القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 رواية غناء الروح الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)




رواية غناء الروح الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)



الفصل الخامس.

انتهت " ليالي" من وضع أشيائها في حقيبتها الكبيرة، ثم قامت بإغلاقها جيدًا قبل أن ترتدي سترتها العلوية، والعزم داخلها يشتد للفرار من براثن يزن الشعراوي قبل أن يصل إليها، فردد عقلها ساخرًا أن حماس البدايات المليء بالانتصارات قد اختفى سريعًا حين أطرقت النهاية مطرقتها الحادة لتسحق ما كانت تتمناه.


نظرت من نافذتها الكبيرة للسماء بلونها الصافي معلنة عن صباح مشرق إلا أن مزاجها يشوبه غيوم الخوف والقلق مما هو قادم، سرق رنين جرس الباب المتواصل انتباهها، فجرت حقيبتها الكبيرة خلفها بهدوء كي لا توقظ والدتها وأخيها، فتحت الباب بوجه عكر ولكنها فوجئت بيزن أمامها وابتسامة ساخرة سوداء تتعلق بفمه، تلفظت دون وعي وكأنها غير مصدقة ما تراه بعينيها:


-أيه؟


وضع يداه فوق الباب يدفعه قليلاً، يغلق عليها أي محاولة للفرار من أمامه وهو يردف بتهكم لاذع:


-النور جيه.


ارتجف صوتها وهي تتراجع خطوة وكأن وعيها سقط في بئر الخوف:


-يـ....يزن آآآننت.. 


-اهدي يا بيبي أيه اتخضيتي ليه كده؟


صوته الهادئ بلمحته الساخرة ضاعفت من توجسها، فتوقف عقلها عن التفكير:


-أنت أكيد فاهم غلط...


بتر حديثها وهو يهز رأسه بنفي بينما ملامحه اشتدت بقساوة غير معهودة منه:


-لا أنا مابفهمش غلط، طول عمري بفهم صح ونظرتي صح، من أول ما شوفتك يا ليالي وأنا قولت اكيد فيكي حاجة غلط، بس طلعتي اوقح من ما كنت اتخيل.


نجح في استفزازها فصاحت بتبجح:


-أنا ماسمحش تكلمني كده.


اخشوشنت نبرته بينما كانت عيناه تزجها  بسجون الغضب والقسوة:


-تسمحيلي! هو انتي ليكي عين تسمحي ولا ماتسمحيش، ده انتي عديتي ليفل البجاحة ووصلتي للوقاحة.


تراجعت عن خطاها وحاولت امتصاص غضبه، بإظهار أنوثتها ورقتها معتقدة أنها بذلك ستبدد غضبه فهتفت برجاء يغمره الدلال:


-طيب عشان خاطري وطي صوتك وتعال معايا أي كافية نتكلم بالهدوء.


رفع أحد حاجبيه متعجبًا والتهديد المنبعث من مقلتيه يضرب ظنونها في مقتل:


-طيب ما أنا هادي اهو، أيه شوفتيني رزعتك قلمين طيروكي من قدامي.


انهارت أساليبها الانثوية سريعًا قبل أن تصل لمرادها وخاصةً حين اندفعت بشراسة مصبوغة بالتحذير:


-ماتقدرش تلمسني، أنا اقدر اطلبلك الشرطة...


ترهيبها لم يجدِ بنفع بل انقلب السحر على الساحر وأمسك العصاة يجلدها بقساوة جعلتها تلتزم الصمت لفترة:


-الشرطة دي أنا لو عايز اجيبها فهجيبها لواحدة مزورة بترمي بلاها على الناس، أو مثلاً لأخوكي المدمن الصايع اللي خلاكي تعملي ده كله.


مط شفتيه بملل حين غرقت في بحور الصمت، فأشعل استفزازها أكثر حين صرح باستهزاء:


-أيه اتصدمتي، البنات صحابك طلعوا بيحبوكي اوي وحكولي كل حاجة.


انتشلت أخيرًا من صمتها وأردفت بنفاذ صبر:


-ولما هما  قالولك كل حاجة؟ جاي تعمل أيه؟

-اخد حقي؟


رد ببساطة أدهشتها، فتصنعت عدم الفهم:


-حقك؟! أيه هتضربني؟!


-لا أنا مابضربش بنات مابخدش حقي من بنت وخصوصا لو واحدة زيك ماتسواش حاجة.


قساوة رده جعلها تردف بغرور بعدما تعمد تحقيرها:


-غريبة مع إن ده مكنش كلامك لما شوفتني.


أعجبه لمحه الغرور الزائف المحتلة حدقتيها، فشعر بحاجته دهس كرامتها أكثر، اقترب خطوة أخرى واستكمل حديثه بهمس لاذع:


-وكملت معاكي ولا خلعت مش بقولك نظرتي فيك كانت في محلها، بيئة ماتناسبش بيئتي، كنت شايف فيكي وقحة صغيرة، بس الصراحة فاجئتيني وطلعتي...


صمت للحظة يمنع وصفها غير اللائق الذي انبثق بعقله فجأة، فقال بمكر مقصود:


-الوصف اللي هقوله ممكن يزعلك أكتر ما أنتي زعلانة.


لن تتحمل تحقيره لها أكثر من ذلك، فأعلنت عن استسلامها سريعًا بقولها الذي خرج بصعوبة منها:


-طيب خلاص أنا بتأسفلك وصدقني أنا مش هاجي جنبك تاني.


تأرجحت ملامحه من فوق جبل الهدوء الوهمي، ليسقط في بحر هائج بنبرة صوته الغاضبة:


-لاانتي ماتقدريش تيجي جنبي، هو انتي فاكرة أنا جاي اترجاكي انتي عبيطة ولا نسيتي نفسك، أنا يزن الشعراوي فوقي.


صاح "مصطفى" من خلفها بخشونة مخلوطة باهتزاز بسيط نتيجة لِمَ يتعاطاه:


-امال جاي ليه؟ مشرفنا بوجودك ليه لغاية البيت!


ضحك ضحكات ساخرة وهو يفتح ذراعيه مرحبًا بوجود مصطفى وكلماته المتهكمة تندفع من فوهة فمه كالقنابل:


-اهلاً بخبيتها، اهلاً بالمدمن، اللي بيبع اخته عشان مزاجه، بس الكلب ده محسبهاش صح، مقالكيش أن عيلة الشعراوي مابيدخلش عليها الحركات الخايبة دي.


كانت انفعالاته شحيحة للغاية نتيجة حاجته الشديدة لجرعته، فاضطر للاستخدام نفس أسلوب يزن الساخر: 


-ولما هي مدخلتش عليك عايز أيه؟!


ابعد يزن "ليالي" عن طريقه بلمسه يتخللها الاستحقار، قبل أن يندفع نحو أخيها بهجوم ضاري لم يتوقعه مصطفى قط:


-اخد حقي منك، اختك ماتلمزنيش دي ورقة محروقة، أما أنت لازم امسح اسمي من ذاكرتك خالص.


كانت معركة شبه محسومة لطرف يزن، فمالت كفة الميزان نحو يزن بجسده القوي والرياضي، حيث نجح في تسديد اللكمات والضربات العنيفة لمصطفى، أما الأخر ترنح وحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن يزن، لكنه فشل ووقع في عرين الأسد، مستسلمًا له وكأنه ينتظر الموت، وفي اعتقاده أن الموت بتلك الطريقة ما هو إلا مجرد موت رحيم يختلف عن النهاية القاسية التي ينتظرها في أي وقت بسبب ادمانه.


انتبه يزن ليد "ليالي" الموضوعة فوق كتفه تحاول إيقافه، أما عن والدتها فاحتضنت ابنها بخوف تصرخ باكية عما أصابه نتيجة لعنف يزن معه.


-يزن لو سمحت كفاية، كفاية.


-احنا ممكن نطلبلك الشرطة.


هتفت والدتها بشراسة وحقد انبثق من عينيها، فعدل يزن من قميصه وخصلات شعره، بينما صوته جاهد الهياج المفرط الذي تلبسه فخرج بنبرة غير مبالية:


-ما تطلبوها أنا عايزكم تطلبوها، اقولكم أنا قاعدلكم هنا اعمليلي شاي لغاية ماتيجي.


ثم جلس فوق أحد الكراسي، يضع ساق فوق الأخرى بغرور أدهش والدة ليالي واستفز الأخرى كثيرًا، أما مصطفى اكتفى بنظرات الغل والكره عما ناله على يد يزن:


-امال انتوا فاكرين أيه، مافكرتيش أن هجيبك انتي وعيلتك ولو روحتوا فين!


جاهدت  والدة ليالي كظم غيظها، فهتفت بنبرة منكسرة عكس الضجيج المكتسح لساحة مشاعرها من غل وحقد ليزن المتابع ردود أفعالها باهتمام:


-خلاص احنا أسفين وصدقني محدش من ليالي ومصطفي هيفكر فيك.


لم يظهر شفقته بل زاد في جلدهم بسوط لسانه الحاد:


-لا بالعكس أنا عايزهم يفكروا فيا ويفتكروا اللي عملتهم فيه ويفتكروا انهم ماقدروش ينفذوا خطتهم الخايبة.


لم يعطِ فرصة لأحد بالرد ونهض ينهي حديثه الناري بنصيحة مغموسة بالسخرية لوالدة ليالي المستشيطة بغضب:


-حافظي على سمعة بنتك شوية يا حجة وسيبك من سهراتك، ربيها شوية ينوبك ثواب.


قالها وغادر الشقة متبخترًا كالملك، وابتسامة النصر تتدلى من حافة شفتيه، بينما مزاجه قد رُفع عنه وشاح الغضب، متناسيًا تمامًا ما فعلته ليالي بحقه دون محاولته إثبات براءته أمام أخويه، فآخر همه محاولة كسب تعاطفهما معه!

                                  *****

في منزل سيرا كانت الأجواء مختلفة هذا الصباح، بداية من بحثها عن الجبن المفضل إليها مرورًا بمشاكستها لأطفال فريال وشاهندا، متعمدة تحذيرهم بعدم المساس بطعامها مرة أخرى، وصولاً بوجود "أبلة حكمت" وتوبيخها لسيرا بتعمد حين لمحت القلادة الذهبية الخاصة بها تقع أرضاً، فصاحت بغيظ:


-والله انتي حرام تلبسي دهب.


وضعت "شاهندا" الاطباق فوق المائدة الكبيرة، وهي تعلق ساخرة:


-ليه يا أبلة حكمت، لما سيرا متلبسش دهب مين يلبس! 


-ربنا يديكي يا اختي.


رمقتها "أبلة حكمت" بضيق قبل أن توجه حديثها لسيرا المتابعة لحديثهما:


-السلسلة دي هتقع منك، ماتلبيسهاش تاني.


وضعتها "سيرا" حول عنقها وهي تبتسم باستفزاز:


-ماتخافيش يا ابلة، هحافظ عليها، يعني هي هتضيع مني بعد السنين دي كلها.


ضيقت "حكمت" عيناها بغيظ، وهي تسألها:


-انتي بتعايرني يا سيرا، ده أنا...


تراجعت سيرا سريعًا وهي تجلس بجانبها تحاول مراضاتها:


-اعايرك ايه بس يا أبلة حكمت هو أنا ماعرفش أن كان عندك دهب يوزن ايدك دي وايدك دي وأنتي عشان بنت أصول بعتيهم لعمو "صافي" عشان يشتري شقة في التجمع.


استكملت " ابلة حكمت " الحديث بفخر:


-وانقل لمستوى أحسن أنا وولادي، مافضلش كده محلك سر.


مالت شاهندا نحو فريال تهمس لها بضحك:


-اقسم بالله تلاقي صافي جوزها هيتجوز في الشقة دي.


-مايقدرش دي ممضياه على وصل أمانة.


توسعت أعين "شاهندا" بصدمة بالغة وهي تهمس بعدم تصديق:


-احلفي بجد عملت كده.


اكدت فريال بهمس:


-اه والله ماما قالتلي وحلفتني ماقولش لحد.


وضعت شاهندا يدها فوق فمها وهي تهمس بسخرية:


-وأنا اللي كنت بفكر استلف منها خمس آلاف جنية.


-اوعي دي تمضيكي تبيعي كليتك قبل ما تديهملك.


-بتقولي ايه يا شاهندا انتي وفريال بصوت واطي.


صدح صوت " ابلة حكمت" بتبرم تسألهما بفضول، فمالت سيرا نحوها بشقاوة:


-تلاقيهم بيحسبوا الدهب اللي بعتيه لعمو صافي يعمل كام.


توسعت أعين "أبلة حكمت" بخوف متمتمه بخفوت:


-يالهوي الله أكبر من عينيهم، هيحسدوني وأنا غلبانة.


-أنتي هتستكيلهم يا ابلة حكمت ماتسيبهمش مع بعض وممكن كريمة تتلم عليهم ويعملوا عليكي حزب، وتلاتة على واحد حرام.


نهضت " أبلة حكمت" سريعًا تنضم لفريال وشاهندا اللاتي حاولا الفرار منها، كي لا ينشب شجار بينهم بينما تسللت "سيرا" كاللصة بعدما أضرمت شرارة الحرب بينهم، ارتدت حذائها الرياضي قبل أن تخرج من بناية منزلها، ثم خرجت للطريق تردف بحماس طفولي:


-هربت منيهم.


بعد دقائق صعدت الحافلة الكبيرة واتخذت من مقعد بالخلف مكانًا لها، أجرت عدة اتصالات بصديقاتها من بينهم "فاطمة" وأوصتها بالتحدث مع يزن بطل حديثهما الليلي الفترة الأخيرة، ومن بعدها حاولت الاتصال بحورية وكالعادة وجدته مغلق.


تركت الحافلة وعيناها تستعد لخوض رحلة صباحية للبحث عنه بمحيط المنطقة في لمحة سريعة وصفتها بالخبيثة بسرها ولكن اصابها الإحباط حين لم تجده موجود بالخارج أمام معرضه، فأردفت بخفوت:


-لمي نفسك يا سيرا يا قليلة الأدب، بدوري على مين؟


رفعت أنفها بشموخ وهي تخطو خطوات واسعة نحو البرج الذي يقبع به المركز الرياضي، ولم تلاحظ أن قلادتها الذهبية سقطت أرضًا.


على الجانب الطريق الأخر كان يزن يقف داخل معرضه يتابع الطريق وهو يتحدث بالهاتف مع نوح يُملي عليه ما حدث معه في منزل ليالي، جذب انظاره الشيء الذي سقط منها ولم يحدد ماهيته، فأغلق الاتصال مع صديقه وتوجه لموقع ذلك الشيء ولكنه قد سبقه طفل صغير حين أمسك قلادتها يقلبها بين يديه وعندما لاحظ وقوف يزن أمامه سأله ببراءة:


-دهب دي يا عمو؟


لمح يزن اسمها الموضوع في إطار ذهبي يتدلى من القلادة فابتسم بعبث وهو يقول:


-اه دي بتاعتي يا حبيبي هاتها.


تمسك بها الطفل وبان بعينيه الشراسة للدفاع عن أحقيته بها:


-انت اسمك سيرا يا عمو؟


-لا يا لمض، اسمي يزن، بس دي تخصني، هاتها ياض.


حاول أن يأخذها منه ولكن الطفل تشبث بها بعند:


-لا ماتخصكش، انت عايز تسرقها مني، وفاكرني اهبل.


اندهش يزن منه فقال بغيظ:


-انت طفل ياض، انت اكيد واحد كبير متخفي في جسم عيل صغير، هاتها عشان أنا ممكن اشدها منك واطلع اجري.


رمقه الطفل بنظرة يغمرها السخرية فظهر كأنه شاب كبير وهو يردد الكلمات بدهاء لم يناسب عمره:


-انت اكيد جواك حرامي في جسم واحد كبير.


اخشوشنت نبرة يزن، وازداد اتساع عينيه كتعبير بسيط منه لتخويف ذلك المتمرد:


-لا أنا جوايا مجرم صغير، وممكن اخطفك دلوقتي لو مجبتهاش.


عادت إمارات البراءة تحتل ملامحه فسأله ببعض من الخوف:


-هتخطفني؟!


اكمل يزن طريق التهديد الذي سلكه محاولاً اقتناص القلادة منه بأي شكل حتى لو اخترق قوانين الطفولة ببعض الحيل: 


-مش بس كده، ده أنا ممكن اوديك مكان....


قدمها له الطفل باستسلام وهو يرجوه بنبرة اوشكت على البكاء:


-خلاص يا عمو، ماتخطفنيش عشان خاطري، خدها اهي.


القاها بين يدي يزن ثم ركب بساط الهروب سريعًا مبتعدًا عن دائرة يزن بكل إمكانياته، بينما أردف يزن بخفوت والعبث يرسم خطوطه فوق صفحات وجهه:


-خد تعال، طيب اوريك هاخدك فين...


وضع القلادة بجيب سرواله، وهو يهز رأسه بتسلية:


-غبي كنت هفرجه على العربيات عندي.

                              *****


ظلت "يسر" في فراشها مفتقدة لحماسها، ولأي نشاط كانت ستُقدم عليه في هذا الصباح، سامحة لذكرياتها البائسة باكتساح ذهنها المشتعل بغضب وغيرة، غير قادرة على تخطي كلماته وأفعاله معها، فراح عقلها ينير لها طريق الانفصال عنه، كي تنقذ ما تبقى من شبابها، بعد أن سقطت في غيابة جب مظلم وتحولت من فتاة  مُشعة بالحيوية للأخرى عجوز يغمرها العجز والقهر، فهمست بشرود ونبرتها الشبه باكية تصدح في الأجواء:


-كان عقلي فين وأنا بوافق، ما كان زماني متجوزة حد غيره ومفيش حاجة مضايقني.


-نصيبك بقى، تتجوزيني واعكنن عليكي.


انتفضت بفزع حين لاحظت وجوده بالغرفة، فردت بحنق:


-انت جيت امتى؟


-من وقت ما كنتي بتتمني حد غيري.


أجابها بنبرة قاسية يتدلى من حافتها غيرة محترقة لم تشعر بها هي من فرط غضبها منه:


-أنا مابتمناش حد غيرك يا دكتور نوح، أنا محترمة ومش زيك.


توسعت عيناه بوميض متأجج على وقاحتها معه، فسارعت بتوضيح مقصدها:


-آآ...قصدي يعني، عيني مش فارغة زيك.


رفع حاجبيه باستنكار ناري، فصاحت بسخط:


-يوووه، مش قصدي كده بردو، أنا قصدي إن أنا محترمة وبس.


عرقل وقاحة كلماته على طرف لسانه وغير ما كان ينوي يُسمعها إياه:


-ماشي يا محترمة، حافظي على كلامك معايا شوية، عشان أنا لصبري حدود.


-ماتهددنيش.


قالتها بتحذير طفيف، فتجاهلها وتعمد إغاظتها كعادته، حيث انتقل لخزانته ينتقي ثيابه بعناية، وصدر منه نغمة بسيطة تدل عن مزاجه الجيد، وضعت يدها أسفل ذقنها وهي تتابعه يُبدل ثيابه ثم وهو يضع عطره بغزارة:


-رايح تقابل مين؟ أكيد حد مهم في حياتك عشان تتجهز اوي كده؟!


كانت نبرتها هادئة أو ربما تخفت بثوب الهدوء الزائف، فأجاب بهدوء مماثل وهو ينظر لنفسه بالمرآة:


-صح، رايح أقابل دكتورة نيللي شريكتي في المعمل.


جذبت نفس عميق قبل أن تردف برُعونة:


-تصدق يا نوح، اوقات بتصعب عليا بجد.


أثارت استفزازه، فاستدار إليها وقرر الذهاب لحيث تجلس فوق الفراش وجلس أمامه يسألها بغلاظة:


-بصعب عليكي ليه؟! اشجيني.


هزت كتفيها وقررت اضطرام لهيب غضبه:


-يعني من اللي مريت بيه في حياتك، فأكيد سببلك مرض نفسي جواك، خلاك نفسك تحس باهتمام البنات بيك، لدرجة إنك دايمًا نفسك تتجوز تاني وكأن الجوازة التانية هي الحل لمرضك ده، بس الحقيقة هي مجرد مسكن بس، لكن أنت هتفضل زي ما أنت، بتعاني وبس.


فشل في إنقاذ نفسه من بحر غضبه الهائج بأمواجه العاتية، حين لمست تلك الحمقاء سفينة هدوئه وقامت بخرقها بكل رعونة، فهتف بتوعد حقيقي:


-طيب وحياة أمي يا يسر لأتجوز عليكي فعلاً سواء برضاكي أو غصب عني.


أخفت انفعالها خلف ستار الهدوء واكتفت بإلقاء نظرة مشفقة نحوه وهو يغادر الغرفة، تاركًا إياها تنفعل بضراوة وكالعادة صاحبها البكاء الحار. 


                                *****

زفرت بقوة وهي تتمم على محتويات حقيبتها بعد انتهاء عملها، استعدت للخروج وبحركة تلقائية وضعت يدها حول عنقها تثبت طرف حجابها ولكنها لم تجد القلادة، فلمست جانبي عنقها تتأكد من وجودها، وعندها وجدت عنقها يصرح بفقدانه لقلادتها، صاحت بذعر شديد:


-يالهوي السلسلة، السلسلة راحت فين؟!


تساءل العاملين بالمركز عن سبب ذعرها وصياحها، وعندما أخبرتهم، اندفع الجميع يبحث معها حتى زوار المركز انشغلوا بالبحث في كل أرجاء المكان، وبعد عدة دقائق طويلة لم يتوصلوا بها لشيء فهتف أحدهم:


-ممكن تلاقيها وقعت منك في الشارع، لأني بعت ام محمد تدور في الأسانسير ومدخل البرج مش موجود فيه حاجة.


أصيب بالإحباط وهي تمتم بحزن كبير:


-ماشي خلاص.


لململت أشيائها المبعثرة مرة أخرى وتركت البرج بوجه تعيس للغاية، ولكن انبثق أمل بسيط داخلها يدفعها للبحث في الطريق علها تجدها، فصارت تتحرك هنا وهناك وتنظر بوجوه الواقفين بالطريق تستكشف بهم أيهم وجد قلادتها واتخذها سرًا، جذب انتباهها صوته الرجولي المتسائل بقلق بالغ أو ربما أوهمها بذلك:


-بدوري على أيه؟


أشارت إليه بالابتعاد والضيق يغزو ملامحها الجميلة:


-اوعى كده، ثانية، يا نهار أبيض، هتكون راحت فين بس.


تظاهر بعدم الفهم وأصر على وجوده معها رغم شظايا الحنق المتناثر منها:


-طيب ما تقوليلي وادور معاكي.


هتفت شزرًا:


-حاجة تخصني!


مالت شفتيه لبسمة ساخرة وهو يقول:


-ايوه ما أنا عارف إنها تخصك، امال هتدوري عليها ليه طالما ماتخصكيش!


زفرت بضيق، فقال بهدوء ينافي حاجته للضحك:


-ماتنفخيش، أنا بعرض مساعدتي، وبسألك سؤال بريء بدوري على أيه؟!


تبرمت وهي تجيبه على إصراره غير المبرر لها:


-على سلسلة دهب عليها اسمي.


تظاهر بالجدية حين استعلم منها عن سبب بحثها المتواصل:


-والسلسلة دي وقعت هنا؟


ضحكت ضحكة قاتمة يتخللها بعض من الاستنكار، ولكنها سرعان ما صححت نهجها بعدما أدركت وقاحة ما تُقدم عليه:


-لا كانت نازلة تتمشى هنا شوية، ايوه طبعًا أنا متأكدة كنت لابسها وأنا نازلة من الباص، وقلبت الجيم فوق مالقتهاش، يبقى وقعت في الشارع، صح؟


-ممكن بس دي حاجة بسيطة يعني، مش مستهلة العصبية دي كلها.


أشعل فتيل غضبها من جديد فاستنكرت قائلة:


-انت عارف جرام الدهب عامل كام دلوقتي؟!


نظر لها مطولاً ولم يتوقع إجابتها قط وبراءة ردود أفعالها معه، فلم يجد منها تصنع مثل باقي الفتيات ولا رقة متناهية تستفزه، طالت نظراته ولم يشعر بمرور الثواني، شعرت بالخجل الشديد والتي حاولت إظهاره على هيئة عصبية:


-أنا بسألك ليه، اوعى كده ادور براحتي.


-ما الشارع واسع يا بنتي وبعدين دي سلسلة دهب أكيد هتبان يعني لو موجودة فيه.


لمعت عيناه ببسمة ساخرة، مما الهب نيران استفزاها خاصةً بعد برود نبرته، فخرجت بعض الكلمات الخافتة منها بعبوس:


-هي بوز أبلة حكمت بصتلي فيها، ربنا يسامحها.


انعقد حاجبيه وتساءل بفضول:


-أبلة حكمت مين؟!


كانت ستجيبه ولكنها الجمت اجابتها التي كانت سترضي فضوله، وأجابت بأخرى يملأها الضيق:


-آآ...وانت مالك الله.


تظاهر بالانزعاج وهو يقول بشقاوته المعهودة:


-انت خُلقك ضيق اوي يا يسرا.


رفعت إصبعها في وجهه تحذره بانفعال ضاري:


-بقولك أيه ماتقوليش يسرا دي أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي.


أبعد يدها من أمامه وهو يقول بحنق زائف:


-لا لو على الصباع أنا كمان عندي صوابع كتير اوي، مايغركش الجنتلة اللي أنا فيها.


صاحت بنبرة منفعلة معترضة على حديثه:


-جنتلة؟! انت كده جنتل يعني وانت بتعطلني.


-طيب ما أنا عرضت اساعدك وانتي رفضتي.


انفلت لجام صبرها وهي تقول:


-تساعدني ازاي بقى؟! هو انت سايبني ادور حتى.


لا زالت تتحرك بحركات عشوائية تبحث هنا وهناك وهو يدور خلفها يحاول إقناعها بما يريده:


-لا حول ولا قوة الا بالله، ما الشارع انضف من حياتنا اهو، بصي أنا هانشر خبر إن في حاجة دهب ضاعت تخصني واللي هيلاقيها اكيد هيجبهالي، خلي بالك أنا مسيطر هنا.


-والله ما باين عليك أي سيطرة.


هدمت غروره بنظرة استهزاء لم تعجبه، فقال بخشونة مقصودة:


-تحبي اولعلك في المنطقة كلها عشان تصدقيني، وبعدين يعني ده جزاتي إن شايل همك.


كتمت ضحكتها بصعوبة بالغة، واضطرت لقبول عرضه عندما انحدرت آمالها في إيجاد قلادتها في قاع الفقدان:


-لا كتر خيرك، طيب أنا بكرة اجازة من الجيم...


قاطع حديثها حين نال مراده وقال بنبرة عادية هادئة:


-هاتي رقم تليفونك وأنا هتصل عليكي لو حد لاقاها.


رفضت رفض قاطع وهي تخرج هاتفها من حقيبتها:


-لا أنا مابديش رقمي لحد، هات رقمك انت.


انعقد حاجبيه ساخرًا:


-ودي تفرق في أيه؟!


أجابت بصدق يشوبه بعض التهكم الطفيف:


-تفرق أني ليا مصلحة فبتصل عشانها، لكن انت بقى تقعد تتصل وتقولي بندور عليها وحركات الشباب دي، خلي بالك أنا صاحية ومركزة اوي.


ضيق عينيه متظاهرًا بالإعجاب نحوها، ولم يمنع ابتسامته الساخرة في الظهور فوق شفتيه:


-اه يا لئيمة، أبهرتيني.


عدلت حجابها وهي تنظر له بغرور، بينما هو ضحك على مظهرها فبدت كالطفلة حين يمدحها أحدهم، ولم تنهي فقرة اندهاشه بها عند هذا الحد، فقالت بنبرة متكبرة:


-ومتخافش أنا بتصل دايمًا في اوقات مناسبة يعني.


اعطاها الهاتف بعدما سجل رقمه، وكان سيحاول استقطابها بحديث آخر، فالتحدث معها له لذه أخرى يحاول استكشاف ماهيتها، ولكن وجود زيدان المفاجئ لهما جعلها تنهي الحديث معه بتوصية غريبة:


-ماتنساش بقى تنشر الخبر، وحافظ عليها، سلام يا استاذ يزن.


ردودها العبثية جعلت من ابتسامته تتسع تلقائيًا وهو يشير إليها بالوداع، فخلع زيدان نظاراته الشمسية متسائلاً بفضول:


-مين دي يا يزن؟!


أجاب بشرود يغمره الإعجاب:


-دي أكتر واحدة عبثية شوفتها في حياتي.


أطلق زيدان صفيره بشقاوة:


-يا سلام يا عم.


انتبه يزن أخيرًا واستطاع إبعاد نظره عن أثرها، فقال بنبرة خشنة:


-جاي ليه؟! 


-اطمن عليك.


أجاب زيدان ببساطة، فضحك يزن باستنكار:


-لا كتر خيرك يا باشا، اطمنوا أنا أحسن منكم.


ثم تركه وتوجه نحو معرضه، فخطى زيدان خلفه خطوات واسعه يسعى لإيقافه، يحاول أن يسترضيه:


-اهدى يا يزن، انت بقيت قماص اوي يا جدع.


دخل يزن معرضه ثم التفت واعترض دخوله مبتسمًا باستفزاز:


-لا بالسلامة أنت بقى، هنسيق المعرض، مش فاضيين.


ثم أغلق الباب الزجاجي في وجه زيدان، مما جعل من زيدان عبارة عن كرة مشتعلة، فأجرى اتصالاً سريعًا ينفث من خلاله غضبه:


-اقسم بالله يا سليم لو قولتلي أروح اطمن على الكلب ده ما يحصل أبدًا، الكلب قفل في وشي باب المعرض.


                                 ****

في المساء وبعد ذهاب العاملين من المعرض، ظل يزن وحده يعبث بهاتفه والملل يهاجم وحدته من حين لآخر، حتى ظهر سليم بغروره المعتاد وهو يدلف للمعرض، فاعتدل يزن بجلسته وأبقى نفسه على صمته دون أن يرحب بوجود أخيه كعادته.


فجلس سليم فوق كرسي كبير واضعًا ساق فوق الأخرى والاستهجان ينطلق في سباق كلماته:


-أيه هتطردني زي ما طردت اخوك؟!


حمحم يزن بخشونة قبل أن يجيب:


-ماقدرش.


رفع حاجبيه معًا ووبخه بشراسة:


-وقدرت تعملها مع زيدان عادي.


ابتلع ريقه بعد أن جف حلقه، ولم يستطع منع انفعاله، فقال بعصبية طفيفة:


-انت جاي تهزقني عشان خاطره؟


-وماله هو مش اخويا.


هتف بوقاحة:


-لا علشان بيطبلك بس الأيام دي وبيحاول يكسب رضاك.


-انت اتجننت  ازاي تكلمني كده؟!


انفعل سليم بقسوة، ونوى أن يغادر المكان، إلا أن يزن سارع باعتذاره وأجلسه مرة أخرى:


-خلاص حقك عليا، اعتبرها زلة لسان يا سليم، ماتزعلش.


أبعد سليم يده بضيق واضح وهو يعاتبه:


-واللي قولته امبارح ده أيه بالظبط، بردو زلة لسان يا محترم.


-لا مش زلة لسان، عشان انتوا ظلمتوني وانت ظلمتني من غير حتى ما تسمعني مع أن مش متعود منك على كده!


حاول سليم أن يهدأ من نفسه، فقام بإلقاء كافة اللوم نحوه:


-بسمعك في أمور عادية وبسيطة، مش واحدة جاية تشتكي منك وانت عايز تتجوزها عُرفي.


واجهه يزن ببراعة لاعب محترف كاشفًا عما يحاول سليم إظهار عكسه:


-سليم أنت عارف كويس اوي أني ماعملش كده ولو على رقبتي، لكن أنت حبيت بس تعلمني الأدب، وللأسف طريقتك كانت غلط، يعني لو كنت اخدتني لوحدنا وواجهتني كنت هحترمك واقولك حقك وأنا فعلاً غلطان أن اعرف اشكال زيها مش مظبوطة.


أُشعلت حدقتي سليم بتهديد متقد:


-وأيه دلوقتي بطلت تحترمني؟!


-ماقدرش يا سليم، بس أنا حقيقي زعلت من معاملتكم ليا قدام مراتك وقدام مليكة مرات زيدان.


واجهه سليم بحقيقة ما يحاول تجاهله:


-الحرج ده يا يزن المفروض تحس بيه بسبب تصرفاتك مش بسبب تصرفاتنا احنا، المفروض بعد كده تعمل حساب لإنك مابقتش العيل الطايش اللي بنعديله تصرفاته، لا أنت بقيت كبير وواعي واللي قدك متجوز وفاتح بيت ومسئول عن اطفال، الفراغ اللي مالي حياتك أخرته مش حلوة وده اللي بحاول احذرك منه، انقذ نفسك بنفسك واحميها من حاجات كتير اوي غصب عنك ممكن توصلها حتى لو كنت شبح في نفسك وقادر تسيطر عليها.


تفهم جيدًا المغزى من حديث أخيه الأكبر، واعلن موافقته على حديثه وبذات الوقت الحق بعض من معارضته بطرف موافقته المعلنة:


-بس أنا بردو شايف نفسي أن ماقدرش على خطوة الجواز حاليًا، الخطوة دي بعيدة عني خالص.


-شيطانك بس اللي مهيألك كده، ايوه ما تضحكش...


منع يزن ضحكته التي كانت على وشك الظهور بعد تحذير سليم له، واستمع بجدية لباقي حديثه:


-انت ناقصك أيه عشان تتجوز، ما شاء الله ناجح في شغلك، وبنيت نفسك بنفسك، واخدت كارير غيري، وراجل تسد عين الشمس، أيه اللي ناقصك إنك تبعد عن طريقك ده واهو مجاش منه إلا وجع الدماغ.


-لا ليالي دي بت متسواش قرش واحد، دي واحدة دماغها تعبانة هيئتلها إنها ممكن تضحك عليك وعليا وتطلع بقرشين، سبوبة يعني.


-ما أنا عارف وفاهم من أول لحظة اتكلمت معايا فيهم، أيه بقى الجديد وعارف كويس إنك هتنهي الحوار ده من غير ما يكبر، أيه بردو اللي عايز توصله ليا، بتدافع يعني عن باقي البنات صحابك، مش هما صحابك بردو؟!

تساءل باستنكار ملحوظ وقبل أن يجيب يزن، رن هاتفه برقم مجهول، فأغلق الاتصال دون رد، وحاول توضيح وجهة نظره لسليم إلا أن هاتفه قاطعه مرة أخرى، فنفذ صبر سليم وقال:


-رد عشان خلقي ضيق.


نفذ يزن أمره وأجاب على الاتصال فوصل إليه صوتها المميز وهي تسأله بأدب:


-أستاذ يزن؟


ضحك بسخرية مقصودة:


-فعلاً بتتصلي في أوقات مناسبة جدًا.


لمح نظرات سليم المشتعلة فشهريار أخيه لن يتغير قط، حاول يزن إنقاذ نفسه بالنهوض والابتعاد عن دائرة سليم كي يتحدث معها براحة أكثر.

                                ***

في منزل سيرا..


تجاهلت سيرا سخريته المبطنة وسألته بجدية:


-حد جالك ولقيت السلسلة ولا لا؟


-هو احنا لحقنا يا سيرا، دي ضايعة الصبح!


اجاب بنبرة عابثة، الهبت حنقها:


-انت شكلك طلعت أي كلام، وبتحور عليا وفاكرني هبلة لما تضحك عليا.


-يا نها اسود، ده مين ده اللي ضحك عليكي يا سيرا.


انتفضت سيرا بفزع وأوقعت الهاتف من يدها، حين وجدت "أبلة حكمت" تقف خلفها مصدومة مما سمعته! 

_______________________


الفصل السادس...


تركت سيرا عائلتها واجتماعهم الليلي وتوجهت نحو غرفتها، تجري اتصالاً به تطمئن من خلاله عن أي أخبار تخص قلادتها الذهبية، وكالعادة اختارت الصمت وعدم إخبار عائلتها كي لا تتلقى توبيخ حاد من قبل "أبلة حكمت"، استمعت لرنين الهاتف بملل وحين أنهى الاتصال فجأة، عبست بقسمات وجهها، ولسانها يردد وفق لعقلها:


-يا سلام يا تقيل هو أنا بتصل بعاكسك، والله لتصل تاني.


أجرت اتصالاً آخر ولم تتوقع سرعة رده، فأصابها التوتر قليلاً عندما استمعت لنبرته الرجولية المميزة بخشونة تليق به وحده:


-الو.


تلقائيًا تسربت النعومة المُفرطة لصوتها فقالت بتساؤل ناعم للغاية:


-أستاذ يزن؟


ترعرعت بنبرته الخشنة برعم من السخرية حين قال:


-فعلاً بتتصلي في أوقات مناسبة جدًا!


ضيقت عينيها بغيظ أنثوي شرس ثم أبعدت الهاتف توجه له بعض السُباب الخافت والذي لم يصله، ثم عادت تجبر نفسها على تجاهل سخريته المبطنة وسألته بجدية:


-حد جالك ولقيت السلسلة ولا لا؟!


-هو احنا لحقنا يا سيرا، دي ضايعة الصبح!


اجابها بنبرة عابثة لم يعرف أنها  سوف تلهب حنقها، فقالت بتهكم صريح:


-انت شكلك طلعت أي كلام، وبتحور عليا وفاكرني هبلة لما تضحك عليا.


-يا نها اسود، ده مين ده اللي ضحك عليكي يا سيرا.


لوهلة لم تفهم ما يحدث وسر مهاجمة "أبلة حكمت"، فانتفضت بفزع، وفي خضم انتفاضها أوقعت الهاتف من يدها، حين وجدت "أبلة حكمت" تقف خلفها مصدومة مما سمعته!

حاولت تحجيم نظرات غضب "أبلة حكمت" وتوضيح سوء الفهم الذي وصل إليها، ولكنها لم تجد الفرصة، حيث انقضت أبلة حكمت عليها، تقبض فوق ذراعها بقسوة والتهديد يشتعل بنبرة صوتها:


-قوليلي مين ضحك عليكي يا سيرا، صارحيني أحسنلك؟


ترنح صوتها من فوق جبل الثبات، وهوت في هاوية الخوف مما نسجه عقل اختها:


-يا أبلة حكمت، افهميني بس، اديني فرصة أشرحلك؟


-تشرحيلي أيه بعد ما الفاس وقعت في الراس!


تضاعف صدمتها من كلمات أختها، وبالرغم من حدة الموقف إلا أنها سخرت قائلة:


-مالحقتش تقع يا أبلة حكمت صدقيني، انتي دايمًا تحكمي كده عليا بالباطل!


-باطل؟!


سألتها باستهجان، ثم استطردت بقولها الهجومي:


-ده أنا سامعكي بودني الاتنين دول، وشايفكي وانتي بتكلميه بعنيا اللي هياكلهم الدود دول.


-هما هياكلهم الدود فعلاً، طالما مش مدياني فرصة افهمك.


فُتحت سجون الغضب بصوتها لتلهم "أبلة حكمت" بهجوم غير متوقع، فصاحت الأخرى بانفعال:


-أنتي بنت قليلة الأدب.


وضعت سيرا يدها فوق وجهها بإحراج شديد، حين لاحظت بدأ دخول أفراد عائلتها بأكملهم لداخل الغرفة بقلق عارم، ونظراتهم تنتقل بينها وبين أبلة حكمت المستشيطة بغضب، وأول من قطع لحظة الصمت هو  والدهما بسؤاله الهادئ والذي كان غير مناسبًا للأجواء المشحونة بالغرفة:


-في أيه يا بنات؟


تصاعدت ضحكات "أبلة حكمت" علنًا وهي تشير باحتقار نحو سيرا الواقفة تغلي في مرجل متقد من تصرفات اختها الحمقاء:


-تعال يا بابا شوف مين ضحك على سيرا والهانم بتحاول تهرب مني.


-كفاية بقى يا أبلة حكمت حرام عليكي.


صرخت "سيرا" بغضب عارم، بعدما زجتها أختها في قبو مظلم بتصرفاتها الهجومية، فلم تعد قادرة على مواجهتها وتبرير موقفها.


رفعت أبلة حكمت أحد حاجبيها بتبرم، بينما راحت شاهندا تخطو نحو سيرا تحتويها بين جناحي حنانها، وتحاول تهدئتها:


-اهدي يا حبيبتي وفهمينا أيه اللي حصل؟


انهارت سيرا ببكاء حار وهي تتلفظ بصوت مبحوح اثر انفعالها، فالتف الجميع حولها يحاولون تهدئتها بما فيهم والديها:


-أنا سلسلتي ضاعت يا بابا النهاردة، وماعرفش وقعت مني فين، في واحد صاحب معرض عربيات عرض عليا أنه هينشر خبر أنها تخصه بما انه مسيطر في المكان ده، فأنا اخدت رقمه وكلمته اسأله لقاها ولا لا، ولو حضرتك مش مصدقني، تقدروا تيجوا معايا وتسألوه، وأبلة حكمت دخلت فجأة وسمعتني بكلمه وبسأله عليها، وبقوله انت شكلك مش مسيطر وبتضحك عليا.


انطلق "صافي" زوج أبلة حكمت بقوله الذي فاجئ به الجميع:


-يعني يا سيرا، الراجل بيعرض خدماته تقومي تكلميه  بالشكل ده!


تدخل زوج كريمة اختها الأخرى يعارضه بقوله المعاتب:


-هو ده وقته يا حاج صافي انتقاداتك، وفرها لوقت تاني.


رمقه " صافي " بغيظ وهو يضرب كف بآخر:


-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو حرام الواحد يقول رأيه، يلا بينا يا حكمت ننزل شقتنا.


سارعت "أبلة حكمت" بلم غضبها ودفنه بين طيات الاحراج:


-يلا يا اخويا، زمانك واقع من الجوع.


وقامت بإلقاء غمزة لأولادها، فتفهموا على الفور، وانطلقوا خلف والدتهما، أما سيرا كانت تحاول الافاقة من صدمتها أثناء سقوط دموعها الكثيرة فوق صفحات وجهها، فهمست:


-هي ازاي تمشي كده؟!


تدخلت والدتها تحتضنها وكالعادة تجبر بخاطرها:


-يا حبيبتي يعني أنتي مش عارفة اختك لما بتغلط بتعمل أيه، بتهرب كعادتها.


-بس هي اتهمتني زور يا ماما!


وجهت عتاب نجح في محاربة قبضان الحزن بصوتها، فربتت والدتها فوق كتفيها برفق:


-يا حبيبتي ما تقصدش، وحقك عليا، أنا بكرة هعاتبها واعرفها اللي عملته في حقك غلط.


تابعت "كريمة" هي الأخرى بصوتها الحاني:


-يا سيرا كلنا عارفين أبلة حكمت على أيه، معلش هي بقالها يومين ماعملتش الأكشن بتاعها.


ضحك زوج "شاهندا" رغم عنه وهو يقول:


-أنا كنت مستغرب هدوئها أصلاً اليومين دول.


لم يهدأ غضب سيرا أبدًا فقالت بصوت مشحون:


-بس مش على حسابي.


أكدت فريال عقب حديث سيرا بقول حازم:


-الصراحة أيوه يا بابا، أبلة حكمت تصرفها غلط في حق سيرا، احنا عارفين اختنا محترمة ومؤدبة ولا يمكن تتصرف التصرفات دي أبدًا.


انطلق لجام الحزم بصوت والدها ينهي الأمر:


-خلاص، امكم هتكلمها بكرة، لو سمحتوا اخرجوا انتوا كملوا سهرتكم وسيبوني مع سيرا شوية.


على الفور بدأ الجميع في الخروج من الغرفة، وترك المساحة الكاملة لهما، ليبدأ "حسني" والدها بقوله المعاتب:


-ينفع اللي حصل ده؟!


رفعت عينيها الباكية ترمقه بعدم تصديق:


-بابا أنت مصدق أبلة حكمت بجد؟!


-لا طبعًا.


قولاً واحد نفى ما تسرب لعقلها، ثم عاد وأردف بنبرة ممزوجة بطيف من اللوم:


-ينفع سلسلتك تضيع وماتعرفنيش، من امتى بتخبي حاجة؟


ردت بصدق:


-ماحبتش اشغلك، كفاية الضغط اللي أنت فيه.


انفجر التهكم الممزوج بالحزن فوق صفحة وجه والدها وخاصةً وهو يقول:


-ضغط أيه؟! على أساس هما عيالي وانتي لأ، أنا مش متعود منك على كده، أنا متعود دايمًا إن سيرا صريحة وماتخبيش، واهو موقف زي ده لو كنتي حكيتلي عنه كنت وقفت حكمت من أول ما دخلت عند حدها، لكن اللي حصل عكس كده فاضطريت استتى زيي زي أي حد واعرف في أيه اللي بيحصل! 


شعرت بالخجل الشديد لِمَ يقوله والدها، فأبدت موافقتها على حديثه:


-عندك حق يا بابا.


قبل جبينها بحب ولمعت ابتسامته الحنونة لتذيب بقايا غضبها:


-وبالنسبة لسلسلة لقيتها خير وبركة لو كانت ضاعت تبقى راحت لصاحب نصيبها.


اندست الحسرة بين نغمات صوتها الحزين:


-بس أنا كنت بحبها اوي.


حاول والدها بمراضاتها بقوله:


-ياستي ربنا هيكرمني وهجبلك غيرها.


احتضنت والدها بحب واغمضت عينيها تستمتع بحنو في لحظة ربما تتكرر بعد فترة كبيرة، بسبب انشغال والدها الدائم بعقبات أخواتها الفتيات، ومشاكل أزواجهن المتكررة، ومشاغبة اخويها "قاسم وعبود" وفترة مراهقتهما الصعبة، فكانت النتيجة أنها المنسية الضائعة بين هموم الحياة رغم صغر سنها وحاجتها الدائمة لاحتواء والديها.

                                 ****

قاد سيارته وعقله منشغلاً بها وسر إغلاقها السريع للاتصال، هل أثار غضبها لدرجة أنها أغلقته عمدًا في وجهه، أم أصابها مكروه! غرق في التفكير المنصب حولها فقط، ونسى تمامًا وجود "سليم" بجانبه حتى أنه لم يلاحظ حديثه حتى شعر بيد سليم القوية تقبض فوق ذراعه يسأله باستنكار:


-سرحان في أيه يا شهريار زمانك؟!


-فيك يا أبيه!


سرعان ما خرج من دائرة شروده وارتدى ثوب العبث المنسوج بخيوط السخرية، وكما توقع اندفع سليم يوبخه باحتقار:


-احترم نفسك، عشان مانزلش من العربية واكسر دماغك.


ضحك بخفة وهو يجبر نفسه على الابتعاد عن دوامة التفكير بها، فقال:


-أنا دماغي متكسرة لوحدها، مش محتاجة تكسير زيادة.


لمعت بسمة ساخرة فوق وجه سليم وهو يردف بخفوت:


-هو في حد يكلم كمية البنات دي كلها، ودماغه تبقى سليمة!


رفع يزن أحد حاجبيه بتحدٍ وهو يقول بنبرة مغمورة في شقاوته:


-حاسس بحقد ولا متهيألي!


انفجرت إمارات الغضب فوق تقاسيم وجه سليم الذي قال:


-متهيألك يا بارد، أنا هحسدك على أيه، اللي أنت فيه ده عقاب.


تابع يزن قيادته لسيارته بتسلية وقد نسى للحظة أمر سيرا بعدما نجح أخيه في جذبه لنقاش ناري حول صداقاته مع الفتيات، فقال بنبرة عابثة يغلب عليها الضيق الزائف:


-نفسي تفهموا إن أنا مابضحكش على أي بنت وبوهمها بحاجة، أنا في فئة كده بحبهم وبحب أبقى for fun معاهم، غير كده متلاقنيش، لكن أي واحدة تدخل على سكة تانية مابكملش معاها.


تعجب سليم من تفكيره فقال بحيرة من أمر أخيه المجنون:


-يا بني ما تتجوز وترتاح من الهم ده كله.


رد باعتقاد مترسخ داخل ذهنه عن الزواج والمسئولية، فسرعان ما أوضح وجهة نظره:


-الهم ده أنا هشوفه لو اتجوزت يا سليم صدقني.


زفر سليم بحنق وهو يردف:


-يعني مضطر استحمل غبائك كتير، المهم كلم اخوك وصالحه.


-أنا مزعلتش حد، هو اللي مقموص.


أوقف سيارته أمام منزلهم، وقبل أن يترك سليم السيارة هو الآخر قال بتحذير طفيف:


-لا انت بس ماحترمتش اخوك وقفلت في وشه باب معرضك، أنا لو منه ماعبركش العمر كله على الحركة دي.


تركه سليم ودخل المنزل بعنجهيته المعهودة، ففتح يزن فمه بصدمة ولسانه يردد:


-يا أخي اعوذ بالله من اللي يفكر يضايقك، الواد زيدان عليا نعمة طلع نسمة وأنا ماعرفش.


-هتقف عندك كتير؟


اغلق يزن سيارته وتحرك نحوه مردفًا بشقاوة:


-لا جاي وراك يا ابيه.


هز سليم رأسه بعدم رضا ونفاذ صبر من أفعال أخيه الأصغر المستفزة، وفي طريقهم لدخول شقة والدتهما، وجدوا زيدان أمامهم، وكما هو متوقع تلقى يزن نظرة غاضبة منه وتجاهل مقصود حين رحب بسليم بحفاوة:


-أزيك يا سليم؟


رد سليم بهدوء:


-الحمد لله يا زيدان.


لم يسكت زيدان عند هذا الحد بل تابع بترحيب آخر:


-أخبارك أيه يا سليم؟!


حمحم سليم بخشونة وهو يجيب:


-قولتلك الحمد لله في أيه؟


حول نظراته المحتقرة نحو يزن الواقف يتابع أفعاله بتسلية:


-أصل أنا بحب اطمن عليك يا سليم يا أخويا يا محترم.


منع سليم نفسه من الضحك، وأكمل بنفس جديته:


-كتر خيرك يا زيدان.


-الواحد والله بيفتخر انك اخوه يا سليم.


رفع سليم حاجبيه معًا، وفشل في منع ابتسامته  التي تسللت لفمه وهو يجيب:


-يا سيدي كتر خيرك.


وقبل أن يتحدث زيدان، سابقه يزن وهو يوجه حديثه هو الأخر لسليم الواقف بينهما:


-إلا قولي يا سليم، أنت من امتى بقيت دماغك صغيرة وقماص كده.


وقبل أن يجيب سليم بتوبيخ، بتر زيدان حديثه حين وجه له هو الأخر حديثه المبطن بنيران الغضب:


-أنا مش قماص يا سليم، أنت تعمل عملتك وجاي تقولي دماغك صغيرة.


ضحك يزن بسخرية وهو يوجه حديثه لسليم المنتظر هو الاخر رده وكأنه اعجب بـ لعبتهما:


-الله امال أنا حاسس هيطقلك عرق ليه يا سليم؟


لمعت عيون زيدان بشراسة وهو يقول:


-وأنا هيطق لي عرق ليه من واحد زيك يا سليم مايستاهلش.


توسعت أعين يزن وهو ينظر لسليم غير مصدقًا:


-يا نهار أبيض، زيدان اتعدى حدوده معاك خالص يا أبيه، أنت ماتستاهلش؟! لما أنت ماتستاهلش، امال مين يستاهل؟!


تفوه زيدان بلفظ غير لائق وكاد يشتبك مع يزن المبتسم بعبث:


-يا****** انت عيل...


صاح سليم ينهي لعبتهما السخيفة بحدة:


-بس أنت وهو، انتوا الاتنين ماتستاهلوش أصلا اقف معاكم، واقف مع عيلين في ابتدائي، أنس أعقل منكم. 


تركهما ودخل لشقة والدتهما، بينما ظل يزن يستفز في زيدان الثائر بغضب:


-كده ارتحت لما اتهزقنا منه!


ظهرت "مليكة" في الصورة أمامهما وهي ترحب بيزن، سعيدة بإنهاء أمر خلافهم:


-ازيك يا يزن؟


قابلها ببسمة صافية كعادته، وهو يجيب بمكر:


-الحمد لله يا مليكة، ثواني وأغير هدومي واطلع معاكم.


رفع زيدان أحد حاجبيه باحتجاج واضح:


-نعم تطلع فين؟!


أجاب يزن ببساطة أدهشتهما معًا:


-انت مالك، مليكة كلمتني وعزمتني عندكم على العشا.


نظر زيدان لمليكة المتابعة للموقف بدهشة بالغة:


-بجد يا مليكة اللي بيقوله ده؟


تلجلجت مليكة بقولها وقد أدركت خطة يزن في مراضاة زيدان بأسلوبه المبطن بشقاوة معهودة منه دائمًا:


-آآه...طبعًا أنا كلمته وعزمته على العشا، في اعتراض يا زيدان، هو مش بيتي ومن حقي اعزم في أي حد.


رفع يزن أحد حاجبيه بتحدٍ سافر، فقال زيدان بحنق طفيف:


-هو أنا اتنيلت ولا اتكلمت، اطلع يا عم، خسارة فيك  طاجن ورق العنب.


توسعت أعين يزن بسعادة بالغة:


-لا بجد، طاجن ورق عنب، لا أنا طالع من دلوقتي، مش ضروري أغير هدومي، أخاف زيدان يلهفه كله في كرشه.


ردد زيدان باستحقار خلفه وهو يصعد الدرج:


-كرشه! نسي يسلم على أمه عشان الأكل، لا أصيل وابن بار فعلاً.


-ماتدخلش في علاقتي مع أمك يا أصفر.


قالها يزن وهو يصعد خلف مليكة المتحمسة لإعادة جو العائلة الفكاهي والعلاقة المرحة بين زيدان ويزن.

                                ****

أشرق الصباح ليزيح غمة الليل القاتمة، فدبت عجلة الحياة كالعادة في منزل السيد "حسني" ولكن سيرا استطاعت ترك المنزل باكرًا قبل استيقاظهم، لم تكن تريد استقبال "أبلة حكمت" هذا الصباح ولا رؤيتها بعدما هدمت جبال صبرها معها بقنبلة الشكوك التي ألقتاها في وجهها بالأمس، ورغم أن الجميع قام بمراضاتها إلا أنها فشلت في قنص لحظات النوم وظلت حزينة بغرفتها، حتى قررت النزول لمنزل فاطمة صديقتها، وقبل أن تصل للبناية التي تسكن بها صديقتها، ظهر أمامها "فايق" جارها بوجهٍ خالي من أي تعابير، تجاهلته في البداية إلا أنه اعترض طريقها وقال بصوتٍ مستنكر:


-أيه يا سيرا مفيش صباح الخير، هو في حد بيخاصم جيرانه ولا أيه؟!


أمسكت عصاة الاستنكار منه وهي ترمقه من أعلاه لأسفله بتعجب بالغ:


-هو أنا من امتى بكلمك يا فايق ولا بصبح عليك؟!


ورغم حدة كلماتها إلا أن تعابير وجهه لم تعكس غضبه، بل كان أكثر راحة واستمتاع وهو يحادثها:


-حتى لو مكنتيش بتقوليها بلسانك، كنتي بتقوليها بعينك كل مرة بشوفك الصبح.


التهبت نيران الاستهجان بحدقتيها وهي تواجهه:


-نعم؟! انت بتقول أيه على الصبح؟!


رسم ابتسامة استفزتها وهو يقترب منها خطوة فتراجعت للخلف خطوة مقابلة له:


-مابقولش بس قريب اوي هتقولي كل حاجة.


دفعته عن طريقها بحقيبتها الكبيرة وهي تمتم بانفعال ضاري:


-أوعى من طريقي عشان مش ناقصك والله!


تنحى جانبًا ووقف يتابعها باستمتاع بالغ وهي تدخل لبناية فاطمة، متذكرًا كلمات أخته عن مدى إعجاب سيرا به بعدما استطاعت بكل خبث سحب الكلام من فاطمة وبطيبتها أخبرتها عن مدى إعجاب سيرا بأخيها، فزاد غروره بنفسه وتوهجت أفكاره بشرارة الإيقاع بها  في شباكه أو ربما تصلح حاله ويتقدم لخطبتها، وكعادته اندلع غروره يرسخ بعقله أنه فرصة لن تتكرر لأي فتاة، لحسن سلوكه وأخلاقه في المنطقة، معتقدًا أنه لم يعلم أحد عنه أنه مدمن للخمر، فهو نجح في ارتداء ثوب الاخلاق الحميدة وأقنع به الجميع حتى عائلته.


أما بالأعلى وتحديدًا بغرفة فاطمة، كان النقاش بينهما محتدم للغاية، حين أبدت فاطمة اعتراضها:


-يا بنتي الصراحة أنا مش مصدقة، كلام كمال جوز اختك فريال، معقولة فايق يكون بيشرب خمرة.


-أنا أصدق يا فاطمة، هو كمال هيكدب ليه، يا بنتي بقولك شافه في فندق كان بيشتغل فيه مع صحابه وهو بيشرب وسكران، بجد أنا مش عارفة دماغي فين وأنا بعجب بيه.


ضربت فاطمة كف بآخر وهي تقول:


-لا حول ولا قوة الا بالله، فايق مثال الاخلاق يطلع فشنك.


ضحكت سيرا بقهر:


-ماتفكرنيش، بمثال الاخلاق، عقلي كان فين وأنا بعجب بواحد زي ده وكمان اسمه فايق!


تشاركا الضحك معًا، ثم بدأت فاطمة في سرد أخر الأخبار المنطقة على مسامع سيرا لتسليتها وإخراجها من حالة الحزن المسيطرة عليها، ومن أن أنهت حديثها حتى سألتها بفضول:


-مش هتروحي ليزن ده النهاردة؟!


صاحت باستنكار ناري:


-أنا! لا يمكن طبعًا أروحله أو اعبره.


تبرمت فاطمة بضيق ولم يعجبها تفكيرها:


-خلاص براحتك ولا كأني قولت حاجة.


عادت سيرا تأكد على حديثها بكل ذرة قوة لديها وخاصةً عندما تذكرت سخريته منها بالأمس:


-قال أروح له قال، ده أنا ابقى كلبة لولو لو فكرت اروح له.


                               *****

أنهت " يسر" ترتيب غرفتها ونثرت القليل من معطرات الجو المبهجة علها تريح نفسها المشحونة بويلات الغضب، وتعطي لعقلها التعيس أمل مشرق حتى ولو كان زائفًا! خرجت لتقابل شقتها المظلمة فبدأت في فتح النوافذ وكأنها تطرد كل الشحنات السلبية الموجودة بها، فهب بوجهها نسمات الهواء التي استطاعت العبور لصدرها وتغلغلت به تزيح ثقل الهموم المتربع فوقه، أغلقت عيناها البنية تستمتع بسحر اللحظة، داعية الله أن يرزقها بصلاح الحال وراحة البال، ولكنها سرعان ما تراجعت وتساءلت كيف؟! كيف ستنجو بسفينتها الخرقاء لمرسى أمان وزوجها يتعمد إغراق سفينتهما بكل برود وتبجح منه، كيف ستحصل على حياة هادئة؟! بينما النساء تلتف حوله في كل مكان، وهو يترنح بسعادة في بهو إعجابهم به، آه محترقة خرجت من جوفها الملتهب بنيران الغيرة، فبدت غير قادرة على مجابهة ذكريات الماضي، حين قابلته على سُلم الدرج الخاص ببنايتهما قبل أن تنتقل عائلة نوح لمنطقة أخرى، فهم كثيرين التنقل والسكن بمناطق مختلفة، زحف لعقلها مشهد لقائهما المفاجئ، قبل ست سنوات.

                                ****

تركت "يسر" شقتها، عازمة على استكمال رسالة الماجستير علها تخرج من قوقعة الفراق عن خطيبها "نوح" بعدما فقدا طريقًا للتواصل بينهما، وفشلت العقول في إيجاد حلاً يرضي كلا الطرفين، وخاصةً حين فاجأها بشرط لم ولن تستطيع تقبله أبدًا، ورغم أنه أعطاها مبرراته لذلك الشرط اللعين إلا أنها لم تقتنع وأبدت رفضها التام، فاختارا معًا طريق الانفصال باقتناع تام بينهما ومن بعدها انتقل هو وعائلته لمنطقة أخرى وتركوا شقتهم، فانقطعت عنها أخبارهم، حاولت التلصص عن أخباره ولكنها فشلت ولم تجد ما يريح قلبها، وتحديدًا حول ارتباطه، فبدت كالمخبر السري وهي تتبع أخباره هنا وهناك، لذا قررت الانشغال بشيء آخر علها تنسى لحظاتهما معًا وسعادتها بارتباطهما والذي لم يدم سريعًا وانفصلا في أمر مفاجئ للجميع.


ضغطت على زر المصعد عدة مرات بنفاذ صبر، وأخيرًا وجدت المصعد يستقر بطابقها، لكنها صدمت بوجود نوح أمامها، فاهتز قلبها من مكانه وأصابه رجفة لذيذة للغاية، انقشع عنها قناع الحزن فور رؤيته، وباتت أكثر إشراقًا وكأنه يملك تعويذة سحرية تستطيع تحويلها من تعيسة لأخرى سعيدة لمجرد وجوده فقط.


-ازيك يا يسر؟


كانت نغمة صوته تحمل اشتياقه الصريح لها، فرقصت مشاعرها بساحة الحب والهوى:


-الحمد لله يا نوح، أنت عامل أيه؟!


رمقها ببسمة صافية ممزوجة بلمعة العشق، وكعادته غمرها باهتمام لطيف لن تجد مثله أبدًا:


-أنا كويس طول ما أنتي كويسة.


توردت وجنتيها باحمرار طفيف، ولمعت عيناها بوميض العشق، فقالت بصوت مبحوح من فرط هياج مشاعرها:


-ر...ر...ربنا يخليك أنت جاي ليه في حاجة؟!


لا زالت ابتسامته تلمع بسماء عينيه الصافية، رغم أنه أظهر بعض الضيق:


-يعني شوية مشاكل في عقد الشقة، فخلصته مع الحاج أحمد، وكان في شوية حاجات باقية لينا باخدها، فالأسانسير وقف وقولت أكيد أنتي اللي طلبتيه.


احتل ثغرها بسمة واسعة وهي تسأله بخجل:


-وأنت أيه اللي أكدلك أن دي أنا؟!


-قلبي قالي.


فاجأها برده ونظرته المعبرة عن حزنه لفقد طرق الوصال بينهما، فقرأت بعينيه سطور آماله بعودتهما، وفي خضم صمتهما وتواصل أعينهما المستمر بسرد ما تكنه الصدور وما تخفيه العقول، استمر نوح بإثارة صدمتها حين أمسك يدها يسألها بنبرة غلب عليها لهفته وحبه الشديد لها:


-لسه يا يسر مُصرة على رأيك؟!


أنار عقلها بكلمات والدتها حول إعطائه فرصة أخرى له، وأن ما يطلبه منها ليس سوى طيش شباب، فالزواج مسئولية بالغة ومرهقة للقلب والعقل معًا، وبذكائها الأنثوي تستطيع محو شروطه الحمقاء، معتقدة أن شرارة الحب تستطيع التهام وحوش رغباته الغريبة والعجيبة!


-ها يسر؟ لسه زي ما أنتي!!


رفعت وجهها تواجه عينيه بعنفوان أنثوي دومًا يليق بها:


-أيوه زي ما أنا يا نوح، هتغير ليه؟


-ماحدش قالك تتغيري أبدًا، وأنا ماتمناش تتغيري بالعكس أنا بحبك كده وهفضل أحبك طول عمري بكل حاجة فيكي.


تصريحه أذاب الجليد حول فؤادها، فانصهرت مشاعرها وهي تقرأ سطور العشق والهوى بحدقتيه، همست بحزن مغمور في دورق الحسرة:


-واللي طلبته مني صعب اتقبله يا نوح.


-يسر أنتي لو بتحبيني بجد زي ما بحبك، عمرك ما هتفكري في التفاهات دي، بالعكس هتفكري فيا وفي وجودك جنبي، وفي حياتنا، أنتي فجأة سيبتي كل الحب اللي ما بينا على جنب وفكرتي في النقطة دي، رغم أنك ممكن كنتي تتغاضي عنها وتفكري ازاي ماتوصلنيش للي أنا عايزه.


احتلت غمامة الكآبة وجهها وهي تجيبه بواقع حياتهما المستقبلية:


-الكلام سهل صدقني، بس الواقع أصعب، وبعدين ليه دايمًا مطلوب مني أني أبذل مجهود، أنا مش داخلة حرب، ده جواز والمفروض أساسه يكون مودة ورحمة ما بينا.


أبدى موافقته السريعة على حديثها:


-فعلاً عندك حق، وأنا عمري ما هقلل منك أبدًا، ولا أعاملك معاملة تقل منك، أنتي هتفضلي يسر البنت اللي يوم ما قولت يا جواز مافكرتش غير فيها.


ابتسمت بشجن وهي تلقي ما في جعبتها:


-ويوم ما فكرت تجرح مافكرتش غير فيها بردو.


حاول التملص منها بقوله المعارض بخشونته المتعلقة بنبرته الرجولية:


-يعني يوم ما اطلب أبسط حقوقي تقولي بجرحك، وبعدين انتي اللي قولتي ننفصل يعني ده قرارك، رغم أني مكنتش حابب كده، ومدتنيش فرصة أقنعك باللي أنا عايزه.


تفهمت إلى ما يرمي إليه، فقالت بدهاء أنثوي دائمًا يليق بأنثى فريدة الخصال مثلها:


-يعني لو فشلت تقنعني، كنت هتسيبني صح؟! ده اللي حسيته منك، فسهلت عليك الطريق.


ورغم مهارتها في تسديد كرة اللوم والعتاب، إلا أنه عاد وسدد بملعبها بنفس طريقتها بأسلوبه البسيط والهادئ:


-أنا حسيت أني سهل عندك، فزعلت بس على قد زعلي على قد ما كنت اتمنى ترجعيلي ونتمم جوازنا اللي وقف عشان حاجات الله أعلم هي هتحصل ولا لأ.


تعلقت قشة الأمل خاصتها بقولها الحازم وهي تواجهه بصراحة:


-وأنا اعيش رهن هيحصل ولا لا ليه يا نوح، ليه دايمًا لازم أحس أني في اختبار.


ضغط فوق كفيها بقوة وهو يحثها على عودتهما:


-سيبي نفسك وماتفكريش في أي حاجة غير حياتنا وبس، هو يعني سهل عليكي تقطعي علينا فرحتنا.


تدخلت والدتها التي كانت تقف خلف الباب تتابع حوارهما بشغف:


-والله كلام نوح عين العقل يا يسر، أنتي بتحبيه وهو بيحبك ليه تفكروا في حاجات ملهاش لزمة وزي ما قولتلك تقدري تخليه مايفكرش في اللي هو عايزه.


القت والدتها نحوه نظراتها المعاتبة حتى هي لم تستطع التأقلم مع رغباته التي أفصح عنها بكل برود، ولكن الحب المتأجج بقلب ابنتها والعذاب التي تعرضت له فور فراقهما، جعلها تسعى بكل إمكانياتها لإصلاح الأمور وتهدئة هياج أفكار أبنتها، معتقدة بسذاجتها أن ابنتها تستطيع تحجيم رغبة نوح المُلحة ووضعها في بئر النسيان بحبها وأنوثتها وحصاره في عش الزوجية بمسئولياته الكثيرة.


-قوليلها يا حاجة، قولي لبنتك اللي دماغها زي الحجر، كل حاجة يا يسر لسه مستنياكي ومستنية إشارتك عشان نرجع للي كنا بنحلم نكمله.


ضاعت يسر بين صراع قلبها المتمني وعقلها الثائر برفضه، فشعرت أن كفة الحنين تميل نحو فكرة الرجوع والرضوخ لشرطه وخاصةً بعدما أعلنت أحاسيسها المتلهفة له العصيان على عقلها الرافض الرجوع إليه، حتى أنه بدت أمانيها تغلب معتقداتها في حرب أصبحت محسومة لعودتها لنوح! 


لكن لا زالت موافقتها تصارع سجون الرفض، فتفهمت والدتها ما تعانيه ابنتها بصمتها الطويل، لذا حاوطتها برفق وكأنها تشجعها على تخطي عقبات زائفة كما تعتقد، أما هو حثها على نطقها بعينيه المتلهفة لعودتهما بأي شكل، وأخيرًا استطاعت التخلي عن قيود الرفض بقول متهور لم تعتقد أنها سوف تندم عليه فيما بعد:


-ماشي يا نوح موافقة.

                                ****

عادت يسر من شرودها أخيرًا بعدما نفدت قواها لتحمل كم الذكريات المؤلمة المتدفقة لعقلها، فأغمضت عينيها الباكية والحسرة تتناغم بصوتها الحزين:


-يا ريتني ما وافقت، كنت افضل على نفس رأيي، ماكنش يبقى دا حالي.


فتحت عيناها حين وجدت ابنتها تحاول استراق انتباهها:


-ماما أنا جعانة وعايزة آكل.


همست ببسمة مكسورة وهي تهم لإطعام ابنتها والخروج من بقعة التفكير به.


-حاضر يا حبيبتي.

                              ****

تمم " يزن" على آخر الملفات الخاصة بمبيعات المعرض، والرضا يزحف لصدره بعدما نجح في تحقيق أعلى نسبة مبيعات هذه السنة، بالرغم من شقاوته وعبثه مع الفتيات إلا أن عمله يمثل لديه الخطوط الحمراء واستطاع تحقيق أحلامه من خلال تطوير أمانيه كل عام.


-أستاذ يزن.


لم يصدق، هل بالفعل هي موجودة أمامه، شغفه الجديد تقف بجسدها الممشوق ونظراتها الحادة والتي تنافي رقة ملامحها، ونغمة صوتها الناعمة تسقط على مسامعه بدفيء لذيذ، فقطعت سيرا تأمله بها بعدما شعرت بالخجل:


-هتفضل باصص لي كتير؟!


-أصل مش مصدق عيني الصراحة!


أجاب بنبرة يغمرها المكر وهو يعيد جسده للخلف، يستمتع بوجودها أمامه، في ظل وقفتها الهجومية وكأنها تستعد للانقضاض عليه:


-وده ليه ان شاء الله، طبيعي آجي وأسالك عن أي أخبار تخص سلسلتي.


تصنع الجدية وهو يشير إليها بالجلوس، مردفًا بنبرة جادة هو يدرك تمامًا أنها لن تليق به في ظل حاجته المُلحة لإثارة غضبها بسخريته:


-كويس إنك جيتي؟ أنتي مش متخيلة المجهود اللي عملته عشان الاقي السلسلة.


-مجهود؟!


كررت خلفه باستنكار، فأسرع بقوله والجدية تقطر من حروفه رغم حاجته المفرطة للضحك:


-طبعًا، هو سهل يعني نلاقي سلسلة دهب؟ هو أنتي عارفة جرام الدهب بكام دلوقتي يا سيرا؟!


ضيقت عينيها بغيظ واضح حين لاحظت سخريته المبطنة عليها، ولكنه استطرد بجدية ملونة بمشاكسة لطيفة:


-أنتي مش متخيلة الحوارات اللي دخلت فيها عشان خاطر عيونك....آآ اقصد عشان خاطرك يعني، ده الوا......قصدي الراجل اللي لاقاها كان مُصر أنها بتاعته بس على مين أنا جبته من قفاه وهددته لو مطلعهاش وادهالي هو حر وطبعا خاف مني عشان أنا حد واصل أوي يعني، فادهالي.


تركت بطولاته الزائفة في اقتناص قلادتها جانبًا وصاحت بفرحة عارمة وهي تسأله:


-يعني الحمد لله لقيتها، هي فين هاتها؟ 


عبس بوجهه وهو يقول بتهكم طفيف:


-أيه ده مفيش شكرًا ولا أي حاجة، ده أنا بحكيلك عانيت قد أيه عشان اوصلها.


زمت شفتيها بضيق رغم محاولاتها المستمرة لإظهار لطفها ولكن أفعاله تثير حنقها دومًا:


-شكرًا طبعًا لمجهوداتك العظيمة، بس هي فين بقى؟!


هز كتفيه ببساطة وهو يجيب:


-مش معايا طبعًا.


ارتفعت نبرة صوتها بدهشة ممزوجة بالاستنكار اللاذع:


-نعم؟!


جذبت أنظار العاملين بالمعرض، فسارع بتهدئتها بقوله وهو يشرح لها ما حدث:


-أيه اهدي في أيه، أنا لقيت القفل بتاعها مكسور فبعت اصلحها.


فشل في اقتناص إعجابها به، وذلك حين ردت بهجوم حاد:


-الله وأنت تعمل حاجة زي دي ليه من غير أذني.


أصابه الغيظ من تعمدها الواضح لتقليل من مجهوداته، متعجبًا من أفعالها والتي تنافي تصرفات باقي الفتيات معه، فهو لم يخطأ أبدًا حين وصفها بعقله بالفريدة في كل شيء:


-يعني ده جزاتي، تصدقي إن أنا غلطان.


عادت تصيبه بالجنون حين ترنحت من فوق أرجوحة الهجوم وعادت لأرض النعومة والدلال:


-أه....اقصد، طيب بص لو سمحت هو فين المحل ده عشان اروح اجيبها.


تلقت نظرته المعاتبة وهو يستعد للنهوض ولململة أشيائه:


-رغم إن أنا زعلان، بس أنا هاخدك واوديكي.


لم تمر سوى دقيقة واحدة وعادت رصاصات الهجوم من فوهة مدفعها:


-تاخدني فين؟! أيه كمية الحب اللي بتعاملني بيها دي!


اتسعت ابتسامته باستفزاز واضح وهو يتعلق بعينيها المشتعلة بنيران السخرية:


-لا أنتي لسه ماشوفتيش حب مني، ده بوادر لطف.


حاولت كظم غيظها بشتى الطرق وهي تتجاهل غزله المبطن، فقالت:


-يا أستاذ يزن وفر لطفك وحبك وقولي فين المحل؟


انطلقت إمارات السأم تغزو وجهه الوسيم وخاصةً حين قال:


-لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أنا بقولك يلا هوصلك بعربيتي.


رفضت رفض قاطع وهي ترمقه باستنكار ملتهب:


-لا انت مجنون، انت عايزني اركب معاك، لا طبعًا.


تسللت بوادر السخط لحديثه المصبوغ باستهزاء بسيط: 


-هو حد قالك إن أنا بعض، أو عندي مرض معدي، أنا زي الفل ومستحمي قبل ما أنزل.

رفعت أنفها بشموخ وهي تقتل آماله بالذهاب معه، فيبدو أن الإصرار يفرض عباءته على عقلها ورزانتها:


-بعيدًا عن هزارك أنا ماينفعش اركب معاك عربية لوحدنا، أنا هطلب أوبر.


تضجر وهو يرمقها بسخرية: 


-يعني هي فرقت!


-اه طبعًا تفرق، وأنا أيه عرفني يمكن ورا إصرارك ده تخطفني، انت شكلك عايز تخطفني.


توسعت مقلتيه غير مصدقًا أن عرضه لإيصالها من باب الذوق حولته بعقلها المجنون لخطة خبيثة للإيقاع بها، فقال باستياء:


-اخطفك؟!


-اه طبعًا والله أنا حاسة ليك في تجارة الأعضاء.


أكدت على حديثها برعونة أدهشته، فقال ممازحًا إياها:


-مايميش معاكي اني مدمن خطف البنات الحلوة اللي زيك.


عبست بوجهها تسأله بتحذير طفيف رغم أن مشاعرها مالت بجنون نحوه وأصبحت متشوقة لغزل آخر:


-نعم؟!


اقترب منها واختصر المسافات بينهما، فهمس بنبرة مشاكسة استطاع من خلالها سبر أغوار قلبها:


-ما انتي اللي بتهزري، طلعتني مجرم ورئيس عصابة.


تظاهرت بالعبوس والجدية وهي تبتعد عنه محذرة إياه بقسوة مهزوزة:


-يبقى ريح نفسك وقولي المحل فين، عشان مارقعش بالصوت واتهمك بحاجات توديك ورا الشمس.


فتح ذراعيه وهو يبتسم بشقاوة:


-يا سلام والله اتمنى.


شملته بنظرة مستنكرة من أعلاه لأسفله وهي تسأله بعدم فهم:


-تتمنى أيه؟! 


-اروح ورا الشمس، عايز اعرف أيه هناك.


تابع مزاحه وهو أكثر راحة في الحديث معها، ولكنها صدمته بسخريتها منه:


-هاها ها...سوري ظريف جدًا.


توقعت غضبه منها ولكنه صدمها بلطفه الزائد عن حده:


-هعتبرها مداعبة لطيفة منك، يلا بينا.


تذمرت بضجر وهي تغادر المعرض خلفه:


-بردو؟!


توقف على باب معرضه يعلن استسلامه لها، ثم أوقف سيارة أجرة، متابعًا الحديث معها بخفوت وهي تستقل في المقعد الخلفي:


-يا ستي اركبي تاكسي وأنا هاخليه يمشي ورايا، وقبل ما تفتحي بوقك وتتهميني أني بتاجر في المخدرات، المحل اللي بعتله السلسلة مش هيرضى يسلمها إلا ليا، هتيجي ولا لأ.


صمتت ولم تعقب على حديثه رغم العبوس المحتل لقسمات وجهها الجميل، بينما هو كان أكثر راحة واستمتاع وهذا ما أثار استفزازها نحوه رغم أن دقات قلبها كانت تتصارع بجنون في أروقته، فراح عقلها يهيئ لها أنه يمكن للقدر نسج خيوط الوصال بينهما ولكن شتان بينها وبينه، الفارق بينهما كبير ومخيف لدرجة أن آمالها هوت واصطدمت بواقعها.

                              ****

وصلوا أمام "المحل الأساسي" الذي يخص عائلة الشعراوي والذي يتخذه سليم مكانًا له أغلب الوقت، ولكنه أجرى اتصالاً قبل أن يذهب وعلم من أحد العاملين أن اخيه الأكبر يتابع باقي المحلات اليوم، فارتاح أكثر وهو يأخذ تلك المشاكسة معه، وكما توقع رفضت أن يدفع للسائق أجرته، ودفعت هي بكل غرور، فيبدو أن تلك المشاكسة تحظى بعزة نفس كبيرة.


دخلا معًا ولم تلاحظ أنه غمز أحد العاملين، فسارع الآخر بجلب القلادة ووضعها أمامهم، ابتسمت براحة وسعادة وهي تلتمسها بين يديها ولكن سرعان ما تركتها حين استمعت للعامل وهو يقول:


-القفل المكسور احنا شلناه خالص وركبنا قفل دهب مكانه وان شاء الله مش هتتقطع تاني ولا تبوظ.


توسعت عينيها بشراسة وهي تردف بضيق اجتاح صوتها:


-وانت تعمل كده ليه من غير ما تقولي؟!


توتر العامل وهو ينظر ليزن، الذي هو أيضًا أصابه عدم الفهم فنظر إليها يهدأ ثورتها بنبرته الخافتة:


-في أيه يا سيرا، الراجل شاف شغله، هو غلطان في أيه؟!


شعرت وكأن دلوًا من الماء البارد صُبَّ فوق رأسها بسبب شعورها بالإحراج، ليس معها المال لذلك القفل الذي بالتأكيد سيكون بعدة آلاف، تشعر الآن وأن مظهرها أمامه كالفرخ الصغير الذي سقط في بركة من الماء الفاسد، كيف تخبره بأنها لا تملك ذلك المال!، وكيف يغير شيئًا فيما يخصها دون الرجوع إليها، وعند تلك النقطة التفتت إليه لتصب كامل غضبها عليه وتخرج مما هي فيه.


-فعلاً هو مش غلطان، انت اللي غلطان عشان اتصرفت في حاجة ماتخصكش.


وبلمحة دهاء منه أدرك مما تحاول إخفائه من خلال عصبيتها، فحاول تهدئة انفعالاتها بقوله الخافت:


-انتي مضايقة من أيه، ماتشليش هم حاجة.


اندفعت الدماء لوجنتيها وهي تواجهه بشراسة منسوجة بخيوط الغضب:


-هم أيه! لا طبعًا، أنا مايهمنيش دي كلها أمور بسيطة وعادية، أنا بتكلم في المبدأ نفسه.


-في أيه اللي بيحصل هنا؟!


وجود سليم المفاجئ أربك الجميع وخاصةً يزن، فسارع بلم الأمور المبعثرة بقوله الجاد:


-مفيش حاجة يا سليم، روح أنت على مكتبك وأنا جايلك.


ركز سليم بنظراته الثاقبة عليها مما أثار حنقها الضعف ورمقته بعنفوان شرس، يكفي الغليان الذي تشعر به وهي تقف كالجرو المبتل أمامهم، حولت جسدها نحو العامل المتابع للأجواء بفضول:


-بص خليها عندك هنا وأنا بكرة هجيب بابا واخدها.


سارع يزن برفض ما تحاول فعله:


-لا طبعًا، والدك أيه اللي تجبيه، بقولك مش مستهلة، خدي سلسلتك.


أعطاها القلادة فوضعتها بقوة فوق الطاولة الكبيرة، ترفض ما يقوله بترفع:


-بأمارة أيه يعني تعمل معايا كده، لا طبعاً واللي هقوله هو اللي هيحصل يا أستاذ يزن، وكتر خيرك لغاية هنا.


وضعت حقيبتها خلف ظهرها واستعدت للمغادرة متجاهلة أمر وجود سليم الذي اندفع نحو أخيه يسأله بريبة وحذر:


-مين دي يا يزن، ده حوار جديد؟!


سارع يزن بالنفي شاعرًا بالضيق الشديد:


-لا يا سليم ولا حوار ولا حاجة، هبقى احكيلك بعدين سلام.


غادر هو الآخر تاركًا سليم ينظر خلف أثره بتفكير لثوان ثم قرر التوجه لكاميرات المحل، يتابع من خلالها ما حدث أثناء غيابه.

                             *****

سارت ساعات الليل ساعة خلف الأخرى، وأخيرًا استطاعت سيرا النوم، متناسية ما حدث في هذا اليوم ، ومن فرط إرهاقها باتت تتوهم وجود أحد بغرفتها، ففتحت نصف عين بقلق ممزوج بالخوف وهي تتابع الظل الموجود بغرفتها، فتأكدت من وجود أحدهم من خلال صوت أنفاسه العالية، أغلقت عينيها بخوف شديد وهي تهمس لنفسها:


-أنا همثل أني نايمة وهو يسرق أي حاجة براحته.


ولكنها بدأت تشعر بيد أحدهم على ساقيها حتى وصلت إلى بطنها ومنها إلى كتفيها، فقالت بهمس مرتجف وهي تغلق عينيها بقوة ترفض فتحهما:


-أنا ممكن اقولك على مكان الفلوس فين بس ماتقتلنيش.

________________



الفصل السابع.


سارت ساعات الليل ساعة خلف الأخرى، وأخيرًا استطاعت سيرا النوم، متناسية ما حدث في هذا اليوم ، ومن فرط الإرهاق الواقع فوقها باتت تتوهم وجود أحد بغرفتها، ففتحت نصف عين بقلق ممزوج بالخوف وهي تتابع الظل الموجود بغرفتها، فتأكدت من وجود أحدهم من خلال صوت أنفاسه العالية، أغلقت عينيها بخوف شديد وهي تهمس لنفسها:


-أنا همثل أني نايمة وهو يسرق أي حاجة براحته.


ولكنها بدأت تشعر بيد أحدهم على ساقيها حتى وصلت إلى بطنها ومنها إلى كتفيها، فقالت بهمس مرتجف وهي تغلق عينيها بقوة ترفض فتحهما:


-أنا ممكن اقولك على مكان الفلوس فين بس ماتقتلنيش.


شعرت بضربة قوية تقع فوق ذراعها وصوت "أبلة حكمت" يخترق قوقعة خوفها بقولها الحاد:


-أنتي عبيطة بتسلمي أبوكي للحرامي.


اعتدلت سريعًا بجسدها، ومدت يدها لتفتح الأنوار من خلال المفتاح الصغير الموضوع بجانبها:


-أبلة حكمت، انتي بتعملي أيه هنا الساعة ٢ بليل.


فركت وجهها بيدها وهي تنظر  لوجود أختها المفاجئ، وقد تخيلت أن "أبلة حكمت" بجبروتها المعتاد ترسل لها نظرات الأسف، ومع استمرار صمتها قالت سيرا بعدم فهم وخاصةً أنها علمت من والدتها اليوم أنها اختفت منذ الصباح ولم تثبت وجودها كما هو معتاد منها، حتى أن عائلتها اليوم كانوا أكثر راحة وهدوء بعدما قررت "حكمت" الجلوس بشقتها متظاهرة بالانشغال، فلم تستطيع والدتها معاتبتها فيما هو حدث منها.


-ماتزعليش مني.


رمشت سيرا عدة مرات بعدم تصديق، فتجولت بعينيها الناعسة بملامح "أبلة حكمت" تتأكد مما سمعته منها، فاستطردت بقولها العابث:


- أيه مش متخيلة أني بصالحك، صح؟!


هزت سيرا رأسها بالإيجاب، فأكملت الأخرى بغرور:


-حقك ماتصدقيش، بس يعني أنا حسيت ان تقلت في الهزار معاكي شويتين.


عبست سيرا بضيق وهي توجه لها عتاب حاد:


-لا يا أبلة حكمت ده مكنش هزار أبدًا.


زعقت بها ابلة حكمت وهي تحاول الفرار من أمر مواجهتها:


-بقولك كان هزار، هو انتي هتدخلي في نيتي يعني، وبعدين خلاص أنا صالحتك وقولتلك ماتزعليش.


لم تنجح في تلطيف الوضع بينهما كما اعتقدت، فعادت تردف بنبرة أكثر حنو:


-انتي المفروض تفرحي أني صالحتك يا بت يا سيرا، هو أنا من امتى يعني صالحت حد، ده انتي غالية اوي عندي.


لانت ملامح سيرا ببسمة صافية، وهي تردف بخفوت يحمل صفاء خالص متناسية ما حدث:


-ماشي يا أبلة حكمت، أنا مش زعلانة.


قبلتها أبلة حكمت وكادت أن تنهض إلا أنها عادت وقالت بتحذير قاسي:


-اوعي تقولي لحد أني صالحتك يا سيرا.


عقدت ما بين حاجبيها بتعجب، فسرعان ما عادت توضح وجهة نظرها:


-انتي عارفة اخواتك، هيجننوني ويقعدوا يقولوا بتصالحي سيرا ومابتفكريش تصالحينا، هيغيروا من علاقتنا.


هزت رأسها بإدراك لطبيعة شخصية "أبلة حكمت" وما تعانيه من غرور وتكبر تخشى أن تفقدهما مع باقي اخواتها، فلا تزال تسعى على محافظة الحدود الحمراء الموضوعة من قبلها في التعامل معهم حتى وأن اخطأت بحقهم، لقد اعتادت اجتياز جسر الإخوة بتدخلاتها المستمرة المصبوغة بقليل من التنمر، متجاهلة كالعادة غضبهم وحزنهم منها، معتقدة أن حق الإخوة يعطيها صلاحية لكل شيء.


غادرت أبلة حكمت بخفة كما دخلت كي لا تقابل أحد من افراد عائلتها ويفتضح أمرها، ولم تعلم ما تنوي سيرا فعله في الصباح.


                             ****


في اليوم التالي...


كالمعتاد جلست "يسر" تتابع التلفاز بملل شديد يكسو حياتها مؤخرًا، متجاهلة الركود والإضرار الذي حدث لعلاقتها مع نوح، ورغم تكرار الاسئلة بذهنها حوله الآن وخاصةً بعد غيابه الليلة الماضية وعدم اتصاله بها، إلا أنها ركبت بساط العناد والقسوة وظلت متمسكة برأيها، حتى يعلن زوجها المبجل خضوعه لها ولِمَ تريده منه، فالأمر بسيط من قِبله ويحتاج فقط إلى التخلي عن بعض رغباته، ليحظى بحياة بسيطة وسعيدة معها!


مرت الدقائق وهي على نفس حالتها حتى وجدت نفسها تتابع إحدى القنوات وتحديدًا برنامج إحدى المذيعات ذو الشهرة الواسعة وهي تنصح الفتيات التحلي بالقوة في وجوه الرجال  العنيدة والجبارة، فاستمعت باهتمام لِمَ تقوله وكان من ضمن حديثها بعض الجمل التي أنارت عقلها المظلم.


"أنتي لازم تبقي قوية" 


"اوعي تبيني ضعفك للراجل"


"لو حسسيته أنه مش فارق معاكي، هيجري وراكي"


"النكد والزعل مايلقيش بيكي، أنتي لازم تكوني منورة والنكد يكون من نصيبه هو"


فصاحت بحماس أنثوي تعقب على حديثها بغل:


-أيوه صح، هو اللي لازم يتنكد عليه!


عادت تستمع لحديث المذيعة باهتمام بالغ وهي تملي على مشاهديها التوصيات لمساعدتهن في تخطي عقبات حياتهن البائسة.


"قومي بصي لنفسك في المراية، هتلاقي الدموع مغرقة عينك، ووشك أصفر وبهتان وده كله عشان أيه، بالعكس غيظيه وخليه يموت من قهرته عليكي، وأنه ممكن يخسرك في ثواني"


تنهيدة عميقة أخرجتها من ضمن ثقل قوي يتربع فوق صدرها المشحون بتناقضات كثيرة، وكالمسحورة توجهت نحو المرآة تتابع تفاصيل وجهها الشاحب والحزن يكسو معالمها الجميلة، فشعرت وكأن روحها الشبابية تلبسها أخرى عجوز بائسة تستعد لنهايتها! 

سقطت دمعة حزينة مسحتها سريعًا، فحاولت التمسك بحبال الصبر، جذب رنين هاتفها انتباهها، فراحت تجيب على المتصل وقد ظنت أنه نوح ولكن هُدمت آمالها بواقع آخر، حين وجدت المتصل هو ابن خالتها زفرت بضيق وكادت تغلق الاتصال ولكن شرارة كلمات المذيعة أشعلت لهيب عقلها، ولم تدرك أن تلك الشرارة البسيطة التهمت بقايا صبرها ومعه قليل من رزانتها، فابتسمت بمكر أنثوي وهي تُقدم على تصرفات طائشة لمجرد إغاظة نوح وإثارة غيرته:

-الو، أهلاً يا منير، وحشتنا خالص.

                            *****

في المركز الطبي الخاص بنوح..


كان اليوم مشغولاً جدًا منذ بدايته، وتراكم متابعة المرضى يقع فوق رأسه بكثرة، فلم يستطع أخذ راحته إلا خمس دقائق  اقتناصتهم مروة مساعدته بإجراء مقابلة عمل مع إحدى الفتيات وتدعى  "حسناء" فتاة في مقتبل العمر، ذات جسد ممشوق وملامح عربية بلون بشرة قمحية متناسقة مع لون عينيها البنية الواسعة، طلتها جميلة وسرقت انتباه نوح الذي اعتدل في كرسيه يستقبلها بطريقته اللبقة:


-أهلاً يا حسناء نورتي.


مدت حسناء يدها تصافحه برقة ودلال كان لائقًا بها كما وصفها نوح بعقله، فابتسمت مروة على إنجاز مهمتها في إيجاد مساعدة بديلة عنها، وذلك بعد أن عُرض عليها السفر لإحدى الدول الخليجية للعمل بها، وكانت فرصة لا تُرفض، لذا تحدثت مع نوح بكل صراحة والأخر شجعها بشهامة وحثها على بناء مستقبلها بالطريقة التي تراها ولكنه طلب منها إيجاد مساعدة بديلة قبل أن تغادر البلاد.


-أول مرة تشتغلي يا حسناء؟!


هزت رأسها بالنفي وهي تجيب بثبات ولباقة أعجب بها نوح:


-لا طبعًا يا دكتور اشتغلت مرة في عيادة دكتور أسنان، ومرة في عيادة دكتور باطنة.


ابتسم ممازحًا لها:


-ما شاء الله لفيتي على التخصصات كلها.


ضحكت برقة ثم استطردت بجدية تخللها بعض من النعومة:


-أنا كنت واخدة اجازة بسيطة وكنت هرجع شغلي تاني، بس لما مروة كلمتني وقالتلي على الشغل هنا، وأنا عارفة منها إن حضرتك بتقدر جدًا اللي بيشتغلوا معاك، فقولت ليه لأ اجي وان شاء الله اتوفق فيه.


ابتسم لها بسمة صغيرة وهو يوجه حديثه لمروة المتابعة لحوراهما بصمت:


-تمام يا مروة عرفي حسناء الشغل ماشي معاها ازاي، والمرتب وكافة التفاصيل ولو هي محتاجة حاجة زيادة كلميني.


هزت مروة رأسها بالإيجاب ودفعت حسناء للخارج برفق وهي تقول:


-اوك يا دكتور، هندخلك الحالة اللي المفروض تدخل.


وما أن غادرا هما الأثنان حتى هتفت حسناء بإعجاب خافت:


-أيه الدكتور القمر ده يا بت يا مروة، هو متجوز؟!


جلسا الاثنان فوق مقعدهما خلف طاولة كبيرة وبدأت مروة في الإيجاب على أول سؤال طرق بعقل حسناء:


-اه يا اختي وعنده بنت اسمها لينا بيموت فيها.


وضعت حسناء يدها أسفل ذقنها وهي تقول بنبرة بها لمحة من المكر:


-أيوه مانا أخدت بالي من صورتها المحطوطة على المكتب وقولت أكيد بنته.


ضيقت مروة عينيها بمكر مماثل وهي تقول:


-ولما أنتي اخدتي بالك يا لماحة بتسألي متجوز ولا لأ ليه؟!


هزت كتفيها ببرود ينافي الحماس المصبوغ بعقلها:


-قولت يمكن مطلق ياختي.


-ادعي وهيحصل قريب.


زاد حماسها للضعف وهي تقترب منها تستعد لسماع أحاديث مروة عن نوح وزوجته المشتعلة دومًا بغيرتها عليه، وما أن أنهت حديثها حتى قالت بتنهيدة قوية:


-بس سبحان الله رغم كل المشاكل اللي ما بينهم، إلا أني عمري ما حسيت أنهم هيسيبوا بعض.


شردت حسناء بأسلوب أقلق مروة فقالت بفضول:


-اوعي تحطيه دكتور نوح في دماغك يا بت يا حسناء، فكك من خراب البيوت يا حبيبتي، اشقطي واحد مش متجوز.


اندلعت أحلامها في نسج خيوط خطتها وكأن هذا العمل المفاجئ قدم لها فرصتها على طبق من ذهب، فهمست بشرود:


-واللي حياته مدمرة نسيبه كده ولا نساعده، يمكن يلاقي نصيبه اللي بجد.


ضحكت مروة بلامبالاة:


-يبقى نويتي أن امك تعمله عمل يوقعه.


تنهدت حسناء بخفة وهي تحسم أمرها:


-شوفي أنا عمري ما مشيت في طريق أمي ده، بس لو عشان خاطر نوح ده همشي فيه ونص.


-والله أنتي دماغك تعبانة أنتي وأمك الدجالة دي.


-طيب بس لاحسن اخليها تسيب عفاريتها عليكي، ويلا قوليلي بتنظمي المواعيد ازاي.


انشغلا في الحديث لفترة بسيطة عن كيفية ترتيب أمور العمل بالمركز الطبي، ودخول المرضى لنوح، ولكن دخول " يسر " المفاجئ أثار ربكة مروة قليلاً، فاستقبلتها ببسمة جافة وهي تشير لها بالدخول لنوح ولكن ما أثار دهشتها هو ذلك الشخص الغريب الذي دخل معها، فلم تنتبه لأسئلة حسناء الفضولية:


-المزة دي مراته؟! ومين ده اللي معاها؟! أكيد أخوها صح؟!

                             ***

اشتدت الصدمة فوق وجه نوح الذي سارع بإخفائها وهو يتأمل زوجته المتأنقة وتلك الإشراقة المحتلة ملامحها وثيابها المائلة للون الزهر المفضل لديها، و....ماذا؟! البلهاء تضع أحمر شفاه لونه وردي، وترتدي عدسات لاصقة باللون الأزرق، ماذا يعني ذلك؟! أهي ترحب بعودة منير من عمله؟! فهو يعمل محاسب في أحد بنوك الإسكندرية ويأتي للقاهرة كل فترة! هي تعرف تمام المعرفة أن التوافق بينهما يندرج بقائمة المستحيلات، وأنه الشخص الوحيد بعائلة يسر يكرهه، لأسلوبه البارد وتودده الدائم لزوجته!

غفل نوح عن الترحيب بمنير ولكن الآخر لم يعقب وكأنه معتاد على قلة الذوق منه دائمًا، فكسرت "يسر" حاجز الصمت والتوتر السائد للأجواء بقولها الهادئ المائل للعتاب:


-أيه يا نوح مش هتسلم على منير!


-أهلاً.


خرجت جافة وباردة منه وهو يمد يده يصافحه، ولكن منير لم يشعر بالإحراج بل تعمد مضايقة نوح أكثر كنوع من التسلية فهو يعلم مشاعر نوح نحوه ويستمتع بذلك، لطالما يرى أن يسر لا تناسب نوح، فابنة خالته تستحق شخصًا أفضل منه، شاعرًا بالأسف نحوها، فدائمًا يراها جوهرة وضعت في يد شخص مهمل لم يقدر ثمنها.


-عامل أيه يا دكتور، والله كنا مستعجلين بس يسر أصرت نيجي ونسلم عليك.


ضغط فوق أسنانه بقوة والغضب يتفاقم لديه بطريقة مُرعبة، ولكنه أخفى كل ذلك خلف رداء الهدوء وهو يتساءل:


-ويا ترى رايحين فيه؟!


وقبل أن تجيب يسر بثبات زائف، رد منير بحماقة قاصدًا إشعال غيرة نوح:


-أيه ده معقول يسر مش قالتلك؟!


اكتفى فقط بإرسال نظراته المرعبة لها، ومنع أي كلمات متهورة قد تندفع من فوهة بركانه الثائر، فتفهمت هي ما يجول بداخله وما ينتظرها من عواقب وخيمة، لذا حاولت إخراج نبرة صوتها الثابتة بقدر الإمكان:


-ماكنش في وقت اتصل واقوله يا منير، خصوصا إن نوح مشغول اوي في عيادته اليومين دول، على العموم احنا كنا رايحين نتغدا، أصل منير عازمنا أنا ولينا وخالتوا على الغدا، حتى لينا تحت معها في العربية.


أنهت حديثها سريعًا وفتحت مجالاً للهواء لدخول لرئتيها، وخاصةً بعد شعورها بانقطاع وشيك لتنفسها، وبعدما كانت على مشارف تنفيذ خطتها لإثارة غضبه وغيرته، ها هي ستقع فريسة بين يديه إن فشلت في الفرار من أمامه الآن وتحديدًا بعدما قال منير بحماقة: 


-والله مش هتصدق يا نوح، أول حاجة عملتها لما جيت القاهرة، اتصلت على يسر عشان اشوفها هي ولينا أصلهم وحشوني اوي.


-وحش لما يلهفك، ما تظبط يالا في أيه؟!


-نوح!


قالتها يسر بتحذير والإحراج بغزو وجنتيها، بينما منير كان عبارة عن كتلة من البرود، مستمعتًا باستشاطة نوح.


-نوح أيه بقى هو انتي خليتي فيها نوح، بقولك قوم اطلع برة، اقولك انزل لأمك زمانها قلقانة عليك.


رمقه منير بنظرة باردة والابتسامة الواسعة تحتل محياه وهو يتعمد تجاهله:


-انا نازل يا يسر، خلصي وهتلاقيني مستني تحت.


نقشت الصدمة فوق تعابير وجهه الغاضبة، متسائلاً بقسوة:


-هو عايز يضرب صح؟!


انتظرت خروج منير من الغرفة، وعقب إغلاقه للباب خلفه حتى وجهت عتابها الصريح له، تزامنًا مع نبرتها النارية:


-خلاص بقى يا نوح، كفاية إحراج، ماينفعش تهزقه بالشكل ده.


نهض من مكانه، مختصرًا المسافات بينهما وهو ينفجر بانفعال ضاري:


-انتي اتجننتي ازاي تفكري تنزلي من بيتك من غير إذني.


تراجعت خطوة للخلف، رغم تعمدها إظهار قوتها حتى وإن كانت هشة أمام طوفان غضبه:


-في أيه أنا ماغلطتش على فكرة...


بتر حديثها بغلظة أرعبتها، وهو يشدد يده فوق ذراعيها يقربها إليه:


-ماتستعبطيش يا يسر، أنتي عارفة كويس ان اللي عملتيه غلط وماينفعش، بس أنتي بقى شيطانك ركب دماغك لمجرد إنك عايزة تغظيني.


رفعت حاجبيها بتعجب زائف وهي تضحك ساخرة:


-بجد والله! لا أنت ماتفرقش معايا أصلاً، مابقتش في حساباتي.


رغم اهتياج أنفاسها، ورعونة كلماتها بحقه، وما آل لعقلها من ردود أفعاله التي حتمًا ستكون وخيمة عليها إلا أنه فاجأها حين أمسك بخصرها يجذبها نحوه، يقتحم شفتيها بقبلة طويلة يبث فيها تناقض مشاعره، وفرط اشتياقه لها، فترنحت قبلاته ما بين اللين والقسوة، بينما هي تمسكت به بضعف كالغريق المتشبث بطوق نجاة تتحامى به من هياج أمواج حبه الهائجة.

نجحت في الابتعاد عنه وحاولت التحلي بالقوة إلا أنها هوت بضعف بين ذراعيه تهتف بهمس يغمره الرجاء، متناسية أنها من أشعلت النيران في حقل غيرته:


-نوح مـ...ماينفعش.


أغمض عينيه يستمتع بسحر لحظتهما، وأحاسيسه تتخبط بين جدران صدره تسعى للفرار من سجونه المظلمة، فؤاده الشريد يتلهف للمزيد منها رغم التفاف النساء حوله وتقديم فروض الولاء له، فوحدها تستطيع إشباع روحه الجائعة بحنانها الفياض، غزالته البرية تملك مفاتيح قلبه ولكنها تأبى التنازل بل أنها تضرم قلبه بحريق لن ينتهي سوى بهلاكهما!

خانته أصابعه وتلمست تفاصيل وجهها المحبب له، يتغزل بملامحها الجميلة بإشراقتها المحببة لقلبه، فوقعت عينيها أسيرة لنظراته الشغوفة بها، ورغم عنها مالت شفاها المرتعشة ببسمة صافية وكأنها تناست ما فعله بها الأيام الماضية، فتمنت أن تضع رأسها فوق صدره تخبره بحجم اشتياقها له، ولكن كرامتها كانت كالحاجز الحديدي الذي تحطم عليه جميع أحلامها.


-هبعت معاكي السواق وتاخدي لينا وتروحي تزوري ماما، وأنا هاخلص بسرعة وأجيلك أخدك ونروح مع بعض.


ارتجف صوتها من فرط مشاعرها وهي تقول:


-و..مـ...منير وخالتو أعمل فيهم أيه؟!


كظم غيظه بمهارة ورد بأسلوب بارد ينافي الغليان الذي يشعر به كلما ذكرت أسمه أمامه:


-ماتعمليش حاجة أنا همشيهم، محدش طلب منك تتعاملي مع الواد ده.


امتهنت الضيق وهي تتحدث بنبرة شبه محذرة:


-نوح، ماينفعش تبوظ علاقتي بقرايبي.


استنكر بغيظ واضح، قائلاً:


-والله حلال فيه ماتبوظيهاش بس، لا تولعي فيها.


هتفت محذرة بنبرة شبه عالية:


-نوح؟!


اخشوشنت نبرته ليقطع حبال النقاش معها:


-يسر؟


فشلت في إخفاء بسمتها وسعادتها بعدما لمست حبه لها، فلا زال نوح عاشقًا لها رغم ما يفعله وما يقوله، لذا حاولت تهدئته نفسها الراغبة في تحطيم رأسه، وأجبرت ذاتها على الاقتناع، بأنه يتمسك فقط بالعناد معها، وبالتأكيد لم ولن ينفذ ما يطلبه، وأن رغباته من الممكن أن تكون ورقة يستخدمها لتجديد علاقتهما وحبهما كما دومًا تقنعها به والدتها!


-يلا بقولك عشان تزوري ماما، وبالنسبة لخالتك هبقى اخدك في يوم والواد الملزق ده مسافر نزورها.


تركته وتوجهت صوب الباب والحروب لم تهدأ بعقلها إطلاقًا رغم حالة الهدوء التي وقع بها قلبها فبدا كالمحارب الذي اقتنص هدنة بعد حرب طويلة أنهكته.


-نوح، هو أنت ممكن تتنازل علشان ماتخسرنيش؟!


سؤالاً لم يتوقعه، فوقع فوق رأسه كالقنبلة، حاول إيجاد إجابة دبلوماسية، رافضًا الاعلان عن حقيقة مشاعره:


-بليل هنتكلم في كل الاسئلة اللي انتي عايزاه، بس روحي دلوقتي عشان في ناس كتير اتأخرت برة وهيضايقوا، السواق مستنيكي تحت.


لمعت عيناها بوميض شرس، فتأكد أن الليلة لن تمر مرور الكرام، وأن ذلك الوقت مجرد هدنة قبل بداية مشكلة جديدة بينهما تنتهي بخصام لمدة ربما تكون مفتوحة!


لاحظ خروجها فتنفس أخيرًا محاولاً تهدئة نفسه، وأمسك الهاتف يبلغ سائقه بمعلومات محددة:


-وصل المدام ولينا للحاجة، ايوه هي لسه مانزلتش، في واحد وقف عندك اسمه منير، خد منه لينا لغاية ما المدام تنزل، ولو حصل أي حاجة غير اللي بقولها بلغني.


أغلق الهاتف وهو يتوعد بغل:


-ماشي يا منير الكلب، ورحمة أبويا لأعلمك الادب.

  

                               *****   

                            

ارتدت سيرا بلوزة صيفية بلون أزرق بها خيوط بيضاء متناثرة بها وسروال جينز وكعادتها احتارت في لون وشاحها، فأخذتهم وخرجت تستطلع آراء اخواتها الفتيات، وأخذت برأي الجميع وبشقاوتها اختارت وشاح لم يختاره أحد، فصاحت فريال بغيظ:


-يا باردة بتسألينا ليه، طالما مش هتختاري اللي بنقولك عليه؟!


-كنت بتأكد بس، إن رأيي هو الصح.


قالتها بضحكة واسعة، فبدت مشرقة وهي تنتظر والدها كي يذهبا لجلب القلادة، ولكن دخول أبلة حكمت من الباب قلب الأجواء، فقابلت أحد أبناء شاهندا وأمسكته معقبة:


-أيه يا واد التيشرت الملزق ده، هي أمك بردو هتفضل تجيب مقاسات صغيرة.


وضعت شاهندا حبات البزلاء بالصحن والضيق يعلو معالمها من تحكمات أبلة حكمت ورأيها الاستفزازي:


-احنا لسه بنقول يا هادي يا أبلة حكمت.


رفعت حكمت حاجبيها معًا بتحدٍ سافر، فراحت كريمة تخرج من المطبخ وهي ترسل الغمزات لباقي الفتيات، وحاوطت أبلة حكمت باستمتاع:


-بس يا شاهندا ماتزعليش من رأي أبلة حكمت، دي قلبها أبيض وكبير، وبتحب الكل، وأي حد بيزعل منها بتصالحه حتى ولو الساعة ٢ بليل.


ضيقت " ابلة حكمت" عينيها بسخط وهي ترسل نظراتها الحانقة لسيرا، التي سارعت برفع نبرة صوتها وهي تدعي البحث عن طعامها:


-الجبنة الرومي فين، كلتوها، ينفع كده عيالك يا فريال ياكلوا أكلي.


ضحكت فريال بتسلية وهي تقول:


-معلش بقى خلي أبلة حكمت تجبلك غيرها، ما هي بردة قلبها أبيض وكبير، وبتصالحك الساعة ٢ بليل.


احتقنت معالمها بغضب وهي تبعد كريمة عنها:


-اوعي ياختي، قافشة فيا زي الحرامي ليه كده، وبعدين مالك يا حبيبتي منك ليها، بتشقطوني لبعض زي الكورة ليه؟! والله لولا بس أن انا مش فايقلكم لكنت قعدتلكم هنا وعلمتكم الادب.


خرج والدهم من غرفته بعدما استعد، وهو يقول بنبرة محذرة:


-اهدي يا حكمت، احنا لسه بنقول يا هادي.


علقت حكمت حقيبتها بغرور في ذراعها، وهي تقول:


-عشان خاطرك أنت بس يا بابا، يلا بينا.


اوقفت سيرا والدها تسأله بهمس:


-هي أبلة حكمت جاية معانا يا بابا؟!


-اه.


أجاب والدها ببساطة أغاظتها، فبترت فريال سؤالها، بقولها الفضولي:


-هي أبلة حكمت رايحة معاكم فين يا بابا؟!


غمزت حكمت والدها كي لا يخبرهم، ولكن والدها دمر أمانيها وقال ببساطة:


-عايزة تبص على شقة، بتفكر تشتريها.


هتفوا ثلاثتهم بقول واحد:


-تاني؟!


فتحت كف يدها بخمس أصابعها عاليًا وهي تقرأ المعوذتين، ثم قالت بصوت متحشرج:


-اعوذ بالله، أيه الشرقة دي، احميني يا رب من عينهم الجاحدة.


ثم سارعت بالخروج خلف والدها وهي تعاتبه:


-أيه يا بابا، هو الواحد مايعرفش يخبي حاجة في البيت ده، امال أنا قايللك ليه، ما عشان صافي مايعرفش.


تجاهلها والدها الذي سارع في النزول، بينما سيرا حاولت الفرار منها ولكنها فشلت حين أمسكتها بأخر الدرج:


-بقى أنا اقولك ماتقوليش، تفضحيني فضيحة الكلب يوم فرحه كده، أنا مافيش حد علم عليا من اخواتك غيرك، بس الغلط مش عليكي عليا أنا، بعد كده مش هعبرك.


اصطنعت سيرا البراءة وهي تقول:


-انتي فاهمة غلط يا أبلة، ده هما جرجروني بالكلام وأنا وقعت غصب عني، أنتي عارفة أنا مش هعبرهم تاني ولا احكيلهم حاجة الفتانين دول.


-شوفتيهم وهما بيحقدوا عليا؟


هزت رأسها بالإيجاب، وقبل أن تتحدث صاح والدهما بضيق:


-هتفضلوا تتكلموا كتير على السلم، يلا مشاورينا كتير.


انصاعا لوالدهما وتحركا خلفه، وبعد مرور عدة دقائق طويلة وصلوا أمام محل "الشعراوي" انبهرت أبلة حكمت بتصاميم المحل وبمشغولات الذهب المعروضة أمامهم، بينما وقفت سيرا بعيدًا تنتظر والدها حتى ينهي الحساب، متجاهلة نظرات سليم لها وتعجبت منه ومن جلوسه المغرور أمام مكتبه الذي يقع في إحدى زاويا المحل، رفعت عيناها نحو الصورة المعلقة على الجدار خلفه وكانت لرجل كبير، تكهنت بذكائها أن يكون والده، مطت شفتيها وهي تمرر بصرها في أرجاء المحل، وكالعادة همست لنفسها:


-عبيطة صاحب معرض عربيات عايزة يروح لأي صايغ، لازم يروح لحد تقيل بردو.


ولم تدرك أبدًا أن اسم الشعراوي هو نفس أسم يزن الذي ألقاه على مسامعها في أول لقاء لهما، فيبدو أن النسيان لعب دورًا هامًا حين غمرها يزن بنظرته التي عبرت عن إعجابه بها، فتغاضت عن بعض النقاط الهامة وتناستها فيما بعد، انتهبت سيرا للاعتراض والدها ونهوض ذلك الشخص المتعجرف للتحدث معه، فاستمعت إليه وهو يقول بلباقة عالية تنافي التعالي والكبر المنحوتان في تفاصيل وجهه:


-انت حضرتك أيه اللي مضايقك، دي هدية مننا عشان الأنسة جاية من طرف يزن الشعراوي أخويا الصغير.


توسعت أعينها بطريقة ملحوظة، واصبغت وجنتيها بحرج شديد، أما عقلها وقع في دائرة ذعر عندما شعرت باتساع الفجوة بينها وبينه، انتهت قصة إعجابها به قبل أن تبدأ، فهي لم تكن متقبلة عمله والذي نم عن ثرائه، والآن أوضحت لها الحياة مدى ثراء عائلته أيضًا، فهمست لنفسها:


-غبية امال كنتي مفكرة عيلته هايبقوا أيه؟!


عادت تستمع لتدخل العامل في الحديث:


-أستاذ يزن منبه علينا مناخدش حاجة.


فتدخلت حكمت سريعًا:


-خلاص يا بابا الناس ذوق وعايزين يعملوها هدية، متشكرين.


بتر والدها حديثها بصرامة بالغة، سرقت إعجاب سليم به وبعزة نفسه والتي تشبه عزة نفس تلك اليافعة التي تقف وحدها والصمت يحجزها بين جدرانه:


-حكمت، ماتتدخليش...


ثم استطرد حديثه لسليم بنبرة أقل حدة ويملأها الرزانة:


-احنا متشكرين جدًا، بس أنا هكون مرتاح أكتر لما ادفع حقها، وأنا سعيد جدًا بمعرفتك يا أستاذ سليم، وبالنسبة ليزن أنا هروح لغاية عنده واشكره على نبله مع بنتي.


توقعت أنه مجرد كلام ولم تعلم نية والدها الجادة بالذهاب ليزن لشكره، وما إن أنهى الحساب، وأخذت سيرا القلادة وخرجوا من المحل، حتى سألته سيرا بفضول:


-طبعًا يا بابا الكلام اللي كنت بتقوله جوا ده مش هيحصل!


-لا طبعًا، هنروح له، يلا بينا.


استعدت أبلة حكمت بحماس وفضول شديد، بينما سارعت سيرا بالرفض:


-ليه يا بابا، أنا شايفة ملهاش لزمة، خليها وقت تاني، ولا اقولك أنا هشكره بالنيابة عنك.


تدخلت أبلة حكمت تعارضها وتعرض وجهة نظرها من واقع خبرتها التي دومًا تستعرضها أينما كان الحديث:


-من خبرتي يا بابا، احنا لازم نروحله ونشكره، وبالمرة نروح نطمن على المنطقة اللي سيرا بتشتغل فيها!


-عندك حق يا حكمت يلا بينا.


وضعت سيرا يدها فوق وجهها وودت الصراخ عاليًا، تتمنى أن يحدث شيء ويلغى ما عزم عليه والدها، ولكن القدر لم يحالفها، فوصلوا ثلاثتهم أمام معرض يزن وانبهرت أبلة حكمت بأجواء المنطقة الراقية، فصرحت بذلك علنًا:


-الله يا بت يا سيرا، امسكي في الشغل ده بايدك واسنانك، هي الشقة هنا تعملها كام مليون؟!


هتفت سيرا بغيظ من بين أسنانها والضيق يعلو قسمات وجهها:


-عشرين مليون يا ابلة.


توسعت أعين حكمت بانبهار، متسائلة:


-وهو في حد معاه عشرين مليون؟!


-ماتدخلنياش في تفاصيل دي يا أبلة حكمت.


ثم وجهت حديثها لوالدها بنبرة غلب عليها الرجاء فلم يفهمها وتعجب لها:


-يا بابا بلاش ندخل عنده عشان خاطري.


وقبل أن يفصح والدها عن أسئلته، ظهر يزن من العدم أمامهم وهو يرحب بهم بحفاوة وكأنه كان على علم بمجيئهم:


-أهلاً، أنا يزن الشعراوي.


التفت أبلة حكمت تتفحصه بعناية، فسارعت بتقديم يدها تصافحه وهي تقول:


-حكمت أخت سيرا الكبيرة، وده بابا.


رمقها والدها بعدم رضا ثم حول نظراته ليزن الذي استطاع بابتسامته اللبقة محو أي ضيق حدث في نفسه من تصرف ابنته الكبرى:


-اهلا يا ابني، أنا كنت جايلك مخصوص عشان اشكرك على اللي عملته مع سيرا، ومتشكر جدًا على محاولتك اننا مندفعش حق السلسلة...


قاطعه يزن مرحبًا به ولكنه أظهر عتابه:


-ان حضرتك تيجي لغاية عندي على راسي، بس أنا زعلت على إصرارك انك تدفع حقها، دي حاجة بسيطة.


ربت "حسني" فوق ذراعه بامتنان:


-شكرًا يا ابني، عن أذنك.


-لا والله أبدًا أنت لازم تدخل وتاخد ضيافتك.


أخيرًا خرج صوت سيرا من سجون الصمت وهي ترفض:


-لا شكرًا، احنا مستعجلين، يلا بابا، يلا أبلة حكمت عشان نشوف الشقة اللي انتي عايزاها.


لم تعلم سيرا أن عيني أبلة حكمت قد ثقبت الزجاج ولمحت السيارات المعروضة بالداخل، فقالت بحماس:


-لا لغيت فكرة الشقة، أنا بفكر اشتري عربية.


-يا خبر يا هانم احنا عينيا ليكي.


كان قاصدًا إغاظة سيرا بعدما شعر بحاجتها المستمرة للفرار منه، فمالت ابلة حكمت بإعجاب تهمس لسيرا الحانقة:

-بجد يزن ده ذوق اوي، ده قالي يا هانم، عنده نظر بجد.


ثم قالت لوالدها الغارق في عدم رضاه بسبب تصرفاتها:


-يلا بينا يا بابا، ماينفعش نزعل أستاذ يزن.


-لا أستاذ أيه بقى، قوليلي يا يزن، اتفضلوا.


ومد يده يشير لهم بالدخول، دخلت حكمت اولاً ثم تابعها حسني سريعا كي يحاصرها لعلمه أنها ستنتشر بالمكان، بينما سيرا قالت بغيظ خافت:


-أنت دماغك دي هتسوحنا اقسم بالله، انت ماتعرفش أبلة حكمت.


همس لها سريعًا والتسلية تحلق بسماء عينيه:


-مالها دي عسل، أنا حبيتها جدًا.


اغتاظت سيرا من تصرفاته العنيدة بحقها وهي تقول:


-اتفضل، اهي واقفة قدام عربية تعملها ٢ مليون.


شاكسها يزن وهو يستعد للدخول:


-انتي بتطيري الزبون من ايدي ليه، يا قاطعه الارزاق انتي.


دخلت خلفه وهي تهمس بحقد من عناده معها:


-انا غلطانة، ان ما فاصلتك فيها وقالتلك ما تنفعش ب ٢٠٠٠٠ جنية مابقاش أنا.


تجاهلها يزن وهو يتقدم من والدها واختها الواقفان أمام سيارة يتابعان تفاصيلها بتركيز، بينما كان يخرج هاتفه من جيب سرواله يجيب على اتصال أخيه زيدان:

-تشربوا أيه؟


ردت أبلة حكمت وهي تفتح باب السيارة الأمامي وتجلس بداخلها:


-أي حاجة سخنة.


ثم وجهت حديثها لوالدها بابتسامة واسعة:


-شكلي فيها حلو يا بابا، ابان شخصية مهمة.


وقبل أن يجيب والدها استمعوا ثلاثتهم لصوت يزن المصدوم وهو يتحدث بالهاتف:


-أيه؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، ماشي جاي.


لمعت عيناها بفضول وهي تتابع نظراته الغامضة، فـعلى ما يبدو أن هناك خبر سيء تلقاه من خلال ذلك الاتصال، فقطع طريق فضولهم بقوله:


-عمتي اتوفت.

_________________

قراءة ممتعة ♥️


#غناء_الروح

#يزن_الشعراوي

#سلسلة_ما_بين_نبضات_القلب_وندباته


الفصل الثامن...


فُرضت قيود الصمت على ألسنتهم، وغُلفت بعض الأفئدة بالحزن لهيبة مشهد وداعها، بينما البعض الآخر اكتفى بطي العداوة المنبثقة بقلوبهم في بئر النسيان، فلم يعد مجالاً للكراهية الآن، غادرت ميرڤت بجبروتها وقسوة قلبها وجحود طباعها لعالم آخر تجني به ثمار ما زرعته طوال حياتها.

مسحت "نهى" قطرات الدمع المتساقطة فوق صفحات وجهها الحزين والإنكسار يغزو روحها، لم تستطع وداعها بعدما فشلت في التقرب منها وبث الهداية بقلبها، حيث رفضت والدتها مقابلتها عدة مرات، واتسعت طرق الفراق بينهما، فأغلقت صفحات محاولاتها معها ووضعت كلمات النهاية بالدعاء لها، وكعادته معها ساندها "خالد" بإحتوائه ودعمه المستمر لها، مربتًا فوق جوارحها بهمساته الحانية، طالبًا منها الدعاء لها، فهي في أمس الحاجة إليه، هزت رأسها وهي تبكي، سامحة لصوتها بالتسلل للعلن:


-ربنا يرحمها، ويغفر لها.


ثقلت كلماته بلسانه، بعدما حارب عقله مشاعره التي حاولت التكيف مع مشهد وداع زوجة عمه، فلم يتذكر لها سوى القسوة والبغيضة التي ولدتها بقلبه نتيجة أفعالها معه، ولكنه أجبر نفسه على الدعاء لها، ثم حمحم بخشونة عندما لاحظ سليم وأخويه ينتظرون عند باب المقابر الخارجي، فقال لنهى بنبرة غلب عليها التخبط: 


-ولاد خالك بقالهم كتير مستنين.


التفتت نصف التفافة تنظر إليهم، وبسمة ساخرة تعلقت بشفتيها الباهتة نتيجة لإرهاقها المستمر في شهور الحمل، ثم عادت بنظراتها الشاحبة نحو قبر والدتها تنظر إليه وكأنها تعاتبها، فلم يستطع لسانها الصمت كثيرًا وهمست بأسى متخيلة أن زوجها الواقف بجانبها لم يسمعها:


-أكتر ناس كرهتيهم وعادتيهم هما اللي حضروا جنازتك، اخدتي أيه من اللي عملتيه؟!


سؤالاً تمنت دومًا الإجابة عليه، علها تجد مبررًا للسواد القابع بقلب والدتها اتجاه أولاد خالها، وتحديدًا سليم، لم تتوقع أبدًا حضوره ولا تأديته لصلاة الجنازة عليها، والأغرب هو من دفع كافة تفاصيل دفنها، اخترق حزنها بتصرفاته واحتارت فهم طباعه، ولكن الشيء المؤكد لديها أنه عكس ما كانت ترويه والدتها عنه، طوال الأشهر الماضية لم يكف بالسؤال عنها سواء هو أو شمس زوجته والإطمئنان على صحتها، عرض مساعدته لها دومًا لأي شيء يخصها أو يخص خالد، ودون أن تشعر نمى بقلبها شعور بالامتنان له.

تركت قبر والدتها بقلب مكسور وحزين، وتوجهت لهم، تتلقى عزائهم بوجهٍ مرهق، وأنفاس ثقيلة نتيجة لإرهاقها وأول من لاحظ ذلك هو يزن، فقال بأسلوبه اللبق:


-متهيألي يا خالد تيجوا تريحوا الليلة دي عندنا، نهى شكلها تعبانة.


-أنا شايف كده بردو.


أكد سليم على حديثه ولم يخفي إهتمامه بابنة عمته الوحيدة فشعوره نحوها بالمسئولية زاد الضعف، ولكن نهى سارعت بالرفض ممسكة بيد خالد بقوة:


-لا أنا هرتاح أكتر لما نروح، ملهاش لزمة أننا نقعد.


تفهم خالد حاجتها بالذهاب لمنزلها، حيث نجحت في بناء عُش لهما تحتمي به أثناء ضعفها:


-خلاص على راحتها، وكمان أنا مينفعش اتأخر على شغلي.


ودعت نهى سليم أولاً وهي تنسج خيوط الإمتنان بنبرتها الثقيلة:


-شكرًا يا سليم على كل حاجة، ربنا يجعله في ميزان حسناتك.


فرض بسمة فوق شفتيه وهو يقول بصوت مجهد:


-مفيش شكر ما بينا، لو احتاجتي أي حاجة كلميني على طول.


هزت رأسها امتنان شديد، ثم ودعت يزن الذي أظهر تعاطفه معها كعادته، ثم انتقلت لزيدان المتخبط بين مشاعره ولكن غلب عليه الحزن لِمَ هي تعانيه من وحدة بالرغم من وجود عائلتها، وكسرة بسبب أفعالهم الشنيعة بحق أنفسهم أولاً فكانت نتائجها وخيمة عليها وحدها، وذلك بعدما قابلت رد فعل والدها وأخيها على خبر وفاة والدتها بالتجاهل الشديد، ولكن احتلت الراحة جزء بداخله عندما اطمئن عليها ولاحظ احتواء خالد لها.


-لو احتاجتي أي حاجة أنا موجود.


همست بنبرة متحشرجة للغاية، وهي تغلق عينيها وكأنها تجبر نفسها على نسيان الماضي:


-شكرًا.


قطع عليها خالد ذكريات الماضي المندفعة لعقلها بسرعة البرق، فوجوده له أثر مهيب على نفسها، وحضوره الطاغي على قلبها جعله ينتفض بدقاته العنيفة لمجرد إحتواء كفه لكفها ثم مساعدتها للسير نحو سيارتهما:


-لو حاسة إنك هتتعبي، إحنا ممكن نحجز في أي أوتيل.


هزت رأسها بنفي وهي تستند عليه، تلقي بثقلها وهمومها فوقه بكل أريحية:


-لا، صدقني هرتاح أكتر في بيتنا.


هز رأسه بالموافقة، يقدم فروض الانصياع لرغبتها، وفتح باب السيارة الأمامي وقبل أن تستقل بها همست بسؤال يغمره نيران الفقد:


-خالد هتجيبني ازورها كل فترة؟!


اختفت مشاعره السلبية خلف جدار رزانته وهو يقول:


-وأنا من امتى برفضلك طلب يا نهى! أؤمري انتي ومالكيش دعوة.


آه لو يتوقف الزمن وتبقى معه دون أن يراهما أحد، حتمًا كانت ستقع بأحضانه تنهل من بئر حنانه ما يروي ظمئ قلبها، ولكن فُرض الخجل قيوده عليها، واكتفت بإرسال رسالة شكر صامتة من خلال عينيها، تخبره بها كم تتمنى أن يظل إحسانه معها وألا تضل دربهما أبدًا.

                                *******


مساءًا...

دخل سليم شقته بجسد منهك، وعقل مجهد، وعيناه تفتقد حدتها المعتادة، فمالت تعابير وجهه للإرهاق وهو يقابل ابنته الجالسة بمقعد مخصص للأطفال وبجانبها أنس الذي يحاول تقديم جميع العابه لها، بينما هي كانت تلتهم قطع الألعاب بفمها معتقدة أنها طعام، فأبعدها سليم عنها وهو يقبل وجنتيها بحب، يهمس بنبرة يغمرها الاشتياق لتفاصيلها:


-هي ماما مجوعاكي ولا أيه؟!


وجدت شيء أخر تلتهمه ألا وهو وجنته، فصدر عنها صوت طفولي رقيق وإبتسامة واسعة احتلت محياها وهما يتشاركان الضحك هي وسليم الغارق بكل شيء تصدره، متناسيًا وجود أنس المتابع لهما بعيون تفتقد لِمَ تتلقاه قمر من قبل والدها، وقبل أن ينهض "أنس" يتوجه لوالدته يطلب منها الإحتواء بصمت كعادته، وجد والده يعيق حركته بعدما وضع قمر بمكانها، ثم أجلسه هو فوق ساقه يسأله بإنعقاد حاجبيه ونبرته الهادئة:


-رايح فين وسايبني من غير ما تسلم عليا؟!


قبله أنس في خده ثم رد بعفوية:


-رايح لماما.


-طيب ما تجيب حضن كبير عشان أنت واحشني أوي الفترة دي.


عانقه أنس فورًا متناسيًا ما حدث قبل دقائق وشعور بالغيرة من أخته "قمر" تلاشى بتصريح والده له، مهما كان سليم جامدًا وقاسي المشاعر مع الأخرين إلا أنه مع أطفاله شخص آخر يفيض حنانًا ولطف، ظل سليم يحظى بدفيء طفله أنس، فمَن يتعطش للحنان ليس سواه، حيث اضمحل خريف مشاعره وهو يستقبل ربيع وجود أطفاله حوله! نعمة كبيرة سيظل يحمد الله عليها كل لحظة بحياته.

ظهرت شمسه من قوقعة المطبخ المحتجزة بها كعادتها، فأظهرت كامل إهتمامها بوجوده كما دومًا تفعل معه، وعيناها الشاردة بتفاصيله تبحث عن مأوى يطمئن من خلاله قلبها عليه، فسألت بإهتمام بالغ:


-عملتوا أيه؟


هز كتفيه بهدوء وهو يبعد جسده عن أنس ويستند بظهره على مسند الأريكة:


-مفيش خلاص ادفنت.


همست بنبرة فاترة وهي تقول:


-ربنا يرحمها ويغفر لها،...


ثم استطردت بقولها الذي يتدلى منه العتاب:


-كان المفروض أنا ومليكة على الاقل روحنا معاكم وقدمنا واجب العزا لنهى.


اغمض عينيه وهو يتنهد بقوة:


-وأنا قولتلك أنها هترجع تاني ملهاش لزمة تيجوا، ابقوا كلموها بالتليفون يا شمس.


مالت نبرته للحدة في أخر حديثه، فعقدت ما بين حاجبيها وشعرت بحاجته للصمت أو تركه وحده يصارع وحوش ماضيه المُصرة على طرق أبواب حاضره بكل قسوة، فاخترقت عالمه بسؤالها الخافت وخاصةً بعدما تركهما أنس وتوجه للتلفاز يتابع مسلسله الكرتوني المفضل:


-سليم، أنت زعلان عليها؟!


ضرب الإستنكار اعتقادها حين سأل:


-على مين بالظبط؟!


مطت شفتيها بضيق لمراوغته لها:


-عمتك ميرفت.


-الله يرحمها، بقت من الأموات، مايجوزش عليها غير الرحمة يا شمس.


انزعجت من أسلوبه المبطن، فقالت بنبرة مستاءة:


-أنا مابتكلمش عليها وحش، أنا بسألك عن مشاعرك أنت ناحيتها؟!


مال برأسه أكثر ناحيتها وهو يسألها بمكر امتزج بخصال شخصيته المغرورة:


-طيب ما تسأليني عن مشاعري ناحيتك أنتي؟!


استندت بذقنها على يدها وهي تجيب بذكاء ومكر أنثوي ادهشه:


-لا ما أنا عارفة أنك هتجاوب عليا بإستفاضة في أي حاجة تخصني، لكن أنا بقى بحب أدخل في اللي مايخصنيش.


أنهت حديثها ببسمة واسعة تستفزه بها ولكن ملامحه أبت الافصاح عن أي شيء وهو يقول:


-وهتستفادي أيه؟!


أرجعت خصلات شعرها الثائرة خلف أذنيها، ثم انتقلت أصابعها بمرونة لخصلات شعره تداعبها برقة، تاركة العنان للسانها يفصح عن حقيقة ما تشعر به اتجاهه:


-أنا بحس بإنجاز كبير لما بخترق جزء مكتوم جواك، عارف انت عامل زي أيه؟!


صمتت لحظة تجد وصف مناسب لِمَ يدور بعقلها:


-المغارة، أيوه أنت عامل زي المغارة وأنا بقى مغامرة بحب استكشف أي حاجة جديدة وبحس بالإنجاز الرهيب لما بعرف تفصيلية صغيرة جواك مكنتش أعرفها عنك زمان وبالذات بقى لو أنت قولتهالي.


لمعت عيناه بالإعجاب وقرر الخوض أكثر في الحديث معها رغم إرهاقه وحاجته للنوم:


-وهتفرق في أيه بقى انتي اللي اكتشفتيها ولا أنا اللي قولتهالك؟!


هبطت بأناملها تمررها فوق تقاسيم وجهه، وتخبره بنعومة أفرطت بحقها نحوه:


-لا تفرق يا سولي، لو أنا اكتشفتها طيب ما ده العادي، أنا على طول بعمل كده، لكن أنت لو حكتهالي فده إنجاز عظيم، أنت ما بتتكلمش بسهولة، فأكيد في اللحظة اللي تختارني أنا وتحكيلي عن حاجة جواك مضايقك هكون أسعد انسانة في الدنيا.


-دي كلها محاولات خبيثة منك عشان تعرفي أيه يا شمس؟!


واجهها بشراسته العاشقة إليها، فردت بضحكة مشاكسة وهي تواجهه دون خوف:


-زعلان عليها؟!


-ازعل عليها ليه؟! هي ماتت يعني ارتاحت، ارتاحت من تفكيرها العقيم وضميرها الأسود، ارتاحت من قلبها اللي مفيهوش ذرة رحمة، فازعل عليه، بالعكس الموت  راحة ليها ولينا كمان، على قد ما كانت مضايقني إلا أن كنت ببقى مضايق وقرفان من اللي بتعمله في نهى، ورغم ده كله البنت كانت بارة بيها، نهى تستحق عيلة أفضل من دي!


نجحت في قطع جزء من السلك الشائك العائق أمامها، وبحرت كسباح ماهر تواجه عنفوان مشاعره الحاملة للكرة والسواد نحو عمته فقط:


-عندك حق، بس هي خلاص ماتت المفروض تسامحها يا سليم!


-ماتطلبيش مني حاجة فوق طاقتي، حاليًا أنا كل اللي محتاجه أنام عشان مافكرش في حاجة اضايق نفسي بيها.


-اممم يعني بتهرب مني بالنوم!


ابتسم بصدق وهو يداعب أرنبة أنفها بأنامله:


-أنا لو اطول أفضل صاحي وابصلك بس هعمل كده.


توردت وجنتيها بخجل شديد من تصريحه المفاجئ لها، فهمست بدلال:


-لا لا أنا مش قد التصريحات الخطيرة دي، قلبي مايستحملش.


داهم النوم عينيه فرد بصوت خامل يجاهد الاستيقاظ والتركيز:


-سليم أفعال وليس أقوال.


ضحكت بنعومة وهي تنظر له بهيئته شبه الطفولية وهو يمجد بنفسه وعينيه تكاد تغلق بسبب إرهاقه، فقالت بمشاكسة:


-سليم محتاج ينام، وممكن نسيب الأفعال دي لبعدين.


اعتدل بجلسته أكثر وهو يجذب الوسادة تحت رأسه، مقررًا النوم مكانه فوق الأريكة وسط طفليه فهما دومًا مصدر أمانه:


-سليم شايف كده بردو.


واستسلم لرحلة نوم ربما لو دخل غرفته كان افتقد دربها، وغاص في مهاجمة ماضيه كعادته كلما انفرد بنفسه، فوجد أن التجاهل لندباته أفضل حل لعلاجها! 


                               ******


عم السكون على شقة يسر وهي تجلس وحيدة بصالة شقتها تنظر للفراغ بلا مبالاة، والحزن يكسو فوق معالمها بعدما نقض نوح وعده لها ولم يأتي لها في منزل والدته فاضطرت للعودة وحدها هي ولينا، وكالعادة تحجج بالزحام في عيادته وعدم إيجاد وقت للذهاب إليها.

زفرت باختناق حاد، مقررة وضع حد لِمَ تعانيه معه في هذه الليلة، لن يمر بأفعاله مثل كل مرة، ولن تطفئ قبلاته أجيج فؤادها، استمعت لصوت مفاتيحه في الباب، فظلت على نفس وضعيتها التي أعطته فكرة عن مستقبل غفوته الليلة!


-مساء الخير يا يسر.


ودت تصيح بما اندفع لعقلها من وقاحة تناسب ما فعله معها الليلة، ولكنها فرضت لجام الرزانة وهي تجيب بصوت مبحوح:


-أقعد يا نوح، محتاجة أتكلم معاك.


رضخ لطلبها ببساطة أدهشتها، فاستغلتها بقولها:


-أخرة اللي أحنا في أيه؟!


زم شفتيه بضيق وهو يفرك وجهه بقوة:


-أخرته أيه يعني يا يسر! أنا بجد مش فاهم في أيه، غير إنك مستلماني خناق من أول ما دخلت، رغم اننا المفروض كنا كويسين يعني.


توسعت عيناها الممتلئة عن أخرها بالدموع وهي تقول بتعجب:


-والله المفروض يعني كده أننا كويسين، أنت فاكر يعني عشان بو.....


بترت حديثها بإنفعال ظهر جليًا فوق ملامحها، فردت بحدة بالغة:


-نوح أنت عارف كويس أنا اقصد أيه، بلاش تلف وتدور عليا! قولي أنت عايز أيه مني، أنا حاسة في مرة هموت أو هيجرالي حاجة بسببك.

  

انتقلت لعنة الغضب إليه وانتفض يصيح عاليًا ينفجر بها:


-عشان شاغلة نفسك بس باللي بيشتغلوا معايا وبأمور المفروض أنها تكون تافهة بس ازاي أنتي مكبرها لدرجة أنك منكدة علينا عيشتنا كل يوم.


انتفضت بهياج وهي تتصدى لانفعاله بشجاعة:


-هو لما اضايق من البنات المايصة اللي بتشغلهم معاك أبقى غلطانة، لما أضايق ان كل حياتك عبارة عن بنات وبس أبقى غلطانة، يا راجل ده مفيش راجل يوحد ربنا بيسأل عليك غير يزن صاحبك غير كده كلهم بنات في بنات، أيه الرحمة بيا!


اختصر المسافات بينهما والاغتياظ ينحر قسماته، فمد يده يمسك ذراعها بقسوة وهو يقول:


-ومين يرحمني أنا، مين يحس بيا، أنا المفروض أحس بيكي وأحس بأمي وبأخواتي وبعيال أخواتي، واسمع ده واراضي في ده، وأشوف ده عايز أيه؟! أيـــــــه ومين يسمعني ومين يحس بيا وباللي بضايق منه، حتى أنتي فشلتي في ده وبقيتي نسخة تانية من أهلي عايزني بس اعملك اللي أنتي عايزة لكن أنا عايز أيه أو زعلان من أيه أو أيه بيحصلي في يومي أخر همك، عشان كده يا يسر أنتي كمان أخر همي، واللي أنا عايزه هعمله ومش هيهمني حد، واه هتجوز عليكي وأنتي اللي موافقة ومن الأول برضاكي، ماتجيش بقى تعمليلي فيها دور المقهورة وأنا اللي بعمل حاجة غصب عنك.


انهى ثورة بركانه والتفت يغادر إلا أنه أوقفته متسائلة بإنكسار والدموع تغرق وجنتيها:


-أنت ازاي شايفني كده؟! ازاي قادر تجرحني كده؟!


-ما أنتي بتجرحي الأول، أنتي اللي بتبدئي على فكرة وأنا بس نتيجة لأفعالك، اشغلي نفسك مرة واحدة بيا، لكن ازاي كل همك كرامتك مجرحهاش واتجوز عليكي، مش يمكن جوازتي التانية دي تعرفك قيمتي؟!


قابلت سخطه بإمتعاض ناري منها وهي تجيب بإستنكار:


-لو هعرفها بالطريقة دي، الله غني عنها.


اشتدت ملامحه بقسوة بالغة وغرقت نبرته في تحدٍ:


-حلو يبقى أنتي كده اللي اختارتي يا يسر، سلام.


أوقفته متسائلة بحذر:


-قصدك أيه؟!


-في أقرب وقت هعمل اللي عايزه وهتجوز عليكي، ابعدي بقى.


تركت يده بسهولة كما هو يعلن ما تتمناه نفسه دومًا بكل بساطة دون مراعاة حبهما أو هدم عشهما التي جاهدت الحفاظ عليه طوال تلك السنين الماضية، لقد خسر قلبها الرهان وفشلت في إيجاد وسيلة للوصال بينهما، بينما أرتاح العقل لوضع كلمة النهاية بعد إجهاد كبير بذلته في رَفْء ثوب حياتهما معًا!


                                 *****

بعد مرور عدة ساعات..


استمع "يزن" لِمَ باح به نوح بإهتمام، وظل على نفس صمته لفترة قطعها نوح بغضب آخر:


-لا وجاية بمنير الزفت تغيظني به، دماغ البنات دي تعبانة أقسم بالله، يعني كده كانت هترتاح لما اقوم اكسر دماغه قدامها.


مط يزن شفتيه وهو يعبث بنموذج للسيارات الصغيرة الموضوعة أمامه:


-ماعملتش كده ليه؟! أنا لو مكانك كنت قومت ضربته وعلمته الادب.


-أنا محتاج أعمل كده فعلاً، أنا محتاج اقوم اكسر عضم حد عشان أرتاح..


شمله يزن بنظراته الساخرة:


-أنا عمتي ماتت وحالتي بائسة.


-يلا ربنا يجحمها، ماكنتش بطيقها، معلش يعني يا يزن.


اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول:


-هي الله يرحمها مكنتش بطيقك ماعرفش ليه؟! بس هي عمتي كده مابتحبش أي حد سالك!


نهض نوح وهو يتنهد بثقل، مقررًا إنهاء حالة الغم المحاطة به:


-بقولك أيه ما تفكك من الحداد اللي أنت عامله على عمتك ده، وتيجي نسهر في أي مكان.


نهض يزن هو الأخر وهو يصطنع الإستياء:


-لو مكنتش تصر بس يا نوح، يلا بينا، حكم القوي.


-يا عم أنت بتلكك أصلاً، امشي.


اختارا سيارة يزن، بعدما ترك نوح حرية الإختيار ليزن، فوصلا أمام أحد أماكن السهر المشهورة، ودخلا معًا، فمال يزن يعاتب نوح المشغول بمتابعة المكان:


-يعني لو حد شافني دلوقتي هيقول عليا أيه؟!


-هيقول عمتك حرباية وماتستاهلش حد يزعل عليها، يا ابن الـ ****


توسعت أعين يزن بصدمة وهو ينهر صديقه:


-أيه ياعم الغباء ده، بتشتمني ليه؟!


لكزه نوح بضيق وأفكاره العدوانية تنفعل بضراوة:


-هشتمك ليه؟! أنا بشتم منير ابن المضايقة واقف هناك اهو.


ركز يزن ببصره على منير الواقف بين مجموعة من الفتيات والشباب فهمس بغضب:


-هو يوم ابن مضايقة أصلاً، بقولك؟


انتبه نوح إليه ونظراته تنضح بويلات الغضب:


-فرصتك وجتلك، عصيرك أهو...


التقط "يزن" كوب العصير الموضوع فوق الطاولة الموضوع أمامهما:


-عصيرك اهو وأنت عارف أيه اللي هيحصل!


نبعت شبه بسمة قاسية فوق محياه والتقط كوب العصير، ثم سار بخطوات واثقة اتجاه منير مستغلاً الزحام حوله واصطدم به عن عمد، فتساقط كوب العصير على قميص نوح الذي هاج بإنفعال:


-في أيه مش تحاسب يا غبي؟!


عقد منير ما بين حاجبيه بعدم فهم لوجود نوح أمامه، واندفع سؤاله على طرف لسانه إلا أنه تلقى ضربة عنيفة بوجهه من قبل نوح، الذي استعد للشجار المندلع من قبل أصدقاء منير، فتدخل يزن بالوقت المناسب وعارض اللكمات المتوجهة لصديقه:


-لا ده صاحبي فكك.


لم يستمع إليه صديق منير وظل يسدد اللكمات نحوه، فانتفض يزن بغضب:


-مفيش رأفة أبدًا ده أنا عمتي متوفية وقلبي حزين يا ابن ال***.


واندفع هو الأخر للشجار المندلع بالمكان، اما نوح امسك بمنير في إحدى الزوايا يسدد له الضربات العنيفة والقوية بينما الأخر حاول الدفاع عن نفسه وتسديد اللكمات لنوح هو الأخر فنجح في واحدة استقرت بوجه نوح، الذي انحنى للأسفل والشر يطرق برأسه لقتله، ولكن يد يزن التي وضعت فوق ذراعه يجذبه للخارج بسرعة بعدما دخل الأمن في المكان، استقل بجانب يزن في سيارته وانزل المرآة الصغيرة يتفقد وجهه:


-علم عليك؟!


استنكر نوح وهو يتفقد تلك الكدمة:


-هو انت اعمى ماشوفتش وأنا معلم على اللي خلفوه، وبعدين أنت ساحبني ليه كده؟!


-الأمن دخل وكنا هندخل في حوارات مالهاش لزمة، وبعدين الواد كان بيفرفر في إيدك، كفاية عليه كده.


حرك رأسه بإيجاب وهو يقول بنبرة مغلولة:


-صح كفاية عليه كده، مانشوف بقى هي هتعمل أيه لما تشوف المحروس معمول فيه كده.


تنهد يزن وهو يجيب بضحكة ساخرة:


-خناقة جديدة، يلا المهم هتنام في العيادة ولا في المعرض عندي.


-في العيادة، ورايا شغل كتير بكرة.


                               ******


في اليوم التالي...


سارت سيرا بجانب فاطمة صديقتها في الطريق المؤدي لعملها، وتحدثا بأمور عديدة منها محاولة سيرا لمحو فكرة شراء أبلة حكمت لسيارة من معرض "يزن"، فتساءلت فاطمة بفضول:


-وأقنعتيها ازاي بقى؟!


هزت كتفيها وهي تبتسم بمكر:


-مفيش قولتلها أخواتي لو عرفوا هيحسدوها، وأنها تستنى شوية، وهي أكيد هاتشوف حاجة تانية تشبط فيها غير العربية.


أومأت فاطمة برأسها والتردد يلوح بنظراتها التي التقطتها سيرا بمهارة:


-في أيه يا طماطيمو من وقت ما خرجنا وأنتي عايزة تقولي حاجة؟!


توقفت فاطمة تخرج ما في جعبتها مرة واحدة:


-الصراحة بقى عرفت من سهام أن فايق عايز يتقدملك ويخطبك.


شهقت سيرا بصدمة واعتراض في آن واحد وهي تقول:


-أيه؟!


-يا بنتي بس أنا نهيت الإقتراح ده وقولتلها إنك مابتفكريش في الجواز دلوقتي، بس الخوف بقى أن أمه بتفكر تكلم أبلة حكمت.


صاحت مرة أخرى باعتراض شرس:


-أيه أبلة حكمت؟! بلاش دي.


-حاولت والله يا سيرا، بس ماعرفش سهام المتخلفة دي بصتلي وكأني بغير منك، وماتعرفش اللي فيها أصلاً، دي طالعة بأخوها السما وكأن مفيش منه اتنين، هي أبلة حكمت تعرف أنه بيشرب خمرة؟!


ردت بشرود، وشعور بالخوف يترعرع داخلها من فكرة دخول أبلة حكمت في مسألة زواجها، دارت عجلة ذهنها وبدأت في التفكير في إيجاد فرصة لقطع سُبل الوصول إليها من قبل ذلك الـ "فايق"، وتلقائيًا اندلع شعور بالاشمئزاز داخلها من فكرة ارتباطها به، وأثناء شرودها لم تلاحظ محادثة "فاطمة" بالهاتف ولا سعادتها المفرطة.


-باركيلي يا سيرا الشركة اللي حكتلك عنها امبارح كلموني دلوقتي وهروح حالاً اعمل تجربة أداء.


غاصت معالم سيرا في الفتور وهي تواجه سعادة صديقتها غير المبررة بالنسبة لها:


-يعني هتسيبيني وكل اللي اتفقنا عليه نعمله خلاص كده!


حملت نبرتها الرجاء وهي تقول:


-عشان خاطري يا سيرا ماتزعليش، عارفة لو وافقوا واخدوني في أي فيلم ولا مسلسل، يالهوي هعزمك على نص كباب.


-مش عايزة حاجة يا ستي، ربنا يوفقك بس إياكي يا فاطمة تدفعي فلوس، لو هتعمليها ببلاش ماشي غير كده لا.


تظاهرت فاطمة بالموافقة وهي تردف:


-طبعًا يا بنتي، طبعًا، يلا هنأجل مشوار السينما معلش.


أومأت برأسها ثم بدأت في توديعها ولكن فاطمة توقفت تسألها بمكر وفضول:


-انتي هتروحي ليزن ده وتعزيه في وفاة عمته؟!


استنكرت بنبرتها وهي تتظاهر باللا مبالاة:


-لا طبعًا، ليه هو من بقيت عيلتي ولا أيه؟!


-أنا شايفة من باب الذوق انك تعزيه وخصوصًا انه عامل معاكي موقف جدعنه يعني.


امتهنت عدم الاقتناع وهي تقول بنبرة مترفعة:


-بس أنا مش شايفة كده! يلا روحي عشان متتأخريش.


وافقت فاطمة بعدم رضا، وغادرا كل منهما في اتجاه أخر، مرت دقائق بسيطة وهي تنتهي من الطريق المؤدي لعملها وقبل أن تدخل البناية تراجعت وهي تحسم أمرها ومالت لرأي صديقتها باقتناع تام، فدخلت المعرض تبحث عنه ووجدته بالفعل يقف بأحد الزوايا يتحدث مع أحد العاملين، فتوجهت نحوه والحرج يتسلل لوجهها واحتارت في مناداته، فتوقفت صامتة على بعد خطوات منه، حتى استطاعت سرق انتباهه، فرحب بها بحفاوة:


-سيرا، اهلا؟


كادت تجيب عليه إلا أنها لاحظت عدم أي أثار للحزن بملامحه، فعقدت ما بين حاجبيها تمرر بصرها عليه بإستفهام صامت، وسرعان ما أدرك هو ما يجول بخاطرها، فرسم ببراعة إمارات الحزن وهو يشير إليها نحو مكتبه:


-تعالي اتفضلي!


توقفت مكانها ترفض عرضه، وهي تقول بصوت متحشرج:


-أنا كنت جاية عشان اقولك البقاء لله.


-الدوام لله، صاحبة واجب.


لمحت السخرية المبطنة بصوته، فسألت بشراسة مطوية بين نبرات الحدة:


-قصدك أيه؟!


وضع يده في جيب سرواله  وهو يقول بنبرته المستنكرة لحدتها غير المناسبة:


-يعني مافكرتيش تتصلي بيا امبارح تتطمني يا شيخة، ده أنا عمتي ماتت وكنتي شايفني ازاي امبارح؟!


-مالك امبارح، بالعكس كنت حاسك مبسوط مش زعلان خالص.


صدمته بردها الجامد، فهمس بنبرة حاقدة قاصدًا إثارة استفزازها:


-عديمة المشاعر.


توهجت عيناها بضراوة وهي تتسأل:


-أنت تقصدني أنا؟!


رسم بريشته خطوط الأسى والفقد فوق ملامحه، واصطنع حزنه الشديد لفقده عمته:  


-يعني المفروض تواسيني يا شيخة ده أنا عمتي ماتت وخلعت قلبي، سابت فراغ كبير ربنا...


ثم أردف بهمس شديد:


-يجحمها مطرح ما راحت.


رفعت أحد حاجبيها وعدم الإقتناع يلوح بمقلتيها:


-أنت بتقول أيه بصوت واطي؟


-بدعي لعمتي يا بنتي، حتى الدعاء بتسوئي الظن فيا.


رمقته بضيق لتأكدها من سخريته اللامعة بعينيه، فتجاهلته عن قصد وهي تقرر الذهاب دون الرد عليه، ولكن قوله فاجأها وجعلها تستدير له بفزع تسأله بتركيز:


-أنت قولت أيه؟! عايز أيه؟!


-رقم تليفون أبلة حكمت!


أجاب ببساطة أدهشتها فاستشاطت بسخط حاولت كتمه بقدر الإمكان:


-وده ليه بقى ان شاء الله؟!


-عايز اعتذرلها عن موقف امبارح.


لا زال عدم الفهم يسيطر عليها وهي تسأله:


-هو أيه اللي حصل امبارح؟!


عاندها بمشاكسة وهو يكرر حديثه:


-وانتي مالك؟! هتجيبي رقم أبلة حكمت ولا اجيبه بمعرفتي!


كادت تطلق لسانها لتوبيخه بسبب أسلوبه معها إلا أنها صُدمت حين صدح صوت أبلة حكمت في الأجواء من العدم:


-أبلة حكمت بنفسها هنا.

___________

تكملة الرواية من هناااااااا


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع