رواية محسنين الغرام الفصل الخامس 5 بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل الخامس 5 بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
#محسنين_الغرام
ـ ٥ ـ ~ لثمة ثغر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ رؤوف خلف، طبيب نفسي ـ
وقف يرمق الاسم بتفكر، لقد لجأ لهذا الطبيب مسبقًا بشأن حالة نسيم، وهو صديق مقربًا للعائلة ، وتربطه بوالده صداقة قوية ، ويعرف أنه من أكفأ الأطباء النفسيين ولكن.. ما النفع الذي سيعود عليه بعد مقابلته؟ هل سينجح في مساعدته على التصدي للوسواس وكبحه؟ أم أنه سيسلك نفس طريق الطبيب النفسي الذي زاره قبل خمس سنوات ويصف له مضادات الاكتئاب والقلق التي لا تجدي نفعا!
وعى من شروده على صوت اتصال وارد من أيمن مدير أعماله فأجاب ليخبره الأخير قائلا:
ـ فريد بيه الاجتماع بعد نص ساعة بالظبط.. أعضاء مجلس الإدارة كلهم موجودين مش فاضل غير حضرتك.
ـ في الطريق يا أيمن، مع السلامة.
أنهى الاتصال وغادر الشقة سريعا، ليجد العامل في انتظاره بجوار السيارة التي أمره فريد بغسلها، ولكن فريد رمق السيارة بضيق وقال:
ـ هات التانية.
بعد دقائق أحضر العامل السيارة الأخرى فاستقلها فريد وانطلق نحو الشركة آملًا أن يصل قبل الموعد لكي لا تكون سابقة هي الأولى في تاريخه المهني، فهو دائما ما يكون أول المتواجدين على طاولة الاجتماعات ويعطي المتأخرين دروسًا عن الانتظام وتحري الدقة واحترام المواعيد، فكيف سيكون حاله عندما يصل متأخرًا بعد كل هذه الشعارات التي ينادي بها؟
أخرج الهاتف وقام بالاتصال برقم الطبيب النفسي، فأجابته مديرة المركز قائلة:
ـ أهلا يا فندم، مع حضرتك زهراء من مركز الدكتور رؤوف خلف، اتفضل.
ـ مساء الخير.. عايز أحجز ميعاد النهاردة مع دكتور رؤوف
ـ تحت أمرك، الساعة ٨ مناسب؟
ـ تمام مناسب..
ـ تمام في انتظار حضرتك ، مع السلامة.
أنهى الاتصال وأكمل طريقه شاردًا يفكر .. هل هذه هي الخطوة المناسبة الصحيحة التي كان من المفترض أن يأخذها منذ زمن؟ أم أنه يجوب دروب الوهم وسيعود في النهاية صفر اليدين ؟
••••••••••••••••••••••••
كانت نسيم تجلس فوق فراشها، شاردةً عن واقعها، غارقةً في خيالها الحالم، وحياتها الوردية، حيث أنها تبني حياةً كاملةً في عالم آخر.. لديها زوج مُحب يُدعى حازم، أنجبت منه طفلتين جميلتين، إحداهما تشبهها، والأخرى تشبه والدها كثيرا، تعيش في بيت يطل على مساحة واسعة خضراء، وفي كل صباح تخرج لكي تركض لنصف ساعة حول البيت في هذة الأرض اليانعة، ثم تجلس على الأرجوحة التي صنعتها بمساعدة زوجها لكي تأخذ قسطًا من الراحة، وبجوارها طفلتيها اللتين اختارت لهما اسم نور وأمل.
انفرج الباب الذي هوى بها من سماء خيالها العامر فوق أرض واقعها الخَرِب، وجعلها تنتفض وتضطرب وهي تنظر إلى التي اقتحمت عالمها هكذا فجأة وبدون مقدمات.
ـ أنا آسفة لو خضيتك.. وحشتيني.
هرولت چوليا نحوها، عانقتها بقوة وهي لا تعرف أن المسكينة لاتزال مشتتة بين عالمين الآن، لذلك لم تُبد نسيم رد فعل أو بمعنى أدق وصل رد فعلها متأخرا حيث استوعبت عنااق چوليا لها بعد لحظات طويلة.
ـ مالك؟ انتِ اتضايقتي إني دخلت من غير ما أخبط أكيد، بس أنا عارفة إنك بتكوني سرحانة ومش هتسمعيني.
ابتسمت نسيم بهدوء وأخبرتها وهي تزيل عنها الحرج:
ـ حصل خير.
أومأت چوليا بموافقة وهي تمد إليها يدها بعلبة كرتونية مربعة متوسطة الحجم وقالت بابتسامة:
ـ بوكس كل مرة..
ابتسمت نسيم وأخذته منها وهي تقول:
ـ ملوش داعي تكلفي نفسك كل مرة يا چوليا، أنا مش بستعملهم أساسًا..
ـ طيب قوليلي أجيبلك إيه بتحبيه؟
تساءلت چوليا برجاء فابتسمت نسيم وهي تمسك يدها وتقول بحب صادق:
ـ صدقيني مش محتاجة أي حاجة، كفاية إنك موجودة.
ابتسمت چوليا وهي تعيد خصلة من شعرها خلف أذنها وتقول وابتسامتها تتلاشى رويدًا رويدًا لتظهر خلفها انطباعًا مجردًا:
ـ عاملة إيه يا نسيم؟ كويسة؟
هزت نسيم رأسها وهي تحاول رسم ابتسامة راضية على محياها الباهت وقالت؛
ـ أنا بخير، متقلقيش.
تنهدت چوليا وقالت:
ـ شوفتي اللي عمله عمر؟
قطبت الأخرى حاجبيها بتعجب وقالت:
ـ عمل إيه؟؟
ـ أصلا ؟؟! ده انتِ في الضياع خالص.
وزفرت بتوتر ثم تربعت فوق الفراش وهي تبحث بهاتفها عن الفيديو الخاص بعمر ولكنها لم تستطع العثور عليه أبدًا فتهدج صوتها قائلةً:
ـ الفيديو اتمسح مش لاقياه، أكيد شريف مسحه.
ــ ڤيديو إيه بالظبط؟؟
هزت چوليا رأسها باستياء ونظرت إلى نسيم وقالت:
ـ Sex scandal
' فضيحة جنسية '
فغرت الأخيرة فاها وهي تطالعها بصدمة، وتغلق فمها وتفتحه كالسمكة في محاول لإيجاد ما تقوله، فاستطردت چوليا:
ـ أنا مش مصدقة إن عمر يعمل كده، ومش متخيلة أونكل سالم ممكن يتصرف معاه إزاي لما يشوفه؟
شردت نسيم وهي تتخيل عقاب والدها لعمر، فوجدت نفسها تلقائيا ترتجف من شدة الخوف، بل وتنزوي حول نفسها بهلع وهي تتذكر تلك الحادثة قبل سنوات وصوت العيار الناري الذي لا يفارق خيالها حتى الآن.
فرت دموعها وهي تراه الآن، تتخيله أمامها مسچيًا على الأرض، غارقًا في دمائه، ووضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها ونحيبها وهي تقول بهيسترية:
ـ هيقتله!
اتخذ الأمر دقائق من چوليا حتى أدركت أن هذه هي حالة اللاوعي التي تنتابها من حين لآخر ، فاقتربت منها أكثر وهي تحاول أن تنتزعها منها وتهدئها قائلة:
ـ إهدي يا نسيم، متخافيش يا حبيبتي مفيش حاجه هتحصل.
كانت نسيم تنظر نحو نقطة وهمية، وكأنها ترى ذلك المشهد يتجسد أمامها الآن بكل تفاصيله فتتسع عينيها أكثر وهي تهز رأسها برفض وتقول:
ـ هيقتله، هيضربه بالنار..
أحاطتها چوليا بذراعها بقوة وهي تربت على خدها بلطف وتقول:
ـ نسيم حبيبتي إهدي.. مفيش أي حاجه هتحصل متقلقيش.
وضمت وجهها بين كفيها وهي تحاول جذب انتباهها لها وهي تقول:
ـ بصي لي.. نسيم بصي لي..
جابت نسيم كل الأركان بعينين مذعورتين قبل أن تستقر بناظريها على عيني چوليا الزرقاوتين، فقالت چوليا بهدوء وهي تضغط أحرف كلماتها مؤكدةً:
ـ مفيـــش حاجة هتحصل.. متخافيش.. عمر مش هيموت.. باباكي مش هيأذيه.. مفيش أي حد هيتأذي متخافيش.
هزت نسيم رأسها تباعًا وفجأة عانقت چوليا وأجهشت بالبكاء بقوة، فضمتها الأخيرة وظلت تمسح على رأسها بحنان وهي تحاول مواساتها ودعمها لكي تخرجها من تلك الحالة التي انتابتها إلى أن هدأت تمامًا وسكنت، فنهضت چوليا تنوي المغادرة وقالت:
ـ أنا هروح أشوف مامي، لو تحبي تعالي ننزل نقعد تحت شويه.
هزت نسيم رأسها برفض فأومأت الأخرى بهدوء وفتحت الباب لتجد سالم يقف أمامها فقالت :
ـ أنكل سالم.. إزي حضرتك؟
ابتسم سالم بأريحية وربت على خدها وهو يقول:
ـ إزيك يا چوليا، البيت نور.
ـ بنورك، عن إذنك.
أومأ بصمت، ودخل متوجهًا نحو نسيم التي كانت تطالعه باستغراب وتعجب شديدين، هل هو في غرفتها فعلا؟ هل هو يتقدم نحوها الآن؟ ولكن لماذا؟ هي لم تخطئ ولم تتعدَ المسموح لها به في هذا البيت، لم تفعل شيئا يثير حنقه وغضبه فيجعله يذهب إليها ليوبخها أو ليعاقبها، وأيضًا لم تفعل شيئا يثير إعجابه فيجعله يذهب إليها ليثني عليها، هي تعيش هنا صماء، بكماء، لا تتفاعل ولا تتعاطى مع أيًا كان إلا عندما يطلب منها، تطيع الأوامر والتعليمات وتتجنب المحظورات مثلها مثل أصغر خادم أو عامل في البيت.. إذًا ما سبب تلك الزيارة المفاجئة يا ترى؟!
ـ عاملة إيه يا نسيم ؟
قالها وهو ينظر إليها بهدوء مخيف، دائما ما تجد في هدوئه الهدوء الذي يسبق الموت وليس العاصفة، فطالعت هيئته المهيبة وهي تبتلع ريقها بتوجس، وقفته التي تشي بالجبروت، حيث ظهره مستقيمًا ويديه معقودتين خلف ظهره بثقة عالية ، و قامته الفارعة وجسده الواقف كالوتد الراسخ في الأرض والذي يوحي بأنه يتقدم في العمر بشكل جيد…
إنه والدها.. سالم مرسال.. وإن صح قول أن لكل زمان طاغية فسالم مرسال هو طاغية زمانها، الرجل الذي قتل حلمها وأجج نيران الفقد في وجدانها.
ارتفع حاجباه وقطّب جبهته وأردف بقوة:
ـ نسيم.. سامعاني؟
كان لابد أن تنتبه، فنبرته القوية تلك تحمل في طياتها تحذيرًا وتنبيهًا، فأومأت بترقب وخرج صوتها متذبذبًا:
ـ أيوة.. أنا بخير.. إزي حضرتك ؟
تنهد برضا وألقى وهو يهز رأسه بهدوء:
ـ أنا زي ما انتِ شايفاني، زي الفل أهو.
وابتسم فابتسمت بمجاملة ابتسامة مهزوزة، وكأن الذبذبة قد انتقلت من شفتيها إلى قلبها الذي كان ينتفض وهي تراه يقترب أكثر حتى وقف أمامها وأخرج من جيبه ورقةً مطوية ، نظرت بها فتبين أنها دعوةً ما.
ـ فريد بعتلي دعوة لحضور حفل الافتتاح ، وأنا ماليش مزاج أحضر.
قالها وهو ينقل عينيه من الدعوة بيده إليها، فنظرت إليه بانتباه لتراه يقول مبتسمًا بارتياح:
ـ إيه رأيك لو نستفيد بالدعوة بدل ما تترمي؟
ومد يده إليها ببطاقة الدعوة، بينما هي لازالت تطالعه بغير تصديق وعدم فهم، فهز رأسه متسائلا باستفهام فانتبهت لبلاهتها وصمتها الذي طال، وانفرج فمها أخيرا فقالت:
ـ آآ.. مش فاهمة ؟ حضرتك تقصد إني أخد الدعوة أنا؟
أومأ وشفتيه ترسمان ابتسامة في خط مستقيم، فنظرت إلى يده مجددا وتساءلت بريبة:
ـ يعني هحضر الحفلة؟
هز رأسه وقال:
ـ أكيد مش جايبلك الدعوة تتصوري معاها يعني، مالك فهمك متأخر ليه النهارده ؟
رمشت مرات متكررة وهي تمد يدها وتلتقط البطاقة، وظلت تنظر إليها للحظات بغير تصديق، ثم نظرت إليه وقالت بابتسامة هادئة:
ـ شكرًا …
انفرجت شفتاه مانحةً فرصة أكبر للابتسامة في الظهور، ثم ربت على ذراعها بلطف وهو يقول:
ـ أهم حاجة تفضلي تحت عنين منصور ومتظهريش مع فريد كتير.
أومأت رأسها وهي تراقبه بعينيها المذهولتين وهو يغادر الغرفة، ثم فتحت بطاقة الدعوة لتتأكد منها وابتسامتها تتسع أكثر وأكثر ، وسرعان ما التقطت الهاتف لكي تتصل بفريد وتخبره بذلك الخبر السار.
ـــــــــــــــــــــــــ
في قاعة الاجتماعات، كان فريد كان أتى مبكرًا كالعادة، يترأس طاولة الاجتماع ومن حوله أعضاء مجلس إدارة الشركة، وبعض مدراء الشركات الأخرى الذين يسعون لتعزيز الشراكة بين شركاتهم وشركات مرسال ، والذين جميعهم يصبون كامل تركيزهم على چيلان والتي تقف أمام شاشة كبيرة وتقدم عرض عمل مهم، ولكنها لاحظت شرود فريد ونظره المثبت نحو نقطةٍ ما، مما جعلها تحاول استدعاء انتباهه بأي طريقة، كأن ترفع صوتها، أو تتحرك من مكانها وهي تحاول تخمين الشيء الغارق فيه لهذه الدرجة، حتى أنها شردت هي الأخرى عما تقوله وأخذت تنظر في وجوه الحضور إلى أن وقعت عيناها على فريال، سيدة أربعينية منتدبة من قبل إحدى الشركات، كانت تجلس على المقعد المقابل لفريد تماما، تفحصتها چيلان بدقة ونست العرض الذي كانت تقوم بتقديمه، شعرها المهندم ووجهها النابض بالحياة، ذراعيها المكشوفان ومقدمة صدرها الواضحة للكل، إلى هنا واشتعل فتيل غضب چيلان واحمرّ وجهها بغيظ وهي تهتف بحدة:
ـ فريد..
في حين أن فريد كان غارقًا في شروده، يكاد يقضم أظافره من فرط التوتر الذي يتآكله ببطء ويسيطر على تفكيره، وهو يرمق تلك المزهرية التي خرجت عن الإطار الدائري المخصص لها فوق الطاولة الممتدة بطول القاعة .
لو أنهم يقصدون قتله بالبطيء لما فعلوا ذلك، بالرغم من أنه يضع العديد من الشروط التي يجب مراعاتها عند تعيين العمال المسؤولين عن تنظيف المقر، والتي يكون في مقدمتها أن يكون العامل شديد الحرص على التنظيم والتدقيق، بل والمراجعة أيضا.. بصرف النظر عن توافر شرط النظافة لأنه أمر مفروغ منه، وإلى الآن لم يجد من يستطيع أداء عمله على أكمل وجه.. أو بالأحرى ' كما يفضل هو ' ..
تنهد بيأس لازمه شعورًا قويًا بالتوتر وهو يستسلم مقهورًا، ثم قال:
ـ بشمهندس كريم..
طالعه كريم باستفهام وانتباه ليفاجئه الآخر بقوله:
ـ بعد إذنك اعدل الڤازة..
رفع كريم حاجبيه متعجبًا وقال:
ـ أفندم؟؟
أشار فريد بقلمه نحو المزهرية التي توجد أمام كريم، وهو يستطرد:
ـ الڤازة..
نظر كريم إليها بتعجب وأزاحها قليلا فتابع فريد:
ـ سنتي كمان.. أيوة كدة.
ثم نظر إليه مبتسما وشكره، وعاد بعينيه إلى چيلان التي ارتسمت الدهشة جلية على محياها عندما اكتشفت أنه كان شاردًا يحدق في المزهرية وليس في السيدة فريال كما ظنت.
تنهدت چيلان وهي تهز رأسها بيأس، وتابعت عرضها إلى أن انتهت، ثم عادت مكانها وبدأوا بالمناقشة حول العرض الذي قدمته للتو، وأدلى كلا منهم بدلوه وقدم اقتراحاته وملاحظاته عدا فريد الذي كان يطرق فوق حاسوبه بالقلم بشرود، فاسترعت انتباهه قائلة:
ـ إيه رأيك يا فريد؟
انتبه لذكر اسمه ونظر إليهم باستفهام فكررت ما قالته بحرج وتابعت:
ـ أنا اللي بكلمك..
نظر إليها بهدوء قائلا:
ـ بتقولي حاجة ؟
زفرت زفرة مكتومة وقالت بهدوء يناقض الانفعال بداخلها، وهي ترغب لو أنها قامت وحملت المزهرية التي كان يحملق بها كالأبله ثم تحطمها فوق رأسه المصون لكي تحصل على كامل انتباهه وتركيزه، ثم تابعت باستسلام:
ـ كنت بسألك عن رأيك في الكلام اللي قاله بشمهندس رائد..
نظر إليه فريد وابتسم بترحيب رسمي، ثم شملهُ بنظرات سريعة وقال:
ـ أنا بعتذر يا بشمهندس، مسمعتش اللي قلته..
ابتسم الآخر برحابة صدر وهو يتحرك في مقعده بغير ارتياح ويكرر ما قاله:
ـ أنا كنت بقترح لو نخصص جزء من الميزانية المتفق عليها دي لتمويل مشروع جديد زي مشروع الخدمات السحابية مثلا.. أعتقد دي حاجة مهم يكون لنا بصمة فيها..
أومأ فريد بموافقة، وقال بإيجاز لأنه لم يركز فيما قاله أساسًا:
ـ أنا شايف إنها فكرة محتاجة دراسة، بس مش بطالة..
أومأ الآخر بتأكيد وأبدى استعداده لمناقشة رئيسه مقترحات الجميع، ثم أعلن فريد انتهاء الاجتماع وأسرع مغادرًا القاعة، ثم اتجه نحو مكتبه وهو يشعر برغبة ملحة وضرورية في تعقيم يديه بعد أن اضطر لمصافحة الشركاء الجدد.
انفرج الباب فجأة ودخلت چيلان، التي تقدمت والغضب بادٍ على وجهها، وهي تطرق الأرض بكعب حذاءها مصدرة صوتًا جعل فريد يشمئز ويشعر وكأن السوس ينخر في رأسه، وقبل أن ينتقد طريقتها المفتقرة للذوق في اقتحامها المكتب بهذه الطريقة كانت قد سبقته وهي تقول بانفعال:
ـ إنت بجد مش معقول، أنا بقيت بشفق عليك بسبب الحالة اللي وصلتلها، تقدر تقوللي إحنا اتكلمنا عن إيه طول مدة الاجتماع النهارده ؟ أكيد مش عارف.. ماهو حضرتك قاعد مش مركز معانا، كل اللي مركز فيه الڤازة محطوطة ازاي ، الحيطان لونها إيه، الأرضيات باركيه ولا سيراميك..
ألقت الأخيرتين بسخرية واضحة وتابعت:
ـ أنا تعبت لك.. ده حتى رائد مسلمش منك، كنت هتاكله بعينيك لأنه مش لابس كراڤات.. أنا عايزة أعرف إنت مالك، هو انت هتمشي الكون على مزاجك؟ للدرجه دي انت مهووس!!
كان غضبه قد تفاقم حتى بلغ الذروة، وصاح غاضبًا فيها لأول مرة منذ عملها في الشركة وقال:
ـ چيلان إلزمي حدودك واعرفي انتِ بتتكلمي إزاي؟ انتِ نسيتي نفسك ولا إيه؟ هو مين اللي شغال عند التاني؟ ما تاخديني قلمين أحسن!!
تراجعت حدتها واحمر وجهها بحرج، فنظرت إليه بتوتر وهي ترجع خطوة إلى الوراء بتلقائية ثم قالت بتوتر:
ـ فريد إيه اللي بتقوله ده؟ أنا نفسي أساعدك بجد، إنت محتاج دكتور.. لأن الموضوع كل مدى بيسوء أكتر.. النهارده كان إجتماع مهم وإنت مكنتش قادر تركز في ولا كلمة..
هدر بها بغضب وقال بأعلى طبقة صوت يملكها وقد بلغ ضيقه أعلى مستوياته:
ـ قولتلك من الأول متتدخليش في أي حاجه تخصني، وإذا مكانش نظامي وطريقتي على هواكي تقدري تروحي تشتغلي في أي شركة من شركات والدتك على الأقل مش هتضطري تتعاملي مع إنسان مهووس زيي!
ـ فريد أنا مكنتش قصدي..
ـ فريد بيه.
رفعت حاجبها بصدمة لتستوعب ما قاله، فكرر بحدة:
ـ فريد بيه.. انتِ هنا موظفة زيك زي أي موظف تاني، كون إني ابن زوج والدتك ومتربيين مع بعض ده ميدلكيش الحق أبدا تتجاوزي حدودك وتتكلمي معايا بالأسلوب ده.
تنفست الصعداء بهدوء وهي تحاول لملمة بقايا كبرياءها المهدور، وأومأت ببساطة ثم قالت:
ـ sorry.
استدار وأولاها ظهره معلنًا انتهاء الحوار إلى هنا، فغادرت المكتب وهي تشعر وكأنها قد تلقت منه صفعة قوية جرحت كرامتها، بينما أسند فريد كفيه على طرف المكتب وأسقط رأسه للأمام بيأس.. فما كان بصدده اليوم كافيًا للبرهنة على أن الأمور تنحرف عن مسارها الصحيح ، چيلان ـ حتى وإن ساءت طريقة طرحها للمشكلة وعلاجها ـ محقة، ولكن هذا لا يمنحها الحق في انتقاده بهذه الطريقة التي جعلت صورته الكاملة ـ أو التي يسعى لجعلها كاملة ـ في نظر نفسه تهتز .
شعر بالتوتر والاضطراب الشديد، وأخذ يحك جبهته ومؤخرة رأسه بقوة وهو يبحث عن الخلاص، ثم أمسك هاتفه وقام بالاتصال برقم مركز الدكتور رؤوف فأجابته مديرة المركز مرحبة فقال:
ـ لو سمحتِ مضطر ألغي زيارة النهارده ، وقت ما أكون جاهز هكلمك.
•••••••••••••••••••
كانت نغم تجلس على الطاولة المستديرة بالمطبخ، بعد أن أعدت طعامًا سريعًا وجلست لتتناوله، وضعت أول ملعقة بفمها وأخذت تلوكها ببطء، و بالرغم من جوعها الشديد إلا أنها فقدت شهيتها، وأخذت تفكر في خالتها ودموعها تتساقط على خديها، فأبعدت الطعام من أمامها وأسندت جبهتها فوق قبضتيها وأجهشت في بكاءٍ مرير.
كل ما تفكر فيه الآن هو حالتها الصحية، وجلساتها المقررة؟ كيف ستذهب إليها وهي لم تخبر حسن من الأساس أنها مريضة بالسرطان، فلقد طلبت منها خالتها ألا تخبره يوم خروجه من السجن، وأرجأت الأمر لوقتٍ لاحق، فهل أخبرته أم لازالت تخفي عنه ما حل بها، بالطبع لم تخبره لأنها ستكون الآن مشغولة بالبحث عنها، ترى كيف تشعر؟ هل هي حزينة؟ بالطبع حزينة وفؤادها ينفطر عليها ، فهي تعرف ماذا تعني بالنسبة لخالتها، هي ضياء عينيها كما تخبرها دومًا.
ودت لو أخبرت خالتها الآن أنها بالنسبة إليها أيضًا ضياء عينيها ومهجة روحها، وأنها بدونها كالقشة في مهب الريح، جسدًا بدون روح.
ـ منك لله يا حسن.. إنت أُس البلاوي.
نهضت من على الطاولة وحملت الأطباق ثم وضعتها بالحوض، غسلتها ثم خرجت من المطبخ لكي تتجه إلى غرفة المعيشة تبحث أن أي شيء يسليها حتى يحين الغد، ولكنها توقفت وهي تنظر لنفسها وتكتشف هيئتها العجيبة التي لاتزال عليها.
فكرت قليلا ثم دخلت غرفة النوم، وقفت أمام الخزانة المحملة بالكثير من الملابس، ثم انتقت منامة سوداء عليها نقاط بيضاء دائرية كانت هي الوحيدة التي تصلح للارتداء بين كومة القصاصات المعلقة.
دخلت إلى الحمام وأوصدت الباب خلفها من الداخل، وأخذت تتفحصه بغرابة وهي تتمتم:
ـ يا لهوي، حمام ده ولا قاعة أفراح!!
أخذت حمامًا سريعًا وارتدت تلك المنامة التي وقع اختيارها عليها، ثم خرجت وهي تشعر بالراحة نوعا ما. ثم دخلت غرفة المعيشة، ألقت بجسدها المنهك على تلك الأريكة الوثيرة وأخذت تفكر في يوم غد، واتفاقها الخيالي مع هذا المجهول، هل ستواتيها الجرأة لفعل ما طلبه منها؟ ولكنها وجدت نفسها تجيب: هي غير مخيرة من الأساس، هي مجبورة على فعل ذلك لكي تحصل على المال، ثم أنه لم يعرض عليها خمسة آلاف جنيه مثلا، بل نصف مليون جنيه، مبلغًا من شأنه أن يغير حياتها تماما، سيحقق لها آمالاها ويساعدها في الهروب من بطش حسن الذي بالتأكيد يبحث عنها الآن ليوقع بها أشد عقاب ، ثم أنها ستكون قادرة حينها على مساعدة خالتها، وربما استطاعت إقناعها في ترك حسن والذهاب للعيش معها في الشقة التي ستشتريها لتسكن بها.
وأخذت تفكر وهي تطرق ذقنها بسبابتها:
ـ نص مليون جنيه يجيبوا شقة فين؟ أكيد مش في مكان زي ده، ولا شقة زي شقة نيهال مثلا، أنا ممكن أأجر شقة وبالباقي أشتري عربية، بس الباقي مش هيجيبلي توك توك حتى!! وبعدين هتعملي بالعربية إيه يا نغم هو انتِ بتعرفي تسوقي أصلا!!
عدلت وضعية جلوسها فوق الأريكة وهي تجمع شعرها للأعلى وتقول بتفكير:
ـ أنا ممكن أحطهم في البنك وأصرف من فوايدهم كل شهر!! فكرة بردو.. بس أنا معييش بطاقة!!
تنهدت بيأس وصمتت لثوان قبل أن تطرق إلى رأسها فكرة فقالت:
ـ بس.. أنا افتح بيهم مشروع، كوافير زي بتاع فيفي، وأسميه بيوتي سنتر نغم ..
وابتسمت واتسعت ابتسامتها أكثر بحماس كلما تخيلت نفسها وقد أصبحت من سيدات الأعمال تأمر وتنهي كما يحلو لها.. ووصولا عند هذا الخاطر وجدت نفسها وقد اقتنعت بما ستفعله، فهو سلاح ذو حدين ، أولهما أنها ستحصل على النقود من خلاله، والثاني أنها ستساهم في كشف حقيقة هذا القذر المتحرش الذي يستغل البنات اليتيمات ويعتدي عليهن، وبالرغم من أنها غير متقبلة للطريقة التي ستفعل بها هذا ولكنها تطمئن نفسها بأن الغاية تبرر الوسيلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي..
كانت چوليا قد استعدت للذهاب إلى الحفل، وكذلك والدتها، وفي انتظار نسيم التي خرجت من غرفتها وهي ترتدي فستانًا بسيطًا باللون الكستنائي لائمها كثيرا..
ـ واوووو… تحفه يا نسومه.
قالتها چوليا وهي تمسك بكف نسيم وتجعلها تستدير حول نفسها ثم قالت لوالدتها التي تجاورها:
ـ إيه رايك يا مامي، برنسيس مش كده؟
ابتسمت نادية ببشاشة وقالت:
ـ زي القمر يا نسومه يا حبيبتي.
ابتسمت الأخرى برقة يشوبها الخجل وقالت:
ـ ميرسي يا طنط.
في هذه الأثناء خرجت چيلان من غرفتها وهي ترتدي فستانا أبيضا مقفولًا من الأعلى ولكنه ينحسر عن ركبتيها ، وحذاءً عالي الكعبين بنفس اللون.
قطبت چوليا حاجبيها وهي تقول باستغراب:
ـ مش كنتي بتقولي مش جاية؟
طالعتهم چيلان بابتسامة عريضة وهي تقول:
ـ مينفعش أسيب فريد في يوم زي ده لوحده!
قلبت نادية عينيها بملل وغيظ، وانصرفت عنهم لكي لا تصاب بجلطة من رعونة ابنتها التي عادت من العمل بالأمس وهي في ذروة غضبها وأقسمت ألا تخطو شركة هذا المتعجرف بقدميها مرة أخرى، وها هي تتأنق وتتألق في أبهى صورها اليوم لكي تدعمه في هذا اليوم!
تحركت الفتيات الثلاث، ليلحقن بالسيدة نادية، التي مرت بمكتب سالم أولا فوجدته يجلس يتابع شيئا ما بهاتفه فقالت:
ـ سالم ، عمر نايم من ساعة ما وصل الصبح، أرجوك بلاش تصحيه لأنه جاي حالته سيئة جدا..
أومأ بهدوء فتابعت:
ـ بردو مصمم متجيش معانا؟
ـ هحصلكم متقلقيش، ما انتِ عارفة أنا بمل من الأجواء دي، مش هتحمل أفضل متذنب هناك تلت أربع ساعات، روحوا انتوا وانبسطوا وخلي بالك من البنات وأنا هحصلكم.
أومأت بغير ارتياح، وخرجت لتستقل السيارة هي والفتيات مع منصور الذي سيقلهم إلى الحفل.
ــــــــــــــــــ
وقف فريد أمام مرآته يطالع المظهر النهائي، يبدو وسيمًا بحق في هذه البدلة السوداء، وهو لونٌ عدا عن أنه يكسبه وسامة فهو يكسبه أيضًا ثقة وشعورًا بالسيطرة ، تمم على كل شيء قبل أن يغادر، ثم خرج متجها للأسفل ليستقل سيارته ويغادر ، لم يستطع تجاهل انقباضات معدته التي هي ترجمة فعلية لما يشعر به من توتر وقلق الآن، فهو كثيرا ما يكون قلقًا في مثل تلك المناسبات، والهواجس التي تعبث برأسه لا تكون هينة أبدا، حيث يتخيل أن سيحدث شيء مفاجئ ويخرب كل ما خطط له وتعب من أجله، يتوقع الفشل ويخشاه كثيرا، ويخشى المفاجآت أكثر، يخشى كل شيء مجهول ومبهم ويكون كثير القلق حياله.
تنهد وهو يحاول طرد كل تلك الأفكار السلبية عن رأسه، وأن يشغل نفسه بمراجعة الكلمة الافتتاحية التي سيلقيها في الحفل، كررها مرارا وتكرارا حتى أقر بأنه بات يحفظها عن ظهر قلب، ثم أمسك هاتفه ليقوم بالاتصال بمدير أعماله والذي أخبره أن كل شيء على ما يرام.
ــــــــــــــــــــــ
كانت نغم تجلس أمام الساعة المعلقة على الحائط والتي تشير الآن إلى السابعة والنصف، تترقب بخوف وقلق، لقد أخبرها ذاك المجهول أنه سيأتي ومعه الفستان الذي سترتديه وبعدها ستذهب لتنفيذ المتفق عليه.
وبينما هي تفكر استمعت إلى صوت المفتاح بالباب وبعدها دخل المجهول طويل القامة، وخلفه فتاة تحمل بيدها صندوقًا، وبيدها كيسًا تحمله على ذراعها، تقدمت منها ووضعت الكيس على الأريكة بجوارها، فأشار لها إلى الغرفة المقابلة فتوجهت نحوها بصمت، تحت أنظار نغم التي كانت تنظر إليهما بتعجب.
اقترب منها ثم أخذ يتفحصها وهو يقول بابتسامة متلاعبة:
ـ واضح إنك خدتي راحتك أهو ودورتي على هدوم وخدتي شاور كمان..
نظرت لما ترتديه بتلقائية وقالت بخوف وحرج:
ـ أيوة.. كنت محتاجة أغير الهدوم اللي كنت لبساها فأخدت بيچامة من الدولاب .
أومأ مؤيدًا وتابع وهو يتفحصها بخبث:
ـ البيچامة هتاكل منك حته بصراحة.
ابتلعت ريقها بخوف وانكمشت حول نفسها كردة فعل تلقائية، فضحك هو قائلا:
ـ متخافيش قوي كده مش هاكلك.
وأشار إلى ما أحضره وقال:
ـ قومي يلا غيري هدومك بسرعة معندناش وقت نضيعه، والبنت اللي جوه هتساعدك في كل حاجه .
أومأت بهدوء ممزوج بالارتياب، ودخلت الغرفة ، فبدأت الفتاة معها بصمت، حيث وضعت لها لمسات قوية نجحت في تغيير ملامحها إلى حد كبير، ثم ساعدتها في ارتداء الثوب والذي لم يحصل على رضا نغم بتاتًا، حيث يصل طوله إلى ركبتيها، مما كشف عن جزءا كبيرا من ساقيها وكان يرسم قسمات جسدها بوضوح.
في النهاية وضعت لها الفتاة الشعر المستعار بعناية وتممت على مظهرها باهتمام وقالت:
ـ خلصنا، دلوقتي تقدري تخرجي.
كان يقف في انتظار خروجها، يترقب بتوتر، هل ستنجح في هذه المهمة الموكلة إليها أم ستورطه في مصيبة أكبر. ولكنه تفاجأ بها وقد فتحت الباب وخرجت، وقفت أمامه بتوتر ترمقه باستفسار وتأهب، فلمحت نظرات الإعجاب باديةً على وجهه وعينيه اللتين يتفرسانها وأطلق صفيرا معجبا وهو يقول:
ـ هايل.
ثم نظر إلى الساعة في معصمه وقال متعجلا:
ـ ورايا مفيش وقت.
خرج من الشقة وهي تلحق به، ثم أشار إليها لكي تركب سيارة الأجرة التي تنتظرها، ومن ثم توجه هو نحو سيارته وانطلق بها.
ــــــــــــــــــــــــ
كان عمر قد استيقظ من نومه بعد اتصالات والدته التي طلبت منه أن يستعد ويلحق بهم إلى الحفل، فنهض وأخذ حمامًا وانتقى بدلة سوداء فخمة، ارتداها على عجالة ووضع زخات وفيرة من عطره الخاص، ثم وضع ساعته التي تبتلع معصمه ووقف يلقي نظرة أخيرة على هندامه برضا.
وفجأة انفرج الباب بقوة، فأجفل وهو يطالع والده الذي يقف أمامه يضم يديه خلف ظهره، وينظر إليه بهدوء وهو يقول:
ـ صحيت يا عموره؟
نظر عمر إلى والده وابتسم بقلق، وأومأ مؤكدا وهو يقول:
ـ إزي حضرتك يا بابا.
تقدم سالم نحوه وهو لايزال متمسكا بهدوءه وهو يقول:
ـ بابا إيه بقا ده انت اللي بابا.
ونظر إليه بقوة مردفًا بصوته الذي يسطو على كل شيء بالمكان:
ـ ده انت عملت حاجات أنا معملتهاش في ٦٤ سنه.. مش سهل انت بردو.
انزلق ريق عمر بفمه لاإراديًا وكان على وشك التبول لاإراديا أيضا من فرط الرهبة التي يشعر بها الآن.
ـ ءآ… أنا مش فاهم حضرتك تقصد إيه؟.. هو حضرتك مش رايح الحفلة ولا إيه؟
ود لو غير مسار هذا الحديث المرعب ولكن والده قال بنظرة جحيمية ونبرة مستترة:
ـ لأ.. عندي حفلة تانية أهم.
وفجأة أظهر يديه من خلف ظهره والتي يحمل بها سوطًا جلديًا فدب الرعب في أوصال عمر الذي تصبب جبينه عرقًا وشعر بالهواء يتبدد من حوله، وهو ينظر إلى السوط بيد أبيه ويقول:
ـ إيه ده؟ إيه اللي حضرتك ماسكُه ده؟
نظر سالم بيده حيث السوط، ونظر إليه وهو يقول بهدوء:
ـ ده؟ ده كُرباج.. بنروض بيه الخيول العصيانة.. جبتهولك معايا مخصوص من العزبة وأنا جاي..
ابتلع ريقه مجددا بخوف وهو يقول:
ـ ليه؟
ـ مانا قولتلك يا عمورة، بنروض بيه الخيول العصيانة.. اسمع كده بيقول إيه؟؟
وضرب الأرض بالسوط بقوة فأحدث صوتًا مفزعًا جعل عمر يقفز من مكانه ويلتجئ إلى آخر الغرفة، فقال سالم بنبرة يفوح منها الاستهزاء:
ـ خايف يا عمورة؟ لا متخافش.. ده حتى كُرباج صغير أوي.. عشان تعرف أبوك خايف عليك إزاي.
ـ بابا انت ناوي على إيه بالظبط؟
قالها عمر بصوت مرتجف ليصيح به الأخير بقوة أسكتت حتى العصافير على الشجر:
ـ متقوليش يا بابا !! هو انت بنت عشان تقوللي يا بابا؟ أدي أخرة الدلع اللي دلعتهولك أمك..
تكلم عمر وهو على وشك البكاء وقال:
ـ أومال أقول لحضرتك إيه؟
رفع الأخير رأسه وهو يرمقه بنظرات يملؤها الزهو والعنفوان قائلا:
ـ قوللي يا باشا زي ما أخوك بيقول.
ـ حاضر..
أومأ بطاعة وخوف فأشار إليه والده ليقترب فاقترب بخوف فقال سالم:
ـ لف !
نظر إليه باستفهام وتعجب فكرر وهو يضرب الأرض بالسوط مجددا بقوة ويقول:
ـ بقولك لف.
استدار عمر على الفور مذعنًا لأوامر والده، والذي أعقب ذلك بقوله:
ـ اقلع !!
استدار عمر ينظر لوالده بذعر وقال:
ـ ايه اللي حضرتك بتقوله ده؟؟
ـ قولتلك اقلع، ولا انت مبتقلعش غير قدام النسوان، اقلع يا حيلة أمك!
استدار عمر ثم خلع سترته سريعا، وأتبعها بالقميص، ووقف يترقب كجندي في الصف الأول ينتظر استقرار طلقة في منتصف رأسه.
وفجأة واتته الطلقة، والتي كانت متمثلة في جلدة من سوط والده جعلته يصرخ عاليًا فقال سالم بقسوة:
ـ صرخ شبه النسوان، أنا فضيتلك البيت عشان تصرخ براحتك..
وأعقب قوله بجلدة ثانية :
ـ عشان قبل ما تفكر تعمل عملتك دي تاني تفتكر اللي هيجرالك.
وباغته بالثالثة وقال:
ـ عامللي فيها راجل أوي، طب أنا هعلمك الرجولة من الأول وجديد.. عشان لما تفكر تعمل عملة زي دي تاني تفتكر اللي هيجرالك
ـ بابا أرجوك…
قاطعه بالجلدة الرابعة وهو يقول:
ـ قولتلك متقولليش يا بابا، قوللي يا باشا.. أخوك طول عمره بيقوللي يا باشا..
ـ حاضر.. عشان خاطري يا باشا..
جلده للمرة السابعة وهو يقول بغضب أغمى:
ـ خاطرك؟ هو انت خليت فيها خواطر؟ ده أنا كنت متعشم فيك وبقول انت اللي هتفلح في عيالي.. طلعت وسخ ووسخت اسمي اللي فضلت سنين وسنين أكبر فيه..
وجلده مجددا وهو يقول:
ـ عملت إيه أنا في دنيتي عشان يكون حظي زي الزفت في عيالي كده، ابني الكبير عيّان وبيشك في صوابع إيده وشكله كده ملوش في الستات، والصغير مقضيها سرمحة مع النسوان..
وهدر بالسوط فوق ظهره وهو يقول:
ـ وأنا اللي فاكرك مسافر في شغل، طلعت مستغفلنا كلنا.
انهمرت دموع عمر وهو يترجاه فأخبره سالم بنبرة صارمة:
ـ عيط يا روح أمك، يمكن تتعلم الأدب وتعرف إن الله حق.
ـ والله ما هعمل كده تاني، أنا آسف والله آسف..
ـ هشش اخرس خالص، مش عاوز أسمع صوتك ده تاني.
وقف عمر أمام والده يبتلع صرخاته ويكتمها تارة ويطلقها تارةً أخرى، إلى أن أنهى والده العد قائلا:
ـ مية ..
وألقى السوط من يده أرضا ثم ارتمى فوق المقعد المجاور له بتعب وأنفاسه تتلاحق، بينما ارتمى عمر فوق الفراش يبكي بقهر ويئن بتعب مميت.
ــــــــــــــــــــــــــ
وقف فريد متأهبًا، يبتسم بهدوء وهو يستقبل المشاركين في الحفل، قلبه يطرق بارتياب غير مبرر، ولكن وجود نسيم هو ما يبعث على القليل من الراحة، فكلما نظر إليها وجدها تهديه ابتسامة حنونة تهدئ من روعه.
أشار إليه مدير الدار أن الفقرة المتفق عليها جاهزة للعرض، وهي فقرة افتتاحية للحفل تم تصميمها وتدريب الفتيات اللواتي انضممن للدار ليقمن بها.
انخفضت الأضواء جميعها ما عدا من ضوء خافت مثبت على الاستعراض، والذي جذب أنظار الجميع إليهن وجعلهم يتفاعلون معهن بحماس.
انسلتت نسيم من جوار منصور تنوي الذهاب لفريد والبقاء بجواره، وبينما هي تحاول التحرك من جواره بدون أن يلاحظها اصطدمت بشخص ما وكادت أن تسقط فأمسك بذراعيها بقوة وهو يقول:
ـ حاسبي..
نظرت إليه نسيم بحرج، ولم تتعرف إليه إلا بعد لحظات بسبب خفوت الضوء حولهما. بينما هو تمتم بغير تصديق:
ـ نسيم؟
ـ شريف؟
قالتها وقد تذكرت ملامحه التي لم ترها منذ سنوات، فهي لا تتذكر آخر مرة رأته فيها، وبدوره هو لم يرها منذ زمن بعيد لأنها لا تظهر في أي مناسبة عائلية أو غير عائلية، وظل يتفحص ملامحها القريبة منه جدا بتفرس وارتسمت على شفتيه ابتسامة لا إرادية وهو يقول:
ـ معقول أشوفك بعد السنين دي كلها؟ عاملة إيه؟
كانت هي قد اعتدلت واستقامت بوقفتها وهي تتطلع حولها بتوتر وتقول:
ـ كويسه، انت ازيك؟
ـ أنا كويس، انبسطت جدا اني شوفتك النهارده.
ابتسمت ابتسامة مجاملة وقالت بإيجاز:
ـ وأنا أكتر، عن إذنك.
تخطته سريعا وذهبت لتقف بجوار فريد الذي تفاجأ بوجودها قربه، فأحاطها بذراعه وهو يحاول دعمها معنويًا كما تدعمه هي بابتساماتها وقال:
ـ تعرفي إنك أحلى واحدة في المكان.
تألقت ابتسامتها بسعادة غامرة والتصقت به أكثر تحاول أن تستمد قوتها منه بعد ذلك الموقف المخجل الذي تعرضت له قبل قليل.
انتهى العرض وارتفعت أصوات التصفيق، فأشار أيمن مدير أعمال فريد إليه لكي يلقي كلمته فاقترب فريد من الساحة المخصصة له، وجذب انتباه الجميع فقال:
ـ أهلا وسهلا بالجميع.. في البداية حابب أشكركم كلكم على حضوركم ودعمكم ليا وللأطفال الموجودة سواء بتبرعاتكم أو حتى بكلامكم الطيب اللي أكيد هيسيب أثر جميل في نفسي وفي نفس كل طفل موجود النهارده ، وبالمناسبة دي حابب أفرحكم بخبر حصري، قريب أوي إن شاء الله هيتم افتتاح مستشفى لعلاج مرضى السرطان بالمجان، وشكرا مرة تانية لحضراتكم.
في تلك الأثناء لاحظ وجود فتاة شقراء، ترتدي ثوبا ملفتا قد اقتحمت المجال، وتعجب أنها تقترب نحوه وهذا ما أثار قلقه وجعله يختتم كلمته الافتتاحية سريعا، وفجأة توقفت هذه الفتاة أمامه.. أمامه مباشرةً فأثارت تعجبه، وبالأخص عندما تساءلت:
ـ انتَ فريد مرسال؟
أومأ بصمت وهو مضيقًا عينيه باستفهام، فوقفت أمامه وأمسكت بتلابيبه بقوة وهي تطالعه بعينين غائمتين من فرط التوتر..
علت الصيحات والهمهمات من حولهما حيث أن الجميع انتبه للموقف الغريب!! وقبل أن يفتح فمه ويتسائل عما تفعله هذه المجنونة كانت قد لثمت ثغره بقوة تفتقر للخبرة، فألجمت يداه وعقدت لسانه وشوشت كل حواسه حتى أنه لم يستوعب ما يجرى الآن إلا بعد أن ابتعدت عنه ونظرت إليه فقابل نظرتها بعينين مستنكرتين حمراوتين، يخضبهما الذهول والصدمة، فلم يحصل منها سوى على نظرة مقهورة التقطها هو بعين خبير، وفي خضم ذهوله واستنكار المحيطين به كانت قد اختفت فجأة كما ظهرت فجأة!!
ـــــ
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق