القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية بأمر الحب الفصل السادس والسابع والثامن للكاتبة تميمة نبيل

 

رواية بأمر الحب الفصل السادس والسابع والثامن  للكاتبة تميمة نبيل



رواية بأمر الحب الفصل السادس والسابع والثامن  للكاتبة تميمة نبيل


رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

للحظاتِ تجمدت بين ذراعيه الحديديتين من هولِ الهجوم المجنون الذي  انصب عليها، لم تستطع سوى أن تأخذ نفسا واحدا مرتجفا قبل أن تراه يهجم  عليها مهاجما شفتيها المكتنزتين في اعصارٍ عايشته مرة من قبلِ عشرِ  سنوات...

للحظاتٍ قليلة شعرت و كأنه محاربٌ يسترد ملكه الضائع، وهو يقبل كل  زاويةٍ من من شفتيها المنفرجتين المبهوتتين الى أن أطبق عليها مانعا إياها  من التفكير حتى و قد غابت عنها الدنيا من حولها و لم تشعر سوى بصوتِ البحر  يدخل هادرا في أذنيها مختلطا بصوتِ أنفاسه المجنونة و التي تخبرها بما  يستشعره في تلك اللحظة...

استمرت الأمواج تطوف بها حاملة إياها إلى الشاطىء لترجعها من جديد و  تلقيها في عمقِ بحرٍ مجنون لا قرار له، وهي حتى غير قادرة على الحركة، وقد  اختلط الماضي لديها بالحاضر، و تاهت في تلك الدوامة كما تاهت وهي بعد طفلة  في الرابعة عشر من عمرها...

فجأة انطلق من جوارهما صوت سيارة نقل بضائع عاليا جعلها تنتفض شاهقة بين  ذراعيه وقد رفع رأسه عنها وهو يلهث، لتطالعها عيناه المتسعتانِ  المجنونتانِ بجنونِ تلك اللحظات التي غرق فيها للتو، و التي كاد بريقهما أن  يغشي عينيها المذهولتين أمامه...

حينها عاد اليها الواقع و صرخت عاليا وهي تتلوي بشراسةٍ بين ذراعيه، الا  أنه لم يفك أسرها بل زاد من ضغط ذراعيه حولها حتى كاد أن يحطم أضلعها  الهشة، فعادت لتصرخ كالمجنونة و هي تشعر بالعجز (ابتعد عني، ابتعد عني أيها  المجنون)

لم تنجح مقاومتها سوى في جلبِ ابتسامة تملكية الى شفتيه ثم همس في اذنها  رغم انفاسه الهائجة (أرأيتِ أنكِ لازلتِ تتذكريني، نفس استسلامك الرائع منذ  عشر سنوات).

في لحظةٍ امتلأت عينيها بالدموع و ثم تفجرت على وجنتيها وهي تضرب كتفيه  بشراسةٍ محاولة التحرر منه، وهي تشهق باكية (كنت طفلة، لم أكن سوى طفلة،  وأنت استغليت ذلك)

انطفأ ذلك البريق المجنون في عينيه. وتوترت عضلة في فكه، الا أنه لم يحررها  و لم يرخي ذراعيه عنها، وهو يقول بعد لحظةٍ بصوتٍ أجشٍ متصلب (كنتِ زوجتي،  و لا زلتِ).

توقفت عن المقاومة وهي تنظر اليه بذهول بينما عيناها الحمراوانِ تتسعانِ  وهي تنظر اليه مصدومة، ثم عادت لتصرخ (هل جننت؟، هل جننت بالكامل؟، كان  مجرد عقدا و قد فسخه عمي مع أباك و طلقوني منك بعد سفرك).

امتنع عن الرد وهو ينظر إلى عمقِ عينيها الزيتونيتين الحمراوين و التي  يلوح من داخلهما بعض الاستجداء تحاول أن تخفيه بشجاعة، حينها لان قلبه  قليلا، وحرر أحدى ذراعيه من حولها ليرفع يده و يداعب شعرها المتناثر حول  وجهها الشاحب المغرق بالدموع...

الا أنها هزت رأسها بعنف لتنفض يده عن خصلاتِ شعرها، وهي تلهث غضبا و  خوفا بعنف بالرغم من دموعها المتفجرة ثم لم تستطع تحمل الصمت فصرخت و هي  تدفعه في صدره بقوة الا انها كما لو كانت تضرب حائطا خرسانيا (لماذا لا  تتكلم؟، أخبرتك بأن عمي مزق عقد الزواج مع والدك، و مضى كلا منا الى حياته  منذ عشر سنوات، فلماذا عدت الآن؟، كنت قد وطنت نفسي على نسيان تلك الفترة  السوداء من حياتي، فلماذا عدت الآن؟، لماذااا؟).

عادت لتبكي بعنف و هي تشهق منتحبة و قد فقدت السيطرة على نفسها تماما،  فما كان منه الا أن جذبها بين ذراعيه ليدفن وجهها المرتعش بكاءا في صدره  بقوة، حاولت دفعه و حاولت المقاومة دون جدوى، فاستسلمت لذراعيه.

ورأسها يرتاح غصبا على صدره القوى اللاهث و الذي من شدة اتساعه شعرت و  كأنها تفترش رمال الشاطىء الدافىء تحت أشعة الشمس كما كانت تفعل و هي  صغيرة، بكت، بكت كثيرا وهي لا تجد سبيلا للتوقف، فها قد عاد اليها ماضٍ  مخزٍ كانت قد اعتقدت أنها دفنته منذ سنين، لكنه عاد الآن بعودة ذلك المجنون  الذي يكبلها بين أحضانه و هي لا تجد القدرة على الفكاك منه.

عادت لتشهق حتى بللت قميصه تماما و مع كلِ شهقةٍ كان يشدد من ضمها إلى  صدره، بعد دقائق طويلة، استطاعت أن تسحب عدة أنفاس مجهدة وهي تحاول أن  تسيطر على نفسها، رفعت وجهها المتورم بشدةٍ وهي تنظر اليه ببطءٍ وقد نال  منها التعب بقوة

ظلت تنظر الى عينيه لعلها تجد فيهما أثرا للرحمة، لكن لماذا؟، لماذا تستجدي منه الرحمة؟، فهو لا يملك أي سلطةٍ عليها...

بلى يملك، ظهر وجه عمر جليا أمام عينيها المتورمتين، عمر الذي يمثل  بالنسبةِ لها كل الأحلام و الحياة السعيدة التي خططت لها لتبنيها فوق  أطلالِ الماضي المؤلم...

ابتلعت ريقها بضعف وهمست بعد فترة (هل أخبرت أحدا؟)

ظل ينظر إلى عينيها و كأنه يسبح فيهما، بعد عشر سنوات ها هي في احضانه من  جديد تهمس له بكلِ وداعة، هي ملكه حتى ولو لم تدرك ذلك بعد، رد عليها بعد  لحظةٍ بصوته الصلب (أخبرت من؟، بماذا؟).

أخذت نفسا مرتجفا وهي تحاول جاهدة السيطرة على نفسها حتى لا تثير جنونه  أكثر، فالحذر مع أمثاله هو التصرف الأمثل لذا همست بخفوت (في محل عملي، هل،  أخبرت أحدا عن، أنت تعلم، عن)

لم تستطع أن تكمل لأنها لم تجد وصفا حقيقيا لما كان بينهما فصمتت لا تنظر  لأبعد من عنقه، فتطوع هو ليكمل بهيمنه ٍ و شفتيه الشهوانيتين تبتسمانِ  بتسليةٍ شرسة (عن زواجنا؟).

عاد اليها جنونها هي الأخرى فهي لا تقل عنه جنونا في الواقع فصرخت بشدة  (لا تقل زواجنا، لم يكن هذا زواجا و حتى أنني كنت تحت السن القانوني)

اتسعت ابتسامته الشريرة وهو يتطلع الى ثورتها التي تظهر في لحظةٍ لتخبو في  أخرى، قال وهو يبتسم أمام عينيها المتورمتين من الغضب و البكاءِ معا (كان  زواجا، وفيه اشهار، كل فتيات الحي كن يتزوجن بنفس الطريقة و في نفس العمر  تقريبا، لكن لا تقلقي لم أخبر أحدا، حتى الآن).

صمتت مرعوبة من تشديده على كلمة، حتى الآن، وكأنه يهددها، لكنها رغما عنها شعرت ببعض الإرتياح...

ارتجف قلبها، انه يجادل مصمما، فماذا يريد منها بعد كلِ هذه السنين؟،  صحيح أنه لا يملك شيئا الا أنها تخشى أن يهدد بإخبار كل من تعرفه، و إن  أرادت الحق فهي لا تهتم الا لشخصٍ واحد، عمر، ستقتل نفسها لو علم عمر بذلك  الأمر، كانت لتستسلم من قبل، أما الآن وبعد أن شعرت بل و شبه تيقنت من  اهتمام عمر بها فالأمل تولد بداخلها، وهي ستدافع عنه و لو كلفها ذلك  حياتها...

أخذت نفسا مرتجفا ثم دفعته قليلا في صدره لكن بدونِ عنف وهي تهمس بضعفٍ و تعقل (اتركني، أرجوك)

لوهلةٍ تأكدت من نظراته التملكية بأنه لن يرضخ لطلبها و سيبقيها في أحضانه  للأبد، لكنها شاهدت للعجب بعض الرقة تطفو على سطح ملامحه، قبل أن تشعر  بنفسها حرة أخيرا و قد سحب ذراعيه من حولها ببطء، مبقيا عينيها أسيرتي  عينيه.

أخذت نفسا آخر وهي لا تصدق أنه تركها أخيرا بعد هجومه الفاحش تجاهها  لكنها لم تسمح لنفسها بضربه الآن، فهي ستكون خاسرة في كل الأحوال و قد يفعل  هذا المجنون ما لا تحمد عقباه، لذا تابعت همسها و هي تنظر بثباتٍ زائف الى  عينيه القاتلتين المجرمتين (جاسر، ماذا تريد مني؟، من الواضح أن أمورك  أصبحت مبهرة و أغنى و اجمل فتاة ستتمناك، فلماذا تذكرتني بعد كل تلك  السنوات؟).

كان طوال تلك اللحظات أثناء همسها المرتجف و عيناه لا تفارقانِ شفتيها  الهامستين، حتى شعرت بالدماء الحارة تعود لتندفع في شرايينها، الوقح، الوغد  الوقح، لكنها ألزمت نفسها الصمت حتى تتجنب أذاه، و انتظرت أن يجيبها

و بالفعل قال بهدوء بعد فترة (من قال أنني نسيتك؟، لقد تركتك خمس سنوات، وعدت بعدها لأراكِ ومن يومها و أنتِ تحت أنظاري).

كان يتكلم بمنتهى الهدوء و كأنه يحكي عن الطقس، حتى أن هناك طيف  ابتسامةٍ تعلو شفتيه المفترستين، يتكلم عن حياتها و كأنه تملكها، يحددى متى  يراها و متى يقرر الوقت ليعود فيستعيدها...

وهنا تزايد شعورها بالخوف، إنه يبدو واثقا تماما، لكنها أخفت خوفها لتقول  بحزمٍ زائف (كل ما تنطق به جنونا مطلقا، هل تعرف ما ستكون عليه ردة فعل  عاصم ما أن أخبره عن ظهورك بهذا الشكل في حياتي؟).

توحشت ابتسامته و ازداد بريق عينيه العابثتين، بينما لم تهتز فيه شعرة  للتهديد المبطن في كلامها، فقال بخطورةٍ تعرفها جيدا (اهااا، عاصم رشوان،  كم شوقتيني لأيام الشقاوة القديمة، وكم سأستمتع بردة فعله التي ستعيدنا  للماضي، خاصة حين تخبريه بأنني قبلتك للتو، هنا عند البحر، لكن لماذا ركبتِ  معي حنين؟، الا تعلمين خطورة الركوب مع مجنون).

لم تجب، لم تفتح شفتيها بحرفٍ واحد، تجمدت تنظر اليه دون تعبير، دقائق  أم ثوانٍ مرت؟، لا تعرف حقا، لكنها في النهاية قالت وهي تضغط الحروف (أنت  أحقر انسان قد أكون)

لم تستطع ان تكمل حين أمسك بذقنها ليكتم كل الألفاظ التي كانت تنوي رميها في وجهه و التي تتذكرها من أيام الحارات...

تلوت ما بين أحضانه الخشنة بشراسة الى أن تركها دون أن يتمادى كما فعل  من قبل، لكنه عاد ليقبض على ذقنها بقوةٍ كادت أن تخلعه و هو يحذرها بهدوء  (إياكِ و تلك الألفاظ، الزوجة المحترمة لا تنعت زوجها بألفاظ غير محترمة،  مفهوم؟).

دفعت يده بقسوةٍ فتركها برضاه و هو يبتسم لعينيها الغاضبتين بجنون، فلم  تتمالك نفسها و هي تمد يدها الى الباب تحاول فتحه بجنون لتخرج من سيارته،  الا أن الباب كان مغلقا فصرخت وهي تطرق على مقبض الباب (افتحه، افتح هذا  الباب حالا و الا صرخت و فضحتك)

وما لم تتوقعه هو أنه قال بمنتهى الهدوء (رغباتك أوامر).

لحظة و سمعت صوت تكة قفل الباب يفتح، بل و لم يكتفي بذلك فانحنى بجذعه  عليها ليمد يده و يفتح الباب على اقصى اتساعه و هو يقول (تفضلي)

نظرت اليه و إلى الباب المفتوح و الذي اندفع منه هواء البحر ليبعثر شعرها  بجنون، ثم خرجت بتعثر الى الطريق السريع و لم تكد تتزن في و قفتها حتى  انحنى ليصفق الباب ثم ينطلق بسيارته محدثا صريرا عاليا...

اتسعت عيناها المتورمتين رعبا و هي تنظر الى طيفِ سيارته المبتعدة  كالسهم، ثم نظرت يمينها و يسارها بهلع، لا تمر بها الا سيارات النقل  الضخمة، فهل يمكن ان تثق بإحدى سائقيها و تركب معه؟، انها اصلا على الجهة  المقابلة أي أن السيارات متجهة الى سفر خارج المدينة، فمن ذلك الذي سيقبل  بالعودة ليرجعها، وهي لن تستطيع عبور الطريق السريع...

للحظاتٍ انتابها رعب غير مسبوق، مالك، ستتصل بمالك ليأتي و يأخذها، لكنها ستكون كارثة و وأطبقت على رأسها...

فكيف تتواجد فتاة هنا بمفردها؟، ارتعش قلبها من مجرد تخيل الأمر، و لم تجد  سوى أن غطت وجهها بكفيها و هي تنتحب بشدةٍ و قد انهارت أعصابها بعد كل هذا  الضغط العصبي الذي تعرضت له الساعات الماضية...

و أثناء انهيارها الفظيع سمعت صوت مكابح سيارة توقفت أمامها بشدةٍ فقفزت  رعبا، لتطالعها صورة المجنون الذي تركها في الصحراء منذ دقائق، انحنى  اليها من النافذة ليقول بتسلية (هل ستركبين أم ألف لفة أخرى لتأخذى و قتك  في التفكير؟)

ظلت ترتجف بشدةٍ مع نسيم البحر، و هي تشعر بأنها لم تكره انسان في حياتها  كما كرهته هو، لكنها لم تستطع سوى أن تركب بكلِ ذلٍ و استسلام.

و ما أن دخلت و اغلقت الباب حتى أسندت رأسها اليه بتعبٍ أوشك أن يقتلها و  قد وهن جسدها و نفذت طاقتها تماما، لذا لم تتحرك حين مد يده و ثبت لها  حزام الأمان، شاعرة بقبضته المتملكة على خصرها دون أن تجد القدرة على  القيام بأي حركة من شدة التعب...

وما ان انطلق بالسيارة حتى أخذت عيناها تتابعانِ حركة أعمدة النور التي  تجري و البحر يجري ممتدا من خلفها، لتعود بها الذكرى الى ذلك اليوم، تسير  فيه منهزمة كعادتها منذ أن وقعوا عقد بيعها بتلك الطريقة الى أن يتم  الزفاف...

تسير هائمة على وجهها في شارع حيهم الضيق، تفكر بأن حلم طفولتها قد تحقق  بأبشع صوره، تقترب من الخامسة عشر، لا تعلم إن كانت طفلة أم امراءة، لكنها  بالتأكيد ستزف قريبا كما أراد عمها، سمعت من خلفها صوته الساخر يناديها  (حنين).

التفتت ببطءٍ لتنظر اليه برهبةٍ كما اعتادت دائما، انه ضخم، طويل، وسيم  بشكلٍ غير عادل لغيره من الشباب، لكن وسامته تحمل طابعا اجراميا منبعثا من  نظراته البراقة، و التي لم تنطفىء كما انطفأت نظرات مالك بعد موت نوار...

توقفت تشعر بالتقزم أمامه كالعادة و هي تفرك أصابعها بارتباك، لا تجد القدرة على النظر الى عينيه و هي تهمس (نعم).

اقترب منها بطلته المخيفة في بنطاله الجينز الذي يبرز عضلات ساقيه،  وقميصه المفتوح لمنتصف صدره مظهرا عضلاته الضخمة بالنسبةِ الى عمره الذي لم  يتجاوز الثالثة و العشرين...

وقف يطل عليها من علوه مدخنا سيجارته بعبث مدققا النظر الى أهدابها المسبلة  و وجنتيها المتوردتين، و طال نظره عند شفتيها المائلتينِ في استسلامٍ  حزين، قال لها بإيجاز بعد فترة صمت (كيف حالك؟)

فردت عليه بنفس الأختصار (الحمد لله).

سألها نافثا دخان سيجارته في وجهها (أين كنتِ؟)

رمشت بعينيها في ارتباك وخجل و هي تدرب نفسها على تقبل حقه في السؤال منذ  اليوم، فأجابت بضعف و هي ترفع الحقيبة التي تحتوى بعض الخضر (كنت أشتري بعض  الأغراض لعمتى من السوق)

قال لها بعد فترة صمت (كيف حال دراستك؟، أتحتاجين مساعدة فيها؟)

همست دون تفكير (شكرا، مالك يساعدني فيما أحتاجه).

لم تسمع رده، و لم ترى ردة فعله، لكن كل ما شعرت به هو هسيس أنفاسه،  ليقول بعد فترة بصوتٍ غريب (أريد أن أريكِ شيئا، جلبته من أجل بيتنا)

بيتنا!، كم كانت تلك الكلمة غريبة على مسامعها، و تشعرها بانقباضٍ في قلبها  لا تعلم سببه، همست تتلعثم بأسى (لا، لا أستطيع، زوجة عمي تنتظرني)

لم تنظر اليه لكنها استشعرت غضبه، و كم أخافها هذا، عاد ليقول بتملق مخيف قليلا (لن أؤخرك، ثقي بي).

هل تذهب؟، هل هذا من حقه؟، أم ماذا تفعل؟، همست بتردد بعد فترة و هي  تنقل ثقلها الذي تحمله من يدها الى اليد الأخرى (حسنا، لكن أرجوك لن أستطيع  البقاء طويلا)

أومأ برأسه دون أن يجيبها، ثم دون مقدمات اخذ حقيبة الخضروات من يدها، ليلتقط يدها بيده الحرة قابضا على كفها الصغيرة

ارتعشت و حاولت جذب يدها من يده الا أنه لم يتركها و لم يسمح لها بالتحرر منه، وهو يجرها خلفه إلى بيتهم القديم...

صعدت خلفه الدرجات الحجرية المتهالكة و هي تشعر بالرعب في كل درجة  تصعدها، لكنه كان يشدد على يدها ليجذبها خلفه الى أن توقفا أمام غرفةٍ قرب  السطح ذات بابٍ خشبي قديم، همست حنين و هي تراه يفتح باب الغرفة (ما هذه  الغرفة؟، ولماذا أتينا الى هنا؟)

فتح الباب لتطالعها غرفة بسيطة كل ما فيها متآكل ثم استدار اليها وهو يقول  بغموض (إنها غرفتي الخاصة، أعيش هنا تقريبا و ليس في شقة أبي).

ارتجفت ثانية و هي تهمس بخوفٍ مبتعدة قليلا (و لماذا أحضرتني الى هنا؟)

شد يدها لتقترب كثيرا منه حتى ضاعت أنفاسها اللاهثة و هو يهمس بالقرب من  أذنها (ما أريد أن أريك، وضعته هنا في غرفتي الخاصة، هيا ادخلي)

جذبها خلفه ليدخلا الغرفة، فوضع حقيبة السوق أرضا و أغلق الباب، فاستدارت اليه وهي تهمس (أين هو ما تريد أن تريني؟).

لم يرد عليها بل انقضت ذراعاه الحديديتين من حولها وهو يرفعها من خصرها اليه مهاجما مشاعرها التي لم تجتاح يوما بهذا الشكل الهادر...

حاولت مقاومته تماما مثلما حاولت اليوم و هي ناضجة في الرابعة و العشرين،  لكنها لم تفلح كما لم تفلح اليوم وهو يدور بها اثناء طوفانه الهادر الذي  سلبها عقلها الى أن وقع بها على الفراش الصلب و الذي زأر من تحتهما...

عادت اليها ذكرى فضلت أن تموت من بعدها كل يومٍ تلاها، حين فتح الباب الخشبي بقوةٍ و صوت والدة جاسر الصارخة ترعد فيهما...

تذكرت جيدا جاسر و هو ينهض بهدوءٍ يغلق أزرار قميصه وكأن شيئا لم يحدث بينما، لم يقل سوى (إنها زوجتي، أم نسيتم ذلك؟).

تعالى صوت والدته تصرخ و تشتم، وما أن حاولت حنين مناشدتها أن تخفض  صوتها وهي تشهق باكية حتى رفعت يدها التي تشبه المطرقة لتصفعها بشدةٍ ناعتة  إياها بعدة ألفاظ اقترنت كلها بابنة رشوان، هربت بعدها مذعورة تنزل  السلالم جريا و صوت جاسر الصارخ يهز السلم مجلجلا في مواجهة والدته...

انسابت دموعها غزيرة على وجنتيها الشاحبتين و هي تستند برأسها الى زجاج نافذته اليوم بعد عشرِ سنواتٍ من ذلك اليوم المشؤوم...

كانت تظن أن الدنيا قد تصالحت معها بعد كل ما عاشته في بداية حياتها،  لكنها على ما يبدو كانت مخطئة، اخذت تنشج بضعفٍ دون صوتٍ أو نفس، حتى ثقل  جفناها و راحت في سباتٍ عميق...

ولم ترى قبضتيه اللتين اشتدتا على المقود وهو يزيد من سرعة السيارة، و  لم ترى ملامحه المتجهمة و هو ينظر اليها نائمة باكية، و بالتأكيد لم ترى ما  بقلبه و هو مضطرا في هذه اللحظة لإعادتها الى منزل عمها، مع وعده لنفسه  أنها قريبا جدا ستعود الى بيتها الحقيقي...

المحتوى الان غير مخفيكان يتطلع اليها وهي تنطق بكلِ إجابة بأعصابٍ  محروقة، مرت الدقائق ببطءٍ وهو يستجوبها في ما يشبه التحقيق الرسمي، يكرة  التوصيات و العلاقات النافعة، وحين يخبره رئيسه المباشر أن من سيقوم بعمل  المقابلة معه لديه توصيتة ليتهاون معه قليلا، وقتها يشعر بالاستفزاز و يقرر  أن يفصل كل جزءٍ في حامل التوصية...

وهي لم تكن استثناءا، ما يقارب الساعة الآن وهو يسألها أسئلة عامة تضم  ما يرغبه من معلوماتٍ هندسية، هذا دون ذكر الأختبار الذي ستجتازه إن سمح  لها بالمرور المرحلة الثانية...

فرصتها شبه معدومة مع هذا العدد من السنوات المفقودة دون خبرة، لكن من حقها  على الأقل الحصول على فرصة متساوية مع من تقدموا للعمل، ولم يملك نفسه من  التساؤل عن السبب الذي جعلها لا تستخدم معارفها في وقتٍ ابكر قليلا من ست  سنوات...

يجلس أمامها مسترخيا في مقعده، طارقا الى سطح المكتب بإصبعه في نغمةٍ  رتيبة تثير القلق أكثر، إنها تسرد على ما يبدو وكأنها ظلت تدرسه لفترة  طويلة ماضية...

ما لفت انتباهه هو ارتباكها المثير للعطف قليلا و الذي يتناقض مع الثقة  التي كانت من المفترض أن تتحلى بها من وجهة نظرها المتعالية كما صنفها، لكن  الآن ينظر الى قبضتيها اللتين تفركانِ بعضهما، وأصابعها التي ابيضت  مفاصلها من شدة الضغط عليها...

ساقها المهتزة بعنفٍ لم ترتح منذ أن جلست، حتى أوشك أن ينبهها الى التعب  الذي لابد و أن يكون قد أصابها من هذا الارهاق العصبي الذي يفترسها...

عاد بنظره الى ما جذبه من البداية، منذ أن عرضت عرضها الوقح صباحا، شفتيها،  وهي تتحدث دون أن تنظر اليه وكأنها تلميذةٍ صغيرة ٍ في اختبارٍ شفوي...

منذ أن بدأت الحديث و نظره كان شاردا في ذلك القطع الطولي الذي يقطع  شفتيها الاثنتين معا بقسوة، يبدو من لونه و كأنه جرحا قديما بالرغم من  عمقه، قسوته تتناقض مع نعومة ملامحها، أيا كان الحادث الذي أصابها فهو  بالتأكيد مخيفا مؤذيا...

رفعت نظرها في لحظةٍ خاطفةٍ وهي تتكلم فصدمتها نظرته الصريحة الى جرحِ  شفتيها، وقتها تلعثمت في ما كانت تقوله بل ونسيت أين توقفت، فحاولت  المتابعة عدة مرات وهي ترفع يدا مرتجفة لتغطي بها شفتيها في حركةٍ حاولت أن  تجعلها عفوية...

بقعةٍ بنيةٍ وكأنها حرق كانت ظاهرة جزئيا على رسغ يدها من تحت كم سترتها  الطويل، لكن يبدو أنها لم تنتبه وهي تهتم بتغطية شفتيها أثناء كلامها، الى  أن خفتت كلماتها أخيرا وصمتت ما أن انتهت...

أخفضت يدها، عينيها، رأسها، أريد هذا العمل بشدة، يا الله أحتاجه للغاية، أكثر ما أحتاجه في هذه الفترة، فقدره لي يا الله...

ظل هو ينظر الى ملامحها الشفافة التي عكست كل صراعها و قلقها، ثم عاد  ليسألها (آنسة رنيم، لابد وأنك تعلمين أن ست سنوات دون عمل أو خبرة بعد  التخرج، هو شيء صعب للغاية، اليس كذلك؟، هل بإمكاني أن أعرف ما الذي منع  عملك بالرغم من أن فرصة الحصول على عمل من ست سنوات كانت أسهل بالتأكيد)

يالهي، ها قد أتى السؤال الذي كانت تخشاه، وكانت تعلم أنه السؤال البديهي الوحيد الذي يسأل في مقابلات العمل...

أخذت نفسا عميقا ثم همست بصوتٍ حاولت جعله هادئا قدر الإمكان، (ظروف خاصة)

اجابةٍ دبلوماسية تعلمتها من والدها لتقطع الخوض في الموضوع

لم تتحرك ملامحه التي لا تعبر عن شيء، الى أن قال بهدوء (اعذريني لكن الا  تجدين افتقادك الخبرة سنواتٍ طويلة يمثل عائقا لمثل تلك الوظيفة؟).

ابتلعت ريقها و ازداد اهتزاز ساقها، لن تنجح، لن تنجح أبدا، لكن ليس  هناك ماهو ليس بهينٍ على الله، لذا طمأنت نفسها قليلا فليحدث ما يحدث،  وهمست (يكفيني شرف المحاولة، وبالتأكيد إن حصلت على الفرصة فسأبذل المستحيل  من أجل استحقاقها).

لم تتحرك عضلة واحدة في وجهه الصلب، بل ظل ينظر اليها في صمت، تشعر  بنظراته تنفذ الى أعماقها، هل كل مقابلات العمل مرهقة عصبيا الى تلك الدرجة  المضنية، أم أنها هي فقط الحساسة أكثر من اللازم...

قال أخيرا (آنسة رنيم أنتِ آتية من طرف عاصم رشوان اليس كذلك؟).

أغمضت عينيها برعب، يالهي، يالهي، إن الأمر يزداد سوءا، كيف تخيلت أنه  لن يتطرق الى الأمر من باب اللياقة، كيف يظن البعض أن المحسوبيات غير  محرجة، أنها تتمنى في تلك اللحظة أن تبتلعها الأرض من شدة خزيها...

بالطبع ترى ما يراه هو الآن من مقعده، فتاة تافهة لم تعمل يوما، لم تكتسب  خبرة أبدا، و تأتي بمنتهى التبجح ببطاقة من عاصم رشوان صاحب الخدمات  الكريمة في المدينة...

لن تجيب، لن ترد عليه، الأمر فشل قبل أن يبدأ، لذا كل ما تتمناه هو أن  تخرج من هذا المكان في الحال والا انفجرت في البكاء أمامه، (آنسة رنيم؟)

ظلت ناظرة الى الأرض أمامها بعناد، دافنة كفيها المثلجتين في حضنها، لن  ترد، لن ترد، فليخاطب نفسه، المهم أن تنتهي تلك اللحظة العصيبة...

قال بصوتٍ هادىء تشوبه بعض الفظاظة (يبدو أن السؤال قد أحرجك، هل كنتِ تفضلين الا نتطرق اليه مدعين أنكِ هنا بجهودك الذاتية؟).

الوغد، الأحمق، الذي لا يعرف أبسط أصول اللياقة، لم تستطع منع نفسها من  رفع رأسها و النظر إلى عينيه علها توصل اليه رأيها الصريح به، لكن ما أن  التقت عيناها بعينيه حتى صعقتهما نظرته القاسية و التي سبقتها لتعلمها  برأيه الصريح في أمثالها...

أخفضت عينيها يغشاهما ألمٌ مؤذي، نظرة الاحتقار كانت بادية في عينيه، ولا تعرف لماذا آلمها هذا بشدة...

كان ينظر الى رأسها المنحني بضعف، لم يستطع منع ذلك الشعور بالذنب الذي  تسلل اليه من نظرته غير العملية التي رماها بها للتو، إن كان سيرفضها  فليفعل، دون الحاجة الى إهانتها حتى ولو بنظرة...

لذا رجع الى التحدث بعمليةٍ وهو يتطرق الى الأسئلة الشخصية و التي تسأل  عادة في المقابلات بغرض اختبار مدى استعداد المتقدم (أرى أنكِ تضعين خاتم  خطبة، فهل سيؤثر زواجك القريب على عملك في حين نلتِ الوظيفة؟).

لو أنها تلقت لكمة لكانت أهون من ذلك السؤال، هل هو تحديدا الفظ. أم أن  هذا هو المعتاد في مقابلات العمل، إنها لم تتقدم الى أيا منها من قبل لذا  لا تستطيع الحكم على ذلك، بالرغم من تحضرها لبعض الاسئلة الشخصية، لكن  السؤال عن زواجها الوشيك، كان فوق تصورها...

ماذا سيكون ردة فعله ان أجابته بصدقٍ، أنها هنا دون علم خطيبها، والذي سيحيل حياتها جحيما إن عرف بنيتها في العمل...

لم تفكر فيه حين تقدمت لهذه الوظيفة، حين قررت أن تتهور ضاربة بكل ما يعتمل في نفسها من خوفٍ عرض الحائط...

حياتها في الآونة الأخيرة أرهقتها للغاية، و نائل له أروع الفضل في ذلك،  لذا قررت أن تعمل ما تتمناه بمنتهى الشجاعة، حتى وإن كانت هذه الشجاعة  مرتبطة بإخفاء الأمر عن، خطيبها، لا يهم ستترك التفكير في العواقب لما بعد،  الخطوة الأولى كانت الحصول على هذه الوظيفة، لكن يبدو أن ليس كل ما يتمناه  الانسان يدركه...

نسيت نفسها شاردة أمامه، ملامحها الشفافة تعبر عن الصراع الدائر  بداخلها، و عيناها تائهتانِ بعيدا، لذا سأل مباشرة حين لم ترد عليه في  الحال (ماذا يعمل خطيبك؟)

رفعت رأسها مجفلة من شرودها، ثم قالت دون تفكير (يتولى منصبا في السلك الدبلوماسي).

رفع حاجبا لم ترتح له أبدا، هل أخطأت الإجابة؟، و جائها الرد حين قال  باستفزاز (أي أنه منصبا يتطلب السفر كثيرا، و بالتأكيد لك أيضا، فهل فكرتِ  في ذلك أم أنك ستعتمدين على الأجازات الطويلة سلفا).

زمت شفتيها بغضبٍ أحمقٍ منه، لكن الجزء الأكبر من نفسها، لو تتمكن فقط  من التفكير قليلا قبل أن تتكلم، لكنها مجبرة الآن على المتابعة فقالت  تتلعثم قليلا (هذا سابق لأوانه، زواجي ليس وشيكا، وحتى، وإن كان فهو لن  يؤثر على عملي أبدا، أنا و، خطيبي متفقان على هذا تماما).

رمشت بعينيها وهي تدعو الله أن يسامحها على تلك الكذبة، لكن الوسيلة  مشروعة مادام الغرض نافعا، وهي ترغب في هذا العمل ليس أكثر، بالتأكيد ليس  أمرا سيئا للغاية، لو كانت حور مكانها لما ترددت، كانت لتنال ما تريد بكافة  الوسائل دون أن تتردد مثل ترددها الآن، لكم تحتاج شجاعة و قوة حور في تلك  الللحظة.

صمت عدة لحظات وهو يراها تتلاعب بخاتمها دون وعيا منها تقريبا، نظر الى  ساعة معصمه فأدرك أنه تجاوز الوقت المحدد للمقابلة، أكثر ممن سبقوها، لا  يعلم لماذا شعر هذه اللذة الشيطانية في استفزاز سيطرتها الهشة، مع ذلك  العطف المتسلل رغما عنه تجاهها، من حقها أن تحلم بشيءٍ تريد تحقيقه، لكن من  حقه ومن ما يمليه عليه منصبه في العمل أن يكون منصفا مع الباقين و الا  ينخدع بهشاشتها البادية، العمل عمل، وهي لم تثر حتى ولو ذرة من اقتناعه  بإستحقاقها الوظيفة...

لذا استقام في مقعده وهو يقول بلهجةٍ مفهومة (حسنا آنسة رنيم، لقد تشرفت  بمقابلتك، وسنبلغك بالنتيجة في خلال يومين بعد اجتيازك الاختبار الأخير)

رفعت عينيها اليه وهو يصرفها بهدوء، كان من المفترض أن تتنفس الصعداء، لكن  لسببٍ ما ظلت تنظر الى عينيه لحظتين، فقط لحظتين، مر استجداءا رقيق في  عينيها دون قصدٍ منها، تود لو طلبت منه ابقاؤها، تود لو تشرح له حاجتها  للعمل، وليست كل حاجة للعمل هي حاجة مادية...

بعد تلكؤها الشارد للحظتين تداركت نفسها فانتفضت واقفة و هي متشبثة  بحقيبتها الصغيرة. اخفضت رأسها للحظةٍ فغطى شعرها الناعم جانب وجهها وهي  تهمس مترددة (أشكرك، سأنتظر).

لكن قبل أن تتحرك لمحت يده تمتد اليها دون كلام، فنظرت الى كفه القوية  وهي تشعر بتوتر غير مفهوم لكنها رفعت يدها اليه والتي اختفت تماما بداخل  كفه السمراء، صدمة. صدمة أصابتها من تلامس كفيهما عضت على شفتيها تنظر الى  كفيهما معا، تعقلي يا رنيم، تعقلي، فسحبت يدها سريعا قبل أن يلاحظ حماقتها  اللحظية...

أومأت بارتباك واضعة شعرها خلف أذنها، ثم استدارت لتغادر مكتبه غير مدركة لنظراته النافذة الى ظهرها تراقب انصرافها...

أكمل عمله خلال اليوم. تلح عليه صورة جرحٍ عميق يقطع شفتين ناعمتين، لا تريد أن تغادر تفكيره، دون أن يعلم السبب...

أوقف سيارته بعد أن وجد المنزل، ها هو أخيرا. بيت القاسم، بيتٍ قديم كما  توقع في مكانٍ متوسط الحال لا بأس به، لكن بالتأكيد سترتفع قيمتها الى  عنان السماء ما أن يتم تنفيذ مشروع عاصم، فعقلية عاصم لا تخطىء التصويب  أبدا...

اتجه إلى باب المنزل وهو يدق الجرس، ظل واقفا فترة الى أن ضغط الجرس مرة  أخرى دون مجيب، الم تقل أن والدها موجود؟، حين يأس من وجود أحدا في المنزل  استدار ليغادر، فوجد سيدة في منتصف العمر تقف أمام بوابة المنزل تنظر اليه  بريبة ثم قالت (من تريد يا سيد؟)

اقترب منها مالك بخفة وهو يقول (السلام عليكم، أسأل عن الآنسة أثير أو والدها).

أجابته المرأة (أثير في عملها، أما والدها فهو في المشفى منذ فترة، اتريد أن تترك لها رسالة؟)

عقد حاجبيه قليلا الا أنه قال (أشكرك سيدتي لكن أيمكنك أن تخبريني بمكان عملها؟)

تردد المرأة قليلا وهي غير متأكدة من شخصيته فقال مالك يطمئنها (أنا مالك رشوان، المالك الحالي للمنزل، وكنت أريدها من أجل ذلك).

في لحظةٍ واحدةٍ انقلبت ملامحها الى الشراسة وهي تتقدم منه متوعدة هاتفة  (اذن أنت عديم القلب و الإحساس، والذي أحلت حياتها الى جحيمٍ الفترة  الماضية؟، وكأن المسكينة كان ينقصها المزيد)

ارتفع حاجباه وهو يرفع يديه علامة التهدئة، قائلا (لحظة، لحظة سيدتي، في الأمر سوء تفاهم، كنت أريد أن).

الا أنها ظلت تتقدم منه بجسدها الضخم وهي تتابع هتافها الغاضب (لم تتأخر  سوى بضعة شهور في الخروج من المنزل، الا تمتلك بعض الرحمة، كيف تطردها  ووالدها، بينما والدتها متوفية منذ وقتٍ قريب، كيف ستستطيع ايجاد مكان بهذه  السرعة، خاصة وهي خاصة وهي تجري من عمل الصباح الى عمل المساء، هل ستتوقف  الدنيا ان لم تستلمو المنزل في التو).

حاول مالك الكلام مرة أخرى لكنها لم تدعه ليتكلم (الا تشعرون بمن هم أقل  منكم؟، لكن بالطبع كيف ستشعرون، وقد ولدتم وفي فمكم معلقة من ذهب، انظر  اليك طفل مدلل حتى لست كبير السن بما يكفي لأستطيع الهوادة معك، حسبي الله  ونعم الوكيل. حسبي الله ونعم الوكيل)

قال مالك (سيدتي)

قاطعته هاتفة تدفعه في ذراعه ؛ (حسبي الله ونعم الوكيل).

قال مالك بنبرةٍ أعلى قليلا وقد بدأ يفقد صبره (سيدتي، أنا هنا لأناقش  معها الفترة التي تحتاجحها الى أن تدبر أمورها، أي أن ليس في نيتي إخراجها  من المنزل في وقتٍ قريبٍ أبدا، فهلا تكرمتِ و أخبرتني أين أجدها؟).

صمتت المرأة قليلا وهي تستوعب كلامه، ثم ترددت قليلا ومدت يدها تعدل من  كم قميصه وهي تقول بتهذيبٍ مفاجىء (نعم، هذا هو الكلام، اعذرني، يبدو أن  الحماس قد دفعني قليلا، أرجو الا تحمل شيئا ضد أثير بسبب لساني)

عدل مالك قميصه بضيقٍ وهو ينظر إلى وجهها الذي ارتسمت عليه مظاهر البراءة فجأة، بعد ذلك الفاصل الذي أمطرته به منذ لحظات...

وقال بغيظ مكبوت (أين أجدها سيدتي من فضلك، لأني إن لم أرها اليوم سأنسى الأمر تماما فليس لدي وقت لأضيعه)

قالت بسرعةٍ (لا، لا، اليوم أفضل، إنها تعمل نادلة في أحد المقاهي، ذلك الذي اسمه، أو شيءٍ كهذا لكن أستطيع أن أصف لك عنوانه جيدا)

بالطبع نطقت اسمه بشكلٍ مشوهٍ تماما، الا أنه استطاع استنتاج الإسم الصحيح  بالتقريب وعرفه ولم يكن بحاجةٍ لسماع العنوان، لذا قال بجفاء (عرفته سيدة).

قاطعته بابتسامة طريفة وهي تحاول الظهور بافضل ما عندها (أم صابر)

أخذ نفسا وهو يتطلع من طوله الفارع الى السيدة القصيرة الممتلئة التي تنظر  اليه بطرافة بينما كانت على وشكِ أن تصفعه منذ لحظة، ثم قال بخشونة (حسنا  يا أم صابر، أنا ذاهب اليها، القي التحية على صابر، كان الله في عونه).

ضحكت السيدة الغريبة الاطوار بخجل و احمر وجهها من دعابة ذلك الوسيم  الغاضب، ثم استدار مالك لينصرف متجها اليها، متأففا من ذلك الموقف الذي أخذ  منه وقتا أكثر من اللازم...

بعد فترة كان يقف أمام ذلك المكان الذي جلس فيه مرة واحدة منذ سنتين او  ثلاثة ولم يوافق هواه، فهو يفتح أبوابه أربعٍ وعشرين ساعة، صباحا يكون  مكانا للعاطلين أو المدللين أو الطلبة الفارين من مدارسهم وجامعاتهم، أما  مساءا فيكون مكانا لضم معظم العابثين، حيث تتقدم مطربةٍ ذات صوتٍ مريع  لتغني بشكلٍ منفر وهي ترتدي ما يشبه زي الراقصات...

حتى أن المشروبات الروحية تقدم ليلا في الخفاء، نظرا لعدم امتلاك المكان تصريحا بتقديمها، الا أنها موجودة...

تعجب من عمل فتاةٍ كأثير في مكانٍ كهذا، أكثر من مرةٍ سمع عن تحرير مخالفاتٍ ضده بسبب المناظر الخادشة للحياء...

نزل الى المكان و اختار طاولة منه و جلس منتظرا، لا يريد أن يسأل عنها أحدا حتى لا يسيء الى منظرها خاصة في مكانٍ كهذا...

كانت هناك عدة فتيات تتنقلن بين الطاولات، يرتدين زيا موحدا، من تنورةٍ سوداء قصيرة تعلوها سترة حمراء بلا أكمام فوق قميصٍ أبيض...

كان زيا رسميا من المفترض، بالرغم من أن تلك الرسمية لا تناسب المكان  أطلاقا، فهو زيٍ خادع الغرض منه اجتذاب المارين الى المكان أكثر، خاصة و أن  اثنتين من الفتيات تمرانِ على الطريق أمام باب المقهى وكأنهما تعلمان  الزبون عن جمال البضاعة المعروضة بالداخل، حيث أن ذلك الزي الرسمي الضيق  القصير شديد الإغراء اكثر من أي ملابس فاضحة.

ظل ينظر من حوله باحثا عنها بضيقٍ من المكان الذي لا يرقى الى ذوقه ولا  الى مستواه الى أن رآها من على بعد، تحمل صينية عليها بعض المشروبات الى  طاولة مجموعة ٍ من الشباب تبدو عليهم مظاعر العبثِ و الحماقة، وحين انحنت  قليلا لتضع المشروبات على الطاولة لمح مالك أحد الشباب و هو ينظر إلى جسدها  وهي منحنية بينما يغمز بعينه الى صديقه المقابل ليرى ما يراه...

أصاب مالك اشمئزاز من تلك الحقارة البادية عليهما بينما أثير غير مدركة  بالمرةِ لما حولها وعيناها الزرقاوين شاردتان في عالمٍ آخر، تلك الحمقاء هل  هي عمياء تماما غير واعية لغمزاتهما القذرة، كم من الوقت ستظل منحنية بهذا  الوضع، وكأنها سمعته فاستقامت أخيرا وهي تحمل الصينية الفارغة لتستدير  مبتعدة، لكن ليس قبل أن يقول لها أحد الشابين شيئا لم يتبينه مالك، لكنه  رأى أثير وهي تبتسم له معتذرة ثم تبتعد تحت أنظارهما الفجة...

خطوتين ابتعدتهما ثم رفعت رأسها، لتلتقي عينيها بعينيه مباشرة، للحظةٍ  تجمدت في مكانها، ثم لاحت الدهشة على ملامحها الشفافة، الى أن اختلطت بها  بعض مظاهر السعادة الرقيقة، فرق قلب مالك اليها وهو يفكر أنها لا تتلائم مع  هذا المكان إطلاقا وهو لا يخطىء في نظرته الى البشرِ عادة...

شاهدها وهي تقترب منه بسرعةٍ الى أن وقفت أمامه محتضنة الصينية ببراءةٍ  وكأنها طالبة تحمل كتبها، رأى الإبتسامة الجميلة تتسع لتشمل وجهها كله  بينما عينيها تحملانِ بعض القلق فلربما غير رأيه عن آخر مرة...

أشفق على ذلك القلق المختلط بابتسامتها، فقال مبتسما هو الآخر قبل أن تبادر للسؤال (صباح الخير يا أثير).

ابتسمت أكثر وارتبكت بينما احمرت وجنتيها، لكنها أجابت برقة متلعثمة  مثرثرة (صباح الخير يا سيد مالك، ماذا تفعل هنا؟ هل أتيت بالصدفة؟ لم أرك  هنا من قبل، أم أنك أتيت الى، كيف عرفت مكان عملي؟، أم أنك هنا بالصدفة؟)

ضحك مالك برقة وهو يقول (لربما لو أعطيتِ لنفسك فرصة للتنفس، أستطيع حينها الرد على أحد تلك الأسئلة المنهالة علي).

ارتبكت للغاية و أخفضت نظرها لكن ابتسامتها لم تختفي بل أظهرت غمازة  عميقة على أحد وجنتيها دون الأخرى، تسائل مالك في نفسه، اليس من المفترض أن  تكونا اثنتين؟، الا أنها واحدة فقط تحفر إحدى وجنتيها...

أفاق من سؤاله عليها وهي تقول بخفوت (أنت متفوق على نفسك في في إحراج الآخرين سيد مالك)

ضحك اعلى قليلا وهو يقول (ليس الأمر بيدي، احراجك ممتع).

عادت لتطرق برأسها مبتسمة ثم قالت (اذن يسعدني أنك استمتعت، هل تخبرني الآن كيف عرفت مكان عملي؟، فمن الواضح أنها ليست صدفة)

قال مالك هادئا (لا ليست صدفة، لقد ذهبت الى بيتك أولا وهناك تطوعت سيدة لطيفة لتدلني على مكان عملك)

قالت أثير بسرعةٍ ؛ (أكيد تقصد أم صابر، ليس هناك غيرها، هل أحسنت الكلام معك؟، أنا أعرفها جيدا).

رفع مالك حاجبا مستفزا وهو يقول (يكفي أن أعرف بأنكِ قد تطوعتِ مشكورة  بتصييت اسم رشوان في الأوساط المحيطة بك، والحمد لله أنني لم أخرج من هناك  مسكوبا على رأسي دلو ماء بارد)

تأوهت أثير مغمضة عينيها، بينما ضحك مالك وهو يتابع (نعم، بإمكانك الخجل من نفسك الآن).

فتحت أثير عينيها وعضت شفتها وهي تنظر اليه معتذرة ثم قالت (صدقني لم  أقصد ما حدث، كل ما في الأمر أن أم صابر تعتبر والدتي، وكنت كثيرا ما كنت  أجري اليها باكية، ومع الوقت اعتدت الأمر)

نظر مالك نظرة جانبية، وهو يلاحظ تهامس الشابين نفسهما، وهما لا يرفعانِ  أعينهم عنهما، فنظر الى أثير قائلا بهدوء (كنت أود لو طلبت منكِ الجلوس،  لكن في مكانٍ كهذا، لا أعتقد أنها فكرة سليمة).

احمر وجه أثير للغاية، وهي تفهم كلمة، مكان كهذا، تفهمها جيدا، لا بد أن  شخصا كمالك رشوان سيكون مشمئزا للغاية من تواجده بمكانٍ كهذا، حتى وإن كان  يبدو عليه بعض الترف الا أن سمعته ليست جيدة على الإطلاق، وهي تعرف ذلك...

انتابها غضبٌ عير مبرر للحظة، ماذا يهمها من رأيه، ومن هو لتهتم بنظرته،  الا أن تلك اللحظة لم تطل فقد نهرت نفسها على ذلك الخزي اللحظي الذي  أصابها، ليس هناك ما هو مخزي في عملها طالما أنها تستطيع الدفاع عن نفسها و  البقاء باحترامها...

كما أن مالك رشوان لم ينطق بكلمةٍ تعيبها، لا داعي لمثل تلك الحساسية

همست لتطرد تلك الأفكار المخجلة بعيدا (لا، هذا ليس مسموحا هنا).

ضحك مالك ضحكة استياء و عينيه لا تحملانِ أي بادرة مرح قائلا كلمة واحدة قاطعة (أشك بهذا)

عقدت حاجبيها، نظرت اليه بألمِ الإحراج، فآلمته بنظرتها، لقد جرحها دون عمد و أوقع ذلك في نفسه شعورا سيئا...

لذا حاول أن يحسن من لهجته الساخرة القاسية وهو يتابع (عموما الأمر لن يطول، لقد جئت فقط لأخبرك بأن المهلةِ التي طلبتها، صارت لكِ).

ارتفع حاجباها ذهولا، ثم تحول الذهول الى ابتسامة مذهلة لتظهر الغمازة الوحيدة لتغازل عينيه من جديد...

قالت وهي لازالت قيد الذهول (كيف أستطيع أن أشكرك، ماذا بإمكاني أن أقدم لك في المقابل، فقط أخبرني، أي شيء، أي شيء، أنا تحت أمرك)

اختفت ابتسامته و قست ملامحه للحظة، ثم قال بجمود (يوما ما سيقودك لسانك  للهلاك، لما لا تفكرين أولا قليلا قبل أن تطلقي العنان لأحصنة لسانك).

صدمة ضاربة قضت على ابتسامتها في التو، لم تجرؤ على سؤاله عن معنى  كلامه، طبعا من أغبى ما تتميز به هو أنها لا تفكر قبل أن تنطق، لكن الطريقة  التي قال بها ملاحظته الآن أشعرتها بأنها قد تهورت كالعادة...

ابتعدت بعينيها عن عينيه، فشعر للمرةِ الثانية بأنه جرحها، لكنها تبدو له  هشة للغاية و بالرغم من أنها غريبة عنه الا أن مجرد ضميرٍ بداخله يشعره  بأنه لا يجب أن يتركها هنا و يرحل، لكن ما العمل...

قال لها بهدوء مخففا لهجته (قصدت أن تنتبهي لنفسك جيدا يا أثير، فقد يفهمك الناس بطريقة مخالفة لك)

أومأت برأسها دون أن تسأل عن سبب تنبيهه، المهم أن نيته طيبة، إنه شخص صالح و هي تستطيع رؤية ذلك بوضوح...

لذا همست برقة بلهجةٍ أكثر اعتدالا، (أشكرك يا سيد مالك، أعدك أن أحاول جاهدة في تلك الفترة أن)

قاطعها قائلا ؛ (انسي الأمر حاليا، ما هي حالة والدك الآن؟).

رمشت بعينيها وهي تنظر اليه بحرج وهي تسأل (هل تطوعت أم صابر بنقل الخبر اليك أيضا؟)

ابتسم بجفاء قائلا (لم ينقص سوى أن تخبرني بقصص باقي أبناء الحي، أنها، فلنقل مميزة للغاية)

ضحكت برقة ضحكة حزينة ثم أجابت (الأمر كما هو، لكن يزداد سوءا مع مرور  الوقت، أنها حالة نادرة، تزداد تدريجيا حتى تسبب فشلا في جميع الوظائف  الحيوية حتى بات لا يتعرف اليا منذ زمن، الأمر محتوم، ولا علاج له سوى  الرعاية الخاصة).

قضب جبينه لم يكن يظن الأمر كذلك، كان يظن أن والدها حتى و إن كان مريضا  الا إنه كان يعتقده موجودا معها، لكن من الواضح أن وجوده أصبح صوريا مؤلما  منذ سنواتٍ حسب فهمه لهذا المرض طويل الأمد، و تلك الرعاية الخاصة لابد و  أنها تكلفها الكثير...

قال مالك بهدوء (لا بد وأن الأمر صعبا عليكِ).

هزت كتفيها تقول باستسلام (لقد تعودت، كانت وفاة أمي هي الاصعب، لأنها  أتت مفاجئة، كانت هي من تعاونني تساعدني، كنا وحدنا لسنواتٍ عديدة، وفجأة  بدأ قلبها يرهق الى أن احتاجت لجراحةٍ مفاجئة، وفي عدة شهور قليلة كنت قد  فقدتها وأنا في حالة ذهول، لا أصدق للآن سرعة ما حدث، كنت دائما اتوقع أن  أبي، كنت أنتظر هذا الخبر بين كل لحظةٍ وأخرى، لكن أتت وفاة أمي ضاربة كل  ما، أستغفر الله العظيم).

أطرقت برأسها تبتلع غصة الدموع الحارقة، وهي ترفع إصبعيها لتمسح دمعة  تعلقت بزاوية عينها، لمح مالك باستياء الشابين وهما يطلقانِ تعليقاتٍ لم  يسمعها، لكنه كان متأكدا من قذارتها...

بالطبع وقفت أمامه عدة دقائق، استطاعت أن تبتسم، تضحك، ثم تبكي، و  أمامهم، لا بد أن هذا استفز دنائتهم أكثر وأكثر، لقد أساء اليها تماما  بالمجيء الى هنا، وهؤلاء الشباب لن يدعونها لحالها بعد هذا العرض المجاني  الذي قدمته للتو لأحد الزبائن دون الآخرين، ما العمل الآن، كيف سيرحل  ببساطةٍ و يتركها لهم، لا يثق بمنظرهم أبدا ولا بنظراتهم التي يفهمها جيدا  كشاب، نظراتٍ متوعدة بالقادم، (أثير، أنا يجب أن أذهب الآن).

فتحت عينيها بدهشةٍ، لقد أصابه الملل من حديثها، بالطبع، ماذا كانت تظن  لتحكي له عما لا يهمه، فأومأت برأسها سريعا و هي تبتسم له متحرجة مرتبكة...

نهض مالك من مكانه و عيناه ترمقانِ الشباب المهتمين بمنظرهما بين حينٍ وآخر، ثم قال لأثير (أين صاحب هذا المكان؟)

نظرت اليه بغباء و هي تقول (لماذا؟)

أجابها مبتسما (أين هو و كفى؟، أريده في شيءٍ خاص).

ظلت واقفة لعدة لحظات، ثم أشارت بيدها ليتقدمها دون أن تعرف قصده، فاتجه  مباشرة الى الغرفة التي قادته اليها، لكن قبل أن يطرقها، لم تستطع أن تمنع  نفسها من لمس معصمه، فنظر إلى يدها فوقه في الحال، صعقت من تصرفها فانتزعت  يدها و كأن ملمس ساعده الأسمر قد أحرقها، ما هذا الغباء الذي فعلته، لكنها  لم تطل لتبين تصرفها المتهور وهي تقول بهمسٍ مرتجف (سيد مالك، أخبرني من  فضلك ما الأمر؟، أنا لن أتحمل أن أفقد عملي لأي شيءٍ، أرجوك الأمر حياةٍ أو  موت بالنسبةِ لي).

ابتسم برفق و هو يقول (لا تخافي، لن تفقدي عملك الا حين تقررين تركه بنفسك)

ابتسمت بخوفٍ ظاهر على محياها، ثم ابتعدت قليلا لتدعه يطرق الباب طرقة واحدة ثم يدخل...

ابتعدت بظهرها تنظر إلى الباب الذي دلف منه، وهي تتسائل عما سيفعله ذلك  المجنون، لا، ليس مجنونا، بل هو، لم تدري أن شفتيها تشكلتا لتهمسانِ بصوتٍ  مسموع، رائع...

رفعت يدا إلى وجنتها الساخنة، ثم التفتت لتعود الى عملها، محبطة. تشعر بوجعٍ لا تعرف له سببا...

اثناء تحضيرها للكؤوس على طاولة البار الطويل أبصرته خارجا يلحقه مدير  المكان مهرولا يكاد يتعثر احتراما لذلك الشاب الذي يفوقه طولا بكثير يكاد  يغطيه بقامته، فالتفت اليه مالك متحدثا بصوتٍ منخفض مشيرا له بأن يعود الى  مكتبه، فأومأ الرجل الذي يرعبهم دائما بينما هو الآن يبدو خادم طاولة أمام  مالك رشوان...

اتجه مالك اليها مباشرة، ودون كلام قال لها (الديكِ هاتف؟)

اتسعت عينيها قليلا ثم أومأت برأسها فقال لها (جيد، لكان الأمر أسهل لو أخذت رقم هاتفك المرة الماضية، اعطني هاتفك)

انحنت لتلتقطه من جيب سترتها و تناوله لمالك دون تفكير يذكر، فأخذه على غير رضى خفي من ثقتها المخزية بالبشر...

طلب منه رقمه، ثم سجل اسمه ليناوله اياه، وهي تنظر بغباء لا تدري ما الذي يحدث من حولها...

مال اليها مالك مسندا إلى البار الذي تقف خلفه ليقول (أن تعرضت لأي مشكلة فقط هاتفيني)

رمشت بعينيها وهي تهمس بقلق ؛ (أي نوعٍ من المشاكل؟)

صمت مالك ينظر اليها ثم قال بهدوء (مشاكل عادة تصاحب العمل في مكانٍ كهذا، بالتأكيد لم تسلمي منها).

اسبلت جفتيها خجلا، احراجا، بل اكثر مما تظن في الواقع، فجسدها لم يسلم  في كثير الأحيان من لمسات القذرين، وذلك البغيض الذي خرج مهرولا مطيعا للتو  خلف مالك، يعلم بذلك ويغض عنه الطرف لقاء كثافة المترددين على مكانه  الحقير، ومن لا يعجبها الوضع فلترحل وهناك الكثيرات غيرها يتمنين ما سيدره  المكان من اكرامياتٍ سخيةٍ لهن، مع أن ما يتقاضاه هو أكثر بمراحل (لا تخجلي  أثير، لم أقل ذلك لإحراجك، لكني أعرف هذا المكان جيدا).

همست باختناق (أحتاج للعمل به)

أجاب بهدوء (أعرف)

و لم يزد...

ثم قال لها (تلك الطاولة التي كنتِ تخديمنها قبلي، لا تتجهي اليها مرة أخرى، و تحاشي النظر اليهم، فهمت؟)

أومأت برأسها، مبتسمة بمرارةٍ بداخلها، أتراه يظن أنها لم تفهم نظراتهم، لم  تلمح ما يريدونه وما سيعودون اليه ليلا على الأغلب؟، مالك رشوان بالرغم من  هيبته المبهرة الا أنه يمتلك براءة قلب لم ترها من قبل...

حينها اعتدل مالك ليودعها برقة، ثم قال (لا تنسي، إن احتجتِ لأي شيءٍ فلا تترددي في مهاتفتي)

أومأت برأسها تحاول الابتسام بضعف، فا



7=رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

ماذا ترتدي؟، ماذا ترتدي؟، صحيح أنها ستتناول الطعام مع أناسٍ بسطاء  لكن ذلك يجعلها بدافعٍ أقوى أن تهتم بما سترتديه ليبرق منظرها في عينيه،  تريد أن تشتعل اشتعالا كما رآها لأول مرة، وقفت أمام المرآة ذات الإطار  الخشبي المقشر بفعل الزمن، تتطلع الى صورتها التي تتناقض مع بساطة أثاث  الغرفة من خلفها، لترى أنها بنفسها تبدو كشعلةٍ دون الحاجة للتباهي  بالملابس، لكن ذلك لا يمنع أن تهتم أكثر، فهي لا تريد لأي شيء أن يخرب لها  خططها، لا تريد أن تسقط أي نقطةٍ من حساباتها وهي تشحذ جميع أسلحتها  الفتاكة، ابتسمت لنفسها مغازلة ملامحها العنفوانية، اقتربتِ يا حور،  اقتربتِ من نيل ما صبوتِ اليه، مرة بعد مرة تصلين اليه و العنيد لازال  يكابر، لكن هزيمته اقترب من جديد، أمسكت بين يديها طاقمين، ترفع واحد  لتخفضه وترفع الثاني محاولة الاختيار بينهما، زفرت بنفاذ صبر وهي تهمس  أحتاج الى مساعدة أنثوية، وأيضا تحتاج أن تخبر رنيم عن آخر التطورات.  التقطت هاتفها لتطلب رقمها بينما لا تزال تختال بنفسها ناظرة الى جانبها  الأيسر، ثم تستدير لتستعرض الأيمن وهي تلف خصلة من شعرها على إصبعها، الى  أن ردت رنيم على الهاتف بمللٍ واضحفأجابتها حور بابتسامةٍ منتشية (ماذا بكِ  أيتها المتكاسلة؟، لم تسألي عني منذ الأمس، ألم تهتمي لمعرفة ما حدث لي؟).

ردت رنيم بفتور (خفت أن أسأل بصراحة، فأنا أعرف النتائج مسبقا، هل نلتِ ما تستحقين؟)

عقدت حور حاجبيها لتقول بغضبٍ مدلل (؛ ما أستحقه؟، متى كنتِ قاسية هكذا؟، لو ترين وجهي لما قلتِ ما قلته للتو)

ردت رنيم عليها بوجوم (ولماذا أعطف عليكِ وهذا ما أردته؟، حور أنا جادة  إنها آخر مرة تستغليني فيها، لا أحب تلك الشخصية التي تحوليني اليها).

زمت حور شفتيها المكتنزتين بغضب بينما عيناها تلمعانِ دلالا لصورتها  المتمايلة حتى أنها مطت شفتيها لتقبل صورتها قبلة في الهواء دون صوت، ثم  ابتسمت وهي تتدلل على رنيم و تهمس (الا تريدين معرفة أين أنا الآن؟)

سمعت صوت قفزة رنيم من على فراشها وهي تقول بلهفة (؛ لا تقولي، هل أنتِ في بيته؟، هل نجحتِ حقا؟، يالهي أنتِ ملعونة حقا).

اتسعت ابتسامة حور بينما عيناها تلمعانِ بشيطانةٍ فطرية، وهي ترد بصوتٍ ناعم كالقطط (آهااا، أنا في بيته)

سمعت رنيم وهي تصفر إعجابا فضحكت حور برقةٍ و قالت؛ (حور حين تقرر شيئا  تناله، كنت أنويها من فترة لكني كنت أمنحه الفرصة، وهو بطلب الطلاق عجل  الأمر فقط)

سمعت رنيم وهي تقول لها بقلق (وأنا، حين أحب أن أراكِ، كيف سأتمكن من ذلك؟).

عقدت حور حاجبيها وهي تقول بحذر تعض على شفتها السفلية المكتنزة (بصراحة  يا رنيم أنتِ لستِ من الأشخاص المفضلين لدى نادر الآن، لذا فالأسلم أن  تنتظري الى أن أعرف مواعيد غيابه عن البيت لتأتي، لكن هذا إن استطعتِ  الوصول الى المكان هنا، فنحن في حيٍ أشك أنك قد سمعتِ به من قبل).

ثم صمتت لتقول بعد لحظة باهتمام (راني، أخبريني، أتذكرين قميص النوم  القصير الذي اشترينا منه نسختين لنا الاسبوع الماضي؟، هل هو أفضل أم الذي  اشتريته قبلها بيومين ذو اللون الأسود؟، ولو أن الجديد يظهرني بمنتهى  الكمال، لقد جربت كليهما أمامك فما رأيك؟).

كانت في نفس اللحظة التي حور تتكلم فيها ناظرة الى نفسها في المرآة،  رنيم هي الأخرى كانت تنظر الى جسدها في مرآة غرفتها و هي ترتدي قميصا قصيرا  ذو حمالات، فعلا وجهها علامات اللاتعبير وهي تسمع كلام حور. ناظرة الى  الحروق و الندوب الغائرة تتقاطع من أوله لآخره و راح تفكيرها لليوم الذي  ستتزوج فيه. كيف ستجرؤ أن ترتدي تلك الأشياء الجميلة التي سيقتل جمالها قبح  جسدها. نائل يعرف تماما ندوب جسدها، لكنه لم يره، المطمئن في الموضوع أن  نائل لا يهتم بمثل هذه الأمور فهو مهتم فقط بعلاقات والدها لذا قبل أن  يرتبط بها رغم أنها بضاعة تالفة، وحين تحاول يوما فرض أي رأي لها يلمح لها  من بعيد و يفهمها أنه كان كريم النفس حين قبل بها، طبعا بطريق غير مباشر  خبيث الا أنها كانت تفهم و تسكت، لأنها تعرف أنها الفرصة الأخيرة أمامها  للزواج فكل من تقدم اليها من قبله انسحبو بتهذيب ما أن عرفو شدة إصابتها  السابقة. لم ترد رنيم لفترةٍ طويلة وهي تشعر بعينيها تحرقانها من الدموع  الحبيسة فيهما من كلام حور العفوي عن كمال جسدها ثم قالت أخيرا لتغير ذلك  الموضوع المؤلم رغم تفاهته (أحببت أن أخبرك أنني ذهبت لمقابلة العمل التي  أحمل لها توصية من عاصم. هل نسيتِ؟).

ضربت حور جبهتها وهي تغمض عينيها ثم قالت بترجي (؛ أنا آسفة جدا راني  حبيبتي، نسيت تماما، أنت الى الآن لن تصدقي تلك المطحنة التي دخلت فيها  بالأمس، و سترين آثارها على وجههي حين تريني، المهم أخبريني، هل أعجبك  المكان؟)

ردت رنيم عليها بيأس (وما الفائدة إن أعجبني؟، المقابلة كانت فاشلة للغاية و  لن يقبلو بي أبدا، سيكونوا حمقى إن قبلو بي، اذا كنت أنا نفسي قد كرهت  نفسي في المقابلة فماذا سيكون رأيهم هم؟).

كانت حور تتأمل نفسها ثانية و هي تتسائل في نفسها إن كانت قد امتلأت  قليلا عن آخر مرةٍ رآها فيها نادر بملابسها الداخلية، ثم انتبهت الى أن  رنيم قد انتهت من كلامها و تنتظر ردا فقالت حور بلامبالاة (لا تقلقي  سيقبلون بكِ، أنكِ من طرف عاصم وهو تفاهم مع صاحب الشركة أي أن الأمر مفروغ  منه)

ردت رنيم بقلق (يا حور أنتِ لم تريني، لقد كنت).

قاطعتها حور بسرعةٍ (راني لن أستطيع أن أطيل الحوار معكِ طويلا، سأخرج مع نادر الآن و يجب أن أستعد، لا تقلقي حبيبتي، اتفقنا؟)

ردت رنيم كلمة واجمة غير مسموعة اعتبرتها حور موافقة، فهمست تبتسم بسحرٍ ودلال (الى القاء حبيبتي)

لكن ما أن أغلقت الهاتف حتى عبست بشدة وهي تهمس (لقد نسيت أن استشيرها فيما  سأرتديه الآن، حسنا الوقت قد حان ولا اريد نادر أن يتذمر، فلأختار أنا).

ثم تناولت أحد الزيين من على السرير وهي تهمس مبتسمة (من الأفضل أن نذهب مبكرا لنرحل مبكرا، فلدينا خططا أخرى الليلة).

ابتسامتها حملت اغواء قد يهلك قديس، ارتدت بنطالا من القماش الخشن  الشبيه بالجينز، الا أنه كان أحمر اللون بدرجةٍ قانية يحدد ساقيها  الطويلتين بابداع، و انتعلت في قدميها حذاءا أرضيا مخمليا أحمر اللون كذلك،  و أكملت المقطوعة بأن صبغت شفتيها المكتنزتين بلونٍ أحمرٍ كالدملكن حمدا  لله أن قميصها قد نجا من الثورةِ الحمراء فاختارته أبيضا هفهافا، و  بالتأكيد لم تفارقها الأساور و لم يهجرها الخلخال الرنان، أخذت تنظر الى  صورتها بعين النقد، الى أن سمعت نقرة الباب وصوت نادر يقول بغضبٍ ونفاذ صبر  (حور الم تنتهي بعد؟، الناس كلهم في انتظارنا. الن تكفي عن تصرفاتك تلك  أبدا).

التفتت الى الباب وهي تهمس لنفسها بغضب (الأحمق، لماذا يطرق الباب؟، حسنا يا سيد مهذب)

ثم في حركةٍ سريعة خلعت قميصها لترميه على السرير و انتظرت، الى ما يقرب  دقيقة كاملة ففُتح الباب وقتها بغضب وهو مستعدا للصراخ في وجهها، لكنه صمت  تماما ما أن رآها وهي ارتدت نظرة ارتباك ثم همست؛ (نادر، لم أنتهي بعد).

لم يتكلم للحظات و عيناه تطوفانِ بكلِ ما فيها لتعودانِ و تكررانِ طوفانهما المأسور، ثم قال بدون تركيز (لماذا لم تردي؟)

بالرغم من شعورها المنتصر الفتاك وهي ترى نظراته الطائفة المجهدة، الا أنها تمكنت من الهمس كفتاةٍ وديعة خجولة (لأنني لم أنتهي بعد)

لكنها لم تفعل شيئا لتستر نفسها عن عينه، وهي تمنحهما ما تصبوان اليه وما  حرما منه طويلا، الى أن قال نادر بصوتٍ خافت (حسنا، هيا أسرعي فلقد  تأخرنا).

ابتسمت وهي تفكر أن هذا يكفيه الآن ليتشوق الى عودتنا الليلة، فاتجهت  ببطءٍ و رشاقةٍ لتتناول قميصها الأبيض وهي تستدير الى المرآة و ترتديه،  بحركاتٍ متمهلة بينما عيناهما متلاقيتانِ في المرآة ِ لا تفترقان، شفتيه  قاسيتين و شفتيها منفرجتين بابتسامةٍ ناعمة، ما أن أكملت تزرير قميصها  واحدا تلو الآخر، تحت أنظاره الساكنة حتى استدارت اليه و هي تلتقط حقيبةٍ  حمراء في حجم الكف ذات سلسالٍ طويل و ارتدتها بشكلٍ متقاطعٍ مع قميصها،  اقتربت منه ببطء الى أن وقفت أمامه تماما تهمس بسحر (ها أنا جاهزة).

نزلا السلالم القديمة لكنها اقتربت قبلا لتتشبث بكفه وهي تنزل وحين نظر  اليها بتساؤل. لم تجبه، فقط بادلته النظر وهي تعتقد انه سيلقي بيدها بعيدا،  الا انه لدهشتها لم يفعل بل شدد قبضته عليها ليهبطا، نزلا معا يدا بيد الى  أن وصلا الى الباحة المخصصة بالسهر و السمر كل مساء في هذا الحي و التي  يضربها هواء البحر الليلي المشبع برائحة اليود محييا العواطف بشكلٍ غريب،  حيث اعدت طاولة طويلة من عدة طاولاتٍ مجمعة مغطاةٍ بملاءة بيضاء، رصت عليها  العديد من الأطباق و التي تحتوي على كل مارأته قبلا من أنواع الأسماك. لم  تتخيل أن كل هذا العدد سيتجمع، هل هم متجمعين من أجل نادر أم على شرفها،  نظرت الى نادر فوجدته يبتسم للمنظر الجميل وهو يرى الجميع في انتظاره  يتسامرون و يضحكون وما أن رأوه حتى تعالت هتافاتهم و تحياتهم، ابتسمت حور  ممسكة بيده و هي تتطلع لإبتسامته الجميلة، ليده التي رفعها محييا كطريقة  أبناء الحي و كأنه ولد و عاش هنا، فهي أكثر خبرة منه و تدرك تماما صفات  أبناء هذه الأحياء و تستطيع القول أنه يبلي بلاءا حسنا، ضحكت ضحكة صغيرة لم  تستطع منعها فنظر الى عينيها الضاحكتين و رفع حاجبيه متسائلافقالت بصوتٍ  خافتٍ مرح (أنتِ تتصرف بشكلٍ صحيح با ابن المجتمع الراقي).

للحظاتٍ ظنته سيتاجاهلها لكن شبه ابتسامة تسللت رغما عنه إلى شفتيه  القاسيتين قبل أن يمحوها بسرعة ليقول بسخرية (أشكرك يا ابنة الأحياء  الشعبية، هيا لنجلس).

ثم شدها خلفه ليتخذا مقعديهما، نقلت نظرها بين الحضور باحثة عن معتز الى  أن وجدته، كان جالسا على ركبة تلك المدعوة علية في سعادةٍ تامة وكأنه  معتادا عليها، شردت عينا حور وهي تنظر الى تلك عليةٍ تلتقط قطعة سمكٍ بعد  أن أزالت أشواكها بيدها لتضعها في فم معتز الذي للغرابة تقبلها دون تذمر  والأغرب أن علية وهي تطعمه لم تتوقف عن الكلام اليه وهو ينظر اليها بتركيز و  كأنه يسمعها، ليلتقط قطعة سمك أخرى ثم يعاود التركيز معها و كأن بينهما  مواضيع مشتركة، غاب العالم كله عن حور في تلك اللحظة وهي تتابع هذا المشهد،  وشعرت بنارٍ غير مبررةٍ تندلع في أعماقها. لم تستطع أن تسمع ما تهمس به  علية لمعتز لأنهما يجلسان على الجانب المقابل البعيد من الطاولة الطويلة،  ونفس الوضع معتز لا يستطيع سماع علية، لكن مجرد حركة شفتيها أمامه جعلته  ينظر اليها لا يريد تركها، الى أن رفع معتز يده و أشار بحركةٍ معينة لعلية،  التي ابتسمت و أومأت برأسها ثم مدت يدها لتلتقط كوب الماء من أمامها و  شربته منه، لم تصدق حور ما رأت للتو، هل فعلا معتز طلب ماءا و علية فهمته؟،  منذ متى يستطيع معتز الكلام بلغة الإشارة، انه في الثالثة فقط، وكيف تعرف  علية ذلك؟، لم تدرك حور بأي شكلٍ بدت ملامحها في تلك اللحظة، كان حاجباها  منعقدان، عيناها متسعتان مائلتانِ بحزنٍ مذهول، شفتاها منفرجتان يخرج منهما  نفسا ساخنا، وكأنها نست نفسها ومن حولها تماما، ولم تدرك أن نادر في تلك  اللحظة كان ينظر اليها هو الآخر يلتقط كل تعبير من على ملامح وجهها  اللمعبرة بوضوح، ينتقل بنظرته من على وجهها الى ماتنظر اليه ثم يعود الى  وجهها مرة أخرى، بعد عدة دقائق سمعت حور صوت نادر يأتي خافتا من جانبها  (حور الن تأكلي؟، لا يصح أن تتأخري في الأكل بهذا الشكل، سيعتقدون أنكِ  تتكبرين على أكلهم).

التفتت اليه حور بشرود وهو يخرجها من أفكارها ثم رمشت بعينيها تبتسم  بسحرٍ كعادتها تومىء برأسها ثم نظرت الى طبقها الذي وضع فيه نادر سمكة  كبيرة، وأخذت تتطلع الى تلك السمكة، و السمكة تطلع اليها دون أن تقوم بحركة  مما جعل نادر يسألها؛ (هل هناك مشكلة؟)

فنظرت حور اليه وهي تقول زامة شفتيها كالأطفال (؛ لا أستطيع استخراج أشواك السمك)

رفع نادر حاجبيه مدهوشا وهو يسألها (ومن كان يفعل لكِ؟).

أجابته حور مغتاظة من نظرته المستنكرة (أمي كانت تجلس بجواري و تخرج الأشواك كلها، لو كنت تعرفني جيدا لكنت أدركت ذلك من قبل)

ظل ينظر اليها مدهوشا مستنكرا وهولا يصدق أن من تتكلم هي أم في السادسة و  العشرين، زفر بنفاذ صبر وهو يقول من بين أسنانه (الصبر يا الله).

ثم تناول سمكتها ليضعها في طبقه و قام بفتحها بيديه. فلا وجود أصلا  للشوكِ و السكاكين هنا، و اخذ يفصل لحم السمك قطعة قطعة و يضعها في طبقها، و  كانت هي أثناء ذلك تنظر اليه شاردة في جماله وهو يفعل ذلك، يبدو شديد  التركيز، تماما كما هو شديد التركيز في عمله، يبدو كمن يقوم بعمليةٍ  جراحية، حتى أنه ينفذها بمنتهى الضمير و لا يترك أدق و أصغر شوكة، لا تعلم  لماذا أسرها ما يفعل، وعاد ليذكرها مرة أخرى بنادر القلق و المهتم بها كم  هو راقٍ و بريء، هل هو مجنون لكي لا يدرك أنه أسيرا لها، لو لم يكن لما  كانت نجحت في الوصول اليه مرة بعد مرة، فهي ليست أول مرةٍ يبتعد عنها،  لكنها المرة الأطول، و طلب الطلاق كان الأول، وضع القطعة الأخيرة في طبقها  فابتسمت له ابتسامة مذهلة طالت عن المعتاد بينما هو لم يبادلها الإبتسام،  فقط نظراته أصبحت طيبة قليلا و عاد لينظر الى طبقه ليكمل أكله، وكذلك فعلت  هي و هي تبتسم لطبقها بانتصار، أثناء الأكل انشغل الجميع بالكلام و الضحك و  أغلبه مع نادر، احست بالزهو وهي تراه محط اعجاب الجميع، الكل يمزحون معه  بمنتهى الحرية دون اغفال اللقب، وكم كانت دهشتها وهي ترى نادر كما لم تره  من قبل، يمزح و يحكي طرائف حتى أنها عدة مرات انفجرت ضاحكة، الى أن رمقها  بنظرةٍ قاتلة لتكتم ضحكتها العالية، بعد أن انتهو، أخذت نساء الحي في تجميع  الأطباق بأنفسهن. وهن مستمراتٍ في الكلام و الضحك دون توقف، لكن طبعا حور  لم تحاول حتى أن تعرض المساعدة وهي تتجه خلف نادر لتغسل يديها، تتبعه كظله،  في دقائق كان المكان قد عاد نظيفا و رصت الكراسي و عادو جميعا للجلوس في  دائرةٍ كبيرة بعد أن أزاحو الطاولات، و فوجئت بأن أحدهم عاد ممسكا بعود و  جلس مستعدا للعزف عليه، لكن قبل أن يبدأ ربتت علية على كتفه و هي تقول  للجميع (قبلا، أحب أن أرحب بوجودك معنا يا حور، يا زوجة الغالي).

تعالت التحيات المماثلة الى حور و هم ينظرون اليها مبتسمين، حور؟، هكذا  دون القاب؟، و زوجة الغالي أيضا؟، الم يخبرهم نادر ممن هو متزوج؟، منذ أن  وصلت و الجميع يعاملها بطريقةٍ عادية و كأنها تعيش بينهم منذ زمن، على عكس  كل من كان يعرف أنها حور رشوان، بالتأكيد نادر لم يخبرهم، لكن حتى لو لم  يعرفو هويتها، فهم أيضا لم ينجذبو الى سحرها تماما، تشعر و كأنها غير  مرئية، لم تعتد ذلك، دائما ما تكون محور أي جلسةٍ جماعية تتواجد فيها، لذا  لم تستطع التعامل مع الشعور بالإحباط المتسلل اليها في تلك اللحظةابتدأ  العزف و الجميع يغني، وعلية مستأثرة بمعتز تحمله بين ذراعيها تتمايل به و  هي تغني معهم، إنها جميلة و لها سحرا ذو طابعا خاص، حتى في عبائاتها  السوداء و الشال الأسود الهفهاف المتطاير من حولِ شعرها الناعم الأسود،  ومعتز كان متألقا يضحك حتى كادت حور تجزم أنه يسمعهم، فكيف يبدو بهذه  السعادة و هو لا يسمع شيئا مما حوله، كانت تصفق بوجوم، بشرود، بإحباطٍ بعد  النشوة التي كانت تعيشها، هكذا هي تتقلب في لحظةٍ ما بين سعادةٍ و احباط  دون أن تدرك سببا قويا، عند انتهاء السهرة في وقتٍ متأخرٍ كان معتز قد نام  في أحضان علية منذ فترة و قد لفته في شالٍ صوفي حتى لا يبرد من هواء البحر،  اقترب نادر منها يريد أخذ معتز تتبعه حور على مضض، فقالت علية بصوتها  العذب (لما لا تدعه يبيت معي يا نادر؟، من المؤكد أن حور لازالت تحتاج الى  نومٍ طويل و معتز عادة يستيقظ أكثر من مرة خلال الليل).

لا هذا كثير، هي تعرف عادات نومه أيضا؟، هل كان ينام عندها حين يأخذه  نادر؟، فتحت فمها تريد أن تسمعها كلاما يليق بأمثالها خاصة بعد أن نادت  نادر باسمه مجردا، لكنها أغلقته وهي تفكر قليلا، لما لا تؤخر التعامل معها  الى الغد. فلديها خططا مع نادر الليلة، ولن يساعدها وجود معتز مستيقظا طوال  الليل، رغما عنها كانت بين نارين وهي تشعر بالغيرة من تعود معتز عليها الى  هذه الدرجة، لكنه نائم الآن وهي من الغد ستبدأ في ابعاده عن علية تلك التي  دخلت حياة أسرتها فجأة دون سابق انذار، لذا فلتستمتع به لليلةٍ أخيرة.  تردد نادر لحظات ثم أومأ على مضض مبتسما لعلية مما جعل حور تشتعل غيرة، ثم  قال (؛ اشكرك جدا يا علية على كل تلك السهرة، لم يكن هناك داعٍ لكل هذا  المجهود).

ابتسمت علية بسحرها الغريب و هي تتطلع الى حور لتقول بصوتٍ رخيم (هذا شيء بسيط لأم الغالي، و زوجة الغالي)

تقابلت عينا حور وعلية في تحدٍ صامت من جهة حور و غموضٍ مبتسم من جهة علية،  حين وصلا الى سلم البيت القديم، نظرت حور الى تموجات الأدوار فوق بعضها  وصولا الى السطح فشعرت أنها دوامة كادت أن تطبق عليها و تغرقها، (حور، لا  تنظري الى الأعلى).

خفضت حور رأسها لتنظر الى نادر وهي تشعر بالدوار، و دون تردد حملها نادر  للمرة الثانية اليوم وهو يصعد بها، فاستسلمت و اسندت رأسها الى كتفه مغمضة  عينيها محيطة عنقه بذراعيها، وما أن دخلا الشقة حتى أوقفها على قدميها  فاستيقظت من الحلم الجميل الذي كانت تحياه للتو، تركها نادر دون كلمة واحدة  و دخل الى غرفة النوم، فوقفت مكانها في دون حراك، كان مهتما بها للتو،  تكاد تقسم على ذلك، و اذا به يبتعد ثانية، لحظة ووجدته يخرج من الغرفة  حاملا غطاءا و وسادة ليتجه الى الغرفة المجاورة، وقتها اندفع الغضب في كل  شرايينهاكلا، كلا و الف كلا، لن تسمح له أبدا، ثم اندفعت الى غرفتها التي  أصبحت غرفته سابقا لتدخل و تصفق الباب خلفها بغباء، لتتجه مباشرة الى حقيبة  ملابسها التي لم تخرج منها الملابس بعد، كان مستلقيا على ظهره، ذراعيه  أسفل رأسه يحدق في سقف الغرفة، و فجأة سمع صوت الباب يفتح بهدوء فنظر على  ضوء المصباح الجانبي الضعيف، ليرى أن سحر العالم قد تجمع في امراءة جعلتها  الحيلة أم ابنه في غفلة من الزمن. واقفة في اطار الباب مستندة بيدها اليه،  شعرها الأسود الطويل متجمعا على كتفا واحدة بيضاء كالمرمر ليسيل كشلالٍ  ليلي على قميص نومٍ أحمرٍ شفاف قصيرٍ للغاية، يظهر ساقين مديدتين لا انتهاء  لطولهما يعلوهما خصرا نحيلا تحدى أمومتها بجدارة و خلق ليميل راقصا منذ أن  شبت عن الطوق، سمح لعينيه بأن تلتهمانها مادامت تريد ذلك، تجري عليها من  قمة رأسها الى أصابع قدميها الحافيتين على الأرض الباردة و أظافرهما  المطلية بالأحمر، وها قد بدأت القدمين الحافيتين في التحرك نحوه. ظلت عيناه  متعلقتانِ بقدميها الى أن وصلت إلى سريره فتوقفت، فرفع عينيه إلى عينيها  الحالمتين به و له، ثم دون مقدمات جلست على ركبتيها على السرير بجواره وهي  تنظر اليه مبتسمة، مد يده ليلف خصلة من شعرها الطويل حول يده، اتسعت  ابتسامتها و ازدادت إغواءا فبادلها بشبه ابتسامةٍ على زاوية شفتيه و جذب  خصلة شعرها بشدةٍ اليه فجأة فانخفض وجهها الى بعد شعرةٍ واحدةٍ من وجهه،  تأوهت من الألم لكن رغم ذلك لم تفارقها الابتسامة المغوية وهي تنظر الى  عينيه الصلبتين، شفتيها تنتظرانِ شفتيه في شوقٍ مستعر، أنفاسها ارتفعت  سخونتها حتى باتت كنشيجٍ خافت، أبقاها فريسة الشوق دقيقة، اثنتين، وحين  انهارت كل مقاومتها وصارت على شفير الانهيار همست بترجي ؛ (نااادر).

حينها قربها أكثر حتى لامست شفتيها شفتيه و قال بوضوح (اخرجي من هنا و اغلقي الباب خلفك).

، كانا يلعبانٍ معا كرة السلة، لعبتهما المفضلة معا ككل يومٍ مساءا،  اثنين يقربانِ منتصف الثلثينات لكن لعبهما معا يحرك فيهما مشاعرا طفولية  كانا في حاجةٍ اليها للغاية، ظل جاسر يضرب الكرة أرضا بعنف وعمر يحاوره من  حوله إلى أن أستطاع جاسر الهرب قافزا بالكرة ليسددها في السلة يساعده طوله  الفارع بمنتهى القوة و كأنه يرمي كل ضغوطه، ضحك عمر وهو يلهث و اضعا يديه  في خصره يقول (لقد أصبحت بارعا).

ضحك جاسر هو الآخر وهو يستعيد الكرة لاهثا يضربها على الأرض ثم القى بها  إلى صدر عمر الذي أمسكها بين يديه شاردا، وقف أمامه جاسر هو الآخر فبديا  كطودين من ضخامتهما وطولهما الفارع، قال جاسر بعد أن هدأت أنفاسه (هناك ما  تريد قوله، هات ما عندك).

لم يتعجب عمر من قدرة جاسر على قراءة افكاره بمثل هذه السهولة، فبالرغم  من أن صداقتهما الفعلية بدأت منذ فترة بسيطة الا أنهما أصبحا أكثر من أخوة،  لذا لم يحاول عمر المناورة فقال مباشرة (حنين)

من جهته كان جاسر بالمثل مباشرا وهو يقول (ماذا بها؟).

للحظةٍ لم يرد عمر بل نظر الى الارض مفكرا قليلا ثم رفع رأسه ليقول  بهدوءٍ حازم (اتركها لحياتها يا جاسر، لازلات الحياة امامها طويلة و من  حقها أن تنسى الماضي و تبدأ حياة جديدة تحقق فيها أحلامها)

اشتدت ملامح جاسر صلابة دون أن يظهر تعبير على وجهه، ثم قال بهدوءٍ خطير بعد عدة لحظات (وهل في عودتها لي انتهاءا لحياتها؟).

عقد عمر حاجبيه و هو يقول بوضوح (جاسر، لا تتلاعب بالألفاظ. متى كانت  حنين لك لتعود اليك؟، كانت مجرد طفلة وقد تصرفت التصرف الأمثل برحيلك  فلماذا تفسد الآن ما أحسنت فيه قديما؟)

بدأت ملامح جاسر يظهر عليها التملك الشرس وهو يقول بغضب (التصرف الأمثل لأنها كانت طفلة كما قلت، أما الآن فما المانع؟).

قال عمر بغضبٍ هو الآخروهو يرمي الكرة من يده (المانع أن طريقة  ارتباطكما قديما لا تبشر بمستقبل رائع، كما أنك تتناسى شيئا قد يكون بسيطا  بالنسبة لك، وهو أن حنين رافضة العودة لك)

اقترب جاسر بشراسةٍ من عمر وهو يهتف بغضب (من قال أنها رافضة؟، هل تخيلت رفضها ثم صدقت نفسك؟).

ارتبك عمر قليلا الا انه اخفى شعوره بمهارة وهو يقول بحزم (عشر سنين يا  جاسر، عشر سنين، كيف تطلب منها أن تقتنع بعودتها اليك؟، إنك شخصا غريبا  تماما بالنسبةٍ لها الآن)

سكت جاسر قليلا ثم قال بهدوء (أنت تعلم جيدا انني كنت عائدا اليها قبل خمس  سنوات، أم أن دخولي السجن هو ما تدينني عليه، اليست تلك هي النقطة التي أنت  محرجا من ذكرها؟).

صمت عمر تماما وهو يشعر بالضآلة أمام جاسر حين ذكر تلك الفترة التي  أمضاها في السجن أثناء الغربة، بسببه، مدافعا عنه ضد أحد أبناء البلد  وكبارها، عادت ذاكرة عمر الى تلك الفترة لم يكونا أصدقاء حتى، كانت  معرفتهما ببعضهما تكاد تكون معدومة، حتى أنهما قد تشاجرا يوما في بداية  معرفتهما لإختلاف طباعهما التام، وجاسر لا يجيد التعامل مع اختلاف وجهات  النظر، فنشب بينهما شجارا عنيفا، لكن جاء يومٌ و كادت عصبة من أبناء البلد  الأجنبي أن يحكِمو حول عمر مكيدة نظرا لكشفه مخالفاتٍ غير مقبول السكوت  عنها، و فعرف جاسر بالصدفة نيتهم في الغدر به، و أثناء هجومهم على عمر ذات  ليلةٍ و بعد انصراف كل العاملين التفو من حوله بكل خسة، وكادو أن يفتكوا به  لولا أن فوجىء عمر بهجوم جاسر و اثنين من رجاله عليهم، ودارت معركة طاحنة  حيث انضم عمر إلى جاسر و الرجلين ضد الآخرين. وفي لحظةٍ خاطفة استطاع جاسر  ان يجنب عمر طعنة غادرة من أحد الرجال فردها لتندفع الى صدره و تسقطه غارقا  في دمائه، انقلبت المدينة وقتها خاصة أن شخصا عربيا قام بطعن أحد أبناء  البلد المعروفين وأصابه إصابة خطيرة، و بالرغم من أن جاسر كان قد أصبح رجل  أعمال بدأ صيته في العلو قليلا، لكن ما فعله كان لا يغتفر في بلدٍ اجنبي و  اتجهت اليه كل دلائل الاتهام وتم سجنه لمدة خمس سنوات، منذ ذلك الوقت عرف  عمر أن رباطا اقوى من الدم ربط بينهما، ونشأت بينهما صداقة طوال فترة سجن  جاسر لم يتركه عمر فيها يوما الى أن ائتمنه جاسر على كثير من أعماله والتي  باشرها عمر مؤقتا لتزدهر تدريجيالذا سيظل جاسر بالنسبة الى عمر هو الصديق  الذي لم تربط بينهما سنين طويلة لكن ربط بينهما دينٌ لن يوفيه عمر مهما  حاول. و أثناء الزيارات حكى جاسر لعمر كل شيء عن حنين، مما زاد شعور عمر  بالذنب حين اعترف له جاسر بأنه كان ينوي العودة اليها، حتى أنه سافر ليراها  بعد غياب خمس سنوات، و بعد عودته لينجز أعماله المتراكمة في بلاد الغربة  حدث ما حدث و حُكم عليه في خلال عدة أشهر، و بالرغم من ان تربية عمر  وتثقيفه رفض تماما طريقة زواج حنين بتلك الطريقة وفي ذلك السن، الا إنه لم  يجد بدا من الاستجابة لجاسر في معرفة أخبارها أول بأول أثناء نقل الأعمال  تدريجيا للبلاد بمساعدة مدير أعماله. قال عمر بصوتٍ خافت (لم أقصد ذلك يا  جاسر وتعلم ذلك جيدا، لكن لست مقتنعا بما تفعل و اعتبره غير عادلا).

ابتسم جاسر وهو يقول (ومتى كانت الحياة عادلة، انه النصيب و نصيبها معي).

لم يجد عمر ما يقوله، لا يستطيع النطق و الافضاء بما في داخله من قلق،  مستعدا أن يفدي جاسر بحياته لكنه و للمرة الثانية سيكون السبب في توجيه  ضربة له، لو علم بحقيقة مشاعر حنين و التي يتمنى ان تكون مجرد أوهام، مر  أسبوع بعد ما تعرضت اليه عصر ذلك اليوم المأسوى في حياتها و الذي يماثل  يوما مرت به منذ عشر سنوات، ها هي تقف أمام نافذتها صديقتها تتحدث الى  زجاجها بعد أن نبذت مرآتها لأيام، همست لنفسها بأسى (ما تلك المصيبة التي  وقعت في طريقك يا حنين، بعد أن كانت الحياة قد بدأت تزدهر لكِ).

صمتت قليلا ثم همست تتلمس الزجاج الأملس مستندة بجبهتها اليه (لماذا الآن؟، لماذا الآن تحديدا بعد أن كدت ألمس نجوم السماء؟)

عادت لتهمس متأوهة (عمر، هل من الممكن أن تقبل بي إن عرفت تلك الندبة في  حياتي؟، كنت قد قاربت على النسيان، لا بل كنت قد نسيت تلك الورقة التي لم  تساوي ثمن الحبر التي كتبت به، فهل تتغاضى أنت عنها؟).

أغمضت عينيها بأسى، لا تتذكر جيدا كيف مر بها الطريق و هو يقلها إلى  بيتها، او بيت عمها، ذاك اليومكل ما أدركته أنها أفاقت ببطءٍ و ضعف على  لمساتٍ حانيةٍ خشنة تتجول على وجهها، مدت يدها لتبعد تلك اللمسات الغريبة  لتبتعد عنها لحظة تاركة إياها مستسلمة لعالمها الآمن، ثم تعود مرة أخرى  لتتجول، ففتحت عينيها ببطء لتطالعها عيناه، لم يختفي هذه المرة، بل هاهو  موجودا بكل هيمنته من حولها، ببريقِ عينيه اللتين لم ترى مثلهما، تتخيل أنه  لو نظر اليها في الظلام فستلمعانِ أيضا كالنمور، شتانِ ما بين عينيه وعينا  عمر، كل هذا دار في تفكيرها لحظة أن فتحت عينيها دون أن تدري سببا، انتفضت  جالسة في مقعدها و هي تنظر من النافذة لتجد أنها قد وصلت الى حيهم الراقي  لكن على بعدٍ من منزل عمها، حاولت فتح الباب مسرعة الا أنه أمسك يدها  الممسكة بمقبض الباب ليهمس بالقرب منها (هكذا دون سلام حتى؟).

لم تلتفت اليه ظلت مسمرة مكانها تعطيه ظهرها متصلبة ترتجف في نفس الوقت،  فمد يديه ليمسك بكتفيها النحيلين يحرك ابهاميه عليهما بسيطرة، فما كان  منها الا أن تلوت بضعف و هي تئن همسا (أرجوك كفى، ابتعد عني)

للحظةٍ ظنت أنه لن يستجيب لها لكنها دهشت حين أزاح يديه عنها و هو يقول من  خلفها بصوتٍ أجش (اذهبي الآن، لكن تذكري أنكِ ستريني كثيرا الأيام المقبلة،  الى أن تقتنعي بعودتك الي).

التفتت ببطءٍ شديدٍ اليه، و بعد لحظة أرغمت نفسها على رفع رأسها المحنى  لتواجه نظراته التي لا تلين، ثم همست بضعف (هل تريدني أن أترجاك؟).

حين لم يجبها، ولم يظهر عليه أي تعبير سوى اشتداد عضلات وجهه قليلا إن  لم تكن متوهمة اندفعت تتكلم بصوتٍ أعلى قليلا من الهمس وهي تجد الشجاعة في  الترجي (لأنني سأفعل إن كان هذا ما تريده، أرجوك، أرجوك ابتعد عن حياتي،  أنا في حياةٍ أخرى الآن، حياةٍ لا تباع فيها الفتيات و هن لا يزلن أطفال،  ومجرد أن يعرف أي شخص عني هذا الأمر يجعلني أرغب في الموت قبلا).

ظلت عيناه آسرتي عينيها تلمعانِ بتصميمٍ يشوبه الغضب المسيطر عليه الى  أن قال بلا تعبير (لكني لم أشتريكِ، الشاري شخصا يريد شيئا، أما أنتِ فقد  فرضوكِ علي)

ضربتها كلماته ضربة كحجرٍ موجع في منتصف صدرها، بهتت ملامحها قليلا ثم همست  رغم الاهانة المؤلمة (اذن ماذا تريد الآن؟، لقد هربت منذ عشر سنوات من هذا  الفرض، فلماذا عدت الآن؟).

أجابها بمنتهى الهدوء (لأنني أريد الاستقرار أخيرا، وتأكدت أنكِ الأنسب  لي، بل نحن الأنسب لبعضنا لن يستطيع غيرنا مشاركة أمثالنا الحياة، ثم أنني  أخبرتك أنني عدت لأراكِ قبل خمس سنوات)

هل هو فضول الأنثى الذي دفعها لتسأله؟ لا تعلم لكنها على كل حال همست دون تفكير (وما الذي منعك عني وقتها؟).

لم يجبها لدقائق، حتى احترقت أعصابها وهي تراه يشعل سيجارة من علبة  سجائره بهدوء، ثم نظر اليها لينفث دخانها الى وجهها الشاحب ليجيب بهدوء  (حسنا، من حقك أن تعرفي من البداية، كنت أنوي استعادتك قبل خمس سنوات، لكن  شيئا منعني، لقد سجنت لخمس سنواتٍ بعدها، مما أخر خططي قليلا، وهذا ما  أعتذر عنه، فلو أتيت في موعدي لكان أطفالك يركضون من حولك الآن).

ها هي بعد اسبوع لا تزال تتذكر تلك الكلمات الهادئة وكأنه يتسامر معها  بود، لا تعلم كيف خرجت من السيارة، وكيف تركها بكل رضا، وكأنه يترك لها  الفرصة لتتمعن فيما قاله منذ لحظات، تستوعب ما ضرب به رأسها للتو، دخلت  البيت تتعثر في خطواتها المرتجفة هائمة العينين، لم ترى مالك الذي اصطدمت  به ليمسكها قبل أن تسقط بإعياء. ليقول بقلق (ماذا بكِ حنونة؟، هل أنتِ  مريضة؟).

للحظاتٍ لم تجبه وهي تنظر الى البعيد ثم نظرت الى مالك لتبتسم باهتزاز تتكلم برقة (أنا بخير، فقط مرهقة قليلا)

لم يبد على مالك أنه اقتنع وهو ينظر الى منظرها المشعث و شعرها المطلوق على  سجيته لأول مرة خارج المنزل، لذا لم يتركها لترحل بل امسك بها وهو يقول  (حنين، ما الأمر؟، إنكِ لستِ على طبيعتك أبدا)

همست وهي تحاول اتقان الكذب (لقد، لقد اصبت في الإغماء في العمل، مجرد ارهاق).

ازداد القلق بشدة على وجه مالك وهو يقول (هل أنادي امي؟)

ابتسمت برقةٍ اكثر، مالك الطيب الرقيق، العالم أفضل بوجود أمثالك، قالت  بهدوء (لا، لا تقلقها، أنا بخير، فقط سآخذ أجازة لعدة أيام، حتى أصبح  أفضل).

عقد مالك حاجبيه، لم تبادر حنين يوما لأخذ أجازة، هل أثقلو عليها في  البيت لهذه الدرجة؟، الكل يثقل عليها إن أراد الحقيقة، لكن قبل أن يجادلها  ربتت على ذراعه لتتجاوزه ببطء، ظل يراقبها عدة خطوات، الى أن وجدها تستدير  اليه بتوتر و تقول و كأنها اتخذت قرارا (مالك)

حين لم تتابع قال يجيبها (ما الأمر حنونة؟).

فتحت فمها لتتكلم بتصميم، الا أنها عادت و تخاذلت لتغلق شفتيها بقلق وهي تهز رأسها قليلا هامسة ؛ (لا، لا شيء، تصبح على خير)

قال مالك بتوجس من حالتها الغريبة (نحن في فترة العصر يا حنين)

استدارت لتتجه ببطءٍ الى السلم وهي تهمس بوجوم (عصر أو ليل ما الفارق؟).

وها هي تقف الآن بعد اسبوعٍ حبيسة غرفتها حبسا تفضله على أي شيء آخر في  هذه الدنيا، والحمد لله أن مالك أخبر زوجة عمها أن تعفيها قليلا من  المساعدة لترتاح في غرفتها الآمنة وقتا أطول، لا تحب مكانا في العالم أكثر  من تلك الغرفة التي تضم مرآتها ونافذتها، الغرفة التي ضمت آهات شوقها  وعشقها لصدىء القلب الذي بدأ أخيرا في الإستجابة و سنفرة الصدأ عن قلبه،  بعد أن كادت تجزم بأنه يتجنبها أو يتجاهلها على وجه الخصوص، ابتدأ فجأة بأن  نادى اسمها، ليناديه مراتٍ ومرات، يطمئن عليها كما لم يطمئن عليها أحدا من  قبل، ابتسم لها ابتساماتٍ لم تنلها كفتاةٍ وصلت الى عمرها من قبل، أسبوع  كامل لم تذهب ولم تره، كم اشتاقت لطيبته و ابتسامته الحانية، كم اشتاقت الى  بحثه عنها على السلالم ليعيدها الى الناس متباهيا بها، لكنها لم تكن لتجرؤ  لتذهب، لا تستطيع تحمل اقتران رؤيتهما معا جنبا الى جنب مرة أخرى، أن ترى  ماضيها الذي دفنته ملاصقا لمستقبلها الذي رسمت له طويلا، جاسر، ذلك المجنون  الذي على ما يبدو أن حياته فقدت الإثارة مؤخرا فبحث في أوراقه القديمة وهو  يتسائل من الشخص المناسب ليرمي بلائه عليه، فلم يجد أحسن منها لهذا الدور،  ومن أصلح من حنين الضئيلة ليعبث معها قليلا مبددا ملل أيامه، تلك النزوة  الحالية التي يمر بها و التي لم تستمر بالنسبة له سوى فترة بسيطة ليطير  بعدها بعيدا، هي نفسها النزوة التي ستدمر لها الحلم الجميل و الذي سيجهض  قبل أن يبدأ، تركت زجاج نافذتها فجأة باندفاع وهي تغطي وجهها بكفيها متأوهة  بصوتٍ عالي من شدة ما يعتمل به صدرها، المجنون و الذي خرج من السجن حديثا،  كيف ستكون حياتها أسؤا من ذلك لتجد مسجلا خطرا يسعى خلفها، و الأروع أنه  كان متزوجا منها يوماأبعدت يديها عن وجهها بعنف، واتجهت الى مرآتها لتقف  أمام صورتها العنيفة، قالت لها بقوة (لا تخافي، اجمدي ولا تخافي فهو لا  يمتلك أي سلطان عليكِ، اجمدي حنين و استجمعي قوتك، دافعي عن حبك بقوة، لن  يستطيع أن يخبر أحدا، ستهددينه أن تخبري الجميع بخروجه من السجن، وهو لن  يجازف بتلويث صورته البراقة الآن).

استدارت حول نفسها لتستند على طاولة زينتها وصدرها يعلو ويهبط بسرعة و  هي تتابع بصوتٍ بدأ يهتز قلقا (لكن ماذا كانت جريمته؟، الا يحق لي على  الأقل أن أعرف ما هي تهمة ذلك الذي يتعقبني؟، هل هي جناية؟، هل هو مجرما  بالكامل أم مجرد مخالفة أو مسألة ضرائب؟).

رفعت يديها الى جبينها المحنى وهي تعود الى التأوه من جديد، أي مصيبة  تلك التي لم تحسب حسابها يوما، ماذا لو علم عاصم و مالك، إن كان الأمر  فظيعا فيما مضى فهو الآن أفظع و أضل سبيلا، فكلا من عاصم و جاسر قد ازداد  نفوذه و حربهما معا الآن ستسفر عن خسائر مهولة لعاصم و سمعته، فضلا عن  سمعتها هي، و بالتالي لن يكون عليها الا أن تودع حلمها الوحيد، عادت لتلتفت  الى مرآتها وهي تنظر الى وجهها، ودون وعيا منها رفعت أصابعها المرتجفة  لتلمس بها شفتيها المرتجفتين كذلك من هول الذكرى، همست من تحت أصابعها و  عيناها تدمعانِ بأسى (الحقير، الحقير لثاني مرةٍ يسلبني احترامي لنفسي،  ولثاني مرةٍ لم أستطع صده، كم أشعر بالإنتهاك، أضعاف ما شعرت به فيما مضى،  كنت أظن أنني أصبحت أقوى وأن أحدا لن يستطيع أن ينال مني ما لا أريده أبدا،  لكن ها هو ينتهك روحي من جديد، أهانني كما لم يهينني أحدا من قبل).

ابتلعت نشيجها وهي تبكي بصمت دون أن تجرؤ على الهمس جهرا بما جال في  رأسها في تلك اللحظة و هي تحمر خجلا كمراهقة صغيرة لا فتاة في الرابعة و  العشرين، لقد أفسد قبلتي الأولى، مرتين، حطم حلمي ككل فتاةٍ تنتظر تلك  اللحظة، وكأن له الحق في اجتياح حياتي و جسدي وقتما يشاء، أخفضت عينيها  البريئتين خجلا وهما لم تتلوثا بعد بالرغم مما مرت به على يديه الشريرتين،  كانت تحمد الله كل يومٍ على مدى سنواتٍ على أن الله نجاها في اللحظة  المناسبة على يد أمه المجنونة، حتى وإن كانت قد تعرضت لأقصى اذلالٍ ممكن،  لكنها ما أن كبرت قليلا حتى أصبحت ممتنة لحياتها التي لم تضيع بالكامل مما  يتيح لها أن تحلم من جديد بفارس الأحلام، لكنه عاد من جديد أقوى وأعنف،  مخيفا بشكلٍ مؤلم، وهو يبدو مصمما على نيل ما فاته قديما، وأن شيئا لن  يقاطعه هذه المرة، رفعت رأسها الى أعلى وهي تكتف ذراعيها محيطة جسدها  النحيف بهما لتوقف ارتجافه، ماذا تفعل، ماذا تفعل، اليوم هو يوم عودتها  للعمل، هل تتخاذل أم تذهب؟، لم تسمع شيئا منه منذ أسبوع أتكون معجزة قد  حدثت و نزلت حجرة فوق رأسه أفقدته الذاكرة؟، كانت تريد أن تختفي عن وجه تلك  الحياة بعدما تعرضت له، لكن شوقها لعمر و رغبتها اليائسة في الدفاع عن  حياتها التي خططت لها يجعلها تحاول جاهدة أن تقنع نفسها بارتداء ملابسها و  الذهاب الى العمل، وهذا ما فعلته تتعثر في كلِ خطوةٍ وكلِ حركة، وهي تسير  في الرواق، تتوقف عند غرفة معتز، تتمنى لو كان موجودا لتنهل من حضنه الناعم  لعله يريح أوجاعها، تنزل درجات السلم بتثاقل و حقيبتها الكبيرة على كتفها  وكأنها مساقة الى حبل المشنقة، تشعر أنها ما أن تخرج لضوء الشمس حتى تجده  يقفز لها كالعفريت، نزلت لتجد عاصم و مالك في البهو يتحدثان بهدوء فابتلعت  ريقها بضعف وهي تأخذ نفسا عميقا ثم تلقي عليهما التحية بخفوت (صباح الخير  آل رشوان).

التفتا اليها معا و ابتسم مالك وهو يقول بمرح (صباح الخير، ها قد خرجتِ أخيرا من بياتك الشتوى، كيف حالك الآن؟)

ابتسمت بحزن تحاول أن تبدو طبيعيةٍ وهي تقول (بخير الحمد لله)

قال مالك لها بلهجةٍ ذات مغزى ماطا شفتيه (من حسن حظك أن عندي خبرا سعيدا  لكِ، أحزري من سيأتي لزيارتنا الليلة؟، شخصا عزيزاعلى قلوبنا كلنا).

تأوهت حنين بصمت، لا ليس الليلة أبدا، ومن سيكون الشخص العزيز غيرها،  صاحبة الصوت الرنان، دانا خطيبة الابن البكر فخر العائلة، لماذا يبدو كل  شيئٍ سيئا في نظرها في تلك اللحظة؟، لم تستطع سوى أن تهمس بأسى واضح على  ملامحها (ياللسعادة الغامرة، و أنا التي كنت أتسائل عن سبب استيقاظي سعيدة  اليوم).

قال عاصم بصرامة وهو يعقد حاجبيه (اسمعا أنتما الاثنين، قسما بالله ان  لم تحسنا التصرف فسأطردكما معا من البيت الى أن تغادر دانا، حاولا معاملتها  بقليلٍ من الود، أفهمتما؟، إنها تشعر بنفوركما منها بمنتهى الوضوح، حاولا  التأقلم على أنها ستعيش يوما معكما هنا، الى أن يسعدنا الله بزواجِ كلا  منكما لنرتاح أخيرا).

شعرت حنين بوجعٍ قاتل في قلبها من جملته البسيطة و التي بالرغم من ذلك  تنبهها الى أن أيامها في البيت لا بد وأن تكون معدودة بحلولِ دانا الى  البيت، قاطع مالك أفكارها وهو يقول عاقدا حاجبيه بجديةٍ و اتزان. غامزا في  الخفاء لحنين (بالطبع، لا تقلق، دانا في أعيننا)

ضربه عاصم على رأسه بملف الأوراق الممسك به، فتأوه مالك وهو يقول بدهشةٍ مصطنعة (ماذا؟، ماذا فعلت؟).

تناول عاصم باقي أوراقه وهو يتجه الى الباب استعدادا الى الذهاب الى  عمله وهو يقول بتهديد؛ (لقد حذرتكما و قد أعذر من أنذر، لا أريد فضائح من  أي نوع، أنا لن أتحمل أي شكوى مستعرضة من دانا أو أمها، فما في رأسي يشغلني  بما فيه الكفاية)

ثم خرج من البيت و هو يعلم تماما ما المسيطر على عقله تلك الأيام يحرمه  النوم و يفقده القدرة على التركيز، التفتت حنين الى مالك لتقول بوجوم (ألن  يفطر معنا؟).

ابتسم مالك وهو يقول (لقد تناولنا الفطور منذ فترةٍ يا رأس الوخم، تعالي  هنا و اخبريني ما بكِ حقا؟، ليست مسألة تعب أبدا، لماذا تبدين مبتئسة هكذا  منذ أيام؟، هل يضايقك أحد في العمل؟)

توترت حنين وهي تتململ في وقفتها ثم قالت بلهجةٍ غير مقنعة (لا شيء يا مالك حقا، لا تقلق، لا، يجرؤ أحدا على مضايقتي)

لم يقتنع مالك أبدا لكنه فضل ألا يضغط عليها وهو يقول (حسنا أنا مضطرا للذهاب الآن، أتريدين أن أقلك معي؟).

اندفعت اكثر من المعتاد لتقول ؛ (لا، لا أقصد أنت تعلم أنني لا، أفضل أن، لا شكرا)

قطب جبينه قليلا ثم قال أخيرا بهدوء (حسنا، سأذهب الآن، لو احتجت لشيء هاتفيني)

أومأت حنين بصمتٍ و استسلام، وهي تفكر بأنها في أمس الحاجة لمساعدته، لكن العواقب ستكون وخيمة، اه يا الله انقذني مما أنا فيه...

ذهبت الى زوجة عمها التي كانت مرتبكة في مطبخها رغم وجود الخادمة و  ابنتها، متحيرة ما الذي تعده اليوم للعشاء استعدادا لمجيء دانا خطيبة  الغالي، فمجيء دانا الى هذا البيت نادر جدا و الحاجة روعة تريد أن تغريها  للمجيء الى هنا كثيرا حتى تقترب منهم أكثر، فلا تطلب من عاصم الابتعاد،  ابتسمت حنين برقةٍ حزينة وهي تنظر الى معالم الارتباك الواضحة على ملامحها  الطيبة و هي تمسك المكونات لترصها أمامها بما يكفي لإطعام جيش من البشر و  مع ذلك لا تبدو مقتنعة، اقتربت منها ببطءٍ وهي تقول مبتسمة قدر الإمكان  (صباح الخير عمتي).

التفتت اليها الحاجة روعة و هي ترد عليها بانشراح (صباح الخير يا قلب عمتك، أخيرا قررتِ النزول صباحا؟)

اقتربت منها حنين لتتعلق بذراعها الطري وهي تريح رأسها متنهدة على كتف زوجة  عمها بتعب، ثم قالت؛ (أنا آسفة جدا يا عمتى، لقد تدللت عليكِ جدا الأسبوع  الماضي).

رفعت الحاجة روعة يدها البيضاء المكتنزة لتربت على وجنة حنين النائمة  على كتفها وهي تقول بحنان (يبدو أننا نتعبك معنا اكثر من اللازم حبيبتي،  لكن ماذا أفعل فبالرغم من وجود أم رضا و ابنتها معنا الا إنني لا أثق في  غيرك لمتابعة أمور البيت، فكوارثهما أكثر من نفعهما)

قالت أم رضا من خلف الحاجة روعة وهي تأخذ بعض الأشياء الى خارج المطبخ (الف شكر يا حاجة روعة، لم يكن هذا هو العشم).

ضحكت الحاجة روعة و ابتسمت حنين، قالت الحاجة روعة دون أن تستطيع اخفاء  نفسها المكسورة (يبدو أنكِ لستِ وحدك من تتدلللين، تخيلي أن حور لم تهاتفني  مرة منذ أن ذهبت مع زوجها؟، اسبوع كامل دون أن تحاول حتى السؤال على أمها،  أو حتى لتطمئنني على معتز الذي اختفت به و كأنه لا يخصنا نحن أيضا).

لم تستطع حنين الدفاع عن حور خاصة أنها لازالت مذبوحة من كلمتها الأخيرة  لها، لذا لم تقل سوى (لا تحزني عمتي، اعتبريها في شهر عسلٍ ثاني و أن من  حقها أن تنال بعض الخصوصية).

أومأت الحاجة روعة برأسها و الألم لم يفارق وجهها بعدظلت حنين صامتة  قليلا حتى كادت أن تغص في السؤال المختنق في حلقها من أيام، لذا همست بتردد  بعد فترةٍ وهي تنظر الى ظهر الحاجة روعة وهي تتابع عملها (عمتي، هل، هل  تتذكرين، ذلك، الموضوع القديم؟)

قالت الحاجة روعة وهي مشغولة بتقشير الخضروات أمامها (أي موضوع ذلك يا حنين.؟).

أخذت حنين نفسا وهي تحاول التكلم بصوتٍ طبيعي بينما قلبها يقصف قصفا (حين، زوجوني منذ، عشر سنوات)

عقدت الحاجة روعة حاجبيها وهي تترك ما بيدها تماما لتلتفت الى حنين قائلة  بقلق (وما الذي ذكرك بهذا الموضوع الآن؟، الم نتفق على أن ننساه؟).

ارتبكت حنين وكأنها طفلة أخطأت فلسنواتٍ طويلة امتنع ذكر أي شيء يخص هذا  الموضوع في البيت، لكنها الآن مضطرة لذلك القلق الذي يفترسها و ينهش  أصابها منذ أن عاد الماضي المشحون ليلاحقهالذا همست تتلعثم مرتبكة لكن  بتصميم (أعلم عمتي لكن غصبا عني لا أستطيع منع نفسي من تذكره، أنتِ تعلمين  أنني مررت بظروفٍ صعبة، حيث سافر ذلك المدعو، جاسر قبل الزفاف بأيام).

لم تعرف ما تريد أن تسأل عنه حقا، لذا صمتت ناظرة الى مربعات الأرض بيأس  غير قادرة على تجميع أفكارها لذا لم تشعر بزوجة عمها التي اقتربت منها الا  بعد أن ربتت على وجنتها برفقٍ لتقول؛ (إياكِ يا حنين أن يكون في قلبك شيئا  ضد عمك، كان الزمن غير الزمن، ولا زال حتى الآن في الأحياء القديمة، كل  الفتيات كن يتزوجن بهذه الطريقة لصغرِ سنهن عن السن القانوني، الى أن يتم  عقد قرانهن حين يبلغن السن القانوني، أي أن عمك لم يكن ليظلمك أبدا).

لم تستطع حنين سوى ان تهتف بضعف قبل أن تستطيع السيطرة على نفسها و هي تسأل السؤال القديم (ولماذا لم تخضع حور لنفس الحكم؟)

اتسعت عينا الحاجة روعة بذهول وهي ترى حنين غير تلك التي ربتها طوال  السنوات الماضية، لتقول هامسة مبهوتة وهي تضع كفها على وجنتها الممتلئة (يا  ويلي يا حنين، أنتِ فعلا تضمرين شعورا غاضبا تجاه عمك رحمه الله).

لم تستطع حنين الرد عليها وهي تلتفت بعيدا عن نظرات زوجة عمها المرعوبة،  ثم همست باختناق (لم يريدوني أنا عمتي، أرادو مجرد ورقة بينهم و بين بعضهم  لفض النزاع و الرأفة بأبنائهم من دخول السجون يوما، حتى إن كانت تلك  الورقة تعني أن أنتقل من بيتكم لبيتهم، ولما لا؟، ففي النهاية هي مجرد حنين  الصغيرة و مآلها لزواجٍ كهذا في نهاية الأمر فلما لا تكن مفيدة).

ازداد اتساع عينا الحاجة روعة و تنديتا بالدموع وهي تستمع الى كلام حنين  الغريب و الذي لم تتحدث به قبلا، ثم قال?



8 /رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

لحظاتٍ غاب فيها قلبه عن تلك الفوضى المؤلمة و الأضواء الخاطفة  للأبصار في ظلام الليل من حوله، وهو يضم بين ذراعيه أهم ما استطاع انقاذه،  كيف ومتى أصبحت بمثل هذه الأهمية بالنسبة له، هو حقا لا يعرف و لا يملك  الاجابة، الشيء الوحيد الذي يعرفه أن شعر بأنه يفقد جزءا من قلبه كل ثانية  احتاجها وصوله الى بيتها قبل أن يطمئن عليها...

شعر بها فجأة تدفعه بقوةٍ بكفيها في صدره و هي تقول بصلابة (ابتعد).

ابتعد عنها تاركا اياها مذهولا مما كان تائها فيه للتو و هو ينظر اليها  تعيد لف الشال حول رأسها كيفما اتفق وخصلة حريرية تلامس جبهتها الملساء،  بينما تعقد رابطة عبائتها المنزلية...

لم يتبين ملامحها التي تجمدت خلف قناعٍ بلا تعبير، همس مترددا (صبا)

رفعت عينيها اليه بشراسةٍ وهي ترفع له اصبعا محذرا و هي تقول بكل عنف (ابتعد عني، هل فهمت؟، ابتعد عني).

ثم استدارت الى بيتها الذي خبت منه ألسنة النيران و تعالت منه الأدخنة  السوداء، توقفت خطواتها قليلا وهي تنظر اليه دون تعبير وكأنها تقسم و تتوعد  بداخلها، ثم خطت عدة خطوات، فصرخ عاصم يناديها بغضب (صبا)

التفتت اليه دون أن تقترب و قالت بكل بأس (ماذا تريد؟، الم تكتفي بعد؟)

صدمه كلامها وهو ينظر اليها بغضب ليقول مستفهما (هل تتهمينني بما حدث؟).

ابتسمت استهزاءا بوضوح وهي تهز رأسها ثم التفتت تنوي الابتعاد عنه فصرخ مرة أخرى يتبعها (صبا، توقفي عندك حالا)

توقفت الا أنها لم تلتفت اليه بل وقفت مسمرة في مكانها الى أن شعرت به  واقفا خلفها تماما و أنفاسه تهدر غضبا وهو يقول مكررا (هل تتخيلين أن لي  يدا فيما حدث؟).

التفتت اليه بسرعةٍ طيرت الخصلة الناعمةِ فوق حاجبها حتى شعر بيديه  تتوسلانه أن يلمسها لكنه حاول جاهد التركيز فيما تقوله (انظر في عيني وقل  انها لم تكن مدبرة)

لم يرد للحظات و عيناها تتحديانه أن ينكر و لم ينكر وهو يقول مدققا في عينيها بكل وضوح (بل كانت مدبرة)

ابتسمت بقساوة بينما عيناها تلمعانِ مرارة، ترفضان الدموع وهي تقول (أشكرك على الصدق، لقد فقتم الوصف حقا).

ثم استدارت تبتعد الا انه أمسك ذراعها لتلفت اليه بعنف نافضة ذراعه  بوحشية فقال محاولا الهدوء قدر الإمكان (اسمعيني جيدا، ستأتين معي)

انعقد حاجبيها قليلا وهي تقول بعدم فهم (آتي معك؟، الى أين تحديدا؟)

لم يرمش وهو يقول بهدوء (ستأتين أنتِ و فتحية الى بيتي، لن أطمئن عليكما الا هناك).

ظلت تنظر اليه بذهول وكأنه قد جن تماما ثم همست وكأنها تحدث نفسها  (يالهي، لقد جننت بالفعل، أما أنك قد جننت أو أنك من الحماقة بحيث تظن أنني  سأصدق تلك المسرحية الحمقاء التي تمثلها لتبعد عنك شبهة ما حدث)

لم يرد عليها وعيناه تزدادانِ قسوة وهو يراها تقترب منه رافعة اصبعها لتقول  بعزمٍ ينضح الما (لكن أعدك أن ما حدث لن يمر بسهولة، سأفتح عليكم أبواب  الجحيم و ستتمنون من أكبركم لأصغركم لو لم تعبثو معي).

مد يده ليمسك بكفها المرفوع يتأمله، لكنها سحبته صارخة بغضب (ابتعد عني، لقد حذرتك كثيرا)

قال لها بقلق (يدك مصابة بحروق)

نظرت الى يدها وكأنها لم تشعر بالألم من قبل ولم تلاحظها ثم قالت بمرارة  (ان كان هذا سيسعدك فسأخبرك أنني كنت أحاول أن انقذ أشياء والدي الخاصة،  ولم أفلح و رجلك يحملني حملا خارج البيت).

ابتلع ريقه وقال بغضب. يقترب منها خطوة (هل أذاكِ؟، أنا الذي أعطيت  اليهم الامر لكي يخرجوكم سالمين من البيت، لكن إن كان قد تسبب لكِ في أي  شيء ممكن أقتله)

نظرت اليه بجنون لتقول بكل احتقار (أنت حقا ميؤسا منك)

رد عاصم يقاطعها قبل أن تستفيض (وفري كلامك و اتهاماتك، ستأتين معي حتى لو  اضررت لحملك مقيدة أنا الآخر الى هناك، أنت لا تدركين خطورة من تلعبين  معهم).

ألجمها جنون الغضب لعدة لحظات ثم هتفت ما أن وجدت قدرتها على الكلام وهي  تشير الى البوابة (أخرج، أخرج من هنا حالا، هذه أرضى و لا أريدك فوقها)

نقل نظره منها الى رجاله الواقفين على بعدٍ يراقبون ما يحدث بارتباك فصرخ  بهم (الي ماذا تنظرون؟، اخرجوا جميعا الى خارج البوابة ولا أريدكم أن تغفلو  النظر عن المكان).

اندفعوا خارجين من المكان فالتفت اليها بغضبٍ شرس وهو يقول بصوتٍ لا  يقبل الجدل (اسمعي، أنا مقدرللحالة التي أنتِ فيها الآن، لكن لا تدفعيني  أكثر من اللازم، لآخر مرة أخبرك، ستأتين معي، كما أن يدك بحاجةٍ الى عناية و  الا ستلتهب حروقك).

ظلت واقفة تنظر اليه بلا تعبير الى أن تساقطت دمعة من عينيها الجامدتين  الناظرتين اليه، هزته الى الأعماق و شعر بطعمٍ مؤلمٍ للغاية في حلقه، قالت  بهدوء وهي تمسح دمعتيها الحزينتين (لقد أحرقتم بيتي، أحرقتم كتب أبي و  رائحته داخل هذه الجدران، لكن أقسم أنني لن أترككم أبدا و لو كلفني آخر  نفس).

التفتت تريد الذهاب ولم يستطع منعها تلك المرة وهي تتجه الى البيت الذي تحول طابقه العلوي الى لونٍ أسودٍ أخبره عن مدى قبحهم

استدار غير قادرا على النظر اليها أكثر وهو يرفع يديه غارزا أصابعه في  خصلات شعره نافثا نفسا عميقا غاضبا وهو يشعر بالعجز، أن كانو قد بدأو قبل  أن يقطع صلته بعثمان الراجي فكيف أذا عرف الآن و لا بد وأن يكون قد علم...

صرخ بصوتٍ عالٍ كالمجنون (منصووور).

وصل رجله مهرولا اليه فقال عاصم بغضب (إياكم أن تبرحوا هذا المكان، سنبيت ليلتنا هنا)

نظر منصور اليه بعدم فهم فصرخ عاصم (اجلب لي كرسيا هنا، حالاااا).

هرول منصور إلى كراسيهم في منطقة استراحة العمال في الخارج ليكون الكرسي  الخشبي عند عاصم خلال دقيقة فتناوله بعنفٍ ليقوم بضربه في الأرض بكل قوته  ثم ارتمى جالسا عليه مستندا برمفقيه الى ركبتيه ناظرا حوله في غضب وكأنه  يتمنى من داخله أن يمسك بأحدٍ من أولئك المجرمين ليفرغ فيه كل شحنة الغضب  التي تحرقه الآن.

كل تعجل في فك ارتباطه بدانا؟، إن كان هذا هو التصرف وهو حليفهم فكيف بعد أن ينقطع الرابط بينهم؟..

كم جبهة الآن عليه أن يحارب؟، ومن أجلها، من أجل عيون القطط، تأفف بنفاذ  صبر وهو يفكر في نفسه بغضب أن حياته كانت مثالية قبل أن يلتقيها ومنذ أن  رآها قلبت كل موازينه...

كم سيخسر بسببها الآن و كم ستتضرر علاقاته و أعماله، تأفف مرة أخرى وهو  يرجع ظهره الى الخلف مستندا الى ظهر الكرسي، ليتابع تفكيره بوجوم وهو يقول  لنفسه

لكن على الرغم من كل ذلك تبدو كل تلك الخسائر لا تقارن بما سيخسره، إن خسرها هي...

أغمض عينيه يشعر بالتعب ضاغطا بأصابعه بين عينيه المرهقتين، فجأة رن  هاتفه فالتقطه لينظر الى الرقم ثم همس بغضب هادىءخطير (كنت أنتظرك)

رد على المكالمة بهدوءٍ لا يتناسب مع ما يشعر به حاليا، ليسمع السؤال  الهادىء هو الآخر و الذي يحمل بين طياته سواد الغل (ماذا تفعل عندك يا  عاصم؟)

ابتسم عاصم بشراسة وهو يرد بخطورة (احمي نطاقي، الذي تعديته وقد اخبرتك بأن هذا ليس اسلوبي).

سمع الرد الصلف (يبدو أنك قد نسيت نفسك يا عاصم، وأن الأمر قد تخطى مسألة البيت)

تنفس عاصم بشدةٍ وهو يشعر بغضب الأيام القديمة يتسرب اليه (هذا البيت و  أصحابه أصبحو تحت حمايتي، و أقسم أنني سأقيم العالم من حولكم لو تكرر  المساس بهم)

صوت الصمت من الطرف المقابل أخبره بوضوح أنه قد ألقى قفاز التحدي الى وجنة  الجبابرة للتو، لكنه لم يهتم وهو يعرف أن هذا اليوم آتٍ لا محالة...

سمع الصوت القبيح يأتيه بخفوت (سأعتبرها نزوة يا عاصم و سأعطيك فرصة  لتتعقل و تراضي دانا و تنسى كل ما يتعلق بهذا البيت الى أن، تتم مساواته  بالأرض من حوله، كلنا أخذتنا الفروسية ذات يوم و تعقلنا بعدها لذا لن  أحاسبك على ما فعلته).

فتح عاصم فمه ليرد برد متهور الا أنه تفاجأ بأن عثمان الراجي قد أغلق  الهاتف دون أن ينتظر الإجابة، و لأول مرة لايشعر عاصم بالغضب من الإهانة،  فقد منعه ذلك من التهور في الرد، فلينتظر حماه السابق المهلة و التي ستمكن  عاصم من نيل بعض الوقت ليستطيع التصرف مع تلك المجنونة بالأعلى.

كانت تنظر اليه بغضب من نافذة البهو و قلبها يلتاع بنار الألم و الغضب  على تحديه السافر، أخذت تحاول التقاط أنفاسها الساخنة الهائجة ثم تركت  الستارة تندسل على النافذة بعنف وهي تستدير بسرعة، تلف الشال حول رأسها  متجة الى الباب عاقدة العزم وهي تقول بتهور (سأطرده، هو وكل رجاله)

اقتربت فتحية منها بسرعة وهي تمسك بذراعها بقوةٍ قبل أن تتجه الى الباب لتقول بترجي (انتظري يا صبا، انتظري قليلا).

التفتت اليها صبا بجنون وهي تهتف بألم تشير الى النافذة (الا ترين مدى  وقاحته، بعد أن فعل ما فعله، يجلس هناك في حديقة بيتي، رغما عني)

قالت فتحية تسعل من رائحة الدخان التي لا تزال مسيطرةٍ على المكان و قد بان  عليها الخوف و الارهاق بعد ماحدث (صبا، دون أن تنفعلي، أعتقد أننا في  حاجةٍ الى وجوده طالما أنكِ تشكين أن الأمر مدبر، لن نستطيع قضاء الليلة  دون حارس).

صرخت صبا بينما عينيها تلمعانِ بدموعٍ حبيسة (هل صدقتِ أن لا دخل له بما حدث؟)

ارتبكت فتحية وهي تشعر بالأسى من ألم صبا لكنها قالت بتردد على أية حال  (أعرف أنكِ ستغضبين، لكن قلبي يخبرني أن لا دخل له بالأمر، و أنا قلبي لا  يخطئني أبدا)

فتحت صبا فمها تريد أن تصرخ بجنون، لكنها عادت لتغلقه وهي تحاول كتم دموعها  التي أخذت تخز عينيها، فأخذتها فتحية بين أحضانها، حينها لم تتمالك نفسها  من الإنفجار بكاءا بشدة.

ولم تعلم كم استمر بكاؤها و قد أنهكها كل الضغط الذي تعرضت له على  أيديهم الملوثة، نامت أخيرا واضعة رأسها على ركبتي فتحية التي كانت تهدهدها  و تلاعب شعرها بحنان هامسة لها عن بعض ذكرياتها حين كانت طفلة تلعب في  فناء هذا البيت...

ابتسمت صبا من بين دموعها وهي تحن الى كل ذكرى همست بها فتحية، لتغيب عنها  رائحة الدخان و تتوه عن عينيها منظر ألسنة اللهب و تسافر الى أيامٍ  بعيدة...

تذكرت والدها حين كان يستيفظ من قبل شروق الشمس، وكانت تستيقظ كذلك على  صوت أذاعة القرآن الكريم، تقفز من فراشها وتجري حافية القدمين الصغيرتين  على درجات السلم تراه لايزال راكعا على سجادة الصلاة، اتسعت ابتسامتها وهي  ترى تلك الطفلة تجري لتعتلي ظهره فيضحك بسرورٍ لينحني بها على السجادة و  يستقيم معيدا حركته عدة مرات وهو يؤرجحها، وهي تنفجر ضاحكة ككلِ يوم...

لا يزال صوته في أذنيها قويا وهو يقول متذمرا (أمك الكسولة لا تزال  نائمة الى الآن، وقد أوشكت الشمس على الشروق، هذا تسيب لا يُقبل به هيا  لنزعجها).

ضحكت ضحكة مختنقة بدموعها تتذكر وهو يحملها ككل ِ صباحِ فوق كتفيه  ليتجها الى خارج غرفة نوم والديها دون أن يدخلا ثم يبدآ غنائهما العالي  بالنشيد المدرسي الذي تعلمته في الروضة، يعيدانه و يكررانه ولا يتوقفا الى  أن يفتح باب الغرفة و تطل عليهم أجمل امرأة رأتها يوما، تقف في اطار الباب  بثوبِ نومها الأبيض الهفهاف و شعرها النحاسي الناعم المنسدل على كتفيها وهي  تنظر اليهما مبتسمة بغضبٍ زائف، تقول ككل يوم (ألم تنتهيا بعد).

ضحكت صبا وهي تبكي بشدة. مرتمية على حجر فتحية التي شددت من ضمها  وهدهددتها أكثر، همست صبا من بين بكائها (لقد اشتقت اليهما، اشتقت اليهما  جدا، الوحدة تقتلني بدونهما)

قالت فتحية التي تغالب دموعها بصعوبة (وماذا أفعل أنا هنا؟)

نشجت صبا بضعف وهي تقول (لولا وجودك لما تحملت وحدتي أبدا)

أخذت فتحية تربت على رأسها في رفق الى أن راحت في سباتٍ عميق فوق الأريكة الوثيرة بعد أن تلف معظم الطابق العلوي.

لم تمر سوى بضع ساعات من آخر الليل حتى أشرقت الشمس بعد تلك الليلة  العاصفة، ليفاجأ عاصم الذي لم يغمض له جفن بأن باب البيت يفتح و تخرج منه  صبا بكلِ عزمٍ لتغلقه خلفها بإحكام نازلة السلالم القليلة وهي تتجاوزه دون  حتى أن تنظر اليه وكأنه غير موجود، جميلة، نعم صحيح حمقاء مجنونة عنيدة  بشكلٍ غبي، لكن جميلة وهي ترتدي ثوبا أبيض ناعم يتطاير مع كاحليها و حجابا  ورديا حتى بدت كحلمٍ ناعم لا يتناسب مع مرارة ما حدث ليلة أمس...

نهض من مقعده بسرعةٍ ليعترض طريقها قائلا بلهجةٍ تهديدية (الى أين؟)

اضطرت للوقوف مكانها بعد أن سد عليها الطريق بضخامته المزعجة وما أن سمعت سؤاله الوقح حتى قالت ببرود (وما شأنك؟)

مد يده يمسح بها صفحة وجهه وقد نال منه التعب و الاستفزاز وهو يقول مغمضا عينيه (استغفر الله العظيم، سألت سؤال و أريد اجابة)

قالت صبا و قد نوت الا تدعه يستفزها (ليس لك دخل و اخرج من هنا).

أخذ نفسا عميقا و قد اوشك على التصرف تصرفا سيندم عليه بعد ذلك، لذا قال  بهدوء بعد لحظة (صبا، هلا تكرمتِ و أخبرتني الى أين أنتِ ذاهبة؟، فالوضع  ليس آمنا الآن).

رفعت حاجبا متحديا وهي تنظر اليه نظرة أقلقته الى أن سمعها تقول ما كان  يخشاه (لا، طمئن نفسك يا سيد عاصم و عد الى بيتك، فالوضع سيكون آمنا منذ  اليوم خاصة بعد المحضر الذي سأسجله في قسم الشرطة و لن أسكت حتى أحصل على  أمر بعدم التعرض منكم واحد واحد، و خاصة أنني سجلت مكالمات التهديد)

عاد ليغمض عينيه وهو يقول بيأسٍ أوشك على الإنفجار (نعم، نعم، هذا ماكان ينقص في تلك الفترة).

فتح عينيه وهو ينوي بكل الوسائل عن منعها عما تعتزمه، الا أنه فوجىء  باختفائها من أمامه، استدار بسرعةٍ ليجدها متجهة بكل عزمٍ إلى البوابة،  فقطع المسافة بينهما في خطوتين وهو يقول بصرامة (صبا، صبا انتظري).

ولم يتوقع ان تلتفت اليه بابتسامةٍ سلبت قدرته على التنفس وهي تقول ما  أعاد تلك القدرة مرة أخرى بل و الرغبة في ضربها (كما أريد أن أخبرك أنني  سأقيم دعوى قضائية ضد شريكك، حوت الساعة عثمان الراجي، و لدي أوراقا سترسله  في رحلةٍ طويلة الى غير رجعة، فلتخبره ليبدأ في جمع فريق محاماته منذ  الآن).

فتح عينيه على اتساعهما وهو يسمع ما قالت للتو و لعدة لحظات لم يجد ما  يرد به أمام ما شعر به من هلع، وهي أيضا لم تنصرف وهي مستمتعة بمظاهر ذهوله  المتناقضة مع قساوة ملامحه ثم قالت تسبقه في الكلام متظاهرة بالأسف (أعلم  أنك خاطب ابنته، لكن ما باليد حيلة، لقد وصل ليدي ما لن أستطيع كتمانه)

رفع يده بعد عدة لحظات ليظهر لها يده الخالية من الخواتم ثم قال بخفوت (لم يعد يربطني به سوى مدينة القاصمية، و أنتِ).

كانت تنظر لأصابعه المفرودة أمامها الى أن سمعت كلمته الأخيرة فرفعت عينيها إلى عينيه بعدم فهم وهي تقول (أنا؟)

تنهد بتعبٍ وهو يقول (نعم أنتِ، أنتِ الشيء الوحيد الذي يمنعني عن اتخاذ أي خطوة، سواء ضدهم أو في البدء بالمدينة)

ابتسمت بجفاء وهي تخبره بنظرةٍ أبلغ من الكلام عن رأيها به و قد أغضبه هذا  بشدة، كم يكره أنه يستطيع قراءة افكارها بكل سهولة و أغلبها أفكار لا يحب  قرائتها...

أبعد أفكاره الغاضبة ليقول محاولا التحكم في نبرة صوته (ابتعدي عنهم يا صبا، و بالأخص هو، أنا لن أستطيع أن أمنعه عنكِ طويلا)

هزت كتفيها ساخرة تقول (ومن طلب منك؟)

رفع يديه الى السماء وهو يستشيط غضبا مستديرا عنها حتى لا يتهور عليها،  فتابعت سيرها وهي مبتسمة بكلِ الكره الذي تحمله في داخلها مما فعلوه بها.

لكنها تسمرت مكانها حين نادا ها يقول بصوتٍ قوي (أتتزوجيني يا صبا؟).

التفتت اليه وهي تنظر اليه بذهول رافعة و كأنها تنظر الى معتوه، وهي  تراقبه يقترب منها متابعا بقوة (تزوجيني و اتركي هذا الأمر لي، سيكون لكِ  بيت من أروع ما رايت يوما هنا في المدينة و في نفس المكان إن احببتِ، سأغير  التصميم كله إن وافقتِ، ستجدين كل ما حلمتِ به يوما، و ابتعدي عن عثمان  الراجي، وافقي، فقط وافقي و سترين ما سأحققه لكِ).

ظلت تنظر اليه و ذهولها يزداد مع كل كلمةٍ ينطق بها و ما أن انتهى حتى  ساد الصمت بينهما تماما الى أن قالت بهدوء خافت (أريدك أن تخرج من أملاكي، و  لا أرغب في رؤيتك مرة أخرى)

دخل عاصم إلى البيت في ساعات الصباح الأولى يبدو على وجهه علامات الغضب  الأحمق، وما أن أغلق الباب خلفه حتى اقترب مالك بسرعة وخلفه حنين التي نادت  بصوتٍ عالٍ (لقد وصل عاصم يا عمتي).

وصل مالك الى عاصم وهو ينظر اليه بقلق قائلا بحدة (عاصم، ما الذي جرى  منذ أن خرجت دانا من هنا غاضبة ليلة أمس و خرجت خلفها جريا؟، و أين قضيت  ليلتك؟، حتى الهاتف كنت تغلقه ما أن نطلبك)

نظر عاصم الى مالك و قد بدت هيئته مجنونة بقميصه الغير مرتب و ذقنه النامية  و شعره المشعث و قال بعينين حمراوين من شدة الغضب (ليس هناك دانا بعد الآن  لقد أنهيت الخطبة أمس، ولا أريد ذكر الموضوع مجددا، مفهوم؟).

أومأ مالك و حنين برأسيهما بمنتهى الاحترام و الطاعة بعيونٍ متسعة، وما  أن استدار عاصم حتى أخذ مالك يرقص رقصة المطاوي الشهيرة عند سكان السواحل، و  كذلك حنين ترقص صمتا دون صوت...

لكن عاصم التفت اثناء تأديتهم للإستعراض الصامت ليثبتو تماما عائدين الى  الإحترام و الإتزان ليقول عاصم بمنتهى القوة من أعلى السلم (و سأتزوج من  فتاة أخرى، حتى لا تفاجؤا بالأمر).

ظلا ناظرين الى أثره بعد أن اختفى بذهول وقد تسمرا مكانهما حتى وصلت  الحاجة روعة تلهث من صعوبة هرولتها وهي تقول (أين عاصم؟، و أين قضى ليلته؟)

أفاق مالك من تسمره ليقول بوجوم (افرحي يا روعة، ابنك ترك دانا أخيرا)

رفعت الحاجة روعة يدها الى فمها وهي تزغرد عاليا، وما أن انتهت حتى أكملت  حنين بنفس وجوم مالك (وسيتزوج فتاة أخرى قريبا، على ما يبدو أنه قابلها وهو  في طريقه الى هنا صباحا).

أنزلت الحاجة روعة يدها وهي تقف الى جوارهم بنفس الوجوم ناظرين الى السلم كالبؤساء...

كانت جالسة جلستها اليومية منذ اسبوع. على الأريكة القديمة ذات الغطاء  المزركش المتآكل و الموجدة تحت النافذة، رافعة ركبتيها الى صدرها تنظر إلى  البحر بأمواجه و تلاطمها، شعرها يتطاير مع نسماته المحملة اليها بعذوبة  وكأنها تواسيها و تربت على كبريائها المهدور بسلاسةٍ على مدى سبع ايام.

لقد طاب وجهها من كدماته و عاد لروعته من جديد، فلماذا تشعر بأنها لازالت مجروحة مهزومة مكسورة النفس إلى هذا الحد؟..

استاذ، استاذ في كسر الخاطر بكل جدارة، ...

كانت تظنه سيثور، سيغضب يوما بعد يوم لتستطيع احتواء ثورته وغضبه و  توجيههما الى عاطفةٍ تقربه منها، الأ انه على ما يبدو ليس مهتما حتى...

البرود، ذلك السلاح ذو الحد الغير قاطع و الذي يقتل قتلا بطيئا مؤلما...

منذ تلك الليلة التي طردها فيها من غرفته وهو يتجاهلها تماما وكأنها غير  موجودة معه في البيت، و الأدهى أنه يصطحب معتز معه صباحا ليتركه برفقة  علية في محل الأسماك الذي تملكه...

تلك الليلة التي طردها فيها من غرفته، لم تنم للحظة وهي تتقلب بجنون على  فراشٍ من جمر، نهضت اكثر من مرةٍ تتجه بقدميها الحافيتين الى باب غرفته  تريد، ماذا تريد؟، تسال نفسها كل مرةٍ و يدها على مقبض الباب، وحين لا تجد  الاجابة تبعد يدها وتبتعد بيأسٍ قاتل الى غرفتها الغارفة لتبقى فيها  وحيدة...

فبالبرغم من كلِ جرأتها و حزمها الا أنها ما أن سمعت أمره المهين حتى  نظرت اليه مصعوقة فاغرة شفتيها تخرج انفاسا مذهولة، ودون حتى أن تجادله  خرجت جريا تعد خطواتها لتصل الى الباب ومنه الى غرفتها لترتمي في سريرها  دافنة وجهها بين أغطيته باكية بكلِ مرارة غير آبهة أن يستمع الى بكائها  العالي فقد أهانها و ارتاح فما يضيرها أن يسمع بكائها أيضا...

وطبعا لم يهتم، أكثر من مرة تتجه الى غرفته بعينين متورمتين ثم تعود حتى  باتت المسافة بين غرفتيهما طريقا مدروسا لقدميها اليائستين وقلبها  المثقل...

وحين أشرق الصباح بخجلٍ رمادي شاحب سمعت أصواته وهو يتحرج خارج غرفتها، يأخذه حمامه، يتجه الى غرفته...

تكاد تراه أمام عينيها رغم الأبواب المغلقة، تنهدت يائسة ثم نهضت بجنون  من فراشها لتخلع القميص الأحمر الملعون و ترميه أرضا بكل يأس و ترتدي روبها  الأبيض الحريري الذي يسترها بالكامل، فهي لن تستطيع تحمل اذلالا كالليلة  الماضية ابدا

اتجهت الى غرفته بتردد فوجدت الباب مفتوحا، وقفت به مترددةٍ وكأنه نجح في  كسر مغوية الأمس الساحرة الواثقة من سحرها لتحل محلها شابة تتوق اليه  مرعوبة من أن يطردها مرة أخرى.

شاهدته يرتدي قميصه ناظرا بلا تعبير الى مرآته، كم هو أمير تماما كما تمنته، حتى في هذا المكان البسيط تتجلى جاذبيته.

التفت بعد أن انتهى ليفاجأ بها واقفة أمامه تنظر اليه شاردة في كل  تفصيلةٍ من تفاصيله، حتى أنها لم تنتبه اليه يحدق بها للحظات، وما أن التقت  عيناهما حتى رمشت بارتباك جديد عليها فأخفضت نظرها لاعنة نفسها أنها لم  تتطلع الى مرآتها قبل القدوم اليه. فأكيد أن عينيها متورمتين تحيط بهما  الهالات من عدم النوم. الكدمات ظاهرة على وجهها الشاحب قبل أن يتسنى لها أن  تخفيها، وشعرها م تلمسه فرشاة منذ الأمس، لابد أن منظرها عبارة عن كارثة  حقيقية الآن...

لم يتكلم وهو ينظر الى عينيها طويلا بلا تعبيير، فترددت تقول بخفوت (هل أنت ذاهب الى عملك؟)

أجاب بفتور بعد لحظات (نعم)

نعم!، فقط، دون أي كلمة ترضية، دون ضمة مواساة على الليلة الماضية، لو  يخبرها عذر، اي عذر تتحجج به لترضي قلبها المكسور و كرامتها الجريحة بعد كل  فترة البعد بينهما...

لكنه لم يحاول حتى و ظل واقفا متصلبا كتمثالٍ قاسٍ ينتظر ذهابها ليكمل ما يفعل دون رفقتها الغير مرغوب فيها...

ظلت واقفة مكانها، تتعثر و تلوي في أصابع قدميها مطرقة برأسها بينما  تعبث أصابعها المرتجفة بعقدة الروب، لماذا لازالت واقفة هنا؟ هي نفسها لا  تدري ماذا تنظر، المزيد من الإهانة ربما؟..

سمعت صوت نادر يقول بهدوء (سأغيب اليوم لوقتٍ متأخر، طبعا لا لزوم لأن أخبركِ أن الخروج من باب هذا البيت ممنوع، مفهوم؟)

رفعت نظرها المجهد اليه و همست ترمش بعدم فهم (لماذا، ممنوع خروجي؟).

استدار يجلس على السرير ليرتدي حذاؤه وهو يقول بصوتٍ ازدادت برودته  (الخروج هنا له حساب آخر، و السيدات المتزوجات لا يخرجن الا للضروريات فقط)

لم تفهم بعد، طبعا تفهم أن أمها لم تكن تطأ قدمها خارج البيت الا لشراء  أغراض البيت أثناء طفولتهم في الحي القديم، لكن هي حور؟، ماذا المفترض بها  أن تفعل؟، تنتظره الى أن يأتي؟..

همست بذلك بشرود فتطلع اليها و قال بمنتهى البرود الذي جمد قلبها (لا طبعا، لا تنتظريني، نامي مبكرا)

في لحظةٍ واحدة انتقل بروده اليها لترتدي قناعها الثلجي المعتادة عليه فقالت بتصلب (لا تقلق، لن أفعل)

أومأ لها مبتسما بسخرية لكمت قلبها وهي تراه يتابع ما يفعل دون أي اعتبار ٍ  لها، فقالت بتصلف (أريد معتز الآن وقبل أن تذهب الى العمل، وليكن في علمك،  هذه آخر مرة سيذهب فيها الى علية تلك).

ابتسم، دون أي أثرٍ للمرح على شفتيه وفي عينيه و انتظر لحظة ليجيب بكل  هدوء (بالنسبة للآن، لن أستطيع أن أحضره اليكِ لأنني سأتأخر، لذا ستنتظرين  الى أن تبعثه عليةٍ مع أحد رجالها حين تجحد الفرصة).

حاولت الجدال معه و قد ارتسمت العصبية على وجهها فرفع يده مسكتا إياها  وهو يقول بصرامةٍ وقد اشتد صوته (لا تجادلي، كان بإمكانك الرفض ليلة أمس  لكنك لم تفعلي، أما بالنسبة لعلية فهي سترى معتز كلما أرادت و هي أدرى  الناس في التعامل معه وقد تعلق بها، لذا لن أحرمه منها لمجرد أنكِ تصابين  بين الحين و الآخر برغبةٍ مهووسة في الاستئثار بأي شيء)

صرخت وقد انتابها الجنون من هولِ ما يقول (لكنه ابني و أنا).

قام من مكانه بحدةٍ و صرخ هو الأخر بصرامةٍ أفزعتها (انتهى الموضوع)

اتسعت عيناها و ارتعشت خوفا وهي تراه بمثل هذه الصرامة، رأتها من قبل عدة  مرات قليلة لكنها كانت كفيلة بإعلامها أن نادر حين يصل الى تلك النبرة فليس  من الحكمة استفزازه أكثر.

صمتت تبتعد عنه قليلا وقد اهتزت حدقتاها خوفا، لكنه لم يسمح لها  بالإبتعاد حين أمسك ذراعها يشدها اليه بعنف حتى ارتطمت به فقال مقربا وجهه  من وجهها (إن أردتِ الحق يا حور فأنا سأكون أكثر اطمئنانا عليه معها أكثر  منه عندك)

ظل ينظر الى عينيها المشتعلينِ بنارِ الكره له وهما تمتلئانِ في لحظةٍ  بالدموع حتى باتت الرؤية مشوشة لديها، لكن دون أن تضعف ملامحها المتصلبة  وهي رافعة رأسها اليه رغم ارتجاف جسدها.

ظل يتطلع الى بركتين الدموع وهما تشعانِ قهرا فقال يسأل بتهذيب (هل  يمكنك الاعتراض؟، مرة كاد معتز ان يفقد حياته نتيجة هفوة حمقاء من هفواتك،  فكيف ائتمنه معكِ بمفردكما؟)

ظلت صامتة تنظر اليه وقد انحدرت الدمعتانِ الثقيلتانِ على وجنتيها، ثم همست  بشفاهٍ ترتجف بينما العينان الدامعتانِ صلبتان (معتز ابني، و كل أم  تخطىء).

لم يرد عليها للحظات وهو يراقب اهتزازها من بين جمودها ليقول بعدها  بهدوء (و أنا وظيفتي أن أحميه، لذا لا تدفعيني كثيرا يا حور، أردت أن تأتِ  الى هنا وقد أتيتِ اذن ستبقين بشروطي، لا كلام آخر عندي لأقوله لكِ)

لم تستطع النطق بكلمةٍ وهي تشعر بنفسها مقهورة محطمة، لكنه لم يقبل أن يتركها بعد وهو ينظر الى عنق الروب المفتوح بحرية.

و أطال النظر اليها ثم قال بلامبالاة حطمتها تماما (ماعرضتِه على  بالأمس. نلته بالفعل منذ سنوات يا حور، لذا فكري جيدا في ما تملكين و يكون  ذا قيمة)

تتابع انحدار الدموع الناعمة بصمت و عينيها تتطلعانِ اليه بعذاب وهي تفكر  انها تستحق ذلك تماما، كان يجب ان تتوقع ذلك حين دخلت غرفته هذا الصباح.  مستجدية منه نظرة بعد ليلة الأمس التي قضت على كل ما تبقى من احترامها  لنفسها.

مد اصبعا ليمسح به خط الدموع من على وجنتها. ليقول بعد فترةٍ (إن كنتِ  تتألمين الآن يا حور، فثقي تماما أنكِ قد تتسببتِ في الاذى لكلِ من حولك  بأضعاف ما تشعرين به الآن لمجرد أن رغبة من رغباتك لم تحقق)

ثم دون كلمةٍ أخرى انصرف تاركا إياها واقفة تبكي في صمت، وكانت تعتقد أن دموعها قد نضبت كلها ليلة أمس، ...

وها هي بعد اسبوع كامل قد وصلت الى مرحلةٍ من انهيار الاعصاب لم تصل  اليها من قبل، وهي تعيش كل يومٍ على نفس المنوال حيث يقابلها نادر بصمتٍ لا  يقطعه سوى كلمة أو أخرى حين الضرورة القصوى، يخرج لعمله مبكرا مصطحبا معتز  معه ليتركه يلعب تحت أنظار المدعوة علية وحين تجرؤ على معارضته معذبة بيأس  تنال منه ما لم تناله من كلامٍ كالسهام النافذة...

حتى أنه أغلب الأيام كان ينام عند علية و بين أحضانها، وفي يومين فقط  أعاده نادر لينام بجوار حور، وكانت ليلتين كارثتين حيث ظل معتز يبكي طوال  الليل

، يرفض النظر الى حور حتى أنه لا يفهمها وهي تكلمه و تحاول الإشارة  بعشوائية دون جدوى الى أن صرخت فيه بهستيرية في النهاية، لحظتها دخل نادر  الى الغرفة بكلِ هدوءٍ ليبتسم لمعتز الذي احمر وجهه و تورم من شدة  البكاء...

ثم جذب حور من ذراعها الى خارج الغرفة وما أن خرج بها الى الرواق حتى  دفعها بقسوةٍ الى الجدار لينفجر فيها صارخا (إياكِ أن تصرخي به مرة أخرى،  إياك ِ)

صرخت بجنون بالرغم رعبها من غضبه، لكن شدة الارهاق جعلتها تصرخ بآخر ما كان  يجب أن تنطق به (وماذا فيها؟، إن كان لا يسمعني أصلااااا).

صمت تماما و صمتت هي وهي تدرك هول ما نطقت به أمام نادر بالذات و الذي  تحولت عيناه الى جمرتي نار، بينما هي متسعة العينين برعب وهي تراه يرفع يده  عاليا و كأنه سيصفعها، صرخت صرخة صغيرة وهي تغمض عينيها مرتجفة تنتظر  الضربة أن تهبط على وجنتها، لكنها انتفضت حين شعرت بقبضةٍ قوية ضربت الحائط  بجانب وجهها...

فتحت عينيها ترتعش بخوف وهي تنظر الى الكره المدفون في عمقِ عينيه، كره  أبٍ لشخصٍ أهان ابنه للتو و ضغط على اعاقته، متناسيا أنها أيضا أمه...

نظر الى عينيها وهو يقول بصوتٍ صارم خفت وهو يحوي بعض الألم (لكنه يخاف، تماما كما خفتِ أنتِ للتو)

ثم نفض يده عن ذراعها وكأنها ستلوثه و اتجه الى غرفتها ليحمل معتز الباكي بين أحضانه متجها به الى غرفته...

انزلقت على الحائط وهي مغمضة عينيها تبكي بغارة الى أن وصلت الى الأرض جالسة، تشهق وهي تشعر بألمٍ حادٍ يمزقها.

دقائق معدودة وهي على نفس جلستها الباكية المنهارة، لتدرك فجأة أن معتز توقف عن البكاء، و أنه لابد وأن يكون قد نام في أحضان نادر...

تذكرت مجريات أسبوعها كله في تلك اللحظات و هي جالسة تنظر إلى البحر و  المراكب الصغيرة المترامية على شاطئه، زادت من ضم ركبتيها الى صدرها بألم،  بدأت تتأكد من أنه يكرهها بالفعل...

لم يضعف مرة، ولم يستسلم لضعفِ النظرة التي يتأملها بها، وكأنه يخبراها  أنه يراها بكل ما فيها ليتأمل مواطن جمالها ثم يبتعد مخبرا إيها أنها  مواطنٌ لا تكفيه ولا تشبعه، فقط بعض النظرات التي يسلي بها رجولته ثم ينصرف  تاركا إياها الى وحدتها و غربتها في ذلك المنفى الشبيه ببيتهم القديم...

مالت برأسها تستند الى حافة النافذة المفتوحة ليطير الهواء خصلاتِ شعرها  و يرميها على صفحة وجهها فأغمضت عينيها دون أن تحاول حتى أن ترفع يدها و  تزيحها...

عادت الذكرى لتطير بها الى ليلةِ زفافها، ليلة نالت نجمة من نجوم السماء وفي لحظةٍ كالسهم بات اسمها مقترنا باسمه

ابتسمت للذكرى التي لا تملك سواها وهي تدخل غرفة الفندق حاملة طرفي ثوبها الأسطوري وكأنها تدوس بقدميها على سحابة وردية.

وكان هو صامتا معظم حفل الزفاف، لا يظهر عليه علامات البهجة التي تشتعل  من حوله و الجميع يتضاربون في زوبعة صارخة هي فرح حور رشوان، و الذي أصرت  على تكلفته بكل ما يمكن أن يتخيله انسان من كل أنواع البذخ و الترف.

و طبعا الحاج اسماعيل لم يتأخر وهو يلبي لقرة عينه ما طلبته، بالرغم من  أن نادر لم يكن يستطيع ماديا التكفل بهذا العبء المادي الضخم و اصر غاضبا  على أن يكون حفل الزفاف على قدر امكانياته المادية و كاد أن يشب خلافا  كبيرا بين الجميع لولا ان تمت تسوية الأمر، و استسلم نادر على مضض لذلك  الاستعراض الوهمي و الذي تكلف ما يكفي لعلاج عشرات الأطفال المرضى بأمراضٍ  خطيرة...

وحين أصبحا وحدهما استسلم نادر لقوقعة الصمت التي تحجب عنها أفكاره،  راقبته وهو يتحرك في الغرفة تاركا إياها خلفه بثوبِ زفافها، تلوي قماشه  الشفاف البراق بين أصابعها بتوتر، وهي تتحمل تبعات زواجهما السريع، فقد  سرقتها الفرحة دون أن تفكر فعليا من خطورة الزواج من شخصٍ تزوج بدافعٍ ليس  ما يتمناه حقا...

لعلها متأكدة من أنها ستفوز به كامله يوما، لكنها الآن وحدها معه وهو  بالكاد ينظر اليها بالرغم من تهذيبه الشديد، اقتربت ببطءٍ منه وهو يقف  محدقا الى أضواء المدينة بالأسفل في ذلك المنظر الخرافي الجمال المطلة عليه  غرفة الفندق الفخم...

كم كانت تشعر بالخجل وقتها، على الرغم من كلِ لوعها و خبثها الا أنها تتذكر  تماما ارتباكها في تلك اللحظة وهي تقف خلفه وتهمس بصوتٍ لا يسمع (نادر، هل  أنت غاضب مني؟).

التفت اليها ببطء لينظر الى جمالها الأخاذ دفعة واحدة وقد بدت كملكة  متوجة بكل هذا الكم من الماسات التي تزين ثوبها و ترحة زفافها، ثم رد عليها  بهدوء (لماذا تقولين ذلك؟)

رمشت بعينيها الحالمتين والكلمات تضيع منها في لحظةٍ لتعود اليها وهي تهمس  بصدقٍ ظهر واضحا في صوتها (لأنك، لأنك لم تكن تريد هذا الزواج، أنت فعلت  ذلك من أجلي فقط).

لن تنسى أبدا نظرة عينيه التي رقت و انبعث فيها حنانٌ اشتاقت اليه وهو  يهمس مداعبا (ما معنى أن تزوجتك من أجلك فقط؟، وهل يتزوج الرجل لأي سببٍ  آخر غير من سيتزوجها؟)

شعرت بالغباء وهي تخطىء تماما في التعبير بالرغم من أنها متأكدة أنه فهمها  تماما فأخفضت نظرها أرضا وهي تزداد ارتباكا وهمست بتلعثم (أنت، أنت تدرك،  ما أقصده).

لم تجرؤ على النظر اليه، ظلت تنظر أرضا تتأرجح في مكانها بتوتر و قد  أوشك قلبها على أن يقفز خارج ضلوعها، الى أن سمعته يقول بهدوء (فلنتفق على  أن ننسى هذا الأمر ونبدأ حياة جديدة، فما رأيك؟)

ودون ارادة منها أو تفكير همست وقد امتلأت عينيها بدموعٍ حقيقيةٍ دون تزييف (لكنك، لم تفكر يوما في الزواج، مني).

لم يرد عليها، مرت اللحظات البطيئة بينهما دون أن تستطيع النظر اليه و  صمته مزقها بشدةٍ، لكنها فجأة شعرت بيده تلمس ظهرها و تقربها منه الى أن  ضمها لصدره، فتوقفت أنفاسها من هولِ ما شعرت به فردت أصابعها المرتجفة على  صدره وهي لا تنظر لأبعد من عنقه السمراء، لم يلمسها أبدا طوال فترة عقد  القران التي مضت قبل أن تبدأ و بأمر من عاصم الا يتقابلا خلالها الى وقتِ  زفافهما، ونادر لم يعترض أبدا...

أغمضت عينيها وهي تشعر بشفتيه تلمسانِ جبهتها بكل نعومة فتتنهد متمنية  أن يبقيها في دفء قلبه طويلا، لكنه رفع رأسه ليقول برقة (لنبدأ حياة جديد،  اتفقنا؟)

شعرت أن نصل خنجرٍ حادٍ قد نفذ الى قلبها وهو لم يفني ما قالته، رغم علمها  به جيدا، لكنها كانت تتمنى لو أنكره، لكانت صدقته بكل جوارحها لكنه لم  يفعل، وكأنه لم يرد أن يبدأ حياته الجديدة معها على كذبة، تماما عكس ما  فعلت هي.

انحدرت دمعتانِ على وجنتيها دون أن تستطيع منعهما، فأمسك بذقنها يرفع  وجهها اليه و حين التقت أعينهما اغروقت عينيها أكثر بالدموع التي تتالت على  وجنتيها بصمت

ظل ينظر إلى دموعها الصامتة طويلا وكأنه يشعر بالذنب لأنها أبكاها رغما عنه  ليلة زفافهما، لذا همست وهي ترتجف باكية بين ذراعيه (أنا أحبك، أحببتك منذ  أول مرة رأيتك فيها).

انعقد حاجباه قليلا وهو ينظر اليها بدهشةٍ وهي تلقي بأسلحتها معترفة  بحبه، وحين لم يجد ما يرد به عليها طويلا، أجشت في البكاء بكل عنف، حاولت  الابتعاد عنه وهي تدفع صدره باكية

الا أنه لم يسمح لها وهو يقيدها بذراعيه بقوةٍ مكبلا مقاومتها بسهولةٍ  ليقول لها بصوتٍ عميق بعد انتخلت عن المقاومةِ دون البكاء (لنعطي أنفسنا  فرصة، الوقت كفيلٌ بذلك).

أغمضت عينيها تبكي دون توقف، حاول تهدئتها دون جدوى و نحيبها يتزايد الى  أن ضمها اليه بقوةٍ، وهو يلصق فكه بجبهتها هامسا (اريد لهذا الزواج ان  ينجح، ثقي في ذلك)

رفعت عينيها الباكيتين اليه وهي تنشج بأسى لكن أهدى قليلا ثم تنهدت بقوةٍ تبتلع باقي بكائها كالأطفال و أومأت برأسها بضعف

حينها شاهدت الحنان يتضاعف في عينيه أنهارا، وكم رغبت في تلك اللحظة في أن تجثو عند قدميه وتترجاه لكي يحبها...

ابتسمت له رغم الدموع بشكلٍ عصف بقلبه فانحنى ليقبل وجنتها بكل رفق و هو  يراها تلك الطفلة المهزوزة التي لحقت به لكل مكان و التي أصبحت الآن  زوجته.

وحين رفع رأسه قليلا نظر الى عينيها الجميلتين فسمرته طويلا في مكانه،  لينحني مرة أخرى و قد أسرت شفتيها المكتنزتين المرتجفتين عينيه، لتجذبه  اليهما بتصويرٍ بطىء، مسحورا بهما، ليقبلهما فجأة دون مقدمات وكأنه فقد  السيطرة على مقاومته أخيرا...

لازالت تتذكر تلك النار السائلة التي اندفعت في شرايينها كالحمم وهي  تتلقى قبلته العنيفة التي تناقضت مع الحنان الظاهر في عينيه منذ لحظات و  كأنه رجلا فقد صبره أخيرا ليشبع جوعا اليها.

رفع رأسه مدهوشا، ناظرا الى نظراتها التي تعمقت بعاطفةٍ مجنونةٍ، فهمس وكأنه لا يصدق عمق تلك المشاعر الخفية بينهما (حووور).

لينحني مرة اخرى بقوةٍ اشد ملتهما شفتيها النضرتين بكلِ شوق، لترتفع على  اطرافِ اصابعها متعلقةٍ بعنقه تبادله شوقه بكلِ جرأةٍ لم تكن تعلم أنها  تملكها من قبل ان تعرفه، تأوهت منتفضة وهي تشعر بيديه الدافئتين على بشرة  ظهرها الناعمة...

وحين رفعها بين ذراعيه متجها بها الى الفراش، علمت أنها لن تنسى أبدا  نظرته لها، لن تنسى أبدا تلك الليلة التي ذابا فيها عشقا بالرغم من كل  الحواجز التي تفصلهما، ولن تنسى مدى حنانه و رقته معها، كل همسةٍ همس بها  ملامسا عنقها، و أن عينيها هما أجمل ما رأى...

حينها همست لنفسها انه هو وحده من تريده، وهو سيغنيها عن باقي الناس لو اقتضى الأمر، و لو عاد الزمن لكانت ستعيد ما فعلت.

أغمضت عينيها بألم وهي تتذكر ليلة زفافها التي كانت ربما الليلة الصادقة  المشاعر الوحيدة بينهما، المرة الوحيدة التي شعرت أنها جميلة في عينيه،  ومن بعدها ضاع هذا الإحساس...

كم تتمنى أن تعود، كم تتمنى، وما أرادته منذ اسبوع هو تمنيا يائسا لتعيش ليلة كتلك الليلة التي احتواها فيها نادر بين ضلوعه.

أفاقت من ذكرياتها الحزينة على صوت جرس الباب القديم الصوت، لا بد أن  هذا هو رجل علية يعيد اليها معتز، مسحت دموعها بصمت وهي تتجه الى الباب  بحسرةٍ، حتى الطعام تبعثه علية مع رجلها الى حور كل يومٍ وكأنها عاجزة  تماما، لكنها بالفعل عاجزة عن فعل مثل هذه الأشياء و لم تكن تتخيل أن  الحياة في بيتٍ بمفردها يمكن أن تكون بمثل هذه الصعوبة.

فتحت الباب بتعب و تباطؤ، لتفاجأ بأن من أمامها هي علية بنفسها و اقفة ممسكة بمعتز بيد، وبحقيبة الطعام اليومية باليد الأخرى

لم تستطع حور حتى التظاهر بالابتسام وهي تعلم علم اليقين أن علية بدورها تعرف أنها مفروضة على حياة حور بدافعٍ من نادر نفسه

ابتسمت علية بهدوءٍ مستفزٍ قاتل وهي تقول (مساء الخير يا حور).

أغلقت هاتفها بعنف ثم رمته على السرير بجوارها وهي تبكي بشدةٍ، عاد  الهاتف ليرن من جديد فالتقطتته دون أن تنظر إلى الرقم وهي تقول بصوتٍ مختنق  من الدموع (نعم، ماذا تريد بعد؟) (آنسة رنيم؟)

وصلها هذا الصوت الهادىء الذي تعرفت اليه جيدا، فألجمتها الصدمة حتى أنها  لم تستطع الرد لعدة لحظات تفكر إن كانت قد أخطات الصوت، لابد و أن تكون قد  أخطأته إلى أن سمعت السؤال مرة أخرى (آنسة رنيم؟).

نعم، نعم أنه هو، هل يمكن.؟، أم أنهم يتصلون في حالة الرفض كذلك؟، همست بصوتٍ مرتجف و قلبها يخفق بعنف (نعم)

أجابها الصوت الهادىء المتزن و الذي لم تسمع صوتا في مثل عمقه من قبل (أنا المهندس عمر توفيق الذي أجرى معك المقابلة)

أغمضت عينيها وهي تبتهل بداخلها أن تكون قد نالت الوظيفة، و قلبها تزداد خفقاته بشكلٍ عنيف ثم همست (نعم، نعم سيد عمر، مرحبا بك).

وصلها صوته بعد لحظة صمت (أردت أن أخبرك أنه تم قبولك في الوظيفة، أن كنت لازلتِ مهتمة)

تم قبولها؟، حقا تم قبولها؟، يالهي، وإن كانت لاتزال مهتمة؟، هتفت تتلعثم  وهي غير مصدقة لما يجري (نعم، نعم، لازلت مهتمة جدا، هل تقصد أنه تم قبولي  تماما، أم أنني سأمر بمزيد من الإختبارات؟)

سكت لعدة لحظات غاص فيها قلبها ليقول بعدها بنبرةٍ متزنة ضمت بداخلها بعض الإستهزاء (لقد تم قبولك بالفعل يا آنسة رنيم، منذ مدة).

ابتلعت ريقها وشعرت بأنها في موقف مخزي تماما، العديد من المتقدمي  للوظائف يتم قبولهم بنائا على التوصيات المعروفة، فلماذا يشعرها أنها  مختلفة، حتى هي نفسها لم تصدق أن التوصية ستفلح مع حالتها المستعصيةهمست  بصوتها المعتاد على الترف و الدلال ذو النبرة الجذابة بما فيها من تقطع  فطري آسر (شكرا، وأنا، أنا حقا).

قاطعها عمر قائلا بكل حزم (ستبدأين من الغد في تمام الساعة السابعة، و  ستكونين متدربة في الفترة الأولى لدي، وأهم شيء عندي هو احترام المواعيد)

السابعة؟، السابعة؟ هل هناك أحياءا في مثل هذا الوقت على سطح الكوكب؟، همست  تتلعثم برقةٍ وهي لا تعلم إن كان قد بدا على صوتها الخوف أكثر مما ينبغي  (بالتأكيد، سأكون موجودة في تمام السابعة، لا مشكلة على الإطلاق).

قال بصوتٍ حازم جعلها تتسائل إن كان ساخرا أم لا (اذن أراكِ في الغد باذن الله، إلى اللقاء)

همست وهي تكاد تقبل الهاتف (الي اللقاء، إلى اللقاء، و، وشكرا، شكرا).

الا أن الهاتف كان قد أغلق من الطرف الآخر قبل أن يجيبها فنظرت إلى  الهاتف بغضب وهي تفكر، لا بد وأنني سأرى أياما لا ملامح لها معك يا عمر  توفيقلكنها لم تسمح للخوف أن يسلبها فرحتها وهي تضم الهاتف الى قلبها مغمضة  عينيها و قد انسابت دموعها من الفرحة تلك المرة، لكن للأسف فسوء الحظ لم  يدعها لتتهنى بفرحتها حين حل الصباح. وكم كانت متعثرة غير واعية بعد وهي  تستيقظ في السادسة حتى تتأكد من أنها لن تتأخر، بالفعل و المجهود العالي  وصلت أمام المصعد في تمام السابعة، لكن أي حظ الذي يجعل المصعد يتعطل في  هذا اليوم وهذا الوقت تحديدا و في شركة ٍ ضخمة كهذه؟، لم تصدق نفسها وهي  تتجه هرولة الى حارس الأمن لتسأله فأخبرها أنه متعطل منذ دقائق فقط و أنهم  في انتظار الصيانة، لم تنتبه لنظراته المتأملة لجمالها و التي تطاولت الى  ملابسها الملفتة للغاية، استدارت تسير على غير هدى وهي تنظر إلى السلم الذي  أخذ العاملون يصعدونه دون مناقشة، لا أمل لها اليوم، فهي لن تتحمل الصعود  ابدا، هل تحاول؟، أبدا لن تستطيع فالطابق من الأدوار العليا. اتجهت الى من  اختارو الانتظار على مقاعد البهو و رمت نفسها متبرمة، غير مدركة للناظرين  الى ساقيها الطويلتين و اللتين ظهرتا بوضوحٍ من تحت تنورتها الرمادية  القصيرة للغاية، بعد أن مددتهما أمامها بتذمر كالأطفالعلى الرغم من أنها  ترتدي جوارب سوداء سميكة التي تخفي الساق تماما، الا أنها حددت معالمها  الجذابة لتنتهى بداخل حذاء أسود عالي الساقين يصل الى ركبتيها وذو كعبٍ  عالٍ كالعامود الرفيع. ومر الوقت و لم يعمل المصعد الا بعد نصف ساعة،  فتنفست الصعداء وهي تظن أن النصف ساعة ليست بوقتٍ طويل كما كانت تتوقع. لكن  ما أن قابلها الوجه الصارم حتى ابتلعت ريقها بخوفٍ وهي تنظر بعينين  متسعتين الى عمر الذي وقف في الطابق المخصص للمهندسين وهو يتطلع الى ساعة  معصمه ثم اليها بنظرةٍ ذات مغزى، همست قبل أن يتكلم (لقد كان المصعد معطلا،  أنا هنا منذ السابعة).

قال دون أي مقدمات بصوتٍ جليدي وقد ملأ المكان بحجمه و حضوره الطاغي،  (ومع ذلك لقد صعد معظم العاملين على السلالم حرصا منهم على وقت العمل).

ابتلعت ريقها وهي تخفض نظرها الى الأرض بارتباك، فلم تره وهو يتطلع الى  ملابسها الملفتة بنظرة غضب وهو يفكر أنه لو اصطحبها معه يوما بهذا الشكل  الى موقع بناء حيث العمال من الرجال فهو على الأرجح لن يعود بها سليمة.  تنفس بنفاذ صبر وهو يشعر بالحنق لأنه وافق عليها قسرا بعد الحاح صاحب  الشركة و اصراره عليها نظرا للتوصية الذهبية من عاصم رشوان، كان من الفترض  أن تقوم السكرتيرة بالاتصال بها و تبليغها بأنه تم قبولها، الا أنه ولسببٍ  غير معلوم بالنسبة له قرر أن يقوم بالمهمة بنفسه، ويكاد يقسم أنها كانت  تبكي قبل أن تجيبه. مما جعله أكثر رقة مما كان ينتوى بعد أن فُرضت عليه  فرضارفعت عينيها المحرجتين اليه وهي تهمس ؛ (اعتذر، لن يتكرر مرة أخرى).

للمرة الثانية تاه قليلا في جرح شفتيها، لماذا تبدوانِ جذابتين به على  هذا الشكل؟، وكأنها تعمدت وشمهما لتزيد فتنتهماأبعد نظره بسرعةٍ عنها وهو  ينهر نفسه عن مثل ذلك التفكير الأحمق ثم قال بصرامة (حسنا، هيا لنبدأ،  ستكونين اليوم معي لحظة بلحظة).

أومأت برأسها بطاعةٍ، فتقدمها ليسير مغتاظا منها وهي تتبعه جريا طارقة  الأرض بكعبيها المزعجين، لقد تعبت، لقد تعبت للغاية وهي تريد أن تجلس حالا و  الا ستقع، منذ الصباح وهي تتبعه كظله و هي ترتدي ذلك الكعب الغبي، ساقها  تقتلها الما حتى أن عينيها دمعتا سرا من شدة الألم، لم تعلم أنها من الممكن  ان تتألم في العمل لهذه الدرجة، لكن على الرغم من ذلك فهي تشعر بداخلها  بسعادة غير مسبوقة هونت عليها الوجع قليلا، ما أن دخلا مكتبه ليريها بعض  التصاميم حتى ارتمت على الكرسي تتنهد بتعبٍ مغلقةٍ عينيها للحظة، الى أن  فوجئت به يقول؛ (هل تعبتِ؟).

فتحت عينيها بسرعة لتجده يتأملها و لم تفهم عينيه تماما، فقالت بسرعةٍ معتقدة أنه يتذمر منها (لا، لا، أبدا)

أرجع ظهره الى كرسي مكتبه ليقول بعد لحظة (حسنا لقد اكتفينا اليوم، و أعتقد  أنه قد أصبح لديك خلفية واضحة الآن عن طبيعة سير العمل هنا)

أومأت برأسها تقول مبتسمة بوداعة (نعم، بالتأكيد، شكرا لك).

أومأ برأسه قليلا ثم انحنى الى الأمام ليقول فجأة (بما أننا سنعمل سويا،  أحب أن أخبرك أن مسألة قبولك ليست بالضرورة شيء مفروغ منه، وما سيحدده هي  فترة التدريب التي ستقضيها في البداية، لذا، فأنا لن أقبل أي تهاون أي  تأخير أي تقصير، كما أنني سأنتظر أن تبذلي مجهو


تكملة الرواية بعد قليل 

تعليقات

التنقل السريع