القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل التاسع بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 رواية غناء الروح الفصل التاسع بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)






رواية غناء الروح الفصل التاسع بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


الفصل التاسع.


شعور بالخوف اجتاح صدرها وهي تمرر بصرها فوق أختها "أبلة حكمت"، بوقفتها المتعالية، وابتسامتها الواسعة، وعينيها اللامعتين بانبهار، فخرج صوتها متأرجحًا بين الخفوت والسطوع:


-أنتي أيه اللي جابك يا أبلة حكمت؟!


تجاهلتها "حكمت" تمامًا وهي تنظر إلى يزن والمعرض في آنٍ واحد، قائلة بحماس استنكرته الواقفة بجانبها:


-جاية أعزي أستاذ يزن في وفاة عمته ونكمل كلامنا بخصوص أني عايزة اشتري عربية وكده.


ابتسامة جانبية خبيثة احتلت محياه وهو يتابع نظراتها المستنكرة ووجهها الغارق في بركة دماء، ويبدو أنها فشلت في ضبط انفعالاتها، فأظهر ترحابه الشديد وحماسه الطاغي بصوته وهو يقول:


-كلك ذوق يا هانم، وبخصوص كلامنا عشان العربية تقدري تتفضلي جوه في مكتبي ونتكلم براحتنا.


رمقته "حكمت" بنظرة إعجاب، وهي تتلقى ترحابه بها برضا، فرفعت أنفها بتعالٍ واضح وهي تخطو خلفه نحو مكتبه، بينما وقفت سيرا لثوانٍ معدودة تستوعب ما يحدث، حتى انطلقت صفارات الإنذار في عقلها تدفعها دفعًا خلفهما، فدخلت خلف أختها الكبرى وجلست بجانبها تهمس لها بصوت خافت جدًا، مستغلة حديث يزن مع أحد العاملين وطلبه تقديم عصائر مثلجة كواجب ضيافة لهما:


-مقولتليش ليه إنك جاية يا أبلة؟!


-اخرسي، هو أنا هاخد منك الإذن ولا أيه؟!


نهرتها بعنف منخفض، على عكس ابتسامتها التي احتلت شفتيها منذ دخولها المعرض، فانعقد حاجبا سيرا بضيق ممزوج بالتفكير بعدما فشلت في فهم ما يدور في عقل أختها، فهل يبدو عليها الثراء لدرجة شراء سيارة بمبلغ وقدره وهي لا تستطيع القيادة أساسًا؟ أم أنها تريدها استثمارًا كما تفعل دومًا بشراء شقق وبيعها؟ أم أن حياة الأثرياء والتعالي أضرمت شعلة غرورها وأثارت إعجابها بحياة جديدة لم تعهدها؟ أم أن فضولها المعتاد دفعها إلى مراقبتها وفرض قيود السلطة عليها كما تفعل معها دومًا، متحججة بخبرتها في الحياة التي تفوق خبرتها هي وأخواتها الفتيات!


انتبهت "سيرا" إلى صوت "يزن" المخترق لأذنيها، وهو يتوجه نحوهما ليجلس بهيبة رجل تخالف شبابه ومرحه الدائم، أما عن وقاره ولباقته في الحديث، فقد جعل فم "أبلة حكمت" ينفرج، فباتت كالمراهقة وهي تتأمله، نظرت لها باستغراب وقالت بحدة طفيفة، وكأنها تلبست دور الأخت الكبرى:


-أستاذ يزن بيكلمك بخصوص العربية اللي نفسك تشتريها يا أبلة!


نهرتها "حكمت" بحدة مماثلة وهي تقول:


-سامعة...بس أنا يعني...


صمتت لثوانٍ، تختار كلماتها بعناية، والحرج يطفو فوق نبرتها:


-مابعرفش اسوق ولا كان في خيالي اجيب عربية، أصل أنا متجوزة الحاج صافي وعنده تجارته الخاصة ومخليني مش عايزة أي حاجة، أصل أنا جوازتي غير اخواتي خالص، يعني أنا الوحيدة ....


قاطعتها "سيرا" باستياء ووجهها يتوهج بنيران الغضب فظهر جليًا على صوتها:


-أبلة حكمت أستاذ يزن مش بيسألك عن قصة حياتك وجوازك من أبيه صافي، بيسألك عن نوع العربية اللي عايزاها.


رمقتها " أبلة حكمت" بانفعال ضاري وهي توجه عنف كلماتها لها غير مراعية لموقفهما ومتابعة يزن لشجارهما المتراشق بكلمات مبطنة:


-انتي ازاي تكلميني كده!، وبعدين أيه اللي جابك هنا؟ هو انتي مش وراكي شغل؟!


تراجعت "سيرا" سريعًا قبل أن تغضب "أبلة حكمت" وتجعلها تغادر رغمًا عنها، وحينها سيصيبها جلطة لعدم معرفتها بما دار بينها وبين ذلك اليزن، فحتى وهي موجودة، كانت ستخبره بأسرار عائلتهما وكأنه فرد مقرب منهما!


-أنا ماقدرش اسيبك لوحدك يا أبلة؟!


-ليه ان شاء الله حد قالك أني ممكن اضيع!


ردت بعنفوان، فضغطت سيرا فوق أسنانها وهي تميل برأسها نحوها تهمس بخفوت شديد:


-برستيجك يا أبلة مش كده اهدي!


تداركت حكمت موقفها وانفعالها ونبرتها المرتفعة فتقهقرت كالعدو المتخاذل وهي تبتسم ابتسامة مهزوزة:


-خلاص اقعدي، المهم زي ما حكيتلك أنا مش في دماغي العربيات، أصل أنا بشتري شقق وبستثمر فيهم.


ابتسم يزن ابتسامة غير مفهومة بالنسبة لـ "سيرا" أما "أبلة حكمت" فكانت في وادٍ من التباهي وحدها، وما أخرجها منه هو رنين هاتف "يزن" الذي استأذن للرد بعدما وجد "سليم" أخاه المتصل:


-أيوا يا سليم!


صمت وهو يستمع للرد، وانعقد حاجباه والقلق يزحف نحو ملامحه الوسيمة، ليغيرها إلى أخرى حادة مع صوت أنفاسه المرتفع ونبرته الهجومية:


-يعني أيه مش لاقيين ماما؟! لا طبعًا مش عندي ولا جت!


صمت مرة أخرى ثم قال وهو يغلق الاتصال:


-طيب، طيب ثواني وهكون عندك.


كرة الاستغراب تبادلتها "حكمت" "وسيرا"، فوجدا "يزن" ينهض ويعتذر بتوتر، منهيًا جلستهما بحرج:


-أنا أسف بس يعني في ظرف عندي في البيت ومضطر امشي.


نهضت "سيرا" أولًا، متفهمة موقفه دون رد، بينما همّت "أبلة حكمت" بعرض مساعدتها في البحث عن والدته بنبرة رغمًا عنها غلب عليها الفضول:


-لا أبدًا لو تحب نيجي ندور معاك على والدتك ماعنديش مانع، هي عندها الزهايمر ولا أيه، هما اللي بيمشوا كده من غير ما حد يعرفلهم طريق.


أي شعور يوصف ما تمر به "سيرا" الآن من خجل وإحراج وانفعال متوهج بعدما بصقت أختها المتزعمة لفطنتها التي لا مثيل لها قولًا غير لائق بالمرة؟ وما زاد الطين بلة هو حديث "يزن" المحتد نوعًا ما:


-لا هي مش مريضة عن أذنكم، مضطر امشي.


وبالفعل، جذب متعلقاته الشخصية بسرعة شديدة وغادر معرضه تحت أنظار سخط "أبلة حكمت" ومشاعر "سيرا" المتضاربة، مما شعرت به من تعاطف معه بسبب قلقه الظاهر عليه وغضبها من حديث أختها الأبلة!


-هو مضايق مني ليه؟! هو أنا قولت أيه غلط!


زمت "سيرا" شفتيها بضيق وأحست اكتناز صدرها بمشاعر متضاربة فقالت بشيء من السخرية:


-لا خالص ماقولتيش أي حاجة، يلا أنا همشي هروح شغلي، وأظن انتي عارفة الطريق يا أبلة!


بادرت "أبلة حكمت" بحاجتها إلى الاطمئنان على عملها ومقره، وكان دافعها كعادتها خبرتها في الحياة التي تفوق خبرة أي أحد!


-هاجي معاكي شغلك واهو بالمرة اطمن انتي بتعملي أيه؟!


-لا ماينفعش، هيطردوني لو عملت كده، ممنوع اصطحاب أي حد أعرفه معايا.


سارعت "سيرا" بالرفض والابتسامة التي يشوبها الضيق لما يدور في عقل "أبلة حكمت"، ولكن الأخرى قابلتها باستهجان:


-ليه أنا ولية أمرك، مش حد تعرفيه والسلام!


استعدت "سيرا" للهروب من أمام وجه أختها المتطفلة في كل شيء يخصها، فقالت بابتسامة مقتضبة:


-ما هو مأكدين على بند ولي الأمر ده، وكمان في شرط جزائي هبقى احكيلك عليه بعدين سلام يا أبلة، ومتخافيش مش هحكي لاخواتي على أي حاجة من استثماراتك اعتبري سرك في بير.


ضغطت "سيرا" على كلماتها بعدما امتلكت الأداة السحرية للضغط على "أبلة حكمت" كي تتراجع عن فكرة الذهاب معها، فكان أسلوبها ساخرًا مبطنًا بالتهديد الذي قابلته "أبلة حكمت" بالتوتر وهي تودعها بصوت مهزوز من فكرة معرفة عائلتها بشأن امتلاكها للمال الوفير من أساسه!


-ماشي، مع السلامة يا سيرا يا حبيبتي، كله إلا الشرط الجزائي، احنا ممعناش ندفع فلوس كتيرة.


ثم همست لنفسها وهي تراقب توجه "سيرا" إلى إحدى الأبراج الشاهقة:


-احنا يا ختي على باب الله...


ثم رفعت يدها تحركها في شكل دائري لتحصن نفسها من الحسد ومن فكرة معرفة عائلتها بأي شيء يخصها!

                              ****


وصلت "يسر" إلى مقر عيادته واندفعت بجسد يتأجج بنيران الغضب بعدما علمت بشأن ما فعله بـ"منير" ليلة أمس، ذلك المتهور الفج يلقن ابن خالتها درسًا متعمدًا لكي يبتعد عنها، وبذات الوقت يتركها هي تتلوى فوق لهيب الغيرة والهجر، بينما هو يسهر ويصفي ذهنه من أي عواقب!


-الدكتور جوه؟!


خرج صوتها حادًا، يحمل بعض القسوة، وهي تنظر إلى الفتيات في قسم الاستقبال، وهن متزينات بصورة واضحة كأنهن يعملن لدى شركة أزياء، لا مجرد عيادة طبيب تغذية! لكن اللوم لن يقع على عاتقهن، بل على عاتق زوجها المبجل، العاشق لكل ما هو أنثوي وجميل! شعرت بالاشمئزاز من مجرد التفكير بذلك، وارتفعت ذروة الغضب لديها، معتقدة أنها ستلقنه درسًا قاسيًا على ما يفعله بها.


-هادخل ابلغه بوجود حضرتك يا افندم.


هتفت بها "حسناء" برقة مصطنعة، وهي تنهض بجسد يتمايل بنعومة استفزتها، لكنها أظهرت عكس ذلك حين قالت بقسوة:


-خليكي يا حلوة عارفة طريقي.


اندفعت "يسر" داخل غرفة "نوح"، الذي لم يتفاجأ بها وكأنه كان على اقتناع تام بمجيئها، فأظهر لامبالاة مقصودة حطمت بعضًا من أسوار غضبها، لكنها تشبثت بالباقي حين قالت بهجوم ضارٍ:


-بأي حق يا دكتور يا محترم، تضرب منير الضرب ده، انت لدرجادي بقى أسلوبك منـ....


قاطع حديثها حين نهض من مكانه وشدد فوق كتفيها، يقبض عليهما بقسوة:


-لمي لسانك يا يسر عشان ماتزعليش مني، وبعدين أنا لسه محاسبتكيش إنك شوفتي الواد الخايب ده من ورايا.


دفعت يده بعيدًا عنها بقسوة مماثلة، وعيناها لم ترتجفا إطلاقًا، رغم أنفاسه الساخنة التي كانت تلفح وجهها، تزيده توهجًا:


-بس بقى كفاية تمثيل، اللي يشوفك كده يقول بتغير عليا وبتموت فيا، وأنت ولا بتحبني ولا أنا أفرق معاك أصلاً.


شيء من السخرية طال صوته وهو يسألها، محتفظًا بالمسافة القريبة منها:


-أمال أنتي بالنسبالي أيه؟!


-مجرد واحدة شوفتها زمان وزغللت في عينك، وقررت إنك تحطها في متحف بيتك، ومفكر إنها هتبقى زيها زي التحف اللي موجودة، وناسي إنها إنسانة وبتحس وعايزة اللي يقدرها ويحترمها، مش عايزة واحد بصاص وعينه زايغة ومستني أي فرصة يتجوز عليها.


شراسة كلماتها وقعت فوقه كالحجرات الرقيقة التي ربما يعتقد البعض أنها لن تصيبه، لكن وقعها عليه كان كوقع الحجر الثقيل، فأصابته في مقتل، مما دفعه للجمود أكثر أمامها والاستنكار يعلو بصوته:


-الله! ده أنتي جاية تلوميني على كلامي امبارح، ودور إنك زعلانة على العلقة السخنة اللي اديتها لابن خالتك ده كان أيه بح! لما وصلتي اللي انتي عايزاه.


دفعته بعيدًا عنها أكثر وهي تقول باشمئزاز واضح:


-أنا للأسف مابوصلش معاك لأي حاجة، غير لحيطة سد، وأصلاً مابقاش في كلام ما بينا بعد اللي قولته امبارح، واه زعلانة على ابن خالتي ويهمني أمره لإنه انسان نقي وواضح مش زيك.


استدارت لتغادر الغرفة ولكنه سابقها ودفعها نحو حائط، ممسكًا بوجهها بشراسة وصوت أنفاسه يعلو بشكل ملحوظ:


-إن كان عقلك مصورلك إن أنا ماقدرش اعلمك الأدب على الكلام اللي قولتيه تبقى مابتفهميش عشان أنتي عارفة كويس لو زودتي في كلامك نهايته عندي هتبقى أيه!


اشتبكت مع نظراته الشرسة بأخرى ينطلق منها سهام التحدي:


-تصدق ماعرفش نهايته أيه؟! أيه هتضربني؟! 


أمسك بذقنها، ثم جذبها بقسوة نحوه، وعيناه تخلو من المشاعر والعاطفة كعادته معها دومًا، شعرت بحاجته لوضع سيطرته عليها، لكنها لم تتهاون معه كعادتها، ولم ينجح في تحريك عاطفتها من كهفها المظلم، بل أضرمت نظراته نيران غضبها، فدفعته بعيدًا عنها بكل ما أوتيت من قوة، وهي ترمقه باستياء وانفعال:


-للأسف مابقتش تفرق معايا يا دكتور نوح، أنا وأنت مابقاش في حياة تجمعنا وأنت اللي حطيت نهايتنا بإيدك.


تركته في وضعه المحتد وغادرت بعنفوان أنثوي لم يعجبه إطلاقًا، لدرجة أنه فقد السيطرة على نفسه ودفع بعض الأشياء من فوق مكتبه، هامسًا بوعيد قاسٍ:


-ماشي يا يسر وحياة أمي لأندمك بجد على اللي بتعمليه.

                            ****


مشاعر مشحونة بالغضب، القلق، والحيرة سيطرت عليهم، فيما عرقلت الأنفاس المتسارعة أي محاولة لتهدئة قلوبهم والاطمئنان على والدتهم التي غابت لأكثر من ست ساعات، وهاتفها مغلق، لم يعلم أحد منهم شيئًا عنها، سوى أنها كانت تجلس في غرفتها صباحًا تقرأ القرآن، ثم رآها "أنس" الصغير تستعد للخروج، وعندما سألها عن وجهتها، لم تجبه واكتفت بالتربيت على رأسه وتقبيله، ثم غادرت دون تفسير، ولم يخبر الطفل والدته إلا بعد مرور ساعة، حين دخلت تبحث عنها، ليجيبها بصوت طفولي لا مبالٍ بينما كان يشاهد التلفاز.


أغلق "زيدان" هاتفه، واليأس يحتل ملامحه، بينما سارعت "مليكة" بسؤالها، والقلق ينهش صوتها:


-ها يا زيدان مفيش أي أخبار؟!


هز رأسه نفيًا، وصوته بالكاد يخرج من حباله الصوتية المتحشرجة:


-لا لسه زمايلي في المرور شاغلين مش ساكتين.


عاد "يزن" بسؤالٍ لم يدرك أنه طرحه للمرة الرابعة، وقد فقد التركيز والسيطرة على نفسه من الخوف على والدته:


-سليم أنت اتصلت بكل قرايبنا متأكد إنك ماسبتش حد!


سارعت "شمس" بالرد، والقلق يفيض من صوتها، مبحرًا نحو مرفأ متهالك:


-ايوه يا يزن.


كانت تدرك أن إجابة سليم، هذه المرة أيضًا، قد تؤدي لانفجاره فيهم جميعًا، مع انعدام السيطرة على أعصابه، ظهرت بوادر ذلك من خلال رجفات ساقه وملامحه التي ازدادت قساوة، مشوبة بقلق نابع من خوفه العميق على والدته ومن احتمال وقوع مكروه لها.


فركت "شمس" يديها بتوتر شديد، وخرجت عن صمتها متحدثة بشرود:


-يمكن في قرايب لعمو محمد الله يرحمه أحنا مانعرفهمش هي راحت تزورهم، أو يمكن هي راحت تزور ميرفت؟!..بس تزورها أيه هي مبطقهاش أصلاً.


كانت تسأل وتجيب عن نفسها في آنٍ واحد، بنبرة مستنكرة قلقة، غير مدركة أنها فتحت بابًا جديدًا للبحث أمام "سليم"، كان غائبًا عن باله في خضم تشبث مشاعره بسور الأمل، نهض يقول بلهجة آمرة:


-في مكان هروح أشوفها فيه، خليكوا انتوا هنا، عشان لو جت تبلغوني.


غادر تحت أنظارهم المتعجبة، ليقول "زيدان" بضيق، يملأه الاحتجاج:


-عمره ما هيتغير، ما يطمنا ويقولنا هو رايح فين؟


نهى "يزن" أي محاولة لإثارة خلاف، محاولاً الحفاظ على هدوء الأجواء، قائلاً بحسم:


-مش وقته يا زيدان، المهم نطمن على ماما.


وكأنه يحذر زيدان من الانزلاق إلى الظلام الدائم الذي طالما طارد عقل أخيه سليم، والذي نجح بالكاد في النجاة منه، ليحافظ على علاقة مرضية تجمعهم جميعًا.

                                **** 

خطى "سليم" بخطوات ثابتة يكسوها بها بعض القلق وهو يبحث بعينيه عن والدته في المقابر، وكما توقع وجدها تجلس أمام قبر أبيه، صامتة، ساكنة، تضع يدها فوق القبر، فاستكمل خطواته بهدوء شديد والراحة تحبو نحو صدره بعد أن اطمأن قلبه عليها، ولكن ما أثار استياءه كان دموعها المتساقطة على وجنتيها والعجز الكامن بملامحها، ويدها المتشبثة بالقبر وكأنها تتمنى الدخول معه! فخرج همسه متحشرجًا للغاية:


-ماما!


فتحت عينيها بوهن شديد وناظرته بعدم فهم بنظرات مشوشة:


-سليم أيه اللي جابك هنا؟!


ثم انتقلت بنظراتها حولها فلم تجد سواه، أدركت حينها أن ضوء النهار قد اختفى، واحتلت ظلمة الليل سماء الدنيا، على ما يبدو، أنها شردت بين ذكريات الماضي وأوجاع الحاضر لدرجة أنها غابت عن الوقت.


حاولت التحدث أو الاعتذار عما بدر منها، لكنها صمتت عندما سمعت صوته الخافت يقرأ الفاتحة لأبيه، نهضت تستعد للمغادرة معه، وكما توقعت، حين أنهى الفاتحة والدعاء، ناظرها بنظرته الجامدة رغم شعاع الخوف عليها الذي اخترق عينيه المعتمتين:


-يلا، لو كنتي خلصتي؟!


هزت رأسها إيجابًا، ثم التفتت بجسدها نحو بوابة المقابر الحديدية، مد يده نحوها يساعدها، وأمسكها من مرفقها قائلاً بحنو يخالف جمود صوته:


-على مهلك.


تساءلت بلهفة ممتزجة بالأسف:


-هو أنا خضتيكوا عليا يا ابني؟!


جاء جوابه الساخر البسيط:


-لا أبدًا فزعتينا بس.


ساعدها في الركوب بسيارته ثم استقل هو الأخر خلف عجلة القيادة.


-معلش ماحبتش أشغلكم، قولت اخطف نفسي واجي ازور ابوكم.


التقت نظراته الجامدة بعينيها المرتجفتين وهو يلقي بكافة لومه عليها:


-بس لو كنتي قولتي لحد فينا يجي معاكي، مكنتيش قلقتينا بالشكل ده!


تساءلت بنبرة غير مصدقة والدموع تترقرق في عينيها:


-هو أنا قلقتكوا لدرجادي؟!


انعقد حاجباه بعدم فهم:


-قصدك أيه بقلقتينا؟! طبعًا قلقتينا وخوفنا عليكي، انتي عملتي كده عشان نقلق عليكي؟!


سارعت بالنفي، مبرزة صدقها في حديثها:


-أبدًا والله يا سليم، أنا فعلاً كنت عايزة ازور ابوكم واتكلم معاه شوية.


لم يقتنع بما قالته وأصر على رأيه:


-مش مبرر بردو كنتي تقدري تعرفينا وأي حد فينا يوصلك!


امتزجت مرارة صوتها المهزوز بحديثها وهي تجيبه:


-محدش فيكم فاضيلي كل واحد عنده همه ودنيته.


نفد صبره وهو يجادلها، مشددًا بحدة وصرامة:


-طيب ما انتي بردو دنيتنا، ليه فجأة سحبتي نفسك منها؟!


اندفعت كالطفل يبرر خطأه خوفًا من حزنه، وقالت بتلعثم طفيف:


-أنا مابتكلمش عليك يا ابني، انت الله يكون في عونك.


اعتدل أكثر في جلسته، ناثرًا كلماته الصارمة:


-امال مين على اخواتي؟! ما هما كمان عندهم شغلهم بردو زيي محدش فيهم قاعد فاضي.


تراجعت عن نيتها في إخباره بما يثقل صدرها، وهو ما جعلها حزينة ومكسورة طيلة الأيام الماضية، لم يرأف بها أحد من أولادها، ولم يجبر بخاطرها أحد، لذا قررت إظهار عكس ما تكنه بصدرها:


-عندك حق، معلش يا ابني أنا.....


زفر بقليل من الحنق وهو يصر على فتح أبواب قلبها له:


-أمي لو سمحتي قولي اللي جواكي، لو قصرنا معاكي في حاجة واحنا مش واخدين بالنا منها قولي، لكن ماتستكيش وكأنك مغلوبة على أمرك، أنا ماتعودتش منك على كده!


رفعت عيناها اللامعتين تسأله بحسرة وندم:


-اتعودت على أيه مني يا سليم، الجحود؟!


انفلت زمام أعصابه سريعًا، وتراشقت الكلمات من على طرف لسانه:


-بتفتحي في الماضي ليه بس يا أمي، كل ما بحاول انسى واتجاهل بردو بنظراتك ليا مُصرة تخليني افتكر كل حاجة حصلت.


تداخلت خيوط الندم بضعفها البائن على ملامحها:


-أنا أسفة يا بني.


حول نظره بعيدًا عنها وهو يتحدث بجمود بدا مهزوزًا هذه المرة:


-ماطلبتش منك تعتذري، بس يا ريت تفهميني  وتحاولي تنسى، زي ما أنا بحاول انسى.


استرسلت بكلماتها التي تراشقت كسهام في قلبه، خاصة عندما قالت:


-محدش يقدر ينسى ذنب ارتكبه يا ابني.


تجاهل تلميحها حول مشاعرها، وأصر على إلقاء ذكريات الماضي في بحر النسيان، قائلاً بهدوء:


-ماتحمليش نفسك فوق طاقتك، أنتي لما قسي...


صمت للحظة، مستدرجًا ذرات الهواء إلى صدره المشحون، ضاغطًا على عقله بأمورٍ تخالف آرائه ومعتقداته الراسخة به:


-لما قسيتي عليا كان لمصلحتي وكنتي عايزاني ابقى حاجة، وأنا قدامك اهو ماضعتش ولا بوظت. 


انفجرت باكية، تشهق بنبرات عالية، وأصابعها ترتجف بينما جسدها الضعيف يدخل في نوبة بكاء هستيرية، جلاد الماضي يقسو على حاضرها، فتخرج كل الضغط النفسي في صورة شهقات متتالية، حاولت إظهار قوتها وثباتها طوال الفترة الماضية، لكنها فشلت، وبقيت الوحدة والألم النفسي ينخران في نفسها الضعيفة، تركت نفسها تتخبط هنا وهناك دون أي مقاومة، حتى ذبلت كورقة خريف شاردة.


راقب "سليم" حالتها الحزينة التي مزقته إلى أشلاء، لم يكن قادرًا على إدراك أي شيء سوى عاطفة عميقة تدفعه لاحتضانها واحتوائها، لكن حواجز الماضي منعته ودفعته بعيدًا عنها، حاول جاهدًا أن يُجبر يديه على التربيت فوق رأسها، وبعد صراع داخلي، استطاع أخيرًا النجاة من الأطواق الملتفة حول عنقه، استنشق ذرات الهواء العليل وأدخلها إلى صدره، ثم تحرك بجسده نحوها، يجذبها إليه برفق، مقبلًا رأسها بحنو بالغ وهمس:


-اهدي يا أمي مفيش حاجة تستاهل ده كله!


-أنت تستاهل يا ابني، أنت اهم حاجة، أنت ومفيش بعدك أي حاجة تانية..


رفعت رأسها لتخبره بجزء من مشاعرها نحوه، فأمسكت بكفه بين يديها تحتضنه بأمومة، ثم استكملت حديثها:


-لما بتدخل تسأل عليا وتقولي اخبارك أيه، اليوم ده ببقى أسعد انسانه، لما بلاقيك فاكر ادويتي بقول بس كده يا منال انتي مش عايزة حاجة من الدنيا سليم راضي عنك النهاردة، لما بتضحك في وشي الدنيا كلها بتضحك ليا يا حبيبي، ولما بتبعد الدنيا بتسود في وشي.


شقت بسمة صافية محياه وهو ينظر إليها باشتياق، لقد نجحت في ريّ صدره البور بمشاعر غزيرة كان يفتقدها في علاقته معها:


-عيالك لو سمعوا كلامك الحلو ده ليا، هيغيروا مني.


ابتسمت من وسط بكائها تستكمل حديثها بحنو بالغ:


-عمرهم ما هيفكروا يغيروا منك، زيدان ويزن عارفين غلاوتك عندي ومكانتك في قلبي وإنك ماتتقارنش بحد، بس انت اللي شكلك ما تعرفش غلاوتك عندي أيه!


قبل رأسها مرات عدة، وكأنه لا يملك سوى قبلاته للرد على جمال كلماتها المعبرة له، فوالدته ببساطتها جعلته عاجزًا عن النطق والتعبير، معترفًا بأن مرواغته ودهاءه ولباقته، في تجارته لم تفلح في هذه الجولة البسيطة من المواجهة مع والدته.


-يلا نمشي نروحلهم، عشان اتأخرنا وزمانهم قلقانين عليكي، وبعد كده ماتمشيش لما تعرفينا انتي رايحة فين.


-حاضر يا ابني، ربنا يخليكم ليا ويبارك فيكم وفي ذريتكم.

                             ****

مساءًا....


استقبل "يزن" "وزيدان" والدتهما بالأحضان، محاولين عتابها باستمرار، لكن سليم قطع حديثهما بعدما عزما على ترقيعه بخيوط الندم.


اعطت منال يدها ليد شمس الممدودة أمامها، وهي تقول بتعب وإرهاق:


-دخليني يا شمس ارتاح شوية في اوضتي.


راقب "زيدان" دخول والدته مع "شمس" "ومليكة" إلى غرفتها، وما إن أغلقوا الباب خلفهن، حتى اندفع نحو "سليم" الجالس بينما كانت يداه تداعب ملامح طفلته "قمر":


-انت كنت تعرف مكانها من الاول، ولما احنا فشلنا فجأة افتكرت هي فين؟!


وضع "يزن" كفيه على وجهه، محاولاً السيطرة على أعصابه ومنع نفسه من الصراخ، بينما رفع "سليم" عيناه الصارمتان، متفوهًا بنبرة شبه حادة تحمل تهديدًا خاصًا:


-شكلك فاضي وعايز تتخانق؟


كز "زيدان" على أسنانه بغيظ وأردف بهجوم خافت:


-اه يا سليم هنقلبها خناق.


ابتسم "سليم" باستفزاز وهو ينهض حاملًا طفلته، وقال بهدوء بارد:


-بس أنا مش قادر اتخانق معاك النهاردة، نأجلها لبعدين، وبعدين قمر واحشني مش هضيع وقتي معاك واسيبها، تصبح على خير.


اتسعت عينا "زيدان" بصدمة بالغة وهو يراقب سليم بهيبته يداعب "قمر"، متجاهلاً إياه وأمر شجارهما المعلق مؤقتًا، التفت "زيدان" بنظره نحو "يزن"، الذي ما إن التقت أعينهما حتى فر هاربًا هو الآخر نحو غرفته.


                                *****


بمنزل "سيرا"...


فتحت المبرد تبحث عن صحن جبن رومي خاصها فلم تجده، فصاحت بانفعال:


-لا بقى مين الجزمة اللي كل الجبنة الرومي بتاعتي.


ركض اولاد اخواتها من أمامها، فركضت هي خلفهم، تمسك بصندوق فارغ صغير تهدد به:


-اللي كل الجبنة يقول حالاً، أنت أكيد يالا، تعال كده، خد مش هعملك حاجة.


انتشر المشاغبون في كل مكان بالمنزل وهي تركض خلفهم يمينًا ويسارًا بجنون، ولم تلاحظ أصغر اطفال "شاهندا" الذي امسك بثوبها يحمل هاتفها ويحاول جذب انتباهها:


-خالتوا سيرا، استني، فونك، عمو عايزك.


نفضت "سيرا" يده بصياح وهي تقول:


-بس يا ابني لما اشوف مين الكلاب دول اللي كلوا الجبنة بتاعتي.


-عمو...عمو عايزك.


كرر الطفل كلماته بابتسامة عريضة رافعًا يده الحاملة للهاتف، فانتبهت "سيرا" لكلامه، جذبت الهاتف سريعًا ووضعته فوق اذنيها تهمس بارتباك وخجل:


-الو.


وصلها صوت ضحكات "يزن" الرجولية المستمتعة وهو يقول:


-يا متوحشة هتاكلي عيال اختك عشان جبنة رومي!

تكملة الرواية من هناااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع