القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام الفصل الرابع 4بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 


رواية محسنين الغرام الفصل الرابع 4بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات 





رواية محسنين الغرام الفصل الرابع 4بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات 




#محسنين_الغرام


ـ ٤ ـ  ~ فوق مستوى الشبهات ~


ـــــــــــــــــــــ


ظلت تركض دون انقطاع، تركض دون وجهة، دون هدف، دون وعي، كل ما تركز على فعله الآن هو أن تبتعد قدر المستطاع، ولو بالإمكان أن تركض حتى تخرج من المدينة بأكملها ستفعل، المهم أن تختفي وألا يحصل عليها مجددا. 


لم تنظر خلفها من شدة الخوف، تفر كما تفر من الموت، إنه الموت فعلا.. هو بالنسبة إليها الموت المحقق!


توقفت للحظات.. تشعر بقلبها سينفجر ويخرج من صدرها من شدة التعب، وأخذت تلهث كمن قطع أميالا طويلة، وهي تمسك برأسها بكلتا يديها وتنظر حولها بضياع، لا تستوعب أين هي، لا تعرف كم كيلومترا قطعت، كل ما تعرفه أنها لم تبتعد بالقدر الكافي.


لفت حول نفسها بارتياب وهي لا تزال تضغط على رأسها بيديها وهي تشعر أن عقلها على وشك القفز ، وبنظرة زائغة التقطت كل السواد المحيط بها، فتمكنت من تقدير الوقت الحالي، الساعة الآن الرابعة فجرا تقريبا، بما أنها تستمع لقرآن الفجر المنبعث من بعيد والواضح جليًا بسبب السكون التام.


انتقلت يديها من على جانبي رأسها إلى صدرها.. حيث موضع قلبها بالتحديد.. تضغطه بقوة وهي تحاول كبح ذلك الألم الذي نتج عن الركض الشبه متواصل لحوالي ساعتين أو أكثر..


رأت على مدى بصرها كلبان فواصلت الركض، ولكن الكلبان تتبعاها ولحقا بها، فواصلت الركض بسرعة أعلى من السابقة، حتى فوجئت بنفسها في مكان واسع، مظلم، هاديء تماما.. على ما يبدو أنه متنزه مهمل، فاقتربت بخطى حثيثة تتفقد المكان بعينيها المذعورتين الباكيتين بخوف، تمسح الأرجاء بحذر قبل أن تدخل، ولما أيقنت أن المكان فارغ تماما لاذت بشجرة كثيفة الأوراق واختبأت أسفلها.


أحاطت جسدها الضئيل بذراعيها وهي تكتم صوت شهقاتها بخوف، تريد الانفجار والصراخ بأعلى صوت لديها ولكنها تخشى أن تلفت الانتباه إليها، فكتمت نحيبها مما آلمها أكثر وجعلها تشعر بأن قلبها على وشك التوقف.


تضرعت إلى الله كثيرا أن يساعدها، وبداخلها تشعر بعدم الاستحقاق، تخشى أن تقف ذنوبها حائلا بينها وبين دعواتها فيكون الهلاك والضياع مصيرها للأبد.


ولما أحست بهدوء الضجيج بقلبها قليلا ركنت رأسها إلى الشجرة من خلفها وهي تحملق في الفراغ من حولها بخوف، تستأنس قليلا بصوت القرآن المنبعث من المسجد البعيد، وتطمئن نفسها أنها لحظات وسيتلاشى الظلام.


ساورتها مخاوف غير مسبوقة، كل الهواجس والأفكار الشيطانية المرعبة اقتحمت مخيلتها الآن، قلبها ينتفض بصدرها ويعج بالرعب، وصوت خافت في رأسها يخبرها أنه يلاحقها الآن وسيعثر عليها، تلك الشجرة الضخمة كثيفة الأوراق لن تحميها، ربما عليها الاختباء بكهف، وربما لو ألقت بنفسها من فوق ذلك الجسر وسقطت بالمياه عندها ستموت وترتاح من شره للأبد.


عاد نفس الصوت ليخبرها من جديد.. ربما نَدِم على ما فعله، لقد كان ثملا وهي تعرف ذلك، وبالتأكيد قد وعى من ثمالته وعاد لوعيه وأدرك ما كان بصدد فعله ، فبالتالي سيبحث عنها لمراضاتها وإقناعها بالعودة معه للبيت، فهل ستقبل؟


بكل بساطة وجدت رأسها تهتز رفضًا قاطعًا ، لن تعود إلى جحيمه.. حتى لو ندم واعتذر.. لأنه سيبقى حسن العقرب.. حتى لو صلى وصام أمامها ـ وهذا لن يحدث أبدا ـ سيبقى حسن العقرب.


حسن العقرب الذي بتر ذكر ذلك الشاب الذي تقدم لخطبتها قبل سنوات، ومن يومها وأصبحت نغم منطقة محظورة… لا يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منها أو التقدم لخطبتها، لأنه أعلن بعلو صوته أن نغم تخصه وحده ومن سيقترب منها سيلقى حتفه.. وحُرمت نغم أن تعيش حياة طبيعية كأي فتاة في سنها بسببه وبسبب تملكه الإجرامي، وحبه المميت.


 هو حسن نفسه الذي كان يستعرض عضلاته أمام الجزار ولولا أن الكثرة تغلب الشجاعة لكان الجزار لَقِيَ نفس مصير ذلك الشاب.


وهو حسن نفسه الذي قطع لسان صديقه الذي نعته بابن الحرام.. وهو حسن الذي فعل وفعل وفعل… وسيظل حسن إلى أن يفنى عمره.. حسن سيبقى حسن مهما حدث وهي تقسم بذلك.


والآن.. وبعد أن كُتبت لها النجاة من بطشه، وبعد أن ساعدها القدر لكي تهرب من قبضته الملوثة، هل ستعود لأنه ندم؟ بالتأكيد لا.


ـ وخالتي!


قالتها وأسقطت رأسها بانهزام فوق ركبتيها المضمومتين لصدرها، وأخذت تبكي بانفطار وتردد:

ـ خالتي اللي ملهاش غيري، هتعمل إيه لوحدها وهي في الحالة دي!


ثمة شعور بالذنب يقيدها، وربما المسؤولية، وربما الحب والتعلق، تبًا لتلك الأصفاد التي اجتمعت على هذه العزلاء التي لا تملك سوى حطام مشاعر وبقايا قلب مكلوم.


تنهدت وهي لازالت تبكي، وبينما هي تبكي وتنتحب استمعت إلى صوت غريب، على الأرجح صوت خرير مياه.. 


كتمت أنفاسها المتهدجة للحظات لكي تستمع لمصدر الصوت بوضوح لتتفاجئ أنه ليس سوى رجلا لجأ لشجرتها لكي يقضي حاجته خلفها.


كانت عينيها على وشك مغادرة محجريها من فرط الصدمة، وتحركت بعفوية في مكانها ولكنها تجمدت عندما استمعت لصوته وهو يتساءل:

ـ مين ؟!


كتمت أنفاسها مجددا ولكن هذه المرة ودموعها تتهاوى، ووضعت يديها على فمها تكتم صوت شهقاتها ونحيبها لكي لا يستدل على مكانها، إلى أن استمعت إلى صوت خطواته وهو يبتعد فأطلقت زفيرا طويلا كانت تكتمه وهي تنظر نحوه وهو يبتعد، ثم أخذت تتنفس محاولةً التهدئة من روعها وتنظيم أنفاسها ودقات قلبها المضطربة.


وفجأة رأت ظلا أسودا على الأرض يزداد حجمه فنظرت خلفها بهلع لتصعق عندما رأته وقد عاد ويقف الآن فوق رأسها تماما، مكشرًا عن أنيابه بابتسامة مخيفة، فصرخت وهي تهب واقفة بفزع بينما هو يقترب منها ويحاول اللحاق بها ولكن خطواته كانت ضيقة نظرا لتلك الإعاقة بقدمه والتي منعته من الركض.


ركضت وهي تصرخ طالبةً الإغاثة ، وبين الفينة والأخرى تلقي نظرة خلفها فتجده لايزال يلاحقها، ففقدت آخر ذرات ثباتها، وانتابتها حالة من الصراخ الهيستيري الذي لازم بكائها. وبينما هي تحدق خلفها بخوف شعرت بجسدها وقد ارتطم بشيءٍ ما وبعدها فقدت الوعي.


ــــــــــــــــــــــــــــــ


في صباح اليوم التالي ••


توقف السائق أمام مدخل فيلا سالم مرسال ، وترجل من السيارة مسرعا لكي يفتح الباب لكي تنزل چوليا التي اصطحبها من المطار فور وصولها مصر.


نزلت چوليا وهي تحمل حقيبة يدها، ومعها حقيبة متوسطة الحجم اعتادت أن تملئها بالهدايا لأختها چيلان ونسيم ، وعادةً ما تكون مستحضرات تجميل من العلامة التجارية الخاصة بها.


وبينما هي تتقدم للداخل لوّحت بيدها لنسيم التي تقف بشرفة غرفتها كالعادة وتراقبها بغيرة قهرية، ثم دخلت غرفتها وأغلقت الباب.


دخلت چوليا الفيلا، توجهت نحو غرفة والدتها، ودخلت لتجدها ممددة فوق فراشها بتعب وهي التي قليلا ما تكون بتلك الحالة.


مسها القلق حيالها، واقتربت فورا منها، أسندت الحقيبتين أرضًا وجلست بجوار نادية على طرف الفراش وهي تقول:

ـ سلامتك يا مامي ألف سلامة.


نظرت إليها نادية بوهن وقالت:

ـ حمدالله على سلامتك يا چوليا، جيتي ليه ده انتِ لسه مسافرة بقالك أسبوع بس.


ـ مقدرتش أعرف إنك تعبانة ومكونش جنبك في الظروف دي.


أومأت الأم باستياء وعجز وهي تقول:

ـ شفتي اللي عمله عمر يا چوليا؟ أنا مش متخيلة الناس بيقولوا علينا إيه دلوقتي، ولا الصفقة اللي خلاص كانت هتتم .. مين اللي لسه هيغامر باسمه وفلوسه ويرميهم في شركة صاحبها واحد له فضايح زي دي.


مسحت چوليا على ظهر كف والدتها وهي تقول:

ـ متقلقيش يا مامي كل المستثمرين والعملا بتوعنا عارفين إن حضرتك رئيس مجلس إدارة الشركة وكل كبيرة وصغيرة بايديكي انتِ، عمر ما هو إلا إسم بس.. وبعدين يا مامي يا حبيبتي ما احنا قولنالك كتير بلاش تربطي عمر بشغلك ولا بالشركة نهائي لأنه لا يعتمد عليه .


طالعتها الأخرى بحدة وقالت:

ـ ولحد إمتى هنفضل نقول لا يعتمد عليه؟ أخوكي مش ولد صغير، ده عنده ٢٥ سنه.. فريد وهو في سنه كان مأسس شركته لوحده وكان له تُقل في السوق، ينقص إيه هو عن فريد عشان ميبقالوش بيزنس وكرير خاص بيه..


انفرج الباب ودخلت چيلان التي كانت بصدد الذهاب للعمل، عانقت أختها ورحبت بها، ثم طالعت أمها بنظرة جافة وقالت:

ـ عمر لو عاش عمرين فوق عمره مش هيعرف يكون فريد مرسال.


قابلت الأخرى ما قالته بنظرات متجهمة، وألقت إليها بحدة:

ـ نفسي أعرف فريد فيه إيه مميز عشان يخليكي مهووسة بيه للدرجة دي.


واحتدت نظراتها أكثر وهي تشير إليها باستياء وتقول:

ـ يا بنتي فوقي لنفسك واعرفي قيمتك بقا، انتِ چيلان عبدالعزيز.. بنت عبدالعزيز الجاسم أشهر من نار على علم في دول الخليج كلها، يطلع مين فريد مرسال اللي مخليكي مش عارفة قدرك ولا قيمتك قدامه ده؟!!


وكأنها قد داست على الجرح، فجعلت چوليا تشرد بما قالته وهي تتخيل معاملة شريف لها، وكيف تشعر أمامه بالاستحقاق المتدني، كيف تشعر قربه بالضآلة بالرغم من أنها ليست قليلة، فهي صاحبة اسم لامع ومرموق ومشهور، لا تحتاج للمال ولا للشهرة ولا الاهتمام من أحد، عدا هو.. تشعر بالقرب منه أنها تفقد ذاتها، تحتاجه هو لكي يحدد ملامحها، ويشعرها بهويتها، تنتظر كلماته اللطيفة لكي تشع بهجةً، تنتظر وجوده قربها لكي تتنفس..


قاطع شرودها حديث والدتها وشقيقتها الذي احتدم وانتهى بخلاف كالعادة، تبعه مغادرة چيلان وهي حانقة، ثم تنهيدة مستاءة من نادية التي غمغمت: 

ـ غبية.. مش عارفه قيمة نفسها..


ونظرت إلى چوليا وهي تقول بانفعال:

ـ ياما اتحايلت عليها تيجي تشتغل معايا في شركتي، على الأقل معايا هتكون الكل في الكل، بدل ما هي حتة موظفة لا راحت ولا جت عند فريد، ويا ريت شايفها ولا معبرها من الأساس . أو حتى تسافر دبي معاكي وتعمل لها بيزنس خاص بيها زيك، بس مفيش فايدة… لازقة في سي فريد قال إيه بتحبه.. غبية وتافهة!


تنهدت چوليا وابتسمت ابتسامة مزيفة، لم تصل لعينيها، وربتت على كف والدتها وهي تقول بايجاز:

ـ هي حرة يا مامي، چيلان مش صغيرة وعارفة مصلحتها فين، وعارفة هي عايزة إيه كويس.. 


هزت الأم رأسها بيأس وقالت:

ـ أيوة براحتها.. كل واحد براحته يعمل اللي هو عايزُه.. وفي الآخر هيتقال ولاد نادية الصواف فاشلين ومش عارفين يختاروا.. ماهو للأسف انتوا مش بتتحاسبوا على اختياراتكوا لوحدكوا.


تنهدت چوليا بملل، لأن ذلك الحديث لن يجدي شيئًا ، لا چيلان ستتوقف عن حب فريد، ولا هي ستشفى من حب شريف، وفي النهاية ليس على القلب سلطان.


……. 


كانت عائشة تجلس في حالة يرثى لها، تنتظر حسن الذي لم يعد منذ الفجر حيث خرج ليبحث عن نغم، ولسانها لا يتوقف عن ذكر الله والدعاء أن يعيد لها ابنتها سالمة.


انفرج الباب ودخل حسن الذي يلف رأسه بضمادة طبية تظهر من أسفلها بقعة دم واسعة، فنهضت هي تركض نحوه بلهفة وهي تقول:

ـ البت فين، مجبتهاش معاك ليه انطق.


ـ ملقيتهاش.


ألقاها بجمود وتقدم نحو الكرسي متجهمًا فجذبت ذراعه للخلف لتستوقفه، فاستدار يواجهها فإذ بها تصرخ بوجهه:

ـ يعني إيه ملقيتهاش؟ نغم فين بقوللك.. راحت فين!


صرخ بقوة مماثلة وقد نفذت محاولاته في السيطرة على ذاته وكبح غضبه:

ـ قولتلك ملقيتهاش، فص ملح وداب، قلبت الحارة عليها، سألت عليها بيت بيت .. دورت في كل الشوارع.. مسيبتش ولا زقاق مبصيتش فيه.. مفيش مكان مسألتش عليها فيه، ملهاش أثر.


لطمت خديها بقوة، وطفقت تلطم مرات متتالية بانهيار وهي تردد:

ـ يا لهوي، يا خراب بيتك يا عيشه.. يعني إيه؟ الأرض انشقت وبلعتها؟؟ 


أمسك بكفيها يزيحهما عن صدغيها وهو يقول باستنكار قاطبا جبينه وحاجبيه:

ايه اللي بتعمليه ده بس ياما، هي يعني هتروح فين، ماهي هترجع، دي خارجة بالبيچامة، لا معاها هدوم ولا فلوس ولا تعرف حد غيرنا أصلا عشان تروح له..


أشاحت بنظرها لوهلة، ثم عادت تنظر إليه وقد ألهمها قوله لشيء ما:

ـ نيهال.. أكيد راحت عندها.


هز رأسه أن لا وقال:

ـ رُحت وسألت قالولي عم عبدالحكم مات ونيهال هجت باين عليها..


ـ نيهال اتجوزت!


ليس هذا الوقت المناسب ليتفاجأ بزواج نيهال، إضافة إلى أن أمله الذي تجدد بإمكانية العثور على نغم قد طغى على فضوله حول زواج نيهال، وأسرع نحو بيتها بعد أن عرف العنوان من والدته، وهو يتوعدها بعقاب عسير عندما يراها لأنها هربت ووضعته بذلك الموقف.


ـ لأ، لازم أراضيها الأول وأوعدها إني مش هضايقها تاني.


قالها مبتسمًا بحماس، ثم اتجه نحو أفخم ماركت بالحي، واشترى لها الشوكولا المفضلة لديها، فكثيرا ما كان يلجأ لتلك الحيلة عندما كانت تعلن عصيانها عليه وهي طفلة، كان يدللها ويصطحبها للماركت لكي تبتاع ما يحلو لها مهما غلى ثمنه. فهو لا يتكبد عناء جمع هذه النقود من الأساس.


واتخذ طريقه نحو بيت نيهال مسرعا وهو يمني نفسه بلقاءها، يتلهف للحظة عناقها، لا.. لقد تراجع.. لن يرغمها على شيء مجددا، فهو على كل حال سيتزوجها في أقرب فرصة ، ربما بعد أسبوع.. وربما غدا.. لا بد أن يعقد قرانهما في أسرع وقت، ووقتها سيروضها كما يشاء، حتى لو كسرت على رأسه آلافٍ من الزجاجات سيتقبلها بصدر رحب ويقول لها هل من مزيد؟ يكفي أن تصبح زوجته.. ملكه.. على اسمه هو فقط..


………….


كان يجلس أمامها، بالتحديد على مسند تلك الأريكة التي تتمدد عليها، يتطلع نحوها تارة، ثم يتابع تلك المحادثة المنشغل بها تارةً أخرى، وما إن لاحظ تململها وأدرك أنها قد بدأت تستعيد وعيها حتى وضع هاتفه بجيبه، ثم وقف متأهبًا وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله بهدوء، ويصب كامل تركيزه عليها وهي تفتح عينيها ببطء، ترفرف بأهدابها، قبل أن تمسح المكان بعينيها وتستقر أخيرًا عليه.


وفجأة.. اتسعت عيناها حتى كادتا أن تخرجان من محجريهما ونهضت سريعا مما جعلها تئن بألم مباغت قبل أن تهتف بحدة:

ـ إنت مين ؟!


نظر إليها مبتسما بسماجة وهو يقول:

ـ حمدالله على السلامه ، بقالك حوالي ست ساعات نايمة نوم عميق.


طالعته بارتياب، وأخذت تتحسس ركبتيها وذراعيها بألم شديد وهي تنظر حولها بتعجب ثم قالت:

ـ إيه المكان ده؟ أنا بعمل إيه هنا؟!


زفر زفرةً طويلة، ثم رفع رأسه نسبيًا ونظر إليها بثبات قبل أن يجيب:

ـ أنا مين؟ فمش لازم تعرفي، إيه المكان ده؟ فدي شقتي، أما بقا بتعملي إيه هنا؟ فأنا جيبتك على هنا بعد ما خبطتك بعربيتي وفقدتي وعيك.


شردت بعينيها قليلا عند سماعها آخر جملة، و فورا قفزت اللحظات المريرة السابقة إلى مخيلتها وانقبض قلبها بخوف وابتلعت ريقها بتوتر لم يخفَ عليه فسألها باهتمام:

ـ إنتي إيه حكايتك بالضبط وكنتي بتجري من مين؟!


شحب وجهها بخوف وقالت:

ـ إنت جايبني هنا وبتحقق معايا بأي حق؟! وإزاي تسمح لنفسك تتصرف بالشكل ده؟


رفع حاجبه باستهجان وقال معللا؛

ـ يعني كنت أسيبك في الشارع؟ هي دي الشهامة يعني؟


ـ وهي الشهامة إنك تخبطني بعربيتك وتجيبني على بيتك؟ انت مسمعتش عن اختراع اسمه المستشفى ؟؟


تحمحم بتوتر عندما حشرتهُ في الزاوية ثم أردف بهدوء:

ـ ما انا لقيت حالتك مش مستاهلة نروح مستشفى وسين وجيم خصوصا إن الوقت كان متأخر، فجيبتك على هنا لحد ما تفوقي وأطمن إنك كويسة، وبعدين لو حاسة انك تعبانة أو محتاجة تروحي المستشفى نروح عادي.


تهدلت ملامحها بتعب وأخذت تتحسس يديها وقدميها بألم وهي تقول:

ـ لا مش مستاهلة، أنا بس حاسة إن حد رازعني علقة بشاكوش مكسر عضمي.


قطب حاجبيه قليلا وهو يفسر ذلك اللوغاريتم الذي سمعه للتو، ثم أخرج شريط حبوب من جيب سترته وأعطاه لها وهو يقول:

ـ خدي حبتين من ده وهتبقي كويسة.


نظرت إليه بترقب دام للحظات قبل أن تمد يدها وتمسك الشريط ثم تقلبه بيديها وتنظر إليه متسائلة:

ـ برشام إيه ده؟ 


ـ ده مسكن!


قالها متعجبا فقالت بنزق:

ـ مسكن؟!


أومأ مؤكدا فألقت الشريط على الأريكة وهي تقول بتصميم تحسد عليه:

ـ شكرا، مباخدش مسكنات.


نظر هو إلى الأريكة حيث ألقت الشريط ونظر إليها ثوانٍ حتى استوعب ما دار برأسها، ثم ضحك ضحكةً خافتةً وهو يصفق بيديه ساخرا ويقول:

ـ لأ بجد براڤو، واعية فعلا.. 


ارتفع حاجبيها بتفاخر ما لبث أن هُدم فجأة عندما قال بحدة واستهزاء:

ـ حضرتك مفكرة إن ده مخدر أو منوم مش كدة؟ على أساس إني عاوز أخدرك وأستفرد بيكي بقا، مانتي كنتي نايمة مش واعية بقالك مدة لو كنت عاوز أعمل حاجة كنت عملتها. 


ثم أخذ يقلب كفيه متعجبا أمرها وهو يقول:

ـ يخربيت الأفلام الهابطة!


اهتز بدنها عند سماع تلك الكلمات، وتذكرت ما كانت بصدد التعرض له قبل قليل، وأحاطت نفسها بخوف احتلها مجددًا ثم هتفت بانفعال:

ـ طيب كتر خيرك، ممكن بقا تفتح الباب خليني أمشي؟


ـ لأ.


ألقاها ببساطة أفزعتها وجعلت الرعب يستوطن ملامحها فقال بهدوء:

ـ هنتكلم الأول.


ـ في إيه؟


جلس على المقعد وأشار لها بالجلوس وقال:

ـ اقعدي.


ـ خلص قول عاوز إيه؟


قالتها بفزع واضح فقال متنهدًا:

ـ أولا متخافيش مني، أنا مش هقرب منك ولا هأذيكي، كل الحكاية إني هعرض عليكي عرض وهتفكري فيه وتبلغيني بقرارك.


ـ عرض إيه ده؟؟


ـ طيب اقعدي الأول خلينا نتكلم.


تنهدت بتوتر، ثم أذعنت أخيرا وجلست، ونظرت إليه بقلق وقالت:

ـ ها.. عرض إيه؟


أخرج هاتفه من جيب سترته، ثم عبث به قليلا وأداره إليها فنظرت به لترى صورة رجل، يبدو في عقده الرابع تقريبا، لم تدقق بملامحه كثيرا ولكن ما لفت انتباهها بالصورة هو كم الأطفال الموجودين بجواره، فنظرت إلى محدثها وقالت باستفهام:

ـ مين ده؟


أعاد الهاتف إلى جيبه مجددا وقال بنبرة يشوبها الاستياء:

ـ ده يا ستي رجل الأعمال المعروف باللورد فريد مرسال، معروف عنه إنه بتاع خير وفلوسه كلها رايحه على الملاجئ ودور المسنين والجو ده.


و احتدت ملامحه نوعا ما وهو يستطرد:

ـ طبعا ده مجرد قناع بيدارى فيه، ورا القناع ده شخص أقل ما يقال عنه إنه بشع، الخير اللي بيعمله ده مش لوجه الله.. ده إنسان ميعرفش ربنا أساسا..


تأففت بملل وقالت بنفاذ صبر:

ـ مش فاهمة بردو وأنا مطلوب مني إيه؟!


ـ نفضحه!


ـ نعم؟!


ـ نفضحه، نشيل القناع ده من عليه، نعرف الناس حقيقته القذرة وبالتالي هنقدر نرحم ضحايا كتير من إيديه.


قطبت جبينها بحيرة و حكته بقوة وهي تقول بغباء:

ـ بردو مش فاهمة! قناع إيه اللي هشيله، وضحايا مين اللي هننقذهم؟! 


اعتدل مغيرًا وضعية جلوسه فانحنى بجذعه قليلا للأمام وشبك كفيه ببعضهما، ثم نظر إليها باهتمام وقال:

ـ بصي يا… إنتي إسمك إيه صحيح؟!


ترددت للحظات ومن أجل التمسك بقوانين الحيطة والحذر قالت:

ـ مش لازم تعرف.


أطلق ضحكة متهكمة وقال:

ـ طيب يا مجهولة الهوية، مُدعي الفضيلة ده اللي اسمه فريد مرسال، هيفتتح بكره دار لرعاية الأيتام، حفل الافتتاح ده هيحضره ناس كبار ومهمين وكلهم ناس محترمة متبرعين بمبالغ مهولة لتمويل المشروع ده ومشاريع الخير الكتير اللي بيزعم فريد مرسال إنه بيسعى ليها حبًا في الخير. واللي الناس دول ميعرفوهوش بقا إن الوسـ خ ده بيستغل الأطفال الأيتام دول في أغراض دنيئة، وخصوصا البنات منهم. 


جحظت عيناها بذهول وارتعشت من هول الصدمة ووقع الكلمات المميتة على آذانها وهي تردد باشمئزاز:

ـ الحيوان…


أومأ الآخر مؤكدا وتابع:

ـ أهو الحيوان ده بقا إحنا محتاجين نسلط الضوء عليه ونسحب البساط من تحت رجليه شويه بشويه لحد ما نكشف كل أفعاله الحقيرة دي، و ده مش هيحصل إلا لو عملناله فضيحة في حفل افتتاح الملجأ، وقتها هيحصل لغط كتير حواليه وهيبدأ الممولين دول يخافوا من التعامل معاه لما يعرفوا إنه كداب وبمية وش، بعدها مشاريعه هتقف، أسهمه في البورصة هتنزل، هيخسر كل حاجه وهنقدر ننقذ البنات المساكين منه.


ـ طيب و ليه محدش بيبلغ عنه؟ ليه سايبينه ؟


ـ لأنه واصل جدا وله معارف وناس كتير بيسندوه، والأهم من ده إنه فوق مستوى الشبهات.. يعني بقاله عشر سنين حاطط السوق كله في جيبه عمر ما حد سمع عنه خبر كده ولا كده .. فمش معقول لو اتقال عنه حاجة زي دي الناس هتصدق! خصوصا إنه له شعبية كبيرة جدا بين الناس وألف من هيدافع عنه.. إنما لو قدرنا نوقعه ونعمل له أي أزمة نخليه يفقد بيها مصداقيته عند الناس ده هيسهل علينا إننا نهد الصورة المثالية اللي راسمينها ليه ونفضحه ببساطة.


لم تفهم أغلب ما قاله، ولكن أهم ما مسها واستفزها فعلا هو استغلاله للأطفال الأبرياء الذين يزعم أنه يحميهم ويرعاهم، وهذا ما جعلها تثور وتعلن الحرب عليه منذ الآن، فنظرت إلى الآخر وقالت:

ـ وأنا معاك في أي حاجه، قوللي مطلوب مني إيه؟


ابتهجت ملامحه قليلا وأضاف:

ـ بصي، زي ما قولتلك بكره حفل افتتاح الملجأ الجديد،. والحفل ده هيحضره ناس لها وزنها في البلد، فبالتالي الصحافة هتكون موجودة، وسائل الإعلام كلها هتغطي الحدث، والسوشيال ميديا هتتكلم عنه.. فدي فرصتنا. 


أومأت بترقب وإنصات وتركيز فقال:

ـ إنتي هتوصلي المكان، هتكوني لابسة لبس معين أنا هجيبهولك، وطبعا أنا عرفتك شكله، أول ما تلاقيه لوحده هتروحي تكلميه، تجذبي انتباه الكاميرات ليكي بأي طريقة، وبعدها اللي هيحصل إنك ….. هتبوسيه!!


ـ نعم!!!


قالتها باستنكار شديد يلازمه الذهول فقال بهدوء:

ـ لازم ده يحصل، لازم اللي يبان للناس إنكم تعرفو بعض كويس جدا وبينكم علاقة، و ده اللي هيساعدنا نحطم أسطورة الرجل المثالي، عدو المرأة، اللي مبيسلمش على أي ست بالإيد حتى!! 


ـ أيوة بس.. بس أنا مستحيل أعمل كده!!


ـ نص مليون جنية؟؟


نظرت إليه باستغراب فقال وهو يشملها بنظرات متفحصة، هيئتها المشعثة، ملابس نومها الرثة، وقدميها الحافيتين المتسختين:

ـ واضح إنك في حاجة لأي فلوس، كمان أنا معرفش كنتي بتجري ليه ومن مين؟ ممكن هربانة من حاجة، سارقة حاجه من حد.. الله أعلم، بس شكلك بيقول إنك محتاجة فلوس، أعتقد نص مليون جنيه مبلغ كويس هيوفر لك احتياجات كتير، وبعدين بعيدا عن الجانب المادي بصي للجانب الأخلاقي.. إنك هتعملي كدة عشان تساعدينا ننضف المجتمع من شخص حقير زي ده.


شردت فأخذ يسبح بجبهتها محاولا الوصول إلى ما تفكر به، وعندما لمح التردد باديًا بعينيها قال:

ـ متقلقيش انتي بعد ما تعملي كده هتنسحبي فورا ودورك هينتهي لحد هنا، ولو خايفة فاحنا ممكن نغير شكلك خالص بحيث محدش يعرفك لو شافك، هنعمل makeup قوي.. تلبسي wig مطرقعة.. متقلقيش هنتصرف.


تنهدت بخوف وأخذت تفكر بالأمر جيدا، هي لن تستطيع فعل ذلك أبدا، ولكن من أجل المال يمكن أن تحاول، فهي أشد ما تكون بحاجة للمال الذي سيساعدها في الهروب من قبضة ذلك المتملك النذل، فهي لن تعود إليه بعدما فعله حتى لو كان مصيرها الموت، ولكن، ماذا إن أدركها وعلم بفعلتها تلك، وهي التي هربت منه لأنه حاول تقبيلها عنوةً، فكيف إذا رآها وهي تقبل رجلًا آخرًا على مرأى الجميع وبكامل إرادتها.. حتمًا سيدق رأسها في جسدها!!


نظرت إلى الذي يجلس أمامها متحليًا بالصبر لأبعد حد وقالت:

ـ لازم أبوسه؟؟ 


أومأ مؤكدا فقالت:

ـ ضروري يعني؟؟ مينفعش أحضنه أو أطبطب عليه من بعيد وخلاص؟


ـ تحضنيه إيه وتطبطبي عليه إيه؟ هو إحنا جايبين مطيباتي؟ بقولك عاوزين نبين إنكو تعرفو بعض وإنه له علاقات مشبوهة مش زي ما الناس مغشوشة فيه.. الاتفاق لازم يتنفذ زي ما بقولك بالضبط! وإلا كل حاجه هتبوظ .


تنهدت وهي تدلك جبينها بقوة وتفكر مليًا ثم قالت باستسلام:

ـ ماشي، أنا موافقة!


تنهد حينها براحة شديدة ثم أومأ وقال:

ـ اتفقنا.. هتفضلي هنا لبكرة.. هاجيلك الساعة ٨ ومعايا اللبس اللي هتلبسيه وبعدها هاخدك وأوصلك الملجأ، هتنفذي اللي اتفقنا عليه بالحرف وهتخرجي هتلاقي عربية مستنياكي، هتركبي وهتيجي على هنا هتلاقي فلوسك موجودة تاخديها وتمشي، وتنسي إنك شفتيني. حتى لو شفتيني في الحفلة اوعي تبيني انك تعرفيني، تمام ؟؟


أومأت أن نعم فهز رأسه واتجه نحو الباب ينوي المغادرة،  وقبل أن يخرج أشار برأسه نحو الأريكة وهو يقول:

ـ خدي حبتين مسكن قبل ما تنامي بدل ما تروحي الافتتاح بكرة بتعرجي كده.. متخافيش ده مسكن.. أكيد مش هخدرك وأغتصبك مثلا بمنظرك ده!!


وأشار بسبابته إلى هيئتها المنفرة، وخرج وأوصد الباب، ثم استمعت لصوت المفتاح وهو يُدار بالباب عدة مرات فعلمت أنه قد أوصد الباب من الخارج بالمفتاح خوفًا من أن تهرب.


تنهدت بيأس وقلة حيلة وهي تغمس أصابعها برأسها تشد خصلاتها المجعدة المتشابكة بألم وتردد:

ـ على أساس لو مقفلش بالمفتاح كنت ههرب!! أهرب على فين وأنا مش لاقية مكان أروحه.. منك لله يا حسن!


نظرت حولها تتفحص المكان، وتجولت في أرجائه تشاهده عن كثب؛ شقة واسعة ربما تبلغ ضعفين مساحة بيت خالتها، مفروشة بالكامل بأفخم الأثاث والمفروشات ، دخلت الغرفة الأولى والتي تحتوي على سرير كبير يبتلع ثلاث أرباع مساحة الغرفة، وأمامه خزانة كبيرة أسرعت إليها وفتحتها لتتفاجأ بكم الملابس النسائية الفخمة بها، تفحصتها سريعا ودهشتها تتعالى .. أثواب سهرة.. منامات.. سراويل وبلوزات.. أحذية .. حقائب.. اكسسوارات.. مكياجات.. الغرفة مكدسة بالكثير من الأشياء التي لم ترها من قبل.


دخلت إلى الغرفة المجاورة والتي هي عبارة عن غرفة معيشة بها شاشة تلفزيون يمتد عرضها من أول الحائط لآخره، والجدار المقابل به مكتبة كبيرة، ثم دخلت إلى المطبخ وما إن رأت الثلاجة حتى شعرت بالجوع يلتهم معدتها، فأسرعت وفتحتها ووقفت تتأملها وقد خاب أملها عندما وجدتها فارغة..


أسندت ذراعها فوق باب الثلاجة وقد حررت روح المحقق بداخلها وهي تقول:

ـ واضح إن محدش بييجي هنا كتير..


أغلقت الباب، وفتحت باب المجمِد لتتسع عينها بتعجب.. لقد كان مكدسًا بالأطعمة المثلجة لذا لم تتردد فورًا وأخرجت أول ما وقعت عينها عليه وهي لا تستطيع تخمين ماهيته حتى، وأسندته فوق رف الحوض ، وخرجت لتتأمل باقي المكان.


-----------------------


وصل حسن أمام شقة نيهال حسب وصف والدته لها، رن جرس الباب ولم يترك الزر إلا عندما فتحت نيهال الباب وهي على وشك سب ذلك المتطفل الذي أيقظها من نومها بتلك الطريقة المزعجة، ولكن ما إن رأته حتى صبغ ملامحها الذهول، والتمعت عيناها بشوق جارف وغمغمت:

ـ حسن!! إنت خرجت من السجن امتى؟؟


لم يجبها، بل تقدم للداخل فورا وهو يبحث عن ضالته بعينيه، فدخلت نيهال وأوصدت الباب وهي تحاول تخمين سبب زيارته، بينما هو يمسح الأرجاء بعينيه ويقول:

ـ فين نغم؟


تجرد وجهها من الابتسامة فورا، ومن كافة التعبيرات.. وحل محلها تعبيرا واحدا.. الوجوم!!


ـ نغم؟؟ إنت جاي هنا تسأل على نغم؟؟


تساءلت باستهجان بالغ فنظر إليها باستغراب قائلا:

ـ أكيد مش جاي أشاهد جمالك يعني، انطقي فين نغم؟


ظلت تتفرسه لثوانٍ، ثم أجابت باقتضاب وبرود:

ـ معرفش.


نظر إليها بشك، ونظر للأمام حيث الغرفتين المجاورتين، وتقدم منهما مباشرةً وهي تلحق به تحاول منعه ، وهي تقول بتعجب:

ـ استنى هنا انت رايح فين؟


نظر إليها من علوٍ نظرًا لفارق الطول بينهما، فتشبثت هي بعينيه اللتين لم يخبُ جحيمهما المستعر ولم ينطفئ، بينما فك هو وثاق عينيها من نظراته وهو ينظر حوله بجنون ويقول:

ــ هشوفها جوه.. أنا متأكد إنها عندك .


تأففت بضيق وغيرة فاقت الحدود ، وقالت وهي تضغط أحرفها باستياء:

ـ نغم مش عندي، إيه اللي هيجيبها عندي بدري كده !! 


لم يصدق ما قالته، بل اقتحم الغرف وأخذ يبحث عنها بنفسه، خلف الأبواب، في الخزانة، أسفل السرير، في الحمام، في الشرفة.. لم يترك مكانا إلا وتفقده، وهي تقف بهدوء تضم يديها إلى صدرها وتشاهده كالمجنون يبحث عنها وينادي باسمها بلوعة، فكانت تشعر بالنار تلتهم قلبها وتتركه رمادًا.


عاد حسن إليها وقد تهدل كتفيه العريضين بانهزام وإحباط، وتوقف على مقربة منها يطالعها بشرود وعجز، ثم نظر إليها وقال برجاء أقرب إليه من سؤال:

ـ نغم فين يا نيهال؟


زفرت بقوة وقالت بنفاذ صبر كاشفةً عن كل ما يعتريه قلبها من حقد:

ـ وأنا اشعرفني فين زفت، ما انت قلبت الشقة أهو فوقاني تحتاني ملقيتهاش، هكون مخبياها في عِبي مثلا !


نظر إليها باستياء وأطلق شياطينه وهو يقول:

ـ بقولك ايه يا نيهال مش ناقصة أباحتك عالصبح، انطقي نغم فين، أنا متأكد إنك عارفة مكانها.


ـ أقسم بالله ما أعرف عنها حاجة ولا شوفتها ولا كلمتها.. آخر مرة اتكلمنا وجتلي من كم يوم، ومن ساعتها معرفش عنها حاجه ، وأنا هخبيها عندي ليه أصلا؟ ماهي لو هنا هقولك هنا.


زفر بغيظ، وزمجر كوحشٍ يحتضر بغضب مكتوم، وأخذ يضرب جانبي رأسه بقبضتيه بقوة وهو يقول بجنون:

ـ يووووووه…. أومال هتكون راحت فين بس!!! الأرض انشقت وبلعتها؟؟


ـ معرفش .. وبصراحة بقا مش عاوزة أعرفها تاني..


نظر إليها مستفهمًا فقالت:

ـ آخر مرة كانت عندي نشلت محفظة واحد في الأسانسير والكاميرات صورتها، والراجل كان قالب الدنيا عليها، وعرفوا إنها كانت جيالي، ولولا جوزي اتدخل وحل المشكلة كان هيشتكيها ويشتكيني وكانت هتبقى ليلة طين على دماغي ودماغها.


لم يعقب على ما قالته، وتقدم نحو الباب وفتحه، ثم عاد بنظره إليها وقال:

ـ لو جاتلك أو عرفتي عنها أي حاجه بلغيني، اتصلي على تليفونها هيكون معايا.


أومأت بنفاذ صبر، فاستدار ليغادر وأوصد الباب ، فزفرت هي زفرةً بائسة وأخذت تجذب خصلات شعرها بيدها وهي تقول:

ـ أول ما افتكرني جاي يسأل على نغم.. أنا مالي أنا ما تولع نغم هي ورايا ورايا !!


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في منزل فريد..


كان يستلقي فوق الأريكة مسترخيًا، شاردًا ولسانه لا يتوقف عن العد  ١,٢,٣,٤,٥,٦,٧,٨,٩,١٠


ثم  ١٠,٩,٨,٧,٦,٥,٤,٣,٢,١


ثم يعود ويكرر  ١,٢,٣,٤,٥,٦,٧,٨,٩,١٠


ومرة أخرى  ١٠,٩,٨,٧,٦,٥,٤,٣,٢,١


وأخذ يكرر العد التنازلي ثم التصاعدي مرات متتالية دون وعي، وهو يغوص بذهنه نحو أبعد نقطة في اللاوعي، وقد انتابته نوبة قهرية من وساوس التكرار المتمثلة في تكرار العد بأنماط عشوائية دون وعي، ودون هدف.. وهي حالة لا يتعرض لها سوى عند وصوله أعلى مستويات الضغط والقلق والأرق.


انتزعه من شروده ووساوسه صوت رنين الهاتف، فاستقام وتنحنح ليجلي حلقه، ثم أجاب بصوت رسمي:

ـ صباح الخير…


ـ صباح الخير يا فريد بيه، أنا وصلت مدريد حالا.. وفي طريقي لعمر بيه.. هنخلص إجراءات السفارة ورحلتنا الساعة ٩ بالليل إن شاء الله.


ـ إن شاء الله ، لما تخلص في السفارة عرفني وصلت لإيه، مع السلامه.


أنهى الاتصال ووضع الهاتف على الطاولة أمامه، وضعهُ في وضع أفقي تمامًا، ثم أخذ ينظر إليه وحركه بإصبعه قليلا ليصبح مائلا.. يحاول اختبار نفسه.. فهو بالتأكيد يمكنه تجاهل ما إذا كان الهاتف في وضع أفقي أو مائل.. بالتأكيد لن يشكل فارقًا .. هو ليس مريضًا لهذا الحد.


كبت توتره، ونهض وهو لازال ينظر للهاتف، وتجاهله وهو يحاول تشتيت انتباهه عنه، ثم استدار ووقف يتأمل الطاولة والهاتف فوقها في وضع مائل.. 


حاول طمأنة ذاته أن الأمر أبسط مما يظن، الكون لن يتضرر من وضعية الهاتف أيًا كانت، حسنًا.. هذا مؤشر جيد على أنه ليس مريضا، ويمكنه تجاهل أي وساوس من هذا النوع، فمنذ اليوم سيحاول التواجد في الأماكن الفوضوية عله يعتاد الفوضى ويتخلص من لعنة التنظيم والترتيب والتدقيق في كل سنتيمتر بالمكان..


جيد جدا.. والآن سيذهب إلى الحمام كرجل مهذب ويأخذ حمامه اليومي والذي سيحرص على أن يكون لعشر دقائق مثلا.. وربما تسعة.. ليس بالضرورة أن يكون لخمسة عشر دقيقة ، وبعدها سيرتدي أي شيء، لن يكون مضطرا لاختيار بدلة حسب االجدول الزمني الذي وضعه سابقا، من الممكن أن يرتدي قميصًا وسروالًا بسيطين، وسيستغني عن زجاجة الكحول التي تلازم جيبه، سيتركها بالمنزل، يكفي التي بالسيارة واللواتي بالمكتب..


عظيم.. هذه خطة مكتملة الأركان لكي يثبت لنفسه أنه ليس مريضًا على الإطلاق ، وأن من ينعتونه بالمريض هم المرضى .


دخل الحمام، أمسك بمرذاذ الماء المعلق في صورة أفقية وأماله لليسار قليلا.. ووقف يأخذ حمامه وهو يحاول إلهاء عقله عن كل تلك التفاصيل المنافية لطبيعته، وبعد خمس دقائق تقريبا كان قد انتهى من الحمام وخرج، انتقى قميصا وسروالا باللون الأزرق، وتجاهل شعوره بالضيق لارتداء هذا اللون في هذا اليوم، ولكنه سيغير واقعه بأي طريقه مهما كلفه الأمر..


هذه مجرد وساوس لا قيمة لها وعلاجها التجاهل.. وهو ينوي تجاهلها وسيفعل.


انتهى من ارتداء الملابس ، وترك شماعة القميص ملقاة بإهمال فوق السرير، ثم أخرج علبة ساعته الرولكس واستل منها الساعة وارتداها بعشوائية ، وألقى الساعة بإهمال فوق طاولة الزينة، وجمع أغراضه المهمة وغادر الغرفة.


حدق بالهاتف الذي لايزال على طاولة غرفة المعيشة وهو يشعر بالفخر، وكأنه قد حقق إنجازًا لأنه تغلب على وسواسه اللعين، وابتسم وهو يلتقط الهاتف ويضعه بجيبه.. ثم غادر المنزل.


ركب سيارته، وبعفوية التقط زجاجة الكحول لكي يعقم يديه كعادة مكتسبة فور ركوب السيارة، ولكنه تجاهل تلك الرغبة الملحة في تعقيم يديه وأعاد الزجاجة حيث كانت، وتحرك متجهًا نحو الشركة.


بما أنه قد قرر تغيير الواقع فهو لن يسأل عن نتيجة الفحص الذي سيجريه الموظفين، ولن يهتم بالأمر، ففي النهاية الأمر بسيط، حتى لو ثبت لاقدر الله إصابة أحد الموظفين بأي مرض فالأمر لا يعنيه، هذا المرض لن ينتقل إليه طالما أنه لا يختلط بأحدهم اختلاطا مباشرا، إذا فلا خوف على حياته ولا صحته.. الأمر فعلا بسيط.


أومأ بموافقة وهو يؤكد على ما يدور برأسه، وبينما هو يتفقد الطريق من أمامه وقعت عيناه على لافتة مطعم مشهور يعرفه جيدا.. ويعرف أنه مشهور بنظافته ونظامه الذي يجعله أشهر مطاعم العاصمة.


ولأنه قد قرر تغيير الواقع فلا بد أن تشمل خطة التغيير هذه بعض المهمات والتحديات الغريبة، المدفوعة بحاجة ماسة للتغيير فعلا، لذا فلا بد أن يضع نفسه أمام أول وأبسط تحدي، كأن يتناول الإفطار في هذا المطعم مثلا!!


صف سيارته أمام المطعم، وترجل منها ودخل المطعم، مما أضاف إليه شعورًا من الراحة التي يفتقدها منذ الصباح هو أن المطعم كان لايزال متحليًا بالهدوء، فكان شبه فارغا عدا من زبونين في أقصى المكان، فاتخذ هو مكانه في ركن بعيد ثم استدعى النادل الذي أقبل عليه مبتسما ببشاشة ورحب به قائلا:

ـ تحت أمرك يا فندم..


نظر إليه فريد بابتسامة مماثلة وقال ببساطة:

ـ عاوز أفطر..


ـ تحت أمرك، حضرتك تحب الفطار يكون إيه… ماتان أو رابيد أو كونتيننتال أو سبيشيال؟؟


ـ ok مشيها كونتيننتال..


أومأ الشاب برحابة وانصرف ليحضر له طلبه، بينما مد فريد يديه عبر الطاولة وشبك قبضتيه ببعضهما، وبعد ثوان عاد ليتفحص سطح الطاولة بنظرات مترددة، وسحب يديه ببطء وأسندها على فخذيه وهو يحاول تجاهل ما فعله ..


سحب نفسًا عميقًا تغلغل داخل رئتيه، وزفره على مهلٍ وهو يطالع المكان من حوله بحيوية، وجرعة من الحماس والتفاؤل تتسلل إليه ببطء، إنه في طريقه للتغيير .. إنه يبدأ بالتعافي الآن بعد سنوات من المعاناة والخضوع لوساوس قهرية مثلت عائقا في كل حياته.


وبرغم القلق والاضطراب والتوتر الذي يشعر بهما الآن لكنه يقنع نفسه أن هذه أعراض انسحابية لا بأس بها.. ستمضي.


أحضر الشاب الفطور. والذي كان عبارة عن كوب عصير برتقال، طبق مشكل من العسل والمربى والزبدة، مع البيض والخبز.


نظر إليه الشاب بابتسامة وقال:

ـ حضرتك تحب حاجة تانية؟؟ 


ـ لأ شكرا ربنا يخليك..


انصرف الشاب وبدأ فريد بالاستعداد لتناول الفطور، وهو يحاول تجاهل كل شيء، تجاهل كل الهواجس والمخاوف، عليه أن يتحدى وسواسه ويقهره.. 


وضع أول كسرة خبز مغطاة بالزبدة في فمه بحذر، وأخذ يلوكها وهو يحاول صرف انتباهه عن الخيالات التي تتجسد أمامه الآن ، فهو يتخيل أنه سيمرض بعد تناول تلك الوجبة، والتي هي بالطبع ملوثة ومحملة بالجراثيم ، وربما يموت بعد أن تتسلل هذه الجراثيم عبر دمه وتعيث فسادًا في أوردته. 


التقط الهاتف يتصفحه لكي يشغل عقله عن التفكير، ففتح رسالة وردته من چيلان تسأله فيها عن سبب تأخره، أراد أن يخبرها أنه الآن يغير واقعه.. يرسل إليها صورة وابتسامته تظلل شفتيه لأنه أخيرا يعيش كإنسان طبيعي في طريقه للتعافي من مرض خبيث.. أخبث من السرطان حتى، وبعد التعافي يمكنه أن يتزوج.. وأن ينجب أيضا..


وعند هذا التصور شرد تمامًا، وأخذ يتخيل نفسه وهو يعيش مع امرأه يحبها في بيت واحد، يتفاعل معها بشكل طبيعي كأي زوجين، يتلامسان ويتعانقان بمنتهى العفوية، يقبلها كلما أراد، سينجب منها طفلين .. أو ثلاثة.. وربما يرغب في صنع إمبراطورية خاصة به وينجب الطفل الرابع.. حينها سيكون محاطًا بالحب من كل جانب.


أفاق من هذا الخاطر الجميل والذي ترك على وجهه ابتسامة جميلة نادرة، ليفيق على صدمة.. لقد أنهى طعامه كاملا !!


تعجب نفسه جدا وشعر أنه أحرز هدفًا في مباراة مهمة، بالطبع هي مباراة .. لا بل معركة وعليه أن ينتصر فيها، ‏فلكلٍ منا معركته الخاصّة، أنت تؤمن بنفسك والحياة تكفر بك، تتحلّى بالصلابة والحياة تُبرحك ضربا، تقف وتتعثر وأنت تحاول أن تحقق غايتك وتنتصر على نفسك أولا قبل الانتصار على خصمك، المهم أن تخرج من هذه المعركة بِلا  ندوب ظاهرة للعلن.


أخرج هاتفه وقام بالتقاط صورة له ومن أمامه الأطباق الفارغة، ستنضم هذه الصورة لقائمة اللوحات التي سيرسمها مستقبلا، وستظل تذكارا لذلك اليوم الذي استطاع فيه محاربة وسواسه القهري والتغلب عليه.


استدعى النادل وشكره بلباقة ونبل، ثم دفع الحساب وترك له بقشيشًا وفيرًا ، ثم نهض متجها لسيارته لكي ينطلق صوب الشركة.


قام بتشغيل كاسيت السيارة على أغنية تشكل له طفولته، وأخذ يردد معها بحماس وهو يقود، ناويًا أن يطوي كل ما مضى طي النسيان ويبدأ من اليوم حياة جديدة هادئة.


ولكن انقباضة معدته هي من أجبرته عن التوقف عن الحلم، حيث ضربت عاصفة ألم شديدة من نوعها معدته، وجعلته ينحني للأمام من فرط التعب، صف سيارته سريعا وأسند رأسه فوق عجلة القيادة محاولا التماسك، علها نوبة عابرة وتنصرف، ولكن الألم يتفاقم، ويحتد.. وينتشر بجسده كله كالوباء سريع التفشي.. فعلم أنه لامحالة من العودة إلى البيت.


عاد أدراجه سريعا، صف السيارة وأمر عامل المرآب أن يقوم بغسلها، ولا يعرف ما السبب خلف هذا الطلب، ثم صعد شقته سريعا، واتجه إلى غرفته، قصد درج الكومود بجوار سريره، وأخرج منه شريط الحبوب التي يتناولها عندما يرغب في التقيؤ عمدًا.. 


وهذه هي الطريقة التي يلجأ إليها في حال أُجبر على تناول عشاء عمل مع أحد الشركاء، أو عشاءًا عائليا مهما لا يمكنه رفضه، فيتناول بعدها تلك الأقراص لكي يتخلص مما أكله، وهذا ما فعله الآن..


بعد لحظات بدأت الأقراص تُسري مفعولها بجسده فأسرع نحو الحمام، يتقيأ ممسكًا بمعدته وهو يشعر بوخز مميت بها، وبعد أن انتهى خلع ثيابه وألقاها بسلة المهملات.. دخل إلى كابينة الاستحمام ووقف يأخذ حماما جديدا دام لخمس عشرة دقيقة، وخرج ليقف بغرفة ملابسه ينتقى بدلة رسمية..


بالطبع كان متجهمًا، غاضبًا، حانقًا على الكون بأكمله، فتح درج الكومود مجددا وتناول قرص مسكن لأنه لايزال يشعر بالأرق، ووقعت عينيه على شماعة القميص التي تركها في المرة الأولى عندما حاول أن يكون فوضويا ولو لمرة واحدة في حياته ولكنه فشل ، وأمسك بالشماعة بغضب وكسرها ثم ألقاها على انعكاس صورته بالمرآة.


ولولا أنه ليس متفرغًا للتنظيف والترتيب الآن لكان قد كسر المرآة نفسها من فرط الغيظ..


صفف شعره بعناية، و رش من عطره المفضل، ارتدى ساعة فخمة وضبط قرص مؤشرات الوقت بمنتصف المعصم، وعدل ربطة عنقه بحيث تكون في منتصف العنق تماما..


أعاد الشماعة إلى مكانها، علبة الساعة، زجاجة العطر، المشط، أغلق أبواب الخزانات، عدل مفرش السرير، ثم أطفأ الأضواء وخرج.


ولم يكن هذا كافيًا.. عاد مجددا للغرفة ليتأكد مما إذا كان كل شيء في موضعه الصحيح أو لا.. وغادر وهو يشعر بالضيق..


وقف أمام ماكينة القهوة لكي يتناول قهوته الصباحية التي أجلها بسبب خوض مغامرة طائشة، لم تؤتِ ثمارها، وأعد القهوة ووقف يحتسيها بينما هو يبحث بهاتفه عن رقم ما..


ـ دكتور رؤوف خلف، طبيب نفسي ـ


~••••••••••••••••~


#يتبع


تكملة الرواية من هناااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع