبله هو  وعصبته، تجاه أبناء العائلة الأخرى و الذين يقومون بالمثل، وعلى رأسهم  جاسر...

جاسر رشيد...

عادت لذاكرتها تلك الجلسة مع عمها على إنفراد، تتقاطع ساقيها كالأطفال و  قبضتيها تفركانِ بعضهما بارتباك، عيناها زائغتانِ خائفتانِ لكن ينبعث الرفض  من بين ثنايا الخوف.

همست بإستجداءٍ يمزق القلب وعيناها نديتانِ بدموعٍ حبيسة (لماذا أنا يا عمي؟، حور أكبر مني)

لن تنسى أبدا نظرة عمها الهاربة من عينيها وهو يتطلع بعيدا بما يشبه الذنب،  طبعا لم تتفهمه وقتها، لكنها الآن استطاعت فهم الأمر جيدا، حور منذ  البداية كانت أميرة والدها، حتى أنها تعلمت في مدرسةِ لغاتٍ حية من أرقى  مدارس البلد...

بخلافِ عاصم و مالك اللذين التحقا بالمدارسِ المحلية، و بالرغم من قدرة  الحاج اسماعيل رشوان المادية الا إنه فضل المدارس الحكومية للبنين حتى لا  يتعودوا الرفاهية، و تبعتهم حنين...

أما حور فكانت مختلفة، قرة عين والدها، الذي كان يريد لها الأفضل، و  بالطبع لم يكن الزواج من أحد أبناء الحي الشعبي في سن مبكر هو الأفضل  بالنسبةِ لحور، لذا ادخرها والدها للأفضل و عرض حنين على رجال مجلس الصلح  في سبيل إنهاء تلك الخصومة القديمة و التي اشتعلت بضراوة أكثر بعد موت،  نوار...

نوار التي كانت ممنوعة تماما من الذهاب الى بيت عائلة رشوان بسبب  الخلافات القائمة، لكنها كانت تتشاقى و تتسلل كل يومٍ الى سطح البيت لتلعب  معها هي وحور، ومالك بالطبع...

الى أن جاء اليوم المشؤوم الذي لم تعد فيه نوار الى بيتِ أسرتها على  قدميها، بل عادت محمولة على ذراعي أخاها غير الشقيق يتبعه رجال الحي مرددين  الشهادة بينما تتعالى أصوات النساء بكاءا على زهرة عائلة رشيد الصغيرة  التي سُرق منها عمرها وهي في بيت اسماعيل رشوان، وتحت أنظار ابنه الناضج  مالك، والذي حمله الجميع المسؤولية.

لم تدري حنين أثناء سيرها الطويل أنها كانت تشهق باكية و الدموع تغرق وجهها جاذبة أنظار المارة من حولها...

همست من بينِ شهقاتها الباكية (اشتقت اليكِ نوار، اشتقت اليكِ جدا، لو تعلمين ماذا حدث لي من بعدك)

غطت فمها بظاهر يدها وهي تغمض عينيها و يزداد نحيبها، توقفت تماما عن السير وكأنها فقدت القدرة على المتابعة...

صوت نفير سيارةٍ عالٍ من جوارها صدمها و جعلها تفتح عينيها المشوشتين  بالدموع لتجد سيارة فارهة سوداء تتباطأ بمحاذاتها بإلحاح، وحين سارعت  الخطوات لاحقتها السيارة بإصرار مصدرة نفس النفير و كأنها تناديها...

نظرت بطرفِ عينيها المتورمتين، فرأته، للحظاتٍ تسمرت مكانها بعينين  متسعتين ثم عادت لتسرع الخطى متعثرة في حجراتِ الرصيف الضيق، عاد النفير  بشكلٍ ملحٍ أعلى حتى بات منظرهما أكثر الفاتا للمارة، وكاد قلبها أن يتوقف  من شدة التوتر

لم تجد سوى أن تتوقف و تنظر اليه لعله يخجل من نفسه و ينصرف، لتجده ينحنى عبر زجاج النافذة المفتوح قائلا بصرامة (ادخلي).

تسمرت كالبلهاء تماما و شفتيها مفتوحتانِ قليلا تتنفس بتسارع دون أن تجد  القدرة على النطق بكلمة، لذا أعاد بلهجةٍ أشد و أقسى (ادخلي حنين، حالا)

وكأن كلماته قد سيرتها كالمنومة فاتهجت ببطءٍ إلى باب السيارة الذي فتحه  لها، وما أن جلست بجواره متجمدة حتى انحنى فوقها فشهقت مبتعدة عنه، الا انه  ابتسم بسخريةٍ و شيطنة وهو يقول (ها قد بدرت عنكٍ بادرةٍ تدل على أنك  حية).

ثم أغلق بابها الذي تركته مفتوحا بعد أن جلست الى جواره، لينطلق بالسيارة ناهبا الأرض وكأنه لصٌ هارب نجح في اختطاف الأميرة...

وصل بها الى منطقةٍ خاليةٍ تماما خارج المدينة بقليل، حيث البحر على امتداد الطريق السريع، فأوقف السيارة على جانبه...

كانت حنين طوال تلك الفترة جالسة ملتصقة بباب السيارة لاتملك سوى أن  تنظر إلى يديه الخشنتين المتعاملتين مع المقود و قد ظهرت عليهما علاماتٍ  قديمة من قطبٍ اثر معاركٍ هي تعرفها جيدا لتتوقف بصدمةٍ على الخاتم الفضي  المنقوش و الذي تعرفت عليه جيدا، اتسعت عيناها و همست لنفسها بهوس، المجنون  لا يزال يضعه في إصبعه...

عند هذه النقطة توقفت عن التفكير تماما وهي تحاول التقاطِ أنفاسها، الى  أن توقفت السيارة، و عمها الصمت الخانق فاضطرت الى رفعِ رأسها بارتعاشٍ  لتصطدم عيناها بعينيه وهو ملتفتا اليها يراقبها كما يراقب فريسة يستعد  للإنقضاض عليها...

عيناه لم تتغيرا أبدا، نفس العينانِ اللامعتانِ بشكلٍ غريب، فيهما شراسةٍ و انحرافٍ فطري...

لكن ملامحه تغيرت، هو بأكمله قد تغير، نمت عضلاته بشكلٍ واضح، نضجت  ملامحه و تصلبت و صار رجلا، لا شابا متهورا في مقتبل حياته، كم أصبح عمره  الآن؟، إنه من عمر عاصم، أي أنه تقريبا في الثالثة و الثلاثين...

تذكرت الأيام البعيدة التي أحبته فيها بمشاعر الطفولة البريئة، و السبب  عيناه البراقتين، لكن كل ذلك انقلب الى الضد بعد موت نوار، و شُحنت القلوب  البريئة بالكره، و الحلم الذي خطته بأصابعها على ورقةٍ من أوراقِ دفترها هي  ونوار، انقلب الى كابوسٍ أُجبرت عليه...

كان ملتفا ناحيتها ممسكا المقود بيد بينما مد ذراعه الأخرى على مقعدها،  خلف رأسها، قريبا منها للغاية، يكاد أن ينقض عليها وشفتيه تشتعلانِ لهوا و  جوعا، جوعا يحاكي ذلك الظاهر في عينيه، قال دون مقدمات (لقد كبرتِ)

رمشت بعينيها مرة و كأنه بصوته أعادها الى الحياة، فهمست بعد عدة لحظات محاولة التحلي بالشجاعة لتواجهه (مالذي أعادك؟).

قست عيناه دون أن تتحرك عضلة في وجهه المتصلب، لكنه قال بهدوء (وهل هناك ما يمنع عودتي؟، يا زوجتي العزيزة)

هذا اللقب كان له الفضل في اخراج روحها المحاربة بشراسة بعد فترة الإنهيار و  الصدمة التي أصابتها منذ أن رأته، فصرخت بهياج (إياك أن تعيد تلك الكلمة  مرة أخرى)

مالت شفتيه الشهوانيتين في ابتسامةٍ متسليةٍ شرسة ثم قال ببطءٍ متعمد باعثا رعشة في عمودها الفقري (زوجتي).

لم تشعر بنفسها الا وهي تضرب صدره بقبضتها الصغيرة بكلِ قوتها صارخة بعنفٍ مجنون (قلت لك لا تقل تلك الكلمة)

وقتها فقدت ملامحه التسلية وتحركت يداه في سرعة البرق ليحيط خصرها بذراعيه  الحديديتين كفكي الكماشةِ بينما صرخت هي وهي تتلوى بعنفٍ دون جدوى بين  أضلعه، قال لها هامسا فوق وجنتها و هي تصارعه بخوف (لا زلتِ متوحشة برية،  لم تخدعني هالة الطيبة الخادعة الحديثة المحيطة بكِ).

كانت تتصارع معه دافعة كتفيه بكفيها الصغيرين و هي لا تعلم أن صراعها خطيرا للغاية، وخاصة مع مجنون...

صرخت وهي تبتعد بوجهها عن وجهه قدر الإمكان (ابتعد عني، ماذا تريد مني؟)

للحظة التقت أعينهما، عينيه مشتعلتين مجنونتين، عينيها عاصفتين متعذبتين  بذكرى بعيدة تأبى أن تتركها، مرت لحظة، لحظتانِ، ثلاث، قبل أن يهمس على  بعدٍ غير مرئي من شفتيها المكتنزتين المرتجفتين و ارتجافهما أثار جنونه  أكثر. (أريد أن أستردك).

توقف الزمن بينهما لتنظر الى أفظع كابوسٍ ممكن أن تحياه، ففغرت شفتيها مصدومة و قد توقفت أنفاسها وقبل أن تهمس، ماذا...

كان قد انقض عليها كاتما همستها المرتاعة بشوقٍ محموم ينهل من نبعٍ غاب عنه لعشرِ سنواتٍ كاملة.

تجلس بجواره تطير معه الى حيث يخطفها لعشه. لكن أهو الذي خطفها أم أنها  هي التي تعاود الى خطفه كل مرة، رنت بنظراتها الى اليه لتجد أن ملامحه  تزداد قساوة مع كل مترٍ يتجاوزاه، قبضتيه على عجلة القيادة مشتدتانِ وكأنه  يقوام تحطيم شيئٍ ما...

ما أقسى هذا الشعور الذي تحياه الآن، قلبها القافز فرحا بالتحليق الى  جواره، ينزف ألما لما يراه الآن من شدة الضغط الذي يكابده الهذا الحد هو  مرغما، مضطرا لتحملها؟، ما كلِ تلك المعاناة التي تظلل ملامحه، أيخشاها أم  يبغضها، لماذا لا يستطيع فقط الشعور ببعضٍ مما تكنه له...

حين طال الصمت بينهما حتى صار خانقا لا يحتمل، همست بحنان العالم لعلها  تسمع لمحة منه يحملها صوته (اعتذر عن ذلك الموقف الذي وضعتك فيه).

اشتد ضغط شفتيه بغضبٍ دون أن ينظر اليها، الا أن عينيه ازدادتا قسوة،  ابتلعت ريقها وهي تحاول التقرب منه فمدت يدها لتلمس ساعده القوي الأسمر  الممتد أمامه، لكن ما أن فعلت حتى انتفض ليجذب يدها معتصرا أصابعها بين  أصابعه حتى تأوهت فسحبت أصابعها من بين يده التي سمحت لها بالهروب بعد أن  آلمها.

نظر اليها بغضب وهي تدعك أصابعها عاقدة حاجبيها بأسى، فشعر رغما عنه  بذلك الشعور البغيض الذي تثيره حور بداخله دائما، لم يكن يوما بمثلِ هذه  القسوة، وهو يكره أنها الوحيدة التي تحرك قسوته تجاه الإنسانة التي من  الفترض أن يراعيها بصفتها أم ابنه الوحيد، سمعها تهمس بألم و عيناها  مجروحتان (كنت أحاول الاعتذار فقط)

زفر بحنقٍ قليلا، ثم قال أخيرا بجفاء (لا عليك، أنت تعلمين أني لا أحب أن يلمسني أحد اثناء القيادة).

نظرت أمامها دون أن تجد ما تقوله، أي أحد أم لمستها هي على وجه الخصوص،  شرد بها التفكير قليلا وهي تتسائل إن كان يحبها بالفعل فهل ستكون تلك هي  نفس ردة فعله، وهل هذا هو اعترافها لنفسها بأنه لا يحبها بالفعل...

ابتسمت بمرارة وهي تنظر الى الأمام بنظراتٍ غائمة، من تخدعين يا حور، هل  تصورتِ يوما بأنه قد شعر تجاهك بما يشبه الحب، (لماذا تبتسمين بهذه  المرارة؟، لم أقصد ايذائك حور).

قاطعها صوته العميق فالتفتت اليه تلتمع عيناها بنجومٍ خفية، في لحظةٍ نسيت ما كانت تفكر به، لم تسمع سوى صوته يسترضيها

فابتسمت بنعومةٍ تهمس (لم تؤذني).

عاد لينظر أمام والغضب يأبى أن يغادره، لن ينجحا معا أبدا، لأنهما لم  يكونا لبعض من البداية، يستطيع أن يسامحها على أن يذهب كلا منهما الى  طريقه، يفترقا بتحضر واحترام، الا أن وجود معتز جعل من تشبث حور به أمرا  ملزما، مما يجعله دائما يتناسى التحضر في معاملتها، ما العمل الآن في هذا  الوضع الذي يتعقد كل يوم الى أن صارت الأيام المتعاقبة عامين كاملين...

نظر في مرآه السيارة الى معتز المحتجز في مقعده الخاص وقد راح في سباتٍ  عميق، هل من العدل أن يفكر في نفسه و يتناسى ذلك المسكين الذي احضروه الى  العالم في خضم علاقتهما المهتزة، لكنه أبدا غير نادم فمعتز هو الشيء الأروع  في حياته، وجوده يشعره بأن القدر قد أهداه نقاءا يخصه هو وحده، لم يندم  للحظةٍ واحدة حتى بعد معرفته بحالة معتز، معتز هو الرابط الذي سيربطه بحور  للأبد، وهذا هو أسوأ ما في الموضوع، وما يرغمه على منحها مكانة في حياته لن  تنالها غيرها، حتى و إن تزوج و انجب، لن تكون زوجته أبدا هي أم معتز، لأن  معتز هو ابن حور وهي من أهدته هذه الهدية النقية...

نظرت حور من نافذة السيارة التي أرتها تدرج البيوت، من البسيط الى الأبسط، يدخلانِ من حيٍ الى حي، الى أين سيأخذها...

لم تستطع منع السؤال من القفز الى شفتيها، فنظر اليها بجمود ليعاود النظر  إلى الطريق قائلا (الى بيتي، لقد انتقلت للمكان الذي أعمل به)

ارتفع حاجباها قليلا و بهتت ملامحها، همست بشرود (انتقلت الى مكان عملك؟، هل هو نفسه المكان الذي تعمل به من البداية؟).

ابتسم بقسوةٍ دون أي أثرٍ للمرح وهو يجيب بوضوح (هو بعينه)

عادت لتبتلع ريقها وتنظر أمامها بوجومٍ و صدمة، إنه يعمل في اكثر الأحياء  الشعبية المعروفة على حسب علمها، فهي لم تذهب الى مقر عمله أبدا من قبل...

استمرت السيارة في الدخول الى ذلك الحي البحري، حيث الميناء و القوارب  المتناثرة على الرمال، حيث رائحة يود البحر القوية، ثم التفت ليدخل من  طريقٍ جانبيٍ ضيق، سار به قليلا الى أن وصل الى حيٍ بسيط غير مزدحم كما  كانت تتوقع، به مقهاً ضخم بكراسٍ خشبية، تفوح منه رائحة البن مختلطة برائحة  يود البحر المحملة مع النسيم من البعيد، كيف لم ترى هذا المكان من قبل،  بيتهم القديم أيضا يرى البحر من بعيد، لكنه في الجانب المقابل أي بعيدا عن  هنا على ما تتذكر، أوقف نادر سيارته التي تناقض المكان قليلا بالرغم من  أنها ليست الأحدث طرازا، ترجلت حور منها بتردد، وما أن خرجت حتى امتلا  صدرها بذلك الهواء المحمل برائحة البن و البحر، تطايرت خصلاتِ شعرها مع  النسيم الذي ضرب وجهها بلطف مخففا من كدماته...

نظارتها الداكنة تحجب عينيها بينما شفتاها ترتجفان قليلا، أبفعل الهواء  أم أن شيئا قديما قد جذبها الى ذلك المكان، أخرج نادر حقيبيتهما من السيارة  ثم أخرج معتز من كرسيه ليحمله بهدوءٍ بين ذراعيه...

أمسكت بذراعيها تتطلع حولها، ترافق الخصلات الحريريةِ التفاتها، قال نادر الذي كان يتطلع اليها منذ لحظات (هيا يا حور).

التفتت اليه بسرعةٍ تنظر اليه بقربها، ومادام بقربها فقد بدأت الطريق  الصحيح، اقتربت منه خطوة لتتبعه لكن صوتا شجيا نادى عليه قائلا بهدوء يريح  القلب (لقد تأخرت يا حضرة الطبيب المحترم)

التفتت حور بشراسةٍ خفية ٍ لم يلحظها أحد لتنظر لصاحبة الصوت الشجي، ثم توقفت تطالعها امرأة تبدو في الأربعينات من عمرها.

جذابة للغاية، لا تزال معالم الجمال تحيط وجهها ذو العظام النافرة،  بعباءةٍ سوداء أنيقة تتطاير قليلا مع نسماتِ الهواء و شالٍ ملفوفا حول  شعرها لم يمنع تساقط الخصلاتِ الناعمة حول وجهها الآسر، عينيها عميقتي  السواد شديدتي الذكاء...

توقف كلامها لترمق حور بنظراتٍ مدققة، وكأنها تعرفها منذ زمن، قطع تلك  اللحظة من الصمت صوت نادر الواجم وهو يقول بهدوء (صباح الخير يا علية، حدث  ما أخرني).

لم ترى انحناءة رأسه من خلفها بمغزى وهو يشير اليهما، فقالت علية وهي  لازالت تتطلع الى حور (الن تعرفني يا حضرة الطبيب على رفقتك؟، ها قد عاد  معتز الصغير ليكمل معنا اليوم، فمن تكون تلك الجميلة؟)

أجاب نادر مضطرا على مضض (أعرفك على حور، زوجتي).

للحظاتٍ ظلت علية ساكنة لم تتكلم ولم تفقد شفتيها ابتسامتها الصلبة و  الجذابة في آنٍ واحد، ثم انفرجتا شفتيها عن ابتسامةٍ أوسع وهي تقول بهدوء  (اذن ها هي أم معتز الغائبة، أخيرا قد حظينا بمقابلتها)

لم ترد حور ولم تبتسم حتى، بل ظلت تراقبها و تتلقى مراقبة مماثلة منها،  وحين شعرت حور بأن نادر ليست لديه النيةِ ليكمل التعارف فقالت باستعلاءِ  حور رشوان دون أن تلتفت اليه (الن تكمل تعارفك يا نادر؟).

كلمة واحدة خرجت من فم نادر باقتضاب (علية)

اذن فلا نية لديه ليسهب في الكلام، لا بأس، لن يطول الأمر قبل أن تعرف من  هي تلك العلية، والتي اقتربت بأريحيةٍ من نادر لتلتقط معتز الذي بدأ يفتح  عينيه و ابتسمت بحنانٍ له وهي تقول (حبيبي الذي اشتقنا اليه ولم يكد يبتعد  عنا أكثر من ساعاتٍ قليلة).

ثم التفتت الى حور التي تنظر اليها رافضة أن تبدي دهشتها من تلك الغريبة  التي حملت ابنها بمنتهى البساطة و الجرأة من أبيه أمام ناظريها، أخذت  تداعبه بأنفها في وجنته الناعمة حتى انفجر ضاحكا فعبست حور بشدة، هل أصبح  معتز متكيفا مع الجميع الا هي

قاطعت علية أفكارها وهي تقترب منها مادة يدها الحرة بينما الأخرى تحمل معتز قائلة بالصوت الجميل الواضح (تشرفنا حور).

للحظة أرادت حور الا تمد يدها الى تلك المرأة التي تحمل ابنها و تمد يدها وكأنها صاحبة الدار، وحور الضيفة...

لكن تصرفا كهذا سيقلل من نقاطها عند نادر وهي لم تدخل بيته بعد، اهدئي يا حور، اهدئي...

مدت يدها لتصافح تلك السيدة علية، بهدوء متمتمة بشيءٍ ما، فلمعت عينا علية  قليلا ومالت ابتسامتها الى زاوية شفتيها، لكنها لم تتكلم، بل طافت عيناها  على الألوان المظللة لوجنتي حور...

وقتها تذكرت حور وجنتها ذات الكدمات الزرقاء فانتابها على الفور شعورا  من الخزي و المذلة، لابد وأن أصابع عاصم قد تحول لونها الآن الى الأزرق،  وهي التي صافحتها بتعالي حور رشوان المعتاد!، كم كانت غبية تلك الفكرة التي  أذلتها بهذا الشكل المخزي...

رفعت يدها ببطءٍ لتغطي وجنتها وهي تستدير الى نادر مخفضة رأسها قليلا،  ولدهشتها، بل لصعقتها، امتدت ذراع نادر إلى ظهرها ليجذبها الى صدره قليلا،  لم تصدق نفسها وهي تميل برأسها لتستند بضعفٍ على كتفه...

. دمعت عيناها دون أن تعرف سببا، هل هو الخجل من منظرها؟، هل هو الندم  لخطتها؟، أم هو التأثر والشوق لكتفه التي تلقت رأسها دون طلبٍ منها...

أيا كان الجواب، فكل ما تعرفه هو أنها شعرت بكلِ شيءٍ يختفي من حولها  ولا يبقى الا هو وهي مستندة اليه فقط، لكن اللحظات الرائعة رفضت أن تطول  حين تكلمت علية مرة اخرى بصوتٍ خافت قليلا (يبدو أن زوجتك متعبة يا نادر،  لما لا تصحبها لشقتك و أنا سأرسل أحدا اليكما بالحقيبتين).

أومأ نادر برأسه واجما وهو لا يزال يحيط ظهرها بذراعه ضاغطا قليلا عليه  ليحثها للتحرك، رفعت رأسها بعينين كسيرتين مختبئتين بالنظارة السوداء، لكن  الملامح البيضاء الشاحبة الساكنة أخبرته بما تشعر به من رغبةٍ في الهروب،  همست باسم معتز متسائلة...

فقال نادر (لا تقلقي، اصعدي الآن لترتاحي قليلا بينما هو سيلعب مع علية، إنها تجيد الإعتناء به).

أرادت الصراخ بها وقد هب بداخلها الجنون المعتاد، من تلك التي تجيد  الإعتناء بابنها، هل هي من يترك لها معتز كلما أخذه؟، وما هي درجة الصلة  بينهما ليترك لها ابنه، اشتعلت النار الحمقاء بداخلها، تلك النار الجينية  المشتركة بينها وبين عاصم والتي جعلته يفعل ما فعل بالأمس، وهي نفسها التي  تهدد بجعلها تتصرف تصرفا أهوجا الآن، لكن البقية الباقية من سيطرتها  الواهية على نفسها جعلتها تبتسم قليلا وهي تومىء برأسها مرغمة...

تركته يقودها الى البيت القديم المواجه لهما، بيت يتحدى معالم الزمن  البادية بوضوحٍ عليه، يكاد أن يكون كل ما به حجريا رخاميا، بسلالمه الممتدة  الى مالانهاية، فلاوجود للمصاعد هنا بالتأكيد، أخذت تصعد خلف نادر،  درجاتٍ، درجات. وصوتِ رناتِ خلخالها وأسوارها الذهبية يتبعانها، لكن مع كل  طابقٍ تصعده كان صدرها يضيق و تنفسها يزداد صعوبة، الى أن أمسكت بسور السلم  الحديدي تتشبث به غير قادرة على المواصلة وهي تهبط ببطءٍ لتجلس على إحدى  الدرجات الرخامية الباردة، وهي تهمس اسمه بضعف، مجرد همسة مخنوقة الا أن  أذنه الحساسة قد التقطتتها فاستدار لينظر اليها فهاله ما رأى، حيث تبدو على  وشكِ الإغماء جالسة على الدرج متشبثة بالسور الحديدي مستندة برأسها اليه،  بينما جفنيها مضمومينِ بشدةٍ...

هتف باسمها وهو يسرع ليهبط الدرجاتِ الفاصلة بينهما حتى وصل اليها وهبط  ليجلس القرفصاء أمامها ممسكا بذراعيها وهو يقول بقلق (حور، ماذا بك؟، خذي  نفسا عميقا و ارجعي رأسك للخلف).

نفذت حور ما قاله لكن بشرتها لازالت على نفس الشحوب وابيضت شفتيها  المرتجفتين الى درجةٍ فظيعة، فعبس بشدةٍ وهو يضغط أعلى أنفها بين عينيها  بإصبعيه السبابة و الإبهام، مرجعا رأسها الى الخلف، بعد عدة لحظات همس بقلق  (حور، هل أنتِ أفضل الآن؟)

أومأت حور بعد أن تركها، فسألها بعد لحظةٍ (ماذا أصابك؟، هل شعرتِ بالدوار؟ متى كانت آخر مرة أكلتِ فيها؟)

سكتت قليلا ثم همست بضعف (لا تقلق، أخاف أحيانا من السلالم).

قضب جبينه وهو يقول بحيرة (السلالم؟، اعرف من يخافون المصاعد، لكن أول مرةٍ أرى من يخشى السلالم).

أخفضت نظرها، لكم ما يجهله عنها، ولو كان عرف عنها القليل لكان أدرك  بأنها لا تحب الصعود على السلالم في البيوت، وخاصة القديمة منها، تشعر  بالرغم من طوابقها قليلة العدد الا أنها ممتدة الى مالا نهاية، وفي نفس  الوقت تشعر بأن الجدران القديمة تطبق على أنفاسها، لتهاجم أذنيها صرخة  قديمة تبتعد حتى تتلاشى بالدوار الذي يلفها في لحظتها...

لم يلح نادر عليها في السؤال وهو ينظر بعبوس الى شفتيها اللتين تبدوانِ  كشفاه الأموات، ووجهها الذي لازال شاحبا كالقطن الأبيض، فحزم أمره ورفعها  من تحت ذراعيها حتى وقفت على قدميها بصعوبةٍ فترنحت قليلا، أمسك بها بين  ذراعيه لكن دون أن يضمها بينما تاهت هي عطره الأخاذ الذي تسلل عبر شبكات  العنكبوت المحيطة بعقلها، (هل ستستطيعين الصعود أم أحملك؟).

أغمضت عينيها والدوار الذي كانت تشعر به طار بفعل الأدرنالين المندفع في  جسدها، خوفا وتشوقا، لذا لم تمنح نفسها فرصة الصدق حين همست باعياء (لا  أعتقد أنني سأستطيع المتابعة).

أومأ نادر ثم رفعها بين ذراعيه بحركةٍ واحدة، ليصعد بها درجاتِ الطابقين  المتبقيين دون مجهودٍ جسدي يذكر، لكن المجهود العصبي كان قويا، ملامحه  جامدة بخلاف ما يعتمل في صدره، فهو يعرف من لونِ شفتيها ووجهها بأنها لم  تتظاهر بالاعياء، لكن تلك النظرات المغوية بفطرتها و المنطلقة كالسهامِ من  طرفِ عينيها، و جسدها الدافىء و الذي يشعر بكلِ جزءٍ منه عبر قماشِ ثوبها  الصيفي الخفيف، كل هذا يستفز بداخله رغباتِ رجلٍ مبتعدٍ عن زوجتهِ لفترةٍ  طويلة، فقط رجلا وزوجة، لكن وجه حور ليس في الصورةِ أبدا، وهذا هو الشيء  الوحيد الذي يشعره بالذنب تجاهها، أن حور لا تشغل جزئا ولو يسيرا من عقله،  أو قلبه.

حين وصل أخيرا أمام بابٍ خشبيٍ قديم ذو نافذتين زجاجيتين، أنزلها على  قدميها وظل ممسكا بها للحظة متنهدا براحةٍ بعد أن أوشكت أعصابه على  الإحتراق...

قال بجفاء (هل تستطيعين الوقوف حتى أحضر الحقيبتين؟)

همست بأسى وهي تتلمس كتفيه بتضرع (نعم).

أبعد نادر يديها ببعض الجفاء وهو يعاود النزول، بينما ارتطمت حور بظهرها  على الجدار البارد بعد نزوله مغمضة عينيها ضامة قبضتيها بشدة، تتنفس  بصعوبة، كل هذا ولم تدخل بيته بعد، فكيف ستتحمل الأيام المقبلة الى أن يضعف  أمامها...

حين دخلا معا الى تلك الشقة القديمة ذات السقف العالي، عالي جدا ليست  كالشقق الحديثة. حتى الأثاث قديم يبدو وكأنه مقتبسا عن فيلم أبيض وأسود  قديم، والنافذة يظهر منها البحر و المراكب، لم تعرف إن كان أعجبها أم لا،  لكن لا مجال للتراجع الآن، فهو ترك شقتهما ليمكث هنا بقرب مرضاه من هذا  الحي المتواضع، لذا من الحماقة أن تتذمر في هذه المرحلة بعد أن وصلت اليها،  لذا فليكن تواجدها معه هنا مؤقتا، الى أن يصبح أسيرا بحبها، يتمنى رضاها،  وقتها سيتبعها هو لآخر العالم...

خطت بتردد وهي تتطلع الى المكان من حولها، ولحقها نادر واضعا الحقيبتين  أرضا، فالتفتت اليه، وقفا أمام بعضهما صامتين ينظرانِ منتظرانِ أن يبدأ أيا  منهما الكلام، الى أن قال نادر أخيرا بنفس صوته الذي لا تعبير له سوى  الجمود (استلقي على الفراش قليلا، فلازلتِ شاحبة).

عاد ليقفز قلبها بين أضلعها لكنها أومأت بوداعة متجهة الى غرفة النوم  الظاهرة من الباب المفتوح، ذلك الفراش، يذكرها بفراش والديها الضخم الموجود  في بيتهم القديم، وللحظة أحبت بصدق الإستلقاء فيه...

وما أن استلقت عليه حتى أغمضت عينيها مبتسمة قليلا، ما أشد تعبها، بالفعل  تحتاج الى راحة، تشعر بأنها مهزومة منكسرة، بالرغم من تصميمها الغير قابل  للتراجع، بعض الراحة ستعالج الأمر...

غفت في لحظةٍ خاطفة لولا أن أتاها صوت نادر من باب الغرفة يقول (اجلسي قليلا)

شهقت بصوتٍ منخفض وهي تفتح عينيها، فقال نادر بصوتٍ به لمحة رقة صدرت دون إرادة عنه (هل غفوتِ؟)

استوت جالسة دون أن تهتم متعمدة بتعديل ثوبها الذي انحسر عن ساقيها  الناعمتين البيضاوين، ابتسمت وبداخلها طوفان من الانتصار وهي تلمح عيناه  تجريانِ على ساقيها في لمحةٍ خاطفة، ها هو ضعف رجولته يتحدث عن نفسه...

اقترب منها ولاحظت أنه يحمل طبقا يحتوي على منشفة صغيرة وقطعا من الثلج،  جلس بجوارها على حافة الفراش وفتح المنشفة ليضع عليها قطع الثلج ثم أغلقها  من جديد، ليرفعها الى وجهها المكدوم...

لا تعرف لماذا شعرت بوجعٍ في قلبها المصدوم من تصرفه ذاك وهو يدلك كدماتها  بالمنشفة، لم يكن ينظر الى عينيها، فقط ينظر الى ما يفعل وعبوسه يزداد لحظة  بعد أخرى...

بعد أن أنهى وجهها ومر على ذراعها ذو العلامات الزرقاء ثم قال لها (هل هناك المزيد؟، في جسدك)

قال الكلمة الأخيرة بصوتٍ أخفت درجة واحدة فقط الا أنها قد لاحظتها، فمالت  شفتيها ابتسامة حالمة وهي تتطلع لعينيه ناسية العالم بأكمله...

نظر لإبتسامتها بغضبٍ وقال (مالذي يدعو للابتسام حين اسألك عن إصاباتك؟، ما تلك الأسرة الغريبة؟).

أخفضت عينيها على الفور خوفا من افتضاح ما بداخلها وهمست بضعف (لا، لا يوجد المزيد فقط وجهي، عاصم ليس بمثل، هذه القسوة عادة)

صرخ نادر غير قادرا على السيطرة على انفعاله وهو يمسك بذقنها بقوة (ليس  بمثل هذه القسوة؟، انظري الى وجهك. كيف مكنته نفسه من ضربك بهذا الشكل اللا  انساني، أخبريني دون مقدمات هل فعلها سابقا؟).

أطرقت برأسها تفكر. هل تكذب؟، كم ترغب في استدرار عطفه، لطالما تجاذبت  هي وعاصم حتى أنه ثنى ذراعها عدة مرات وجذبها من شعرها كعادة الأشقاء  دائما، فالأشقاء الذكور غاية السخافة و الغلظة عادة، فهل تومىء برأسها؟،  فقط ايمائة تجعله يثق في قراره بأن يستعيدها اليه ليحميها من البيئة  القاسية التي تحياها؟، اليست في حرب؟، وفي الحرب كل الوسائل متاحة...

لكنها لم تطل التفكير حين اعتبر نادر صمتها موافقة على كلامه فاستشاط  غضبا وهو يقول دون تفكير (لولا كدماتك التي أراها الآن و تأكدي من أن عاصم  هو من فعلها لقلت أنكِ قد خدعتني للمرة الثانية بمنتهى الحقارة).

اتسعت عينا حور من هجومه الغير مباشر و عودته للماضي الذي قد يخرب كل  خطتها الآن، بينما تابع نادر بوحشية مواجها عينيها المهتزتين (أذكر جيدا  خداعك السابق حين اتصلت بي صديقتك التافهة الأخرى، باكية وهي تخبرني بصوتٍ  يمزق نياط القلب بأن عاصم يحتجزك، اعتدى عليكِ بالضرب أكثر من مرة، الى أن  يزوجك من رجل أعمال متقدم في السن من عملائه).

أخفضت حور رأسها خزيا من تلك البقعة السوداء في تاريخهما معا، و عادت  بها الذكرى الى الفترة التي تلت رؤيتها له في زفاف صديقتها و التي تجلت فيه  بذلك العرض الفاضح من أجل عيون ذلك الغريب الذي يقف مراقبا دون تعبير،  لعلها تحظى بنظرة اعجاب لكن دون جدوى...

و بالرغم من أنها لم تقوم بهذا التصرف العلني من قبل، لكن حين تصل حور  لدرجة الاحتراق رغبة في شيء. تتوه منها كل الأصول و القوانين و تصبح كفرسةٍ  جامحةٍ غير مروضة.

بعدها راهنت نفسها و رنيم أن هذا الشخص لن يكون الا لها، حتى ولو رغما عنه،  تعقبته في كل مكان، عرفت حياته و عمله وبيته، تعرفت اليه في أحد الأماكن  العامة و عرفته اليها، فما كان منه الا أن أومأ برأسه دون ترحيبٍ حقيقي...

من بعدها كانت حياتها شديدة الإجهاد وهي تحاول التوفيق بين معارفٍ وصدفٍ  لتجمعهما، مواقف عديدة، ينصرف فيها البعض ليبقيا بمفردهما، ويبقى هو صامتا  غير مرحبا كعادته، تجتذبه برموشها المسبلة أكثر من كلماتها، تستخلص كل  سحرها بمنتهى الصبر وإن كان رجلا غيره في مكانه لكان سقط صريعا لسحرها منذ  فترةٍ بعيدة...

وحين فشل اغراؤها. لجأت الى الحديث عن نفسها، قصص تلت قصص عن حياةٍ  وهميةٍ صعبة بالرغم من ترفها، حينها لدهشتها بدأ نادر في التجاوب معها على  مضض، كان يسدي اليها النصح بصبرٍ يتزايد كل مرة...

حتى أصبح مهتما بحق أن يخرجها من حالة الضياع التي تكرهها و لا تعرف سبيلا  للخروج منها، صحيح أنه لم يظهر لها أي مشاعر عاطفية خاصة، لكنها شعرت  بداخلها أنه أحب هذا الدور، من نظرة عينيه...

لذا منحته الرضا وهي تلتزم تدريجيا بنصائحه، كل هذا وفق خطة مدروسةٍ في رأسها...

كانت ترى نظرة سعادة صافية حقيقية وهو يرى كل تقدم ولو معنويا أو بسيطا قامت به، وكأنه يرعى أحد الحيوانات الضالة الشريدة.

بينها وبين نفسها شعرت مع مرور الأيام بإحساسٍ جارف من الحنان تجاهه،  فبالرغم من صلابته وقوة شخصيته الا أنه انساق تماما بمنتهى الطيبة وهو  يحاول مساعدة تلك الأنثى الضائعة في الحياة...

حتى ولو كان كل هذا عبارة عن دورٍ مسرحيٍ رسمته من البداية للنهاية.

وقتها عرفت أنه لم يكن مجرد بريقا ذلك الذي جذبها اليه، بل هو ما يسمى بالحب، وهو ما لم تعرفه أبدا من قبله...

لكن بمرور الوقت، وحين أتعبتها الصداقة البريئة قررت البدء في مخططها،  فحانت لحظة الصفر، ليأتي يوما كانت تجلس معه في أحد الأماكن العامة بعد أن  اتفقا على المقابلة ككلِ مرة، وأمرت رنيم أن تتصل بعاصم في شيٍ ما و تزل  بلسانها أمامه عن وجود حور برفقة رجلا ما اعتادت على مقابلته...

قد تكون المقابلة و الصداقة بين شابٍ وفتاة أمرا عاديا في الأوساط  المنفتحة، أما عند أصحاب الأصول الشعبية فالأمر يختلف و خاصة عاصم، لذا لم  تكد تمر دقائق حتى وجدت عاصم يدخل المكان و نظرات عينيه شديدة الإجرام  كالثورِ الهائج...

لكنه لم يفتعل الفضائح فقط نظر اليهما و تجاهل كف نادر الممدودة ليقول  بمنتهى الهدوء الخطير ذو الهمس الشرس (اتبعيني دون كلمة واحدة، وأنت أحمد  ربك أنك في مكانٍ عام و الا لكان لي تصرفا آخر معك، لكن حسابك معي سيكون  عسيرا)

و بعدها تلت فترة الانقطاع المدروسة و التي امتنعت حور فيها عن الاتصال  بأيا من أصدقائها حتى لا يستطيع نادر الوصول لها و الإطمئنان عليها...

و بالفعل كان عاصم قد منعها من الخروج و احتجزها في البيت و سحب منها هاتفها، لم تكذب في ذلك...

لكنه لم يضربها حقا، لمعرفتة بأن هذه الأمور خطيرة، وشخصية كحور قد تلجأ لتصرفٍ متهور بعد الضغط عليها أكثر من اللازم...

بالإضافة الى أن الحاج اسماعيل كان على قيد الحياة فعمل عاصم كل ما في  وسعه حتى يتكتم الأمر عنه، لذا لم يلجأ الى الفضائح و بقى منتظرا عدة أيام  لعل هذا الرجل يدخل البيت من بابه و يتقدم لخطبة حور قبل أن يتصرف معه  شخصيا...

أعادت حور نفسها من تلك الذكريات المخزية، فمدت يدها برقةٍ تلمس يده وهي تهمس بإستجداءٍ متألم (كنت صديقي يوما، اتذكر ذلك؟).

أطبقت كفه على يدها بقسوةٍ وهو يقول بقوةٍ غاضبة مقتربا بوجهه من وجهها  (كانت صداقة مبنية كلها على أوهام، أي صداقةٍ تلك؟، يصعب على قول ذلك لكنني  سأقوله، سيدتي أنتِ تستطيعين سحق كبرياء رجل بمنتهى البساطة ودون أن تطرف  عينك)

ثم قذف يدها بخشونةٍ بالرغم من أنه لا يريد أن يؤلمها الآن بعد الذي تعرضت له على يد عاصم.

همست حور بما يشبه الهوس وعيناها تعرفانِ طعم الدموع الحبيسة بصدقٍ هذه  المرة (سامحني، سامحني أرجوك، لم أفعل ما فعلته الا حبا لك، عشقا فيك)

التفت اليها بسرعةٍ وغضب ممسكا بذراعيها وهو يقول (هل من المفترض أن يحسن  ذلك صورتي التي هززتها في نظري، كل يومٍ أنظر الى ذلك الرجل الذي سقط  بمنتهى الغباء في فخك).

فتحت شفتيها لتجيب بعجز، لكنها عادت وأغلقتهما أمام القسوة البادية على  ملامحه فأخفضت نظراتها، حينها قال نادر بصوتٍ لا تعبير له (حاولي النوم  قليلا، ولا تقلقي على معتز أعتقد أنه سيلعب مع علية لبعض الوقت، لذا  بإمكانك الراحة).

ثم تركها ليتجه الى النافذة مغلقا اياها لتغرق الغرفة في الظلام الجزئي،  بينما اتجهت حور بقلبٍ مهموم الى الفراش وهي غير قادرة على مقاومته،  فالتعب قد أخذ منها مأخذه خلال اليومين الماضيين، وفكرة أنها تنام على فراش  نادر جذبت النوم سريعا الى عينيها المتعبتين، وآخر ما فكرت به قبل  الاستسلام للسلطان النوم، هما اسمان ظلا يطوفانِ في ذهنها المرهق، نادر، و  علية...

بعد أن غفت في لحظةٍ واحدة، استسلم نادر لضعفه وترك مقاومته القاسية،  فسمح لعينيه بالتحرك عليها جيئة وذهابا على ذلك الجسد الغض الذي ذاب بين  ذرعيه مراتٍ قليلةٍ كالعسل الدافىء...

جميلة ولا ينكر، وكيف سينكر، وجمالها ليس فقط جسديا بل لها سحر البحر،  ذلك السحر القديم الذي يسبغه على فتياته، حتى أنه يكاد يشعر بها هاربة من  لوحةٍ قديمة كان قد رآها من قبل، يكاد يتخيلها بالملائة السوداء و اليشمك  الذي يظهر عينيها الكحيلتين.

تلك العينين اللتين تظهرانِ أعماقها المخادعة، لم يرى من هي أكثر لوعا  وخداعا منها من قبل، لذا لم تستطع أبدا أن تحتل قلبه رغم كل محاولاتها، لم  تنجح سوى في اجتذاب رجولته الى فخ سحرها، وكم كان فخا واهيا انقضى بسرعةٍ  ليبقى لوعها حاجزا بينهما لا يستطيع تجاوزه، لا يستطيع الراحة معها و  السكينة اليها، دائما يحيا على نارٍ حتى كادت أعصابه أن تحترق...

الى أن سلم في موقفٍ قاطع بأنه وحور لا حياة بينهما، وذلك هو الأفضل لهما معا...

تنهد بحنقٍ ونفاذ صبر مبعدا عينيه بصعوبةٍ عن جسدها واتجه اليها ليلقي  الغطاء الخفيف عليها باعثا نسمةٍ خفيفة طيرت خصلة ناعمةٍ لتستقر فوق  عينيها، ظل ينظر معجبا بتلك الخصلة الى أن انحنى مبعدا إياها بنعومة...

ثم استقام وهو يهمس لنفسه، فلتخرج من هنا حالا يا نادر والا علقت في شباكها وللأبد هذه المرة...

قبل عدة أيام...

تنهدت وهي تضرب عجلة القيادة بنفاذ صبر، الطريق مزدحما للغاية، الى اين  يتجه الجميع في مثل هذا الوقت، هي لديها مقابلة عمل، بعد مواعيد بدء العمل  بقليل، فأين يذهب الجميع؟، سيكون رائعا أن تتجه الى مقابلة العمل متأخرة...

ما أن خف الزحام قليلا و تحركت السيارات حتى تنفست الصعداء و انطلقت  بسيارتها دون أن تلمح السيارة أمامها والتي هدأت من سرعتها تفاديا لصبيٍ  يعبر الطريق، لذا لم تتمكن رنيم من السيطرة على المكابح في اللحظة الأخيرة  فارتطمت سيارتها بقوةٍ بظهرِ السيارة التي تتقدمها، فارتطم رأسها هو الآخر  بعجلة القيادة بقوة، ثم توقفت السيارة.

توقف الطريق تماما وتعالت الأبواقِ المحتجة، ارتاعت رنيم و توقف قلبها وهي تهمس برعب، لا، لا، ليس الآن...

فقد رأت قائد السيارة أمامها يترجل من سيارته، يالهي سيصب جام غضبه عليها،  ماذا تفعل الآن، ربما لن ينتهى الأمر الا في قسم الشرطة، وستضيع فرصة العمل  الوحيدة التي كانت تعقد عليها الآمال...

لم تجد بدا من النزول اليه و أعصابها على وشكِ الانهيار، لتجد شابا  جذابا يبدو في منتصف الثلاثينات يقترب منها بملامحٍ قاسيةٍ كالحجر، حاولت  الكلام عبثا وهي تتطلع الى الضرار التي سببتها الى سيارته لكنها لم تستطع  النطق، الآن سينفجر بها، فلتتحمل انفجاره بكل هدوء ثم تعرض عليه التكفل بكل  الأضرار التي الحقتها بسيارته، (هل أنتِ بخير؟).

رفعت نظرها اليه مدهوشة من السؤال الأول فقد كانت تتوقع الأسوأ، لذا لم  تترك الفرصة فقالت بسرعة (لقد كان خطئي بالكامل، وأنا سأتكفل بكل تكاليف  التصليح، إن أردت أن تأخذ رقمي لتتأكد من)

قاطعها بجمود (هل تعرضين رقم هاتفك على الغرباء هكذا بمنتهى السهولة ِ عادة؟).

ذهلت من تلك الجرأة و الوقاحة التي تحدث بها هذا الأحمق للتو، حتى أنها  ظلت للحظات تنظر اليه فاغرة شفتيها غير مصدقة الى أن تمكنت من القول أخيرا  بغضب (كيف تجرؤ؟)

لم يجبها ولم يهتز لغضبها بل انشغل بالنظر الى الاحمرار الذي يعلو جبهتها  ثم قال بهدوء (هناك كدمة على جبهتك ستتحول الى اللون الازرق قريبا، هل  تشعرين بدوار أو ما شبه؟).

لم تتنازل للرد على شهامته المفتعلة فلا وقت لديها، لذا قالت بمنتهى  العنجهية (هل تخبرني بالمبلغ الذي تريده لننهي هذا الأمر. فلا وقت لدي)

للحظةٍ مجنونة رغب في أن يصفعها، متناسيا كلِ أصول التحضر، يعرف مثيلاتها  من فارغات العقول. بتلك السيارة الفارهة التي لم تتعب يوما في كسب قرشا  واحدا من ثمنها...

وملابسها الغريبة. من بنطالٍ جينز أسود ضيق لا يترك شيئا للمخيلة يدخل  في حذاءٍ عالي الساقين الى أعلى من ركبتيها أسود جلدي ذو كعبين عاليين،  جدا، بالنسبةِ لهذا الوقت من النهار، لتكمل الصورة بسترةٍ غريبةٍ من الجينز  يصل طولها، إلى تحت صدرها، فقط!، تحتها قميصٍ قطنيٍ أبيض تحدث بمنتهى  البلاغة عما يخفيه...

الوقحة، لم تقل تكاليف الارتطام، بل ببساطة ما يريده ليتركها ترحل،  ولولا أنه كان متأخرا عن موعده وهو يقدس احترام المواعيد عادة لكان علمها  الأدب، لذا لم يفعل سوى أن نظر اليها بازدراء قائلا (فلتحتفظي بمالك، لكن  حاولى تعلم القيادة فربما تدقين عنق أحدهم يوما، وقتها لن يكفي مال والدك  كله ليصلح خطؤك).

ثم دون كلمة أخرى استدار الى سيارته يركبها صافقا الباب لينطلق تاركا  إياها للأبواقِ نافذة الصبر، بينما هي تتطلع في أثره شاعرة بالغضب الأحمق،  من شدة خجلها...

كان عاصم جالسا أمام حماه المستقبلي في مكتبه الفخم، ينفث من دخان سيكاره،  يبدو عليه عدم الرضا مما سمعه للتو، يعلم عاصم جيدا تلك النظرة، والتي تعني  أن أحدهم أصبح مهددا من قبل حماه، عثمان الراجي...

وذلك لم يعجب عاصم، فقد علم تحديدا من هو المهدد هنا، حيث ظهرت أمام  عينيه صورة لعيني قطةٍ كبيرتين تتحديانه ببراءة و شجاعة، ومهما كان غضبه  منها فإنه لن يسمح أبدا أن تدخل الحرب الضروس في مواجه الطوفان المتجه  اليها...

نظر اليه عثمان الراجي بصلابة ثم قال بهدوءٍ خطير (لقد فعلت ما عليك يا عاصم، فاترك لنا الباقي).

ها قد سمع ما لم يرد سماعه، حينها مال في مقعده الى الأمام مستندا  بمرفقيه الى ركبتيه ليرسل نظره بمنتهى القوة الى عثمان الراجي قائلا بلهجة  هادئة توازي لهجة حماه خطرا (اعذرني سيد عثمان، الموضوع يخصني، وأنا وحدي  من سأتعامل فيه، بطريقتي التي لن أقبل بغيرها).

للحظةٍ تواجهت القوتان، تتحدى كلا منهما الأخرى في مفترقٍ للنظريات،  ليرى كلا منهما من سيخضع للآخر، فقال عثمان الراجي (لم أرى نتيجة لطريقتك  الخاصة حتى الآن، لذا أرى أن نسلك طريقا آخر)

لم يرمش عاصم بعينه بل ظل محدقا في عيني حماه بصلابةٍ ليقول (دون أية  مقدمات يا سيد عثمان، أخبرتك من قبل أن هناك شعرة تفصلني عن طريقٍ لا أسلكه  أبدا).

ابتسم عثمان الراجي قليلا وهو يننفث دخان سيكاره بهدوءٍ ظاهر، ثم قال  بعد لحظة صمت (ولهذا أخبرتك بأن مهمتك قد انتهت، فلتترك لنا الطريق من هذه  النقطة)

أرجع عاصم ظهره الى الوراء ليقول بقوةٍ غير متنازل عن هدوؤه (الأمر يخصني  ولن أقبل بأيٍ من تلك الوسائل، الأمر غير قابل للنقاش بالنسبةِ لي، سأنهيه  وثق في كلمة عاصم رشوان).

ثم قام من مقعده مستأذنا ليخرج، لكن عند الباب وصله صوت عثمان الراجي قائلا بخطورة (عاصم، لا أريد أن أذكرك من ينتظر تلك الأرض)

لم يجب عاصم، بل أومأ برأسه مودعا ليغادر، متجها للحمقاء التي تتلاعب في عدادِ عمرها...

ظلت رنيم جالسة في مكانها تفرك يديها بقلق، لقد تأخرت بالطبع على موعد  مقابلة العمل، و تلك كانت فرصتها الأخيرة في الحصول على عملٍ، فهي وصلت الى  سن السادسة والعشرين دون أن ?


تكملة الرواية من هناااااا


تعليقات

التنقل السريع