رواية محسنين الغرام الفصل الثالث 3بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل الثالث 3بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل الثالث 3بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
#محسنين_الغرام
ـ ٣ ـ | كابوس ! |
••••••••••••••••
ـ وحشتيني يا نغم !!
شعرت بالهواء يتبدد من حولها حتى كادت أن تختنق، الكابوس قد عاد!! وعاد معه جحيمها من جديد.
أخذ رأسها يستدير رغم ثباته، ورؤيتها أصبحت مشوشة وهي تتفرس ملامحه التي لم تتغير عدا عن نحافةٍ بسيطة نحتت فكه وجعلت وجهه نحيلًا عما كان عليه.. و وشمًا !! لقد وشم عقربًا على جانب عنقه مما جعله يبدو أكثر إجرامًا، وجعلها تتساءل ، هل هو فخور بلقبه إلى هذا الحد ؟!
ـ إيه، هتفضلي تبصيلي كده كتير؟ مش هتقوليلي وانت كمان وحشتني يا حسن؟
بحثت عن كلمات ترقى لهذا الموقف، ربما عليها أن تقول شيئا الآن، وربما الصمت في الوقت الحالي هو أنسب الحلول ، وربما لو فرت من أمامه الآن لكان هذا أفضل وأفضل!
ـ مالك يا بت، مش مصدقة إنك شيفاني قدامك دلوقتي مش كده؟
جذب انتباهها ونظراتها إليه حيث كان يطالعها ببرود جعل دقات قلبها تتسارع، ثم رأت فكه المطبق يسترخي قليلا، وسرعان ما اتسعت ابتسامته وتحولت إلى ضحكات واقترب منها فجأة وعانقها بقوة وهو يقول:
ـ وحشتيني يا نغم، وحشتيني أوي.
ـ حسن..
قالتها بنبرة مبتورة ، حاولت قول شيء ما ولكن كأن الكلام قد تبخر فجأة، وظل تعبير وجهها المحايد الذي لا يفصح عن شيء. هل هي سعيدة، أم حزينة، أم مصدومة؟ كل ما يظهر عليها تعبير أجوف ليس له معنى أبدا.
فغرت فاها، ولكنها تلعثمت مجددا ولم تنجح في العثور على ما تقوله، فتنحنحت وهي تقتلع جسدها الهزيل من بين ذراعيه ثم قالت بنبرة مهزومة:
ـ حمدالله على السلامه!
قرص وجنتيها بحماس وهو يدلف للداخل ويبحث بعينيه عن أمه أثناء قوله:
ـ الله يسلمك يا نغم. أمي فين؟ أما.. ياام حسن…
نظرت حولها بضياع وتشتت وهي تبحث عنها كذلك وقالت بصوتٍ واهن:
ـ مش عارفه راحت فين ، أنا لسه صاحية حالا وكنت بدور عليها.
التفت يواجهها بعينيه وقال باستغراب:
ـ هتكون راحت فين بدري كده؟
ـ أكيد عند أي واحدة من الجيران.. هخرج أشوفها.
كانت بصدد الفرار من أمامه ولكنه قبض على معصمها بيده وهو يقول:
ـ تعالي هنا..
توقفت أمامه، لا يفصلهما سوى سنتيمترات بسيطة، وبسبب طوله ـ غير البشري تقريبا ـ قابلها صدره العريض المغطى بقميص أسود، كانت ترغب بشدة في الإمساك به من تلابيب هذا القميص وتجعيده ولكنها أجبن من أن تفعلها.
أمسك ذقنها وهو يرفعها لتنظر إليه وقال بنبرة مهزومة:
ـ وحشتيني.
وابتسم وهو يقترب من نغم التي كانت تتراجع للخلف بعفوية، وهي تبتلع ريقها بتأهب وخوف، ثم قال:
ـ مش مصدق إزاي التلت سنين دول فاتوا، أنا مت في التلت سنين دول تلاتين ألف موتة، كل ما كنت بتخيل إني بعيد وإنتِ لوحدك انتِ وأمي كانت النار بتمسك في قلبي..
كانت تقاتل لكي تُبقي جسدها تحت السيطرة، استنشقت نفسًا طويلا وعميقا، وهي تشعر بالبرودة تسري بأوصالها من فرط الخوف والرهبة، بينما هو ينظر إليها كما لو أنه يبحث عن ضالة له بوجهها ويقول:
ـ كل حبايبي و أصحابي اتخلوا عني يا نغم، اللي عملت عشانهم الواجب باعوني في شدتي، كان نفسي حد منهم يزورني عشان أوصيه عليكم وأقوله ياخد باله منكم ويشوف طلباتكم، لكن محدش زارني طول التلت سنين ولا سأل عني..
وألقى بحدة وهو يرمقها بنظرات برزت من قاع الجحيم:
ـ حتى انتِ.
هل هو مختل؟ أم أنه يعاني من اضطراب ما؟ ربما الخيار الثاني هو الأرجح لأنه من غير المنطقي أن يتبدل من حال لآخر في جزء من الثانية هكذا !!
ابتلعت ريقها بتوجس من نبرته التي تصيبها بالخوف وأردفت بصوت ضائع:
ـ مكنتش بقدر أسيب خالتي لوحدها..
ـ ليه؟ مالها أمي؟!
همت بالإجابة ولكن دخول خالتها هو من قاطعها…. وأنقذها كذلك.
ـ حسن!!!
هرول حسن صوب أمه واحتضنها بقوة وهو يقول:
ـ وحشتيني ياما.. وحشتيني يا أم حسن.
بَيْدَ أنها تكرهه، وتحقد عليه، وتمقت الوجود قربه، لكنها لم تفلح في منع دموعها التي تقاطرت من عينيها وهي تشاهده يعانق أمه ملتاعًا بعد طول فراق، وترى خالتها تستكين بين ذراعيه وكأنها عادت للحياة لتوها،
قبّل رأسها، وذراعيها، وعانقها مجددا وهو يقول :
ـ الأيام في بعدك مرة أوي ياما.. لولا دعواتك اللي كانت مصبراني مكنتش عارف هعيش ازاي.
تقهقرت نغم للوراء.. خطوة.. خطوتين.. حتى وطأت غرفتها بقدميها وأوصدت الباب من الداخل بإحكام، ثم زفرت وكأنها كانت تستولي على نصف هواء العالم برئتيها، وغمغمت بيأس:
ـ يا أيامك اللي مش فايتة يا نغم !!
•••••••••••••••••••••••••
استيقظ فريد عند الثامنة، فقد قرر منح رأسه ساعة راحة إضافية كمكافأة لأنها تعمل بجد واجتهاد هذه الفترة، عملا بمنطق كافيء نفسك بنفسك، ولم يكن يعرف أنه بعد هذه المكافأة البسيطة سيتكبد عناء ساعات طويلة بسبب ما ينتظره من مفاجآت.
رن هاتف البيت! وهذا نادرًا ما يحدث، ففي الواقع هو يحمل هاتفين، أحدهما مخصص للعمل ويحوي كل ما يخص العمل، والآخر هاتفه الشخصي والذي لا يستخدمه إلا يوم العطلة، أما الهاتف المنزلي فلا يقصده أحد إلا أفراد عائلته وفي حالات الطوارئ والضرورة القصوى فقط.
على الفور التقط سماعة الهاتف ليصله صوت السيدة نادية والتي كانت تقول بصوت مضطرب:
ـ فريد.. شفت اللي عمله عمر؟!!
ـ خير يا نادية هانم في إيه؟!!
كان يشعر بالقلق الحقيقي حيالها، ويتلهف لسماع إجابتها التي وصلته بعد زفرة طويلة مرتبكة:
ـ من فضلك افتح موبايلك حالا.. إحنا في كارثة.
التقط حاسوبه وهو لا يزال يتحدث معها، فتحه وقام بتحديث الأخبار فظهر أمامه فجأة مقطعا رائجا كان من نصيب عمر بين أحضان فتاة شقراء ويبدوان في حالة انسجام تام.. والفيديو مذيّل بتعليق مخزي..
" عمر مرسال، شقيق رجل الخير فريد مرسال بين أحضان فتاة تعمل نادلة في فندق أسباني! "
ـ مش ممكن!!
قالها فريد بذهول ولم يعقب، حيث كان يستمع لصوت نادية وهي تقول:
ـ اتفضحنا يا فريد، الغبي عمر حطنا في موقف زي الزفت ومش عارفه أتصرف إزاي، سالم لو عرف ممكن يموته!
ابتلع بضعة سُباب، وسحب نفسًا عميقًا لكي يحافظ على هدوئه أطول فترة ممكنة ، و مسح على وجهه بضيق وقال باستسلام:
ـ أكيد عرف..
وتأكيدا على ما قاله رن هاتفه الشخصي برقم والده، فعرفت ضحكة قصيرة متهكمة طريقها إلى شفتيه ، وأجاب الاتصال مستعدًا لسجال قوي مع والده فقال باقتضاب:
ـ صباح الخير.
ـ خير؟ هو اللي يعرفكوا يشوف خير؟؟ إنت نايم يا بيه وسيرتنا على كل لسان؟ شوف الحيوان أخوك ده فين وجيبهولي قدامي حالا.
تنهد فريد بضيق مردفًا:
ـ أنا بكلمه تليفونه مقفول، هحاول أتواصل مع الأوتيل اللي نازل فيه وهبلغ حضرتك لو وصلت لحاجه.
بدا من صوته أن ثمة ما قاله فريد قد أزعجه:
ـ هتحاول؟ بذمتك مش مكسوف من نفسك؟ إنت أخ كبير إنت؟؟ طب بأمارة ايه؟ أخوك يعمل مصيبة زي دي وانت مش داري بحاجة، طبعا وهو إنت هتاخد بالك من إيه ولا إيه؟ كفاية نسيم اللي مش مركز غير معاها، وكأن عمر ده مش أخوك هو كمان وله حق عليك.
كان فريد قد تسلل من سريره، وأغلق حاسوبه، وأنهى اتصال نادية، وخرج إلى الشرفة وهو يستمع لما يلقيه عليه والده بمنتهى الهدوء والثبات، لقد اعتاد ذلك الحديث وذلك الأسلوب، ويعرف أنه حتى لو أضاء أصابعه العشرة شمعًا سيظل مقصرًا في نظر والده.
ـ تهد الدنيا فوق دماغه وتجيبهولي أنا بقولك أهو، أنا مش عارف هلاقيها منين ولا منين.. خِلفه تكسف!
ألقاها وأغلق الخط، فأغلق فريد الهاتف بدوره لأنه يعرف أن هاتفه سيعج بالاتصالات حالا، سيتصل به الأقارب والأصدقاء والأحياء والأموات أيضا لكي يستفهموا ويستنكروا ويدينوا ويشجبوا ، وهو الآن ليس في مزاجٍ يسمح له بالتعاطي مع أيا منهم.
" خِلفة تكسف!! " ربما كانت هذه الكلمة هي أكثر ما استوقفه وجعله يشعر بالضيق، هل يشعر أبوه بالخزي فعلا منه؟ ليس وهو يحاول بأقصى استطاعته أن يجعل أباه فخورًا به على الدوام. وهو يبذل قصارى جهده لكي يكون نموذجا مشرفا يحتذى به. فمنذ أن مد جذوره في سوق العمل وهو يسعى جاهدا لكي يكون رائدا في مجاله، وقد حقق غايته بالفعل وأصبح من أشهر رجال الأعمال وعمره الآن لا يتجاوز الخامسة والثلاثين عاما. استطاع في هذه السن المبكرة أن يحفر اسمه بالذهب ويجعل الكل يتشرفون بمعرفته. هل وبعد ذلك كله يخبره أبوه بكل بساطة أنه ابن يجلب الخزي؟
ضحك ضحكة قصيرة، ساخرة، متهكمة من كل شيء حوله، وهو يبتلع تلك الغصة التي توقفت كما الشوكة بحلقه، وبرأسٍ لا يتعطل كان قد حسب تبعيات هذا الحدث وتوقع كيف ستسير مجريات الأمور..
لقد تم نشر الفيديو تحت عنوان " عمر مرسال شقيق رجل الخير فريد مرسال…. "
لماذا لم يتم وصفه بابن العائلة الراقية مثلا، أو ابن رجل الأعمال سالم مرسال ؟ أو ابن سيدة الأعمال نادية الصواف؟ لماذا شقيق رجل الخير بالتحديد ؟؟؟ إذًا المقصود هو رجل الخير نفسه وليس شقيقه ، لذا يمكنه الجزم بأن هناك مؤامرة قد حِيكت ضده، وبالطبع هذه مؤامرة مدبرة وممنهجة تزامنا مع اقتراب موعد افتتاح الملجأ الخاص به.
ولم تكن شكوكه تلك من فراغ، فهو يعمل في وسط محفوف بالدسائس، وأساليب المنافسة غير الشريفة، يعلم أن هناك الكثير ممن يريدون تشويه صورته وللأسف أخاه الأرعن و المستهتر كان الطُعم الذي اصطادوه به.
تنهد وسار نحو الحمام، غمر رأسه بالماء لدقيقتين، ثم أوصد الماء ودخل إلى كابينة الاستحمام ليتناول حمامه الصباحي، وبعد خمسة عشر دقيقة خرج من الحمام متجهًا نحو ماكينة صنع القهوة وأعد قدحًا من القهوة المضاعفة بدون سكر.. وفي نفس الأثناء كان قد حصل على رقم الاستقبال بالفندق الذي كان ينزل به عمر وقام بالاتصال بهم فأخبروه أنه لم يعد على قيد نظام الفندق ، مما أثار ريبته وجعل القليل المتبقي من ثباته يتهاوى، فزمجر ملقيًا بقدح قهوته على طول ذراعه فسقط على الأرض متناثرا.
ـــــــــــــــ
في دبي " لؤلؤة الخليج "
استيقظت چوليا للتو، وأعدت قهوتها الصباحية ثم جلست تتناولها ريثما تنتهي من تصفح الأخبار، فهي مولعة بمتابعة كل ما يخص الموضة والجمال، حتى أنها كثيرا ما تحضر أسابيع الموضة بباريس، ونظرًت لشغفها بالجمال فقد افتتحت أكبر صالون تجميل بالمدينة، وأسست لها اسمًا معروفًا يقصده مشاهير الخليج والعالم العربي.
وبينما هي تطالع الجديد فإذا بها تُصدر شهقة مصدومة وهي تشاهد فيديو شقيقها عمر ، ثم تضع كفها على فمها بغير تصديق وهي تتمتم:
ـ مش ممكن.. مستحيل يكون ده عمر!!
على الفور وضعت الحاسوب على الأريكة، ونهضت لتلتقط هاتفها ثم قامت بالاتصال بشقيقتها من فورها والتي أجابت بصوتٍ مهموم:
ـ صباح الخير يا چوليا.
ـ چيلان هو اللي أنا شفته ده حقيقي؟! ده عمر فعلا!!
ـ أيوة عمر ، أكيد مش AI يعني..
ألقتها چيلان بتهكم لتطلق الأخرى سبابًا بالإنجليزية وتابعت:
ـ و مامي عرفت؟؟
ـ بجد مش ناقصة غبائك يا چوليا ، أكيد كلنا عرفنا والبيت مقلوب دلوقتي والبشمهندس أخوكي مطلوب للعدالة حيا أو ميتا.
كانت تمسك بالهاتف بيد، وتتخصر بالأخرى، ثم رفعتها إلى شعرها لكي تعيد خصلاتها خلف أذنها وأردفت باهتمام:
ـ و أونكل سالم خد خبر باللي حصل؟ مش متخيلة بجد عمر وهو واقف قدامه زي الفار وبيتعاقب... so funny
وانفجرت ضاحكة مما أغضب الأخرى وجعلها تقول بانفعال حاد:
ـ تصدقي إنك تافهة، مش فارق معاكي شكلنا ولا شغلنا اللي هيتأثر، وثقة العملا اللي هنخسرها؟ مامي هيجرالها حاجة وضغطها واطي من ساعة ما شافت المصيبة اللي عملها الغبي عمر وانتِ واخده الأمور ببساطة وبتضحكي!
تحمحمت الأخرى بحرج قليلا وحاولت أن تنحي المزاح جانبًا وقالت بجدية:
ـ طيب وفريد؟؟ أكيد لو عرف هيتصرف..
تنهدت چيلان بحيرة وقالت:
ـ فريد مش فاضي أصلا لا لعمر ولا غيره ومش عارفه هنعمل إيه بس غالبًا مامي هتكلم شريف يتصرف .
عند ذكر اسمه اضطربت چوليا وشردت لثوان حتى استمعت لتكرار نداءات أختها فقالت:
ـ ok هكلمك تاني .. باي.
أنهت المكالمة وقامت بالاتصال برقم شريف الذي أجاب بعد لحظات وقال بصوتٍ ناعس:
ـ خير يا چوليا؟ في إيه عالصبح؟
ـ شريف إنت ليك علاقة باللي حصل لعمر؟
تساءلت والشك يخامرها ليجيبها هو قائلا ببساطة استفزتها:
ـ وأنا مالي ومال عمر؟ وإيه مصلحتي إني أورطه ورطة زي دي أصلا، إنتِ مجنونة؟
ـ بس انت سألتني عن الأوتيل اللي هينزل فيه عمر وكنت مهتم تعرف!
ـ وهل ده معناه إني ليا يد في اللي حصل يعني؟ أخوكي هو اللي عكاك ومنين ما يروح بيورط نفسه، ولو على موضوع إني سألتك عن الأوتيل لأني كنت ناوي استقبله عندي في الأوتيل بتاعي في ' فالنسيا ' لكن هو راح ' مدريد ' دي كل الحكاية.
لم تثق بما قاله تماما، فهي تعرفه جيدا وتعرف أنه يعد نفسه المنافس الأشرس لعائلة مرسال، ولكن في نفس الوقت هي لا تظنه حقيرا لهذا القدر الذي يسمح له باستغلال ابن عمته والإيقاع به في ذلك الشَّرَك من أجل إثارة البلبلة حول اسم عائلته فقط!
تنهدت وهي تتراجع عما قالته بنبرة لطيفة وقالت:
ـ sorry يا شريف أنا مش قصدي أتهمك ، أنا بس قلقانة على عمر بعد اللي عمله .
تنهد شريف وهو يجيبها بخفوت واستياء:
ـ بقولك ايه يا چوليا، أنا شايف إننا مش هينفع نكمل بطريقتك دي، دي مش أول مرة تتهميني فيها إني السبب في مشكلة حصلت لكم، وأنا بصراحه مليت ومعنديش استعداد أستحمل اتهاماتك دي تاني.
ـ لا لا لا.. بليز يا شريف أنا مش قصدي أتهمك أبدا صدقني، أرجوك متزعلش مني.
تنهد هو مطولا قاصدا رفع توترها لأعلى مستوياته، ثم أضاف بإيجاز:
ـ ok يا بيبي، عالعموم أنا هقفل دلوقتي ، أكلمك بعدين.
أنهى الاتصال سريعا، فتقدمت هي نحو النافذة الكبيرة التي تكشف مشهدًا رائعا لناطحات السحاب التي كشفت عن مدى عراقة الماضي الممزوج بروح المدينة العصرية.
انشغل عقلها عن الواقع المحيط بها وراحت تتذكر كل موقف جمعها بشريف، حب حياتها منذ كانت في الخامسة عشر من عمرها، حينها كان في الثامنة عشر ، كان يقضي معهم أوقاتا طويلة بحكم زيارات خالها المتكررة لوالدتها، تتذكر كم كان مولعًا بها وكيف أهداها أول قبلة في حياتها وقال لها ' أحبك ' .. تلك الكلمة التي كانت كافية لبدء إعجاب دام عشر سنوات كاملة، فها هي تختتم الخامسة وعشرين عاما ولا زالت كلما رأته ترى نفسها الطفلة التي ذابت لقوله ' أحبك ' .
كانت نزواتهم على مر السنين متضاربة، لقد خانها وهو في العشرين من عمره مع صديقته في الجامعة، ثم عادا بعد سنة ـ وتبادلا قبلةً هي الأشرس من نوعها ـ ، ثم انفصلا مجددا لأنه صرّح لها بإعجابه بصديقتها المقربة، فقررت أن تنتقم لكبريائها المجروح وواعدت شابًا تعرفت عليه عن طريق الإنترنت ولكن علاقتهما لم تتطور إلى علاقة حقيقية وانفصلا بعد شهر، لينتهي بها المطاف وقد سعت للعودة إلى شريف مجددا.. المسيطر الوحيد على عقلها.
وعلى مدار السنوات تبادلا المحبة المتذبذبة ذهابًا وإيابًا، وكأن إحدى قدميه في الداخل والأخرى في الخارج، محبة مرهقة استنزفت مخزون مشاعرها البِكر وجعلها تعاني مرضًا اسمه ' شريف الصواف ' .
مرضًا جعلها تسحق ذاتها وتهمش نفسها في حضرته، تتخلى هن كل ما يسعدها لأجله، تنسى احتياجاتها ورغباتها في سبيل تخمين احتياجاته ورغباته هو، وبمرور الوقت واصلت محو أجزاء من نفسها من أجل الحفاظ على علاقة لا جذور لها على أرض الواقع من الأساس.
تنهدت والحيرة تعيث فسادا برأسها، ثم جلست على حافة الأريكة والتقطت حاسوبها، تواصلت مع شركة الطيران وحجزت في أول رحلة جوية إلى مصر .
••••••••••••••••••••••
بعد مرور ساعة تقريبا قضاها في محاولات بائسة للوصول إلى عمر في أسبانيا، قرر أن يكتفي بهذا القدر من الوقت المهدور وينهض ليستعد وليغير ملابسه .
فبالتأكيد طالما أنه لا يزال يرتدي ملابس النوم ويلازم فراشه فلن يفلح في الوصول لشيء، هذا الأمر لن يتم إلا وهو يرتدي إحدى حلاته الفاخرة ماركة ' إمبوريو أرماني ' ويجلس فوق كرسي المكتب كما يتربع الملك فوق العرش، حينها فقط سيستطيع تحقيق غايته.
لذا نهض واستعد سريعا وغادر المنزل متجهًا إلى الشركة.
هو لا يعتقد بالمؤامرات الكونية، ولكن حين تنهمر زخات المطر فور خروجك من منزلك ويعقب ذلك طريقًا مسدودًا ممتلئًا بالسيارات المصفوفة عليه أن يقر أن الكون فعلا لا يحبه!
" يادي القرف "
سب بصوت مكتوم وهو ينظر إلى قطرات المطر المتساقطة فوق الزجاج، وإلى السماء المدججة بالغيوم، وقاده ذلك المشهد إلى ومضة من الذاكرة..
قبل خمسة عشرة عاما تقريبا..
كان شابا يافعا في مقتبل العشرينات، حينها لم يكن قد اشترى سيارة خاصة به بعد فكان يلجأ لاستعارة إحدى سيارات والده ، ولسوء حظه تعرض لإحدى المؤمرات الكونية التي تشبه هذه التي يتعرض لها الآن، حيث توقف في إشارة وفجأة هبت عاصفة يذكر أنها استمرت لساعتين تقريبا.
طبعا لم يكن الموقف في صالحه أبدا لأنه كان على موعد هو الأول من نوعه، فكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يواعد فيها إحداهن، ولأنه كان منذ صغره شابا ذو شرف و ذوق رفيع، يتصرف بنزاهة ونبل واحترام تجاه الآخرين، فكان يسعى جاهدا للوصول إلى المكان الذي سيلتقي فيه بالفتاة قبل أن تصل هي من باب اللباقة.
ولكن تلك العاصفة تسببت في تكدس السيارات وتوقف حركة المرور لما يقرب من ساعة تقريبا، فما كان منه إلا أن أرسل إليها رسالة يعتذر فيها عن تأخره وأرفق معها صورة للطريق المتوقف، ليتلقى بعدها رسالة منها تخبره أنها تقبل اعتذاره، ومرفق معها صورة لها وهي تجلس بجوار شابٍ آخر وترفع إصبعين كعلامة النصر.
تلك كانت الصفعة الأولى التي يتلقاها من إحداهن، والتي جعلته يعود أدراجه وهو يرغي ويزبد من فرط الغيظ، يومها اكتشف أنه يمتلك مخزونا من السُباب كان قد ادخره لوقت الحاجة، وبالفعل تم استهلاكه كاملا.
ومن باب أن " المصائب لا تأتي فرادى " اصطدم حين عودته بإحدى أعمدة الإنارة بسبب الرؤية الضبابية والسماء الغائمة وتعطلت السيارة، فاضطر آسفًا لإخبار والده الذي أخبره أنه بالقرب منه وسيمر به في خلال دقائق بعد أن أمطره بوابل من اللعنات،.
يذكر كيف كان يجلس بالمقعد المجاور لوالده كالطفل المذنب وهو يتلقى منه سيلًا من التوبيخات والإهانات التي لا يتحملها طفلاً في العاشرة، وليس شابا في العشرين من عمره ويملك كبرياءً وعزة نفس.
" فاشل، تافه ومفيش منك رجا، عاوز تبقا راجل إتعلم الرجولة الأول، غبي وملكش لزمة… "
كلمات لايزال صداها يتردد بأذنه حتى الآن. حتى بعد أن تخلى عن كل ما يملكه والده وبدأ ببناء نفسه بنفسه وأصبح له صيرورته ، حتى بعد أن أصبح رجلا كفؤا وموثوقا ومدعاةً للفخر، حتى بعد أن أصبح اللورد فريد مرسال، لم تزُل هذه الكلمات من قلبه أبدا وظلت محفورة ومترسخة في وجدانه إلى الآن.
صعقهُ صوت البوق الهادر الذي يصرخ خلفه بتفاني جعله يصحو من شروده، لينظر سريعا أمامه فيتفاجئ أنه هو من أصبح يعيق مرور السيارات من خلفه، فصب كامل تركيزه على الطريق أمامه وتحرك مسرعًا يسحق الطرقات أمامه ومعها الذكريات الرديئة.
بعد نصف ساعة تقريبا كان قد توقف أمام مقر الشركة، ترجّل وأمر عامل المرآب أن يقوم بغسلها وتعقيمها، ثم دلف المقر متجهمًا، يبتلع الطريق نحو مكتبه سريعا، فلحق به أيمن مدير أعماله والذي وضع على مكتبه مجلدًا وهو يقول:
ـ دي صور الترتيبات النهائية للدار، وده كشف فيه أسماء ٢٥٠ طفل هيتم كفالتهم كفالة كلية. وده كشف تاني بأسماء الأسر اللي مستنيين موافقة على طلب الكفالة الجزئية .
ألقى فريد نظرة شاملة سريعة على الملفات أمامه ثم نظر إلى أيمن بشرود على غير العادة وقال:
ـ خلص كل حاجة انتَ يا أيمن أنا بالي مشغول حبتين.
أومأ أيمن موافقا وقال:
ـ تحت أمرك فريد بيه.
رفع فريد سماعة هاتف مكتبه ليجري اتصالا ولكنه نادى أيمن مستوقفا إياه قبل أن يخرج من المكتب وقال:
ـ أيمن، متنساش تبلغ الموظفين وانتَ معاهم.. إن ميعاد الـ check up بكرة.
أومأ الآخر موافقًا وغادر المكتب متجهًا إلى مكتبه، ثم جمع الموظفين وقام بإبلاغهم بما قاله الرئيس التنفيذي:
ـ فريد بيه بلغني أبلغكم في check up بكرة..
لتعلو فورا صيحات الاستنكار وعدم الرضا بين الموظفين حيث قال أحدهم:
ـ أنا مش فاهم لزمته إيه، هو مش ال check up ده بيتعمل كل سنة؟ بعدين بقا كل ست شهور ، ودلوقتي بقا كل تلت شهور .. إحنا لو شغالين في منظمة اليونسكو مش هيعملوا فينا كده.
ضحك أيمن بخفوت وأجابه بقلة حيلة:
ـ اللي عنده شكوى أو اعتراض يتفضل.. مكتب فريد بيه موجود.
أجابته ' زينة ' موظفة قسم الاستقبال بتذمر :
ـ وبالنسبة لأن أنا لسه عاملة ال check up ده من شهرين بس قبل ما أشتغل هنا ؟؟
ـ كل الموظفين الجداد والقدام هيعملوه.. دي أوامر فريد بيه.
قلبت زينة عينيها بملل وهمست بحنق:
ـ إنسان مريض، وأنا اللي كنت مستغربة راجل زيه مش مرتبط ليه لحد دلوقتي ، ماهو مفيش واحدة طبيعية هتستحمل واحد مهووس زي ده… مستحيل.
زجرها أيمن باستياء حين قال:
ـ آنسة زينة الزمي حدودك وبلاش تجاوز، قولتلكم مكتب فريد بيه موجود اللي حابب يعترض يروحله، أنا ببلغكم الأوامر وبس.. اتفضلوا.
……
في مكتب فريد ، الذي كان يشاهد ما يحدث في مكتب مدير أعماله عبر الكاميرات المتصلة بحاسوبه، فهو لا يتابع ما يحدث إلا في تجمعات الموظفين حيث يدلي كل واحد منهم برأيه بمنتهى الصراحة، وبالرغم من أنه دومًا يستمع لكلمات مماثلة للتي سمعها الآن، ولكنه لا يغضب أو يستاء أبدا، فهو متصالح جدًا مع نفسه، ويعرف أنه يفرض على موظفيه قوانين صارمة، وأحيانا ما يقيدهم بأوامر إلزامية، لذا فهو يتوقع تذمرهم وضجرهم ، ولكن ما لم يتوقعه هو أن تنعته إحدى الموظفات بالمريض!
هو فعلا مريض ويعرف ذلك ، ولكنه لم يظن أن الأمر واضحًا بذلك القدر!
مهلا… هل قالت أيضا أنه مهووس ولا توجد من تتحمل هوسه لذلك هو لم يرتبط حتى الآن؟؟ هل هو لم يرتبط حتى الآن فعلا لأنه يخشى ألا تتحمله شريكة حياته ويشكل مرضه حائلا بينهما ؟ هل مرضه أصبح عائقا كبيرا لهذا الحد ؟؟!!
لقد أقنع نفسه من قبل أنه يؤجل الارتباط للوقت الذي يكون فيه مستعدًا، فالارتباط حاليا ليس من أولوياته، فكل ما يشغله الآن هو تحقيق الكثير والكثير من النجاحات، أما خطوة الارتباط فقد أرجأها للوقت المناسب، ولكن بعد أن سمع ما قالته موظفة الاستقبال عليه أن يكون أكثر شفافية مع ذاته..
ليس الوقت المناسب هو ما يمنعه، ولكن خوفه، هواجسه، وسواسه القهري..
الموظفة على صواب.. لا توجد من ستقبل بأفكاره الوسواسية وأفعالة القهرية، من ستقبل بإجراء فحصٍ دوريٍ كل ثلاثة شهور؟ أو تعقيم يديها عشرين مرة في الساعة مثلا؟ أو الاستحمام خمس مرات أو أكثر يوميا؟ من ستتحمل نفوره من الاحتكاك المباشر؟ قلقه من التلامس الجسدي؟ قرفه من العناق أو تبادل القبلات ؟؟ من ستتحمل وساوسه الجنسية الغير مقبولة حتى بالنسبة إليه؟
بالطبع لا توجد من ستقبل بهذا كله، لذا فقد اختصر الطريق على نفسه وصرف نظره وانتباهه عن فكرة الارتباط، فهو إنسان مريض فعلا، يعيش حياته بالإكراه، يقضي أيّامه مُتعبًا، مُثقلًا بالمسؤوليات، يعيش في دوامة أبدية من الوساوس والشكوك ليس للفرار منها من سبيل.
~~~~~~~~~~~
في مدريد..
بالتحديد في مطبخ أحد المطاعم التي تطل على ساحل المدينة.
كان عمر قد انتهى للتو من غسل الصحون وبعض مهام التنظيف الموكلة إليه ، وفي طريقه لرئيس العمال بالمطعم لكي يتقاضى أجره ويغادر،
نظر بيده بعدم رضا بعد أن وضع بها الرجل حفنة نقود أقل من المتفق عليه ونطق معترضا بالإسبانية:
ـ ولكننا اتفقنا على عشرة يورو لليوم الواحد، هذه خمسة فقط!!
هز الآخر رأسه مؤكدا ما قاله عمر وأضاف بامتعاض:
ـ هذا لأنك فاشل في غسل الصحون، ييدو أنك لست ناجحًا سوى في العهر، يمكنك العمل كعاهر للإيجار ربما حصلت على ما يكفيك.
طالعه عمر بصدمة، في البداية لم يعِ ما قاله ولكنه استوعب أن هذا الرجل قد علم بشأن تلك الليلة بطريقةٍ ما.
لم يرقه ما تفوه به مشكورا، لذا أمسك عمر بتلابيبه بانفعال وهو يقول:
ـ ماذا قلت يا وقح؟ من سيعمل عاهرًا للإيجار يا أخرق؟
وكان بصدد لكمه بقبضته بقوة ولكن الآخر تفاداه وهو يقول باستهجان:
ـ هل تظن أن هناك من لم يشاهد فضيحتك مع الشقراء؟ عفوا منك ولكنك اخترت أشهر ممثلة إباحية في إسبانيا، لذا فكل إسبانيا والدول المجاورة أيضا باتوا يعرفونك تمام المعرفة.
ألجمت الصدمة لسانه، وزم شفتيه بصمتٍ مطبق وكأنهما حيكتا معًا، وظل يطالع الرجال بذهول وهو يحاول استيعاب الكارثة التي حلت به!!
هل لاتويا قامت بتصويره ونشرت الفيديو ؟؟ هل هذا يعني أنه قد تم فضحه على مرأى ومسمع الجميع ؟ كم شخص رأى الفيديو؟ هل وصل لأهله في مصر؟ والده ؟ هل رآه سالم مرسال؟ سالم مرسال الأب الذي لا يتهاون في العقاب، الذي يتقفى الأخطاء والسقطات، ويتجاهل كل ما هو جيد، هل رآه وهو في أحضان أشهر ممثلة إباحية في أسبانيا؟ لا يمكنه التخيل لأن مجرد تخيل رد فعله يصيبه بالهلع،
أخذ عمر النقود وخرج، نظر إليها مجددا فهي لا تكفي ثمن شراء وجبة عشاء، وهو الذي كان ينوي استعمال الهاتف العمومي لمهاتفة شقيقه وإبلاغه بما حدث له، ليبقى بين خيارين كلاهما ضروري.. العشاء أم استخدام الهاتف؟
تقدم دون حيلة نحو كابينة الهاتف العمومي بالطريق وقام بطلب رقم أخيه بعد أن وضع يورو معدنيًا ووقف ينتظر الجواب بفارغ الصبر.
………..
بمكتب فريد…
لم تكن تلك عادته أن يستقبل مكالمات هاتفية من أرقام مجهولة، ولكن في ظل الظروف الراهنة فمن الضروري إجابة كل الاتصالات ربما يكون أحدها واردًا من عمر.
وبالفعل فور أن أجاب المكالمة استمع إلى صوت عمر الذي بدا مرهقًا وهو يقول:
ـ فريد.. أخيرااا..
وبعدها استمع إلى نشيجه وهو يقول:
ـ أنا اتبهدلت يا فريد، اتبهدلت واتسرقت وبنام في الشارع وبغسل أطباق، تخيل.. تخيل عمر مرسال بيغسل أطباق!!
ـ إنت فين يا عمر قلبنا الدنيا عليك..
ـ أنا لسه في مدريد بس قاعد في الشارع، اتسرقت وطردوني من الفندق .. حتى بطاقتي والفيزا والرخص.. كل حاجه اتسرقت!
ـ معقول؟؟ ومين اللي عمل فيك كده؟ وليه مكلمتنيش من ساعة ما ده حصل؟
ـ موبايلي كمان اتسرق، وهنا الناس بشعة مستحيل يساعدوا حد بدون مقابل ، اضطريت أغسل صحون في مطعم يومين عشان أقدر أستخدم التليفون العمومي وأكلمك..
ـ طيب متقلقش قوللي عنوانك بالتفصيل وأنا هتصرف..
كان عمر بصدد الإجابة ولكنه تراجع متسائلا بشك:
ـ فريد، هي الدنيا عندك تمام؟
ـ لأ طبعا مش تمام..
هبط قلبه أسفل قدميه بينما تابع فريد:
ـ الباشا ونادية هانم قلقانين عليك جداا..
ابتلع ريقه بخوف وتوجس وسأل مجددا:
ـ بيسألوا عليا ليه؟ حصل حاجه؟
ـ حاجة زي إيه؟
تأفف الآخر بضيق وقال:
ـ يا باي عليك يا فريد هو إنت هتنقطني بالكلام يا أخي..
ـ مالك يا عمر مرتبك ليه ، وبعدين ما انت اللي بتتكلم بالألغاز.
ـ ولا ألغاز ولا فوازير، الأمن عندك مستتب يعني ولا في حاجة حاصلة؟
تنهد فريد ثم قال بإيجاز:
ـ لا كله تمام متقلقش، اخلص انت بس وقوللي مكانك قبل الـ coins اللي معاك ما تخلص.
أملاه عمر العنوان بارتياح وأنهى الاتصال، بينما وضع فريد هاتفه على المكتب وهو يطالع والده الذي يجلس على المقعد أمامه يتابع المكالمة بصمت ثم قال:
ـ شكله عرف إنه متصور!
أطلق الآخر ضحكة متهكمة وهو ينزل ساقه من على الساق الأخرى، ويشبك أصابعه ببعضها ويقول بتركيز:
ـ المهم ميعرفش إننا عرفنا، عاوزك تديله الأمان على الآخر لحد ما أطوله بإيديا .
أومأ فريد بطاعة، فنهض سالم و دسّ كلتا يديه بجيبي بنطاله وهو يلقي نظرة شاملة على أرجاء المكان بتقييم، ثم استقر ناظريه على هذة اللوحة التي تعلو الجدار الخلفي لمكتب فريد، وطالعها مليا ثم نظر لابنه وقال:
ـ مش عارف أنا إيه اللي بيعجبك في الرسومات العفاريتي دي، أنا لما كنت في بداياتي زيك فضلت معلق صورة أبويا خمستاشر سنة في مكتبي، وكانت صورته بالجلابيه كمان، كنت بفتخر إني ابن عمدة كوم الأشراف، إنما إنت عندك تلت شركات طوال عراض إلا ما فيهم صورة ليا بضهري حتى.
ـ حضرتك في القلب يا باشا.
ألقاها فريد بجمود، ضاغطا شفتيه لتبتسم بزيف، فهز سالم رأسه بهدوء لأنه يعرف أنها مجاملة جوفاء خالية من الصدق، وقال مختصرا:
ـ على العموم كويس إني جيتلك النهارده، أصل أنا عارف لو مكنتش موجود وانت بتكلم أخوك كنت حكتله كل حاجة وقولتله يخليه عنده، حظه الاسود إنه اتصل وأنا قاعد.
لم يحرك فريد ساكنا وظل يطالع والده بهدوء صامت وهو يطرق الملفات أمامه بالقلم بملل فقال الآخر:
ـ على العموم أنا كلمت شريف يتصرف في الفيديو ده ويحاول يمسحه من على النت نهائي.. مش عايز حاجة زي دي تفضل وصمة عار في تاريخ عيلة مرسال طول العمر، وانت اعمل اتصالاتك وبكره بالكتير الكلب ده يكون قدامي، وبنبهك تاني.. ممنوع يعرف إني عرفت.
هز الآخر رأسه وقد وصل الملل لديه إلى أعلى مستوياته وزم شفتيه بصمتٍ ليصيح الآخر مستنكرا:
ـ مالك كده زي ما تكون مش طايقني!
ـ لا أبدا، العفو حضرتك..
تفرسّا بعضهما البعض بنظراتهما ، كما لو أنهما عاجزان عن فهم سبب تلك النظرات الباردة ، و راودهما السؤال نفسه في الوقت نفسه،
ـ تلك النظرات، هل هي قسوة أم كره ؟!
غادرت تنهيدة منهزمة شفتي سالم الذي غادر دون أن ينبس بحرف آخر، وترك ابنه شاردًا في أثره، يفكر في إجابة لسؤاله.
……………
يبدو أنها لن تغادر غرفتها قبل أن يغادر هو المنزل، فلقد حل المساء وهي لاتزال مختبأة بغرفتها، تكتفي بالذهاب عند باب الغرفة ثم تسترق السمع لتجده يتحدث مع أمه فتعود وتجلس على سريرها بترقب. فهي تشعر بالخطر في وجوده، تشعر بالضياع بالقرب منه، لا تدري هل ذلك بسبب نظراته التي تفترسها وتأكلها بنهم في كل مرة يراها بها وكأنه يثبت لها أنها ملكية خاصة له مثلا؟ أم بسبب ما تخفيه عنه وعن خالتها وهو أنها من وشت به وأدخلته السجن قبل ثلاث سنوات؟؟
شعرت بألم يغزو رأسها فأخذت تحك جبهتها بقوة كمن يدعك الفانوس السحري آملا أن يخرج منه المارد ويحقق لها ثلاث أمنيات. ولو حاولنا تخمين ماهية الأمنيات الثلاث فبالتأكيد ستتربع على عرشهم شفاء خالتها، ثم اختفاء حسن من حياتها وكأنه لم يكن، ثم امتلاكها المال.. لا ليس المال فحسب.. بل المال الوفير .
وبينما هي تنتظر خروج المارد انتزعها من شرودها صوت ارتطام الكرة بنافذة غرفتها، والذي أصدر طنينا في أذنيها واضطرابا في قلبها، لتلعن بين أنفاسها هؤلاء اليافعين عديمي التربية الذين دائما ما يلعبون الكرة أسفل نافذتها ودائما ما يقتلعونها من عالمها الافتراضي بسبب فوضاهم.
فتحت النافذة وهي تنوي زجرهم وربما استطاعت سبهم كما تفعل في سرها دومًا. لتجد الجار المبجل الشهير بالمعلم جمال عضمة، رئيس نقابة الجزارين بالحي، والذي يجلس أمام محل جزارته، ممسكًا بالمنشّة التراثية والتي ورثها غالبا عن جده السابع، ويلوح لها بها في مشهد رومانسي مبتذل، وعلى وجهه ابتسامة صفراء كشفت عن أنياب كأنياب دراكولا ، ثم راح يهندم شاربه المدبب الشبيه بقرنين خروف في طور البلوغ، وينفض مقدمة جلبابه الملطخ بالدم مما أثار تقززها وجعلها تلعن سلسال عائلته ـ في سرها طبعا ـ .
وفجأة.. انفرج الباب وظهر حسن الذي يقول بابتسامة :
ـ هتفضلي حابسة نفسك في الأوضة كده كتير؟
طالعته نغم بغضب وقالت بانفعال:
ـ هو انت داخل سويقة؟؟ مش تخبط قبل ما تدخل يا بني آدم ؟!!
ولكنه لم يعرها اهتمامًا فقد وقعت عيناه على النافذة خلفها، فمال برأسه قليلا فرأى المعلم جمال الهارب من أفلام الأبيض والأسود، وعلى وجهه ابتسامة عريضة لم يتخلَ عنها، وهو يثبت ناظريه على نافذة نغم ويشرأب برأسه لكي يراها.
اصطبغ وجه حسن بالغيظ وظهرت أمارات الغضب جلية عليه، مما جعل نغم تنقل عينيها بينه وبين النافذة حيث يوجد الجزار المعجب بخوف، وازدردت ريقها بخوف أكبر وهي تراه يقترب منها ويطالعها شزرًا، ثم أوصد النافذة بقوة وهو يقول بغضب:
ـ الشباك ده مفتوح ليه؟
همت بالإجابة ولكنه قاطعها مردفًا بحنق:
ـ وإيه اللي موقفك قصاد الراجل ده؟
رفعت حاجبًا واحدًا بتعجب، وقبل أن تنطق كان قد أمسك بمعصمها بقوة وهو يقول بتوعد:
ـ كان كله من ده وأنا مش موجود بقا، مش كده؟؟
دخلت عائشة التي ركضت نحوهما بلهفة وهي تقول:
ـ ايه اللي بتعمله ده يا حسن، سيب ايديها.
صاح بهما مستنكرًا وقد استعاد سطوته وهيمنته من جديد وقال بعد أن أصدر زئيرًا عاليًا :
ـ إيه اللي بعمله ولا إيه اللي بتعملوه انتوا؟؟ أنا عايز أفهم هي الليلة كانت ماشية ازاي بالظبط وأنا مش موجود ؟
كالعادة تقف أمامه صماء بكماء، خصوصا اليوم بعد أن تناست كيف يكون ترويض مجرم مثله، ولكن خالتها اقتربت منه ونزعت قبضته عن معصمها وهي تقف حائلا بينهما وتنظر بعيني ابنها بحزم وتقول:
ـ وانت مش موجود زي وانت موجود ايه اللي هيتغير يعني؟ سيب ايديها واختشي على دمك أحسن لك.
صك أسنانه ببعضها في غضب، وهو يحل وثاق معصمها من بين قبضته ويومئ بتوعد ويقول:
ـ ماشي، اللي تشوفوه، بس وكتاب الله لو شفت الشباك ده مفتوح تاني ما هيحصل طيب.
وخرج من الغرفة وهو يغمغم بانفعال:
ـ شكلكوا كده ناويين تخلوني أقضي عمري كله في السجن
صفق الباب خلفه فانفجرت نغم باكية وهي تقول محاولةً درء الاتهام عنها:
ـ والله يا خالتي ما كنت واقفة قصاده، أنا بس….
قاطعتها عائشة وهي تضمها إليها بحنان وتقول:
ـ عارفة يا بنتي، بس اسكتي متعيطيش.. حقك عليا أنا.
بكت نغم كما لم تبكِ منذ ثلاثة سنوات، يبدو أن مجيئه سيصحب معه الكثير من البكاء والقهر.. وبينما هي تبكي قاطع نحيبها صوت حسن الجهور وهو يتشاجر في الخارج مع الجزار المعجب، وعلى الأغلب قد تهجم عليه بالضرب مما جعل الجزار يثور كالثور الهائج ويشهر ساطوره معلنا عن استعداده لخوض نزال محسوم لصالحه، ثم أمر صبيانه بالإمساك بحسن الذي ظل في حالة كر وفر معهم.
إلى أن هرولت نغم إلى الجزار، ووقفت تستجديه وتتحدث معه لدقائق، فأعلن بعدها الجزار انتهاء العراك وطلب من صبيانه الكف عن ملاحقة حسن وهو يقول بتفاخر:
ـ سيبوه يا رجالة، الآنسة نغم اترجتني أسامحه وأنا عشانها أعمل أي حاجه.
ونظر إليها وهو يمسح على شاربه المدبب ويقول:
ـ انتِ تؤمري أمر يا ست البنات.
أجبرت شفتيها على الابتسام وشكرته، ثم عادت سريعا لتطمئن على خالتها التي انخفض ضغطها وكادت تفقد وعيها خوفا على ابنها من بطش الجزار ، وجلست بجوارها وهي تقول:
ـ خلاص يا خالتي روقي، أنا استسمحت المعلم جمال وهو قاللي إن المشكلة اتحلت خلاص متخافيش.
ـ مفيش حاجه اتحلت يا نغم طول ما حسن بيدور على المشااكل بملقاط، أنا على قد ما كنت حزينة على رميته في السجن على قد ما كنت مرتاحة لأني عارفه إنه هناك في أمان، على يدك أهو من أول يوم خرج فيه من السجن عمل مشكلة مع الجزار، مش هيرتاح إلا لما يموتني بقهرتي عليه.
في الخلفية برز صوت حسن الذي ظهر فجأة من العدم وهو يقول بصوتٍ هادر يملؤه التهكم:
ـ متقلقيش، طول ما انتوا بتعاندوني هتشوفوا من ده كتير، يارب بس يا نغم هانم تكوني مبسوطة باللي جرى، المرة اللي فاتت اتسجنت تلت سنين في عيل خيخة ميسواش كان عاوز يخطبك قال، ومعنديش مانع اتسجن قدهم في سيد قشطه اللي بره ده.. معنديش مانع اقضي عمري كله في السجن بس تبقي عارفة إنك مش هتكوني لحد غيري أبدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد نوبة انهيار استغرقت حوالي ساعة كاملة قررت أن تستسلم وتغمض عينيها علها تحصل على الراحة ولو للقليل من الوقت ، فأغمضت عيناها لتهاجمها كلماته المسمومة.. كلماته التي يظل يلقيها على مسامعها لكي تعتادها وتقتنع بها وتتخذها أمرًا مسلمًا به، كأنه يقول أنه لن يتركها وأنها لن تصبح لغيره، وأنه مستعد لقتل رجال الأرض والكواكب المجاورة أيضا في سبيل الحفاظ على ملكيته لها، وهذا أكثر ما أثار قرفها واستياءها، فهي لن تكون زوجة لذلك المجرم أبدا، لن تحكم على نفسها بالموت البطيء مع إنسان لا يمت للإنسانية بِصلة، إنسان لا يعترف لا بالقانون ولا بالمنطق ولا بالعاطفة، رجل مليء بالميول الانتقامية الحاقدة.
يقولون أن الخيال الجيد لا يستخدم للهروب من الواقع فحسب، وإنما لخلقه أيضا.
لذا سبحت بخيالها بعيدا، تخلق لها واقعا بعيدا عن كل السوء الذي يحيط بها، حياة أخرى تستحقها، تليق بها كفتاة محبة للحياة وللسلام، حياة تليق بفراشة مثلها تتنقل فيها من الترف إلى الأمل، ومن الاحتواء إلى الحب..
وبينما هي تسافر وتتنقل بين عوالمها الخيالية انتزعها حسن منها بقوة إذ فتح الباب بغتةً ودخل وهو يترنح يمينًا ويسارًا ويقترب من سريرها وهو يقول:
ـ نغم.. أنا جاي أتكلم معاكي..
فتحت جفنيها مصعوقةً، رمشت بخوف، وأبصرت الإجابة نصب عينيها، هذا الكابوس الذي لا تجد له اسما مناسبا أكثر من ذلك يقتحم عليها الغرفة وهو ثملٌ وفي حالة يرثى لها.
انزوت في ركن فوق السرير والتصقت بالجدار بالخوف، وهي تراقبه يتقدم منها وهو يتراقص بغير ثبات ويهذي بكلمات مبهمة، ثم استلقى فوق فراشها فجأة ساكنًا دون حراك فشعرت بقلبها وقد تجمد أو توقف عن النبض وهي ترمقه يستقر بجوارها كالميت تماما.
تسللت من جواره بهدوء شديد وما إن وطأت قدمها الأرض حتى تفاجئت به يحيط خصرها من الخلف بقوة وهو يميل عليها ويهمس بشيء ما، وقبل أن تصرخ كان قد كمم فمها بكفه وهو يقول:
ـ متخافيش.. أنا مش هعضك.
حاولت مقاومته بكل ما تملك من شراسة، فكانت تركل بقدميها وهي تحاول الفرار من بين قبضته ولكنه كان ممسكًا بها بإحكام بسبب فارق الطول بينهما وتفوقه الجسماني عليها، ثم مال عليها وهو يهمس بكلمات لم تستطع تمييز سوى القليل منها:
ـ اهدي وأنا هسيبك.
أومأت بشدة وهي تذرف الدموع بخوف شديد، فنزع قبضته عن خصرها ولكنه ظل مكممًا فمها بقوة، فاستدارت لتواجهه بخوف فإذ به يرمقها بنظرة مرتخية بعض الشيء، ويقربها منه أكثر وهو يقول بوله سافر:
ـ أنا بحبك يا نغم، ليه مش حاسة بيا.
تهاوت دمعاتها بغزارة فأمسك بوجهها بين كفيه وهو يقترب منها بشدة ويلقي عليها لعنة أنستها كيف تصرخ حتى وجعلتها تنظر إليه برعب، قبل أن يميل نحوها ويحاول تقبيلها، حينها تناولت بيدها قنينة الماء الزجاجية المستندة على الطاولة من خلفها وكسرتها فوق رأسه بكل ما أوتيت من قوة، وخرجت تركض خارج غرفتها وخارج البيت بالكامل…
#يتبع…
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق