القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الاول والثاني والثالث والرابع بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 رواية غناء الروح الفصل الاول والثاني والثالث والرابع بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)





رواية غناء الروح الفصل الاول والثاني والثالث والرابع بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


الفصل الأول 


داعب شعاع النور جفنيه وهو مستلقي بأريحية فوق فراشه ينعم بدفئه بعيدًا عن متاعب العمل وصراعات النسوة عليه، شعر بأصابع رقيقة ناعمة تحمل رائحة طيبة، بل كانت رائحة شهية تثير داخله مشاعر جمة، تتبع فضوله وفرق جفنيه ليطالع فتاة جميلة تقف بثياب أنثوية فاضحة، شهقة كادت تخترق جوفه، اتساع بؤبؤيه يشبه متفرج أبله يرتعد من أفلام الرعب، تلقائيًا قبض بكفيه فوق غطائه الازرق يجذبه على جسده كمن قُبض عليه بالجرم المشهود! وهتف بنبرة غليظة تنافي ردود أفعال جسده المرتعبة:


-أنتي مين؟!


تلون ثغرها المغطى بلون أحمر ناري بابتسامة ناعمة رقيقة وهي تهتف:


-أنا حبيبتك يا حبيبي!


إجابة لم يفهم منها شيء قط، فعاد يقول بنبرة قاربت على الجنون وهو ينظر لجدران غرفته يتأكد من وجوده بمنزله:


-مافهمتش أنتي مين بردو وازاي تدخلي اوضتي؟!


ضحكة رخيصة خرجت منها وهي تتخصر ثم قالت:


-قولتلك حبيبتك!


وقبل أن يجيبها بسبة نابية، التقطت أذنيه صوت أخرى تقف بإحدى زوايا الغرفة تدافع عن حقها به بصوت أنثوي شرس:


-لا يا حبيبتي أنا اللي حبيبته!


انفرج فمه بصدمة أخرى وهنا اتفق جسده معه وانتفض كمن لدغه عقرب:


-انتوا مين؟! وازاي دخلتوا هنا!


لم يجيباه بل الاجابة كانت من نصيب مَن خرجت مِن أسفل الفراش تبتسم ابتسامة خبيثة:


-أنت حبيبي أنا ولا يمكن أسيبك ليهم.


وقف فوق فراشه يمسك وسادته أمامه يدافع بها عن نفسه:


-انتي خرجتي منين انتي كمان؟!


-من تحت السرير يا حبيبي.


هز رأسه كالمجنون وانطلق يبتعد عنهن وتوجه لباب غرفته يفتحه في محاولة قوية منه للهروب بينما هن يمسكن بثيابه بجنون وهو يخطو للأمام حتى وصل للباب وفتحه ولكن أصابته الصاعقة حين وجد منزله يمتلئ عن أخره بالفتيات ولا يوجد أثر لعائلته وكل واحدة منهن تدافع عن أحقيتها فيه وبالزواج منه! 


ظل يهز رأسه كالمجنون ويصرخ فيهن لعلهن يبتعدن عنه ولكن لا فائدة فظل يطلب منهن الرحمة به والرأفة بحالته وهن يطبقن عليه كمن وجد كنز ثمين، فأصبح لا أثر له وهو بينهن وأنفاسه اختفت تدريجيًا حتى شعر بيد قوية تجذبه من قاع أحلامه الغريبة والمجنونة:


-قوم يا بيــــه، قوم يا دنجوان.


تمتم داخله بارتياح قبل أن يفتح عيناه:


-دا صوت سليم أخويا، يبقى ان شاء الله خير.


وبالفعل فتح عينيه هذه المرة على واقعه يتأكد من خلو غرفته من الفتيات، ثم اعتدل رغم امساك سليم بيه بقوة:


-اوعى كدا يا سليم، اشوف يمكن فيه حد تحت السرير.


تجاهل سليم كلامه غير المفهوم، ورد بنبرة ساخرة وهو يشير بيده الأخرى على هاتفه:


-عيد ميلادك دا ولا عيد ميلاد هارون الرشيد إلا لما لقيت راجل واحد بيوحد ربنا في الصور، فاضحني على طول ربنا يفضحك.


تصنع الدهشة سريعًا وقال بنبرة غلب عليها الحزن:


-أنا!، على طول ظالمني.


توسعت أعين سليم من وقاحة أخيه المتعمدة، فقال:


-أنت بتكذب عيني عينك كده، ده أنا شايف الصور بعيني.


اعتدل فوق فراشه يحاول التخلص من قبضة أخيه الأكبر، مفكرًا في فكرة للتخلص من تلك الورطة:


-دي كانت مفاجأة بريئة منهم.


رفع سليم أحد حاجباه متسائلاً بنبرة غلب عليها نفاذ صبره:


-مين دول بقى؟ حبايبك ولا معجباتك.


صاح بعلو صوته يبعد تلك التهمة عنه وهو يقول بصوت يغمره الإصرار الكاذب:


-لا أبدًا، دول أصحابي، هو أنا قلبي أيه عشان يبقى دول كلهم بحبهم، يا سليم افهم فيهم كذا واحدة صاحبتي والكام واحدة دول عزموا أصحابهم.


تلون ثغر سليم بسخرية، فهتف:


-اه يا حرام على طول كده مظلوم، طيب عيد ميلادك المفاجأة البريئة اللي عملوها الكام واحدة صاحبتك اللي بردوا هما اللي عزموا كم البنات دول، مفيش فيهم راجل يوحد ربنا.


-لا أزاي كان فيه طبعا هو اللي بيصور.


مد سليم أصابعه يرجع خصلات شعره المتناثرة فوق جبهته للخلف، بينما كان يردد بصوت عالٍ:


-ايوه بردوا مفيش صورة واحدة ليكم مع بعض.


ابتسم يزن ابتسامة سمجة وهو يجيب:


-مابيحبش يظهر في السوشيال ميديا بيتكسف.


ابتعد سليم عنه باشمئزاز وهو يقول:


-عنده دم يعني، مش زيك.


-اه أنا عندي فراولة.


قالها بصوت مكتوم، فانقض عليه سليم مرة يهدد بنبرته الغليظة الحادة:


-اقسم بالله يا يزن لو ما اتعدلت واتظبطت في حياتك وشغلك، وبعدت عن البنات والهلس والقرف ده، لأكون مجوزك بمعرفتي وغصب عنك.


ابعده يزن عنه بصعوبة وهو يقول بنبرة شبه جادة:


-على فكرة أنا كنت صاحي من النوم وواخد القرار ده أصلاً.


سأله سليم بشك:


-قرار أيه؟! الجواز!


هز رأسه نافيًا وفمه يؤكد صحة قراره الذي اتخذه عقب حلمه المريب:


-جواز أيه يا عم، أنا بطلع السلم واحدة واحدة، أنا قررت ابعد عن البنات، أنا حاسس بقرفة، أو محسود أو مخنوق، ماعرفش مالي!


-بعيدًا عن أحاسيسك اللي كلها هتدفنها أول ما تخرج من باب البيت وتلمح بنت حلوة، أنا كلمتي واحدة وأنت عارفني، أسمع بس عنك حاجة ماتعجبنيش، وأنت وقتها هتشوف اللي عمرك ما شوفته مني.


ثم اعتدل سليم مرة أخرى في وقفته وهندم ثيابه بعنجهيته المعهودة وخرج بخطواته الواثقة، فزفر يزن أنفاسه وظل يمسح فوق خصلات شعره في حركة لا إرادية تتملكه عندها يكون متوترًا أو غاضبًا.

                                  ***

في مكان آخر وفي إحدى مناطق متوسطي الدخل، جذبت " سيرا " سترتها البيضاء من فوق الحِبال المرصوصة خارج الشرفة، ثم دخلت لغرفتها ببسمتها الصباحية والتي زادتها إشراقًا ذلك الصباح خصيصًا، لأنه أول يوم عمل لها في " مركز تدريب نسائي" في منطقة راقية بمبلغ مالي عندما سمعته وصفته" محترم، مرتب محترم" رفعت يدها للأعلى وهتفت بهمس: 


-يارب الزق في الشغل، ويكون وشه خير عليا، يمكن يجيلي عريس ولا حاجة.


فُتح باب غرفتها ودخلت " أبلة حكمت" أختها الكبرى وهي تقول بصوت معترض:


-والعريس هيجي منين طول ما أنتي حالك كده.


اختفت بسمتها واتخذت وضع الهجوم:


-يا أبلة حكمت أنا بدعي بصوت واطي بيني وبين ربنا وباب اوضتي مقفول، داخله في حياتي ليه؟!


انفلت لسان " أبلة حكمت" بوابل من الشتائم:


-قليلة الادب ازاي تكلميني كده، وأنا أختك الكبيرة.


اصطنعت الندم فوق ملامحها وخفضت بصرها قليلاً وهي تقول:


-أسفة يا أبلة مش هتتكرر تاني، ممكن اكمل لبسي عشان الحق انزل شغلي.


سخرت " أبلة حكمت" منها بصوت عالٍ لم يعجب "سيرا " إطلاقًا ولكنها التزمت الهدوء:


-قال شغل قال، كنتي اتنيلتي على عينك وذاكرتي ودخلتي كلية كويسة تعرفي تشتغلي شغلانة حلوة، لكن نقول أيه كنتي لاسعة ودخلتي تربية رياضية، في بنت تبقى كابتن يا ناس.


شاركت " فريال" في الحديث وهي الأخت الأصغر من حكمت ببضع سنوات قائلة وهي تحمل طفلها الصغير ذي العامين:


-الدنية اتغيرت يا أبلة حكمت، وبعدين سيبي سيرا في حالها يمكن ربنا يوفقها في حياة أحسن مننا.


شهقت "أبلة حكمت" عاليًا وقررت إظهار إمارات التعالي والنفور:


-أحسن منك أنتي وشاهندا و كريمة، لكن أحسن مني في أيه ان شاء الله!


التوى فم "سيرا" بسخط، ولمحتها "أبلة حكمت" بطرف عينيها فانفجر فمها بكلمات يملأها الغيظ:


-طيب والله اتمنى سيرا تعيش نفس العيشة اللي أنا عايشها.


خرجت حروف سيرة ثقيلة للغاية وهي تنظر لأختها الاخرى " فريال" بنظرات ذات مغزى:


-يا ريت يا أبلة حكمت، بس إلا قوليلي هي الجلابية الزرقة دي جديدة ولا أيه؟!


نظرت " حكمت" لثيابها باستنكار ممزوج بعدم الفهم:


-لا قديمة، ما انتي شايفها مية مرة!


تصنعت " سيرا" الدهشة، قائلة:


-والله! ما شاء الله عليكي يا أبلة حكمت محافظة على هدومك، كل مرة كده بتلخبط وبفتكر هدومك جديدة.


انتفخ صدر حكمت بالفخر مما دفعها للتباهي بنفسها، قائلة:


-نفسي تتعلموا مني وتبقوا زيي تعرفوا توفروا والله حالكم هيبقى أحسن.


مالت " فريال " بنظراتها المعاتبة نحو سيرا التي انطلقت سهام الاعتذار من عينيها ردًا على تلك النظرات، انتظرا خروج " حكمت " من الغرفة وهي تستكمل حديثها المتفاخر عنها وعن زوجها العصامي وعن حالتهما المادية المتيسرة، فقالت " فريال" بغيظ فور خروجها:


-حال أيه اللي نبقى زيه، دي بتيجي تفطر هي وعيالها كل يوم عشان توفر ومش مراعية ظروف بابا ولا أنه متحملنا كلنا.


هزت "سيرا" رأسها بيأس، فتابعت الاخرى بنفس الغيظ:


-وانتي يا باردة بتفتحيها عشان نقعد احنا نسمع وصلة التمجيد في نفسها على حسابنا، وان هي عرفت تختار وقاعدة في شقة جوزها وليها حياتها، لكن أنا وشاهندا وكريمة اختيارتنا غلط ومحملين بابا فوق طاقته بوجودنا هنا احنا واجوزاتنا وعيالنا و....


اوقفتها سيرا متأسفة:


-خلاص حقك عليا يا فريال، معلش كنت عايزة اخلع منها وانتي عارفة مابتجيش غير بكده.


عاتبتها فريال بأسلوب هادئ نوعا ما:


-مش على حسابنا يا سيرا، أنا واخواتك تعبنا من كلامها.


خفضت سيرا رأسها بأسف فلم تجد ما تقوله، ولكن سرعان ما استدركت فريال نفسها وقالت بهدوء يتخلله بعض الاهتزاز النفسي البسيط:


-معلش يا حبيبتي وترناكي قبل شغلك الجديد، حقك عليا.


سرعان ما ابتسمت سيرا وهتفت بشقاوة مداعبة اختها بأصابعها في خديها:


-افراج ياعني، امشي؟!


ضحكت فريال ولكن ضحكتها لم تكن صافية بقدر جمال قلبها الابيض كما دومًا تصفه سيرا، شعرت سيرا بأن هناك خطب ما يحلق في سماء حدقتي فريال، فقالت بشيء من القلق:


-في أيه يا فريال؟!


حمحمت بحرج واندفعت تخبر اختها الصغرى بما تحاول إخراجه منذ بداية دخولها:


-كنت كلمت بابا على فلوس لكمال جوزي عشان مشروعه الجديد اللي انتي عرفتي بيه...


قاطعتها سيرا وهي تلملم باقي اغراضها قائلة:


-اه السوبر ماركت، ايه بابا مش معاه فلوس؟!


خفضت فريال رأسها بحرج شديد قائلة:


-لا معاه بس فلوس جهازك اللي هو وماما بيشلوها على جنب، فقالي استأذنك يعني اخد منها مبلغ اهو يساعد كمال في مشروعه يمكن ربنا يفرجها عليه وعلينا وحياتنا تتحسن شوية.


ظهرت علامات الاستفهام على وجه سيرا وهي تتساءل بحماقة:


-ما تاخدوا يا بنتي في أيه؟! انتي شايفة العرسان بتتحدف عليا.


تهللت أسارير فريال وقامت باحتضان سيرا بفرحة عارمة وهي تقول بامتنان:


-بجد ربنا يخليكي يا رب يا سيرا ويجبر بخاطرك يا حبيبتي.


قبلتها سيرا في وجنتيها بحب، مردفة بمزاح خالطه الرجاء:


-ويخليكي ليا يا حبيبتي، بس عشان خاطري نبهي على عيالك يسبوا الجبنة الرومي بتاعتي في حالي عشان أنا اعصابي تعبت بجد.


توسعت أعين فريال بصدمة وأسف معًا:


-يا خبر هما ولاد الجزمة دول كلوها بردو.


هزت سيرا رأسها بقلة حيلة وهي تضع حقيبتها خلف ظهرها تستعد للخروج من غرفتها بعد أن دق هاتفها عدة مرات معلنًا عن وصول صديقتها "حورية" أسفل المنزل، فودعت فريال سريعًا وفي طريقها للخروج من غرفتها حتى باب المنزل قامت بتوديع جميع افراد عائلتها المنتشرين في جميع أركان الشقة التي ورثها أبيها عن عائلته ولحسن حظه كانت مساحة الشقة واسعة وتتضمن غرف كثيرة فساعده الوضع على انجاب خمس فتيات هما ( حكمت، وكريمة، وفريال، وشاهندا، وسيرا)  وتوأمان بعمر المراهقة هما ( عبود وقاسم)، ولكن والد سيرا لم يكن بحسبانه أن الزمن سيجعل من شقته عبارة ملجأ لفتياته حتى بعد زواجهن، فظروفهن المادية لم تساعدهن هن وازواجهن على استئجار شقة، فعرض عليهن مساعدتهن بإقامتهن معه، وتدريجيًا بدأ في ضخهن بالأموال بعد أن زادت أعباء الحياة عليهن، ووسط كل ذلك استطاعت سيرا الحصول على غرفة صغيرة في أخر الشقة تفصلها قليلاً عن باقي الغرف المرصوصة بجانب بعضها، فشعرت ببعض الخصوصية أو أنها تتوهم ذلك حتى تستطيع مواكبة الحياة معهم بعد أن أصبح أمر اقامتهم دائم ولا خيار فيه.

                                  ***

سارت " سيرا" بجانب صديقتها حورية في طريق طويل بعد أن هبطا من وسيلة الموصلات العامة، وقررا استكمال باقي طريقهما سيرًا على الاقدام فتحظى كلاً منهما بقليل من الوقت تخبر الاخرى عما تكنه بصدرها من أمورٍ لا تستطيع إخراجها لأحد، فتنهدت " حورية" بانزعاج واضح قبل أن تسمح للسانها في ترويض عقل " سيرا" الجامح:


-يا سيرا يا حبيبتي طلعي كلام أبلة حكمت أختك من دماغك عشان تعرفي تعيشي.


زفرت " سيرا " بحنق قبل أن تقول:


-اعيش أيه يا حورية، أنا اقسم بالله خلاص بدأت اطق، ونفسي فعلا اهرب من البيت ومن الضغط النفسي اللي أنا فيه، أبلة حكمت محسساني إني خلاص بقيت بايرة، لا محسساني أيه دي بتقوليهالي في وشي، ومش عاجبها أي حاجة، حرفيًا ليل نهار بتتنمر عليا وعلى اختيارتي وعلى كل خطوة بعملها في حياتي.


-طيب وعمو حسني رأيه أيه في كلامها ده؟


ضحكت ساخرة بخفة وهي تجيب على صديقتها:


-بابا زهق منها وبقى يسكت، ولو فكر يكلمها ويرد عليها تتقمص وتنزل شقتها.


صاحت حورية بسعادة لإيجادها الحل المناسب في مأساة صديقتها:


-حلو خليها مقموصة بقى في شقتها.


توقفت سيرا عن السير وهي تردف بيأس:


-دي لو اتقمصت العصر بتطلعلنا العشا.


انفجرت حورية ضاحكة، فتابعت سيرا بصوتها المغمور في اليأس:


-المشكلة مش على قد أبلة حكمت، المشكلة إني مابقتش حاسة بخصوصية في أي حاجة، البيت زحمة باخواتي وعيالهم، حتى كريمة بقت تيجي تلات أيام في الاسبوع وتقضيهم عندنا هي وجوزها بعد ما بابا عرض عليها عشان يساعدهم من ضغط المصاريف.. الشقة مابقتش مستحملنا بفريال وجوزها وعيالها التلاتة وشاهندا وجوزها وعيالها الاتنين كملت بكريمة وعيالها الاربعة ده غير أبلة حكمت وعيالها اصلا مقمين عندنا.


اوقفتها حورية بعدم فهم:


-هي مش أبلة حكمت متجوزة تحتكم وليها شقتها.


-ما هي بتصحى الصبح تقعد معانا ومابتنزلش غير بليل.


شعرت حورية بالتيه فقالت بأسف:


-الله يكون في عون بابكي ومامتك بجد ده مورستال.


تنهيدة أخرى عميقة خرجت من صدر سيرا المكتظ ببعض الأمور النفسية المعقدة:


-بابا وماما على قلبهم زي العسل، المشكلة فيا أنا بقيت خايفة افكر اتجوز ابقى زيهم، نفسي ربنا يكرمني بعريس كويس ومقتدر ماديًا.

رمقتها حورية باشمئزاز وهي تقول:


-سطحية اوي، المفروض تقولي ربنا يكرمني بعريس ابن حلال.


-ما هو هيطلع ابن حلال أكيد طالما هيتجوزني.


ارتسمت علامات الامتعاض فوق وجه حورية:

-وده ليه ان شاء الله؟!


توقفا الاثنان أمام البرج الشاهق والذي يقبع به " المركز الرياضي" ، فبدأت سيرا في وصف نفسها بصوت شقي وابتسامة واسعة وأنثوية مفعمة بالحياة:


-عشان أنا بنت حلال، وطيبة وغلبانة وقلبي...

ضحكت حورية بمكر شقي وهي تسألها:


-ماله قلبك بقى يا اختي؟!


-أكيد ابيض وقمر زيها كده.


صوت رجولي اخترق دائرة حديثهما المغلقة، فأصابهما بالفزع وخاصةً "حورية" التي هتفت بصدمة لم تكن تتوقعها:


-يزن؟!


مرر بصره من فوق حورية بقصر قامتها إلى تلك طويلة القامة بجسدها المناسب لطولها، مرورًا بملامح وجهها الجميلة والبريئة والتي تنافي نبرة التعالي الملاحقة لصوتها وهي تستعرض مواصفاتها بكل جرأة سرقت عقله رغم أنه كان يضع لنفسه بعض الحدود حين خرج من منزله مقررًا الحد من التعامل مع النساء اليوم كتدريب حقيقي له على استكمال باقي حياته دونهن ولكن الوضع اختلف وشعر بتأجيل ذلك القرار قليلاً.


-مين ده يا حورية، قريبك؟!


انتبه على صوتها وهي تتساءل بنعومة استفزته، رغم أنه متعاد على تلك الصفة ولكن يبدو أنها أنثى تحظى بجاذبية مميزة لم تمر عليه أو ربما يتوهم ذلك كعادته مع كل فتاة جديدة يقابلها!


وقبل أن تجيب " حورية" كان هو يسبق بيده التي صافح بها " سيرا" بلباقته المعهودة، وصوته الرجولي الجذاب القادر على سلب لُب الفتيات في ثوان معدودة يصدح بنغمة مميزة وهو يقوم بتعريف نفسه:


-يزن الشعراوي صاحب معرض العربيات اللي وراكي ده.


قاطعته حورية وهى تهتف بغيظ منه ومن طريقته الملتوية في جذب انتباه صديقتها البلهاء:


-بتسأل انت قريبي ولا لا، مابتسألش بتشتغل أيه؟!


مازحها كعادته وهو يردف:


-ماتبقيش قاطعة ارزاق، وعلى العموم حورية تبقى قريبتي.


استنكرت حورية بصدمة:


-ايه ده ولا اعرفك!


-انتي تطولي تعرفي حد نضيف زيي!


انفجر فم حورية بصدمة بعد أن القى بقنبلة  وقاحته في وجهها دون سابق انذار، فسارع بقوله الممازح:


-خلاص ياستي ماتعيطيش قريبتي..


قطع كلامه لثوان ثم اشتبك بنظراته مع تلك الواقفة تتابع حديثهم بعدم فهم:


-كان ممكن يجيلها جلطة دلوقتي بسبب هزاري، احنا في معرفة كده ما بينا، المهم ماتعرفتش باسمك؟


جاذبيته جعلت من سيرا بلهاء كما سبتها حورية بسرها:


-أنا سيرا صاحبة حورية وابقى مدربة الزومبا في الجيم اللي فوق ده.


 رفع حاجبيه لحديثها الغريب بداية من اسمها العجيب والذي لم يسمعه من قبل حتى مهنتها الاغرب، ولكنه سعد بتجربة جديدة سيخوضها قريبًا وخاصةً بعدما لمح نظرات الاعجاب المختفية بأعين تلك الغزالة الرقيقة.


-فرصة سعيدة يا سيرا لو احتاجتي أي حاجة أنا موجود في المعرض على طول، واتمنى تيجي تشرفيني طبعًا فيه.


ثم نظر لحورية مستكملاً حديثه بتحدٍ:


- أيه القطة كلت لسانك؟


رمقته حورية بامتعاض، فهمس لها قبل أن يتركهما:


-قصيرة وحقودة، الاتنين كتير عليكي.


انفجر فمها بدهشة من مدى وقاحته، حتى استمعت لضحكات سيرا الخافتة، فقالت بغيظ:


-بتضحكي على أيه يا باردة؟!


وضعت سيرا يدها فوق فمها قائلة:


-أسفة بس هو ظريف اوي وضحكني.


-والله ما حد ظريف الا انتي اتنيلي اطلعي يلا، عارفة لو مش أول يوم وانتي متوترة والله ما كنت عبرتك وجيت معاكي.


دفعتها حورية لداخل المبنى وبداخلها بعض القلق من يزن ووجوده  الدائم أمام عمل سيرا، حيث شعرت بالخوف أن تقع صديقتها في فخ هذا الصياد الماهر، فلم تهرب سمكة من شباكه قط، وكأنه يملك طُعم ايقاعهن في حبه بكل سلاسة دون أن يبذل مجهود، ما العمل وخاصة بعدما علمت من اختها عن كل شيء يخص يزن وحبه للفتيات بحكم صداقتها مع مليكة زوجة زيدان.

                                  ***

بعد عدة ساعات..


تركت المبنى التي تعمل به صديقتها "سيرا" وتوجهت عازمة كل العزم نحو ذلك الصياد، راسمة علامات الجدية والصرامة علها تجدي نفعًا معه، ورغم أن دخولها يشبه هبوب عاصفة عاتيه إلا أنه استقبلها بابتسامة مشرقة مردفًا بصوته الهادئ:


-والله نورتي المكان.


رسمت ابتسامة مقتضبة:


-المكان منور بأصحابه.


أشار إليها بالجلوس متحدثًا بسلاسة كعادته:


-ده إيه اللطف ده! احنا لسه الصبح كنا هنموت بعض.


رفضت الجلوس واستمرت بمكانها متحدثة بجدية أكبر حاولت إظهارها فصاحبت معها نبرتها الحادة:


-لا ونموت بعض ليه يا أستاذ يزن، احنا كبار وعاقلين.


رسم فوق وجهه إمارات الملل، قائلاً:


-وبعدين؟


رفعت حاجبيها معًا، ونظرت له نظرة طويلة قطعها هو بسؤاله الصريح:


-يعني بعد المقدمة الرسمية دي عايزة أيه؟


أجابت سريعًا بصراحة ووضوح:


-تطلع سيرا من دماغك.


رغمًا عنه خرجت منه ضحكة ساخرة وهو يقول:


-أيه يا بنتي انتي محسساني اني قاتل متسلسل!


استمرت على نفس النهج ومالت نبرتها لشيء من الحدة الممزوجة بالتهديد المبطن:


-بلاش السخرية تكون محور كلامنا، أنا قولتلك احنا عاقلين.


اخشوشن صوته وهو يعقب على حديثها الذي استفزه كثيرًا رغم أنه لم يظهر لها ذلك:


-ما انتي اللي غريبة وبتقولي كلام أغرب الصراحة!


هزت كتفيها والإصرار يتعلق بحافة صوتها وهي تقول:


-أيه الغريب في كده، أظن إنك فاهم كويس اقصد أيه، هي مش زي البنات اللي تعرفها هي انضف من كده بكتير، بلاش تجرها لسكة مش بتاعتها. 


رغم أنها استفزته وانقشع عنه قناع البرود والهدوء، إلا أنه رد باستهزاء:


-لدرجادي سمعتي سبقاني.


ردت بنفس نبرة التهكم خاصته:


-ما شاء الله عندك تصالح مع الذات ماشوفتوش في حياتي.


رغم سخريتها الواضحة إلا أنه تحدث معها بصدق:


-يمكن عشان مابكونش قصدي أأذي حد.


لم تلاحظ صدقه وكأن الصورة المأخوذة عنه كانت كالغمامة أمام عينيها، فاستمرت على نفس النهج الهجومي:


-امال اللي بتعمله ده يبقى أيه؟


هنا استنفذت كل طاقته معها وأجاب بشراسة ضمنية:


-أنتي جاية تناقشيني بقى في حياتي الشخصية؟!


لم تجد رد مناسبًا بعد أن وضعت نفسها في موقف حرج معه، فاستكمل هو حديثه بنفس نبرته الخشنة:


-أصل أنا بصراحة مش فاهم أيه مدى الجرأة اللي عندك تخليكي أنك تيجي وتتكلمي في حاجة ماتخصكيش.


ضمت شفتيها بضيق واضح بعد احراجه لها، فاستكمل ولم يعطِ لها فرصة للرد:


-لا انتي لو عايزة كلام يوجع ويحرج أكتر ممكن اقوله، بس أنا هاحتفظ بمساحة القرابة ....


صمت لثوان معدودة  ثم قال بصوت مبطن بالسخرية:


-سوري اقصد بالمعرفة اللي ما بينا فعشان كده هسكت وهطلبلك حاجة تشربيها.


ردت بكبرياء:


-شكرًا لذوقك.


-لا وعلى أيه شرفتي الشوية الصغيرين دول.


غادرت وهي في أوج لحظات غضبها من ذلك المتعجرف الماكر وبالنهاية لم تأخذ منه عهد واضح حول عدم تعرضه لصديقتها، ولم تأخذ في الحسبان أنه سريعًا قام بربط حديثها معه وفكرتها المأخوذة عنه بصداقة زوجة أخيه معها هي واختها شهيرة، ومالت نفسه للغضب المتفاقم من "مليكة" التي من الواضح أنها السبب في تلك الصورة المأخوذة عنه رغم أنه لم يتجاوز حدوده معها قط هي أو شمس!

                                     **** 

في أحدى المنازل السكينة والتي يبدو على قاطنيها أنهم ميسوري الحال، اندفعت " يسر " للغرفة تبكي بحرقة شديدة بينما والدتها "أمل" تحاول جاهدة في تهدئتها:


-يا يسر اهدي ابوكي كده هيسمع.


أشارت نحو عنقها وبصوت مختنق قالت:


-مابقتش قادرة اسكت واعدي، أنا خلاص حاسة أني هموت بقهرتي يا ماما.


-يا بنتي قهرة أيه بس، الموضوع بسيط.


كانت مجرد كلمات تتلفظ بها والدتها على أمل امتصاص حزنها ولكنها كانت الشرارة التي أشعلت نيران حرقتها:


-عمره ما كان بسيط، ماتحاوليش تحسسيني إني تافهة، انتي نفسك يا ماما ماتقدريش تعيشي اللي أنا بعيشه مع نوح.


ضربت والدتها كف بأخر قائلة:


-يابنتي هو عشان بهديكي تقوليلي كده، وفعلا انتي مكبره الموضوع جوزك دكتور تغذية .....


قاطعتها "يسر" بغيظ من وسط بكائها:


-ولازم لسانه يكون زي العسل ولبق عشان يفضل مستمر في مجاله...فـ يكون كل اللي بيتابعوه معاه بنات وبس، واللي شغالين عنده بنات وبس، حتى المعمل يا شيخة اللي دخل شريك فيه مع حد كاستثمار بردو كانت دكتورة واللي شغالين في المعمل كلهم كلهم بنات مفيش ذكر واحد في حياته، أنا عمري ما سمعت راجل بيتصل عليه كلهم بنات وستات مفيش حد يستحمل اللي أنا بستحمله، وفي الاخر الدكتور المحترم بيكلمني على إن تجربة الجوازة التانية نفسه يجربها.


-ارفضي.


-ماقدرش انتي عارفة كويس، أني مقدرش ارفض.


قالتها بنبرة منفعلة، ولحظات الماضي تهاجم عقلها كالوحش الضاري حين يقرر الانتقام فجأة، لن تنسى قط ما وافقت عليه في لحظة غاب بها العقل وسيطر فيها القلب!

_____________________

قراءة ممتعة ♥️ #يزن_الشعراوي #غَناء_الروح #سلسلة_مابين_نبضات_القلب_وندباته



الفصل الثاني.


-هو أيه اللي ماتقدريش ترفضيه يا يسر؟!


انتقلت نظرات والد " يسر" السيد "فاضل" تاجر الاجهزة الكهربائية بينها وبين والدتها "أمل" فسارعت والدتها كعادتها بتهدئة الوضع بكلماتها الثابتة رغم أنها كانت تحمل قدرًا كبيرًا من التوتر:


-مفيش حاجة يا حاج فاضل دي يسر بس بقولها نروح نعمل مفاجأة لنوح في العيادة بمناسبة عيد ميلاده وهي بتقولي ماقدرش.


رفع والدها حاجبيه معًا بتعجب وركز بنظراته على ابنته الباكية:


-ايوه بردو، أيه الصعب في كده!


خفضت بصرها تخفي عيناها الحزينة وهي تقول بصوت مرتجف ممزوج بنغمة الأسى المصاحبة دومًا لصوتها:


-عشان اتخانقت أنا وهو....


صمتت تستطلع رد فعل والدتها التي هاجم التوتر قسماتها بوضوح، فأكملت بضيق:

-وكرامتي واجعني بس.


-يعني الخناقة دي هو قل أدبه عليكي فيها ولا خناقة بين اتنين متجوزين عادية؟!


أجابت بصدق على والدها:


-لا خناقة عادية يا بابا.


اكتفت بهذا القدر من الإجابة وأخفت سبب المشكلة المتفاقمة بينها وبين زوجها لعلمها بمدى صرامة والدها الشديدة وأن ذلك العيب الخطير المصاحب لشخصية زوجها لن يتقبله والدها أبدًا.


-ومن امتى يا حاج فاضل نوح بيقل أدبه على يسر.


-مايقدرش اصلاً.


رده الخشن والصارم جعلها تخطو نحوه تحتضنه تنهل من نهر حنانه ما يكيفها لاستكمال طريقها مع نوح مُحب النساء!


-بس ده مايمنعش بردو يا يسر انك تتنازلي وتروحي تفاجئ جوزك في شغله انك افتكرتيه الحاجات دي بصراحة بتفرح الراجل.


ضحكت "أمل" بخفة تمازح زوجها بطريقتها البسيطة:


-يعني طلعت بتتبسط مني يا حاج.


-اه طبعًا.


أجاب بصدق وهو يشملها بنظراته الحنونة المحبة لشخصيتها البسيطة، فقالت يسر بهمس متقطع يحمل قهر نابع من معاملة نوح لها:

-عشان بتحبها بجد من قلبك يا بابا.


-بتقولي حاجة يا يسر؟!


رفعت نظراتها وهي تحرك رأسها بالنفي:


-لا.


ابتسم لها ابتسامته الحنونة:


-طيب يلا روحي لجوزك وصالحيه، ماتبوظيش يوم زي ده بشوية عكننة مالهاش لزمة.


سارعت والدتها بالتأكيد الممزوج باللهفة:


-ايوه كلامك صح يا حاج فاضل، يلا هنزل معاكي بالمرة واوصلك لغاية العيادة.


لم تجد يسر مفر يسمح لها بالفرار من فكرة ذهابها لزوجها في عمله، فاستسلمت بحسرة والشجن ينسج خيوطه بعينيها الممتلئة عن أخرها بالدموع.

                                 ***

غادر "يزن" المصعد وهو ينظر للشقة القابعة أمامه، فقابلته فتاة بزي رسمي مكون من تنورة طالت ركبتيها وقميص زهري اللون ملتصق إلى حد ما بجسدها، رمقها بنظراته التي حاول بقدر الامكان أن يحجمها ولكنه فشل كعادته وغمرها بالإعجاب الشقي وهو يقول:


-أهلًا بمروة القمر.


مال وجهها للخجل وهي تبادله نفس نظرات الاعجاب:


-أهلاً بيك يا مستر يزن، نورت العيادة كلها.


-مستر أيه بقى، هو أنا مش قولتلك مابحبش الالقاب.


شهقت بنعومة مقصودة:


-يا خبر ماقدرش.


مالت شفتيه ببسمة ساخرة جذابة:


-ليه اسمي صعب كده، ده حتى تحسيه اسم سينمائي.


بادرت بتأييده بحرارة ناعمة:


-عندك حق بجد.


-أيه الرقة دي، ماعرفش نوح بيلاقي موظفينه البروفيشنال فين؟! ده أنا دايخ يا مروة على حد زيك يستقبل الكلاينتس في الأجانص مش لاقي كلهم غفر.


ضحكت برقة والسعادة تغمر صوتها عقب مديحه لها:


-ميرسي لزوقك أوي، وان شاء الله هتلاقي، أنت حد كويس اوي اوي يا...


-يا أيه؟! اوعي تقولي مستر دي بحس بكرشة نفس لما حد بيقولهالي.


مزاحه وخفة دمه كانت الضوء الأخضر لها كي تجرد الالقاب بارتياح:


- يا يزن.


-طلعت سهلة صح؟!


سألها بمزاح واتضح لها مدى إعجابه بها فشعرت بالفخر لجمالها وشخصيتها التي ظنت أنها فريدة لدرجة أنها استطاعت جذب أنظاره ولم تدرك أنه ماكر جدًا ويعلم متى يخفى إعجابه ومتى يظهره في الوقت المناسب!


-ها أيه يا قمر نوح موجود؟! 


-اه دكتور نوح موجود، هيفرح جدًا لما يعرف بوجودك.


ضحك بسخرية ملحوظة معقبًا على ترحيبها المبالع فيه:


-أنا أي حد بيفرح بوجودي.


دخل يزن العيادة وكما هو متوقع وجدها تزدحم بالنساء فقط! صداقته لنوح لم تكن من فراغ، فبينهما الكثير من سنوات العمر التي قضياها معًا كجيران يقطنان بنفس الشارع قبل أن ينتقل نوح مع عائلته منذ فترة كبيرة إلى تخطي تلك الاختلافات التي جعلت شخصياتهما منفردة بذاتها، فلم يقتصرا على تجاور المنازل فقط بل اعتبره والد يزن كأحد أبنائه الثلاثة، فكانت حالة أسرة نوح المادية ما دفعته لضمه لكنف أبنائه وشراء ملابس مماثله له حتى لا يشعر بالنقص أبدًا، ولأن يزن كان أقربهم إليه رغم أنه أكبر منه بعدة سنوات، إلا أنه قد نشأ وهو يلعب معه  في ظل ابتعاد زيدان قليلاً عنه، كان أحيانًا يصر يزن أن يذهبان معًا لاختيار ملابس مطابقة لهما حتى يظهرا كالأخوة، مما ترك هذا في قلب نوح أثرًا بليغًا ما زال يحمله حتى اليوم، ورغم تعارضه مع يزن في تصرفاته الطائشة وعدم تركيزه في دراسته إلا أنه لم يتجنبه أو يبتعد عنه رغم تباعد المسافات واختلاف الكليات كذلك، فقد اجتهد نوح ولاقى من المشقة حتى تخرج من كلية الطب بينما تخرج يزن من كلية التجارة، انتظر يزن وقت قليلاً كي يدخل لصديق عمره" نوح" والذي استقبله بحفاوة كبيرة:


-يزن باشا الشعراوي نورت العيادة يا عم اقسم بالله.


احتضنه يزن وهو يردف بضحك:


-أول مرة تلاقي راجل عبرك وجالك العيادة.


دفعه "نوح" للخلف بمزاح:


-يا عم الحال من بعضه، يعني أنا لما بجيلك بلاقي رجالة يعني.


جلس" يزن" فوق المقعد المقابل لمكتب "نوح" وهو يخرج تنهيدة قوية مردفًا بتهكم:


-على رأيك ده حتى يبقى خطر على صحتنا.


تابع خلفه بضحك:


-وعلى سمعتنا.


شاركه الضحك ثم قال يزن بضيق زائف:


-أنت يا اللي ماعندكش بربع جنية احترام للمواعيد، مكنتش متفق معايا على يوم الخميس تيجيلي ونسهر وفي الاخر تقلبني وتقفل تليفونك، أنا جاي اهزقك وامشي.


وضع نوح يده فوق وجهه وفركه بقوة وهو يقول بثقل ملحوظ بصوته:


-اتخانقت وقتها مع يسر خناقة كبيرة ومكنتش طايق حد.


رفع يزن أحد حاجبيه باعتراض معقبًا على حديثه:


-هو أنا حد بردو، كنت تعال وصدعني بمشاكلك مع مراتك اللي مابتخلصش، أنا من رأيي تطلقوا وترتاحوا.


-أنت صاحب جدع ومفيش اتنين منك في البلد، عشان لو كان فيه كانت خربت اقسم بالله.


رددها نوح بضحك وهو ينظر لصديقه الذي اتخذ وضعية التفاخر بالذات رغم معرفته بمقصده الساخر.


-ويا ترى اتخانقتوا ليه يا دكتور نوح المرادي، على مروة ولا سهى ولا منار ولا نهلة ولا.....


اوقفه نوح معترضًا بجدية:


-حيلك حيلك لا طبعًا الموضوع مكنش بسبب البنات.


توسعت أعين يزن بتعجب غير مصدقٍ ما يرويه صديقه فقال بفضول بان على وجهه:


-يا شيخ ماتقولش هو فيه موضوع تاني مختلف، أول مرة تحصل في التاريخ، بص فضولي هيقتلني لو ماعرفتوش حالاً.


هز نوح كتفيه متظاهرًا بالضيق وهو يفجر قنبلته التي كانت السبب في رسم علامات الدهشة على وجه صديقه:


-عشان بقولها نفسي اتجوز تاني وبحاول اقنعها هبت فيا وكأني أجرمت وبقولها عايز امشي مع واحدة ولعياذ بالله في الحرام، أنا بجد مش عارف دماغها دي فيها أيه!


صمت يزن لثوان معدودة قبل أن يسأله بحذر وهو ينظر إليه نظرات متصفحة:


-اوعى كده وريني يمكن عورتك كده وانت مداريها.


-ليه يا عم أخوك مسيطر؟!

صاح نوح باعتراض ممزوج بالفخر لرجولته، فهز يزن رأسه معقبًا باستهزاء:


-واضح واضح، ولما الخناقة حصلت نمت فين؟!


أجاب ببساطة وهو يحاول أن يكتم ضحكته:


-هنا في العيادة.


-صاحبي رجولة.


فُتح الباب بقوة أدهشت "نوح" واندفعت كلمات التوبيخ على طرف لسانه ولكنه حجمها في اللحظة الأخيرة، عندما وجد يسر تقف على أعتاب الباب ممسكة بيه وخلفها والدتها التي يبدو على وجهها عدم الرضا من أفعال ابنتها، فعقب ساخرًا:


-أيه لقيتي راجل معايا، مش واحدة وبخونك، انتي كده مديونالي باعتذار.


اندفعت الدماء لوجهها بحرج من موقفها المندفع، وراحت تتحدث بتلعثم طفيف:


-آآ..أنا كـ...كنت داخلة مستعجلة وعايزك..


قاطعها يزن بأسلوبه اللبق رافعًا عنها الحرج:


-أنا كنت ماشي يا يسر أصلاً، اخبارك أيه؟


والتفت كي يغادر الغرفة، فردت بصوت مُستعص:


-الحمد لله يا يزن، أنت عامل أيه؟


-زي الفل.


ثم التفت لوالدتها وقام بالترحيب بها ومن ثم قال لصديقه:


-عايز حاجة يا نوح، ماتنساش اللي اتفقنا عليه، وخف شوية على العربية عشان ماتهنجش معاك في الأخر، والله ما تعرف تعوضها.


أدرك "نوح" المغزى الذي يحاول يزن إيصاله له بطريقته المبطنة تلك، فأمأ برأسه ولم يعقب بأي كلمة حتى خرج، وعقب مغادرته انفجرت نظرات اللوم والعتاب من عينيه ومن فمه الذي أثقل "يسر" الواقفة بجانب والدتها تخفي عيناها عنه:


-يعني لما الناس تشوفك برة وانتي داخلة بالمنظر ده على جوزك في شغله تقول أيه؟!


استلمت" أمل" مهمة تهدئة الوضع كعادتها، وهي تقول:


-ولا أي حاجة يا حبيبي، أنا اللي كنت مستعجلة فيسر اتصرفت كده، دي حتى كانت جاية تقولك كل سنة وانت طيب عشان عيد ميلادك.


أنهت حديثها وهي تلكز ابنتها في الخفاء حيث لجم الصمت لسانها كعادتها، فانتهبت الأخرى قائلة بوجومٍ غير قادرة على نسيانه وهو يحدثها عن ضرورة زواجه مرة ثانية كي يحسن من نفسيته التي ساءت بسبب ضغط العمل:


-كل سنة وانت طيب.


تنهد "نوح" بقوة وهو يجلس فوق مقعده، مررًا بصره فوقها وهي تناظره بنظراتها الغاضبة والتي فشلت في اخفائها:


-ومالك بتقوليها وانتي مضايقة ليه؟


-ولا مضايقة ولا حاجة دي يسر غلبانة وطيبة وقلبها مفيش ارق منه وبتنسى بسرعة.


ربتت والدتها فوق كتفيها برقة وحنو وهي تثني عليها بطريقتها البسيطة، فقاطعها نوح بغل:


-اللي قلبها طيب دي خلت جوزها يمشي الساعة ١٢ بليل من بيته ولا همهما أنه تعبان وجاي من شغله هلكان وعايز يلاقي الراحة في بيته، لكن ازاي؟!  لازم يلاقي النكد والبوز اللي طول شبرين.


انفلت لسانها بحدة وغضب:


-الجزاء من جنس العمل، يعني جاي تحرق دمي وعايزني استقبلك بالأحضان، ده حتى الاحضان خسارة فيك.


أشار لوالدتها بصوتٍ مستشيط:


-شايفة يا حاجة بنتك بترد عليا ازاي؟! ابوكي لو عرف طريقتك دي والله ما هايرضيه.


لم تعطِ الفرصة لوالدتها واندفعت تردف بعنفوان ناري رغم استنكار والدتها:


-ولو عرف باللي انت بتحاول تقنعني بيه مش هيخليني على ذمتك لحظة واحدة.


التهمت نيران الغضب أخر ذرة تعقل لديه وأردف:


-أنتي فاكرة أني مستني منك الموافقة، يبقى بتحلمي، أنا لو عايز أعمل حاجة هعملها ومش هيهمني حد.


-عيب كده يا نوح يا ابني، المفروض أنا واقفة وليا احترامي بردو.


قالتها والدتها بعتاب واضح وصريح، فقال بحدة:


-يعني عاجبك أسلوبها، أصلاً هي عارفة كويس إن الحاجة اللي أنا عايزاها مفيهاش نقاش ما بينا، لإن النقاش انتهى من زمان من يوم ما هي وافقت ولا نسيتي.


ضغطت فوق حروفها النارية والظلام يكسو ما تبقى من تعقلها معه:


-مانستش وكانت غلطة عمري، انت ماتستاهلش واحدة زيي، تستاهل واحدة من اللي بتتمرقع معاهم يا دكتور يا محترم، يلا يا ماما.


جذبت يد والدتها بعنفوان كبير رغم اعتراضات والدتها ولكنها استسلمت بالنهاية لطوفان الغضب الذي التفت حول ابنتها علها تساعدها كعادتها وتنتشلها منه كي لا تُهدم حياتها بسهولة.


وفور مغادرتهما القى " نوح" مجموعة الاوراق التي أمامه باهتياج واضح جعل من موظفة الاستقبال التي كانت على أعتاب الباب أن تتراجع وتتركه يصارع انفعالاته وحده.

                                    ***

مساءًا.


عاد يزن للمنزل يحمل كعادته حقائب الحلوى لأولاد "سليم" منتظرًا فرحتهما والتي لم تتغير أبدًا رغم تكرار الحلوى وعدم تغييره بها! قابله "سليم" بتعجب ساخر:


-أيه ده؟! يزن باشا راجع بدري غريبة المفروض نسجلها في التاريخ، أيه الأدب ده كله!


انفلت لجام لسانه بمزاحٍ لم يتقبله "سليم" كعادته:


-امال انت فاكر بس أنت اللي مؤدب، لا في مؤدبين غيرك.


-قصدك أيه يا محترم؟!


كانت نبرته تحمل تهديد واضح ليزن الذي تراجع على الفور بقوله:


-ولا أي حاجة يا أخويا يا كبير، مالك مش طايقني ليه؟!، يعني كده مش عاجب وكده مش عاجب اموتلكوا نفسي.


ضحك سليم بتهكم وهو يوبخه:


-مالك قلبت على أمك ليه كده؟! ناقص تقف تعيط.


-وماله لو هكسب تعاطفك معايا هعملها.


حاول أن يستعطفه بأسلوب طفولي ممازح، فرد سليم باستنكار:


-تعاطفي؟! ليه بمسكك السلك عريان ولا بغرقك في برميل ميه.


رد بغل زائف:


-لا بتهزقني في الرايحة والجاية لغاية ما بوظت سمعتي في البيت.


عقب سليم عليه بفظاظة:


-انت سمعتك كده كده بايظة خلقة، يعني مش أنا السبب.


توسعت أعين يزن بصدمة مصطنعة: 


-طيب حاول مد ايدك وانتشلني من الضياع.


ظهر علامات الاستياء على وجه سليم وهو يقول:


-يابني أنا اخاف امد ايدي تسحبني معاك.


-لدرجادي أنت فاقد فيا الأمل، مع أني في حالي وملتزم بشغلي وشايف مصلحتي...


قاطعه سليم بوجوم بعد أن دخل الحديث بينهما في منعطف آخر:


-ملتزم بشغلك عشان عارف أنا مش هعديلك غلطة فيه، وشايف مصلحتك عشان مش بعد التعب ده كله وتيجي تهد اللي انت بانيته في لحظة تهور، لكن انت مش في حالك يا يزن، وعلى العموم ربنا يصلحلك حالك ويرزقك ببنت الحلال.


رفع يزن يده للسماء محاولاً تلطيف الأجواء:


-يسمع من بوقك ربنا.


استغل سليم الفرصة وعقب سريعًا بجدية:


-حلو يبقى انت فكرت اهو تصلح من نفسك، كده أنا امد ايدي واساعدك.


تظاهر يزن بالبراءة متسائلاً بحماس:


-أيه هتفتحلي معرض تاني؟


-لا اشوفلك بنت الحلال عشان تتجوز وتستقر.


حرك رأسه بنفي غير مقتنع بالمرة بتلك الفكرة:


-الاستقرار بيجي من حاجات تانية يا سليم مش شرط الجواز.


انتشرت إمارات الاحتجاج فوق وجه سليم وهو يقول:


-مش بقولك عمرك ما هتتغير وهتفضل طول عمرك كده، بس خلي بالك أنا...


قاطعه يزن مقلدًا إياه في بداية حديثه:


-خلقي ضيق وأخر لما افقد اعصابي هضطر ادّخل واعمل اللي أنا شايفه صح.


صمت ثوان قبل أن يقول بوعدٍ قد قطعه على نفسه من قبل: 


-وأنا اوعدك يا سليم يا اخويا عمري ما هاخليك تتدخل ولا تعمل اللي انت شايفه صح.


استشاطت نبرته في ثوانٍ معدودة وهو يتساءل بوجوم:


-قصدك أيه؟! انت واعي اللي انت بتقوله؟!


 تراجع يزن بابتسامته التي غيرت مجرى الحديث مرة أخرى معلنًا استسلامه دومًا مع سليم:


-قصدي إن أنا هفضل لغاية أخر لحظة بحاول احافظ على اعصابك، أنا مارضاش اضايقك أبداً مني يا اخويا يا حبيبي ياللي ماليش غيرك في الدنيا.


حاول أن يحتضنه ولكن سليم رفض بقسوة كعادته واشمئزاز:


-بس بس اوعى كده، انت هتشحت!


فتح يزن ذراعيه وهو يقول بتمثيل احتياجه للحنان:


-يا عالم يا ناس ماحدش بيحتويني.


دفعه سليم عن طريقه وهو يقول بسخرية:


-امك عملتلك بامية ورز ودول هيحتووك أكتر مني.


-أيه ده بجد يا حبيبتي يا ماما يا اللي ماليش غيرك في الدنيا.

                                   ***

بعد مرور وقت قصير..

دخل "يزن" للمطبخ حاملاً "قمر" ابنة سليم والتي كانت ممسكة بخده معتقدة أنه طعام ملتهمه إياه بشراسة، فقال بضحك وهو يحاول إبعادها عنه:


-شمس أنا بنتك دي مش هستحملها كتير.


استدارت له "شمس" والتهديد يسقط من نبرتها الممازحة:


-تقدر تقول كده وابوها موجود.


أردف بغرور وقوة لم يستطع إعلانها إلا في غياب أخيه الأكبر:


-طبعًا، ليه هي ابوها هيعمل فيا أيه يعني؟!


تدخلت "مليكة" في الحديث وهي تساعد "شمس" في إعداد العجين:


-ده احتمال يطردنا كلنا من البيت.


كانت تضحك بخفة وهي تردد تلك الكلمات وعيناها تنتقل تلقائيًا بينه وبين شمس، ولكنها لاحظت شيء غريب طرئ على معاملة يزن معها، فكانت نظراته غامضة تحمل شيء من العتاب والضيق لم تكن تلك نظرات الإخوة الصافية المعتادة عليها منه، فسألته باندفاع وهي تغير مجرى الحديث كليًا:


- في حاجة يا يزن؟!


صمت ولم يجب، فأكملت بانعقاد حاجبيها:


-انت مضايق مني في حاجة؟!


أجاب هذه المرة باقتضاب كبير وواضح:


-لا وهضايق ليه؟ انتي عملتي حاجة تتضايقيني؟!


رمشت بعدم فهم والقلق يصدر من نبرتها:


-أنا مش فاكرة أني عملت حاجة تضايقك بس لو فيه يا ريت تقولي اوضحلك وجهة نظري.


اخفض رأسه ثوان معدودة قبل أن يرفعها ويشملها بنظرات ذات مغزى:


-وانتي لو في حاجة معينة واخدها عن شخصيتي وعن حياتي غلط يا ريت تيجي بردو تقوليهالي وصدقيني هاوضحلك بصراحة.


تضاعف الارتباك لديها وعدم الفهم سيطر على عقلها فسقطت في حلقة مفرغة وهي تجاهد التفكير بمعنى حديثه، ولكن من الواضح أنه يرمي لشيء ما هي ارتكبته، ظلت على نفس صمتها الطويل بينما مقلتيها تستنجد بشمس تطلب منها المساعدة وبالفعل استجابت لها شمس وكسرت حاجز الصمت بسؤالها:


-ما توضح يا بني قصدك أيه؟


-قصدي مفهوم يا شمس.


هنا رد بخشونة وضيق أدهشهما معًا، حتى أنه كاد أن يغادر المطبخ إلا أن مليكة أوقفته بسؤالها:


-لا بجد استنى وفهمني، في أيه؟!


وقبل أن يتحدث أشارت له وهي تستكمل كلامها:


-أنا بسألك ومهتمة عشان انت مش مجرد اخو جوزي انت اخويا بجد، كلكم بقيتوا عيلتي مش عيلة زيدان، فـ يعز عليا إن حد يكون زعلان مني وأنا ماعرفش.


انفجرت حروفه المعتقلة من سجن الصمت موضحًا لها ما يقصده من خلال أفعاله تلك:


-وعشان أنا اخو جوزك هو أنا عمري صدر مني موقف حسسك مثلا أني شخص مستهتر وبتعدى حدودي معاكي أو مع شمس، فانتي واخدة عني فكرة مش تمام.

تلون وجهها بلون احمر قاني ولم تستطع إيجاد تفسير منطقي لِمَ يقوله سوى أن زيدان فعل شيء بتصرفاته الحمقاء:


-هو زيدان جه قالك أني اشتكتله منك؟! والله ما حصل.


-لا زيدان ماقاليش بس صحابك من كلامهم معايا وضحولي الصورة أو الفكرة اللي انتي واخدها عني.


استنكرت بحماقة:


-صحابي؟!


هز رأسه مؤكدًا:


-اممم صحابك.


وقبل أن تتفوه بحرف صدر صوت "سليم" من الصالة باحثًا عنه، فقال بنفس اقتضابه:


-هشوف سليم عن اذنكم.


غادر وتركها على وضعها لم تتوصل لشيء إطلاقًا، فقالت لشمس الصامتة والتي يبدو أن عقلها كان يعمل بِجد كي تتوصل لتفسير واضح:


-أنا مش فاهمة أي حاجة يا شمس بجد.


تركت "شمس"ما بيدها واقتربت منها تسألها بهدوء ورزينة:


-هو انتي حد من صحابك يعرف يزن؟!


أجابت بتسرع:


-لا خالص عشان كده مستغربة.


ولكن صاحت بتذكر:


- شهيرة صاحبتي هي الوحيدة اللي تعرف يزن.


-حلو، انتي بتتكلمي معاها عليه؟!


سكتت مليكة وتذكرت بعض المواقف وهي تثرثر مع صديقتها عن عائلة زوجها وعن طباعهم وشخصياتهم ولم يخلو الحديث من مغامرات "يزن" مع الفتيات.


صمتها أكد لشمس أنها اوقعت نفسها في مأزق:


-يبقى اللي فكرت فيه صح، ممكن يكون وصل كلام أو حصل موقف الله اعلم أيه هو ومن خلاله يزن اخد الفكرة دي.


ضربت كف بآخر بضيق وانفعال:


-يا نهار ابيض يعني هو أكيد مفكر أني سوئت سمعته دلوقتي والله انا ما كنت اقصد أي حاجة بس هو كلام عابر يعني...


الجمت لسانها على الصمت بإحراج، فراحت شمس تربت فوق كتفيها برفق وحنو:


-ما تتوتريش اوي كده، كلنا عادي بنغلط، وبعدين يزن ده مفيش اطيب من قلبه والله.


-ده مضايق مني اوي.


هونت عليها شمس كعادتها مع الكل وقالت برقة:


-لا مش لدرجادي هو بس بيعاتبك من تحت لتحت كده، انتي بس شوفي صاحبتك دي قابلته ولا أيه ولمي الدنيا.


تساءلت بحيرة:


-طيب اروح اكلمه ولا اعمل أيه ولا اخلي زيدان يكلمه ويفهمه؟!


نفت شمس بسرعة ترفض فكرة اخبار زيدان اطلاقًا:


-لا انتي عايزاها تتعك أكتر لو زيدان ادخل، فكك خالص واتعاملي عادي وأنا هتصرف واحل كل حاجة.


هزت مليكة رأسها واحتضنتها بحب:


-ربنا يخليكي يا شمس، أنتي بقيتي أكتر من اختي.

                                 ***

دخلت شهيرة باندفاع غرفة  حورية وهي منفعلة:


-حورية هو انتي شوفتي يزن قريب مليكة؟!


أجابت برعونة:


-اه ليه؟


تساءلت من جديد بغيظ:


-واتكلمتوا مع بعض؟!


-اه في ايه يا بنتي؟!


جزت فوق أسنانها بقوة وهي تقول:


-دلوقتي حالاً تحكيلي أيه اللي حصل؟


اعتدلت "حورية" فوق الفراش والفضول يأكل تقاسيم وجهها:


-حاضر بس في أيه؟


انفعلت شهيرة بغيظ:


-أنا طلبت منك تحكيلي ويا ريت تقوليلي من غير ما تقعدي تسأليني كتير.


زفرت "حورية" بضيق وسردت عليها ما حدث مع يزن بالتفصيل والأخرى كانت تتوسع عيناها تدريجيًا من حماقة اختها:


-يا بجاحتك يا شيخة ما تروحي تقوليله مرات اخوه كانت بتقول عنه أيه؟


تعجبت منها وهي تقول:


-هو أنا جبت سيرة مليكة يا شهيرة!


قضمت " شهيرة فوق أصابعها والغيظ يأكلها أكلاً:


-ما هو ده اللي ناقص، يا ابلة حضرتك ببساطة وضحتيله إن مرات اخوه هي اللي موضحلنا الصورة دي عنه، لإنك ماتقبلتيش معاه قبل كده إلا مرات بسيطة وماتكلمتوش في حاجة توضح إنه بتاع بنات صح ولا لأ؟


ردت بنصف شجاعتها رغم أنها كانت تظهرها كاملة قبل قليل:


-صح.


-يبقى الفكرة دي واخدها منين، بتنجمي مثلا!


راحت تبرر لأختها بتلعثم طفيف:


-آآ...أنا مـ...مـافكرتش في كده، كل اللي فكرت فيه سيرا بصراحة.


انقض الغضب على عقل شهيرة وهي تردف:


-ياختي سيرا دي انصح منك ومن عشرة زيك.


أظهرت "حورية" تبرمها وهي تقول:


-انتي مش فاهمة حاجة يا شهيرة، سيرا انبهرت بيه وهو مش سهل وممكن...


-مفيش ممكن يا حورية، سيرا مش هبلة ومش عيلة صغيرة يضحك عليها بشوية انبهارات، وحتى لو انبهرت واعجبت هي ذكية اوي ولا يمكن تغلط غلطة توديها في داهية مع إن مليكة عمرها ما قالتلي مثلاً أنه بيتجوز عُرفي اخره بيحب في البنات.


احتجت حورية بسخرية:


-ودي حاجة حلوة مثلا!


توسعت أعين شهيرة بقسوة، ثم قالت:


-ياستي واحنا مالنا ندخل في حياة الناس ليه، وبعدين تعالي هنا انتي شغلوكي واصي على ست سيرا وأنا مش عارفة!


حاولت "حورية" تهدئة الاوضاع المتفاقمة من قبل اختها فقالت بهدوء مصطنع:


-خلاص يا حورية اعتبريها غلطة وعدت على خير، وأنا هبقى افهم سيرا عن شخصيته.


ضربت "شهيرة" صدرها بغيظ وصاحت بنبرة عالية:


-يالهوي كمان، انتي مجنونة بقولك مليكة زعلانة مني وعاتبتني جامد يعني أنا لو كنت عايزة اروحلها الزيارة أنا وجوزي ماينفعش.


-دي ملهاش علاقة بدي.


لم تهدأ "شهيرة" بتاتًا وكأن اللامبالاة الظاهرة من قبل اختها الصغرى كانت هي الشرارة التي أشعلت فتيل غضبها من جديد: 


-لا ليها علاقة يا ست حورية، شوكت كان عايز يطلب من زيدان خدمة في شغله، بأنهي وش نروحلهم بيتهم وانتي عاكة الدنيا مع اخوه.


دخلت والدتهما الغرفة متسائلة بقلق عارم:


-في أيه بتزعقوا كده ليه؟ غيث برة يا حورية قاعد مع ابوكي.


تهللت أساريرها وهي تقول:


-أيه بجد؟!


دفعت "شهيرة" بطريقها وهي تستكمل باقي ثيابها، فقالت اختها باستشاطة:


-شوفتي مش همك إلا نفسك، يعني اطلع احكي لغيث اللي عملتيه ونشوف رأيه أيه؟


توترت وهي تنفي برأسها برجاء:


-أيه لا يا شهيرة، ده لو عرف إني كلمت يزن او كلمت راجل أصلاً من الأساس هتبقى خناقة كبيرة.


انتقلت والدتهما بينهما بحيرة وهي تتساءل:


-ممكن تفهموني في أيه؟


تولت "شهيرة" مهمة إخبار والدتها في ظل صمت الأخرى، فعاتبتها والدتها بأسلوب هادئ لم يعجب شهيرة:


-خلاص يا شهيرة اهدي وعدي الموقف وبعد ما نرجع من السفر كلنا ابقي خدي زيارة حلوة وزوري صاحبتك واهو يكون الموضوع هدي شوية.


ثم التفت لابنتها الصغرى قائلة بتحذير قاسي:


-وانتي يا هانم ما تتكلميش مع صاحبتك في حاجة واوعي تحكيلها كلمة اختك كانت حكتهالك كفاية عك، وخليكي في نفسك وماتتدخليش في أمور الناس ياختي اللي يشوفك كده مايشوفكيش وانتي فرخة مع غيث.


تبرمت "حورية" بضيق:


-أيه فرخة دي يا ماما، وبعدين هو عشان بحترمه ابقى فرخة.


لم تهدأ شرارات الاستياء من فوق وجه شهيرة:


-دي ماتقدرش تفتح بوقها معاه شوفتي اول ما سمعت اسمه قامت نطت جهزت الشنطة ونفسها ونسيت صاحبتها وخوفها عليها من يزن.


كانت تسخر منها في أواخر حديثها، فزفرت حورية وهي تقول:


-يا ستي خلاص اسكتي بقى وأنا غلطنالك ومش هفتح بوقي تاني، خلينا نقوم نمشي بقى، ولا ناوية تنكدي علينا طول الطريق واحنا على سفر ورايحين فرح.


استنجدت بوالدتها عقب حديثها برجاء، فقالت الأخرى:


-خلاص يا شهيرة، مانخليش الموضوع يوصل لأبوكي ومش وقته كلام من ده، خلينا نروح البلد ونحضر فرح بنت عمك وبعدها هيكون عدي فترة تقدري تكلمي صاحبتك في اللي انتي عايزاه.


لم يعجبها رد فعل والدتها الهادئ فقالت بشيء من الحزن الممزوج بالضيق:


-ازاي بس ده شوكت كان معتمد اننا نروحلهم الزيارة بكرة قبل ما اسافر أنا وهو البلد.


صدر صوت حورية المتهكم وهي تتمم على حقيبة السفر خاصتها:


-ياستي ياعني انتوا ساكتين ده كله، مش هتسكتوا الكام يوم دول لغاية ما ترجعوا.


-الكام يوم دول هيدخلوا في اسبوعين واكتر  يا هانم انتي عارفة لما بنروح البلد بنطول هناك. 


انزعجت حورية وهي تستعد للمغادرة الغرفة:


-يووووه انتي مش عاجبك أي حل، شوفي انتي عايزة تعملي أيه واعمليه.


تمتمت شهيرة بخنوع: 


-مش قدامي حل غير اني اسكت فعلاً، ربنا يسامحك يا حورية على اللي عملتيه فيا، بوظتي علاقتي بصحابتي الوحيدة.

                                    ***

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل دخل  "نوح" يجر اقدامه بتعب محاولاً إفاقة نفسه، كي يرضي زوجته المتبرمة ويحصل على ليلة هادئة يريح بها جسده، قبل أن يفتح باب غرفته مد يده وجلب هاتفه من جيب سرواله وأغلقه حتى لا يصل إليه اتصالات في وقت متأخر وتستشيط الأخرى بهياج مفرط وينتهي بيه الحال على أريكته في عيادته، وضع هاتفه بجيب سرواله مرة أخرى وتمم بعدها على هديته البسيطة والتي اقتناها  لينال رضاها، فتح باب غرفته بهدوء فوجدها تجلس فوق الفراش تبكي بانهيار وظهرها موالي له تتحدث في الهاتف عدة كلمات وصلت لعقله كرصاصات استطاعت أن تصيبه في مقتل فهدر بانفعال وغضب عارم:

-نهارك أسود أنتي بتقولي أيه؟!

_______________



الفصل الثالث.. 

انتفضت يسر بفزع واستدارت بكامل جسدها تواجه طوفان غضبه متسائلة بنبرة غاضبة ولكنها مهزوزة بعض الشيء:


-أيه في أيه؟، خضتني!


اختصر المسافات بينهما في لحظة كان بها قريب جدًا منها حتى أن أنفاسه الساخنة كانت تضرب صفحة وجهها الباهت:


-خضيتك وبالنسبة اللي انتي بتقوليه! ده شيء عادي.


أصاب لسانها الجامح بعض من التوتر وهي تجيبه، وإصرارها يواصل طريقه في معارضته كالعادة:


-آآ...أنا قولت أيه، وبعدين ازاي تتصنت عليا!


صاح بصوتٍ مرتفع ولم يهمه الوقت ولا المكان ولا أي شيء سوى إعادة ترويض تلك الجامحة بقليلٍ من التهديد الواضح والصريح:


-نعم! بقولك أيه ماتنرفزنيش وتعصبيني.


تظاهرت بالبرود والعصيان معًا بكلماتها المندفعة من فمها:


-اه...اه اقلب وطلع شخصيتك التانية.


اتكأ فوق حروفه بصوتٍ قاس لعلها تستفيق:


-شخصية أيه يا مجنونة! هو أنا بلياتشو...بس تصدقي أنا فعلاً ممكن اتنازل عن شهادتي العلمية وعن مكانتي كـدكتور محترم واقلب صايع وماترباش في سبيل اعدل دماغك المايلة دي.


مال وجهها للصدمة وهي تسأل غير مصدقة ما يتفوه به:


-أنا دماغي مايلة يا نوح؟!


فاض به الكيل وظهر الغضب جليًا بصوته وجسده المشدود:


-ايوه، لما تكوني عايزة تموتي ابني اللي في بطنك يبقى أيه يا جاحدة؟


انفجرت فيه بغضبٍ مماثل ولمحة من الحسرة بانت بنغمة صوتها الحزين:


-يبقى مش حاسة معاك بالأمان.


استنكر سريعًا بقوله:


-ليه يعني بنميك من غير عشا؟! ولا بمسيك وبصبحك بعلقة، اوعي كده وريني وشك ما شوف يمكن سايب علامة هنا ولا هنا!


انفلت لسانها بعدما استفزها بكلامه:


-بطل تريقة انت عديم المشاعر.


أمسك ذراعها بقسوة وشدد فوقه بتحذير ضارٍ:


-يســر ماتتعديش حدودك معايا أبدًا.


فاضت مشاعرها السلبية اتجاهه، وشعرت أن الأمل التي كانت تسعى خلفه بتغييره وتحويل حياتهما البائسة للأخرى سعيدة أصبح من المستحيلات، فقالت برعونة متعمدة:


-طيب ابعد عني وماتقربش حتى ريحتك مابقتش قادرة اشمها.


ضحك ساخرًا منها وتعمد الاقتراب أكثر، متجاهلاً كل محاولاتها في الابتعاد عنه:


-ليه مع اني متبرفن كويس قبل ما أجاي؟!


وضعت يدها فوق صدره العريض تدفعه للخلف وعيناها المستشاطة بغيرة وقهر توضح له مدى غضبها منه:


-وليه ماتقولش بتفكرني بنكستي معاك، باليوم الاسود اللي قررت اوافق فيه على جوازتي منك واتنازل عن حقي فيك!


ضغط فوق حروفه والعناد يعمي عيناه عن حقيقة القهر الذي تعيشه معه بسبب تصرفاته المستمرة في إذلال أنوثتها:


-اقسم بالله انتي غيرتك لحست دماغك لدرجة انك مابقتيش تفرقي في الكلام معايا، أنا لغاية دلوقتي مستحملك ومستحمل هرموناتك اللي ماكنتش عارف افسرها، بس كل واحد وله طاقة وأنا طاقتي خلصت.


انهى حديثه وتركها ببساطة وكأنه لم يضاعف وجعها منه وكأن سوط كلماته لم يجلد كرامتها من جديد، فراحت تقول بانهيار:


-أنا اللي طاقتي خلاص خلصت ومابقتش قادرة استحمل، ولازم نحط حد اللي احنا فيه لو عايزاني، أما بقى شغل انك عايز كل حاجة في حياتك دي لا وألف لا.


التفت قبل أن يدخل للمرحاض يسألها بسخرية:


-طيب لو عايز ادخل الحمام دي ظروفها أيه؟!


عقدت حاجبيها معًا بتعجب منه، فقال باستهزاء:


-ايه تدخلي معايا، أنا عن نفسي موافق جدًا.


استلمت منه وتيرة الاستهزاء وردت بحدة وكبرياء:


-مش بقولك من كتر تعاملك مع اللي يسوى ومايسواش مستواك نزل خالص.


رمقها بنظرة يغمرها التهكم وهو يقول:


-من تواضع لله رفعه يا بنت الحج فاضل، وبعدين بالله عليكي ماتحسسنيش انك من هوانم جاردن سيتي ابوكي تاجر اجهزة كهربائية فكك وحطي واطي شوية.


أنهى كلامه حين دخل للمرحاض ثم أغلق الباب بقوة في وجهها تاركًا إياها تستشيط أكثر والغيظ ينحر بها نحرًا.


بعد مرور وقت قليل...


خرج من المرحاض بعد أن قضى بعض الوقت تحت الماء الفاتر مقررًا إخراج جميع سلبياته والتفكير في اللا شيء ولكن كلماتها دومًا تطرق عقله تصيبه بالجنون والغيظ فيعود متهورًا بقرار عقابها أو إغاظتها بأي شيء حتى يشعر بأنه نال جزء من كرامته التي تحاول هدمها دومًا بنبرتها المنفعلة وهياجها المفرط في التعامل معه.


تعمد الغناء بصوت خفيض وهو يغلق باب المرحاض خلفه، ولكنه صُدم بها تضع ثيابها في حقيبتها بعصبية ودموعها المتساقطة تتسابق بلهفة لتملئ صفحات وجهها، فزفر بقوة وهو يتساءل:


-بتعملي أيه يا يسر؟


ردت بنبرة متقطعة يغمرها الحزن:


-بلم هدومي وماشية.


-ماشية الساعة ١ بليل!


عقب مستنكرًا فرفعت وجهها تسأله باستنكار يملأه الأسى:


-يعني هي فارقة بليل ولا الصبح، النتيجة أني ماشية.


ألقى المنشفة أرضًا وهو يتجه نحوها يحاول إيقافها بصوته المجهد:


-خلاص أنا اللي همشي.


أبعدت يده بهدوء، بينما تشابكت نظراتهما في لحظات شوق بترتها هي بإصرارها:


-أنا شايفة أن أنا اللي امشي افضل، أنا بقيت حاسة أني عبأ عليك فأريحك مني احسن.


أمسك ذراعيها يجذبها نحوه بلطف وهو يقول:


-والله عمرك ما كنتي عبأ ولا هتكوني، يا يسر أنا ببقى راجع تعبان وهلكان ومحتاجكك بس دايمًا بلاقيكي عكس ما كنت متخيلك، يا اما منكدة عليا يا مبوزة ومش عاجبك حاجة، يا يسر أنا بقيت مش فاكر أحنا امتى كنا متصالحين من كتر ما على طول متخانقين وزهقانين من بعض من كتر المشاكل يعني عاجبك اني على طول بعيد عنك.


انهارت باكية في أحضانه تخرج ما تكنه بصدرها:


-انت تعرف إنك تبقى بعيد عني أريح ليا.


ابتعد خطوة والصدمة تجوب وجهه:


-انتي بتقول أيه، في واحدة تقول كده لجوزها؟!


هزت رأسها مؤكدة وهي تقول بحرقة:


-عشان لما نبقى كويسين على طول بتفتح معايا انك عايز تجرب الجوازة التانية حتى لو كان بهزار يا نوح الكلام ده بيجرحني، يا أما تليفونات العيادة اللي كلها من بنات، عرفت أنا ليه كده بيبقى أريح ليا.


زفر بقوة ولم يجد رد مناسب، فجميع ردوده ستصيبها بجلطة إن أعلنها، سيحتفظ بصمته ويتظاهر بعكس ما يكنه فقال بلطف:


-حقك عليا، أنا مش هضايقك تاني، ده أنا حتى قفلت تليفوني قبل ما ادخل الشقة عشان مش عايز ازعلك.


عاد الأمل يطرق بابها من جديد فقالت بصوت مبحوح يصارع أمواجه الحزينة:


-بجد يا نوح؟


-اه والله حقك عليا أني اتعصبت، بس اعذريني يعني عايزة تحرميني من ابننا وتسقطيه، وبعدين انتي ماتعرفيش أنه حرام.


مسحت دموعها بأصابعها المرتجفة وهي تقول بصدق:


-غصب عني، بس مكنتش حابة انه يتعذب ما بينا زي لينا.


عقد حاجبيه متسائلاً بقلق:


-مالها لينا؟ انتي بتقوليلها حاجة عني؟!


ضحكت بتهكم وهي تجيب:


-لا طبعًا بس البنت مش صغيرة يا نوح، البنت عندها خمس سنين وفاهمة كويس اووي اننا مش مرتاحين مع بعض، وبعدين انت على طول بعيد عنها وماخدتش اجازة واحدة تقعد معاها او تفسحها البنت حاسة بنقص.


اعترض سريعًا:


-أيه نقص!، امال أنا طالع عين اهلي ليه وعشان خاطر مين؟!


-يا نوح الحياة مش فلوس، البنت محتاجة احتواء بردو ومحتاجة وجودك معاها، انت الحمد لله مش مخليها عايزة حاجة وكل طلباتها مجابة بس....


قاطعها مدركًا ما ستقوله:


-خلاص أنا هاخد اجازة بكرة من العيادة واخرجكم.


اتسعت عيناها بعدم تصديق تسأله بلهفة:


-بجد يا نوح، بجد هتقعد معانا بكرة وتفسحنا.


هز رأسه مؤكدًا وهو يربت فوق كتفها بحب:


-اه والله، أنا ماعنديش اغلى منكم عشان اسعدكم.


لم تجد رد يكفيه حجم عمق كلماته الصادقة، فاكتفت بإغراقه في بئر مشاعرها الدفينة، تشبعه بحنانها وغرامها بيه بالرغم ما يفعله أحيانًا معها، مجبرة عقلها على التوقف في التفكير وخاصةً في تلك اللحظة كي لا تتذكر تلك الندبة القوية والتي كانت وستظل العقبة بحياتهما، بينما هو اكتفى باستغلال صفاء لحظتهما الحالية والتي ربما لن تتكرر مرة أخرى فبات خائفًا يشعر بالقلق حيال الدقائق والساعات مفكرًا متى ستكون المشكلة القادمة!

                                  ***

صباحًا..


تململ زيدان وهو يجلس أمام سليم والكثير من الاوراق أمامهما، فكانت أحيانًا عيناه تدور في أرجاء "المحل" وأحيانًا أخرى يتظاهر بالجدية ومتابعة حديث سليم عن ميزانية "المحلات" وحجم الأموال في البنوك، وعما يفكر فيه مستقبلاً من أجلهما هو ويزن، لاحظ صمت سليم ونظراته الغامضة فاندفع يعقب بجدية:


-عندك حق في كل اللي قولته.


عاد سليم بجسده للخلف يستند على ظهر الكرسي، يسأل بلمحة من المكر:


-أيوه بقى أيه اللي قولته؟!


مط شفتيه بضيق وسرعان ما أظهر إمارات الملل على وجهه:


-الصراحة بقى أنا مش فاهم ولا فايق لكل اللي بتقوله ده.


ضيق سليم عينيه بتفكير قبل أن يقول:


-هو ده مش مالك ولازم تبقى متابع معايا لكل اللي بيحصل وهيحصل.


-وانت بردو عارف أني ماليش في أمور تجارة الدهب، وبعدين انت ادرى مني وأنا واثق فيك.


لمعت عيناه بنصف بسمة ساخرة:


-لا قول انك بتحب تريح دماغك، ومتعود على الراحة.


عض فوق شفتيه السفلية بغيظ واضح، مانعًا نفسه من التهور والتصرف برعونة مع أخيه الأكبر، فضحك سليم بقوة والاعجاب يطرق عقله من تصرف زيدان بحقه فقال بكلمات كان متأكدًا أنها ستكون الشرارة في إحراق حبال الرزانة والتعقل الملفوفة حول عقل أخيه:


-لا عاجبني إنك كمان مابقتش قادر ترد عليا، في تطور اهو وبدأت أشوف فيك أمل.


عقد ما بين حاجبيه باحتجاج وهو يقول:


-معلش أمل لأيه بالظبط؟ 


أجاب ببساطة قاصدًا إثارة حفيظته:


-إن علاقتي بيك تبقى أحسن وافضل.


رغم أن الاستهزاء كان على عتبة إظهاره إلا أنه أخفاه واكتفى بقليل من الاعتراض ليظهره:


-والله العظيم أنا مش لاقي كلام اقوله.


وضع سليم يده أسفل ذقنه يستند عليها، ينظر له بتسلية والمكر يغزو نظراته الغامضة:


-لا انت مش قادر تقول حاجة لأحسن ازعل منك ولا انا زعلي مايفرقش؟!


تنهد زيدان بقوة وهو يجيب بصدق لعل أخيه الأكبر يقتنع بما يفعله في تحسين علاقتهما:


-لا ازاي زعلك طبعا يفرق معايا، وبحاول ابينلك كده بس الظاهر أنك مش واخد بالك.


كتم ضحكة قوية داعبت حلقه وقال بصوت جاد متأكدًا أن ما سيقوله سيفجر غضب أخيه الأصغر:


-يمكن محتاج تبذل مجهود أكبر.


بان على وجه زيدان الضيق حتى أنه كاد يترك زمام أمور التعقل جانبًا وينفجر بحماقة في وجه سليم، إلا أنه تراجع سريعًا وقرر التشبث بحافة الصمت أفضل مئة مرة من السقوط في هاوية فراقه عن أخيه من جديد، وعندما أدرك سليم صراعه مع نفسه قرر الرأفة بيه عندما حول مجرى الحديث بينهما لِمَ هو أعمق وأهم:


-على العموم سيبك من ده كله أنا كنت جايبك عشان حاجة تانية.


لم يستطع الزام نفسه كثيرًا في طور العقل والأدب فقال بسخرية:


-أيه جايبني عشان واحشك تقعد معايا لوحدنا!


تنهد سليم وهو يقول باستفزاز بينما يداه كانت تغلق الملفات أمامه سريعًا:


-لا أنا ماكنتش بحب اقعد معاك لوحدنا، بس دلوقتي بقيت افكر إن القعدة لوحدنا بدأت تجيب نتايج حلوة، بس ده بردو مش اللي عايزك فيه؟


فقد زيدان أي ذرة أمل في تلك الجلسة المليئة بأجواء الحدة والتحدي من قبل أخيه، فقال باستسلام:


-امال؟!


أجاب سليم باقتضاب وتحولت جميع معالمه:


-يزن اخوك.


وكأنه كان ينتظر الإشارة كي ينفجر بغيظ ويصب جام غضبه فوق يزن الغائب رغم أنه لم يفعل به شيء: 


-ماله زفت الطين جلاب المشاكل.


-فكك منه، واوعى تحل له مشكلة، أنا عايزه يقع.


مالت ابتسامة زيدان للتسلية وهو يتساءل بحماس:


-هو انت حطيته في دماغك.


أجاب وهو يهز رأسه بتحدٍ:


-اه آن الاوان، أنا صبرت عليه كتير اوي على أمل أنه يتعدل لوحده بس باين مفيش أمل فيه.


وجد زيدان الفرصة للتعبير عن استياءه من طريقة تعامل سليم دومًا مع يزن:


-يزن  انت مدلعه اوي الصراحة.


-خلاص اعتبر ان الدلع ده هيجي فوق دماغه، بس اللي قولتلك عليه يتنفذ سيبه يقع ماتحلش له أي مشاكل أنا عايز اعرف كل بلاويه ومشاكله.


نهض زيدان كي يستعد للذهاب لعمله وهو يتساءل بمزاح طفيف: 


-تحب اشتغلك مخبر.


رد سليم بكبرياء وعنجهية كعادته:


-لا كفاية عليك شغل الداخلية، أنا عندي مخبريني.


ترك البساط لضحكاته وهو يقول:


-ياعيني عليك يا يزن حظك أسود وقعت تحت ايد اللي مابيرحمش.


أشار له سليم بضيق زائف:


-امشي يلا عشان بدأت تعك ومش هستحملك كتير.


                               ****

خطت "سيرا " خطواتها الواثقة في الطريق المؤدي للبرج الذي يقبع به "المركز الرياضي" ونظراتها تركض أحيانًا نحو الجانب الأخر من الطريق تنتظر خروج ذلك الـ "يزن" بعدما اندلعت شرارة فضول بسيطة داخلها لرؤيته من جديد، ورغم أن لقائهما كان بالأمس ولعدة دقائق بسيطة إلا أنه ترك بها أثر فريد وخاصةً بعد أن وجدته يقف في مساء البارحة أمام مكان عمله يتحدث بالهاتف وحين خرجت أمامه من باب "البرج" الحديدي لوح لها بابتسامة جذابة بسيطة فتجاهلته متظاهرة بعدم رؤيتها له، وأجبرت عقلها على عدم التفكير بيه، ولكن من حين لأخر يداهم عقلها وخاصةً بعدما أخبرها حدسها أنهما سيتقابلان.


وقبل أن تصل للبرج، لمحت متجر كبير لبيع الحلوى، فقررت أن تكافئ نفسها بشيء بسيط بعدما استمعت في الصباح لوصلة ندب وتهذيب من "أبلة حكمت" المعترضة دومًا عليها وعلى تصرفاتها، فهمست لنفسها:


"لازم اجيب لنفسي شوكولاتة اكافئ بيها نفسي الغلبانة أني مستحملها في حياتي".


تابعت أنواع الحلوى بأعينها واحتارت تقتني أي واحدة منهم، ولكن صوته الذي اخترق دائرة تفكيرها جعلها تنتفض انتفاضة بسيطة تستدير له منعقدة الحاجبين وهي تردد بصوت أنثوي ناعم:


-نعم؟!


شملته بنظراتها الخاطفة لهيئته الرجولية الوسيمة بثيابه الأنيقة والبسيطة تزامنًا مع تلك الابتسامة الحمقاء التي استطاعت احتلال عقلها دون مجهود:


-كنت بقولك ازيك يا كوتش؟


حمحمت بحرج وهي تسيطر على ملامحها براحة مجيبة عليه:


-الحمد لله.


ثم التفتت تتظاهر باستكمال ما كانت تفعله إلا أنه أوقفها بسؤاله وملامحه تتدعي البراءة:


-أنا كنت عايز اسأل مواعيد الزومبا أيه في الجيم؟!


صمتت برهة قبل أن تجيب بمكر دفين:


-مرات حضرتك تقدر تعرفها من الريسبشن، هما هيقدورا يحددوا ليها معاد مناسب.


-مراتي؟!


ردد باستنكار، ثم تابع حديثه بمزاح طفيف:


-ده شكل واحد متجوز بردو بذمتك!


رمشت عدة مرات وهي تستدعي جديتها التي تلوذ بالفرار منها:


-امال حضرتك بتسأل لمين؟ لاختك؟!


-لا معنديش اخوات، أنا بسأل ليا، هو مفيش مواعيد للشباب ولا إيه؟ 


ماكر جدًا في اجتذابها للحديث معه ببساطة وذلك حينما قالت باستنكار:


-على أساس إن حضرتك ماتعرفش إنها للبنات بس؟!


رسم خطوط الصدمة فوق ملامحه وهو يقول بقهر زائف:


-أيه؟ بنات بس، لا طبعا مكنتش اعرف، قد ايه انتوا مجتمع انثوي عنصري، هو مش من حق الرجالة تعمل رياضة وزومبا وتهتم برشاقتها ولا إيه؟


عقدت ذراعيها وهي تمرر بصرها فوق عضلاته العريضة تقول بنبرة يغمرها التهكم:


-على أساس إنك محتاج؟ 


لمعت الشقاوة في عينيه وهو يقول بمكر رجولي:


-اعتبر دا تصريح بالإعجاب منك؟ 


فصاحت فيه بذهول مغتاظ:


-نعم! أنت اتجننت اعجاب إيه؟


تشدق ببرود مدروس مُغلف بالعبث:


-اهدي بس، انتي مالك نرفوزة كدا خلي خلقك استرتش. 


-هو انت ليه بتتعامل معايا على إني بنت عمتك يا أستاذ...


كتم ضحكة قوية وهو ينفي على الفور بعفوية :


-الجوهرة دي استحالة تبقى بنت ميرڤت الحرباية. 


-نعم؟! 


حمحم بقوة وهو يتغنى بلباقته كعادته:


-بقول ماحصليش الشرف إنك تبقى قريبتي يا أنسة...


صمتت تنتظر تكهنه لأسمها، فضيق عيناه يتظاهر بالتفكير:


-يسرا...


ضغطت فوق حروف أسمها تتلفظها بنعومة مقصودة كي لا ينسى مجددًا اسمها، فيبدو أنه ماهر لدرجة أنها اقتنعت أنه قد نساه بالفعل:


-سيرا..


-ايوه فرصة سعيدة يا أنسة سيرا.


إن كان هو بارع جدًا في تسديد أهدافه، فهي لم تكن غبية بالمرة حينما امتهنت نفس طريقة اللعب بسهولة وهي تقول:


-أنا أسعد يا أستاذ اااا....


وقبل أن يقول اسمه، سارعت بقولها:


-أيمن أو وائل...


ابتسم ممازحًا إياها ببساطة: 


-أو محمود، أي اسم ماعدا يزن...


سجنت ضحكتها بين قبضان رصانتها، وهي تقول:


-على العموم فرصة سعيدة، عن أذنك.


لم يسمح لها بالذهاب، فأوقفها بسؤالٍ جديد محاولاً فتح مجالات أخرى للحديث، رغم أن تلك الأفعال لم تكن من أساليبه مع الفتيات:


-هي حورية فين ماجتش معاكي ليه؟!


هزت كتفيها مدعية اللامبالاة وهي تقول:


-ماعرفش اسألها هي مش قريبتك بردو!


-اه قرايب بس بينا مصانع الحداد، لو عايزة تعرفي عني حاجة اوعي تسأليها تعالي واسأليني.


صراحته فاجأتها ولكنها اصطنعت الضيق:


-هو أنا هعوز اعرف عنك أيه؟!


ارتسمت ضحكة ساخرة فوق شفتيه وهو يقول بشقاوة داعبت صوته:


-كتير، تسألي مثلاً عن نوع عربية مميزاتها او عيوبها.


نظرت في ساعة يدها تتظاهر بالانشغال وهي تقول ببرود: 


-العربيات أخر همي، مش من مفضلاتي، اطمن مش هحتاجك عشان اعرف حاجة.


التقط حلوى بالبندق يقلبها بين يديه وصوته يتشبث بسور التسلية والمزاح:


-خدي فكرة واشتري بكرة.


انكمشت معالم وجهها بامتعاض، فتبسم وهو يراوغها مجددًا:


-بهزر معاكي ماتبقيش خنيقة كده يا أنسة يسرا.


رفعت أحد حاجبيها باستنكار واشتدت نبرتها بضيق رغم علمها بمزاحه:


-يسرا تاني؟!


-صدقيني يسرا انسب عليكي، سلام.


توقعت اعتذاره ولكنه فاجئها بقوله الذي دفعها تهوي في بئر الصمت وهي تحدق به غير مصدقة إياه، وخاصةً حين أشار إليها بأصابعه وغمزة طفيفة صاحبت عيناه، فغادر دائرتهما سريعًا ولم يعطِ لها الفرصة في الرد أو التعقيب على مزاحه السخيف فهمست بتوعد:


-انسان رخم والله ماهعبره تاني.

                                   ***

مساءًا...


أنهت سيرا عملها وقامت بتوديع عملائها، ثم حملت حقيبتها فوق ظهرها واستعدت للمغادرة متجاهلة ذلك الثقل المتربع فوق صدرها من فكرة مرورها من أمامه، فتتلقى منه ابتسامته الخلابة بوسامته المفرطة، ويعود سجين أفكارها لليلة أخرى، زفرت بضيق وهي تؤنب نفسها:


-انا هخيب ولا أيه، اطلع من دماغي.


ولكن صدح صوت داخلها يحادثها بأمورٍ لم تكن تتخيل أن تتطرق بالتفكير إليها، وراح عقلها يبرر لها لِمَ تعلقت به بهذه السرعة؟، فبدأت تلقائيًا في عد مميزاته التي لطالما تتمناها بفتى أحلامها بدايةً من وسامته ومظهره الجذاب، فيبدو عليه أنه من عائلة غنية وأوضاعه المادية حسنة كي يدير "معرض" للسيارات بهذه الضخامة، ولكن رزانتها أرشدتها لبر الأمان بأن الماديات لا تبني علاقة سوية ناجحة كي تضعها أساس للتفكير بشريك حياتها، فهزت رأسها ترفض بعض المغريات التي تهاجم عقلها من حين لأخر، ولم تدرك أن هناك حجارة ضخمة أمامها، فتعرقلت بها وكادت تسقط في منتصف الطريق إلا أنها تماسكت على أخر لحظة، وهندمت نفسها سريعًا بلمحة من الكبرياء ولكن ظهوره من خلف زجاج "معرضه" بابتسامته الواسعة جعلها تتوتر بخجل رغم أنها اختصرت باقي الطريق بخطوات مسرعة للغاية. 

                                   ***

وصلت "سيرا" للبناية المجاورة لمنزلها وصعدت الأربع طوابق بلياقة عالية، توقفت أمام شقة صديقة طفولتها "فاطمة" فتاة بسيطة تعشق التمثيل والفن وتسعى بكل جهدها لاغتنام فرصة في إحدى الافلام السينمائية فلم تترك تجارب التمثيل إلا وذهبت ولا فرصة للتواصل مع مخرجين الافلام المشهورة إلا وتواصلت معهم ولكن في كل مرة الفشل يظل حليفها ولكنها لم تفقد الأمل بل باتت تتشبث بحلمها أكثر وأكثر.

استقبلت سيرا والدة فاطمة والسـ_كين تحمله بيد واليد الأخرى تمسك بعض من الخضروات مرحبة بها بحفاوة:


-ادخلي يا سيرا، فاطمة جوه في اوضتها.


اقتربت "سيرا" من باب غرفة صديقتها ولكنها تسمرت بصدمة تستمع لصوت نحيبها وهي تردد بانفعال:


-انت ازاي تقولي كده يا سافل يا كلب يا حقير..


وضعت أذنيها بالقرب من الباب تستمع لصوتها من جديد وهي تردد بانهيار:


-لا أنا مكنتش متخيلة أبدًا إنك قذر ومنحط كده...


هنا قررت قطع ما يدور بالداخل بفتحها للباب بقوة، والسخرية تحلق بصوتها وضحكاتها:


-أيه هو السيناريو كله شتايم، مفيش حوار أبدًا.


عبرت "فاطمة" عن غضبها من وسط دموعها المتساقطة:


-انتي ازاي تقطعيني كده وأنا في حتة مهمة زي دي؟!


خطت خطواتها لداخل الغرفة بينما كانت تغلق الباب بقدمها خلفها، وهي تتظاهر بالأسف فحركت ذراعيها يمينًا ويسارًا:


-أنا أسفة يا فنانة، هنعطل التصوير والممثلين...وسع كده يا أستاذ محتاجة السوبر ستار...


دفعتها "فاطمة" بغيظ عنها وهي تمسح دموعها بعد أن فشلت في التدريب على مشهد طرأ في وحي خيالها وقررت تمثيله كعادتها:


-اتريقي يا سيرا بكرة تتمني صورة معايا وأنا هرفض وهطلعلك لساني من فوق قمة نجاحي.


تصنعت الدهشة وهي تعبر عن استيائها من صديقتها:


-طول ما تفكيرك كده هتفضلي بين الاربع حيطان وعمرك ماهتطلعي للنور.


زفرت الأخرى بملل وهي تقوم بعقص خصلات شعرها متجاهلة جلوس سيرا على طرف الفراش بأريحية:


-هطلع للنور ازاي وفي ناس حقودة في حياتي.


نهضت "سيرا" تقف خلفها ثم وضعت قبله فوق رأسها وهي تنظر لها بالمرآة الموضوعة أمامهما، فانطلقت تستعطفها ببراءتها الممزوجة بمزاح طفيف: 


-ما خلاص بقى يا طمطم، انتي مقموصة مني ليه؟! ده انا غلبانة وحزينة واختي تبقى أبلة حكمت يعني المفروض تكوني مترأفة بحياتي البائسة، وبعدين الصراحة مالكيش حق تزعلي.


دفعتها "فاطمة" للخلف بمرفقها والغيظ يبلور صوتها بحرقة:


-نـــعم...ده كله وماليش حق ازعل، لما تسيبي صاحبة عمرك فاطمة... طماطيمو الفنانة وتاخدي البت حورية الغلاوية دي في اول يوم شغل ليكي يبقى أيه؟!


تظاهرت سيرا بالألم وهي تتدافع عن نفسها أمام هجوم صديقتها:


-يخربيت كده ما انا قولتلك يا بنتي  تعالي معايا وانتي لما عرفتي أنها جاية رفضتي تيجي وغرور الممثلين ركبك اعملك أيه؟!


-امسكي فيا ، مش تتجاهليني.


عادت "سيرا" تقوم بإرضائها بلطف: 


-أنا اقدر اتجاهلك يا طمطم ده انتي صاحبتي وحبيبتي، طيب تصدقي اليوم كان كئيب من غيرك.


ضيقت الأخرى عيناها تسألها بابتسامة واسعة والرضا يعبر فوق ملامحها:


-انتي قولتلي كنت زعلانة منك ليه؟!


ضحكا سويًا وقامت فاطمة باحتضانها تغرقها في نهر طيبتها، رغم الغرور المنبعث من صوتها:


-بس بجد شوفتي كان وشها وحش عليكي ازاي لكن أنا بقى لو موجودة كنت هبقى تميمة حظك.


كتمت سيرا حاجتها للدفاع عن حورية كي لا تستشيط فاطمة في وجهها، فغيرت مجرى الحديث ببعض من الكلمات وهي على يقين أن فضولها سيدفعها للتغاضي عن التفكير بحورية لطالما كانا دومًا على النقيض ويكنان لبعضيهما سوء الظن.


-هو مكنش وحش اوي، في حاجة هموت واحكيلك عنها...


قاطعتها فاطمة بلهفة وهي تجلس في منتصف الفراش تضع وسادة كبيرة فوق ساقيها:


-اشطا احكي يلا بسرعة...


فجلست أمامها سيرا تسرد لها ما حدث بالتفصيل الممل في ظل اسئلة فاطمة في كل صغيرة وكبيرة:


-قولتيلي اسمه اية؟


-يزن...


-اممم، اسم سينمائي.


عبرت فاطمة عن إعجاب بسيط تعجبت له سيرا ولكنها قامت بمسيراتها، فجذبت الأخرى هاتفها تفتح إحدى وسائل التواصل الاجتماعي " الانستجرام" وهي تسأل بجدية، اسمه أيه بقى بالكامل:


-ماعرفش.


-يعني أيه ماتعرفيش؟!


-بقولك ماتكلمتش معاه إلا مرتين، وبعدين حورية تليفونها مقفول ماعرفش ليه.


امتعضت فاطمة وهي تلقي بهاتفها جانبًا تتلفظ بغيظ:


-أحسن يا رب يكون اتسرق.


داعبتها سيرا بمزاح:


-صفي نيتك عشان ربنا يرزقك بفيلم تبقي البطلة فيه قدام أحمد عز.


صاحت متذكرة بحماس:


-اسكتي أنا حملت الفيلم الجديد بتاعه، تتفرجي معايا عليه.


جذبت سيرا الغطاء والقت حقيبتها وهي تقول:


-ايوه طبعًا، احسن ما اروح لحفلة كل يوم اللي في البيت.


                                 ****

أوقف "يزن" سيارته أمام منزله بعد أنهى عمله، وقرر العودة للمنزل لقضاء وقت لطيف مع أطفال سليم وعائلته والانسجام معهم أكثر، مقررًا التغاضي عن أفكاره الطائشة بالسهر مع صديقاته الفتيات، فلا زال مُصرًا على قراره بالالتزام والابتعاد عن تلك البؤرة التي باتت تستنفذ طاقته وتهلك مشاعره، وقبل أن يغادر سيارته أعلن هاتفه عن وصول رسالة، فأخرجه من جيب سرواله وقرأ الرسالة بصوت مرتفع وانعقاد حاجبيه يزداد والقلق يقفز من عينيه.


"اهرب بسرعة، سليم مستنيك والشر بيطق من عنيه" 


همس لنفسه بتعجب:


-هو أنا عملت أيه؟!


فكانت الرسالة الثانية التي أتت للتو هي الإجابة على سؤاله من قِبل أخيه زيدان أيضًا.


"مين دي يا كلب اللي بتقنعها تتجوزها عُرفي، ده أنت هيتعمل منك سندوتشات كفتة وبانية"

____________________



الفصل الرابع.


وضع هاتفه في جيب سرواله والضيق يحتل ملامحه بينما كان عقله يعمل بجهد لفك شفرات تلك الرسائل معتقدًا أنها مجرد مُزحة من طرف "زيدان".

ترك سيارته وتوجه صوب منزله، ولم يضع في خاطره اعتقاد واحد أن عائلته تتآكل بنيران سليم المتوجهة، مد مفاتيحه كي يفتح الباب ولكنه فوجئ بزيدان يفتحه، يهمس بصوت يملأه الغل:


-أنت اهبل يالا أنا مش قايلك ماتجيش.


تشدق ساخرًا وهو يقول:


-ماجيش ليه؟! أنا ماعملتش حاجة غلط.


-نهارك منيل بستين نيلة على دماغك، ده كله يا جاحد وماعملتش حاجة، امال لما هتعمل هتجيب البت بعيل صغير.


انفجر الغيظ فوق ملامحه تزامنًا مع انفعاله:


-بقولك أيه أنا مش ناقصك على المسا، بت مين وعيل أيه؟!


لم تكن الإجابة من نصيب زيدان الذي كان على وشك التحدث، لكن تتطاير كلمات سليم الغاضبة جعله يتنحى جانبًا يسمح لتلك العاصفة بالهبوب في وجه يزن المصدوم مما يحدث:


-اوعى كده سيبه يبجح أنا عايزه يستمر على كده.


كالعادة اندفعت شمس تتلقف يده تحاول تهدئته بقولها الهادئ:


-اهدى يا سليم، احنا لازم نسمع منه.


مرر بصره فوق وجوه عائلته المترقبة باختلاف انفعالهم مرورًا بوالدته التي أظهرت العتاب واللوم فانفجر بغيظ:


-هو أنا هفضل كتير أسال أنا عملت أيه للتحقيق ده؟!


أبعد سليم يد زوجته المتوترة بقوة ثم اندفع كالثور الهائج باتجاه أخيه الأصغر يشير إليه يأمره بقوة:


-اتفضل اطلع معايا فوق.


هز كتفيه ببرود استفزه كثيرًا وهو يقول:


-وماله اطلع.


اندفع سليم أولاً ثم تلاه يزن تاركًا الأخرين ينظرون لأثرهما بقلق، وحينما شعر سليم بصعود زيدان خلفهما توقف ناظرًا إليه باستفهام، فرد الآخر ببراءة زائفة:


-أنا أخوكم بردو، اجي معاكم عادي.


اشتدت ملامح سليم بحدة بينما زيدان انتظر قراره بشأنه حتى التفت وقرر السماح له بالحضور معهما.


مر وقت قصير عندما دخلوا وجلسوا ثلاثتهم في صمت أثار ريبة يزن المترقب لكل رد فعل يظهر من سليم، فقرر زيدان اجتياز جسر الصمت بسؤاله:


-يزن انت تعرف واحدة اسمها ليالي؟!


-اه.


إجابة سريعة جعلت من ابتسامة سليم الساخرة تحلق فوق شفتيه وهو يقول:


-بجح.


-شكرًا، بس ممكن اعرف بجح ليه؟!


سؤاله يحمل لمحة من العتاب والضيق، فانفجر زيدان بعدم تصديق وهو يستخدم نهج أخيه الأكبر في توبيخ ذلك المتبجح:


-أنت بارد يالا، بنسألك على واحدة جاية تشتكي لاخوك الكبير إنك بتقنعها تتجوزها عُرفي ومهددها ومش سايبها في حالها، وبتقول اه اعرفها بكل بساطة وبرود.


ارتفع حاجبيه باستنكار وهو يردف:


-اهدد أيه وجواز عُرفي أيه؟! أنا والله ما فاهم أي حاجة.


ضغط سليم فوق شفتيه بغيظ يشوبه التهديد:


-ماتحاولش تستغباني عشان ماتشوفش مني وش عمرك ما شوفته.


تجاهل تهديد سليم إليه باقتضاب الهب الوضع أكثر:


-اتكلموا معايا دوغري.


حدق به سليم بهياج وهو يقول:


-الدوغري ده أنا هكسر دماغك لو فكرت اتكلم معاك بيه.


احتقنت ملامحه من ردود سليم عليه فرد معاتبًا:


-سليم أنا مش عيل صغير عشان تكلمني كده.


استنكر الأخر بصوتٍ عالٍ ظهر جليًا بكلماته:


-أيه شوفت نفسك عليا، ده أنا اللي مربيك....


بادر بالجرأة حين قاطعه بعدما نفد صبره:


-مربيني على عيني وعلى راسي، بس أنا بردو كبرت وبقيت راجل....


لم يترك له سليم فرصة في الرد وذلك عندما بتر حديثه باحتدام بان بصوته:


-واللي كبر وبقى راجل مش يحترم نفسه واهله وسمعتهم.


رمقه بنظرة يشوبها عدم التصديق وهو يسأله:


-وأنا يعني خلاص أنا اللي هجبلكم العار؟!


-بافعالك اه يا محترم، واهو شايف انت وصلتنا لأيه.


إجابة لم يكن ينتظرها يزن إطلاقًا رغم علمه بشخصية سليم الحادة وأن ردود أفعاله لن تكن هينة ولكنه لم يعد لديه طاقة لإظهار عكس ما يكنه بصدره، فتهاوى بانفعاله ليقع ببئر الخذلان حين قال:


-أنا ولا وصلتكم ولا بعملكم حاجة، وخلاص طالما أنا هبوظ سمعتكم اتبروا مني.


القى زيدان حبال الصمت الملتفة حول لسانه حين استنكر قائلاً:


-نتبرى من مين يا مجنون؟! ما تعقل كلامك.


نهض مقررًا إنهاء الحديث واكتفى بالسلبيات التي واجهها بعيني سليم:


-اعقلوا انتوا تصرفاتكوا معايا، أنتوا لازم تعرفوا أني كبرت وماينفعش تهزوقني كده قدام مراتك أنت وهو.


بان الاستهجان على وجه سليم وهو يسأل زيدان المصدوم من رد أخيه الأصغر بعدما رفع حجاب التقدير الذي طالما كان يحاول الحفاظ عليه وخاصةً مع سليم:


-هو دي عليا أنا؟!


حمحم بخشونة وهو يجيب مشيرًا بلامبالاة نحو يزن الواقف يتابع حديثهما بعدم رضا:


-لا عليا، فكك منه ده عيل أهبل.


زفر يزن بحنق ولكز زيدان بكتفه والغيظ يبتلع بقايا صبره:


-أيه اهبل دي، احترمني يا عم.


احتد الوضع أكثر حين نهض سليم يدفع يده بقوة وخشونة:


-أيه هتضربه قدامي، شكلك عايز تتظبط!


-ماتتعبش نفسك معايا، أنا سايبهلكم وماشي.


ترك زيدان مقعده وحاول الإمساك به، لكنه دفع يده بقوة وهو يردد بصوت خشن عالي يغمره الاستنكار:


-رايح في ستين داهية تاخدني، عشان ابعد عنكم العار!


ضرب زيدان كف بآخر وهو يقول:


-الواد ده اتجنن ولا أيه، ده عمره ما عمل كده.


مسح سليم فوق وجهه عدة مرات بغضبٍ، وصوت أنفاسه المهتاجة اقلقت زيدان عليه مما جعله يسأله بتوتر:


-انت كويس؟!


مرت ثواني بسيطة قبل أن يجيب باقتضاب:


-شوف رايح فين من غير ما تحسسه إنك بتراقبه.


-هيروح للبت ليالي أكيد.


رفع سليم حاجبيه بتعجب، فأكد زيدان عليه بثقة:


-اه والله، يزن مش هيسيبها إلا لما يثبتلنا إننا غلط وظلمناه.


-يا سلام تعرفه للدرجادي؟!


سأله سليم بسخرية مبطنة، فأجاب الآخر بهدوء:


-اكتر من نفسي، زي ما أنا عارف ومتأكد إنك مش مصدق البت دي وحبيت تعمل الحوار ده عشان تعلمه الأدب.


غفل سليم عن حالة الغضب المسيطرة عليه، وقال بمزاح ساخر:


-مكنتش مقتنع إنك تنفع تبقى ظابط، بس بدأت احس إنك ممكن تنفع.


-شهادتك دي عزيزة عليا جدًا، أنا على ما استنى انبهارك بيا هكون طلعت معاش!


كان يردد كلماته بضحكة ساخمة، لكن دخول شمس قطع حديثهما وخاصةً حين لاحظ زيدان تأجج الغضب بوجهها فاضطر للانسحاب تاركًا لها المساحة في معاتبة زوجها واعلانها عدم رضاها عما فعله، بالفعل اندفعت شمس تلقي لومها عليه فور اغلاق زيدان للباب الشقة خلفه:


-اللي حصل ده ميرضيش ربنا.


في العادي كان سيتركها ويدخل غرفته معلنًا رفضه لمناقشتها ولكنه كان بحاجة أكبر لإخراج تلك الشحنات السلبية  المحتلة صدره في صورة نقاش:


-وهو يرضي ربنا اللي عمله وبيعمله؟!


ضمت شفتيها بضيق وعدم رضا:


-يا سليم اسمع منه واساله ماتصدرش حكمك وتخليه يمشي زعلان ويلم هدومه.


لاحت ابتسامة ساخرة فوق شفتيه وهو يواجهها بتهكم طال صوته الخشن:


-اسمع منه هو بيقنعها بالجواز العرفي ليه ولا اسمع منه هو كان بيهددها ليه؟!


وقبل أن تتلفظ بحرف كان يردف بسخرية أكبر:


-تصدقي يمكن فعلاً يكون له ظروف خليته يعمل كده.


-يعمل أيه؟! انت مصدق بذمتك إن يزن يعمل كده، هو اه له علاقات بس كلها سطحية ماعتقدش أنه ممكن يتعدى حدوده.


لمعت عيناه بوميض غامض وهو يقول باستهجان:


-في تبرير كمان؟! مستني اسمع، ما انتي عاجبك اللي بيعمله الباشا.


-لا مش عاجبني، بس يعني احنا ممكن نعتبر اللي فيه حالة خاصة وعامله على الأساس ده.


أردفت بهدوء ينافي القلق المكتسح على ساحة مشاعرها.


-حالة خاصة! 


كررها خلفها بضحكة قاتمة قبل أن يهز رأسه ساخطًا:


-الحالة الخاصة دي أنا هخرجه منها بعون الله، أنا داخل أتنيل أنام، لو عايزة تكملي دفاع عنه كمليه مع نفسك.


تركها ودخل غرفته بخطوات واسعة، محاولاً ضبط نفسه وإنقاذ روحه من تلك الهالة السوداء المحيطة به، متجاهلاً شعوره بالقلق نحو أخيه الأصغر ولكنه كان بحاجة للتعامل معه بتلك الصورة القاسية وخاصةً بعد زيارة تلك الفتاة له الليلة قبل أن يغلق المحل، فلاحت زيارتها مجددًا على عقله يتذكر بها بكائها وانهيارها له.

                                **

قبل عدة ساعات...

أمر سليم العاملين بغلق المحل، وبدأ هو في إدخال الملفات الهامة في الخزانة الحديدية، ولكن دخول فتاة في العشرينات من عمرها، تقبض فوق حقيبتها بقوة بينما كانت دموعها تتهاوى فوق وجهها بغزارة وصوت نحيبها جذب أنظار العاملين.


-في أيه، مين....


وقبل أن يُكمل سليم سؤاله، سارعت هي بالإجابة وصوتها ينغمس في نهر الانهيار:


-أنا في عرضك يا سليم باشا.


أخفى شعوره بالتوتر مشيرًا إليها بالجلوس ولم يعرف لِمَ شعر أن الأمر يخص يزن، فأمر العاملين بالخروج من المحل، حول انتباهه بالكامل إليها قائلاً:


-اقدر اساعدك بأيه؟!


-بإنك تنقذني من يزن أخوك.


إجابة أكدت ظنونه، فتمسك بقناع الهدوء وهو يسألها بخشونة:


-ماله يزن وعمل فيكي أيه؟!


مسحت دموعها واستجمعت شجاعتها وهي تخرج هاتفها تضعه بين قبضتها، مستغلة انتباهه ولمعة عيناه بالقلق:


-يزن بيحاول يبتزني بالصور اللي كنت غلطت في مرة وبعتهاله، وعايزني أوافق إني...


صمتت تبكي مرة أخرى، وهي تردف بصوت مبحوح من شدة بكائها الحار:


-أني....أنا عارفة إني غلطت عشان بعتله صوري، بس أنا وثقت فيه، كنت بحسبه بيحبني، بس طلع...


صمتت تستطلع ردود افعاله على حديثها،  فوجدته يرمقها بنظرة فارغة، وصوته يدخل في كنف الغموض:


-عايز منك إيه، قولي على طول؟!


فشلت في تحديد مدى تعاطفه معها، فألقت ما في جعبتها مباشرةً ومن بعدها عادت لنحيبها من جديد:


-عايز يتجوزني عُرفي.


-أيه اللي يثبت كده؟! 


فتحت هاتفها سريعًا وكأنها كانت على علم بسؤاله مما أثار الشك لدى سليم ولكنه ظل على نفس قناع الهدوء رغم الغليان الذي كان يشعر به، ومرر بصره بين بعض الرسائل المُرسلة من قبل أخيه على برنامج " الواتساب" تحمل تهديدات عديدة لها وبعض من الألفاظ البذيئة.

هز رأسه بحركة تلقائية ورده كان طبيعي لعلمه بمدى شخصية أخيه وتربيته:


-استحالة، يزن مايعملش كده أبدًا.


لاحظ انقباض أصابعها فوق حقيبتها الموضوعة فوق ساقيها، وكأنها تستدعي بعض من الهدوء بعدما أصابها توتر للحظات.


-هو أيه اللي مايعملش كده، يزن علاقاته كتير بالبنات.


استنكار ناري طاف فوق ملامحه وهو يقول:


-ما أنا عارف! وعارف بردو حدوده، استحالة اخويا يعمل كده.


فقدت النهج التي كانت تسير وفقه، فقالت بغضب عارم:


-هو كان شيخ السجادة وأنا ماعرفش، طالما بقى الذوق مانفعش معاكم، عليا وعلى أعدائي وربي لأفضحكم في البلد كلها.


ظل على نفس وتيرة الهدوء خاصته، بينما هي انقشع عنها غطاء الضعف والانهيار وباتت أكثر توهج وغضب وهي تغادر المكان تُلقي أخر تهديدتها:


-واقسم بالله ما هسيبكم وهفضحكم.


وقبل أن تغادر القت نظرة عليه، فوجدته على نفس وضعية جلوسه المغرورة، والعنجهية تملئ نظراته حتى أنه فاجئها حين أشار إليها بالوداع وكأن ما فعلته وقالته لم يأثر به أو يحركه للتوسل إليها كما كانت تتوقع.

                                  **

عاد من شروده القصير وهو يزفر بقوة، ويده تلقائيًا كانت تمسح فوق خصلات شعره تعيده للخلف بعد أن كان مبعثرًا فوق جبهته، لا زال يقاوم شعوره بالقلق على يزن رغم أنه قد قرر السير على نفس المنوال كي ينقذ أخيه من وحل علاقاته مع الفتيات.

                             ****

في إحدى المناطق الراقية...وفي إحدى الابراج السكانية الشاهقة، وتحديدًا في شقة يبدو على قاطنيها الثراء..اندفعت ليالي تجلس فوق الكرسي المقابل للأريكة التي تجلس فوق والدتها سيدة المجتمع "نسرين" هانم:


-ابنك جايب اللوم عليا، وأنا نفذت كل اللي قاله بالحرف.


القى أخيها "مصطفى" إحدى التحف فوق الأرضية بعصبية:


-أنا قولتلك يا غبية تهددي اخوه؟! تهددي سليم الشعراوي! انتي عبيطة يا بت.


زار السخط معالم وجهها وهي تواجهه:


-مش انت اللي قولت في الخطة إن اهددهم؟


-يا غبية مكنش وقته خالص، كنتي اكسبي تعاطفه الاول معانا.


بان الاستياء بعيني والدتها وهي تحاول إنهاء حالة الجدال القائمة بينهما:


-خلاص بطلوا دوشة، أنا دماغي مصدعة وصدعت أكتر بعد ما كنت حاطة أمل على الحوار ده وخلاص طلع فشنك.


رمقتها "ليالي" بضيق شديد، فوالدتها لم تشعر بالقلق ولو لذرة واحدة عليها، كل ما يشغلها هو المبلغ المالي التي كانت ستجنيه من عائلة الشعراوي، انتبهت ليالي على صوت مصطفى وهو يتحدث مع نفسه بنبرة خشنة قاسية:


-انتي واحدة غبية يا ليالي، مجرد غبية بوظتي كل اللي خططتله، وراحت الفلوس...وأنا عايز فلوس دي اتصرفي ماليش فيه.


لم يشعر بنفسه سوى وهو يحك أنفه بقوه، وعيناه الباهتة تتوهج بنيران الغضب والحقد نحو أخته التي أفسدت خطته في كسب المال الكثير كي يغطي احتياجهم تلك الفترة بعدما عانوا من القحط واضطروا لبيع بعض من قطع الاثاث بالمنزل، ارتعشت شفتاه الشاحبة وأصبحت بيضاء رغم أن لسانه انفلت بوابل من الشتائم عندما شعر بحاجته لجرعة كبيرة  يسد بها جوعه من الادمان بعدما أصبح على شفا الانهيار!


-كلكم مش همكوا إلا نفسكم، لكن أنا محدش فكر فيا وفي اللي هيحصلي.


تجاهلت والدتها قولها وسألتها بنبرة تتعلق بأرجوحة الأمل:


-يعني انتي ماحستيش من ناحيته بأي تعاطف ناحيتك خالص؟


ضحكت ليالي ضحكة باهتة وهي تتذكر هيئة سليم:


-ده كان قاعد وكأني بقراله نشرة اخبار، كمية برود ماشوفتهاش، عشان كده استفزني واتعصبت وهددته.


-غبية، لازم نشوف حل تاني.


تفوه بها مصطفى وهو يشدد فوق خصلات شعره بقوة، بينما هز ساقيه بتوتر محاولاً إيجاد حلول أخرى ولكن ليالي انفجرت غاضبة:


-بقولكم أيه فككم مني خالص، أنا هاختفي عن الانظار ومن بكرة هسافر السخنة اختفي عند حد من صحابي، الناس دي مش هتسيبني.


اندفع مصطفى نحوها يقبض فوق خصلات شعرها القصيرة بغل:


-بت انتي أنا مش عايز قرف، هتكملي اللي قولتلك عليه، العيلة دي على قلبها فلوس زي الرز ودي فرصتنا الوحيدة.


-فرصتك الوحيدة عشان تاخد حقي تشتري بيه القرف اللي بتشربه، الكيميا لحست دماغك.


هتفت بغل مماثل وهو تواجهه رغم شعورها بالخوف منه، فأنت بألم حين قبض أكثر فوق خصلات شعرها وأعادها للخلف بقوة:


-دماغي دي يا حيوانة هي اللي بتخططلك مع الشباب اللي بتكلميهم عشان تكسبي من وراهم فلوس تعرف تعيشك.


-تعيشك انت يا فاشل يا مدمن.


طفح الكيل بها، فردت بعنفوان عليه متجاهلة خوفها الذي تضاعف حين انهال عليها بالضرب بقسوة متجاهلاً صراخها ومحاولاتها للإفلات من قبضته، إلا أن والدتها تدخلت بالوقت المناسب رغم برودها:


-اهدى يا مصطفى العصبية مش حل، احنا لازم نفكر صح، وان شاء الله ليالي هتعقل وتكمل اللي هتقولها عليه.


ثم ربتت فوق رأس ليالي الباكية تتلقفها بين أحضانها بحنو زائف:


-مش كده يا ليالي هتسمعي الكلام.


ابعدتها ليالي بقسوة وهي تنظر لهما بكره وسخط:


-ربنا يخلصني منكم، داهية تقرفكم.


أنهت حديثها ثم انسحبت نحو غرفتها، تختلي بنفسها مقررة تجهيز حقيبتها للفرار غدًا والمكوث مع إحدى صديقاتها متمنية أن يمر فعلتها مرور الكرام على يزن الشعراوي.


-مكنش المفروض اسمع كلام المدمن ده، طمعي هيوديني في داهية.

                                ****

خلعت يسر حجابها بإرهاق وهي تجلس فوق فراشها، تريح جسدها بعد يوم طويل قضته مع نوح وابنتهما "لينا" منذ الصباح حتى عودتهما مساءًا وهو يحمل لينا غافية بتعب بعدما أفرغت طاقتها الطفولية في اللعب.

مرت دقائق ولم يظهر نوح بالغرفة، قررت البحث عنه عندما طال غيابه، لم تجده بالصالة، فاستمعت لصوته داخل المطبخ، يبدو أنه يتحدث مع أحد بالهاتف، وقفت على عتبة المطبخ صامتة تستمع لضحكه مع إحدى مساعداته بالمركز الطبي الخاص به:


-يا قمر خلاص، مكنش يوم قفلت فيه التليفون، مش يمكن برتاح من زنكم.


صمت يستمع لحديثها وابتسامته لا زالت تتعلق بشفتيه رغم علمه بوجود يسر ورؤيته لملامحها الغاضبة فقال:

 

-لا خلاص صدقيني مش هغيب فجأة كده وهبلغك قبلها، ظبطي بس انتي المواعيد بكرة.


استمر بالحديث معها وكأنه لم يفعل شيئًا إطلاقًا، مرت عدة دقائق أخرى ثم أغلق الاتصال ووضع الهاتف بجيب سرواله وعاد لِمَ يفعله بوضع قطع الجبن بالخبز:


-أيه يا حبيبتي واقفة ساكتة ليه؟


نظرت في ساعة يدها والاستنكار يغلف صوتها:


-بتفرج على جوزي وهو بيكلم المساعدة بتاعته الساعة ٢ بليل.


توسعت ابتسامته وهو يقول بنبرة هادئة:


-شغلي يا يسر، انتي ناسية إن أنا دكتور.


-يا خبر ازاي انسى فعلاً، إنك دكتور والحالات عندك حرجة جدًا لدرجة إن السكرتيرة بتتصل تبلغك.


سخريتها لم تعجبه، فاستمر على نهج بروده:


-طيب ما هو فعلاً ده اللي حصل؟!


توسعت عيناها بتهكم والاحباط يحلق بصوتها:


-لا ماتقوليش، أيه واحدة نسيت ولخبطت وجبة الغدا مكان العشا، ولا واحدة نسيت وشربت بيبسي، مش ده شغلك بردو! ولا يمكن انت وحشتها وغيابك أثر فيها.


رغم الاستهزاء الواضح بنبرتها واحمرار وجهها بانفعال ضاري إلا أنه عندما مر من جانبها توقف وهمس بنبرة أشعلت فتيل غيظها:


-أنا غيابي يأثر في أي حد.


ثم تركها وقضم من الخبز باستمتاع تاركًا إياها تستشيط بغضب والدموع تتجمع بمقلتيها وهي تهمس باستياء:


-هو ليه لازم يبوظلي كل لحظاتي الحلوة.


انتفضت بفزع حين عاد وهمس بجانب أذنها بمزاح:


-والله ما حد مدمرلنا لحظاتنا الحلوة غيرك يا نكدية.


التفتت إليه تسأله بعدم تصديق:


-انت ازاي قادر تقف تهزر وتضحك وأنا زعلانة؟!


أشار نحو نفسه ببراءة مخادعة، مجيبًا بمراوغة:


-أنا زعلتك ولا انتي زعلتي لوحدك.


اشتبكت نظراتهما باختلاف مشاعرهما في تلك اللحظة وواجهته بنفس نبرة القهر التي بات يكرهها بصوتها:


-نوح هو انت ليه مابتحبنيش؟!


ابتسم ساخرًا وهو يجيب بلمحة من الضيق:


-هو في حد جايبني لورا غير حبك ده!


أشارت إليه بعدم رضا وهي تسأله مجددًا:


-انت كده بتحبني يعني؟!


حاول دفن بوادر غضبه ورد بهدوء زائف، متمنيًا أن تشعر بصدق مشاعره ولو لمرة واحدة: 


-انتي عارفة كويس أنا لو مابحبكيش مش هسيبك لحظة على ذمتي ولا هستحمل مرمطتك فيا.


هزت رأسها بعدم تصديق وهي تواجهه بحرقة:


-انت ازاي قادر كده تقلب الطرابيزة عليا؟ وفي الأخر بطلع أنا اللي غلطانة.


انفلت لجام غضبه وصاح مستنكرًا:


-يعني اعمل ايه اكتر من اللي بعمله، قفلت تليفوني وسيبت العيادة والحالات والشغل اللي في المعمل، وخرجتكم وقضيت معاكم...


قطعت حديثه بانفعال لم تعد قادرة على تحجيمه:


-انت بتعمل كده وكأنها جمايل، مع إنها المفروض من واجباتك.


عادت نبرته تتأرجح بأرجوحة الهدوء محاولاً امتصاص غضبها:


-مختلفناش يا يسر يا حبيبتي، واجباتي صح وانتي من واجباتك بردو تبطلي تتخانقي معايا، وتخليني مبسوط إني قاعد معاكي.


زُج عقلها في غيابة الجب ولم تعد تدرك المقصد من حديثه سوى أن الخطأ يقع فوق عاتقها، ففشلت التمسك بعلاقتهما وانفجرت به حانقة:


-انت اللي بوظت اسعد يوم في حياتي.


-أنا مني لله، عشان ترتاحي، دي عيشة تقصف العمر اقسم بالله.


القى الخبز من يده فوق طاولة الطعام الصغيرة وجذب مفاتيحه وهاتفه وقرر مغادرة الشقة بعدما فشلت محاولاته في تحملها وكالعادة لم يرى نفسه خاطئًا بل بالعكس هي دومًا من تهدد مأمنهما.

                            *****

وصل "نوح" أسفل البناية التي يسكن بها عائلته، فلم تكن بعيدة كثيرًا عن الحي الذي يسكن به.

أخرج أنفاسه ببطئ محاولاً ضبط أنفاسه وقرر الدخول لشقة عائلته متظاهرًا بحاجته للاطمئنان عليهم بعدما أغلق هاتفه يوم كامل، دخل بهدوء كي لا يوقظ أفراد عائلته، حيث أعطته عقارب الساعة إشارة أن مجيئه في هذا الوقت غير مناسب بالمرة، وكما توقع وجد والدته تتحدث بالهاتف مع اخته المتزوجة، وعندما رأته رحبت به على الفور وأغلقت الاتصال:


-نوح، ازيك يا حبيبي؟


حمحم بخشونة وابتسم ابتسامة بسيطة وهو يجيب:


-الحمد لله يا ست الكل اخبارك أيه؟


جلس بجانبها وهو يربت فوق ساقها بيد وباليد الأخرى أمسك كفها وقبل باطنه، فسمعها تسأله بنبرة غلب عليها الفضول:


-أيه جابك بليل كده يا حبيبي؟


هز كتفيه وهو يعتدل بجلسته أكثر بينما أخفى بصوته نبرة الضيق والإحباط:


-عادي قولت أجي اطمن عليكم.


توسعت ابتسامتها وهي تقول بحماس ينافي احتياجه للاحتواء:


-جيت في وقتك، اختك لميا كانت محتاجة منك مبلغ بسيط كده تحجز به هي وعيالها وتنزلنا اجازة.


ابتسامة مقتضبة بسيطة اكتفى بها وهو يردف:


-طبعًا وماله هحولها الصبح اللي هي عايزاه.


ضغطت فوق يده واستمرت بمطالبها التي لن تنتهي طالما هو موجود معها:


-وبنت اخوك ياسر هتولد اخر الاسبوع ويعني المصاريف كتير...


قطع حديثها بتفهم يستكمل عنها:


-حاضر خليها تعتبر الولادة ومصاريف المولود على حسابي ماتشلش هم.


-اخر حاجة بقى ومش هطلب منك حاجة، لا حاجتين مش حاجة معلش، اختك الصغيرة عيد ميلادها كمان اسبوعين ابقى هاتلها حاجة دهب تفرحها، واخوك فايز هيدخل في مشروع كان بيكلمني عنه ابقى اعرض عليه تساعده بأي حاجة اهو تبينله إنك فاكره وحاسس بيه.


ومَن يشعر به؟، ومَن يلقي عليه همومه التي أصبحت كالثقل فوق عاتقيه مهما حاول تجاهلها؟، الجميع يراه المصباح السحري لتحقيق آمالهم وأولهم والدته التي لم يخطر ببالها أن مجيئه في هذا الوقت ليس سوى مجرد هروب من سجن زواجه المظلم، ورغم أنه كان يحاول إظهار عكس ما يكنه بصدره إلا أنه كان يتمنى مجرد ضغط بسيط عليه من قبل والدته وينفجر مخرجًا جميع صراعاته النفسية، وكالعادة غادر منزل والدته كالمحروم فاقدًا سُبل الحنان والاحتواء كما أضاعها في علاقته مع زوجته!

                               ****

الساعة الخامسة فجرًا.

طرق "نوح" باب المعرض الرئيسي عدة طرقات قبل أن يفتح "يزن" مقتضب الجبين مشيرًا إليه بالدخول، فدخل الآخر وهو يضحك بصوت عالي:


-مصدقتش نفسي طردوك بجد؟


القى يزن نحوه صندوق صغير بغيظ:


-محدش طردني أنا اللي سيبتلهم البيت، وبعدين الحال من بعضه ما أنت كمان مطرود.


القى "نوح" بجسده فوق أريكة كبيرة وهو يردف بحنق:


-بس عشان جسمي مهدود ونفسي انام ومش لاقي حتة أنام فيها، أنا لازم اشتريلي شقة عشان كل ما اتخانق مع يسر اروح فيها.


رمقه يزن بنظرة فارغة وصوته يختنق رغم مزاحه الساخر:


-لا وانت الصادق عشان تحقق حلمك وتتجوز الجوازة التانية.


لانت ملامحه بابتسامة خبيثة وهو يجاهد الضحك على هيئة يزن الغاضبة:


-مش أحسن لما اقنع واحدة واتجوزها عُرفي وتيجي تستنجد بأخويا الكبير.


مسح يزن فوق خصلات شعره عدة مرات بغضب في حركة تلقائية تتلبسه حين يكون غاضبًا أو متوترًا:


-بنت ال****، أنا تعمل فيا كده.


-أخرة قلبك الرهيف مع البنات، شوفت استغلوك ازاي؟


واصل سخريته ولم يدرك أن يزن كان يحارب أفكاره الشيطانية لقتل تلك البربرية بعدما تجرأت عليه:


-اللي مضايقني إن اصلاً ماكملتش معاها كتير، الجرأة دي جاتلها منين، زيدان باعتلي رسايل وحكالي اللي عملته مع سليم، دي المتخلفة مفبركة محادثات بيني وبينها، وبنت العبيطة ماتعرفش إن ده مش أسلوبي ولا طريقتي.


فرك نوح وجهه بقوة، يجاهد جنود النوم التي بدأت تحتل مقلتيه:


-طيب وانت زعلان ومقموص ليه من سليم اخوك، ما هو عنده حق بردو.


-مش كل مرة هتحمل طريقته معايا وتهزيقه فيا، أنا كبرت ولازم يقتنع بكده يا نوح، ومش كل مرة مضطر اظهر عكس اللي جوايا.


احتدت ملامحه وهو ينهل من بئر مشاعره الدفينة يظهر ولو جزء بسيط مما يعانيه دومًا في علاقته الأخوية مع سليم.


-معلش يعني بس الموضوع مش سهل، وسليم بردو له حق عليك يا ابني ده هو اللي مربيك، هو ابوك الله يرحمه كان يعرف عنك حاجة لازم تعذره، وبعدين انت سايب المصيبة اللي انت فيها وماسك في سليم وطريقته معاك، ما تشوف البت دي وعملت ليه كده معاك طالما أنت ماتكلمتش معاها كتير ونفضتلها بسرعة.


لأول مرة تحولت ملامحه المشاكسة لأخرى قاتمة يملأها الغموض والانتقام:


-وأنا هسيبها في حالها، أنا مستني حد هيجبلي عنها كل حاجة وليه عملت كده.


رغم أن الفضول هاجم عقله المستسلم للنوم إلا أنه هتف قبل أن يغمض عينيه:


-أكيد بنت صاحبتها، عارفك وحافظك.


-آآ...فعلاً...


ابتلع باقي حديثه وهو ينظر لصديقه الغارق في سُباته بغيظ:


-هو أنا جايبك يا بارد عشان تنام، منك لله، يعني يوم ما احتاج افضفض مع حد مالقيش.

                                ****

هبط "زيدان" درجات السلم وهو يقوم بتعديل ياقة قميصه، مستعدًا للذهاب لعمله، ولكنه فوجئ بمليكة تقف على أعتاب شقة والدته تنظر له باستغراب:


-زيدان رايح فين؟


اقترب منها مقبلاً وجنتيها بحب وبصوت هادئ لطيف أخبرها:


-هكون رايح فين، شغلي يا قلبي.


رمشت عدة مرات بتعجب متسائلة بقلق:


-شغلك؟! طيب ويزن ماطمنتش عليه؟ ماما هتموت من القلق.


تنهد بعمق قبل أن يجيب ببساطة:


-لا طمنيها هو في الأجانص بتاعه، ويا ريت يعني ماتطلعيش تباتي فوق خليكي مع ماما النهاردة.


ربتت فوق يده وابتسامتها الباهتة ترتسم فوق شفتيها:


-لا ماتقلقش أنا كنت ناوية اعمل كده لو كنت هتروح شغلك.


كان ينوي سرقة قبلة بسيطة منها تعطيه جرعة طاقة يستعيد بها نشاطه المتبخر بسبب ما حدث مع ذلك المشاغب ولكنه انتفض مصدومًا من وجود والدته خلف مليكة تتحدث بلوم شديد:


-رايق انت وسايب اخوك يلم هدومه وساب البيت.


زم شفتيه بضيق قبل أن يتسائل باستنكار:


-هو أنا اللي طردته مش هو اللي دمه فار وقرر يسيب البيت.


-كنتوا روحوا وراه أنت واخوك الكبير عمر المشاكل ما كانت تتحل بالطريقة دي.


القت عتابها مجددًا في وجهه وحده، مما جعله يعلن عن استفزازه:


-وبتقوليلي أنا ليه، اتصلي على سليم وأنا اهو مستنيه لو نزل هروح معاه.


رمقته بنظرة غير راضية حانقة معلنة عن صمتها وعدم رضاها مكتفية بدفن اعتراضها عما حدث مع يزن كي لا تقع في دائرة الفراق عن سليم مجددًا، بعدما جاهدت في تحسين علاقتهما تلك الفترة السابقة، عازمة على التحدث مع شمس، فهي مفتاح الوصول لعقل سليم ولم تعلم أنهما يتشاحنان بشقتهما في تلك اللحظة.

                               ****

جذبت شمس الغطاء نحوها أكثر بحنق طفولي متلفظة ببعض الكلمات غير المفهومة بالنسبة له، فصاح بغلظة:


-بتبرطمي تقولي أيه؟


شهقت بصدمة وهي تعتدل بجلستها أكثر واضعه يدها فوق فمها معلنة عن صدمتها، عقد ما بين حاجبيه وحاول التفكير بما قاله فمن الواضح أنه تلفظ بشيء مهين ولكنه لم يتوصل بالمرة للأي شيء، سألها باستنكار طفيف:


-في أيه؟ أنا قولت حاجة غلط؟


أشارت نحو نفسها بعدم تصديق تسأله بحزن:


-بتبرطمي دي ليا أنا يا سليم؟


امتعض وجهه بعدم فهم وهو يقول:


-هي كلمة عيب ولا أيه؟


سالت دمعة حزينة فوق خدها، وصوتها الحزين يفاجئه بقولها:


-أنا مكنتش اتوقع أبدًا إنك تقولي كده، لدرجة دي مافرقش معاك مشاعري.


-مشاعرك؟


ردد خلفها باستهجان ثم استطرد محاولاً مراضتها رغم عدم فهمه سبب حزنها:


-حقك عليا، بس أنا يعني....


رفع حاجبيه حين وجدها تنهمر ببكاء حار تضع وجهها بين كفيها، اعتدل بجلسته يجذبها لأحضانه بقوة، يربت فوق ظهرها وخصلات شعرها الكثيفة، يغمرها بحنانه المفرط، مدللاً إياها وقد تحول كُليًا من شخصيته الحادة للأخرى تسعى لكسب رضاها:


-في أيه بس، أنا ماقصدش يا حبيبتي أي حاجة تهينك أو تزعلك.


هتفت من وسط بكائها وهي تضع ذراعيها حول خصره وكأنها تنتظر تلك اللحظة:


-أنت دايمًا كده مابتحبش ادخل بين اخواتك، مع أني بحبكم ومابستحملش عليكم حاجة، قلبت عليا عشان بقول رأيي مع إن المفروض مرايتك والمفروض اعرفك إنك غلطت لما اتصرفت كده مع يزن، وغلطت لما أحرجته قدامنا، بس حقك عليا أنا بعد كده مش هتكلم طالما مابتتقلبش مني أي حاجة، ومابتحبنيش، خلاص أنا عرفت مدى صلاحياتي عندك.


القت ما في جبعتها بمكر ولم يدرك سليم أنها حيلة أنثوية منها لعرض اخطائه الليلة، لقد نجحت في سجن ابتسامتها بين قبضان الحزن والعتاب، وصدقها هو فراح يرضيها بلطف:


-لا طبعًا انتي الوحيدة اللي في حياتي عندك صلاحيات لكل حاجة يا شمس، بس يعني أنا يمكن كنت مخنوق شوية من اللي حصل، حقك عليا.


قبلت خده بحنو ودفنت جسدها بين ذراعيه الكبيرين:


-خلاص يا حبيبي، طالما فهمت موقفي، وسمعتني أنا مش زعلانة منك خالص.


مد يده يمسح جانب وجهها برقة وعيناه تنير بوميض غامض حين بدأ عقله باستكشاف خطتها الخبيثة للإيقاع به فرد بهدوء اقلقها مشددًا فوق جسدها:


-أيه مش عايزة تقوليلي اتصل على يزن واطمن عليه؟ ولا كفاية اللي قولتيه ووصلتيه ليا.


سمحت للابتسامتها بالسراح بينما المشاكسة تداعب نبرتها الانثوية:


-لا كفاية كده، بس أنا عارفة إن قلبك طيب وكبير ومش هتسيب اخوك الصغير يسيب البيت وبكرة هتروحله تعرفه غلطه بينك وبينه وتصالحه.


-اصالحه؟!


كررها باستهجان، فردت بنعومة ماكرة:


-اه يا ابو قمر.


ضحك ضحكة صغيرة وهو يداعب أرنبة أنفها الحمراء:


-اهو بعد ابو قمر دي أنا هروح أراضيه دلوقتي.


عادت تحتضنه من جديد تغرق نفسها في بحر حنانه ودفئه:


-ربنا يخليك لينا كلنا ومانتحرمش من وجودك.


رغم بساطة كلماتها إلا أنها كانت كالقطرة الباردة أثلجت بها صدره المشحون بنيران القلق والغضب بسبب تصرفات أخيه الطائشة، ستظل هي بوابته للهدوء وراحة البال بتصرفاتها الحنونة ودفئ خصالها اللطيفة.

                             *****

صباحًا..


اوقف "يزن" سيارته أمام البناية التي تقطن بها "ليالي" ثم غادرها وهو يتحدث بالهاتف مع إحدى صديقاته:


-خلاص يا بيبي، أنا وصلت عند بيتها، ماتحرمش منك ومن معلوماتك.


-أنا عنيا ليك يا زيزو، اللي يزعلك يزعلنا يا قلبي، ابقى طمني عليك بعد ما تخلص.

صح

ضحك ضحكة سوداء وهو يقول بغل:


-ابقي اطمني عليها هي.


-لا هي تتحرق ماتفرقش، دول البنات اتجننوا من اللي هببتوا بس تستاهل بقى.


-حبايب قلبي أنتي والبنات سلميلي عليهم.


اغلق الاتصال معها حين وصل أمام باب شقتها ثم طرق الباب عدة طرقات وما هي إلا ثواني حتى فتحت ليالي وحقيبة سفر كبيرة بجانبها، فعبرت الصدمة فوق وجهها غير مصدقة سرعة مجيئه والوصول إليها:


-أيه؟


-النور جه.

__________________

تكملة الرواية من هناااااااا


جاري كتابة الفصل الجديد  للروايه حصريا لقصر الروايات اترك تعليق ليصلك كل جديد أو عاود زيارتنا الليله


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع