رواية محسنين الغرام الفصل العاشر 10بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام الفصل العاشر 10بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ١٠ ~ عيناه المتوعدتان ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان حسن يقف مستندًا على باب الغرفة التي تجلس بداخلها والدته في المستشفى ، حيث تتلقى اليوم أولى جلسات العلاج الكيميائي بعد انقطاع ، وبالرغم من أنها طلبت منه أن ينصرف ولكنه أصر على البقاء بجوارها.
ينظر إليها وهي تغوص بجسدها الضئيل الذي أنهكه المرض داخل مقعد جلدي كبير ، وتتمدد فوقه وهي تسند رأسها إلى ظهره بيأس واستسلام، وبجوارها حاملًا معدنيًا مثبتًا فوقه أنبوبًا صغيرًا موصولًا بوريدها.
كانت عينيه مثبتة على كل قطرة تتهاوى من الأنبوب إلى وريدها وقلبه يطرق معها ، يتخيل كيف يكون تأثيرها عليها؟ هل تتألم ؟ أم أنه يسكن آلامها ؟ هل تشعر بسريانه في عروقها؟ أم أنها لا تشعر بشيء؟
تنهد وأخذ نفسًا عميقًا أخيرًا وهو يحوّل ناظريه من عليها نحو الباب، فإذا بهما يقعان على فتاة في عمر العشرين، جذبت انتباهه لشدة شبهها مع نغم ، من حيث الجسد الضئيل ، والملامح الهادئة الرقيقة ، ما عدا أنها ترتدي حجابًا ، على عكس المتمردة خاصته التي كانت ترفض دومًا أن تغطي شعرها كلما أمرها..
ووجد نفسه يسبح نحو ذكرى بعيدة ،. قبل خمس سنوات تقريبا.
ـ استرجاع زمني ـ
كانت نغم مستلقيةً فوق فراشها المهترئ الذي بالكاد يضم جسدها الصغير ، تغط في نوم عميق ، وفجأة انتفضت على صوت الباب الذي أحدث أزيزًا وهو ينفرج والضوء الذي تسلل من الخارج إلى غرفتها ، وهبت واقفة عندما رأت حسن الذي اقتحم عليها الغرفة كالعادة فصاحت به بغضب:
ـ هو أنا مش قولتلك متدخلش عليا كده تاني ؟ إنت مابتفهمش ؟
كان يطالعها بحماس وابتسامته تعلو وجهه، ثم ألقى الكيس الذي كان يحمله بيده فوق فراشها، وأخذ يفرغ محتوياته وهو يثبت عينيه على عينيها اللتان تراقبان الكيس بيده ، وينتظر رؤية رد فعلها ، ثم عرض الثوب الموجود بالكيس أمامها وقال :
ـ كل سنة وانتِ طيبة، طقم العيد .
طالعت الثوب بيده ببرود ، ثم نظرت إليه بنظرة غاضبة، ونظرت إلى الباب المنفرج على مصراعيه وقالت:
ـ إنت إزاي تدخل عليا كده؟ هو إنت مش ملاحظ إني كبرت ومبقاش ينفع تدخل من غير ما تخبط ؟ إفرض بغير هدومي؟
وضع الثوب على الفراش، وهم باستعراض شيئا آخرا وهو يردف ببساطة:
ـ مالك يا بت هو أنا غريب ؟ قوليلي إيه رأيك في الإيشارب ده؟؟ هياكل من راسك الناشفة دي حته .
طالعته بقهر وقلة حيلة وسالت دموعها ، فالتقطتها سريعا قبل أن يقترب هو منها ويزيلها بيده ، فهي تعرف كل ردود أفعاله وتحفظها عن ظهر قلب، ثم نظرت إليه بتهكم وقالت:
ـ إيه ده؟ جايبلي إيشارب يا شيخ حسن ؟! و ده بعد ما نصصت معايا الفلوس اللي أنا نشلتها من جيب محفوظ الكمسري ولا قبل ؟؟
تغضن وجهه بضيق وانزعاج واضح، وأردف بنبرة مستهجنة:
ـ هرجعهملك يا بومة، أنا لولا إني عايز أوجب مع علي أبو حسين في فرحته مكنتش خدت منك مليم على فكرة..
ها هو يحيد عما تقصده مجددا، فبالرغم من أنه يعرف مقصدها من الحديث جيدًا إلا أنه دائمًا ما يدعي عدم الفهم ويتوجه نحو معانٍ أخرى تماما، لذا قلبت عينيها بملل وقالت :
ـ أخرج عشان أنام، وخد الهلاهيل دي معاك مش عاوزة منك حاجة.
رمقها بتحذير فتراجعت، وتخشبت بخوف وهي تراه يقترب منها وبيده ذلك الوشاح وهو يتمتم:
ـ أخنقك بيه وأرتاح منك ومن لسانك اللي بينقط سم ده؟
ثم وضع الوشاح فوق رأسها ولفه بطريقة عشوائية وابتعد خطوات للخلف يطالعها بنظرة تقييمة، ثم اتسعت ابتسامته وهو يقول:
ـ زي العسل عليكي، حتى شوفي .
وأدارها لتنظر نحو المرآة، فطالعته وهو يقف خلفها مبتسما وفجأة نزعت الوشاح عن رأسها وهتفت بحدة:
ـ بالعِند فيك مش لابساه يا حسن !
واستدارت لتواجهه بالرغم من خوفها وقالت بنفس الحدة:
ـ وكفاية بقا عشان أنا قرفت.. إنت ناقص كمان تتحكم في الهوا اللي بتنفسه .
استمعا إلى صوت عائشة التي استيقظت من نومها على صوتهما، وتقدمت نحو غرفة نغم وهي تتسائل:
ـ فيه إيه ؟ وبتعمل إيه عندك دلوقتي يا حسن ؟!
نظرت نغم إلى عائشة وانهالت دمعاتها مجددا وقالت:
ـ قسما بالله يا خالتي لو ما قولتيله يحترم نفسه ويبطل يدخل أوضتي من غير استئذان لاكون ماشية وسيبالكم البيت وما هتلاقوني تاني.
وقبل أن تنطق خالتها كان حسن قد تقدم منها وقبض فوق ذراعها بقبضة من حديد وهو يطالعها بغضب ويقول:
ـ ده إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟ هتمشي تروحي فين يعني؟ انتِ تعرفي حد غيرنا وأنا معرفش؟
نظرت إليه فرأت الجحيم المستعر يتأجج في عينيه، ولكنه لم يُخِفْها ولم يجعلها تتراجع فكررت ما قالته بغضب وقالت بتحدٍ صريح وهي تبكي:
ـ أي داهية إنت مش فيها يا حسن يا عقرب.. أنا عندي استعداد أرمي روحي لكلاب السكك بس أخلص منك
كور حسن قبضته وكان على وشك لكمها فصرخت وهي تتقلص حول نفسها بخوف، فضرب الإطار الزجاجي المعلق خلفها على الحائط فسقط متهشمًا على الأرض، ونظر إليها حسن وهو يقول:
ـ آخر مرة أسمعك بتقولي الكلام الماسخ ده ، وانتِ عارفة إن قلبتي وحشة ولدعتي والقبر .
طالعته نغم بعينين مذعورتين وهي تحتمي بخالتها التي دفعت ابنها للخلف بهدوء وهي تقول:
ـ شيل إيديك دي وإبعد عنها، مالكم فيه إيه بتاكلوا في بعض ليه ، هو إنتوا متعرفوش تفوتوا يوم من غير خناق ؟!!
لف حسن ذلك الوشاح الذي أحضره لنغم حول يده التي تقطر دمًا بعدما كسر الزجاج بها، وأردف وهو يطالع نغم بحنق فائض وقال:
ـ قوليلها ياما.. ليه وليه عاوزها تغطي شعرها ، الهانم زعلانة وعاملة حوار.. الحق عليا إني بغير عليكي ومش عاوز حد يشوف شعرك !
حافظت عينا نغم على نظراتهما الغاضبة المستاءة ، وقالت وهي تعود لتمردها من جديد :
ـ أديك قولتها، عاوزني أتحجب عشان غيران إن حد يشوف شعري، مش عشان حرام .. لأن انت متعرفش الحلال من الحرام أصلا ! وهقولهالك تاني… بالعِند فيك مش لابساه يا حسن !!
احمرت عيناه وانتفخت أوداجه وكأنه على وشك الإصابة بنوبة من الجنون ، ثم غادر الغرفة دون أن ينطق، وغرقت نغم بعدها في نوبة بكاء قاسية، فضمتها عائشة إلى صدرها وأخذت تربت عليها وتهدئها بكلمات واهية.
ليتفاجأ بها حسن في اليوم التالي وقد صبغت شعرها بالكامل باللون البني وبعض خصلات باللون الأصفر في رسالة شديدة اللهجة منها إليه وكأنها تخبره أنها ستفعل ما يحلو لها مهما حدث ولن تجعله يفرض حكمه وسيطرته عليها أبدا.
ـــــــــــ عودة للحاضر ــــــــــــــ
ابتسم حسن بحنين وهو يسترجع تلك الذكرى المحفورة بثنايا قلبه، وشعر بالشوق ينهش فؤاده لصاحبة تلك الذكرى ، حتى أن هناك دمعة غدرت به وفرت إلى خده ، فالتقطها سريعا وهو ينفض رأسه لكي يصرفه عن التفكير بها .
وانتبه إلى صوت الممرضة التي تتحدث إلى أمه وتقول :
ـ هانت ، كلها نص ساعة ونخلص .
أومأت عائشة بعينيها ، حيث أنها كانت فاقدة لقواها تماما في تلك اللحظة ، غادرت الممرضة وعينا حسن لا تفارقها ، يشعر وكأنه يرى شيئا من نغم أمامه ، وبينما كان شاردًا يحدق بها بتشتت انتبه إلى رنين الهاتف القابع في جيبه ، فأخرجه ليجده اتصالا من رقم مجهول فأجاب :
ـ ألو، مين معايا ؟
استمع إلى صوت أنثوي ينبعث من الهاتف وصاحبته تقول :
ـ أستاذ حسن معايا ؟
ـ أيوة مين ؟
ـ أنا مدام فيفي.
قطب جبينه باستغراب وقال :
ـ مدام فيفي مين ؟
ـ جرى إيه يا حسن إنت لحقت تنساني ؟ مدام فيفي صاحبة البيوتي سنتر اللي نغم كانت شغالة فيه .
اعتدل واقفا، متأهبا، وغادر الغرفة بالكامل متجها إلى الخارج وتساءل بلهفة :
ـ إنتِ عرفتي عنها حاجة ؟
ـ الحقيقة لأ، بس كنت عايزة أتكلم معاك في موضوع مهم .
تراجعت لهفته وحماسه ، وحل محلهما الإحباط والضيق، ثم تساءل بفتور وقال :
ـ موضوع إيه ده؟
ـ شغل ، عاوزاك تشتغل معايا .
ظهرت ابتسامة ساخرة على شفتيه وهو يتساءل:
ـ هشتغل معاكي إيه بقا إن شاء الله ؟ هعمل فتلة ولا هصبغ للحريم شعرهم؟
نطقت السيدة بتمهل وهدوء وقالت:
ـ صبرك عليا بس يا أبو علي ، تعالى لى السنتر النهارده ونتكلم ونتفق على كل حاجة ، صدقني عندي ليك عرض هايل ومش هتلاقي زيه أبدا .
ـ تمام ، هشوف.
وأنهى الاتصال بغتةً وأسند الهاتف إلى ذقنه وهو يفكر بشرود في ذلك العرض الذي لن يجد مثله أبدا !! ترى ماذا يكون؟
استدار ليعود إلى الغرفة الموجودة بها والدته ولكنه اصطدم فجأة بنفس الفتاة التي كانت تعبر الرواق وبيدها حاملا مثبت عليه محلولا طبيا فتعثرت واصطدمت بالجدار من خلفها ليهتف حسن بأسف وهو يقول :
ـ لا مؤاخذة مخدتش بالي منك ..
نظرت إليه الفتاة نظرة صامتة مطولة ، ثم هتفت بتوتر :
ـ ولا يهمك .
ـ انتِ كويسة؟
أومأت وهي لاتزال تحدق به بينما هو يطالعها باستغراب لكونها تنظر إليه بتلك الطريقة ، ثم هز رأسه بصمت وتجاوزها ودخل إلى الغرفة ، جلس على المقعد المقابل لوالدته التي تساءلت باهتمام :
ـ مين اللي كان بيكلمك؟
أجابها وهو يضع يديه بجيبي سترته ويقول بمراوغة:
ـ دي الست صاحبة الكوافير اللي كانت شغاله فيه نغم ، بتسأل إذا كنا وصلنا لحاجة ولا لأ.
شردت عائشة مجددا، وسالت دمعاتها بصمت، وأخذت تناجي الله بسرها أن يرد إليها نغم، وأن يحفظها أينما حلت خطاها.
***
شهقت نغم كالغريق الذي طفا فوق سطح الماء فجأة ، وفتحت عينيها بتثاقل ، رفرفت بأهدابها ببطء وهي تحاول الخروج من تلك الحالة المبهمة ، لتبدأ الرؤية بعدها في الوضوح واندثر الضباب من أمامها شيئًا فشيئًا ، همت بتحريك رقبتها لكي تستكشف المكان من حولها ولكنها شعرت بشيئ ٍ ما لم تستطع تحديد ماهيته يثبت عنقها بمكانه وكأنه يطبق فوق أنفاسها ويمنعها من الحركة ، ثم أخذت تحرك مقلتيها في أرجاء المكان ببطء فلم يكن من الصعب عليها أن تستنتج وجودها في المشفى ، نظرًا لأنها تواجدت كثيرا في أماكن مماثلة برفقة خالتها .
حاولت تحريك يديها وقدميها فشعرت بشيء ما مثبت بإصبعها باليد اليسرى ، وثمة أشياء أخرى هي لا تعرفها موضوعة على صدرها ، فبدأت بتخمين ما حدث لها ، بالتأكيد هي هنا منذ يوم الحفل الملعون بعد أن اصطدمت بسيارة ذاك الأرعن الذي كان يسابق الريح .
وتذكرت ما كانت على وشك التعرض له عندما كان الحقير بصدد اغتصابها ، فاهتز بدنها وشعرت بنبضات قلبها تتسارع وكأنها ركضت لمسافة أميال طويلة للتو .
حينها انفرج الباب ودخلت الممرضة التي كانت تراقب حالتها عبر أجهزة الإنذار ، وتقدمت منها وهي تطالعها بابتسامة وتقول :
ـ حمدالله على السلامة ، حالا الدكتور هييجي يطمن عليكي .
نظرت إليها نغم بطرف عينيها وقالت بتعب وهي تحاول تحريك لسانها الذي بدا وكأنه قد التصق بحلقها :
ـ هو أنا إيه اللي حصللي بالظبط ؟
أجابت الممرضة وهي تتفحص شاشة عرض المؤشرات الحيوية قائلة :
ـ عملتي حادثة ونقلوكي على المستشفى ومن يومها وانتِ في العناية ، بس طالما اتحسنتي هننقلك على أوضة تانية النهارده .
دخل الطبيب فخرجت الممرضة التي أخرجت هاتفها على الفور وقامت بالاتصال بفريد حيث أمرها من قبل أن يكون هو أول من يصله خبر عودتها لوعيها.
***
في تلك الأثناء كان فريد مستسلمًا لنوبة نوم لاإرادية ، فمنذ عودته بالأمس من الڤيلا وبعد مواجهته مع والده وهو يشعر باليأس والإحباط اللذيَان أصاباه بدوامة اكتئاب عنيفة ، جعلته يستسلم لها وينعزل تماما ، حتى أنه أغلق هاتفيه ، وفصل سلك الهاتف المنزلي ، ثم تناول قرصًا منومًا وغرق في حالة من اللاوعي استمرت لما يقرب من أربعة عشر ساعة متواصلة .
كان يرى والدته بمنامه ، في مشهد تجسد أمامه وكأنه واقعٌ يعيشه ، حيث كانت تجلس على حافة فراشه وتضمه إلى صدرها وتمسح على شعره وهي تغني له تهويدة قبل النوم ، حيث كان مغمضًا عينيه وشعورًا بالدفء والأمان يغمرانه ، قبل أن ينفرج الباب فجأة ويدخل والده حاملًا مسدسًا ويصوبه نحو والدته ثم أطلق عليها الرصاص بصمت ، فسقطت أمه على فراشه الذي تلطخ كليًا بدمائها ، ووجهه الذي نال نصيبه من دم والدته أيضا ، ومع ذلك.. وبالرغم من حجم الخوف والرعب الذي كان يعيشه إلا أنه لم يتفوه بحرف خشية أن يطلق والده النار على رأسه مثلما فعل بوالدته ، وكتم نحيبه بقلبه إلى أن اختفى ذلك القاتل من أمامه .
انتفض فريد من مرقده فورًا وأنفاسه تتوالى بصوتٍ عالٍ ، أخذ ينظر حوله بضياع إلى أن أدرك أنه كان كابوسًا ، فمسح وجهه بكلتا يديه، ثم أسند جبهته فوق كفيه وأخذ يتذكر تلك اللحظات.. ومنظر الدماء الذي لوث الفراش ، ثم لطخ وجهه ، فمد يده إلى وجهه لاإراديًا ، ثم نهض من الفراش ووقف أمام المرآة يتفحص وجهه وكأنه يخشى رؤية الدماء عليه فعلا ، ثم عاد وجلس على طرف الفراش.. ثم مد يده يتحسس المكان ، حيث كانت أمه تجلس هنا تماما.. وفجأة انفجر باكيًا وأسند رأسه على يديه مجددا ، وظل يبكي لدقائق وقد صنع عقله الباطن مزيجًا بين الواقع والخيال ، بين الحاضر والماضي.. بين الوعي واللاوعي.. فجعله يتذوق ألم فراق أمه وكأنه حدث للتو ، وكأنه لم يمضِ عليه خمسة وعشرون عاما .
بعد قليل.. رفع رأسه وتنهد بعد أن أفرغ مخزونًا لا بأس به من الطاقة السلبية ، ثم مسح وجهه بكفيه ليزيل عنه آثار بكائه ، ثم نهض متجهًا إلى الحمام، أخذ حمامًا كاملا ، ثم خرج متجهًا إلى الغرفة ، نظر إلى الساعة المعلقة على الجدار أمامه ليجدها قد تجاوزت الرابعة عصرًا ، مما جعله يقترب منها أكثر ، ووقف أمامها ، ثم أخذ يحدق بها بغير تصديق ، هل نام كل ذلك الوقت فعلا ؟!!
تنهد وهو يستدير ، يثبت نظره على الفراش ، وتذكر دماء والدته الذي تخضب به في المنام، فقام بنثر الأغطية و الملاءات جميعها على الأرض ، ثم قام بفرشه وترتيبه من جديد ، ثم خرج من غرفته واتجه نحو المطبخ ، أحضر كيسا بلاستيكيا مخصصًا لوضع القمامة ، ثم دخل غرفته ووضع به ملاءات السرير ورجع إلى المطبخ مجددا وألقاها بسلة المهملات.
ولج غرفته مرة أخرى ، وجلس على المقعد المجاور للسرير ثم فتح درج الكومود وأخرج منه ذلك الدهان الطبي الذي وصفه له الطبيب وبدأ بدهنه فوق تلك التقرحات الجلدية بيده ، ثم وضع أنبوبة الدهان بمكانها بعناية ، وأغلق الدرج، وأخذ ينظر إلى هاتفيه الموضوعين أمامه بتفكير..
هل يفتح الهاتف الشخصي؟ أم هاتف العمل؟ أم يبقيهما على حالتهما ويوفر عناء التنقل من خبر مزعج لآخر، ومن مكالمة مُرهِقة لأخرى.. أم أنه يجدر به أن يكون شخصًا مسؤولا أكثر من اللازم وأن يتوقف عن الهرب ؟
وفي النهاية أذعن لذلك النداء برأسه، وهو أن هذه ليست تصرفات شخصًا مسؤولًا أبدا . لذا فتح الهاتفين ، وأعاد سلك الهاتف الأرضي من جديد ، وعلى الفور وصلته العديد من الرسائل ومحاولات الاتصال، وبينما هو يتفحص الرسائل سريعا وردتهُ مكالمة من رقم غير مسجل، فأجاب على الفور ليصله صوت الممرضة بقسم العناية المركزة التي تقول :
ـ إنت فين يا فريد بيه بكلمك بقالي ساعة، البنت فاقت والدكتور بيفحصها دلوقتي وهننقلها على عنبر خاص زي ما حضرتك أمرت.
وقف فريد متأهبًا، متحفزًا للغاية، وردد وهو يتجه نحو غرفة ملابسه لكي يستعد :
ـ حد عرف إنها فاقت؟
ـ لأ لسه، حضرتك أول واحد تعرف زي ما طلبت مني.
ـ تمام، متبلغيش أي حد لحد ما أجي وأتكلم معاها.
وأنهى الاتصال سريعا، ثم انتقى بنطالا وقميصا باللون الأسود الذي يمده بالثقة، فهو بالتأكيد سيكون في حاجة للثقة و السيطرة في مواجهتها لكي يستطيع انتزاع ذلك الاعتراف منها في غضون ثوان، ثم بعدها سيتدبر أمر عقابها وما سيجده مناسبا لذلك.
خرج وأوصد الباب، ونزل بالمصعد بالرغم من أنه لا يلجأ إليه سوى نادرًا، ولكنه يرغب في الوصول إليها على جناح السرعة ، ثم خرج واستقل سيارته وقبل أن يدير المحرك توقف وقد خطر له هاجسًا جعله يستغرق في التفكير… هل أوصد باب منزله أم لا ؟!!
لذا خرج، ودخل المبنى من جديد ، وصعد إلى منزله ليفحص الباب الذي وجده مغلقًا ، فتنهد بأسى وهو يعود أدراجه نحو السيارة، ورفع صوت المذياع لكي يسيطر على صوت الهواجس برأسه التي تحثه على الرجوع وتفحص كل شيء هل هو في مكانه أم لا، ثم تحرك منطلقا نحو المشفى وهو يشحذ همته لمواجهة تلك المحتالة الرقيقة.. حسنا هو لن ينكر أنها تبدو رقيقة الملامح، ولكن هذا لن ينفي حقيقة أنها محتالة!
***
كان سالم يجلس بغرفة مكتبه، حيث قضى ليلته الماضية بها لأنه لا يرغب في التواجد مع نادية في نفس الغرفة منعًا للخوض في ذكريات تُشعِر كلا منهما بالخزي .
ولولا الظروف المأساوية التي تمر به عائلته لما تردد في الفرار من هذه المدينة التي تعج بالفوضى والمآسي إلى عزبته ومملكته الخاصة ، حيث يجد هناك النسخة المفضلة من سالم مرسال والذي يفتقدها حاليا وبشدة.
فهو رجل بالرغم من أنه ظاهريا يبدو متمدنًا وعصريًا لأبعد حد إلا أنه لم يستطع الانسلاخ عن تلك البيئة الريفية التي نشأ فيها وتجذرت أصولها في أعماق روحه ، وبالرغم من أنه يدعي التفهم والتحضر إلا أنه لم يستطع قتل تلك الروح الرجعية المتعنتة بداخله.
كان ممسكًا بصحيفة الأخبار، يتابع أخبار اليوم، فهو لا يعترف بأخبار ما تسمى بمواقع التواصل الاجتماعي أبدا ولا يرمقها بعين الاعتبار ، ففي كل صباح يحضر له الحارس الشخصي طبعة من كل جريدة ويجلس سالم يطالع كافة الأخبار بها وهو يرتشف قهوته الصباحية، وبعد أن انتهى من مطالعة الأخبار أخذ يحل الكلمات المتقاطعة كهواية متوارثة من الجد السابع، ولكنه توقف في المنتصف وألقى الجريدة بإهمال فوق الطاولة التي يمد قدمه فوقها وزفر بيأس وإحباط وضجر.
ثم نهض وتوجه ليجلس خلف مكتبه، واستجابةً لنداء جزء مهمَلًا في قلبه قليلا ما يستجيب له فتح خزنته السرية وأخرج منها ألبوم صور العائلة ، وأخذ يحدق بالصور واحدة تلو الأخرى وهو يسترجع كل ذكرى تم التقاط الصورة بها.
ففي المقدمة كان والده، عبدالعظيم مرسال، عمدة قرية كوم الأشراف ، وبجواره والدته السيدة توفيقة مرسال، فهذا كان نهج العائلة والذي لا يحيدون عنه أبدا، فكان كل رجال العائلة يتزوجون ببنات أعمامهم، فجرت العادة وتزوج هو كذلك من ناهد ابنة عمه، في هذه الصورة كان سالم طفلا في العاشرة، يقف بين والديه ويحمل شقيقته الصغرى ' ملكة ' .
أغمض عينيه وأراح ظهره إلى ظهر المقعد من خلفه وهو يتذكر تلك الصغيرة التي توفت في سن الرابعة عشرة بعد أن صمم والدها على قيام إحدى السيدات بالقرية بإجراء جراحة الختان لها، وتوفت الصغيرة بعد مضاعفات خطيرة تعرضت لها بعد تلك الجراحة الخبيثة.
هذه كانت أولى دقات الفقد بحياة سالم، وبعدها وفاة والدته بمرض الفشل الكلوي ، ومن بعدها تزوج والده بأختها ، زاهية مرسال . والتي كان لديها أربعة أطفال من زوجها المرحوم، وعاش سالم بينهم غريب الدار، يتلقى الإحسان من والده كما لو أنه يُمنن عليه به ، وتتفضل عليه خالته بالكلمة الطيبة والمعاملة اللطيفة كما لو أنها تتصدق عليه بهما.. ليجد سالم نفسه في نهاية المطاف منبوذًا ، معزولا عن الجميع ، إلى أن توفى والده وأُتيحت الفرصة أمامه لكي يصبح نسخة مستحدثة منه ، بنفس جبروته وتعنته ، فما كان منه إلا أن طرد خالته وأولادها من البيت وأصبح هو سيد البيت والآمر الناهي فيه .
تلك الذكرى بالتحديد جعلته يفكر ، هل ملخص ما فعله وما يفعله أنه يحاول إعادة إنتاج ما فعله والده ولكن بطريقة تجعله راضيا وسعيدا على عكس ما كان في الماضي !
تنهد وهو ينتقل لصورة أخرى ، صورته هو وناهد في حفل زفافهما ، وهنا أطلق تنهيدة حارة آلمت صدره بحق، وأخذ يتلمس قسمات وجهها بإصبعه وهو يزم شفتيه باستياء ويتمتم :
ـ مقدرتش أعوضك يا ناهد ، سامحيني.
خرجت تلك الكلمات منه بندم ، وذلك الإقرار بالذنب لم يكن من عادته ، ولكنه أراد أن يتخلى عن جموده وقسوته ولو لمرة، واعترف بذنبه، واعتذر عنه، ولكنه لا يعرف أن الاعتذار المتأخر كالقبلة على جبين الميت، لا فائدة منها بتاتًا لأنها لن تصله ولن تغير ما حدث.
الصورة التالية كانت من نصيب فريد، حيث كان سالم يضعه على ظهر الفرس ويثبته بيديه جيدا، وينظران بابتسامة نحو ناهد التي كانت تقوم بتصويرهم.
أغلق ألبوم الصور وأطلق زفرة مطولة مستاءة ، أطلق معها خوفه الشديد وقلقه الدائم ، والذي يحاول هو إسكاتهم عن طريق السخرية ، التنمر ، الهجوم والتقليل من كل من يخالفونه الرأي أو الرؤية، ويفرض عليهم سيطرته حيث أن التمتع ولو بقدر ضئيل من السيطرة على أمرٍ ما مبعث ارتياح بالنسبة له.
وأخذ ينظر للألبوم المغلق بيده وهو يفكر، لمَ لا توجد بداخله ولو صورة واحدة لنادية ؟ هل لأن ذكرياته التي يفضل الاحتفاظ بها هي ليست جزءا منها ؟ أم لأنها تشكل بالنسبة له الحاضر القاسي فقط ؟!
وبينما هو شاردٌ يفكر رن هاتفه برقم الطبيب المشرف على حالة نغم ، فأجاب سالم على الفور والخوف يعيث بقلبه فسادا خوفا من أن تكون الفتاة قد ماتت..
ـ مساء الخير يا دكتور ؟
ـ مساء الخير يا سالم بيه، حبيت أبلغ حضرتك إن البنت اللي عمر بيه خبطها بعربيته فاقت من شوية صغيرين ، حضرتك كنت طلبت مني أبلغك قبل ما نبلغ الشرطة وييجي حد ياخد أقوالها..
هب سالم واقفا على الفور وقال :
ـ تمام يا دكتور، نص ساعه ونكون في المستشفى ، متبلغش أي حد غير لما أجي .
ـ تحت أمرك يا فندم مع السلامه.
خرج سالم على الفور من مكتبه، وصعد للطابق العلوي ومنه إلى غرفة نادية، اقتحمها وهو يقول:
ـ اجهزي وقولي لبناتك يلبسوا عشان نروح كلنا نزور البنت في المستشفى .
ـ بنت مين ؟
تساءلت بعدم فهم ليجيبها بإيجاز :
ـ اللي ابنك داسها بالعربية .
وقفت بتأهب فورا وقالت:
ـ هي فاقت ؟
أومأ وقال وهو يخرج ملابسه من الخزانة:
ـ أيوة، ولازم تلاقينا كلنا فوق دماغها ومعانا ورد وشكولاته كمان، لازم تتنازل بأي طريقة .
ـ طيب ما تروح انت، لزمتها إيه أجي معاك أنا والبنات؟
رمقها بطرف عينه وهو يقول بحدة:
ـ بقولك هندخل عليها شايلين الورد والشيكولاته وناخدها بالحنجل والمنجل عشان تتنازل، أنا مش واخدكم معايا أتعايق بيكم.. أنا عاوز أخلص وابنك هو كمان يخلص من الورطة السودا دي.
أخبرت نادية بناتها فاستعدت كلا منهما على مضض، وخرجوا أربعتهم إلى المشفى، بينما نسيم تقف بشرفة غرفتها تراقبهم بقلب منفطر، ثم دخلت غرفتها، وأوصدت باب الشرفة، وجلست فوق فراشها بإحباط وأخذت تتخيل نفسها وهي تمتطي ظهر الخيل برفقة حبيبها حازم ، وهو يعبر بها كل الحواجز ويتخطى كل المعيقات ، يسافران سويا إلى مكان لا يوجد به أحد سواهما ، ينعمان فيه بالحب الخالص والعشق الأبدي.
وبينما هي غارقة في حلمها الجميل انتبهت إلى صوت رنين هاتفها بذلك الرقم المجهول الذي يزعجها برنينه المتكرر منذ أيام ، فأجابت الاتصال بضيق واضح وهي تقول:
ـ ألو ؟
ـ نسيم ؟؟
صمتت لثوان تحاول معرفة صاحب النبرة الرجولية ذاك ، ثم أجابت بتوتر:
ـ مين ؟
استمعت لتنهيدة مطولة منه، ثم تحدث وقال:
ـ مش لازم تعرفي مين، بس اللي عاوزك تعرفيه إني مش عارف أبطل تفكير فيكي من يوم ما شوفتك !
انقبض قلبها للحظات، ثم ابتلعت ريقها بتوجس وتساءلت:
ـ شوفتني فين ؟!
امتنع عن الإجابة، فقالت بصوت مرتجف:
ـ حضرتك مكلمني عشان تهزر ؟ ياريت متتصلش تاني وبلاش لعب عيال.
ـ نسيم استني..
استوقفها قبل أن تنهي المكالمة، فتراجعت واستمعت إليه بصمت، فقال:
ـ أنا مش بكلمك عشان أهزر صدقيني ولا أنا عاوز أزعجك، كل الحكاية إني عاوز أطلب منك طلب.
قطبت جبينها وتساءلت باستغراب:
ـ طلب إيه؟
ليجيبها قائلا بنبرة حنونة لمست قلبها :
ـ ممكن متبخليش عليا إني أسمع صوتك ؟
ابتلعت ريقها وتساءلت:
ـ مش فاهمه!
ـ أقصد لما أكلمك تاني ردي عليا من فضلك، صدقيني مش عاوز أزعجك أبدا.. كل الحكاية إني عاوز أسمع صوتك وأطمن إنك بخير .
وأنهى الاتصال فأمسكت بالهاتف بيدها تطالعه باستغراب شديد والعديد من علامات الاستفهام تتراقص برأسها..
مَن هذا المعجب الغامض ؟ ومِن أين عثر على هاتفها الذي لا يعرفه سوى والدها وزوجته وشقيقيها وچيلان وجوليا؟ وأين رآها وهي لا تبرح أرض منزلهم أساسًا ؟!
تنهدت وهي تدلك جبهتها بحيرة، وأخذت تتذكر كلماته التي لم تتوقع أن تسمعها يومًا ما من رجل بعد حبيبها حازم الذي كان ولازال وسيبقى عشقها الوحيد والأبدي.
وعند ذلك الخاطر فتحت الهاتف مجددا ، وقامت بحظر الرقم ثم مسحه من قائمة المكالمات وقد قررت ألا تلتفت لتلك الأوهام مجددا ، فهي أرض قاحلة ، من يطأها بقدميه يكون قد حكم على نفسه بالهلاك !
***
ساعدت الممرضة نغم لكي تصعد إلى فراشها في العنبر الخاص الذي أمر فريد بحجزه لها، والذي كان يبدو فخما للغاية ومثيرا لتساؤلاتها ، فتساءلت نغم بفضول:
ـ هي المستشفى دي بالمجان؟
رمقتها الممرضة باستغراب واتسعت ضحكتها وهي تجيب:
ـ مجان إيه إحنا هنا مستشفى خاصة .
فتحت نغم عينيها على آخرهما بصدمة وهي تردد :
ـ مستشفى خاصة ؟ وإيه اللي جابني هنا ؟!
أجابت الأخرى بهدوء وهي تعدل وضعية السرير بحيث تناسب حالة عنق المريضة وقالت باقتضاب:
ـ الإسعاف .
زمت الأخرى شفتيها بنزق وهي تقول:
ـ أيوة مانا فاهمة، أقصد مين اللي طلب منهم يجيبوني على هنا ؟ من الاخر مين اللي هيدفع تكاليف علاجي؟
ابتسمت الممرضة بسماجة وقالت؛
ـ متقلقيش، انتِ متوصي عليكي من ناس علّيوي، متشيليش هم حاجة.
وقبل أن تسأل نغم مجددا عن هوية الناس العلّيوي كما أخبرتها كانت الممرضة تغادر الغرفة وهي تقول:
ـ هرجعلك تاني.
تنهدت نغم وهي تشعر بالاختناق بسبب تلك الرقبة الصناعية التي تحيط بعنقها، ثم أخذت تتلمس بشرتها وتلك الخدوش السطحية التي لم تبرأ بعد، وراحت تتذكر تلك الليلة المشؤومة بكل تفاصيلها، وصولا إلى المحتال الذي نقض عهده معها ولم يسلمها المال لينطلق لسانها قائلة بحنق :
ـ منه لله النصاب، يصرفهم على علاجه إن شاء الله.
تأوهت وهي تتحرك ببطء وقد قيدها التعب، ثم شردت في نقطةٍ وهمية وأخذت تتذكر خالتها، وابتسامة خالتها، ودفء حضن خالتها، وسالت دمعاتها لا إراديا وهي تتمتم:
ـ يا ترى عاملة ايه يا خالتي !
جذبها من شرودها صوت طرقات على الباب، ثم انفرج ودخلت الممرضة التي قالت وهي تشير نحو الباب:
ـ أدي يا ستي فريد بيه جاي يقولك حمدالله على السلامه بنفسه.
وأشارت لفريد الذي دخل بخطوات ثابتة، وقد حددت عينيه الهدف ألا وهو عيناها، يريد أن يرى نظرتها الأولى إليه، دهشتها وذهولها وذبول وجهها عند رؤيته ..
رأته يقتحم الغرفة بطلته المهيبة ، يُقبل عليها بخطوات واسعة تتسم بالثبات ، لم يأخذ الأمر سوى لحظات حتى استوعبت من هو ؛ إنه رجل الخير الذي ساهمت في فضح دناءته .. إنه هو وليس سواه ، فريد مرسال.. ولولا أن الممرضة ذكرت اسمه للتو لكانت شكت بالأمر ، أو ظنت أنها تتوهم أو تشتبه به.
شعرت بالدماء تتجمد في عروقها وهي تحملق به وهو يقترب منها ، وإذا كان وجهه مؤشرا لشيء فهو يشير لاقتراب موتها على يديه ، فهي لم تغفل عن نظرة التوعد الواضحة بعينيه.
ابتلعت ريقها بتوجس وهي تدعو الله بداخلها أن تستيقظ حالا من ذلك الكابوس ، ولكن عندما رأته يستدير ناظرا للممرضة، مشيرًا إليها بعينيه في صمت فانصرفت، فأدركت حينها أنه ليس كابوسا، بل هو واقع أسود وعليها أن تواجهه .
اهتز بدنها، وانقبض قلبها برعب، خاصةً بعد أن استدار يواجهها من جديد وظهرت فوق شفتيه ابتسامة متربصة وهو يقول:
ـ حمدالله على السلامه..
اهتز قلبها الرابض بين ضلوعها وهي تحاول تجاوز نظراته المتجهمة التي لا تشي بالخير أبدا، بينما تابع وهو يدس يديه بجيبه ويقول :
ـ أعرفك بنفسي ، أنا فريد مرسال..
شعرت بقلبها يتهاوى أسفل قدميها، والبرودة تسري في أوصالها،
تحولت تلك البرودة إلى جليدًا جمد حواسها كلها عندما سمعته يقول بهدوء :
ـ أظن الاسم مش غريب عليكي، مش كده؟
شردت للحظات وقد هجمت عليها ذكرى ذلك اليوم، عندما تقدمت منه في الحفل وسألته، إنتَ فريد مرسال؟ ثم لثمت ثغره على حين غفلة وهربت، فشعرت برأسها يدور فوق عنقها كالكرة الدوارة، وبدأ وعيها ينخفض تدريجيًا إلى أن تراخى جفناها وترنح جسدها للخلف وقد فقدت وعيها بالكامل.
***
وصل سالم وأسرته إلى المشفى، ودخلوا وكلا منهم يحمل بيده باقة من الورد كما أمرهم سالم، ثم صعدوا حيث الطابق الموجودة به غرفتها، وتقدموا ليستوقفهم سالم قائلا:
ـ زي ما اتفقت معاكم، عاوزين نمشي من هنا والبنت راضية ومقتنعة إنها تتنازل..
أومأت چوليا بموافقة بينما قلبت چيلان عينيها بملل ، وطرق سالم الباب ثم دخل وهن يلحقن به فإذ به يتفاجأ بوجود فريد أمامه الذي يقف واضعًا يديه بجيبيّ بنطاله ويراقب الممرضة التي تفحص نغم .
ـ فريد ؟!
تفوه بها أربعتهم في نفس واحد ، حيث أنهم لم يتوقعوا وجود فريد هنا، ثم تساءل سالم وقال:
ـ من إمتى وانت هنا ؟
ليجيبه فريد بهدوء وعيناه متشبثتان بالفتاة أمامه :
ـ من عشر دقايق.
قطعت حديثهم الممرضة وهي تقول:
ـ ضغطها وطي فجأة، أنا هعلق لها محلول ويا ريت يا جماعة بلاش ترهقوها بالكلام لأنها لسة تعبانة.
جلس سالم على تلك الأريكة الجلدية االوثيرة بزاوية الغرفة، وجلست نادية بجواره، وعلى الأريكة المجاورة جلست الأختان، بينما وقف فريد بمكانه راسخًا كالجبل وعيناه لا تحيد عنها، ينتظر أن تعود لوعيها بفارغ الصبر.
رآها تتمتم بكلمات غير مفهومة لم يتبين منها سوى كلمة ' خالتي ' فقطب جبينه يحاول استيعاب أيًا مما تتفوه به ولكن دون جدوى ، لتبدأ بعدها في تحريك أهدابها ببطء ، ثم فتحت عينيها تدريجيًا بدأت تنظر حولها وهي تدعو الله أن يكون قد اختفى من الأرجاء، ولكن عيناه الغاضبتين المتوعدتين كانتا أول من تصطدم به، فأغمضت عينيها على الفور بخوف وضربات قلبها تكاد تصل إلى مسامع كلا من بالغرفة.
وبينما هي مغمضةً عينيها استمعت إلى صوته الذي لا يمكنها أن تخطئه وهو يقول بنبرة تظن أنها تهديد:
ـ طالما فُقتي عاوزين نتكلم معاكي شوية ، ضروري !
شدد على كلمته الأخيرة وكأنها رسالة منه إليها، فظلت مغمضةً عينيها بقوة إلى أن استمعت إلى صوت رجلٍ آخر يقول:
ـ ماتضغطش عليها، واضح إنها لسه تعبانة.
انفرج الباب ودخل الطبيب المشرف على حالتها، رحب بالجميع ثم توجه نحوها وهو يفحص درجة الوعي لديها، ففرق بين جفنيها ثم قال:
ـ ممتاز، درجة الوعي عندها 4/4 ..
فتساءل فريد قائلا بتهكم :
ـ مش باين !
ليجيبه الطبيب بعملية ويقول:
ـ ده لأنها لسه بتقاوم تبعات الحالة اللي كانت فيها، فهنلاقيها شويه كويسة وشوية تايهة، لكن هي حاليا زي الفل.
واقترب منها وتحدث بهدوء:
ـ آنسة، انتِ سامعانا ؟ تقدري تتكلمي معانا شوية؟ سالم بيه وأسرته جايين بنفسهم يطمنوا عليكي .
لم تجد بدًا من المواجهة، ففرقت بين جفنيها بتثاقل وهي تشعر بالإعياء فعلا، وتعلقت بوجه الطبيب الذي يقف على مقربة منها ويقول مبتسما:
ـ حمدالله على سلامتك ، طمنينا عليكي حاسة بإيه؟
رفرفت بأهدابها قليلا ثم قالت بتوتر:
ـ صداع شديد ، وجسمي كله واجعني.
هز رأسه بتفهم وقال:
ـ كل ده طبيعي لأن جسمك بيودع المسكنات والمخدر اللي كنتي تحت تأثيره الكام يوم اللي فاتوا، بس بالتدريج هتتحسني وتبقي زي الفل .
نهض سالم من مقعده واقترب منها وهو يرسم على وجهه ابتسامة بارعة ويقول:
ـ متتخيليش فرحت إزاي لما الدكتور بلغني إنك رجعتي لوعيك من تاني، كنت قلقان جدا عليكي وحزين إن ابني هو السبب في اللي حصلك.
لقد فهمت الآن، هم أسرة الشاب الذي صدمها بسيارته، ولكن.. هذا الرجل الذي يدعى فريد، ما علاقته بهم؟ هل يعقل أنه جاء لكي ينتقم منها خصيصا؟ حسنًا ومن أين عرف طريقها والذي حدث لها؟ بالطبع معلومة كهذه لن تصعب عليه حيث أنه يبدو رجلا مشهورا جدا وذو كلمة مسموعة.
انتبهت إلى ذلك الرجل ذو الشعر الأبيض الذي تحدث مجددا وقال:
ـ ووالدته واخواته كمان كانوا قلقانين عليكي جدا وما صدقوا إنك بقيتي كويسة عشان كده جم بنفسهم يقولوا لك حمدالله على السلامه.
وأشار بعينيه لنادية التي نهضت هي وبناتها واقتربن جميعهن من نغم وقالت نادية بابتسامة مصطنعة وهي تضع باقة الورد بجوارها:
ـ حمدالله على سلامتك.
وتبعتها چيلان التي ابتسمت ابتسامة لم تصل إلى عينيها وقالت:
ـ حمدالله على السلامه يارب تكوني أحسن دلوقتي.
هنا برز صوت سالم حيث قال موجهًا حديثه نحو نغم:
ـ لما حصلت الحادثة مقدرناش نوصل لأي معلومة عنك أو نوصل لأي حد من أهلك عشان نكلمهم ونطمنهم عليكي ، عشان كده لازم تعرفينا نوصل لهم ازاي ، أكيد قلقانين عليكي ومعندهمش خبر باللي حصل.
شردت بصمت وقد ذهب تفكيرها كله نحو خالتها، هل هي قلقة عليها بالفعل ؟ هل يبحثون عنها ؟
قطع تفكيرها صوت فريد الذي قال بنفاذ صبر:
ـ أو عرفينا بنفسك وسيبي الباقي علينا واحنا نوصلهم، اسمك إيه ؟
نظرت نغم إليه بعفوية بالرغم من أنها كانت تمنع نفسها من النظر إليه لكيلا تفقد وعيها مجددا، وأخذت تفكر بخوف وكأن روحها تغادر جسدها ببطء ، هل تخبره اسمها؟ ماذا لو أبلغ الشرطة وقام بزجها في السجن عقابا لها على ما فعلته به؟ أم تخبرهم اسمًا وهميًا لحين يمكنها الهرب منهم ؟
وفيما هي شاردةً، مستغرقةً في تفكيرها، جاءها الحل السحري حين استمعت إلى إحدى الشقراوتين وهي تنظر إليها متعجبةً وتقول:
ـ انتِ مش فاكرة إسمك ولا ايه؟
ونظرت إليهم وتساءلت:
ـ معقول تكون فقدت الذاكرة ؟
ابتلعت نغم ريقها ورددت بهدوء:
ـ أنا فعلا مش فاكرة أي حاجه، مش فاكرة غير ان في عربية خبطتني وبعدها أغمى عليا.. ده اللي فكراه.
نظر سالم باستفهام نحو الطبيب، و تعلقت الأنظار جميعها به، ما عدا فريد الذي لم يرفع عينيه عنها وكأنه يسبر أغوارها وقال:
ـ يعني مش عارفه اسمك إيه؟ ساكنة فين؟ من عيلة ايه ؟
امتدت أناملها تضغط على جانب عقلها بألم وهي تقول:
ـ أنا مش عارفة أي حاجه ودماغي بتوجعني.
تحدث الطبيب قائلا بهدوء وهو يحاول احتواء الموقف:
ـ متقلقيش دي أعراض طبيعية بعد حادثة صعبة زي دي، وممكن يكون فقدان ذاكرة مؤقت، وممكن يكون تشويش على مركز الذاكرة ويختفي بالتدريج، عموما احنا هنعمل بعد شوية أشعة نطمن بيها على كل ده وإن شاء الله تكون حاجة بسيطة.
ونظر إليهم وقال ببساطة:
ـ بعد نص ساعة هنعمل أشعة مقطعية على المخ عشان نحدد لو في إصابة أو مشكلة من أي نوع، إن شاء الله الموضوع يكون بسيط متقلقوش.
غادر الطبيب الغرفة، بينما ظل فريد بمكانه يطالعها بنفس النظرة، وسالم وزوجته وبناتها يطالعونها وأمارات الدهشة ترتسم على وجوههم جليةً، ثم تحدث سالم وقال:
ـ زي ما قاللك الدكتور الموضوع بسيط إن شاء الله ، ولحد ما تتحسني تماما اعتبري إن كل طلباتك أوامر واللي تأمري بيه هييجي لحد عندك، واعتبري ان دول عيلتك التانية لحد ما تتحسني إن شاء الله وتقدري ترجعي لأهلك.
ابتلعت نغم ريقها بارتباك وأومأت بموافقة فاستطرد سالم وقال:
ـ أنا بس كل اللي طالبه منك إننا نلم الموضوع ودّي وتتنازلي، وصدقيني عنيا ليكي في أي حاجه تطلبيها.
ثم رسم على وجهه ابتسامة ودية وقال:
ـ على العموم عمر ابني زعلان جدا عشانك ونفسه يعتذرلك جدا على اللي حصل لك بسببه.. وإن شاء الله أول ما تتنازلي ويخرج من الحبس هييجي يزورك ويطمن عليكي ويشكرك بنفسه.
أومأت بهدوء، فتابع قائلا:
ـ إحنا هنمشي دلوقتي وهجيلك بكره أطمن عليكي ، مع السلامه.
دخلت الممرضة التي ستنقل نغم إلى غرفة التصوير المقطعي، فغادروا جميعهم الغرفة ، بينما أطلقت نغم نفسًا عميقًا كان حبيسًا بصدرها وأخذت تتمتم:
ـ أنا إيه بس اللي عملته في نفسي ده!
***
خرج سالم تتبعه نادية التي تنهدت وقالت :
ـ مش عارفه ليه حاسه إن البنت دي كدابة وإنها مش ناسية ولا حاجة !
نظر إليها فريد باهتمام ثم إلى چيلان التي قالت :
ـ أنا بقا حاسة إن وشها مألوف بالنسبة لي وكأني شفتها قبل كده بس مش قادرة أحدد فين بالظبط !!
هنا برز صوت سالم الذي قال القول الفصل:
ـ الأشعة هتحدد إذا كانت ناسية ولا فاكرة ، أهم حاجة إنها تتنازل وعمر يخرج وبعدها نشوف هنعمل معاها إيه!
نظرت إليه نادية باستفهام وقالت:
ـ يعني إيه نعمل معاها إيه؟ هو المفروض نعمل معاها إيه لو فعلا فاقدة الذاكرة؟
ـ وقتها هنضطر ناخدها تقعد عندنا في الڤيلا لحد ما تفتكر هي مين وأهلها فين وتقدر ترجعلهم .. أكيد مش هنرميها في الشارع ولا هنسيبها هنا في المستشفى بعد اللي جرالها بسبب ابنك.
لم يرُق حديثه أيًا من نادية وبناتها اللتان بدا الاستهجان واضحًا عليهن ، أما فريد فانسحب من بينهم وغادر المشفى، خرج وركب سيارته وأغلق نوافذها، ثم أسند رأسه فوق عجلة القيادة بإرهاق وهو يفكر… كيف سيتمكن من الإمساك بتلك المحتالة وجعلها تعترف بالسبب وراء ما فعلته يوم الحفل ؟ ليجد أمامه حلا واحدا .. سيعمل على تنفيذه على الفور !
ـــــــــ
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق