رواية محسنين الغرام الفصل الثامن 8 بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل الثامن 8 بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٨ ـ ~ قُبلة في اللاوعي ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ها هي تتكئ على كتفه ، يعلو صوت نبضاتهما مع كل نفس، كأنهما يتشاركان إيقاعًا واحدًا، إيقاعًا يروي حكاية أبدية عن الطمأنينة. العالم حولهما يذوب، يصبح مجرد خلفية رمادية لا تعني شيئًا، هما هناك، في مدار خاص بهما، حيث الزمن يتوقف، وحيث تُصبح لمسة الكتف والسكون والابتسامة الخافتة كُل الوجود. ثم ينظر بعينيها بلوعة وعلى حين غفلةٍ منها يمنحها قُبلة عصية عن الوصف، سارت كالترياق بجسد كلا منهما.
تقبلت قُبلته بصدرٍ رحب، وبقلب لا ينبض سوى له ، وابتسمت ابتسامة من أجمل ما يكون، ثم غادرت الحيز الذي تشغله، واختفت تمامًا، وتركتهُ موسومًا بعشقها.
وفجأة.. فتح عينيه بقوة، وحدق في سقف الغرفة بجمود، ثم انتفض من مرقده وأخذ يتطلع حوله ليتأكد أنه كان حلمًا !
أجل، لم يكن سوى حلمًا غريبًا.. ولكن.. لماذا يحلم بهذه الفتاة المحتالة خصيصا ؟ إنه ينتظر أن تتحسن حالتها لكي يأخذ بثأره منها، يكِنُ لها عداوة شديدة ويبغضها كما يبغض شيطانه اللعين تماما ! إذًا لماذا رآها في منامه، ولماذا رأى نفسه متيمًا بها لهذا القدر؟
أغمض عينيه.. يود استرجاع تلك اللمسات الدافئة التي شعر بها في منامه، واعتصر جفنيه وهو يتلمس أثر تلك القُبلة لا إراديًا، يقسم أنه لايزال يتذوق حلاوة الإحساس الذي غمره قبل قليل..
هل كل هذا لأنه نال منها قبلة في اللاوعي؟ هل هذا نفس الإحساس الذي يشعر به الآخررن عندما يتبادلون القُبلات؟ بالطبع لا.. لقد شعر بالاشمئزاز عندما اغتصبت تلك المحتالة شفتيه بالحفل، ولولا أنها باغتته بفعلتها لاتخذ نحوها أقسى رد فعل كان من الممكن أن تتوقعه.
ولكن.. قبل قليل.. أي في الحلم الذي رآه.. هذه القبلة لم تكن كتلك أبدا.. لقد كانت قبلة بمذاق العشق الخالص !
زفر ونفض رأسه من تلك الترهات ثم نزل من فراشه ينوي إتمام الكثير اليوم لكي يستعد ليوم العطلة في الغد بذهن صاف.
شرد في ظهر كفه حيث البقعة التي اكتشفها بالأمس وعلى الفور قام بالاتصال بمدير أعماله وطلب منه أن يأخذ له موعدًا لدى طبيب أمراض جلدية موثوق اليوم، ثم توجه نحو الحمام، وأنهى حمامه ثم خرج لينهي باقي خطوات استعداده للخروج.
وقف في النهاية أمام مرآة الغرفة يتمم على مظهره النهائي، ثم خرج من الغرفة ليعد قدحًا من القهوة، وفي تلك الأثناء قام بالاتصال بالمحامي الذي يتابع مسار قضية عمر، وتساءل:
ـ إيه الأخبار يا أستاذ نادر؟
ـ متقلقش يا فريد بيه، عمر بيه كويس جدا وبيتعامل معاملة سبيشيال.
تنهد فريد بضيق يغمره كلما تخيل شقيقه وهو ملقى على الأرض بين اللصوص والمجرمين، ثم قال:
ـ إنت متأكد؟
ـ متأكد يا فريد بيه، الباشا موصي عليه ناس ليها كلمتها ووعدوه هيشيلوا عمر بيه على كفوف الراحة الأربع أيام دول، إن شاء الله فترة وتعدي.
ـ والمكان اللي هو قاعد فيه نضيف؟ من فضلك اتأكد بنفسك، لازم يكون في مكان نضيف وبيتقدمله أكل نضيف ومضمون.. اعمل كده حتى لو كان التمن إيه.
أومأ الآخر بتأكيد وهو يقول:
ـ متقلقش خالص، الزنزانة اللي فيها عمر بيه زنزانة VIP .. بقوللك الباشا موصي عليه توصية جامدة.
أطلق فريد تنهيدة مرتابة ثم هز رأسه باستسلام وقال:
ـ تمام يا متر، وإمتا نتيجة التحليل هتظهر؟
ـ بكرة إن شاء الله.
ـ إن شاء الله.. طيب.. لو ثبت في التحاليل إن في مخدرات، إيه الوضع؟
ـ لا متقلقش يا فريد بيه أنا اتكلمت مع عمر بيه وهو أكد لي إنه ما تعطاش أي مخدرات، إضافة لأنه لو كان تحت تأثير المخدرات الأمر بيبقا واضح، لكن دي إجراءات روتينية لا بد منها، وعلى العموم حتى لو ثبت وجود نسبة مخدرات في التحليل إن شاء الله الموضوع يتحل بكفالة.. أهم حاجة إن البنت تتحسن وتتنازل.. ودي حاجة مضمونة إن شاء الله .
على ذكر سيرتها تصاعدت ألسنة اللهب داخل عقله واشتعل رأسه غيظًا، ثم أردف يؤكد:
ـ تمام يا متر ربنا معاك.. لو في أي جديد بلغني.
ـ تحت أمرك يا فندم، مع السلامة.
أنهى فريد المكالمة، ثم أخذ يقلب الهاتف بين يديه وهو يسبح بخياله بعيدا.. بالتحديد عند تلك الفتاة.. ثم أخذ يردد بتوعد:
ـ أهم حاجة تتحسن… لأن اللي مستنيها شديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان حسن نائمًا، يشعر وكأنه يترنح بين دوامات من اللاوعي، تسحقه وتعبث به وتتركه خائر القوى، هائمًا ، تائهًا وشريدًا ..
استمع إلى صوت رنين الهاتف الذي جذبه من نومٍ عميق وجعله يفتح عينيه الضيقتين فجأة، ويحدق بهما لثوان دون أن يرف له جفن، تماما مثل بركة ساكنة لا تتحرك فيها المياه، وأخذ يحدث عقله، هل هذا الصوت كان ناجمًا عن الترنح بين دوامات عالمه الافتراضي؟ أم أنه رنينًا حقيقيًا؟ وعند سماع صوت الرنين مجددا قفز من فوق السرير بلهفة، ملتقطًا هاتفه بلهفة على أمل أن يكون الاتصال يتضمن أخبارًا عن نغم. ثم أجاب الاتصال من الرقم المجهول وهو يقول:
ـ ألو.. مين معايا؟
ليستمع إلى صوت أنثوي رقيق يقول:
ـ السلام عليكم ، ده رقم أستاذة نغم ناجي؟
ـ أيوة.. أيوة هو، مين انتِ؟
ـ أنا بتصل بخصوص التأخير عن ميعاد جرعات الكيماوي؟ مدام عيشة كده فاتها جرعتين. رجاءً الاهتمام بمواعيد الجرعات لأن الحالة مش مستحملة تأخير.
كان يستمع إليها بغير وعي ، أو بالأحرى لقد فهم ما تقوله ولكنه يرفض تصديقه! ثم تساءل بعد أن أجبر لسانه المقيد على النطق:
ـ كيماوي إيه؟ هي أمي عندها سرطان ؟!!!
صمتت الممرضة لثوان بطيئة، ثم تساءلت بتعجب:
ـ حضرتك ابن الست عيشة؟
ـ أيوة.
ألقاها بتثاقل ثم سأل مجددا بخوف من أن تأكد إجابتها :
ـ هي أمي بتتعالج من السرطان ؟
ـ هو حضرتك مكنتش تعرف؟
هز رأسه وكأنها تراه، ولم ينطق لأن الصدمة ألجمت لسانه وجعلته يستدير في مكانه ويتطلع نحو باب غرفة أمه بتيه شديد، فإذا به يستمع إليها تقول:
ـ ضروري مدام عيشة تحضر بكرة، أي تأخير مش في صالحها.
وأنهت الاتصال فأخفض حسن الهاتف عن أذنه ثم جرّ قدميه نحو غرفة والدته، ودخل ليجدها ممسكةً بصورة تجمع ثلاثتهم وهي تبكي وتضم الصورة إلى صدرها بحنين أمومي وتبكي بقهر.
تقدم منها، ثم التقط الصورة من يدها وأخذ يتطلع نحوها والدمع يتلألأ بعينيه، هذه هي الصورة الوحيدة التي تجمعه بنغم، عندما كان في سن العاشرة يقف حاملًا نغم التي كانت في سن عامين على ذراعه ويضمها إليه بتملك. ويقف بجوار والدته على شاطئ البحر والابتسامة تعلو وجوههم.
قرب الصورة وأمعن النظر بها، ثم قام بتقبيل صورة نغم بتلقائية وهو يكتم دمعاته لئلا تغدره ، وأعطى الصورة لأمه ثم جلس أمامها على المقعد ، يسند ذراعيه فوق فخذيه، ويسقط رأسه بانهزام، يخفي نظراته وعينيه المخضبتين بالدموع عنها، ثم تساءل بصوت مرتجف:
ـ من إمتا وانتِ بتتعالجي من السرطان ؟
نظرت إليه بصدمة، لقد أخفت الأمر عنه، فمن أين عرف إذًا؟
وتهدل كتفيها بإحباط ملائم لهزيمته وقالت:
ـ عرفت إزاي؟
أجاب وهو لازال يتفرس الأرض :
ـ اتصلوا من المستشفى بيقولوا إنك إتأخرتي عن ميعاد الجرعة.. من امتا وانتِ بتاخدي كيماوي؟ وليه مخبية عني؟ وكنتي ناوية تفضلي مخبية عني لحد إمتا؟ اتكلمي ياما.
تعثر قلبها، وكأنها ركضت لمسافة ميل أو ميلين، ثم نطقت وهي تجاهد لئلا تبكي:
ـ من كام شهر عرفت اني تعبانة بالمرض الخبيث وبدأت أتعالج، ومن فترة صغيرة خالص سمعت الدكتور بيبلغ نغم إن خلاص المرض اتمكن مني وزي ما بيقولوا خلاص بقيت في الوقت الضايع، زودوا الجلسات على أساس تمنع السرطان يمشي في جسمي كله بس عالفاضي. أنا عارفة إنه خلاص مفيش من حالتي رجا.
اهتز بدنه وسقطت دمعة من عينه التقطها بسرعة، واستمع إليها وهي تكمل بانهزام:
ـ أنا خلاص مش ناوية أخد كيماوي تاني واللي يحصل يحصل..
حدجها بنظرات غاضبة، يملؤها القهر، وقال بحدة :
ـ إزاي يعني؟ طيب إذا مكنتيش عاوزة تعيشي عشاني، على الأقل عيشي لنغم !
رمقته فورا، وأغمضت عينيها والدموع تفر منهما باشتياق، ثم قالت بصوت خافت:
ـ هي فين نغم؟ قلبي بيقوللي إنه جرالها حاجة، نغم ملهاش غيري.. لو عايشة وكويسة استحالة تبعد عني كل ده.
نهض عن مقعده منتفضًا، معترضًا، يرفض تصديق ما سمعه، ثم ألقى كلامه بصوت حاد:
ـ نغم كويسة. وهترجع.. هترجع قريب أوي، هدور عليها وهقلب عليها البلد كلها، وهترجع هنا وسطنا. وانتِ هتكملي علاجك وهتخفي وتبقي مِية فل وعشرة.. سامعاني؟
لم تجب، ولم تسمع ما قاله أساسا، فكل ما كانت تفكر به وتوليه اهتمامها الآن هو العثور على نغم. ثم وقفت أمامه تطالع برجاء قائلة:
ـ اوعدني يا حسن.
هز رأسه مستفهما فقالت وهي تنظر بداخل عينيه، تناشد ذرة الضمير المتبقية بداخله، وتقول:
ـ لو ربنا أذن لعمري يخلص ومت وانت لقيت نغم في يوم من الأيام.. اوعى تأذيها ولا تجبرها على حاجة هي مش عايزاها.
صمت يستشف قصدها، يعرف أنها تلمح لزواجه منها، ويعرف أنها تعرف أنه يبحث عنها وينوي الزواج منها، طال صمته فقالت برجاء:
ـ اوعدني يا حسن.
لم يستطع أن يقطع ذلك العهد لها لأنه يعرف أنه لن يلتزم به، فهو إن رأى نغم لن يفلتها من قبضته أبدا.. سواء باللين أو بالقسوة، سواء أقبلت أم لم تقبل، وأشاح عن عينيها بتوتر ثم قال بإيجاز وهو يهرب من عينيها اللتان تحاصرانه:
ـ أنا خارج أشرب سيجارة وجاي.
فر من أمامها فورا وخرج من البيت، وقف أمام المنزل وأشعل سيجارة أخذ ينفث الغل من قلبه مع دخانها، وسرعان ما لقيت حتفها على يده فأعقبها بأخرى، وأخذ يفكر وهو يشعر أنه على حافة الجنون:
ـ انتِ فين يا نغم ؟!!
ــــــــــــــــ
خرج فريد من منزله قاصدًا المشفى، وبعد أن وصل وصف سيارته لم ينس أن يرتدي القناع الطبي والقفازات، ثم ترجل ودخل إلى المبنى، ليتوجه بعدها على الفور نحو قسم العناية المركزة حيث تتواجد الغرفة الموجودة بها فتاة الحادث.
توقف أمام الغرفة، خلف الجدار الزجاجي والذي يظهر من خلفه سريرًا طبيًا، تستلقي فوقه فتاة صغيرة الحجم، وجهاز مراقبة المؤشرات الحيوية موصول بها عن طريق تلك الأقطاب المثبتة بين أضلاعها، وسبابة يدها اليسرى موصول بجهاز المراقبة.
وقف فريد يتأملها للحظات، يتخيلها بين يديه.. ماذا سيفعل بها؟ هل سيخنقها أولا ثم يقتلع ذلك الرأس الغبي من جذوره ويطعمه لكلاب حراسة الشركة؟ أم يقتلع رأسها وهي حية حتى يتلذذ بكل صرخة عذابٍ منها ثم يصوب النار نحو ما تبقى منها؟ ثم تنهد بتعجب من حاله.. ما كل تلك الميول الإجرامية يا رجل الخير؟ هل فتاة بحجم الكف كهذه استفزته لذلك الحد الذي سمح له باكتشاف ميولا جديدة لديه؟
وبينما هو يتخير طريقة التعذيب المثلى التي سيعتمدها في عقاب تلك المحتالة خطر على باله خاطر.. القُبلة التي تبادلاها في المنام!! وكم كان شعورًا حلو المذاق! ووصولا عند هذا الحد نفض رأسه من تلك الفوضى وحمحم يجلي حلقه بهدوء وهو يستقبل الدكتور يوسف الذي دنا منه مبتسمًا ببشاشة ثم قال:
ـ لورد فريد إيه الأخبار؟
ليجيبه فريد بابتسامة مهندمة:
ـ كله تمام، بالنسبة للبنت؟ إيه الأخبار يا دكتور يوسف؟
ـ الحمد لله الحالة مستقرة بنسبة كبيرة، وإن شاء الله في خلال من ٤ أيام لأسبوع هتكون قادرة تستعيد وعيها بالكامل وتخرج من العناية المركزة وتتنقل على عنبر خاص.. وبعدها هنعمل لها شوية فحوصات وأشعة نطمن بيها على سلامة الدماغ والنطق والذاكرة والكلام ده كله…
هز فريد رأسه باطمئنان قليلا، ثم تنهد وقال وهو يرمقها من خلف جدار الغرفة الزجاجي:
ـ إن شاء الله.. من فضلك يا دكتور تبلغهم ياخدوا بالهم منها كويس جداا..
ونظر إليها مجددا وأضاف بنبرة ذات مغزى خفية لا يعلمها سواه :
ـ البنت دي لازم تقوم من هنا على رجليها .
ربت الطبيب بعفوية على كتف فريد ثم أخبره بود:
ـ متقلقش إن شاء الله خير..
ـ إن شاء الله.
وألقى عليها نظرة أخيرة، ثم غادر ليتجه على الفور نحو شركته حيث ينتظره الكثير من المهام .
بعد حوالي نصف ساعة كان قد وصل إلى الشركة، توجه إلى الداخل ليستوقفه مشهدَا لم يستطع تجاوزه لموظف في قسم الاستعلامات. حيث كان يقف متكئا على الطاولة المستطيلة أمامه بمرفقه ويميل لليسار منشغلا بمحادثة زميلته ويتبادلان الضحكات.
لمحت الموظفة زينة رئيس الشركة وهو يتجه نحوها مستاءً فأخذت تنطق الشهادتين وهي تعدل هندامها وتخرج زجاجة الكحول المفروضة عليهم إجباريا ، ثم رشت منها على أركان المكتب وعلى يديها لكي تثبت له عدم تقصيرها والتزامها بالأوامر، فإذا به يتخطاها ويتوجه بعينيه نحو الشاب الذي يجاورها ويرمقه بنظرة متفحصة، ثم يقول:
ـ إيه المنظر ده؟ ليه مش واقف منتبه وعمال تضحك وتهزر، سيادتك في شركة مش قاعد في الكافيه مع أصحابك.
أخفض الشاب رأسه إقرارا بأسفه وقال:
ـ بعتذر يا فريد بيه..
كان فريد يشخص ببصره نحو ربطة عنق الشاب المفكوكة بشكل فوضوي أثار اشمئزازه، فإذا به يشير إليها قائلا بنبرة مستاءة:
ـ و الكراڤات بتاعتك مش معدولة ليه؟ حضرتك لو مش ملاحظ فانت واجهة الشركة يعني مظهرك الخارجي أهم من مظهر رئيس مجلس الإدارة نفسه.
أومأ الشاب وهو يعدل ربطة عنقه فورا وهز رأسه مؤكدا على ما قاله فريد بصمت، فهمّ فريد بالانصراف ولكنه توقف قليلا و أضاف وهو يرمق زينة بضيق خفي، أليست هذه من نعتته سابقا بالمريض؟ على كل حال الأمر لم يعد يعنيه، فلتقل ما تشاء.. الجميع يقولون، ولكنه لن يغادر قبل أن يثبت لها أنه مريض فعلا كما قالت:
ـ يا ريت تلتزموا بالمسافة الآمنة بينكم .. الاحتكاك الزيادة ده مش كويس وممكن ينتج عنه عدوى تتنقل من حد فيكم للتاني. وحضراتكم شغالين في قسم مهم وحساس.. يعني أي عدوى تتنقل منكم للي داخل واللي خارج يبقا كل حاجه باظت.
رمق الشاب زميلته وهو يبتعد خطوات حذرة لليسار، بينما الأخرى تتلقى التعليمات بارتباك حتى رأته يبتعد متجهًا نحو مصعده الخاص، فزفرت بثقل وهي تتمتم:
ـ يا سااااتررررر…. إيه البني آدم ده! أقسم بالله أنا لولا المرتب اللي مش لاقيه زيه في أي شركة تانية ما كنت كملت ساعة في شركة المريض ده.
أشار إليها زميلها بالصمت وهو يلتزم بالمسافة الآمنة كما أخبره سيده، ثم تابع كلا منهما عمله في صمت.
****
وصل فريد مكتبه، رش الكحول على مقبض الباب قبل أن يفتحه، فهو يعرف أن العامل بالتأكيد ترك آثاره هنا.. تقدم نحو الداخل وهو يرش الكحول في كل ركن، ثم لجأ أخيرا لكرسي مكتبه، واستدعى مدير أعماله عن طريق زر الإنتركام، فدخل وهو يحمل كومة مكدسة من الملفات، وضعها أمامه على المكتب ثم جلس وقال:
ـ صباح الخير يا فريد بيه.
رمق فريد الملفات بضيق وقال:
ـ مش باين. إيه كل الورق ده يا أيمن على الصبح؟
أخرج أيمن ملفًا كبيرًا تبلغ عدد صفحاته حوالي عشرين ورقة، وضعه أمام فريد وهو يقول:
ـ ده الملخص اللي بعتته شركة تفريغ برامج التلفزيون يا فندم.
ـ كل ده وملخص؟؟
تساءل فريد بتعجب.. فهو يعرف أن هذا التقرير لا يتجاوز أربع ورقات مثلا، لذلك يلجأ رجال الأعمال والوزارات إلى التعاقد مع هذه الشركات لكي تلخص لهم كل ما يُقال عنهم في برامج التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي على هيئة ملف مكون من ثلاثة أو أربعة ورقات لأنهم بطبيعة الحال لا يملكون الوقت الكافي لمتابعة البرامج والمواقع، أما بالنسبة لهذا المجلد الموضوع أمامه الآن فهو لم يستفد شيئا على الإطلاق.
فأجاب أيمن قائلا:
ـ لأن الأخبار متلاحقة يا فندم.. موضوع عمر بيه، موضوع الحفلة، والحادثة..
وبتر كلماته ليهمهم فريد وهو يتطلع نحو الملف ويقول:
ـ قصدك الفضايح متلاحقة..
ـ العفو يا فندم.
بدأ فريد بقراءة تلخيص الأخبار الوارد عنه وعن العائلة وكلما قرأ خبرا ازداد عبوس وجهه وتقطيبة حاجبيه.
• رجل الخير في مأزق مع فتاة اقتحمت حفله الخيري وقبلته عنوة.
• قُبلة هوجاء في حفل افتتاح دار أيتام.
• فضيحة جنسية موثقة بالصوت والصورة لابن الطبقة الراقية عمر مرسال.
• تعرف على أسرار في حياة رجل الخير فريد مرسال وعلاقاته المشبوهة.
• من هي الشقراء التي تسللت لحفل الافتتاح وأعلنت علاقتها بفريد مرسال على العلن عن طريق قُبلة شفاه.
• حادث سير يتسبب في سجن شقيق رجل الأعمال فريد مرسال بعد ساعات من افتتاح دار الأيتام الخاص به
• فضيحة مدوية تتسبب في تفكك عائلة مرسال.
عند هذا الخبر أصابت فريد الصدمة، فنظر إلى أيمن وقد بلغ منه الغضب مبلغًا بعيدًا وقال:
ـ إيه ده !!! إيه كل ده يا أيمن ؟!!!
زم أيمن شفتيه بضيق ولم يعقب، فأضاف فريد بتعجب شديد:
ـ وإيه اللي مكتوب ده، يعني إيه فضيحة تسببت في تفكك عيلة مرسال، الأخبار دي مين بالظبط اللي بيتداولها؟
ـ مكتوب جنبه إنه عمود صحفي يا فندم، يعني نزل في الجورنال، عشان كده أنا برجح إن الشخص اللي مترصد لحضراتكم بيبلغ صحفي متواطئ معاه بكل الأخبار اللي بيعرفها عنكم أول بأول.
ـ معنى كلامك إنه حد قريب مننا؟
ـ ده احتمال كبير جدا يا فريد بيه، ومش قريب بس.. ده..
وامتنع عن الكلام فحثه فريد ليكمل وقال:
ـ ده إيه كمل كلامك.
ـ على الأغلب حد من جوه البيت يا فريد بيه.
قطب الآخر حاجبيه بتعجب وقال:
ـ لا مش ممكن.. محدش من العيلة ممكن يعمل كده أبدا. مين ليه مصلحة في كل ده أصلا؟
وشرد يفكر لثوان، هل هي نادية الصواف؟ بالتأكيد لا.. كيف وهي أول المتضررين من فضيحة ابنها؟ ووالده قطعا لا.. فهو يخشى الفضيحة أشد مما يخشى الموت.. " كله إلا اسم العيلة " وبالنسبة لنسيم فهي لا تعد من أفراد البيت أساسا، هي الحاضرة الغائبة. أما چوليا وچيلان ؟ لا.. هو يثق بهما جيدا.. فتاتان تملكان قلبًا حنونًا لا يحمل أي بغض أو عداوة لأحد، إذًا لم يتبقَ سوى عمر! ليس من المنطقي أبدا أن يشهر عمر بنفسه بعد كل بلوة يفعلها.
ـ فريد بيه.. حضرتك سامعني؟
قالها أيمن وهو يحاول جذب انتباه فريد الذي غاب للحظات وظهر شروده، فنظر إليه فريد وقال:
ـ معلش كنت بتقول إيه؟
كرر أيمن ما قاله بتوتر، ولكنه لن يحيد عن الحق والشفافية أبدا مهما حدث:
ـ كنت بقول لحضرتك مش شرط الشخص اللي بيعمل كده يكون من جوه البيت، ممكن يكون على علاقة بحد من جوه البيت وهو اللي بيوصله الأخبار.. وممكن جدا يكون بيستدرجه ويعرف منه الأخبار بطريقة غير مباشرة.
سبح الأخير غارقا بأفكاره مجددا وقد شتت ذهنه ما قاله أيمن وجعل شكوكه ووساوسه تتفاقم وتصل لأقصى حد .
والده ويعرفه.. حريص جدا ولا يفصح عما بقلبه لجدران المنزل حتى، زوجة والدته أيضا لا تتعمق في حديثها مع أي شخص لأنها تلتزم بالقوانين التي وضعها سالم مرسال عملا بأحكام الخصوصية في هذا المنزل. وشقيقته لا تملك معارفا ولا أصحابا من الأساس، إذا الدائرة تدور حول الثلاثي أبناء نادية الصواف.. چيلان، چوليا، وعمر المستهتر!
أخذ يفكر مليًا، مَن مِن بينهم قد يكون سببا في وصول خبر طرده هو وشقيقه من البيت؟ وجعل هذا الخبر يتبلور في شكل عنوان بالبنط العريض في إحدى الجرائد " فضيحة مدوية تتسبب في تفكك عائلة مرسال " .
أسقط رأسه للخلف باستسلام على مسند المقعد الوثير بعد أن أرهقه التفكير، ونظر لأيمن ثم قال:
ـ كل حاجه هتبان بس الصبر.
أومأ أيمن مؤكدا ثم قال وهو يقدم إليه ملفًا آخرا ويقول:
ـ ده ملف تعريفي عن دكتور نزار السويدي .. دكتور مختص أمراض جلدية وتجميل، حاصل على ماچستير الأمراض الجلدية من جامعة القاهرة، ودكتوراه من جامعة كامبريدج بإنجلترا.. حجزتلك ميعاد الساعة ٨
أومأ فريد برضا وأردف:
ـ ممتاز.
أومأ أيمن مؤكدا:
ـ هو فعلا ممتاز يا فندم.
نظر إليه فريد مبتسمًا شبه ابتسامة لا تظهر سوى في المناسبات السعيدة وقال بنبرة يملؤها الرضا:
ـ أنا أقصد إنك إنت اللي ممتاز يا أيمن. إنت عارف إني بحب جدا تحري الدقة في كل تفصيلة بتجيبهالي.
ابتسم الآخر بسعادة لذلك الإطراء الذي لا يحصل عليه سوى نادرًا، ولكن هذا لا ينقص شيئًا أبدا من مقدار حبه وولاءه للسيد فريد، الذي كان ولا يزال أخًا ذا صدرٍ رحب يسهل اللجوء إليه في الشدائد.
نهض أيمن والابتسامة لاتزال موجودة على محياه البشوش، ثم مد يده إليه بالملف الأخير وقال:
ـ دي مواعيد النهارده.. عندنا اجتماع مجلس إدارة الشركة الساعة ٦ .. تحب نلغيه لو حضرتك مش مستعد ؟
أومأ فريد موافقا ثم فتح درج المكتب ووضع بداخله المجلد ذا العشرين ورقة، ثم ملف تعريف الدكتور الذي سيذهب إليه اليوم، وبعده جدول المواعيد وتنهد مطولا ثم قال:
ـ لأ ملوش داعي، خلينا نخلص كل الحاجات الضرورية لأني ممكن أمد أجازتي ليوم الاتنين.. محتاج أفصل .
هز الأخير رأسه بطاعة، ثم عاد إلى مكتبه، بينما أسند فريد رأسه على ظهر الكرسي وأخذ يتحرك به يمينا ويسارا وهو يفكر.. متى ستتعافى المحتالة لكي تحدث المواجهة وتعترف له عن الشخص الذي أمرها بفعل ذلك وتخلّصه من عبثية التفكير ؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــ
في المساء.. وفي تمام الثامنة. كان فريد قد وصل أمام عيادة الدكتور نزار السويدي ، صف سيارته وتوجه للداخل بعد أن وضع قناعه الطبي، ثم دخل إلى مكتب الطبيب مباشرةً.
كان رجلا في الستين من عمره تقريبا، هذا السن الذي يشي بالخبرة والتمكن، والذي يبعث الراحة تلقائيا في نفس المريض. استقبل فريد بابتسامة مرحبة، ثم أشار له ليتفضل .. فألقى فريد التحية وجلس على المقعد المقابل للدكتور الذي بدأ كلامه قائلا بابتسامة لطيفة:
ـ أهلا يا بشمهندس فريد مرسال. الاسم ليه وقع مهيب على سمع أي حد الصراحة.
ابتسم فريد بود وقد شعر بالارتياح لهذا الرجل الذي يتعامل ببساطة وأريحية ثم قال:
ـ ده من ذوق حضرتك.
أسند الطبيب ذراعيه على المكتب وتشدق بنفس الهدوء واللطف:
ـ إتفضل .. إيه المشكلة بالتحديد؟
بسط فريد كفيه أمام الطبيب بهدوء، ثم قال:
ـ المشكلة في البقع دي. ظهرت إمبارح بس.. ولما عملت سيرش عنها لقيت إنه بسبب الكحول الكتير..
أومأ الطبيب مؤكدًا وقال:
ـ بالظبط كده..
ونظر إلى فريد مشيرا بيده بتفكير وأردف بهدوء:
ـ معانا ocd أو حاجة ؟!
تعجب فريد لأنه فطن سريعا لكونه مريضًا بالوسواس القهري ! وهز رأسه مؤكدًا وقال :
ـ صح. بس حضرتك عرفت إزاي؟
ابتسم الطبيب وأردف بنبرة وسطية:
ـ لأنك اتكلمت عن الكحول أول حاجة، وكنت مهتم جدا تعرف السبب قبل ما تزور طبيب مختص وواضح إنك مستاء جدًا من فكرة إن الكحول هو السبب.. وطبعا إحنا بنتعامل مع حالات زي دي كتير فبنقدر بسهولة نميز الشخص اللي معاه ocd عن غيره.
تنهد فريد وهو يهز رأسه بهدوء بينما قال الطبيب وهو يعدل نظارته الطبية:
ـ الموضوع على قد ما هو سهل طبيًا على ما هو صعب نفسياً ، وعلشان أكون صريح معاك.. الخطوة الأولى في العلاج مش إني أوصفلك مرهم ملطف أو معالج للقرح الجلدية زي كده.. لأ الخطوة الأولى والأساسية هتبدأ من عند دكتور نفسي.. لأني حتى لو كتبت علاج أو دهان والموضوع خف.. لكن مازالت المشكلة قائمة، وهي إفراطك في استخدام الكحول والمواد المطهرة وغسيل الإيدين بشكل هستيري.. و ده هيسبب مشاكل جلدية بصفة مستمرة، يبقا احنا مينفعش نعالج العرَض ونسيب المرَض!!
أومأ فريد موافقا باستياء ، هو للأسف متفهم جدا ويعي أن كل ما يقوله الطبيب صواب. ولكنه لا يملك الشجاعة ليأخذ تلك الخطوة بعد.
بدأ الطبيب بوصف بعض الكريمات الملطفة والمهدئة للحكة، والمعالجة لاضطرابات الجلد ، ثم أعطاها لفريد الذي شكره ووعده بالتفكير بجدية في أمر الطبيب النفسي ثم انصرف مغادرًا المكان، وما إن خرج حتى استدعى زجاجة الكحول وقام برش القليل منها على يديه وملابسه وعاد إلى البيت سريعا لكي يتخلص منها بعدما وُسوِس إليه أنها تُشكل الآن بؤرة استيطانية متنقلة من الأمراض الجلدية المعدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان حسن يجلس بمقهاه المعتاد، شاردًا وما قالته والدته يتردد صداه بأذنه حتى اللحظة. وإذ به يتلقى اتصالا من رقم نيهال، فأجاب مسرعا:
ـ هاا.. في جديد؟
صمتت ولم تجب، ثم برز صوتها أخيرا وهي تقول:
ـ أيوة.
هب واقفًا من مكانه، ودق قلبه بلهفة وهو يتسائل:
ـ عرفتي مكانها؟
صمتت مجددا لقليل، ثم تنهدت وقالت:
ـ أيوة.
ليجيبها هو بضيق مفرط ونفاذ صبر:
ـ هو إيه اللي أيوة أيوة ما تتكلمي.. نغم فين؟
ـ مش هينفع نتكلم في التليفون يا حسن، هستناك كمان ساعة .
وأنهت الاتصال دون انتظار رده ، مما جعله يسابق الريح وصولا لعندها، فاستعار دراجة بخارية من أحد الشباب الموجودين بالمقهى وأخذ يلتهم الطريق نحوها وهو يهنئ نفسه بعودتها أخيرا.
بعد مدة لا يعلم مقدارها كان قد توقف أمام العقار الذي تقطن به نيهال، استعمل المصعد وصولا للطابق الخامس، ثم وقف أمام بابها يقرع الجرس بطريقة جنونية.
ثوان وفُتح الباب، ولكنه لم يجد أحدا في استقباله. فتقدم على الفور للداخل وهو يهتف باستعجال:
ـ نغم فين؟
واستدار عندما استمع لصوت الباب وقد أُغلق وبرز صوت نيهال من خلفه وهي تقول:
ـ هنا مفيش نغم، هنا في أنا وإنت بس.
طالعها بصدمة وهو يراها ترتدي غِلالة شفافة قصيرة، تفصح عن أنوثتها بكرم، يصل طولها إلى أعلى ركبتيها فكشفت عن ساقيها الناعمتين.
وتقدمت منه بخطوات ثابتة متمهلة، حتى وقفت أمامه مباشرةً وأحاطت رقبته بيديها وقالت وهي تنظر داخل عينيه وتتمتع بنظرته الرجولية الخالصة:
ـ وحشتني يا حسن.
طالعها قليلا ينظر إليها من علوٍ بتجهم ثم قال بحدة:
ـ إنتِ هتتجنني عليا يا نيهال؟ جايباني المشوار ده كله عشان تقوليلي وحشتني وزفت؟ إنتِ مش قلتي كلمتي نغم؟
نظرت إليه بغيظ وابتعدت للوراء قليلا وهي تقول بغضب ممزوج بالحزن:
ـ أعمل إيه إذا كنت إنت مش بتفكر غير في الست نغم، وأنا عارفة إن مفيش طريقة غير دي أجيبك بيها.
رمقها بانفعال وفجر غضبه بها عندما قال:
ـ انتِ مخك مهوي منك ولا إيه؟ فاكراني فاضي للعب العيال بتاعك ده؟ وبعدين جوزك فين وسايبك كده لا ظابط ولا رابط؟
نظرت إليه بحسرة ومصمصت شفتيها بنزق وهي تقول:
ـ جوزي؟ بالله تسيبني ساكتة، هو ده جوز ده؟
واقتربت منه مجددا وهي تنظر بعينيه ترسل إليه ذبذباتها التي تفقده تركيزه وتشتت انتباهه وتجعله يستجيب إليها ويحاكيها وذلك بأن يمنحها الكثير مما يماثلها. ثم قالت:
ـ أنا معاه مش لاقيه نفسي يا حسن، مدفونة بالحيا.. شبابي وأحلى سنين عمري بيضيعوا عالفاضي.. أنا كنت غلطانة لما اتجوزته بس أنا كنت ضايعة، الكل كان طمعان فيا منين ما أروح ، وهو نفسه كان بيحاول ييجي معايا سكة بس أنا وقفتله، ولما وقفتله كان هيتجنن عليا عشان كده طلب يتجوزني، قلت وليه لأ.. أهو ضل راجل زي ما بيقولوا. اتجوزته عشان ألاقي ضهر وأمان وحنية.. بس مش هكدب عليك، كل دول مش كفاية. أنا ست ومحتاجة أحس إني ست ومرغوبة. وحيد بمجرد ما اتجوزني رماني هنا بيزورني كل أسبوع مرة وبقية الأسبوع قاعدة بكلم الحيطان.. والوحدة شيطان. وشيطاني هفني عليك.. أنا بحبك يا حسن.
كادت أن تحاوط عنقه ولكنه استوقفها فأمسك برسغها يضغط عليه بقوة وهو يهتف بقسوة:
ـ انتِ مبتحبيش غير الفلوس اللي اتجوزتيه عشانها، واحدة شمال مجرد ما جوزها غاب عنها كام يوم رايحة ترمي نفسها تحت رجلين واحد تاني.
نظرت إليه بقسوة تماثل قسوته وألقت بحقد وغضب:
ـ وانت متفرقش عني كتير، عشان الفلوس تبيع أبوك.. لأ.. تبيع نغم ذات نفسها.
أفلت رسغها وقبض على شعرها بين أصابعه بغضب مردفًا:
ـ متجيبيش سيرتها على لسانك.. مغلولة منها ليه؟ عشانها مش رخيصة زيك وبترمي روحها عالرجالة مش كده؟
تلقت منه تلك الكلمات المهينة بغضب واقتربت تهمس أمام وجهه بحقد وغل:
ـ ولما هي مش رخيصة ومش بترمي نفسها على الرجالة تقدر تقوللي هي فين دلوقتي ؟ طفشت منك وراحت فين؟ بتعمل إيه دلوقتي ؟ أراهنك إنها رمت نفسها في حضن مية راجل من ساعة ما هربت وعلّم على كلامي يا حسن يا عقرب.
ازدادت قبضته حول شعرها قوة وفجأة هبط كفه على وجنتها مما جعلها تصرخ بفزع وصدمة، ثم همت بالنطق ولكنه قاطعها إذ هدر بها بغضب وقال بتحذير:
ـ أقسم بالله لو سمعتك بتتكلمي عنها ولا بتجيبي سيرتها بحرف تاني هقطعلك لسانك يا نهال، وانتِ عارفة حسن العقرب مش بتاع قول وبس. لا أنا لو قلت هنفذ.
أخرسها بكلماته ودفعها بعيدا عنه فسقطت على الأرض، واستمعت إلى صوت الباب وقد أغلقه وغادر وقد وصل غضبه ذروته، بينما هي تحيط جسدها المتألم بذراعيها، وتبكي بحسرة بعدما أضرم النيران بقلبها وتركها ورحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في منزل واسع. ينُم كل ركن فيه عن العصرية والأناقة، بطابق واحد أرضي، وله حديقة واسعة ، يحتوي على رواق وشرفة أرضية، غرفة معيشة، غرفتا نوم، حمامين، وممر .
كان شريف يجلس بالحديقة، يضع حاسوبه على قدميه الممدودتين على طاولة خشبية مربعة، ويطالع آخر الأخبار الخاصة بشركته والتي تعد أكبر الشركات الرائدة في مجال البرمجيات، والتي لها ثلاثة أفرع في دبي في الإمارات ، وفالنسيا بإسبانيا.. ومقرها الرئيسي في القاهرة.
انتبه لتلك السيارة التي يعرفها جيدا وقد دخلت إلى مرماه، فتنهد بضيق وهو يغلق الحاسوب ويضعه بجواره على المقعد، يستعد لمجادلة عقيمة مع الوافدة التي باتت تشكل عبئًا عليه.
نزلت چوليا من السيارة، تقدمت نحوه وهي تراه يتفحص تنورتها القصيرة بعينين نهمتين، وربما يكون هذا هو الشعور الوحيد الذي لم يختفِ كما اختفى كل ما كان بينهما .
توقفت أمامه تطالعه بضيق وهي تقول:
ـ مش بترد على موبايلك ليه مع إنه قدامك أهو يا شريف؟ وبعدين إيه أخرة المعاملة دي؟
رمقها بنظرة أخبرتها بمكنونات صدره، ثم فجأة جذبها لتقع فوق قدميه وقال وهو ينظر إليها عن قرب:
ـ ليه مقولتيش إنك جاية؟
تفحصتهُ عيناها الخائنتين اللتين تضعفان في كل مرة أمام سطوته، ولعنت ذلك الضعف في نفسها ومقتته، ثم نظرت إليه بحدة وتساءلت:
ـ والمفروض إني أستأذن قبل ما أجي أشوف جوزي؟
مسح بإبهامه فوق شفتيها بطريقة تسلبها جميع قواها وتتركها أمامه فتاة مطيعة تتلقى جرعات العطف التي يهبها إليها بامتنان.
فابتسم هو عندما رأى تأثير أقل لمسة عليها وارتفع جانب فمه الأيمن وهو يمسح على رأسها بحنان مزيف ويقول:
ـ مقولتش كده، بس كنت أحب أستعد لاستقبالك يا بيبي.
تظاهرت باللامبالاة وعدم الاكتراث بمحاولاته في استمالتها ونفضت يده عنها بقوة واهية وقالت:
ـ انت اللي ورا كل حاجة بتحصل لفريد وعمر، أنا إتأكدت خلاص.
لم يتغير تعبير وجهه المبتسم بمرونة، وأخذ يعبث بخصلاتها وهو يقول بهدوء :
ـ وعرفتي إزاي بقا؟
حكت جانب عنقها محاولة إخفاء توترها، ثم رمقته بخرزتيها الزرقاوتين وقالت :
ـ من الخبر اللي مالي الجرايد والسوشيال ميديا، والخبر ده محدش يعرفه غيرك.
مال عليها يقبل أعلى كتفها وهو يقول بطريقة أفقدتها النطق:
ـ وإيه هو الخبر ده اللي محدش يعرفه غيري ؟
ابتعدت عنه بضيق، ليس لشيء إلا لأنها باتت تمقت ضعفها في حضرته، ووقفت أمامه تطالعه بقوة وأردفت:
ـ الخناقة اللي حصلت بين أنكل سالم وفريد وعمر وإنه طردهم من البيت، أنا حكيتلك الكلام ده وإحنا بنتكلم يومها بالليل والصبح لقيت الخبر موجود .
نهض واقفًا أمامها، ثم ابتسم تلك الابتسامة التي لا تصمد بعدها طويلا، وأمسك بكفيها بين يديه وقال:
ـ شوفي مع إنك دايما بتوجهي شكوكك نحيتي، وحطاني في موضع اتهام طول الوقت، بس بردو مش عارف مش قادر أكرهك يا چوچي..
تنهدت بيأس من تلك التعويذة التي لا تستطيع تجاهلها ولا يمكنها في كل مرة إلا أن تقع تحت سحرها وقالت:
ـ متحاولش تكدب عليا المرة دي يا شريف، أنا متأكدة.. كل حاجة بتأكد إنك إنت اللي عملت كده..
قطب حاجبيه بتعجب مفتعل وقال:
ـ وليه يكون أنا اللي عملت كده؟ إذا كان أنا اللي مسحت فيديو عمر وفيديو الحفلة، وأنا اللي بعرض على عمتو نادية وأنكل سالم المساعدة، يبقا منين أنا عاوز أفضحهم أو أأذيهم ومنين بحاول أساعدهم؟ وبعدين ليه بتفترضي إني أنا اللي سربت خبر طرد عمر وفريد من الفيلا؟ ليه ميكونش حد من الخدامين، أو الحرس، أو السواقين، أو أي حد موجود في الفيلا والحد ده شغال لصالح أي حد من أعداء العيلة، ليه أنا اللي كل شوية توجهي لي الاتهامات الفظيعة دي؟!
زفرت باستياء، ثم تهدل كتفيها فيما يشبه التراجع ، وعلى ما يبدو أنها قد اقتنعت بما قاله، ونظرت إليه لتجده ينظر أرضًا بضيق، ثم نظر إليها بحزن وقال :
ـ چوليا، أنا بحبك بس صدقيني مش قادر أكمل في علاقة كلها شك بالطريقة دي..
أصابها الذعر، بحثت في ذهنها عن شيء لتقوله، أي شيء لتبرر ما قالته ، أي شيء لجعله يتراجع عما قاله فلم تجد، فدفعت جسدها نحو جسده تعانقه بقوة، تسند رأسها على صدره وهي تقول:
ـ شريف عشان خاطري متزعلش، انت عارف اليومين دول كل حاجه متلخبطة والمشاكل اللي ورا بعضها دي موتراني.. أنا آسفة حبيبي.
تنهد وهو يمسح على ظهرها بلمسات سحرية، تتغلغل داخل روحها ليس جسدها فقط، ثم أسند ذقنه على رأسها وقال:
ـ طيب چوچي هتصالح جوزها حبيبها إزاي؟
ابتسمت وهي تتشبث بخصره أقوى ثم نظرت إليه بابتسامة شغوفة وقالت:
ـ هسبقك على جوة..
أومأ وغمزها بعينه وقال:
ـ حالا جاي وراكي .
دخلت إلى البيت فأسرع هو يلتقط حقيبتها، ثم قام بالتقاط هاتفها سريعا ، فتحه، وأخذ يبحث سريعا بين قائمة جهات الاتصال حتى وجد ما يبحث عنه.. نسيم !
ــــــــــــــــــــــــــــــ
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق