رواية محسنين الغرام الفصل التاسع 9 بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل التاسع 9 بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٩ ـ
~ من شابه أباه فما ظلم !! ~
ــــــــــــــ
كان فريد يجلس على سريره بكسل بما أنه يوم العطلة، يتابع أداء أسهمه الذي تراجع في سوق البورصة باستياء، ولكن ما خفف عنه وطأة غضبه هو أنه كان يتوقع حدوث ذلك ولم يتفاجا به. فمن الطبيعي أن تنخفض نسبة تقييم الشركة وقيمتها الاقتصادية بعد حدوث فضيحة كفضيحة شقيقه، أو فضيحته هو شخصيًا مع الشقراء، أو سجن أخيه. فكل تلك الأزمات كان لابد لها أن تترك تأثيرا سلبيا على الحالة الاقتصادية للشركة .
ولكن ما لم يتوقعه أبدًا أن تتراجع بعض المؤسسات الخيرية التي كانت ترغب وبشدة في دعم مشروعه الخاص بافتتاح مستشفى لعلاج مرضى السرطان، وهذا ما جعله يتساءل بينه وبين نفسه، هل لذلك الحد فقد مصداقيته لدى الناس بسبب موقف عابر ؟! وبهذه السرعة ؟!
ألا يعتبر موقف القُبلة موقفًا عابرًا؟ أليس كذلك ؟ بلى .. هو موقف عابر فعلا ولا يستحق التوقف عنده، نسبةً لكونه رجلا معروفا بالأعمال الخيرية، معروفًا بأن يده دائمًا ممدودة للخير ، وأنه فوق مستوى الشبهات ، ولطالما استحق ثقة الجميع به طوال السنوات الماضية ، ولكن يبدو أن بمرور الوقت أصبح الأغلبية يحشذون الهمة لكي يتصيدون العثرات والهفوات والسقطات.. وكأنهم أصبحوا يحملون مجهرًا يبحثون فيه عن زلات الناس ويترقبونها .
جاهد لكيلا يتخلل اليأس رأسه منذ الصباح، وأقنع نفسه أنه لا يحتاج لا لأموالهم ولا لدعمهم، فهو كفيل بذلك الأمر ولن ينتظر تمويلًا من أحد.. الأمر بسيط.
في مثل تلك الحالات وعندما يستأثر الصمت كان يفضل أن يشارك ما يدور برأسه عبر مدونته الإلكترونية الخاصة، والتي أهملها منذ زمن نظرًا لانشغاله في الكثير من الأحداث المتلاحقة.
ولكنه الآن يشعر برغبة ملحة في فعل ذلك، ففتح تطبيق المدونة، ثم أخذ يفكر قليلا قبل أن يشكّل من الأحرف كلمات تعبر عما يراوده الآن.
" أنت غير مسؤول عن انعكاسك في عيون الآخرين، أنت مسؤول فقط عن حقيقتك ونواياك، انعكاسك أمام نفسك هو الأهم "
قام بنشر تلك التدوينة ، وأغلق الحاسوب، ثم وضعه إلى جواره على الفراش. ومسح على وجهه بكلتا يديه وصولا إلى شعره الذي خلله بأصابعه، ثم نهض من الفراش وقام بترتيبه بدقة وعناية، ثم غادر الغرفة ليعد قدح القهوة الصباحي، وأخذه وهو يتجه نحو الغرفة التي اتخذها مرسمًا خاصًا. فمهما بلغ عدد الكوارث التي حلت به هذا الأسبوع إلا أن هذا لن يجعله يمتنع عن شيئًا يحبه كهذا ويساعده في تفريغ بعضًا من طاقته السلبية.
جلس على المقعد الخشبي أمام طاولة الرسم المسنود عليها لوحة بيضاء، وأمسك بريشته وغمسها في اللون الأسود المفضل إليه، ثم مررها على المساحة البيضاء، وأخذ يحاكي ذلك المنام الذي رآه بالأمس، فرسم شابًا يسند ذراعه على حافة مسند مقعد خشبي وفتاة تجلس بجواره وتسند رأسها على كتفه، وخلفهما خلفية رمادية.
انتهى منها سريعا، وأخذ يراقبها وهو يحتسي قهوته، لقد كانت لوحة بسيطة التفاصيل، ولكنها توثيقا للحظات لم يشعر بأحلى منها في حياته .. حتى ولو كانت لحظات وهمية في عالم وهمي.
نهض وخرج مغادرًا الغرفة، ثم توجه إلى الغرفة المجاورة وهي قاعة الرياضة، دخل وبدأ القيام ببعض التمرينات الرياضية الصباحية علها تساعده على قضاء يوم هادئ خالِ من الضغوط النفسية، ولكن على ما يبدو أن الضغوط النفسية تركض خلفه لاهثةً !!
إذ استمع إلى رنين هاتفه فأسرع يحث الخطى نحو الغرفة سريعًا لأنه خمن هوية المتصل، ونظر بالهاتف ثم أجاب سريعا:
ـ صباح الخير يا متر، إيه الأخبار طمني؟
صمت الرجل لثوانٍ، ثم تنهد بضيق وقال:
ـ للأسف يا فريد بيه، الأخبار سيئة.
تهدجت أنفاسه بخوف، ثم تساءل بقلق وقال:
ـ في إيه؟
ـ تحليل المخدرات طلع إيجابي، وبعد شوية هيعيدوا التحقيق معاه.
ـ معقولة ؟!
تساءل فريد بغير تصديق وأضاف:
ـ إتأكد يا متر جايز نتيجة التحليل دي مزورة.. مش ممكن يكون حد مفبركها؟
ـ مفيش الكلام ده يا فريد بيه، النتايج سليمة مية في المية، عالعموم أنا هحضر التحقيق وهشوف كلام عمر بيه عامل إزاي وإن شاء الله نلاقي له ثغرة نخرجه بيها.
أنهى فريد المكالمة وتحرك ليجلس على الأريكة وهو شارد، ارتعش فكه، بدا مشتتًا ، اللعنــة !! هل شقيقه الأصغر يتعاطى المخدرات فعلًا؟!
وأخذ يؤنب نفسه ويلومها، ألهذا الحد غفل عنه وعن متابعته؟ هل أصبح مأخوذًا بأعماله وأشغاله وأهمل واجبه نحو شقيقه لتلك الدرجة التي سمحت له أن يتعاطى المخدرات دون علمه؟ وليس تعاطي المخدرات فقط، بل التسكع برفقة النساء وارتكاب المعاصي والكبائر معهن دون أن يرف له جفن.
وهو الذي يظن أنه رجل ناجح، لم يخفق في شيء أبدًا ولم يقصر في أي من مسؤولياته، ولكنه الآن يكتشف أنه مخطئ ، مخطئ تماما ويستحق كل ما كان ينعته به والده.. والذي بالتأكيد لن يتوانى عن قوله فور أن يصله الخبر. فمن المؤكد أنه سيمنحه وصلة توبيخ لا مثيل لها ويتهمه بالتقصير والانشغال عن أخيه والذي هو مسؤوليته منذ زمن.
ـــــــــــــــــــــــ
ـ ها يا عمر، مصمم بردو إنك مش بتتعاطى حاجة؟
قالها الضابط عاصم الهواري وهو ينظر إلى عمر الذي يقف أمام مكتبه مُطرقًا برأسه أرضًا بصمت، ثم تابع وقال:
ـ مع إن التحليل أثبت غير كده!
تنهد عمر وأغلق عينيه منقطعًا عن العالم، وهو يسترجع تلك اللحظات التي تعرض فيها للجَلد على يد والده وما تلاها..
ـ استرجاع زمني قصير ـ
كان عمر لا يزال مستلقيًا على بطنه فوق الفراش وهو يئن ألمًا ويشعر بجسده بالكامل وكأنه كتلة من النار، يأخذ أنفاسًا قصيرة لا تكتمل وكأن الأكسجين يصل بصعوبة إلى وجهته السليمة، وكأن الموت يزحف إليه ببطء.
ليتذكر في تلك اللحظة عندما سقط من على ظهر الخيل الخاص بوالده في أحد السباقات بالصيف، وحينها أعطاه شريف شريط أقراص مسكنة كان لها تأثير السحر عليه.
فنهض متحاملا على آلامه وأخذ يبحث عنها في خزانته حيث كان يخبئها بخزنته الخاصة، إلى أن وجده وأخذ منه قرصين وعاد إلى سريره يجر أقدامه بتعب، ثم تهاوى على الفراش مجددا وهو يشعر بوخز في جميع أنحاء جسده، ولكن بعد دقائق بدأ مفعول المسكن بالسريان في جسده حتى أنه أغمض عينيه لدقائق غاب فيها عن الوعي تماما، قبل أن يجذبه صوت شجار حادًا بين والده وفريد.
ـــــــــــــــ عودة إلى لحاضر ــــــــــــــــــ
وعى عمر من شروده على صوت المحامي الذي يقول بنبرة يائسة:
ـ عمر .. اتكلم !!
نظر عمر إليه بانتباه وقال دون رويّة:
ـ أنا مصمم على كلامي لأن هي دي الحقيقه ، أنا مش بتعاطى أي مخدرات.. كل اللي خدته يومها كان برشام مسكن لأني كنت تعبان جدا.. بس البرشام مأثرش على وعيي أبدًا. أنا كنت سايق وأنا واعي وفايق .. كل الحكاية إني كنت متعصب ومتضايق وأسرعت وأنا مش واخد بالي ولقيتها ظهرت قدامي فجأة.
نظر إليه الضابط بعين خبيرة استشفت صدقه، ثم تساءل مجددًا وقال:
ـ المسكن ده نوعه إيه بالظبط؟
أطرق برأسه مجددا في خزي فهمها الضابط قائلا:
ـ ممم.. تامول مش كدة؟
أومأ عمر موافقًا فأردف الضابط:
ـ وانت متعرفش إن التامول داخل الجدول؟؟
هز عمر رأسه بارتباك وأردف:
ـ أكيد عارف، بس أنا مش باخده أبدا.. لكن المرة دي الألم كان شديد واضطريت أخده ومكنتش أعرف إن هيحصل كل ده ولا كنت مرتب إني هخرج من البيت أصلا..
زم الضابط شفتيه وهو يسند كفيه المعقودتين أسفل ذقنه وهو يرمق عمر بتأهب ويقول:
ـ إيه نوع الألم اللي يستدعي إنك تاخد مسكن قوي زي ده؟
تنهد الآخر بضيق وضجر، ولكن على ما يبدو أنه يجدر به أن يكون واضحًا وإلا فسيبقى حبيس تلك الجدران لفترة غير معلومة.
لذا استدار، وبدون أن ينبس بحرف رفع قميصه ليظهر ظهره الذي يبدو كقطعة لحم مشوية بعد أن ترك السوط آثاره الوحشية عليه. مما جعل الضابط يتساءل متعجبًا:
ـ مين اللي عمل فيك كده ؟!
استدار عمر وسحب نفسًا متألمًا ثم نظر إلى محاميه نظرةً أفصح بها عن رغبته في الامتناع عن الإجابة، مما جعل المحامي ينظر إلى الضابط قائلا:
ـ أرجو عدم الضغط على موكلي ومراعاة حالته وتأجيل استكمال التحقيق.
نظر إليهما الضابط بشك، ثم نظر إلى عمر وقال:
ـ اسمع يا عمر، لو سبب سكوتك ده إنك عاوز تغطي على اللي عمل فيك كده تبقى غلطان.. قول هو مين عشان ياخد جزاؤه.. هي مش سايبة!
لم يُجب عمر مطلقًا وأطرق برأسه أرضًا وقد بدا عليه القهر فهمهم الضابط وقال:
ـ ممم.. تمام براحتك.. عالعموم إنت كده كده موجود معانا لما البنت اللي خبطتها تفوق ونسمع أقوالها.. خده يا عسكري.
انصرف عمر وهم المحامي بالخروج ليستوقفه الضابط إذ قال:
ـ يا ريت بصفتك محاميه ومحامي العيلة تكلمه يا متر وتقنعه ميسيبش حقه ويعترف على اللي اعتدى عليه بالوحشية دي.
أومأ المحامي بهدوء وارتياب وهو يقول:
ـ أكيد يا حضرة الظابط، عن إذنك .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في المستشفى..
كان فريد يقف أمام غرفة العناية المركزة، شاردًا يحدق بشتات في تلك الفتاة الموجودة بالداخل والتي تسببت لهم في الكثير من المشاكل.
انتبه لوجود الدكتور يوسف في الممر ، فتبادلا التحية ثم قال فريد :
ـ أخبارها إيه يا دكتور النهارده ؟!
ـ لااا الحالة مستقرة بنسبة كبيرة وبتتماثل للشفاء بسرعة ما شاء الله. وبدأنا من النهارده نقلل نسبة المخدر بالتدريج .
أومأ فريد قائلا بدون تفكير:
ـ ممكن أدخل أشوفها؟!
أومأ الطبيب وقال:
ـ تمام..لكن الزيارة تكون خمس دقايق بس .
أومأ فريد مبتسمًا ابتسامة جانبية وقال بهدوء:
ـ كفاية أوي.
غادر الطبيب واصطحبته الممرضة ثم أعطته مريولا طبيا وهو كان يرتدي قناعه وقفازاته الطبية بالفعل، ثم دلف الغرفة بخطى هادئة، وهو يشعر بالريبة والارتباك، ليس متأكدًا أبدًا من تلك الخطوة ولكنه للمرة الأولى لم يفكر في أبعاد أي شيء يُقبل على فعله.
تقدم من سريرها وهو يرمقها بحيرة، وقد عاد الإحساس الذي كان يشعر به سابقا وسيطر على الموقف..
ووقف أمامها يطالعها من علوٍ ، ذلك الوجه البريء.. رقيق الملامح والقسمات.. كيف له أن يكون محتالا وخادعا بذلك القدر ؟!
ووجد لسانه ينطق بدون وعي منه ، وكأنه فقد صبره أمام سكوتها اللاإرادي وقال:
ـ ليه؟ ليه عملتي كده ؟!
ــــــــــــــ
كانت تصارع حلمًا أشبه بالموت.. تركض في مكان موحش للغاية، مظلم تمامًا وفارغ إلا من أصوات لهاثها وركض ذلكما الذئبين خلفها، حاولت الاختباء ولكنها لم تجد أي مكان يصلح لذلك، فأخذت تتطلع حولها تبحث عن شيء لتلوذ به، ها هي ترى على مدى بصرها شجرة.. عليها أن تحتمي بها ، لذا ركضت نحوها واختبأت خلفها وهي تمنع صوت أنفاسها الذي يعلو على صوت نعيق الغربان فوق الشجر، وفجأة شعرت بقبضة مفترسة تشتد حولها، أحدهما يسحبها من قدمها والآخر يكاد أن يقتلع رأسها ، فما صدر منها لم يكن سوى صرخة .. وبعدها غابت صرخاتها واختفى صوتها للأبد !
ـــــــــــــ
رآها تهتز.. تتشنج. جسدها الضئيل يتحرك بطريقة تشبه كما لو أنها تحارب شيئًا ما، أنفاسها المنتظمة تضطرب! وذلك الجهاز الموجود بجانبها يُصدر طنينًا معلنًا عن توقف قلبها.
حملق بها للحظات مشدوهًا، لم يتوقع ولم يستوعب إلا عندما رأى جهاز مؤشر النبض وهو في طريقه للاستقامة.. فنظر حوله بتيه، بذعر.. وفي جزء من الثانية كان عقله قد استدعى تلك التجربة التي مر بها قبل خمسة عشر عاما عندما كان متطوعًا بجمعية الهلال الأحمر .
فأسرع نحوها على الفور، وضع يده اليسرى عند منتصف الصدر وشبك أصابع يده اليمنى فوقها وأخذ يضغط بقوة وعيناه تتفحصان وجهها بهلع، وهو يردد بغير وعي:
ـ مينفعش تموتي ، مينفعش!
كان يحاول إنعاش قلبها وعينه معلقة بالجهاز الموضوع بجوارها، ويداه تضغط فوق صدرها مرات متتالية دون توقف بينما جسدها الضئيل يهتز في كل ضغطة إلى أن بدأت بالاستجابة واستمع لصوت الجهاز مشيرًا إلى انتظام نبضات قلبها من جديد.
في نفس اللحظة كان الفريق الطبي يهرول نحو الغرفة، يتبعه الطبيب المشرف على حالة نغم وهو يقول معنفًا إياهم:
ـ إزاي تسيبوها كلكم وتمشوا؟ كلكم هتتحاسبوا على تقصيركم..
ابتعد فريد بينما تولى الطبيب وبقية الفريق المسؤولية بدلا منه وأخذ يطالعهم وهو يحاول التقاط أنفاسه بعدما بذل مجهودًا مضنيًا في إنعاش قلبها من جديد.
غادر فريد الغرفة وفور أن خرج خلع ذلك المريول، وأتبعه بالقفازات وألقاهم بسلة المهملات ثم أخرج زجاجة الكحول من جيبه ورش منها على يديه وملابسه بكثرة، ثم على المقعد الذي اضطر للجلوس فوقه لكي يلتقط أنفاسه المتهدجة، ثم أسند ذراعيه على فخذيه وأسند جبهته فوق كفيه وهو يحاول تهدئة نفسه.
بعد قليل استمع إلى وقع خطوات تتقدم منه فنظر ليجده الطبيب الذي وقف أمامه وقال بأسف:
ـ احنا بنشكر حضرتك إنك قدرت تنقذها، لولا تدخلك السريع كنا ممكن منلحقش نتصرف.
نظر إليه فريد باستياء وهدر به غاضبًا:
ـ إيه الإهمال ده؟ إزاي فريق طبي كامل يغيب عن القسم الوقت ده كله وسايبين حالة زي دي لوحدها؟ أومال لو مكنتوش بتاخدوا في اليوم الواحد مبلغ وقدره عشان بس تخلوا بالكوا منها ؟
ـ إحنا أسفين يا فريد بيه، وأوعدك إن الخطأ ده مش هيتكرر تاني إن شاء الله.
لم يُجبه فريد، وغادر المشفى بأكمله ، وفور أن دخل سيارته أسند رأسه على ظهر المقعد وهو يتنفس الصعداء ، ثم التقط الهاتف وقام بالاتصال بالأستاذ نادر الذي أجاب وقال:
ـ كنت حالا هتصل بيك يا فريد بيه..
كان فريد يمسك بالهاتف وهو يقرص بين عينيه بتعب بدأ يغزو رأسه، ثم تساءل بقلق :
ـ إيه الأخبار يا متر، وصلتوا لإيه؟
قص عليه نادر كل ما حدث خلال تحقيق الضابط مع عمر، بينما فريد يستمع إليه قاطبًا جبينه بدهشة ، وتساءل بغير تصديق فقال:
ـ إيه اللي انت بتقوله ده؟ معقول ؟!
ـ ده اللي حصل يا فريد بيه، واللي فهمته من نظرات عمر والحزن في عينيه إن سالم بيه أكيد اللي عمل كده.
ـ عشان كده محضروش الحفلة هما الاتنين؟!
كان هذا استنتاجًا أكثر منه سؤالًا ، حيث توصل فريد أخيرا لسبب غياب أبيه يوم الحفل، حينها بدا كلام المحامي وتخمينه واقعيًا ومقنعًا بالنسبة لفريد ، فتساءل مجددا بانشغال:
ـ طيب عمر حالته كويسة؟ مش المفروض يكون في علاج بياخده دلوقتي ؟
ـ أنا فعليًا هقدم طلب بالكلام ده كله، متقلقش أنا هعمل اللازم.
زفر فريد وهو يقرص بين عينيه مجددا بألم أشد وقال بحدة واستياء :
ـ طيب ولحد ما البنت تتزفت تفوق إيه اللي مفروض يحصل؟ وافرض الأربع أيام فاتوا وهي لسه مفاقتش ؟
ـ في الحالة دي هيتجدد له للأسف، لازم البنت تفوق وتتنازل بنفسها عشان المحضر يتقفل وعمر يخرج.. فحاليًا مفيش بإيدينا حاجة تتعمل غير الانتظار.
تراخى كتفاه بإحباط، وأخذ ينظر عبر النافذة مستغرقًا في شروده، ثم تنهد وقال :
ـ تمام يا أستاذ نادر، شكرا لحضرتك.
وتحرك بسيارته متجهًا على الفور نحو الڤيـلا..
ــــــــــــــــــــــــــــ
كان سالم يجلس بمكتبه. يُجري اتصالا مع اللواء السابق حمدان الأسيوطي ، والذي يعرفه معرفة شخصية حيث أنه أهداه العديد من الخيول الأصيلة من إنتاج مزرعة سالم مرسال ، وتلك الخيول غير أنها خيول نادرة وتقدر بملايين الدولارات فهي لازالت تشارك في سباقات دولية ومهرجانات عربية وتجلب له عائدًا مهولًا .
ـ شكرًا يا سيادة اللوا.. أنا واثق إن حضرتك بتعتبر فريد وعمر زي نائل ابنك بالظبط واستحالة تتأخر في حاجة تخصهم.
ليجيبه الآخر بنبرة واثقة ولهجة منمقة:
ـ أكيد يا سالم ، عالعموم متقلقش أنا هحل المشكلة بتاعة التحليل دي وكلها كام يوم وابنك يخرج.
ـ أشكرك يا فندم ، وزي ما بلغتك في أول المكالمة، أصيل مستني ينور الإسطبل عندك مع إخواته.
ليضحك الآخر ضحكة وقورة ويقول بحماس:
ـ وأنا مستنيه.. مع السلامه يا سالم.
أنهى سالم المكالمة وتنهد بارتياح بعد أن ضمن مساعدة اللواء حمدان له، فهو يعرف أنه ذو كلمة مسموعة والجميع يسعون لخدمته، إضافة إلى أنه يعرف أن الخيول هي نقطة ضعفه هو وابنه نائل الوحيدة ، ودائمًا ما يستغل تلك الثغرة ويكسب وده من خلالها.
وبينما هو شاردٌ يفكر انفرج الباب فجأة ودخل فريد الذي بدا وكأنه إعصار مدمر سيقتلع الأخضر واليابس في طريقه.
نظر إليه سالم باندهاش، كيف له أن يقتحم مكتب والده بتلك الطريقة التي تفتقر للذوق والأدب؟ وقبل أن يفتح فمه وينطق كانت الكلمات قد غادرت شفتا فريد فقال بغضب:
ـ ليه عملت كده في عمر ؟!
طالعه والده وهو لايزال يجلس بمقعده بهدوء وثبات انفعالي يُحسد عليه ، ثم رفع إحدى حاجبيه بتعجب بارد وقال :
ـ إيه قلة الذوق بتاعتك دي ؟ إزاي تدخل مكتبي بالطريقة دي ؟
ملأ فريد صدره بنفس عميق ، ثم عاد ينظر إليه وهو يشعر بتعب وتوتر تسببا في فقدان سيطرته على أعصابه فقال :
ـ وأنا بسألك ليه عملت كده في عمر ؟! إزاي قدرت تعمل فيه كده؟ هو إنت مش مكفيك العُقد اللي اتسببت لي أنا ونسيم فيها بسبب قسوتك وجبروتك؟ عاوز تخليه معقد ومريض نفسي هو كمان؟
ـ صوتك ميعلاش!
هدر بها سالم بحدة جعلت جميع من في المنزل يجفل على إثرها ، وتابع بصرامة:
ـ إذا كنت جاي تحاسبني فخليك عارف إن لسه ماتخلقش اللي يحاسب سالم مرسال على حاجة هو عملها. وإذا كنت بتقول كده لأنك خايف على أخوك الحيلة حاسب نفسك أولى .
ضيق فريد عينيه باستغراب وقال؛
ـ أحاسب نفسي إزاي مش فاهم؟
ـ هو مش اللي أخوك فيه ده كله بسبب تقصيرك وإهمالك فيه ؟ مش أخوك ده مسؤول منك وكان واجب عليك تركز معاه وتوعيه، أومال إنت أخ كبير إزاي؟
ـ وانت أب إزاي؟
صاح بها فريد غاضبًا فرجّ صوته أرجاء البيت ووصل إلى كل من بغرفتها ، وتابع قائلا بضجر واستياء:
ـ إفرض أنا كأخ كبير قصرت مع اخواتي وأهملت مسؤولياتي زي ما بتقول، إنت كأب بقا عملت إيه؟
أشار سالم بسبابته بتحذير وقال:
ـ قولتلك صوتك ميعلاش عليا وإلا صدقني هفاجئك بردة فعلي.
أشار فريد بذراعيه ببساطة وهو يقول باستهجان بالغ ونبرة تملؤها اللامبالاة :
ـ هتعمل إيه؟ هتعاقبني وتمنع عني المصروف؟ ولا هتجلدني بالكورباج زي ما عملت في عمر ؟!
قصف صوته مدويًا وهو ينطق الكلمات الأخيرة والتي كانت بمثابة لكمة قوية في قلب نادية التي دخلت المكتب للتو ووقفت عند الباب تنظر إليهما بصدمة ثم قالت:
ـ إيه ؟! ضربه بالكورباج ؟!! مش معقول .
نظر إليه سالم بغضب وأشار إلى الباب قائلا بصرامة:
ـ أخرج من هنا، لسه متخلقش اللي يقول لسالم مرسال يعمل إيه وميعملش إيه، أخرج برره ومتعتبش البيت ده تاني .
ـ مش هخرج، ده مش بيتك لوحدك.. ده بيتي زي ما هو بيتك، أنا ليا حق في البيت ده.. حق ناهد مرسال يا سالم بيه. والحق ده متقدرش تنكره مهما عملت. ولو خرجت من هنا دلوقتي فده لأني مبقيتش طايق أفضل في مكان بيجمعني بحد زيك، حد المفروض أنه أب بس هو في الحقيقة كابوس كبير.
وتركه عندما خارت قواه تماما وعلم أنه قد استنفذ كل الطاقة التي كانت لديه على عجل، ثم غادر الفيـلا وترك والده يقف في مواجهة هي الأعنف من نوعها في مقابل زوجته .
ـ اللي أنا سمعته ده حقيقي؟ إنت فعلا جلدت إبنك؟
رمقها بنظرة اخترقت كل الحواجز بينهما وقال بصوت ثابت:
ـ أديكي قولتيها .. ابني!
كانت تتقدم منه بخطوات متثاقلة ، تطالعه بذهول فاق حدود تعنته وجبروته ، وتحرك رأسها في رفض وتقول:
ـ إنت إيه؟ للدرجة دي مفيش في قلبك رحمة؟ للدرجة دي مغشوشين فيك ومش قادرين نعرفك على حقيقتك ؟ إنت إيه يا أخي ؟
بسط كفيه ببساطة مردفا بابتسامة وقال :
ـ أنا سالم مرسال.
صرخت به وهي تحرك كل عضلة بها من فرط الانفعال وقالت بانهيار :
ـ انت مش سالم انت ظالم . إنت كتلة شر وحقد وسواد، قوللي كام أب في العالم كله ممكن يجيله قلب يعمل في ابنه كده!!
نهض من مقعده، وتقدم نحوها، قاطعًا المسافة بينهما، ووقف أمامها عاقدًا ذراعيه خلف ظهره، مستدعيًا كل ذرة ثقة يملكها، ثم تفوه بصوت متربص وقال :
ـ قوليلي انتي كام أب في العالم يقدر يتغاضى عن كون إبنه زاني ومفضوح ؟!
حدقت به وهي تتنفس بصعوبة ، فتابع قائلا بحدة أعلى :
ـ اللي أنا عملته ده هو اللي ربنا قال عليه ، أنا أقمت عليه حد الزنا مجيبتش حاجة من عندي ولا اخترعت عقاب على مزاجي .
ثم تبسم ثغره ابتسامة متهكمة وأردف :
ـ طبعا وانتي هتعرفي الكلام ده منين ما الهانم عمرها ما ركعتها ولا مسكت مصحف.. فالحة بس تلبسي وتتشيكي وتحطي برفان ونادية هانم الصواف راحت ، نادية هانم الصواف جت.. حتى بناتك سيباهم على كيفهم اللي تلبس تلبس واللي تقلع تقلع .
واقترب منها وأردف بنبرة جامدة ولهجة رجل ريفي أصيل :
ـ حاجة تعر.
رفعت حاجبيها بذهول وأشارت إليه بسبابتها :
ـ أنا بحذرك يا سالم .. متجيبش سيرة بناتي على لسانك، أنا لا يمكن أسمحلك تعقدهم زي ما عقدت بنتك وخليتها مريضة نفسية.
استدار بلا اكتراث ينوي مغادرة المكتب وهو يهتف:
ـ يا شيخة بلا أحذرك بلا تحذريني، بدال ما جاية تتخانقي معايا إني بربي إبنك وبعلمه الأدب اقعدي مع نفسك وراجعيها وشوفي قصرتي قد إيه في تربيته لحد ما طلع عيل فاسد بالشكل ده .
ـ من شابه أباه فما ظلم !!
ألقتها بقسوة يغلفها الهدوء فجمد كل شيء حولهما حتى الهواء تجمد هو كذلك بمكانه للحظات وهو لايزال يواليها ظهره ، بينما السكون حولهما يشير لمؤشر مخيف ، قطعه صوت الضجيج بقلبها وهي تراه يستدير بنفس ثباته وهيمنته ، ثم نظر إليها رافعًا حاجبه
متعجبًا ما تفوهت به ولم يستطع تخطيه .
ـ بتقولي إيه ؟
ابتلعت خوفها مع ريقها وأردفت بثقة واهية مكررة ما قالته :
ـ من شابه أباه فما ظلم.. كل اللي عمر عمله إنت سبق وعملته في شبابك ، ولا ناسي الخدامة بتاعت العزبة ؟
ألقتها وهي تضرب بكل خوفها وحرصها وتعقلها عرض الحائط ، طالما أنه يطرق فوق آلامها بيدٍ من حديد فلن تأخذها به شفقة .
رأت ذلك البروز بعنقه يتحرك ، فأدركت أنها قد أصابت الهدف ، لقد أربكته أخيرا.. هنيئا لها لقد سجلت هدفًا كان صعب المنال .
ـ الخدامة ؟!! وانتِ مين اللي قالك على موضوع الخدامة ؟ ومن إمتا وانتي عارفاه ؟!
تساءل باقتضاب ووجه متجهم ، فأردفت بثقة تتسرب منه إليها ببطء :
ـ من ٢٥ سنه .. تخيل !
ارتفع حاجبه بتعجب مجددا فتابعت وثقتها تزداد :
ـ من اليوم اللي طلبت تتجوزني فيه وأنا عندي معلومة إنك غلطت مع الخدامة وكانت حامل منك ، وأبوك.. الديكتاتور الأكبر عبد العظيم مرسال .. أقنعها تجهض نفسها مقابل قرشين ، وهي وافقت وخدت الفلوس وسابت البلد كلها ومشيت .
صمت فتابعت :
ـ تقدر تقوللي أبوك عمل معاك إيه وقتها ؟ جَلَدك زي ما جلدت إبنك ؟ مش هستغرب لو قولتلي أيوة ، ماهو مستحيل القسوة دي كلها متبقاش متأصلة فيك من صغرك وتبقى اكتسبتها كده على كَبَر.
ـ خلصتي؟
سألها فنظرت إليه بانتباه فقال :
ـ معلوماتك ناقصة يا نادية هانم، أنا مغلطتش معاها زي ما بتقولي ، أنا كنت متجوزها على سنة الله ورسوله .
تغضن جبينها بتعجب فظهرت شبه ابتسامة ساخرة على وجهه وقال :
ـ أنا عمري ما عملت حاجة حرام !
لتجيبه هي بثقة :
ـ إنت عمرك ما عملت غير الحرام بس دايمًا بتلاقي له مسميات تتدارى وراها .
ليجيبها هو بلامبالاة قاتلة :
ـ ولما انتِ عارفة كدة كويس وعارفة حقيقتي من قبل ما أتجوزك وافقتي ليه ؟ وافقتي تدوسي على قلب أعز صاحبة عندك وتاخدي جوزها ليه ؟
صمتت فقال :
ـ ما تردي يا نادية هانم ، وافقتي ليه !؟ لأنك كنتي محتاجاني مش كدة ؟ كان عندك استعداد تقبلي بأي حد المهم إنه يخلصك من عم بناتك اللي كان واكل حقكم ، كنت حلو وعليا سكر لما خلصتك منه انتي وبناتك ورجعت لكم كل مليم وفوقيه بوسة ، عصرتي على نفسك لمونة وقتها واتجوزتيني وانتِ عارفة عني كل حاجه بس عملتي نفسك عميا وخرسا وطرشة .. قصاد إيه ؟ قصاد مصلحتك .
ثم هدر بأعلى ذرات غضبه :
ـ بأي حق جاية تلوميني أو تحاسبيني دلوقتي ؟! ولا هو خدوهم بالصوت ؟!
وتحرك متجهًا للخارج ولكنها استوقفته مجددا وهي تبكي بانهزام قلما يراه :
ـ مش عشان كده بس، أنا وافقت لأني كنت بحبك .. وانت عارف كده كويس ، عارف إني إتجوزت عبدالعزيز غصب عني وتحت ضغط من أبويا لما انت اتجوزت ناهد.. عارف إني عمري ما حبيت غيرك ، أنا وافقت أتجوزك وقتها لأني كنت بحبك وما صدقت الفرصة سمحتلي أكون جنبك ، مش عشان مصلحتي زي ما بتقول .
ـ هي هي.. عشان مصلحتك، أو عشان بتحبيني ، وهو الحب والمصلحة إيه ؟ ماهو واحد .
هتفت بصوت غير متزن ، مضطربًا لأبعد حد :
ـ أنا مش مسامحاك يا سالم .. عمري ما هسامحك !
خرج وغادر المكان بأكمله ، وتركها شاردة وتلك الكلمات التي تفوهت بها للتو قد أخذتها نحو زمنٍ بعيد … بعيدًا جدًا .
ـ استرجاع زمني طويل ـ
" أنا مش مسامحاك يا سالم.. عمري ما هسامحك "
تفوهت ناهد بتلك الكلمات وهي تتهاوى أرضًا أمامه ، تجهش بالبكاء وترتجف وهي تغطي وجهها بيديها وتقول :
ـ أنا عملتلك إيه عشان تأذيني بالشكل ده ؟
ونقلت عينيها الدامعتين من عليه إلى نادية التي تقف بجوارها متجردة المشاعر والتعابير ، ونطقت باستنكار يتخلله الأسى :
ـ طيب بلاش هو.. انتي يا نادية ؟ انتي يا صاحبة عمري .. إزاي تعملي فيا كده ؟ إزاي تقبلي تتجوزي جوز صاحبتك والإنسانة اللي متربية معاها وبتعتبريها أختك ؟ إزاي جالكوا قلب تعملوا فيا كده ؟ انتوا مش بشر ، انتوا شياطين.. حرام عليكم ليه تأذوني بالشكل ده ؟
تقدم منها سالم وأمسك بذراعيها يساعدها على النهوض ، وهو يقول بنبرة حاول أن تظهر متعاطفة :
ـ ناهد.. إحنا إتكلمنا في الموضوع ده قبل كده وانتي عارفة إني استحملت تعبك سنين كتير ، أنا مبقيتش قادر أعيش معاكي وانتي بالحالة دي ..
أمسكت بيديه برجاء وقالت وهي تطالعه بعينين ضائعتين :
ـ هتعالج ، والله هتعالج وهعمل كل اللي انت عاوزه بس أرجوك يا سالم طلقها ، أنا مش هقدر أعيش بالشكل ده ، مقدرش أتخيل جوزي اللي بحبه مع صاحبة عمري ، والله هموت يا سالم ، عشان خاطري ارحمني ..
تنهد وهو يشدد قبضته على كتفيها وأردف :
ـ مقدرش أطلقها يا ناهد ، نادية ظروفها صعبة هي وبناتها ولازم أقف جمبها وأساعدها ، بصي .. أنا مش عاوزك تعتبريها ضرتك .. دي نادية صاحبتك اللي بتحبيها .. اعتبريها فرصة كويسة إنكوا تعيشوا مع بعض في بيت واحد ، انتي أغلب الوقت نفسيتك تعبانة ومش قاعدة في البيت ، جايز وجود نادية يهون عليكي ويساعدك تخفي .
نظرت إليه بذهول ! ماذا يطلب منها وبماذا يحاول أن يقنعها ؟ أن تتقبل زوجة زوجها الذي تهيم به عشقًا منذ الطفولة في بيتها وتتعامل معها وكأنها صديقتها ؟ هل هذا ما يحاول إقحامه إلى عقلها فعلا ؟
وأخذت تهز رأسها بذهول ودمعاتها تتساقط بغير استيعاب ، ثم ما لبثت أن ابتسمت بذهول ، واتسعت ابتسامتها التي تحولت إلى ضحكات عالية هستيرية ، ثم باغتته بصفعة رنت أرجاء المنزل بأكمله .
تمنت أن يبادلها تلك الصفعة ، تريد أن تكرهه فعلا في تلك اللحظة ! ربما لو كرهته لاستطاعت تجاوزه والخروج من هذا البيت دون النظر للوراء ، ولكن كل ما حصلت عليه منه هو تنهيدة حارة صامتة ، أتبعها بقوله بصوت رصين :
ـ أنا مقدر حالتك عشان كدة مش هحاسبك على اللي عملتيه دلوقتي ، بس عاوزك تعرفي إني مش هغير قراري ، نادية من النهارده مراتي زي ما انتي مراتي ، وبناتها هيعيشوا معانا هنا في البيت زيهم زي فريد ونسيم ، تقبلي الأمر الواقع يا ناهد وتعايشي معاه ، انتي مش أول وحدة تقبل بوضع مش مناسب ليها ، كلنا بنتنازل .
جالت عينا ناهد في المكان ، بيتها ومملكتها الخاصة التي أسست كل شبر فيها حسب ذوقها الخاص ، حسنا هي تضطر للخروج من البيت رغمًا عن إرادتها ولكنه يبقى ملاذها الآمن وعشها السعيد الذي شهد أجمل لحظات حياتها ، ولكنه لن يعود كذلك .. فها هو زوجها الذي تعشقه قد أحضر صديقتها المقربة لكي يضعها أمام عينيها ويجبرها على تقبل الواقع والتنازل كما يقول .
ثم مرت بحدقتيها على فريد الذي يقف في مكانه قاطبًا جبينه بغضب أعمى لا يليق بطفل في العاشرة من عمره ، ونسيم ذات الثمانية أعوام التي تبكي بكاءً مكتومًا وترتجف حتى أنها بللت ثيابها من فرط الخوف ، ثم ثبتت ناظريها على هاتين الفتاتين بنات نادية ، الشقراوتين اللتين تشبهان والدهما تماما ، الكبرى في سن السبع سنوات والأخرى في الخامسة من عمرها ، ها هما لقد أتيْن ليشاركن أولادها الحب والرعاية والاهتمام ! مثلما أتت أمهما لتشاركها هي كل شيء حتى زوجها وحب عمرها !
وأخيرا نظرت لسالم ، حياتها بكل ما تحمل كلمة حياة من معنى ! وهو يرمقها بعينين لا تعرفان سوى القسوة ، وقلبًا لا يعترف سوى بالأخذ ويكره العطاء ، لا يعرف سوى ما يريده هو فقط !
أومأت وكأنها وافقت واقتنعت وتقبلت ، ستتنازل كما أخبرها . ثم تقدمت منه ورسمت على شفتيها ابتسامة واهية ، ومالت على وجنته وتركت له قبلة عاشقة مبللة بدموعها المقهورة ، ثم التفتت لفريد ونسيم وعانقتهما وطبعت على خد كلا منهما قبلة حنونة ثم تركتهما وغادرت . استسلمت وصعدت إلى غرفتها .. واستجابت لندائه ، إن كان يريدها أن تتنازل ستفعل ، ولكن ليس دون أن تترك له تذكارًا بجوار تنازلها ، لا بد لها أن تثبت له أنها قدمت روحها كأكبر تنازل من الممكن أن يحصل عليه من امرأة .
وفجأة انتفض الجميع على صوت ذلك الارتطام القوي الذي أحدث جلبة قوية وجعل الجميع يهرولون للخارج ليصعقوا جميعهم برؤية ناهد .. مسجاة على الأرض ، غارقة في بركة من الدماء !
ــــــــــــــ عودة للحاضر ــــــــــــــــــ
انتفضت نادية وقد خرجت من حالة اللاوعي التي كانت تحيط بها ، ونفضت عنها تلك الذكريات اللعينة وهي تشعر بجسدها يهتز وكأنها ستلقى حتفها بعد قليل ، ثم كتمت نحيبها وهي تردد بندم :
ـ أنا آسفة يا ناهد .. أنا بجد آسفة .
****
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق