رواية عريس قيد الرفض( بين الرفض والقدر)الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم عفاف شريف
رواية عريس قيد الرفض( بين الرفض والقدر)الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم عفاف شريف
---
كنت لي درع الحماية،
سفينةً انتشلتني من وسط الأمواج العاتية،
وشاطئًا احتواني حين أنهكتني الرحلة.
كنت وطنًا ضمّني إليه،
فشعرت بالأمان كما لم أشعر به من قبل."
---
كانت تسمع عن الحب
قصصٍ ورواياتٍ،
ولكل راوٍ قصةٌ مختلفة.
هناك من يقول أن العشق تارة مرضٌ،
وتارةً أخرى يُقال لعنة،
وهناك من يقول أن العشق أمان،
وآخرون يرونه داءً لا دواء له.
لكنها تظل مجرد أقاويل تحيط بها.
تراها...
تتمناها،
وتنظر إليها بعينٍ راجية أن يحين دورها،
أن يحتضن أحدهم قلبها.
أن تعيش
قصتها الخاصة...
هي و أميرها،
هي و حبٌ لها ولأجلها،
هي و عشقٌ يحتضن روحها المعطوبة،
هي و رجلٌ لا يرى سواها.
تلك الأمنيات لم تعد أمنيات.
أصبحت حقيقة،
فهي حصلت على أميرها الخاص،
وقصتها الخاصة.
مرَّ الأسبوع كغمضة عين،
مرّ أسرع مما تخيلَت.
دائمًا كانت تسمع أن اللّحظات السعيدة
تمُر كغمضة عين،
لم تصدق... لكنها الآن عاشت الشُّعوريْن؛
اللّحظات السعيدة،
ومُرورُها السّريع.
رأته بعينيها،
يومًا تلو الآخر،
أذاقها سعادةً لم تشعر بها من قبل.
كان أسبوعًا مليئًا بتفاصيل ستظل في ذاكرتها دائمًا،
كأنه يصرّ على حفر تلك اللحظات في قلبها
قبل ذاكرتها.
أخذها إلى أماكن لم تذهب إليها من قبل،
أراها الشوارع القديمة،
يسير معها،
يضمها إلى صدره.
يريها هذا وذاك،
تسأل ويجيب،
لم يملّ هو ... ولم تملّ هي.
دلّلها كطفلةٍ صغيرة،
واشترى لها كل ما أرادت دون أن تنطق.
شعرت وكأنها مع والدها يدللها بكل حب.
أخذها إلى مطاعم غريبة،
وتناولت أطعمةً لم تسمع بها من قبل.
وكم كانت رائعةً،
دافئةً ككل شيء يمنحها إياه.
حسنًا، لن تنكر رفضها لبعض الأطباق الغريبة،
ولن تنسى صوت ضحكاته الساخرة منها،
وهو يرى اتساع عينيها ووجهها الممتعض
من شرحه لأحد الأطباق.
كان يشرح بدقةٍ خبيثةٍ
من أي منطقةٍ في الذبيحة جاءت تلك الوجبة.
صرخت به وقتها مشمئزة،
تخبره أنه شرير،
وظل يراضيها لثلاث ساعات،
انتهت بها هي تراضيه
بالقميص الأزرق الجديد.
خبيثٌ هو حقًا.
عوّضها ومنح قلبها سكينةً كانت تهفو إليها منذ سنوات.
حاول إقناعها بالسفر لبضعة أيام قبل عودته للعمل،
لكنها رفضت بشدة.
أرادت أن تظل في بيتهما،
الدافئ و جلستهما المفضلة كل ليلة:
مع مشروبهما الدافئ،
وصوت إحدى مقطوعاته المفضلة التي عشقتها.
كان يضمها إلى صدره،
يهمس لها بشعرٍ يسلب نبضها،
يمشط لها خصلاتها،
يحكي لها ذكريات...
وترد عليه بالضحكات...
كان لكلٍّ منهما ألمه الخاص،
وكانا بطريقة ما يداوي كل منهما الآخر.
لتكتشف أنها لم تكن الوحيدة المكسورة،
بل حبيبها صاحب القلب الذهبي مثلها اوجعته الحياة
لكنه فقط لا يريد أن يزيد حزنها.
لهذا أرادت اغتنام كل دقيقةٍ داخل أحضانه،
لعلها تشبع من دلاله وحبه،
وإن كانت لن تفعل.
قضت سبعة أيامٍ معه وله،
يبثها عشقه،
يخبرها في كل لحظة: "أحبك".
تخجل هي...
ويضُمّها هو نحو صدره،
أمانها ووطنها.
فمن ذاق طعم الغربة وسط الأحبة
سيشعر بقيمة الوطن في غريبٍ
أصبح لها كل شيء.
فكم من غريبٍ يصبح أغلى من ألف قريب.
كان عُمر قارب النجاة لها
وسط عواصف ابتلعتها طوال حياتها.
ببساطة، كان لها كل شيء،
ولم ترد في تلك اللحظة
سوى أن تراه بخير.
---
كانت تحظى بنومٍ هادئٍ
بعد أن نامت عقب صلاة الفجر،
فعمر يواظب يوميًا على الصلاة في المسجد،
وقبل أن يذهب للصلاة
يوقظها.
في البداية، كان الأمر صعبًا،
فالجو بارد،
لكن مع إصراره
أصبحت صلاة الفجر عادةً يوميةً لها هي الأخرى.
تصلي الفجر وتركض إلى الفراش،
ويتبعها هو بعد قراءة الأذكار والاستغفار،
يضمها إلى صدره
إلى أن يستيقظا سويا.
لكن اليوم مختلف...
حين أفاقت على صوت وقوع شيءٍ ما في الغرفة.
أحدث صوتًا كفيلًا بإيقاظها،
قطّبت حاجبها بقلقٍ وهي تتقلب،
تنظر حولها بنعاس،
لتراه ينظر إليها بأسفٍ ويقول بندم:
"معلش يا حبيبتي، البرفان وقع غصب عني وأنا باخد حاجة."
ابتسمت له برقة،
وهي تتقلب على الفراش بكسل،
تراقبه وهو يتحرك هنا وهناك،
خصلات شعره المبتلة وهيئته المنمقة وهو يستعد للعمل.
اليوم هو اليوم الأول بعد إجازة أسبوعٍ كامل،
أخذها بصعوبةٍ شديدةٍ لأجلها.
ابتسمت له وهي تقول بخفوت:
"صباح الخير."
اقترب منها،
قبل وجنتيها وقال:
"صباح الورد للورد.
معلش صحيتِك. يلا كملي نومك."
أجابته وهي تعدل الوسادة لتجلس براحةٍ أكثر،
وتهندم مظهرها:
"لا، خلاص فوقت.
ممكن كمان شويّة أحضر لك الفطار.
النهارده أول يوم...
بس مش نازل بدري كده؟
أنت ملحقتش تنام."
قالتها بأسف.
أجابها بضيق:
"للأسف مضطر أنزل بدري الفترة الجاية،
عشان أعوّض أسبوع الإجازة.
ورايا شغل كتير أوي،
والمدام مش بتحب التأخير،
والإجازات بالنسبة لها مش متاحة إلا في الطوارئ القصوى أوي أوي أوي."
قطبت حاجبيها وهي تتحرك من فراشها،
تتهادى بقميصها الطويل أمام عينيه المحبة،
وهي تقول:
"هي صعبة أوي كده؟"
أجابها وهو يقربها منه أكثر:
"يعني...
بس عموماً مفيش شغل سهل.
أكل العيش صعب
ومحتاج تحمل منّا.
هي دي الحياة."
وأكمل ممازحًا:
"محدش بيأكلها بالساهل."
استندت على صدره وهي تسأله بخفوت:
"حلوة؟"
قطب حاجبيه من سؤالها الهامس،
وظل هكذا بضع ثوانٍ فقط،
قبل أن يرفع وجهها بيده،
وهي تطالعه بارتباك،
ويطالعها هو بحنانٍ،
مجيبًا إياها بصدق:
"مفيش ستّ تملى عيني غيرك،
ولا عمري هبص لحد أبداً غيرك.
أنا بحترمك، والأهم بحبك.
حبنا أنقى من إني ألوثّه بنظرة لست غيرك."
وأكمل بعتاب:
"ولا إنتي ليكي رأي تاني؟"
تنهدت براحة،
وهي ترتفع على أطراف أصابعها،
تقبل وجنته بارتياح.
هي لا تشك أبدًا بحبه،
لكنها تغار عليه... فهو يستحق.
ضمّته إليها،
وضمّها إليه،
حتى أخرجها من أحضانه مضطرًا،
وهو يقول بضيق:
"أنا مضطر أنزل بسرعة عشان اتأخرت."
أجابته بتساؤل:
"طيب إفطر الأول!"
هز رأسه نافيًا بابتسامةٍ صغيرةٍ،
وهو يرتدي ساعته بسرعة:
"معلش يا ريدة، مش هلحق.
هاكل أي حاجة في الشغل إن شاء الله."
تحركت خلفه،
وهو يدور في الغرفة يجمع أشياءه،
كطفلةٍ صغيرةٍ تتبع أباها،
وهي تردد:
"طيب، هترجع إمتى؟"
وقف فجأةً، فارتطمت بظهره،
ليلتفت إليها،
ويربت على وجنتها وهو يقول:
"إنتي عارفة، النهارده هيكون أول يوم أمسك التاكسي.
وردية بالليل إن شاء الله،
فأنا هخرج من المكتب،
وأروح أخد التاكسي.
معلش يا حبيبتي،
هتقعدي لوحدك كتير،
بس بإذن الله فترة وتعدي."
أجابته بحزن:
"هتتأخر كتير يعني؟"
ظل ينظر إليها بضيق.
هو لا يريد تركها كل هذا الوقت،
لكن ماذا يفعل؟
يوجد عليه الكثير من الأقساط،
والكثير من الديون،
يجب سدادها في موعدها.
وأيضًا البيت الآخر.
فريدة امرأة عاشت عمرها مدللةً ماديًا،
وهو لا يريد أن يجعلها تشعر بالاحتياج.
وهذا يكلفه الكثير من العمل.
لكن لا يهم...
لأجلها سيتحمل، إن شاء الله.
قبّل وجنتها بحنوٍ وهو يقول:
"بإذن الله مش هتأخر أوي،
والفون معاكي.
كلميني لو حصل أي حاجة."
وأكمل وهو يشير إلى طاولة الزينة:
"والفلوس مكانها زي ما وريتك،
عشان لو تحتاجي أي حاجة،
تبعتِ لمراة الحارس تجيبها. تمام؟"
أجابته برجاء:
"بس أنا عايزة أنزل...
لو سمحت يا عمر."
وقف لدقيقةٍ مفكرًا.
هو يخاف عليها،
لكن هل سيسجنها في الشقة؟
لا يريد هذا.
ليجيبها مضطرًا رغم خوفه:
"تمام...
بس متبعديش عن المنطقة،
لسه جديدة عليكي.
أوك؟
يلا سلام يا حبيبتي،
عشان أنا اتأخرت."
قالها بعد أن قبّلها،
وغادر سريعًا.
وظلت هي تنظر في أثره،
مفتقدةً إياه منذ الآن
---
تحركت في الشقة تقوم بروتينها اليومي.
فتحت التلفاز على قناة القرآن الكريم.
أشعلت البخور.
كان المنزل شبه نظيف لا يحتاج للكثير، فعمر إلى حد ما شخص منظم، فالمنزل على حال جيد.
فقد لمسات بسيطة.
تحركت للشرفة تحمل بين يديها كوب الكاكاو الخاص بها.
رفعته لفمها قبل أن تبتسم بفرح.
كان ذا مذاق مميز كخاصّة عمر، فهو يومياً يصنعه وهي بجانبه تتعلم.
لم تكن تعلم أن الأمر سهل، حتى أنها أمس تعلمت صنع الشاي أيضًا.
ابتسمت وهي تنظر للشارع بهذا الوقت المبكر.
كان فارغًا إلا من بعض المارة، وذاك المحل هناك.
منذ ثلاث أيام رأته لكن خجلت أن تطلب من عمر أن يحضر لها.
فهم يعتمدون على الجبن والإفطار الخفيف.
فلم تجد نفسها سوى وهي تدلف للغرفة، تقلب تفتح خزانتها تراقبها بحيرة.
هي لا تحب تلك الملابس.
لا ترتاح، أغلب ما يشتريه عمر كانت ملابس فضفاضة بشكل غريب لها.
هي تريد الجينز خاصتها.
لا تحب هذا.
لكن صمتت ولم تتحدث.
وقررت أن تذهب للشراء قطعة أو اثنين مؤقتًا إلى حين شراء ما يكفيها.
لكن بها ماذا ترتدي؟
في النهاية أغلقت الخزانة، وهي تقرر التمرد على نفسها.
وترتدي إسدال الصلاة.
نظرت لنفسها في المرآة تضحك بخفوت.
تراها غريبة، غير نفسها.
وقفت تمشط خصلاتها التي استطالت في آخر عام وأصبحت أجمل.
أخذت المفاتيح والمال من مكانه.
وتوجهت للأسفل لأول مرة وحدها منذ تزوجت.
---
خرجت من البناية ليلفح وجهها نسمات الهواء الباردة.
مسّت ذراعيها وهي تستقبل الهواء بابتسامة.
كم تعشق الشتاء!
هو فصلها المفضل.
ظلت تمشي قليلاً حتى اتضح الزحام أكثر وأكثر.
والحرارة المنبعثة منه.
كان الجميع يقف في تزاحم يملي البائعين الطلبات.
وفي الناحية الأخرى، شاب صغير يقف يصنع الفلافل الساخنة بحرفية يناظر هيئتها باستغراب.
ظلت واقفة تخشى الدخول.
حتى مرت عشر دقائق وهي واقفة.
يأتي ناس يشترون ويرحلون، وهي واقفة.
حتى التفت لها البائع.
كان رجل متقدم في السن يبدو عليه الشقاء.
أهداها ابتسامة لطيفة وهو يقول: "قربي يا بنتي، عايزة إيه؟"
اقتربت بتردد وهي تقول: "شكراً، كنت عايزة فطار."
ضحك الفتي خلفه ليرمقه بنظرة اخرسته، وهو يلتفت لها بود قائلاً: "عايزة قد إيه؟"
أجابته بابتسامة رقيقة: "فطار ليّا لوحدي."
هز رأسه بتفهم وهو يخبرها: "بخمسة فول وبخمسة طعمية، عايزها سادة ولا محشية?"
أجابته بعدم فهم: "إيه الفرق؟"
شرح لها بصبر تعجب له الفتي: "السادة بس عجينة مقلية، والمحشية بتكون خلطه بس حارقة شوية."
ابتسمت له وهي تجيبه: "خليها سادة."
أشار لها بيده على عينه وهو يقول: "عينيَّا، بتحبي البتنجان؟"
هزت رأسها موافقة.
ليقول للفتي: "وحطلها كمان سلطة."
ابتسمت له شاكرة وهي تسأله عن الحساب.
ليجيبها: "خليها علينا المرة دي يا ست البنات."
قالت بخجل وشكر: "شكراً لحضرتك."
وأخرجت المال ليعطيها الباقي.
لتشكره بأدب وتعود للمنزل.
مشت في الشارع تحمل طعامها.
وبداخلها تشعر بأن تلك الحياة غريبة عليها.
تشعر بشعور لا تفهمه.
نعم، بسيطة وتمس قلبها.
كما مسّها صاحبها.
لكنها تظل غريبة لها.
---
جهزت الطاولة بفطورها الشهي، وأعدت كوبًا من الشاي وأضافت إليه بضع ورقات من النعناع، اشترتها وهي عائدة من مرأة مسنّة كانت تبيعها.
أمسكت هاتفها، صورته، وأرسلته له، لتتبعها رسائله ويغلق سريعًا، فهو مشغول.
لتقرر بعد مدة طويلة من الإنشغال أن تحادث سارة.
فتحت محادثتهم وبدأت بمكالمة مرئية فورًا، فكم اشتاقت لها!
ثوانٍ وكانت الأخرى ترد بحماس يفوقها:
"فرييييده، وحشتني أوي! يا أهلا، يا أهلا من لاقي أحبابه فعلاً. وحشتني أوي يا بنتي! عاملة إيه؟ طمّنيني عنك، والجواز؟ ما تنطقي يا بنتي!"
انطلقت ضحكات الأخرى وهي تقول بتهكم:
"يا ستي خدي نفسك الأول! هو أنا لحقت؟"
وأكملت بإشتياق:
"وحشتيني أكثر والله، ووحشني كلامنا أوي! شفتي صور كتب الكتاب؟"
أجابتها سارة مؤكدة بسعادة:
"طبعًا، وبجد كنتِ زي القمر! يا ريت كنت أقدر أكون جنبك اليوم ده، بس انتي عارفة الوضع. الدنيا هنا مش أحسن حاجة."
قطبت حاجبها بقلق وهي تسألها:
"ليه؟ حصل إيه؟ هو لسه الوضع زي ما هو؟"
أتاها الرد الأخرى غاضبة وبشدة:
"زي ما هو! وهيفضل كده طول ما الوضع زي ما هو! أنا مش هقبل بالوضع ده!"
زمت شفتيها وهي تقول بهدوء:
"بس يا سارة، الي انتي بتعمليه ده غلط."
اتسعت عيني الأخرى وهي ترد:
"معقول انتي اللي بتقولي كده يا فريدة؟ انتي أكتر حد عارف معنى إن الإنسان يتجبر على حاجة!"
قاطعتها الأخرى بحنق:
"يا سارة، افهمي! وضعك غير وضعي. أولًا، انتي رافضة الجواز من غير أي سبب من ناحيتهم على الأقل. انتي كل عريس يجي ترفضيه من برة لبرة بدون سبب، تخيلي لو عرفوا السبب؟ طبيعي كل أب وأم يخافوا على بنتهم ويستغربوا رفضها الغريب، مش بس غريب، لا متكرر! سنين طويلة مش مرة ولا اثنين، ولا حتى سنة ولا اثنين."
وأكملت مؤكدة:
"بسبب معارف باباكي بيجوا ليك كثير، وانتي اللي على لسانك إنك مش عايزة."
أجابتها سارة بكآبة وحزن:
"انتي عارفة السبب."
هزت الأخرى رأسها مؤيدة وهي تقول:
"وعشان عارفة السبب بقولك كفاية يا سارة، الي بيحصل غلط! غلط بجد! ده مش مبرر ولا دليل قاطع. إيمانك بربنا شيء، والي بتعمليه ده شيء تاني خالص. حبك للشخص ده مش صح. أولًا، ده شخص على السوشيال ميديا يعني عالم تاني! عالم الناس فيه مش حقيقيه. مش قصدي بالمعنى الحرفي، قصدي إن كلنا ورا شاشات نقدر جدًا نمثل، نقدر نكون كويسين واحنا مش كده. الكذب شيء وارد! بينزل استوري وفلوجات بوستات، لو كل دقيقة! هتفضل ورا الشاشة، إيه الي عرفك إن الشخص ده كويس أوي زي ما انتي شايفاه؟ وارد جدًا يكون مش كده. ممكن يكون وحش وده كله تمثيل! وارد جدًا يكون أحلامك بسبب تفكيرك المستمر! وارد جدًا! تقدري تثبتي غير كده؟"
لا، طبعًا! مستحيل!
"عقلنا الباطن بيعكس كل حاجة في أحلامنا، وده كل الناس مرت بيه! حبك ليه من طرف واحد، حتى حبك ليه حب مش كامل. وده مش استهزاء بيكي أبدًا، وانتي عارفة أنا أكتر حد بيتمنى إنك تكوني سعيدة! بس انتي متعرفيش متعاملتيش معاه! هتعملي إيه لو في يوم أعلن خبر ارتباطه بعد كل السنين دي؟ بعد كل الحب ده؟ هتعملي إيه؟ هتموتي نفسك؟ لا طبعًا، هتضطري تكملّي حياتك، بس بعد ما قلبك اتكسر مليون حتة! لازم تتخلي عن العلاقة دي، لأن ببساطة إحنا ممكن ندعي ربنا طول حياتنا بحاجة ومتتحققش، مش عشان ربنا ظالم، حاشا لله! بس لأن وارد حدًا ما يكونش الخير ليكي. ربنا وحده يعلم! ولو ربنا أراد تتجوزو هيجيلك ولو من آخر العالم. بس حرام الي بتعمليه في نفسك ده!"
تنهدت سارة وهي تطالعها بحزن، قبل أن تقول:
"وتظني سهل؟ سهل أغمض عيني وأفتح ألاقي نفسي نسيته! أنا حبيته! وانتي مش حاسة بيا! أنا موجوعة وانتي بتديني محاضرة يا فريدة! انتي دُقتي طعم الوجع ده، نسيتي؟"
بهتت ملامح الأخرى وهي تطالعها بجمود، وظلت صامتة بضع ثواني، قبل أن تتلعثم سارة مسرعة بالقول:
"فريدة، فريدة أنا آسفة!"
وأكملت بدموع:
"آسفة والله! أنا بس موجوعة، موجوعة أوي!"
تنهدت فريدة بتعب، فمن مثلها يعلم ذاك المذاق. هي تجرعته حتى اكتفت.
لذا أجابتها متفهمة:
"ولأني حاسة بيكي، بقولك انقذي نفسك. بعض العلاقات السامة قاتلة."
وظلوا هكذا، تحدثها، تنصحها، تربت على قلبها. في النهاية، هي صديقتها الوحيدة، والمها يوجع قلبها هي الأخرى مهما حدث.
---
كان يومًا حافلًا بالعمل بعد انقطاعٍ دام لأسبوع.
انغماسه في العمل لم يجعله يلاحظ العينين المتابعتين له، تراقبانه بلا خجل.
ولماذا تخجل؟ هي تحصل على ما تريد، حتى وإن كان هذا صغيرًا، حتى وإن كان رجلًا متزوجًا. لا فارق لديها.
تحركت تخطو نحو مكتبه الصغير الفارغ سوى منه، بعد أن رحل الجميع.
أفاق من انغماسه في العمل على صوت خطوات حذائها عالي الكعبين، وعطرها الذي اخترق أنفه، ليجدها تنظر له بحاجب مرفوع، وشفتاها مصبوغتان بأحمر شفاه كأنهما جُددتا الآن.
خفض رأسه وهو يستغفر بهمس، يحرك رأسه كأنه يحاول إخراج أفكار لا يريدها أن تدخل، وهي تقترب منه، تجلس بكل أريحية أقرب للوقاحة على طرف المكتب، تضع ساقًا فوق الأخرى لتظهر اكتناز ساقها المثيرة لأعين أي رَجُل، وتنورتها التي ارتفعت تلقائيًا مع جلوسها الغير مناسب أبدًا.
خفض نظره وهو يجد نفسه يطيل التطلع أكثر من الطبيعي، ليشحب وجهه بالإرهاق، وهو يسألها بهدوء:
"اتفضلي، مدام رفيدة، حضرتك محتاجة حاجة؟"
تمهلت في الرد وهي تحرك ساقها بحركة رتيبة جزبت انتباهه بغير قصد، وهي تقول بابتسامة خبيثة، ملاحظة نظراته:
"خلصت اللي طلبته منك؟"
أومأ لها وهو يخرج أحد الملفات معطيًا إياها، لتمد يدها تأخذه منه ملامسة يده عن قصد.
ارتبكت ملامحه وهو يسحب يده سريعًا، قبل أن يقول:
"حاجة تانية؟"
ظلت تنظر له قليلاً، قبل أن تقول:
"أه، كل يوم هتقعد ساعتين بعد ما الكل يمشي. في حاجات لازم تخلصها."
ولم تعطه حق الرد، وهي تلتفت لتغادر.
وخلفها، وهو يستغفر بكثرة.
رفيدة محامية كبيرة وزوجة صاحب المكتب، تصغره بخمسة عشر عامًا.
تنهد ..... إنه حقا لا يتقبلها.
نظراتها، مظهرها، كل شيء، يوتره.
استغفر ربه، وهو يعود لعمله سريعًا، ليلحق بعمله الآخر، متمنياً أن يعود سريعًا ليضم فريدة إلى صدره، وهذا يكفي له.
---
كانت تجلس وحدها بالمنزل ككل يوم.
تذهب في الصباح للنادي قليلاً، لكن ما أن تمل حتى تعود تقضي الوقت بالمنزل.
تحركت صفية في غرفتها بملل وهي تفكر بجدية أن تسافر بضع أيام مع شوكت فقط لتغير الأجواء الصامتة بينهم تلك الأيام.
لكن وللصدق، متى لم تكن كذلك؟ أم هي فقط من كانت تحيا بوهم صنعته بنفسها؟
تنهدت بحيرة وهي تجلس على فراشها، شاعرة بالفراغ، فراغ حاوطها.
تجلس وحدها أغلب اليوم. شوكت أصبح أغلب وقته يقضيه بالخارج، وهي بمفردها هنا. وكم كان هذا صعبًا.
---
كان تميم يجلس على الفراش، يستند بظهره على إحدى الوسائد بتعب، يربط رأسه بأحد الأقمشة بقوة.
كسيدة مسنّة تحتضر، يمسك بين يديه كوبًا كبيرًا من القهوة عله ينهي هذا الصداع ويُفيق عقله المنهار.
وهو ينظر أمامه بتعب ويأس، قبل أن يقول بألم وهو يمسد رأسه:
"الحقيقة أنا عندي سؤال مهم قوي.
إحنا بنعمل إيه دلوقتي؟
أو بمعنى أدق، بما إني متكلمتش كلمتين على بعض، فإنتي بتعملي إيه؟
حرام عليكِ، حرام عليكِ، اتقي الله.
هو أنا مبصعبش عليكي؟
طيب، مثلاً مفيش شوية شفقة؟"
وصرخ بتعب:
"شوية دم!
يا معدومة الدم، إيه إيه؟ أنا لو ابن الجيران؟ ابن جيران إيه؟
أنا لو ابن كلب كنتي اشفقتي عليا أكتر من كده.
إيه يا شيخة؟
إيه؟
عمال أقول هتحس هتشوف، قالها وهو يشير على رأسه المربوطة،
وأكمل بعصبية:
"بس اللي ميشوفش من الغربال..."
نظرت له آلاء بنظرة استعطاف كاذبة، وهي تقول بتمسكن:
"كده يا تيمو يا حبيبي؟"
أجابها مستنكرًا:
"حبك برص!
ساعة ونص!
ساعة ونص رغي بدون هدف، بدون أي هدف!
أنا مالي أنا ومال الواد اللي طلع بيسرب؟
مالي أنا ومال طشة البامية اللي طلعت حادقة؟
مال أمي أنا إن سعر المسحوق غلي؟
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل!"
رفع رأسه ودعا عليها:
"يا آلاء يا بنت مدحت..." قالها بتعب وهو يمسد رقبته.
نظرت له الأخرى شرزًا، وهي تردد:
"بتدعي عليا؟
حسبي الله ونعم الوكيل فيك إنت!
بتدعي عليا؟
على أختك؟
تصدق، إنت مش أخ جدع!"
بدل ما تقولي فضفضي يا أختي يا حبيبي،
فضفضي بدل ما تطقي وتموتي!"
قالتها بصراخ، وهي ترفع الخف من قدمها، تقذفه بقوة ودقة على صغيرها الراكض،
وأكملت بعدها كأنها لم تفعل شيئًا:
"المهم عملت إيه مع أبوك؟"
تنهد تميم بضيق وهو يقول:
"هعمل إيه يعني؟
قلتله هقابل بنات وكده...
واديني هشوف هيحصل إيه؟
هو أنا يعني بإيدي حاجة؟
أبوك بيلوي ذراعي، على أساس أني ناقص.
والله أنا ههج وسايبلكم الدنيا عشان ترتاحوا.
عرايس إيه وزفت إيه، هو أنا بقي فيا حيل للجواز؟"
لمعت عيني الأخرى بحماس ولم تهتم بحديثه حتى اقتربت من الهاتف بدرجة مخيفة، حيث غطى أنفها معظم الصورة، وهي تقول بفرحة كمن وجد كنزًا:
"لقيتها! لقيتها!
أنا لقيتها يا واد يا تيمو!"
هز الآخر رأسه بتساؤل متخوف:
"هي إيه؟"
أجابته بانتصار:
"عروسة يا واد!
عروسة تشرح القلب!
ده أنا عندي ليك يا واد يا تميم عرو..."
وقبل أن تكمل، وجدت إصبع تميم يقترب بشدة من الشاشة، قبل أن يغلق في وجهها.
ارتدت للخلف في صدمة وهي تراه أغلق المكالمة.
قبل أن تمسك الهاتف بعصبية وتشتمه وهي تهاتفه من جديد.
لم يرد.
ولم تستلم.
حتى رد قائلًا بصوت قاطع، مانعًا إياها من القيام بوصلة صراخ مطولة:
"هششش!
لو سمعت نفسك، هسافر مخصوص، اكتمه!"
ناظرته بقرف، ليكمل:
"إياكِ شوفي، إياكِ اسمعك بتقترحي عرايس!
شوفي مجرد الاقتراح قدام أبوك،
استعدي للهلاك!
هقتلك، هفصل رأسك الحلوة دي عن جسمك!"
وأغلق المكالمة مرة أخرى في وجهها بلا مبالاة.
ظلت تنظر للهاتف بشر، وهي ترفع الخف الآخر من قدمها، تقذفها على الصغيرة التي تجلس فوق أخيها، تكتم أنفاسه رغم محاولتها التخلص منه.
قبل أن ترفع الهاتف، وتتصل بأحدهم قائلة بابتسامة واسعة شريرة وخبيثة:
"بابا حبيبي، وحشتني أوي أوي.
عندي ليك خبر هيفرحك أوي.
مش أنا لقيتلك عروسة لتميم؟"
قالتها بشر منتقم.
---
تحرَّكت في الشقَّة بمللٍ لا تعرف ماذا تفعل طوال اليوم.
التلفاز مملٌّ، وهي لا تميل كثيرًا للتصفُّح، لذا قضت معظم يومها جالسةً تتحرَّك هنا وهناك، حتَّى غفت على الأريكة ولم تشعر بنفسها، سوى على لمساتٍ حانية تداعب وجهها وتَمرُّ على خصلاتها.
فتحت عينيها بنعاسٍ ليُقابلها بابتسامته المعتادة وهو يقول:
صحِّ النوم يا كسلانة.
اعتدلت ببطء تنظر حولها لتعلم أنَّها قد غفت دون أن تدري، فأجابته بابتسامةٍ مرهقة:
ما حسِّتش بنفسي، نمت.
قبَّل وجنتيها وهو يستقيم، ثم توجَّه إلى غرفته وهو يقول:
وماله يا حبيبتي، نوم الهنا. بس كده هستهري جامد، يلا حضَّريلي الأكل عقبال ما آخد دش.
تسمَّرت في مكانها وهي تنظر في أثره. أي طعام؟
هي لم تُحضِّر طعامًا! أسرعت خلفه وهو يُبدِّل ثيابه لتقول بصدمة:
أكل إيه؟ أنا ما عملتش أكل. مش انت هتجيب جاهز زي كل يوم؟
التفت إليها الآخر بملامح مُتهجِّمة وهو يقول بحدَّةٍ سريعة:
أكل إيه اللي هجيبه؟
المفروض كنتِ عملتِ أكل. هنتغدَّى كل يوم من برَّه يا فريدة؟!
قالها بصوتٍ عالٍ قليلًا، لتُجيبه باضطراب:
بس انت ما قولتليش! وكمان انت عارف إني ما بعرفش أطبخ، وأنا كنت قايلالك كده قبل الجواز، وانت قلت مفيش مشكلة، أتعلم وكده.
أشاح بيده قائلًا بعصبيَّة وكأنَّه يُفرغ بها ضغط العمل دون وجه حق:
المفروض أنا اللي أعلمك ولا إيه يا فريدة؟!
وأكمل وهو يقترب، يمسك ذراعيها ويشدد عليهما:
لما جوزِك يرجع من الشغل، لازم يكون الأكل جاهز.
مش المفروض أنا اللي أقولك.
دي أساسيات المفروض تكوني عارفاها، زي كل الستات.
قالها وهي تُطالعه بعينٍ واسعة ودمعةٍ محترقة أبت أن تبقى، فتحرَّرت. حرَّرت نفسها من بين يديه، وهي تردُّ بقوةٍ وغضب:
ما تعلِّيش صوتك عليَّا! أنا مش خدامة، أنا زوجة، ولو مش فاهم الفرق يبقى المشكلة عندك. لو أنا طبخت، فده يكون حبًّا واهتمامًا، مش شيء أنا مُجبرة عليه.
أكملت بنبرةٍ غاضبة:
انت عارف إنِّي ما عنديش مشكلة أتعلم، بس انت حتى ما بلَّغتنيش أعمل أكل. مشيت وطول اليوم ما فكَّرتش تتصل تقولي حتى. طيب، والمفروض أنا أعرف منين؟
صاح بها بعصبية:
وهي دي المفروض تتقال؟! ده واجبك! البيت ده، المطبخ، أنا!
زي ما أنا طول اليوم بشقى عشانك، عشان البيت ده وعشان راحتك.
أكمل بصوتٍ أعلى:
انتي وراكي إيه غير البيت ده؟ سعادتي هي المهمَّة عندك. انتي زوجة، تقبلي ده.
ظلَّت تنظر إليه عدَّة لحظات قبل أن تقول بصوتٍ حاسم:
أنا ما اسمحلكش تتكلم معايا بالطريقة دي.
أيًّا كان اللي عصبك أو ضايقك، نتشارك ونتناقش، لكن نتخانق؟ لا.
مهما كان اللي اتعرَّضتله، ما يديلكش الحق تعمل كده.
كفاية لحد كده.
وكادت تغادر الغرفة، لولا يده التي منعتها، تشدُّها إليه وهو يقول بعصبية:
أنا لسه ما خلَّصتش كلامي!
أزاحت يده بقوةٍ أكبر، وهي تقول بصوتٍ حاسم:
بس أنا خلَّصت!
وغادرت الغرفة، وربما في تلك اللحظة أرادت أن تغادر المنزل، لكن إلى أين؟ فلا سبيل منه إلا إليه.
---
كان يتحرَّك في الغرفة ذهابًا وإيابًا، يشعر بصدره يحترق ألف مرَّة.
التفت ينظر في أثرها بندمٍ شديد، وصوت أنفاسه يعلو، شاعرًا بالتيه. رفع يده يضرب الخزانة عدَّة مراتٍ بغضب، ليقف بعدها عاجزًا لا يعرف ماذا حدث.
التفت ووقف ينظر لنفسه في المرآة.
كيف فعل ما فعل؟ كيف فعل هذا بها هي تحديدًا؟ أهذا الأمان الذي وعدها به؟! أتلك وعوده وكلماته؟! أين ذهبت؟ كيف يغضب منها بتلك الطريقة؟ كيف خذلها في أول المطاف قبل حتى أن يُثبت لها العكس؟ بأي حق؟
فريدة زوجته وحبيبته، كيف أن يجعل غضبه يطالها بأي شكلٍ من الأشكال؟!
يحترق ألف مرَّة ولا أن يطالها ذرَّة واحدة من الألم. لا يحق له، لا يحق له!
قالها لنفسه وهو يُسرع بالذهاب إليها.
فلا عاش ولا كان من يُحزنها، حتى وإن كان هو.
---
كانت تقف في الشرفة، تنظر حولها بفراغٍ مؤلم، شاعرة بالضيق الذي يكتم قلبها. تكتم دمعتها، لا تريد تحريرها، لا تريد أن تسمح لنفسها أن تضعف. ليس مجديًا، أبدًا أبدًا.
لكن ماذا فعلت؟ هي أخبرته، صارحته. لم تكذب ولم تخدع، بل هو فعل. هو وعدها، أعطاها أمانًا انتشلها منه في أول لحظة، بأول موقف، بكل بساطة.
كيف حدث ما حدث؟ تساؤلات كثيرة بداخلها.
لم تتوقَّع أن تأتي تلك اللحظات بتلك السرعة. لم يمر سوى أسبوع واحد فقط.
هبطت دمعةٌ حارقة دون إرادتها، وقبل أن ترفع يدها لمسحها، سبقتها يده.
انتفضت تنظر له بغضب وكادت أن تغادر، إلا أن يده منعتها، يقربها لصدره وهو يقول بندم:
ما عاش ولا كان اللي يبكيكي.
وأكمل وهو يمسح على يدها برفق:
سامحيني يا فريدة، أنا آسف، حقيقي آسف.
أبعدت وجهها للجهة الأخرى تبكي، ليضمَّها بندمٍ أكبر وهو يقول بخزي:
سامحيني يا حبيبتي، أنا ما أعرفش إزاي عملت كده. أنا حقيقي آسف.
وأكمل مبررًا وهو يمسك وجهها بين يديه:
صدقيني ما أعرفش، أنا آسف. بس الشغل ما كانش أحسن حاجة، وجت فيكي بالغلط. ليكي كل الحق تزعلي، بس صدقيني مستحيل أكررها تاني. سامحيني يا حبيبتي، أنا آسف.
وأكمل وهو يُقبِّل رأسها يُراضيها:
أوعدك ما تتكررش تاني أبدًا.
قالها وهو يضمها إلى صدره، ويتساءل بخوف:
سامحيني؟
ظلَّت تنظر له عدَّة لحظات قبل أن تقول بصوتٍ هامس:
أنا قلبي اتجرح كثير يا عمر، أوعي تكون جرح جديد تاني.
أوقف حديثها بيده التي وضعها على فمها وهو يقول بنفيٍ قاطع:
مستحيل، مستحيل يا فريدة. أوعدك، أوعدك يا حبيبتي.
وأكمل برجاء شديد:
سامحتيني، صح؟
ابتسمت له ابتسامة باهتة قبل أن تهزَّ رأسها موافقة، لتشرق ابتسامته أمام عينيها، وتجعل الحزن يتراجع.
جرَّها خلفه قائلًا بحماس:
وعشان خاطر عيونك، هنخرج ناكل برَّه. يلا بسرعة، البسي!
قالها بحماس وهو يساعدها.
وبداخلها، لوهلة، خاف قلبها.
شعرت به يصرخ بأعلى صوت:
"أرجوك، لا تخذل الأمان، فجرحي عميق، وصدقك كان الحنان."
#عريس_قيد_الرفض
#بين_الرفض_والقدر
#الفصل_السابع
#عفاف_شريف
----
غيمة الشعور هذه تثقلني،
لا مطر ينقذني من الجفاف،
ولا ريح تقتلعني من مكاني.
أقف بين الحافة والفراغ،
أراقب قلبي يختار طريقه،
فأجدني معه، رغم كل التناقضات.
ربما الحب ليس سوى درس،
نتعلم فيه كيف نضيع
لنجد أنفسنا من جديد."
----
استيقظ متأخرًا في اليوم التالي، فصداع الأمس جعله يسقط كجوال بطاطا فوق الفراش، يغُطّ في نوم عميق، متعب ومرهق.
ظل يدعو على آلاء وإخوتها حتى غفا.
"تلك ابتلاء وليست آلاء!"
واتضح بعد ذلك أنها أتت لتكفّر ذنوبه هي وأطفالها المزعجين.
وزيادة الطين بِلّة، أطلقت على ابنها تميم تيمناً به، لتتيح لنفسها قول كل ما تريد براحة وضمير منقطع.
مسَد رأسه بتعب وإرهاق.
أصبح صداع الرأس يلازمه بطريقة بشعة.
نظر جانبه إلى هاتفه الذي يرن منذ فترة بلا انقطاع.
لن تيأس حتى يحظرها نهائيًا.
"هي تستحق الحظر والقتل، صدقًا!"
رفع الهاتف إلى أذنه ليستمع إلى صوتها الهادئ، منذ فترة طويلة، لدرجة أن حاجبيه ارتفعا بصدمة، وهو يسألها بريبة:
مالِك؟ إنتِ كويسة؟
صمتت قليلًا، ليكمل بعدها بحذر:
بصّي، ردي بـ"آه" أو "لا"، وأنا هعرف.
في حد مرفعك؟ ولا مثبتك يا بَتّ؟
آلاء، إنتِ كويسة يا بنتي؟
أجابته بتملق وصوت هادئ مخادع:
حبيبي، أنا كويسة. وحشتني، بس قلت أطمن عليك.
وحشتني أوي يا تيمو!
أزاح الهاتف من أذنه ليتأكد من المتصل.
تأكد: نعم، هي.
نعم، إنها آلاء شقيقته.
نعم، هي بذاتها، سرينة الإسعاف والطوارئ التي تنغص حياته وتزعجه ليل نهار، حتى شارف على الانتحار.
إذًا، ماذا يحدث؟
أعاد الهاتف إلى أذنه بسرعة، مجيبًا بتقرير وهو يدلك رأسه، مهيئًا إياها للصداع القادم:
آلاء، عملتي إيه؟
وأغمض عينيه وهو يرد بإرهاق:
أبوس رجلك، ما تقوليليش إنك عملتي مصيبة.
آلاء، أنا مش ناقص. طيب، أدعي عليكي بإيه أكتر مما بدعي؟
وأكمل بصوت مفكر:
طيب، أعملك عمل؟
تأفّفت بصوت عالٍ، ليعود صوتها الغاضب وهي تقول بعصبية وملل:
تميم! بس بقى!
الله! طيب أعمل إيه؟ مهو غصب عني.
ضرب وجهه عدة ضربات وهو يدعو عليها، ويجيبها بسخرية:
الله! الله يا عبد الله!
قولي، قولي، أشجيني! غني وسمّعيني!
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا شيخة!
الواحد لسه مغسلش وشه حتى! يعني يرضي مين يا رب؟ الناس كلها تصحى على بيبي وحبيبي، وأنا أصحى من هنا، والمصايب تلزق في وشي من هنا!
تنهدت بتعب هي الأخرى قبل أن تجيبه باستسلام:
اللاب بتاع رامي اتحرق يا تميم.
وعليه شغل مهم. أعمل إيه أنا بقى؟ يدوب دخلت الحمام البي "نداء الطبيعة"، خرجت لقيت الحيوان الكبير عامل منه مركب في الحمام الصغير وقاعد بيلعب!
أنا هتشل! أنا كان مالي ومال الجواز والهم ده يا ربي؟ حسبي الله ونعم الوكيل فيكم. أنتم السبب!
اتسعت عينا تميم وهو يستمع إلى حديثها الوقح، ليصيح بها: آلااااااء!
تمتمت بقنوط: أعمل إيه؟
رامي هيزعق جامد، عليه شغل مهم. وأنا مش قادرة أتخانق حقيقي. طاقتي صفر يا تميم، ومش عايزة حقيقي.
أنا بقيت أكره الخناق وتعبت منه.
أغمض عينيه وهو يستمع إلى صوتها الخائف.
رغم كل شيء، هي آلاء. رغم كل جبروتها، لها لحظات ضعف لا يسمح هو بها.
هي شقيقته، قطعة من قلبه ونور عين أمه رحمها الله. لا عاش ولا كان من يمسّها.
قبل أن يجيبها بطمأنينة:
ما تخافيش يا حبيبتي، محلولة بإذن الله.
بس على طول اعملي اللي هقولك عليه. وبإذن الله، هبعت رامي لحد يرجّع كل البيانات اللي عليه من غير ضرر، وهيكون عنده غيره النهارده يا لولو.
ما تزعلِيش. هو أصلاً ما يقدرش يزعقلك. أخواتك في ضهرك. هو إحنا عندنا كام آلاء يعني؟
أجابته بصوت اشتاق لسماع نبرته:
يخليك ليا يا حبيبي ويباركلي فيك.
ابتسم هو الآخر مجيبًا إياها بمشاكسة:
وحشتيني أوي يا لولو! مش ناوية تنزلّي بقى؟
أجابته بتأكيد ونبرة فيها شيء أقلقه:
قريب أوي يا تميم. قريب أوي.
سألها بهدوء وقلق:
آلاء، إنتِ كويسة؟ صوتك مش كويس.
صمتت لعدة ثوانٍ قبل أن تجيبه بهدوء:
بخير يا حبيبي، ما تقلقش.
رغم تكرار سؤاله، ظلت إجابتها واحدة.
تنهد محاولًا التخفيف عنها، وظل معها عدة دقائق حتى هدأت واطمأن عليها.
أجرى عدة مكالمات لرامي ولأحد أصدقائه لمساعدته، وظل محله عدة دقائق يطالع اللاشيء... هامد، لا يتحرك، لا يريد، فقط شارد.
في إخوته... أبيه... و... بها.
والسؤال المتكرر بداخله:
هل تعلّق بها؟ هل أحبها؟
حبّ؟ حقًا؟ لا يعلم.
هو لم يشعر بالحب يومًا، بل هناك شعور آخر.
أن يمس أحدهم روحك.
لكن غريب هذا الشعور. تلك المشاعر غريبة، هو نفسه لا يفهمها.
لم يعد يفهم ما بقلبه. كأنه يلتف حول نفس النقطة مرارًا وتكرارًا. لا هو قادر على الدخول بها، ولا هو قادر على إكمال طريقه.
توقف حيث لا يريد التوقف.
كيف لقلبه الغبي أن يفعل هذا؟ كيف له أن يشعر بهذا في تلك الأيام القصيرة؟
لكن لم يكن حبًا. هذا شيء آخر.
نظرة لعين... ومسٌّ لقلب.
لكن لماذا شعر بذلك بعد فوات الأوان؟
لماذا بعد أن انتهت القصة وزُيّنت بشريط الختام؟
ألم؟ أم افتقاد؟
كيف له أن يكون متألمًا ولا يريد سواها؟
هي فقط.
عيناها... ضحكاتها... و"غباء أفكارها".
شقّت ابتسامة وجهه الشارد.
يتذكر حديثها... أفعالها... وأخيرًا قولها.
هي كانت مجبرة مثله. لا تريد ولا يريد.
لا تحبّه وهو كذلك. تهرب ويهرب.
لكنه لم يعد كذلك. لم يعد كما كان.
لكن ما الفرق؟
فات الأوان، وخطّ القدر كلمته الأخيرة.
---
هبط الدرج منشغلًا بهاتفه، يحادث أحمد ليتقابلا بأي مكان، فهو بحاجة أن يشغل عقله قليلًا، والعمل ليس بكافٍ.
"فليذهب إذن لأي مكان."
رفع رأسه في نفس اللحظة التي ارتطم فيها بوالده، ليتمتم معتذرًا وهو يقبّل رأسه بحنان:
معلش يا حبيبي... صباح الفل.
ربّت أبوه على صدره وهو يقول:
صباح الخير، حبيبي. كويس إنك نزلت، كنت لسه هنادي عليك.
أرجع رأسه قليلًا بتوجس لا يعلم سببه، وهو يقول بحذر:
عيوني يا حبيبي، اؤمر. كنت عايزني في حاجة ولا إيه؟
ربّت على صدره بحنان وهو يقول بابتسامة:
عايزك تيجي معايا المول نجيب شوية حاجات.
قطب حاجبيه باستغراب قائلًا بدهشة:
حاجات إيه؟ غريبة! إنت مش بتحب تروح أي مول بسبب الزحمة.
أجابه الآخر بلا مبالاة:
لا، محتاج حاجات مهمة.
هي إيه؟
قالها باستغراب، لينفجر فيه والده بعصبية مفتعلة:
هو إيه اللي "هتروح ليه وهي إيه"؟! إنت هتحقق معايا؟! مش عايز تيجي قول، خلاص!
ما أنا خلفت وربيت وكبّرت عشان كل عيل يتلهي في حياته وينسى أبوه! حتى اللي قاعد على قلبي بيقل أدبه!
ظل تميم ينظر له بصدمة قبل أن يضحك قائلًا بدهشة:
الله! في إيه يا بابا؟ هو أنا قلت حاجة؟ لا طبعًا، أنا عيوني ليك!
نروح طبعًا يا حبيبي. شوية كده، هروح أقابل أحمد وأجي، نروح.
وقبل أن يتحرك، منعته يد والده وهو يقول بسرعة، يجرّه للخلف :
لا لا، دلوقتي!
دلوقتي!
قالها مكررًا، ليرد والده وهو يشير للأعلى:
آه، ويلا اتفضل اطلع غيّر اللي إنت لابسه ده. إنت هتخرج معايا بالمنظر ده؟!
نظر تميم إلى ملابسه بعدم فهم.
ما بها ملابسه؟
كان يرتدي زيًّا رياضيًا مهندمًا وحذاءً رياضيًا أنيقًا، كعادته في معظم أوقات فراغه.
ماله لبسي؟ زي الفل أهو!
قالها وهو يشير لنفسه.
هزّ الآخر رأسه برفض وهو يردد لنفسه:
أعمل إيه مع الزفت ده؟ فينك يا آلاء تساعديني!
وقبل أن يتحدث، وجد المساعد يمر بجانبه يحمل المياه.
لمعت عيناه بخبث ليشير له قائلًا بصوت واهن:
اديني كوباية الماية، لحسن ريقي نشف.
رفعها إلى فمه وهو يرتشف منها قبل أن يبصقها بقوة على وجه وملابس تميم، مما جعله يرتد للخلف بصدمة ووجه مبلل.
تظاهر مدحت بالسعال وهو يقول بصدمة:
يا حبيبي، أنا آسف... شرقت!
وأكمل سعاله تحت نظرات تميم المصدومة، وهو يضرب كفًّا على آخر، ليصعد سريعًا لغرفته لتبديل ثيابه.
هتف مدحت من خلفه:
البس حاجة عدلة! وما تلبسش أسود! هو أبوك مات؟ كُتْكُم القرف! عيال تجيب الغم!
لم يجبه تميم وهو يصعد يتمتم بكلمات غاضبة، قبل أن يلتفت مدحت لمساعده الذي أتى بماء أخرى وهو يقول:
لا، مش عايز. روح بسرعة جهزلي الهدوم يا منير عشان ما نتأخرش! يلا بسرعة!
هزّ المساعد رأسه بحماس، فهو يعلم مخطط ربّ عمله، فقد استمع له وهو يحدّث ابنته مساء أمس.
ركض سريعًا، ومدحت خلفه يقف مبتسمًا بسعادة.
سعادة ستقع على رؤوسهم جميعًا... هذا إن لم يقتلهم تميم.
---
دلفت صفية إلى المطار بأناقة لم تتخلَّ عنها يومًا.
كانت تتحدث بالهاتف قائلةً بهدوء:
متقلقش، ارتاح، كل شيء هيكون زي ما أنت حابب، أنا هنا بدالك، وهعمل زي ما اتفقنا، متقلقش.
وأغلقت الخط، قبل أن تنظر إلى ساعتِها لتجد أن هناك بعض الوقت بعد، فقررت الجلوس في أحد المقاهي لتحتسي كوب قهوة إلى أن يُعلن عن وصول الطائرة المنشودة.
رفعت فنجان القهوة نحو فمها، متلذذة، قبل أن تطلب كعكةً أيضًا.
حسنًا، فلتخرب الحمية اليوم! هي أصلاً لا تأكل جيدًا منذ فترة، فلتتمتع قليلاً.
فتحت أحد مواقع التواصل تقلب فيه بلا هدف، فقط لمجرد إضاعة الوقت، قبل أن تتوقف يداها وعينها على شيء واحد فقط، كان قادرًا على لفت نظرها وآثار فضول من الصعب إثارته.
حركت إصبعها تتلمس الصورة أمامها بعين لامعة، فخورة، مستاءة، حزينة، وربما مشتاقه.
كانت صورة لفريدة وزوجها يحتضنها، يضمها إلى صدره، وهي تنظر له بحب يظهر للأعمى.
كانت، كانت جميلة لا لعينها فقط، بل لاعين الجميع.
كانت عيناها مختلفة، كأنها تشع سعادة وراحة، راحة لم تعرفها سوى معه، وهدوء سكن قلبها، فقط بين يديه.
كأنه أعطاها ما فشلوا هم عنه، ومنحها أكثر مما حاولوا هم.
كيف لذلك أن يحدث؟
كيف بعد كل هذا؟
ألم ترَ حبها؟
هي فعلت ذلك من أجل اسم العائلة.
فريدة وريثتهم، وكان يجب أن تحيا كذلك.
لكنها لم تفعل، وفرّت من بين يديهم.
قطرة مياه سقطت على الصورة، لم تدري من أين أتت، حتى رفعت يدها تمس عينها.
لم تكن قطرة، بل كانت دموعها.
وإن لم تكن بسبب عمرها السابق، فكانت لأنها لم تعد حيث يجب أن تكون: أمًا لابنتها.
فقدت حقًّا من حقوقها، وكان هو السبب.
لعنة الله عليه.
تنهدت بألم وهي تفكر:
إلى أين وصلوا بسببها وبسبب عنادها الغبي؟
وظلت تتطلع إلى الصورة، بداخلها نقيدان، أحدهم يريد الفرار نحوها، والآخر بعيدًا عنها.
---
كان يسير خلف والده منذ ساعة.
يدلفان إلى المحل، ينظر للملابس بلا مبالاة، يختار قطعة واثنين، يدلف للقياس عشر ثوانٍ، ويخرج يلقيهم بوجهه مخبرًا إياه أنها ليست ذوقه.
محلٌ تلو آخر، وها هم في محل جديد.
والمريب أنه محل للملابس النسائية.
وحينما سأله مستنكرًا، أخبره بتأكيد أنها لحبيبته ملك.
وأيضًا لم يعجبه شيء.
وأخيرًا قرر والده بحزم:
أنا تعبت، يلا نشرب حاجة.
أومأ له تميم بسرعة مؤيدًا قائلًا:
آه، يا ريت والله، أنا رجلي مش قادر.
في هنا كافيه تحفة، تعالي أدوقك القهوة عنده.
التفت ينظر لوالده ليجده يسير في الجهة الأخرى، ليسرع خلفه قائلًا بصوت عالٍ:
بابا، أنت رايح فيه؟
أشار له على مقهى آخر وهو يقول:
هدخل ده.
نظر تميم للمقهى بتقييم، قبل أن يقول:
اشمعنا؟ في هناك واحد أنا بحبه.
هز أبيه كتفيه وهو يقول بتأكيد:
مش مهم، أنت يا حبيبي. أنا عايز أجرب ده.
ودلف بكل بساطة، ليتبعه تميم بصمت.
قبل أن يوبخه، وهو حقًا لا ينقصه توبيخ.
---
جلس أمام والده الذي أصرَّ على الجلوس على طاولة كبيرة لا تناسب كونهما فردين فقط.
وحين حاول الجدال، وبَّخه كطفلٍ في الخامسة.
والله، هو لا يدري لماذا يُعامَل تلك المعاملة.
حسنًا، حسنًا... فقط ليرى أحد إخوته؛ سيضربهم ضربًا حتى يطلبوا الرحمة.
جاء النادل ليأخذ الطلبات.
طلب لنفسه قهوةً بدون سكر، ليردَّ والده بسرعة:
لا، هاتله شاي بالنعناع يروق دمه.
نظر له تميم بقهرٍ وهو يردد:
يا بابا... يا بابا، أنا عايز قهوة. شاي إيه؟ أنا عايز حاجة تفوّقني.
لا، أنت النهارده مش طبيعي. والله حرام اللي بيحصل ده.
اتسعت عينا مدحت وهو يقول بتأثرٍ مصطنع:
كده يا تميم؟ بعد كل ده؟ بعد كل اللي عملته عشانك؟
حسبي الله ونعم الوكيل!
كاد أن يبكي قهرًا وهو يسب الجميع.
حسنًا، ماذا فعل؟ ها، ماذا فعل حقًّا؟
أومأ مكرهًا وهو يقول:
ماشي، شاي... شاي.
وأكمل هامسًا:
يا رب اليوم يخلص... يا رب... يا رب.
لكن يبدو... يبدو أن اليوم سيطول.
وسيقطع رأس آلاء ويعلّقها على باب منزلهم كعبرةٍ للجميع.
فمن حيث لا يدري، ظهرت سيدة راقية جدًّا، بجانبها فتاة شابة جميلة ملفتة للنظر.
ترحِّب بوالده الذي أبدى اندهاشًا غريبًا، مرحِّبًا بهما بسعادة، وبالصغيرة ترحيبًا حارًّا، كأنه وجد ضالته أخيرًا.
أشار إليه قائلًا بفخر:
ابني تميم.
وأكمل متسائلًا:
مش فاكر طنط شاهي؟ دي كانت تعرف ماما الله يرحمها، وكانت صحبتها أوي. فاكر؟
قالها مشيرًا له بحزم.
"آآآه يا ولاد ال..."،
قالها بداخله،
وهو يدرك الوضع:
أنه، وللأسف الشديد،
قد وقع في الفخ،
وأُحكم الغلق عليه.
---
وقفت بالمطبخ وفي يدها كوب الشاي، وعلى أُذنها الهاتف يُحادثها عمر قائلًا برفق:
هتعملي غدا النهارده، صح؟
أومأت له كأنه يراها، وهي تقول:
المفروض.
ضحك الآخر وهو يرد عليها ممازحًا:
إيه المفروض دي؟
هزَّت كتفها، وقبل أن تُجيبه، أتاها رده وهو يقول بسرعة:
حبيبتي، هقفل معاكي دلوقتي. أوك، يلا، باي.
وأغلق.
نظرت للهاتف بغيظ قبل أن تضعه بجانبها على القرآن الكريم. أصبحت تُحب الاستماع له، فهو رفيق لأوقاتها. لكنها عادت وأغلقته لحاجتها للهاتف، وخرجت سريعًا لتفتح التلفاز على قناة القرآن الكريم، ثم عادت إلى المطبخ لتبدأ المعركة.
طلب منها عمر أرزًا بالشعرية وطاجن بطاطس بالدجاج. أرسلت لزوجة الحارس وأخبرتها أن تأتي لها بمستلزمات الوصفة، والأخرى سلَّمت يدها، لم تُقصِّر، وأعطتها مبلغ كما أخبرها عمر.
والآن، لا رفيق لها سوى البحث عن الوصفة. فتحت أحد المواقع تبحث عن الطريقة، وظهر أمامها العديد من الوصفات، فأصبحت في حيرة: أيُّهم تختار؟ وفي النهاية، اختارت أكثرهم مشاهدة وبدأت تُشاهد الشرح وهي تتبع الخطوات.
لكنها تأففت بضيق وهي تحاول تقشير حبات البطاطس؛ كانت صعبة. هي لم تشرح بالفيديو كيف تُقشِّرها، فأرسلت لسارة لتساعدها، لتُجيبها الأخرى بأنها بحاجة للحديث معها عن مَن تُحب.
صرخت بها فريدة:
سااارة! أقسم بالله هعملك بلوك. نخلَّص الأكل وبعدين نشوف الموضوع الثاني.
تأففت سارة، فهي مثلها لا تُحب المطبخ، لكن على الأقل تعلم أساسيات قد تُساعد. جرحت يدها عدة مرات بسبب السكين وظلَّت تبكي، وسارة تحاول تهدئتها.
وبعد الكثير من المحاولات والبكاء، قشَّرت حبات البطاطس بعد إهدار جزء كبير منها. لتقترح سارة أن تُنظفها جيدًا وتُطعمها للكلاب، فهم يُحبونها. وافقتها الرأي.
ثم انتقلت بعدها للدجاج، وكانت مهمة صعبة حقًّا. هي لم تمسَّ دجاجة من قبل؛ كانت رائحتها وملمسها غريبين عليها. لتقرر في النهاية شراء قفازات. وبالفعل، أتت لها زوجة الحارس بها، وبدأت بالتعامل.
انتقلت من مرحلة إلى أخرى، تكاد تبكي، وبعد ثلاث ساعات -ثلاث ساعات من الصراخ والبكاء في سارة- انتهت أخيرًا ووضعتها في الفرن، الذي واجهت أيضًا صعوبة في تشغيله.
وعندما سألتها عن الأرز، أخبرتها أن تُحضره قبل مجيء عمر ليكون ساخنًا.
تحدثت فريدة بضيق متسائلة:
هو أنا هعمل كده كل يوم؟
أكدت عليها الأخرى بابتسامة:
آه طبعًا، كمان في فطار وعشا.
وبَّختها الأخرى قائلة بإرهاق وهي تمسح وجهها:
انتي بتضحكي ليه؟ لا بجد الموضوع صعب، وكمان أنا محبتش التعامل مع الفراخ.
ردَّت سارة بهدوء:
معلش يا روحي، هي فترة وهتتعودي بإذن الله.
كانت سارة تُكمل حديثها ولم تنتبه إلى شرود فريدة. هي تُحب عمر، تُحب هذا المنزل، لكن هذا الموضوع صعب حقًّا، وهي تشعر بالتقصير والتعب.
---
تحرَّكت فريدة في الشقَّة، وعلى أُذُنها الهاتف تُحادث سارة، وهي تكاد تصرخ بسببها. هم على هذا الوضع منذ ساعة، وهي تعبت حقًّا:
واللهِ أنا تعبت، يا سارة! هو ده كلام ناس عاقله؟ نعمل أكونت فيك إيه وندخل لمين؟
انتي واعية؟ انتي عايزة تعملي إيه؟ عايزة تدخلي تقولي له إيه؟ "بشوف رؤى وبدعي بقالي سنين بيك، وإنك هتكون زوجي، وأنا مؤمنة بربنا".
يا سِتِّي ونِعْم بالله، بس هو اللي بيحصل ده يرضي ربنا؟ ماشي، دخلتي وقلتي. مش هيصدَّق. انتي عارفة الشخص ده عنده كام متابعة بتحبه؟ كام واحدة دخلت تكلمه؟ تعرفي منين أصلاً إنه مش مرتبط؟ عادي جدًا، ممكن يكون بيحب ومش حابب يعلن.
تحدَّثت سارة ببكاء:
عشان خاطري يا فريدة، كلِّميه انتي طيب. ووعد أو قال مفيش نصيب، هصرف نظر، وعد.
يا الله يا ولي الصابرين، أقول طور؟
قالتها بنفاد صبر وتعب من تكرار الحديث لتُكمِل بعدها:
مينفعش يا سارة. واللهِ غلط اللي بيحصل ده. انسي الشخص ده. انتي مستنيَّة لما أبوكي يجبرك تتخطَّبي آخر ما يزهق؟ لا، مينفعش بجد. انتي محتاجة تعيدي حساباتك من أول وجديد.
سارة، صدقيني انتي أول حد هيتأذَّى من الوضع ده، وهتتعبي جدًا لو في يوم أعلن خبر ارتباطه أو جوازه. هتعملي إيه يا بنتي؟ ليه تعلِّقي نفسك بيه وهو مش عارفك أصلاً؟ كلامي جارح، بس انتي محتاجة تسمعيه وتفهمي إن ده غلط. فوقي لنفسك قبل ما يجي وقت وتندمي.
لو سمحتي، أنا فعلاً خايفة.
قالتها بخوفٍ صادق.
---
انتفضت صفية على يد تحاوطها، ووجه ينكب عليها بقبلات سعيدة، وصوت افتقدته يردد بسعادة:
وحشتني، وحشتني أوي يا عمتو.
التفتت لها تحاوط وجهها بسعادة حقيقية، وهي تقول بشتياق:
وحشتني، وحشتني يا آسيا. كده تغيبي كل ده عن عمتو؟
أحاطتها الأخرى بسعادة، مجبرة إياها على التحرك معها وهي تثرثر بسعادة واشتياق، وافتقاد حقيقي.
آسيا ابنة أخيها الوحيد، هي لا تراها سوى ابنتها الثانية من شدة حبها لها. هي من أسمتها، وحملتها أول مرة ضامَّة إياها نحو صدرها. حينها، وقعت في غرامها.
مسَّت خصلاتها بسعادة قائلة بشتياق:
وحشتني يا روحي. يلا نروح البيت، خليتهم يجهزولك الأكل اللي بتحبيه. وكمان مدحت هيجي بدري اليوم في استقبالك.
قالتها وهي تسير معها نحو السيارة، وقبل أن يتحركوا، أجابتها الأخرى بنفي وإصرار:
لا، لا. أنا عايزة أعمل شوبينج في ستور افتتاحه اليوم. أنا ضبَّطت نزولي على اليوم ده مخصوص. بليز، بليز نروح يا صافي.
ضحكت صفية وهي تقرصها من وجنتيها وتقول بحنان:
مستحيل أرفضلك طلب.
وأكملت إلى السائق:
اطلع على هناك لو سمحت.
قالتها وهي تضمها لصدرها بشتياق حقيقي، لم تفعله مع ابنتها فريدة.
---
ارتدت ملابسها وهي تحدث عمر في الهاتف قائلة بدلال:
يا حبيبي، معلش، بس محتاجة أجيب حاجات.
حاضر، هاخد بالي.
متخفش يا عمر، مش أول مرة أروح هناك لوحدي. بس هجيب حاجات وأرجع.
عارفة يا حبيبي، بس محتاجتها. المرة الجاية نروح سوا.
أوك، باي.
أغلقت معه، وحملت حقيبتها وغادرت لشراء ملابس تناسبها والعودة سريعًا.
---
يجلس هكذا منذ نصف ساعة، صامتًا لا يستمع حتى. يضع ساقًا فوق الأخرى، يشرب قهوته التي طلبها متحديًا أبيه، ولِيَعترض! ها ليعترض، ليرحل مرحبًا بالشجار.
كان والده يناظره شزرًا لعدم مشاركته في الحوار.
حسنًا يا تميم، حسنًا.
نظرت له الفتاة التي تدعى مريم، وقالت محدثة إياه بابتسامة تسقط أقوى الرجال:
عامل إيه يا تميم؟
نظر لها لعدة ثوانٍ قبل أن يجيب بأدب مضطرًا:
الحمد لله.
وصمت، ليرميه والده بنظرات متوعدة.
لم يهتم بها، وقابلها بضحكة باردة، قبل أن يقول بهدوء وهو يمسك هاتفه ويقف معتذرًا بلباقة وأدب:
بعتذر منكم، مضطر أستأذن، عندي مكالمة مهمة للشغل.
خلص وكلمني يا بابا.
سلام عليكم.
وخرج من المقهي سريعًا تحت نظرات والده المحرجة.
لكنهم يستحقون. هو ليس بفتاة ليزوجوه بتلك الطريقة.
خرج يرفع الهاتف على أذنه، مقررًا توبيخ آلاء، تلك الحرباية الصغيرة هي السبب.
حسنًا يا آلاء، صبرًا.
---
دلفت إلى المركز التجاري،
تتجول بهدوء، تحاول إيجاد الأقل سعرًا.
هي لا تريد شراء ما يفوق المتاح وتحميله فوق طاقتها، رغم كل شيء.
وفي نفس الوقت، هي لا ترتاح لتلك الملابس.
لا ترى نفسها فيها أبدًا.
حاولت، لكنها تشعر بالغرابة ولا ترتاح بالسير فيها.
تجولت قليلًا، تشاهد وتنتقي،
حتى وجدت أحدهم،
به ما تريد وأيضًا بسبب أنه يوم افتتاحه.
ورغم التزاحم الذي لا تفضله أبدًا،
لكنها دلفت.
وقبل أن تفعل أي شيء،
توقف كل شيء أمامها.
كان الوقت قد توقف،
ولا ترى سوى صورة واحدة فقط،
حيث هناك كانت أمها تقف، تضحك، وتضم آسيا، ابنة خالها، إلى صدرها.
تنتقي لها الثياب بحرص وحنان،
وحب واضح للجميع،
حيث يراهم الجميع كأم وابنتها.
تفعل مع آسيا ما لم تفعله يومًا معها.
تضحك وتضمها إلى صدرها،
تضمها بحب، فقدته هي
وتُحرم من أن تنعم بدفئه.
تساقطت دموع من عينيها،
دموع قهر وخذلان
ممن كان يجب أن تكون لها كل شيء.
من صدرٍ كان يجب أن يضمها هي،
من ابتسامةٍ كان يجب أن تخرج لها هي،
وأخيرًا...
كل هذا كان يجب أن تحظى به هي.
وماذا فعلوا؟
أخذوا حقها،
وأعطوه لمن لا حق لها فيهم.
ببساطة... حطموها.
---
ظلت تنظر إليهم،
تراقبهم بعيون غائرة، تريد البكاء
والصراخ بهم: "هذا حقي!
مكاني!
أمي أنا!"
لكنها لم تتحرك،
لم تذهب مطالبة بحقها،
فهي لم تكن يومًا صاحبة حق،
بل لم تكن شيئًا،
ولا أي شيء.
التفتت بسرعة وهي تراهم يتحركون مغادرين،
لا تريد أن يروها،
ولا هي تريد.
تتحرك بخطوات سريعة،
جعلتها لا ترى القادم نحوها، منشغلًا هو الآخر،
حتى ارتطمت به بقوة.
اعتذرت له بحروف مختنقة،
ويد تمسح دموعها
وأسرعت بالعدو سريعًا،
شاعرةً بقلبها يحتضر،
ولم تلتفت لذاك الذي اعتذر لها هو الآخر.
ولوهلة، لا يعلم لما التفت ينظر لتلك الراكضة،
كأنه يعرفها.
كان هناك ما يجب أن يراه،
لكنه لم يرَ سوى ظهرها،
ومن ثيابها البسيطة الفضفاضة تيقن أنه لا يعرفها،
ليلتفت مكملًا طريقه بشعور غريب لا يعلم سببه،
وهو لا يعلم أن من تزور أحلامه كل ليلة،
متمنيًا لقاءها ولو ثانية،
ارتطمت به للتو.
---
كان يسير يحادث حسام بذهن مشغول،
حتى ارتطم مرة أخرى بأحدهم،
جعله يستغفر ربه متأففًا من حاله،
وهو يرفع رأسه تلك المرة معتذرًا بأسف،
لكن توقف لسانه عن الحديث،
وهو يرى أمامه صفية، والدة فريدة،
تحتضن شابة جميلة تشبهها،
تنظر له بإعجاب لم يغفله عينيه.
---
#عريس_قيد_الرفض
#بين_الرفض_والقدر
#الفصل_الثامن
#عفاف_شريف
---
بين الرغبة في الحياة بين أحضانه،
والخوف من مواجهة تلك الحياة،
بين حبها وعشقها له،
وخوفها من مجهول لا تعلم ما يخفيه،
وقعت في صراع ينهش روحها ببطء.
---
كانت تسير في الطرقات بلا هوادة،
لا تدري إلى أين تقودها قدمها.
هي أصبحت لا تعرف شيئًا،
تشعر بالتيه الشديد،
لا تعلم إلى أين تذهب حتى
رفعت يدها المرتعشة، تحاول وقف دموعها الحمقاء، الغبية، الغبية.
تبكي، لماذا تبكي؟
هم لا يستحقون البكاء.
كيف لها أن تبكي وتحزن وهم
هناك، ضحكاتهم تعم المكان.
بكت دون قدرة على التوقف، وهي تشاهد النظرات الفضولية حولها.
هي لا تريد البكاء، لا تريد سوى الابتعاد.
لا تريد أن تراهم،
لا تريد أن ترى ما رأت.
تلك السعادة،
وتلك الابتسامات.
مسحت على قلبها بألم،
لم تشعر يومًا كما شعرت للتو.
كيف لها أن تشعر باختلاع قلبها لتلك الدرجة؟
روحها تؤلمها.
كيف لهم أن يجعلوها ترى ما رأت،
وتشعر بذلك الشعور؟
أكان من الصعب منحها أبسط ما تمنت؟
ولغيرها قدموا كل شيء:
الحب، الحنان، الاهتمام.
تمنت ضمة،
ضمة لأحضان رأت أخرى بداخلها.
ابتسامة تمنت أن تمنح مثلها.
أعطوا غيرها حقها.
بأي حق؟
خرجت منها شهقة باكية،
وهي لا تدري إلى أين السبيل.
أخرجها من تلك الحالة
صوت مكبر المسجد،
وقد رُفع الأذان.
معلنًا عن صلاة المغرب.
فلم تجد نفسها سوى وهي تتحرك بساقين مرتعشتين،
قلبها متألم،
روحها معطوبة،
نحو ذاك المكان المهيب.
وبداخلها تثق
أنها هنا ستجد ما لن تجده في أي مكان.
هنا، بين يدي الله،
هنا ستجد
راحة قلبها،
مهما كانت تتألم.
---
استعارت منهم رداءً للصلاة،
ووقفت تُصَلِّي وتَبْكِي، كانت تحاول التوقف،
لكنها لم تستطع.
كان قلبها لم يعد يحتمل،
وقرر أن يحكي ويبكي.
دعت قبل أن تسلم:
"اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم..."
أنهت صلاتها، صلت السنة كما عوَّدها عمر، لتجد نفسها تبدأ مرةً أخرى،
لكن في تلك المرة،
صَلَّت قضاء الحاجة.
هي عاجزة عن تخطي تلك الأمور،
وبكل مرة تظن أنها قوية،
يتضح أن قوتها تتلاشى بأوجاع قلبها الصغير.
هل هي ضعيفة؟
مستسلمة؟
لا تريد هذا،
هي فقط تريد أن تظل تصلي وتصلي
حتى ترتاح.
أطالت السجود،
بكت،
ودعت،
تحدثت،
كانها تخرج ما بقلبها
دَفْعَةً تِلْوَ الأُخْرَى.
بين يدي الله نحن أحرار،
ندعو ونشكو.
لا أحد قادر على منع تلك الراحة التي تتسلل إلى قلبها.
وكان الله يجبر قلبها،
والآية تتردد في أذنها:
"فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".
أنهت صلاتها،
لتجد نفسها تتقوقع في أحد الأركان،
قرأت آية الكرسي،
ابتسمت بحزن وهي تتذكر وصية عمر لها.
بعد كل صلاة أصبحت تداوم عليهما:
التسبيح ٣٣ مرة،
التحميد ٣٣ مرة،
التكبير ٣٤ مرة.
لكنها فعلت أكثر،
كانت بحاجة لهذا.
كانت بحاجة لنفسها في هذا المكان،
أن تنشد راحة قلبها،
واطمئنان روحها المتعبة.
وأخيرًا،
أمسكت بأحد المصاحف وبدأت بالقراءة،
ومع كل آية كانت تشعر
أن هنا وجدت راحة قلبها،
حيث تنتمي.
---
كان ممدّدًا على فراشه ينظر إلى اللاشيء،
فقط ممدّد بهدوء.
عاد للمنزل بعد مشادة قصيرة مع والده،
انتهت بأنه أوصله للبيت وصعد لغرفته،
رافضًا بكل قوة الحديث حتى.
هو لا يريد الكلام بخصوص ما حدث،
لا يريد أن يجرح والده،
لكن لكل أمر حدود.
وما حدث اليوم
أطار عقله من رأسه،
وتعدّى كل الحدود.
حتى أنه ألغي كل ما يخصه اليوم.
هو لا يريد رؤية أحد،
لا يريد سوى الاستلقاء في هدوء.
يكفيه ما حدث اليوم.
أغمض عينيه متذكرًا ما حدث،
ويا ليتَه لم يحدث.
"اليوم صباحًا"
وقف محله بضع لحظات يتطلع لهم،
حتى آفاق على صوت صفيه ترحب به مرغمة، قائلة بهدوء:
"أهلا تميم."
تنهد بصمت لعدة ثوانٍ قبل أن يرد عليها قائلًا بارتباك وأدب:
"أهلا مدام صفيه."
ابتسمت له وكادت أن تخطئ مكملة طريقها، لتوقفها آسيا متمسكة بها،
تحثها على الوقوف بضع لحظات إضافية،
فقط بضع لحظات.
وهي تهديه إحدى ابتسامتها الجميلة المماثلة لها،
رقة وعذوبة:
"هاي وأنا آسيا."
أومأ لها بغير اهتمام ونفاذ صبر،
وعيناه تبحث عن ابتسامة أخرى،
وعين أخرى يغرق فيهما ولا يريد الإنقاذ.
ترحيب آخر،
ابتسامة جميلة تخصها هي وحدها،
وليس من هذه.
هو لا يريد البسمة سوى من شفتَيها،
لا يريد سواها.
حبّة السكر خاصته،
فريدة.
كانت آسيا تقف تنظر له بابتسامة مشرقة،
وتضغط على يد عمّتها التي تناظرها بتوبيخ.
كاد أن يتهور ويسألهم عن فريدة،
لكنه صوت هاتف صفيه أوقفه.
وهي ترد قائلة بهدوء:
"أيوة،
إحنا على وصول يا شوكت.
أوكي، باي."
وأغلقت وهي تمسك يد آسيا،
تسحبها خلفها معتذرة لتميم:
"عن إذنك يا تميم، إحنا اتأخرنا.
يلا يا آسيا."
قالتها وهي تجرها خلفها،
تحت نظرات تميم المتحسرة،
وآسيا التي التفتت تنظر له بهيام،
ويد تبعث له السلام وابتسامات،
إلى لقاء قريب...
جداً.
"عودة للوقت الحالي"
زفر بيأس وهو يلوم نفسه:
"لماذا صمت ولم يسألهم عن حبّة السكر؟
لماذا أصلاً لم تأتي معهم؟
أهي مريضة مثلاً؟
أم مشغولة؟
لماذا لم تأتي إذًا؟
غبي، غبي!
كان زمانك عرفت لو كنت سألت."
قالها لنفسه موبخًا إياه بشدة.
انعقد لسانه،
ورحلت صفيه دون أن يعرف أي جديد عنها.
يتساءل كثيرًا لماذا لا يسأل والده،
لكن الإجابة معروفة.
لن يقدر أبدًا.
بعد ما حدث،
منعه والده من الذهاب للشركة.
هو لن يخاطر بلقائه بشوكت،
واحترم تميم رغبته.
لكن يقتله الشوق لها،
لقائها.
حتى وإن كان من بعيد.
لن يقترب،
فقط ليطمئن أنها بخير.
ففي النهاية،
هي كانت لا تريده،
وهو أيضًا كان كذلك.
كان...
---
خرجت من المسجد بقلب غير القلب،
نعم تتألم، لكن أصبحت أكثر راحة.
صَلَّت المغرب والعشاء أيضًا،
وقرأت سورة البقرة كاملة.
قضت وقتًا أراح قلبها المتعب.
والآن، فلتذهب إلى المنزل.
فقط نفد شحن هاتفها،
وهي تأخرت بالفعل.
تسارعت خطواتها وهي تستقل أول سيارة تجري أمامها،
لتسرع بالوصول قبل عمر.
---
ترجلت من سيارة الأجرة على بداية الشارع،
لانغلاقه.
وفي طريقها إلى البناية،
وجدت قطة جميلة،
جميلة حقًا،
تبدو كقطة منازل. كانت نظيفة وخائفة،
واقفة بجانب أحد المتاجر تننّو، ويتضح أنها جائعة.
نظرت لها بتعاطف وأسف.
هل يمكن أن تكون ضائعة من أصحابها،
أم تخلى عنها كما يفعل البعض؟
يأتون بحيوان بري،
يعتاد على حب وحنان واهتمام وطعام معين،
ثم فجأة يتركونه يواجه حياة لم يعشها يومًا.
كم تحتقرهم.
قبل أن تقترب منها لإطعامها،
وجدت طفلًا صغيرًا شقيًا قليل الأدب يقترب منها بعصاه ينوي ضربها.
أسرعت نحوه، تمسك يده قائلة بحزم:
"مينفعش تعمل كده،
حرام يا حبيبي.
مينفعش نؤذي الحيوانات أبدًا،
حرام!"
أجابها بقلة أدب:
"إنتِ مالك؟
هي بتاعتك؟
أوعي كده!"
نظرت له عدة ثوانٍ، تريد أن تركله،
لكنها تماسكت،
قبل أن تهديه ابتسامة قائلة بحنان:
"مش بتاعتي، بس حرام نؤذي روح بريئة.
واضح أنك ولد شاطر،
وبتخاف من ربنا، ومش هتعملها حاجة.
إيه رأيك أجيبلك حلويات عشان إنت شاطر ومش هتأذي القطة،
ولا أي قطة أو حيوان تاني؟
حابب تلعب معاهم؟ تمام، غير كده حرام،
وربنا هيحاسبك.
تمام?"
نظر لها قليلًا،
قبل أن يهز رأسه موافقًا.
ابتسمت له، والتفتت للقطه تحادثها بجدية كأنها ستفهمها:
"استني هنا يا قطة، هاجيب أكل ومية وأجي، أوكي؟"
والغريبة أنها انتظرتها فعلاً،
كأنها تفهمها.
جلبت للشقي الحلويات، وأكدت عليه مرة أخرى بعدم إيذاء أي حيوان بريء.
وجلبت للقطة أيضًا طعامًا وماء.
جلست بجانبها على الرصيف،
لتتبعها القطة بهدوء.
ابتسمت لها وهي تراها تأكل بجوع شديد،
كأنها لم تأكل منذ مدة.
مسدت عليها برفق،
والأخرى لم ترفع وجهها من على الطعام.
كانت جائعة بحق،
وكم اشفقت عليها.
قبل أن تقول بابتسامة وهي ترى الانتفاخ ببطنها:
"واو! إنتِ حامل!"
وأكملت بتذكر:
"ما شاء الله."
ظلت معها حتى أنهت طعامها،
دللتها قليلاً ولعبت معها.
هي لم تحظَ بحيوان أليف من قبل،
لكنها تحبهم.
تحب اللعب معهم.
وضعت لها طعامًا آخر وعلبة صغيرة أخذتها من أحد الباعة بها ماء للشرب.
وأكملت طريقها إلى المنزل،
بسعادة.
كان الله بعث لها تلك القطة
كسبيل لتخفيف عن حدة يومها.
ولم تلاحظ تلك التي تسير خلفها.
---
دَلفت للمنزل بابتسامة خافتة،
بعد جلوسها مع القطة،
لكنها اختفت تمامًا وهي ترى عمر واقفًا أمامها، يُناظرها بغضب وقلق يتضح للأعمى.
ثم اندفع نحوها، يتفحصها بعصبية وقلق، وهو يُناظرها بتفحُّص:
"فريدة،
إنتِ كنتِ فين؟
عمال أرنَّ عليكِ من الصبح،
مَبترديش،
وبعدين الموبايل مغلق.
إنتِ اتجنَّني؟
سايباني مرعوب عليكي كل ده؟"
تنهدت بتعب، وهي تقول بلا طاقة وأسف:
"أنا آسفة يا عمر،
الفون فصل مني،
وبعدين كنت محتاجة أقعد مع نفسي شوية، فدخلت المسجد صليت المغرب والعشاء،
فطولت شوية.
بعتذر منك."
قالتها بتعب.
هي مخطئة، لن تنكر أبدًا،
لكنها ليست قادرة على خوض هذا النقاش.
دخل الغرفة خلفها، وهو يراها تبدل ملابسها بلا طاقة.
لوهلة، وفي بداية دخولها، كان يريد أن يضربها ويعنفها بقوة من شدة خوفه.
فهو يجلس فوق النيران طوال اليوم في العمل، لا هو قادر على الذهاب للاطمئنان عليها بسبب تلك الحيرة التي تمنعه،
ولا هي تطمئنه على نفسها.
لكن عينيها كانتا غريبتين.
كان بهما شيء، حاول مرارًا وتكرارًا جعلها تنساه.
كانت حزينة كما رآها أول مرة.
بها شيء اختلف.
فتراجع غضبه،
وحل محله خوفه.
---
اقترب منها وهو يراها ترتدي قميصها القطني الطويل بلا مبالاة وسكون.
تحركت من أمامه لتجلس أمام المرآة، تمشط خصلاتها بشرود غريب على طبيعتها.
يقف خلفها ولا تراه.
يبتسم لها ولا تبادله.
لا تطلب منه أن يمشط خصلاتها ولا تدلله.
لم تكن ترى في تلك اللحظة سوى مشهد أمها تضم آسيا بحب.
مشهد مؤلم لقلبها.
مشهد لم يره هو، لكن رآه متشكلاً على وجهها.
زوجته غادرت وعادت بقلب متألم، وهو لا يدري السبب.
اقترب منها، أوقف يدها عن تمشيط خصلاتها، ناظرتها في المرآة كأنها حقًا لا تراه.
أمسك يدها، يلفها نحوه متسائلًا بقلق: "في إيه؟ حصل إيه؟ أنتي كويسة؟"
حاولت أن تبتسم، لكن لم تستطع، لتشهق باكية بشكل جعله يرتعب مسرعًا بضمها إلى صدره بقوة، محاولًا معرفة ما حدث.
لكنها لم تقدر.
حملها برفق نحو فراشهم، يضمها لتبكي.
فقط في تلك اللحظة كانت تريد البكاء، ولم يخذلها هو.
بل أحاطها بدفئه، يضمها إلى قلبه، مرتلاً عليها آيات القرآن حتى غفت بين ذراعيه شاعرة بالأمان.
غفت ودموعها عالقة، أبَت أن تحرر، كما ظنت أنها تحررت.
---
تركها نائمة، ورغم جوعه أصرَّ أن ينتظرها ليأكلا سوياً.
أعدَّ القهوة، وجلس لينهي الأعمال المتراكمة التي وضعتها روفيدا فوق عاتقه.
أصبحت امرأة لا تُطاق. حسناً، هي لم تكن تُطاق في يوم من الأيام،
لكن الوضع يزداد سوءاً. ماذا تغير بعدما تزوج؟ كانت جيدة، لكن أصبحت غريبة، ونظراتها أغرب منذ أعلن خبر زواجه.
زفر بغضب وهو يتذكر ما فعلته تلك الحرباء اليوم.
نظرات وأفعال تغضبه،
تجعله يشعر بالقرف منها، وربما من نفسه.
---
"اليوم في المكتب"
كان يجلس ينهي أعمالاً جديدة، وكلَّتها إليه. أعمال كثيرة جديدة متراكمة. كلما أنهى جزءاً، أُضيف فوق رأسه أضعافه. رفض وأخبرها أن توزع العمل على الجميع، لكنها رفضت بحجة أن لكل منهم عمله الخاص الذي وكلته له. هي تكذب، وهو يعلم، لكن لا يعلم السبب حقاً.
أعاد وجهه نحو الملفات ليقطع انشغاله اقتراب الساعي منه، وهو يبلغه بأدب أن مدام روفيدا تطلبه في غرفة مكتبها، وتطلب منه أن يأتي بآخر ثلاث ملفات. قطب حاجبيه بغضب: أي ملفات؟! لم تعطه إياها إلا منذ بضع ساعات، كيف لها أن تتخيل أن ينهيهم؟ أظنها روبوتاً؟!
زفر بغضب وهو يحمل الملفات بتعب، يريد قذفهم في وجهها، تلك الحية، وهو يتوجه إليها بتعب وإرهاق شديد. طرق الباب، سمحت له بعد أن جعلته ينتظر قليلاً.
دلف للمكتب ليجد عيونها متربصة له، تناظره متحدية أن يعلق أو ينطق حتى. وضع الملفات بصمت، لتتمسك بها وتقلبها وهي تعلم أنه لم ينتهِ. لكن ما المشكلة في بعض التوبيخ؟
ألقت الملفات باهمال أمام وجهه، وهي تقول باهتزاء: "وأنا المفروض أستني حضرتك لما تفوق من شهر العسل؟! إمتى عشان تشوف شغلك كويس؟! الملفات مخلصتش ليه؟! أي لعب العيال ده؟"
قاطعها بحدة، ولم يهتم قائلاً بثقة: "مسمحش لحضرتك! أنا هنا من كذا سنة، والمكتب وحضرتك واستاذ سعد عارفين إني عمر ما حد علق على شغلي. الشغل ده محتاج أقل شيء شغل يومين. حضرتك عايزة يتعمل في كام ساعة؟! على العموم، الشغل مع حضرتك، تقدري تديه للي يخلصه في الوقت ده. أنا بعتذر عنه."
رفعت حاجبها بإعجاب، لم تخطئه عينه، ليخفض وجهه مستغفراً. يريد الخروج من هذا المكتب بأسرع وقت ممكن. هو لا يريدها أن تقترب منه.
أراحت ظهرها قبل أن تحرك مقعدها، تربت على آخر بجانبها بصوت هامس: "تعالي هنا، هتخلص شغلك هنا معايا في المكتب، وهنحله سوا بسرعة، وهوريك إنه بيخلص بسرعة."
ظل ينظر للمكتب، لها، ليدها، للمقعد، قبل أن يقول بحزم: "بعتذر من حضرتك، لكن معاد الشغل خلص، وللأسف عندي ظروف مش هقدر أقعد وقت إضافي. أنا هاخد معايا الشغل البيت وأخلصه."
وحمل الملفات سريعاً وغادر، وكانت هي تناظره بإعجاب، ورغبة في الحصول عليه، مهما كلف الأمر.
"عودة للوقت الحالي"
أفاق من شروده وهو يتذكر ما حدث.
أصبحت روفيدا مساحةً لا يريد الاقتراب منها.
هو لا يريد أن يقترب.
أزاح روفيدا من تفكيره، فهي ليست مهمة في كل الأحوال، ولم تكن يوماً.
الأهم إلى قلبه نائمة بالداخل، تصارع شيئًا لا يعلم عنه شيئًا.
يكفيه أن تكون بخير، وهو سيحارب لأجلها دائمًا.
---
تقلبت في الفراش تنظر حولها بتشوش وهي تفكر: متى نامت؟
كيف غفت دون أن تشعر بهذا الشكل؟
تحركت من الفراش تتمطى، تحرك ذراعها محاولةً أن تفك هذا التيبُّس،
وهي تمسك رأسها تشعر به يكاد ينفجر.
صداع يضرب رأسها دون رحمة.
فركت عيناها بضيق،
وهي تأخذ من جانبها حبة مسكن علَّها تقلل وجع رأسها.
قبل أن تتحرك وتخرج للخارج باحثة عن عمر،
وقبل أن تبحث،
وجدته يجلس هناك في ركنهم المفضل،
يعمل بتعب واضح،
بجانبه فناجيني قهوة.
أطالت النظر نحوه.
هل يمكنها أن تقول إن هذا الرجل كان عوضها؟
أم لا تستطيع؟
لماذا لا تقدر على تخطي تلك المرحلة؟
الخوف الدائم رغم وجود الأمان.
الخوف من الأمان نفسه.
الخوف من عمر.
الغريب أن كلمة "الخوف من العلاقات" أصبحت مرتبطة بها بشكل مرضي.
آثار الطفولة تطفو بكل لحظة مقتحمة حياتها.
تنهدت وظلت محلها لا تريد الحركة.
هو أمامها،
وهي بجانبه،
ورغم انشغاله، لكنه لا يدري لماذا رفع رأسه في تلك اللحظة
ليراها هناك.
تناظره بحب،
وبابتسامة شاردة،
كطالب يواجه مسائل رياضيات صعبة الحل،
ولا حل لها سوى حلها.
حبيبته تتألم،
وهو سيحل تلك المعضلة.
أهداها أحد ابتساماته وهو يتحرك نحوها،
ضامًا إياها إلى صدره،
وهو يقول بمشاكسه:
"صح النوم يا كسلانة.
أنا مكلتش لسه، مستني ناكل سوا.
إيه رأيك ناكل؟"
ابتعدت عنه سريعًا وهي تغمغم بندم:
"أنا آسفة يا حبيبي، حقيقي محستش بنفسي غير وأنا نائمة.
سامحيني، أكيد ميتة من الجوع.
روح خد شاور، عقبال ما أعمل الرز."
منعها بيده وهو يقول بهدوء:
"مش مشكلة، ناكل بعيش."
قطبت حاجبها وهي تسأله باستغراب:
"عيش؟
هناكل الغداء بعيش؟
بس سارة قالت لي يتعمل رز."
أرجع رأسه للخلف يضحك وهو يضمها إلى صدره،
ويقول مؤكدًا:
"معظم الأكل عادي يتاكل بعيش.
عادي، أنا عمتي كثير كانت بتعمله بعيش."
أومأت له وهي تقول موافقة:
"تمام، بس أنا معنديش عيش.
خلص ونسيت أجيب."
هز رأسه وهو يقول:
"تمام، هنزل أجيب.
سخني أنتِ الأكل،
وتعملي طبق سلطة."
قالها وهو يلتقط مفاتيحه ويتوجه للأسفل،
وهي خلفه شاردة مفكرة في معضلة جديدة
وهي كيفية عمل السلطة.
---
جهزت الطاولة، أشعلت الشموع، أضافت الماء والعصير، وضعت الطعام بالأطباق، وأيضًا أعدت السلطة حينما اتصلت بسارة لتخبرها بالطريقة. وأخيرًا، الطاولة جاهزة. وضعت الخبز، ووقفت تنظر للطاولة بسعادة. أول مرة من يدها، إنجاز تستحق الشكر عليه. ست سنوات متواصلة، وإجازة اثني عشر سنة من دخول المطبخ.
اقترب منها عمر، يحاوط خصرها، ينظر للطاولة بدهشة شديدة، وهو يقول بإعجاب: "ما شاء الله تبارك الله." وأكمل مشاكسًا: "معقول أول مرة تطبخي؟ أنتِ بتضحكي عليّ صح؟"
ابتسمت برقة، وهي تشعر بالسعادة. ثم ابتعد عنها، يسحب المقعد لتجلس. جلست برقة تناسبها، ليجلس هو بجانبها، سعيدًا، سعيدًا للغاية.
---
سَفَقَ بيدِه بحماسٍ وهو يَستنشقُ رائحة الطعام الشهي.
كان ذا شكلٍ ورائحةٍ خلابة.
وضع لها ولنفسه.
نظرت له بتشجيعٍ منتظرةً مدحه.
أمسك الملعقة أولاً ليتذوق البطاطس.
وضع الملعقة في فمه يتذوق،
وتجمد لبضع ثوانٍ،
مُتسِعَ العينين بشدة،
قبل أن يمسك كوب الماء يرتشفه بسرعةٍ بوجهٍ أحمر.
ارتبكت فريدة وهي ترى ملامحه،
لتقول بتوترٍ محاولَةً فهم ما يحدث:
"عمر، أنت كويس؟"
مسح وجهه وهو يقول بصوتٍ مبحوح:
"إيه؟"
تسائلت مرةً أخرى:
"مالك؟ الأكل عجبك؟"
وكادت برفع الملعقة لفمها،
ليمنعها وهو يهز رأسه برفضٍ.
أصرت وهي ترفع الملعقة
وتضعها بفمها،
قبل أن تلتقط منديلًا تبصقه،
وتستغفر ربها وهي تقول بتقذذ:
"إيه ده؟"
كان مالحًا وحارًا وذا طعم غريب.
هز عمر كتفه بعدم معرفة وهو يتساءل:
"إنتِ حطيتي قد إيه ملح؟"
هزت رأسها بعدم تذكرٍ وهي تُجيبه:
"مش فاكرة، بس زي الوصفة."
زم شفتاه وأكمل:
"وقد إيه شطة؟"
إجابتها مرةً أخرى:
"زي الوصفة."
حرك رأسه بحسرةٍ وهو يردد:
"يخرب بيت الوصفة!
وصفة مين المدعوقة دي؟"
إجابتها بثقة:
"سارة صاحِبتي."
ضحك بقوةٍ وهو يصيح:
"تقطعي علاقتك بسارة دي في أقرب وقت!"
ونظر للطعام وهو يقلب فيه بحيرة،
ليردف بعدها:
"خلاص، ناكل الفراخ."
وأمسك الورك يقسمه،
يعطيها نصفه ويتذوقه،
ليردف بتركيز:
"حادق شوية بس مش زي البطاطس."
هم الاثنين مش نفس الخلطة.
هزت رأسها موافقة وهي تتذوق هي الأخرى
وتفكر.
تجربة لن تتكرر مرةً أخرى بإذن الله.
قبل أن تميل عليه تهمس بتفكير:
"تيجي نعمل شاي بلبن ونأكل جبنة سايحة؟"
نظر للطعام تارةً ولها تارة،
قبل أن يهز رأسه موافقًا،
لينفجرا في الضحك سويا،
وهو يقف مقررًا:
"يلا بينا."
وبداخل كلٍ منهما،
دعاءٌ بدوام الضحكة للأبد.
----
بجلستهم المعتادة،
يضمها إلى صدره، يغطيهم دثار يمنحهما دِفْءً خاصًا.
كانت تحكي له ما حدث اليوم بقلب حزين.
ليسألها بدهشة حقيقية من موقف صفية العجيب:
"بس مش غريبة؟ ليه بتفرق في المعاملة؟ المفروض العكس. يعني في الأول والآخر أنتِ بنتها. بنت خالك هتطلع هتنزل مجرد بنت أخوها."
هزت رأسها بشرود وهي تقول:
"المفروض بقى... بس اللي حصل عكس ما المفروض يحصل يا عمر.
آسيا كانت أكثر إنسانة مؤذية في حياتي.
خدت كل حاجة من حقي من زمان أوي، من قبل حتى ما أتولد، حتى!
ماما خالو ولدت ومامي حامل فيا، وتوفت وهي بتولدها.
خالو دخل في فترة اكتئاب شديدة، وآسيا اتربت عندنا لحد ما قدر يفوق لنفسه.
وقتها هي اللي سمتها.
وقضت وقت كبير معاها.
ولما أنا جيت كان مكاني خلاص شغله غيري.
كان الاهتمام لآسيا، الحب ليها، الحنان، كله كان ليها.
اتولدت وأنا علاقتي بيها وحشة أوي.
كانت هي طلباتها كلها مجابة.
ومن مين؟ من مامي.
وأنا حتى الطلب مش من حقي أفكر فيه.
مانا بقى دمية مطرزة بالذهب.
ده كفاية عليا."
قالتها باختناق وقلب متألم.
حاول أن يجعلها تتوقف عن الحديث، لكنه أصرت وهي تكمل:
"عارف، أنا شفت قد إيه مقارنات... قد إيه هي ليها...
الحب... الاهتمام...
خدت كل حاجة.
وفي المقابل أنا ولا حاجة.
ماكنتش بفهم السبب.
ومش لاقية مبرر أبدًا أبدًا لده يا عمر... غير أن مامي ظالمة.
وأنا عمري ما هسامحهم على كسر قلبي."
قالتها ببكاء، ليضمها إلى صدره.
راغبًا بحمل حزنها بقلبه،
فقط ليريح قلبها الحزين.
فليذهب كل شيء إلى الجحيم... إلا بسمتها،
إلا هي.
---
كادت أن تغفو بين ذراعيه، إلا أنه قال متذكّرًا:
"أه، صح، الحمد لله إني افتكرت.
إنتِ عارفة أنا من يوم الفرح مروحتش البيت هناك، ودي أول مرة أعملها، حقيقي.
وعمتو زعلت مني.
وأنا لازم أروح أراضيها، بس للأسف بسبب ضغط الشغل والوقت المتأخر، مبعرفش أروح لأنها بتكون نامت بدري.
فبإذن الله تعملي حسابك، هنروح لهم خلال الأسبوع ده، بإذن الله، عشان نصالحها ونقعد معاها."
التفتت تنظر له وهي تسأله بخفوت:
"أنا كذا مرة أكون عايزة أسألك وأنسى. هم ليه محضروش كتب الكتاب؟"
أجابها بهدوء:
"إنتِ عارفة أن صحتها تعبانة.
وقتَها تعبت جامد، للأسف.
وكنت خلاص حددت المعاد مع والدك.
وكان صعب أغيره، وهي صعب تتحرك.
وبرضو مكنتش تقدر تيجي هنا برضو.
فأنا قلتلها إني بإذن الله هنروح لها إحنا."
إجابتها بتوتر:
"بس أنا مشفتهاش قبل كده، وأكيد هتكسف."
ربت على يدها قائلًا بثقة:
"أنا جنبك، متخفيش.
طول ما إحنا سوا، متخفيش."
أهدت ابتسامة رقيقة، وهي تعود حيث كانت، بين أحضانه.
لا يهمها شيء.
هو صادق.
طالما هما معًا، لن تخاف من شيء أبدًا.
---
كان يهبط الدرج يهاتف أحمد يستمع إلى شكوته من خطيبته، إلا أنه توقف وهو يرى والده يتحدث مكالمة مرئية.
أغلق في وجه أحمد بسرعة وتوجه نحوه ليجده يحادث حسام.
وقبل أن يظهر من خلف والده ويلاحظه أحد، انطلق صوت حسام بقول بتزمر وتأكيد:
"أيوة يا بابا، أيوة بجد لازم يتجوز. هو تميم مش هيتربي غير لما واحدة تدخل حياته تجيب أجله... قصدي تجبله عيال.
أنا معرفش ليه رافض الجواز، هو مش شايف الهنا اللي أنا فيه أنا وأخوه، يجي يشوف حياتنا هيعشق الجواز."
إجابة والده بحزم هو الآخر:
"اخرس يا حيوان، إزاي تتكلم عن أخوك الكبير كده؟"
وأكمل مؤكدًا بأسف:
"بس فعلاً عندك حق، هو عيل مش متربي، بقي أنا يحرجني الإحراج ده، عديم التربية."
ثواني وظهر صوت عالي آخر كخوار الثور.
ولم تكن سوى أخته الحرباء "آلاء" وهي تغمغم بضيق وصوت غريب كأنها تأكل:
"فعلاً عندك حق. أنا قلتلك يا بابا نشوف البت جميلة صاحبتي... جمال وأخلاق وأدب."
قاطعها حسام باستخفاف قائلاً مستفسرًا:
"قصدك جميلة بنت سيد كمال؟ البت اللي كانت بتضرب العيال أيام المدرسة وتنزل فيهم عجن كل يوم وكل يوم باستدعاء ولي أمر جديد؟
وكان شوية وهتدخل الأحداث!"
أؤومت له مؤكدة بثقة وهي تجذب ابنتها من ملابسها لتلحق بوعاء المقرمشات من يدها،
لكنها ركضت به بسرعة الريح لتخلع خفها وتلقيه في الهواء،
لكن لم يصبها، لتصرخ بصوت عالي جعل والدها يضع يده على أذنه:
"هاتي الشبشب وتعالي أحدفه ثاني عشان مجاش عليكي."
وأكملت:
"أيوة صح بعينها، دي بقت قمر يا واد يا حسام. والله شفتها آخر مرة من بتاع ست سنين ولا حاجة، كانت زي غزال."
قاطعها والدها قائلاً بتفكير:
"بس دي اتجوزت خلاص يا آلاء، شوفي غيرها."
اتسعت عيناها وهي تغمغم بشتمة وتقول:
"الكلبة معزمتنيش. ماشي، ماشي."
وأكملت:
"مش مشكلة، تروح ناديه تيجي سوسو، نشوف غيرها. هنغلب يعني، ما العرايس على قفا من يشيل. يكش بس حد فيهم يقبل بابنك ده."
صاح بها والدها بتحذير:
"آلاء!"
ردت بقهر مصطنع:
"الله، مش بقول الحق."
وأكملت همسة:
"مش فالح غير يزعق فيا. طيب هنعمل إيه؟ الواد مش عايز يتجوز."
وأكملت بصوت عالي:
"هي فين ملك؟ ساكته ليه؟"
وفي نفس الثانية ظهرت ملك في الشاشة وهي تردف برقة:
"وحشتوني أوي. وحشني يا دادي، وحشني يا حوسو."
نظر لها حسام بقرف، لتكمل هي بمكر تناظر الواقف خلف أباها وهي تغمز لهم:
"هاي تيمو، وحشني يا حبيبي."
شهقت آلاء وهي ترى تميم أمامها يناظرها بنظرات قادرة على قتلها، وخرجت سريعًا من المكالمة قبل أن تطير رقبتها.
وتبعها حسام وتميم يتوعده بالسلخ.
ليتبقى أباه في محله قائلاً بقرف:
"كلبة."
لتنطلق ضحكاتها وهي تنظر خلفه لذاك المتهجم،
وهو يشاهد خططهم لتزويجه.
وبداخله قرر قتل آلاء وتعليقها على باب المنزل،
وتعليق حسام في الحديقة الخلفية.
أما ملك فليتركها لتساعده.
---
كانت آسيَا تجلس في غرفتها الخاصة.
كان لها غرفة كغرفة فريدة، وأجمل بمنزل عمتها صفية.
لا يدخلها أحد أبداً.
تنتظرها دائماً وأبداً.
تحركت بدلال تتناول الحلوى،
وهي تتفحص مواقع التواصل،
تحديداً صفحة واحدة.
ألقت بنفسها على الفراش،
وهي تمسك الهاتف،
تناظر ذاك الوسم الذي استحوذ على قلبها من أول لحظة.
صورة تلو الأخرى،
تخطف قلبها،
تجذبها له أكثر فأكثر.
تناظرها بعين راغبة به وليس لسواه.
تريده هو.
ابتسمت بمشاغبة،
قبل أن تضغط زر المتابعة.
أصبحت تتابعه،
ولم تتردد قبل أن تبعث له
طلب صداقة.
مقتربة من أولى الخطوات،
سيتبعها ألف خطوة منه.
تثق بذلك،
وتراهن عليه.
---
#عريس_قيد_الرفض
#بين_الرفض_والقدر
#الفصل_التاسع
#عفاف_شريف
❈-❈-❈
دقيقة...
أعطني دقيقة...
دقيقة هدوء، وربما هروب...
من الضوضاء في العالم
إلى السكون في حضنك...
من هبوب العواصف بقلبى...
إلى الحب اللطيف بقلبك.
من واقع الآلام في عالمي
إلى وهم الحب
ووهم الشعور في عالمك.
أعطني دقيقة هروب...
ربما هروب إليك لأغفو
وربما هروب منك لأنجو...
❈-❈-❈
صباح يوم جديد وربما بدايات جديدة للبعض.
يتحرك أصحاب الأشغال لأعمالهم،
الأطفال لدراستهم،
وربات البيوت لسلسلة واجبات طويلة لا تنتهي.
ويظل النهار يدثر ظلام الأمس،
لكن في عمق هذا الروتين اليومي، هناك لحظات صامتة نسرح فيها بأفكارنا.
نتساءل: هل يحمل لنا اليوم الجديد فرصة لتغيير ما في داخلنا؟
هل هي مجرد ساعات تمضي بسرعة، أم أنها خطوات نخطوها نحو شيء غير مرئي بعد؟
ورغم تنقلنا بين واجباتنا، يبقى الأمل في كل بداية جديدة هو ما يضيء طريقنا.
❈-❈-❈
لم تعلم منذ متى هي مستيقظة.
فقد نامت نومًا مضنيًا،
مرهقًا.
أفاقت بعد نوم مقلق وغير منتظم.
تطالع الغرفة حولها بلا أي تعبير،
وظلت بعدها تتطلع نحو النافذة.
تراقب الطيور تقف تأكل وتشرب مما وضعت لهم مساء أمس قبل أن تنام.
رأَتهم أول أمس،
فقررت أن تضع لهم لليوم.
وها هم يزينون شرفتها بجمالهم،
وصوتهم المحبب لقلبها.
كانت تراقب وجودهم بعيون تائهة.
منذ أمس كسر بداخلها شيء جديد،
وكان ما بداخلها لا يكفي.
أمها، أباها،
آسيا،
وأخيرًا عمر.
خوف ما بداخلها ينهش قلبها،
يورق راحتها.
ألا يسعى لأجلها؟
يسعى.
الم يُعطِها الحب؟
بل أعطى.
إذاً ماذا يحدث؟
لِمَ خوفها؟
لم تلك الغصة؟
كيف صنعوا منها امرأة هشّة لتلك الدرجة؟
تطلعت بالجهة الأخرى من الفراش الفارغ.
ذهب عمر لعمله ولم تستيقظ هي
أو ادّعت النوم.
هي لم تُرد أن تتحدث.
أصبح الحديث ثقيلًا.
لا تريد.
فقط تريد النوم لمدة طويلة قدر الإمكان.
أغمضت عينيها لوهلة قبل أن تفتحهما.
معتدلة في جلستها،
متخلية عن رقدتها.
توجهت نحو المرآة بخطوات متعبة.
أزاحت خصلاتها من على وجهها.
تنظر لنفسها.
تمرر يدها على وجهها.
عيون منتفخة،
وجه مرهق متعب،
والخذلان يملأ عينيها.
كانها ترتوي حزنًا يومًا بعد يوم،
حتى اكتفت.
يكفي ما حدث،
ولأجل من؟
لأجلهم.
رفعت عينيها المتعبة
تناظر نفسها بعين أخرى.
أسرعت نحو الحمام،
تفيق نفسها بالماء
مرة بعد مرة.
كانها بحاجة لإزاحة كل هذا.
تزيحه بكل قوتها،
مقررة أنه كفى.
يكفيها هزيمة،
يكفيها ضعفًا وألمًا.
يكفي ما حدث.
رفعت وجهها تنظر لوجهها الأحمر
من شدة غسله.
الماء تقطر منه،
وبعينها نظرة مختلفة،
نظرة تعني كفى.
من اليوم.
لن تسمح لنفسها أن تضعف مرة أخرى.
لا تحزن نفسها هكذا أبدًا.
كفاهم ما أخذوه.
❈-❈-❈
كان يجلس يتابع مع أحد زملائه أحد الأعمال بإجهادٍ، اليوم من بدايته إلى نهايته، عملٌ دون توقف، ولا يجد وقتًا حتى لتناول لقمة ليكمل اليوم.
فـ "روفيدا" تضع على كاهله ما لا يحتمل.
انتفض هو وزميله على الملف الذي سقط على المكتب بعنف،
وروفيدا تصيح بعصبية: "ممكن تفهمني إيه اللي في الملف ده؟ إيه الإهمال ده يا عمر؟"
نظر لها بعدم فهم، وحينما لم تجبه،
لم يضع وقتًا وهو يأخذ الملف يقلب فيه محاولًا فهم ما حدث،
إلى أن وقعت عيناه على الخطأ.
اتسعت عيناها وهو يحاول الاستيعاب،
كيف حدث هذا؟
لم تحدث من قبل أن وقع في خطأ كهذا.
زم شفته بضيق،
وهو يحاول التذكر،
أغمض عينيه بيأس، في الأغلب أمس وهو ينهي العمل بمنزله.
طالعها بضيق وهو يردد باعتذار مجبرًا: "بعتذر جدًا، أستاذة روفيدا، معرفش الحقيقة حصل إزاي. دي أول مرة. حضرتك عارفة أن..."
قاطعه حديثه وهي تضرب المكتب بقوة وترد بصلف وعجرفة: "أسفك مش مقبول. خصم أربع أيام. وهتقعد زيادة عن الكل. اللي عايز يشتغل هنا، يكون عينه وسط راسه. لعب العيال ده أنا مش همسح بيه. وده ثاني إنذار ليك. الثالثة تابته."
وأكملت بصوتٍ عالٍ وعينيها عليه: "واللي مش عاجبه الوضع، الباب يفوت جمل."
اتسعت عيناه وهو يسمع تهديدها المبطن.
ناظرها بغضبٍ وشعور بالإهانة يقتله،
لكنه لم يستطع التحدث،
ليكتم غضبه وهو يراها تغادر بكبرياء،
بعد أن أهانته متعمدة.
نظر حوله لنظرات زملائه،
لينتفض من مكانه مغادرًا الغرفة،
يكاد يحطمها فوق رؤوسهم،
رأسها هي تحديدًا.
يعلم نيتها،
ويعلم السبب،
يعلم الآن أي جحيم سيعيش.
❈-❈-❈
دلف لشركته وهو يتحدث مع آلاء موبخًا إياها على ما حدث أمس، وهو يؤكد لنفسه أنه يجب وبسرعة وضع حد لما يحدث.
لتجيبه مبررةً مدافعة عن نفسها بمرح:
"يا أخي تعبنا منك، اتجوز وريحنا بقى. نفسنا نشوفك مع عروستك وتملي البيت عيال يا تيمو."
تنهد وهو يجيبها بهدوء مارًا بالمكاتب يتفقد الوضع بها، وهو يقول:
"آلاء، أنا تعبت من الكلام في الموضوع ده. أنا لعيال صغير ولا فاقد الأهلية عشان تحاولوا تحطوني قدام الأمر الواقع. الموضوع هيتقفل، وهيتقفل يعني هيتقفل. وأنا مش بهزر، أنا بتكلم جد. وكفاية أوي إني لسه محاسبتكيش على الموقف الزفت اللي حطيتني فيه أنتِ وبابا. وأنا بتفاجئ بإني في قاعدة تعارف. أروح؟ أه بس بمزاجي وبرضايا. بس مش طبيعي أتغفل يعني. مينفعش بجد. أنتو بتضغطوا عليَّ أكثر من اللازم، واللي بيحصل ده تهريج ولازم يخلص وفورًا."
قالها بصرامة، جعلت الأخرى تجفل وتبكي.
استغفر ربه وهو يتنهد بصوت، ليتحدث بعدها بهدوء:
"آلاء، ممكن تصلي على النبي وتستهدي بالله؟"
قالها وهو يشير لسكرتيره الخاص أن يعد له فنجان قهوة قبل أن يدلف لمكتبه.
ف رأسه ستنفجر.
خلع سترته ملقيًا إياها على أحد المقاعد وهو يجلس يحادثها بهدوء:
"اقفلي، هكلمك فيديو."
وأغلق واتصل بها، ليقابله وجهها المحتقن بالبكاء.
كانها تبكي منذ مدة، وليس الآن بسببه.
اقترب من الشاشة يتفحصها بقلق، غير مهتم في تلك اللحظة سوى بها هي فقط.
لا يهم سواها.
"آلاء، أنتي كويسة؟"
سألها والقلق ينهش قلبه، وهو يكمل:
"أنتِ معيطه ولا إيه؟"
رفعت صغيرها تميم النائم بين ذراعيها، وهي تمسك الهاتف باليد الأخرى قائلة بتعب وهي تضعه في الفراش:
"تعبانة بس من الولاد، إنت عارف المسؤولية مش سهلة أبدًا. كل عيل عايز وقت وطاقة وصحة."
جلست جوار صغيرها تمسح على خصلاته، تناظره بتعب شديد تمكن منها.
هي لم تعد تحتمل تلك المسؤولية وحدها.
لا طاقة، ولا صحة، ولا أي شيء.
فقط تعب وإرهاق.
أربع أطفال، أربع أطفال، بالعديد والعديد من المسؤوليات والواجبات والالتزامات، ولكل منهم مصائبه الخاصة.
توأمتيها آية وآيلا بعمر الأربع سنوات، وابنها عزّ صاحب السنتين، وأخيرًا تميم صاحب السنة الواحدة.
تأتي لها لحظات تقف وسطهم، تصرخ وتجلس باكية لا ترغب في هذا.
لا تريد سوى النوم بضع دقائق فقط.
تنهدت بتعب، وهي تخرج تغلق الباب خلفها تاركة الصغير يحظى بنوم هادئ.
وخرجت هي لتجلس على أحد الأرائك، تنظر له لعدة ثوانٍ، قبل أن تنفجر في بكاء لم تقدر على إيقافه.
انتفض من مكانه وهو يرى انهيارها أمامه بهذا الشكل، وبداخله أصبح مؤكدًا أن شقيقته ليست بخير.
ليست بخير أبدًا.
❈-❈-❈
تركها تبكي بقدر ما تحتاج.
بكت وبكت حتى اكتفت.
تنهد بضيق وهو يرى إرهاقها الواضح للأعمى إلى أي حال وصلت شقيقته.
أكانت تخدعهم بمزاحها الدائم؟
أكانت ضحكاتها كاذبة؟
وثرثرتها الفارغة لم تكن سوى غلاف تحيط به نفسها.
كيف لم يلاحظ؟
كيف أهملها لهذا الحد؟
ومن السبب في هذا؟
من أوصلها إلى تلك الحالة؟
مد يده يتلمس صورتها الباكية راغبًا وفي تلك اللحظة في ضمها بين أحضانه مربتًا عليها حاملاً كل ما يؤلم قلبها بقلبه إن استطاع يكفيه فقط هي أن تعود كما كانت ولا تزرف دمعة واحدة بهذا الشكل المؤلم.
كم كانت ذا روح مرحة، مبتسمة ومشاكسه.
كانت بهجة بيتهم.
وشعلة نشاط وطاقة.
انطفأت شمعتها وخفت بريقها.
كأنها أصبحت شخصًا آخر.
شخصًا أنهكته الحياة.
تنهيدة أخرى خرجت منه متعبة ومتألمة وهو يحادثها بهدوء قائلاً: "بقيتي أحسن؟"
هزت رأسها نافية.
هي ليست بخير.
أصبحت لا تتحمل.
أغمضت عينيها وهي تفكر.
هي التي تستيقظ قبل الجميع لتلبي احتياجاتهم، وتظل مستيقظة بعد أن يخلد الجميع للنوم لترتب، تخطط، وتفكر.
المنهكة ليست فقط من العمل البدني، بل من الضغوط النفسية والمسؤوليات التي تتزايد دون توقف. قد تُخفي تعبها بابتسامة أو دعابة تُدخل الفرح على قلب من حولها، لكنها تحمل في داخلها أوجاعًا وجروحًا لا تراها إلا هي.
هي من تُرهقها الليالي الطويلة بجانب طفلها المريض، أو تسهر على تجهيز احتياجات أسرتها دون أن تشتكي. تجدها دائمًا منشغلة، ولكن عينيها تخبرك بحجم التعب. ومع ذلك، تظل شامخة.
زفر بضيق وهو يرى الألم في ملامحها كأنها تفكر في معضلة، قبل أن يسألها: "إيه اللي حصل؟
ممكن تحكيلي؟"
صمتت لدقائق، احترمها هو.
حقها، ولو أرادت فلتأخذ وقته كله.
نظرت حولها لعدة ثوانٍ بعينين منهكتين، قبل أن تنطق بتعب: "أنا تعبت يا تميم.
تعبت ويمكن دي بجد كلمة قليلة على شعوري.
أنا بقيت حاسة إني مش قادرة أعيش طبيعي.
أبسط حقوقي مش قادرة أحصل عليها.
دقايق لنفسي.
فنجان شاي أو حتى أشم شوية هوا.
متخيل إنسان وقته كله للغير؟
مش بنام.
مش بعرف آكل لقمة من غير صراخ وعياط.
وواحد فيهم على كتفي.
مش قادرة أخد أقل حقوقي."
وأكملت بخجل مرهق: "حتى إني أدخل الحمام.
متخيل أبسط حقوق الإنسان في احترامه لنفسه؟
بقت صعبة.
لو دخلت دقيقة صراخ وعياط والأربعة عايزين يدخلوا معايا.
صراخ طول الوقت.
عياط بطريقة غير طبيعية.
لحظة هدوء حتى.
ينام ده، يصحي ده.
يخف ده، يتعب الثاني.
أنت متخيل إني المفروض أكون زوجة وأم وربّة منزل مثالية؟
أنت متخيل كم المسؤولية اللي محدش حاسس بيها غيري؟
أنا مش ناكرة أو معترضة والله يا تميم.
حاشا لله."
قالتها بأنهار.
"أنا بس كنت عايزة طفل أو اثنين أقدر أديهم حبي وحناني وطاقتي.
بس أنا مهما خدت وسائل منع حمل بحمل.
بحمل وأنا مش مستعدة.
لا جسديًا ولا نفسيًا.
بحمل غصب عني.
وأنا مش قادرة أخد بالي من اللي معايا.
مش ناكرة أبدًا والله والله أبدًا.
كل اللي يشوفني يقولي أحمدي ربنا.
غيرك مش طايل ضفرهم.
ومين قال إني مش عايزة؟
مين دخل جوايا وعرف أنا قلبي فيه إيه؟
أنا عايزهم وبحبهم.
بس عارف لما تكون عايز ومش قادر؟
صعبة أوي صح؟
إنك بجد نفسك،
بس لا في طاقة ولا صحة،
ولا أي حاجة.
مهما حاولت.
الولاد مسؤوليتهم بتكبر معاهم.
بتزيد يوم عن يوم.
محتاجين بدل العين عشرة.
وبدل اليد عشرة.
تحس إني مش ملاحقة.
بين ده وده.
ده عايز وده عايز.
ده بيصرخ وده بتضحك.
ده قاعد على ده.
وده بيخنق ده.
أنت متخيل كمية الدوشة اللي أنا فيها؟
وأن يكون أقصى آمالك في اليوم
إنك بجد تقعد عشر دقائق بهدوء.
وفي الآخر إيه النتيجة؟
النتيجة صفر.
بطلع ست مهملة.
وأم فاشلة.
وزوجة.
وزوجة ناقصة فين عين جوزها؟
زوجة مهملة في نفسها وشكلها.
إزاي يرجع ومكنش على سنجة عشرة؟
إذا مهتمتش بنفسي وشكلي.
أصلي بعمل إيه؟
أنا واحدة مش بتعمل حاجة طول اليوم.
يدوب بس
بروق بس.
بنظف وأمسح.
وأغسل.
وأطبخ وآكل وأشرب وأغير وأحمي.
أصلي بفضل ماسكة للموبايل طول اليوم.
مانا ست فاضية بقي.
مش كده يا تميم؟"
قالتها ساخرة بتعب شديد.
صمت لعدة ثوانٍ قبل أن تسأله بتعب مضنٍ:
"أنت عارف أنا عايشة إزاي وحاسة بإيه؟"
صمتت مرة أخرى،
قبل أن تغلبها مشاعرها،
فانهارت تبكي بحرقة.
❈-❈-❈
"تقف أمام مرآتها تنظر إلى نفسها. هي لم تعد هي." هي التي تحمل العالم على كتفيها دون أن تشتكي، تصحو قبل شروق الشمس لتهتم بكل شيء وتغفو على سريرها بعد أن يهدأ كل شيء، لكنها لا تنام فعليًا، لأن أفكارها تبقى مستيقظة.
هي من أرهقتها تفاصيل الحياة الصغيرة؛ صرخات الأطفال، الأواني المتراكمة، العمل الذي لا ينتهي، والوقت الذي لا يكفي أبدًا. ومع ذلك، تواصل السير، لأنها تؤمن بأن تعبها يُثمر حبًا وأمانًا لمن حولها.
تعيش يومها وكأنها في سباق دائم. بين واجبات الأمومة، متطلبات العمل، وضغوط الحياة، لا تجد وقتًا حتى للنظر في المرآة أو سماع نبضها.
هي التي تشعر أنها تُهمل نفسها، لكنها تُفضّل أن تُهدي وقتها وطاقتها لكل من حولها. لأنها ببساطة، وضعت الآخرين في قلبها، وأجلت نفسها إلى أجل غير مسمى.
ليست ضعيفة، بل قوية بما يكفي لتحمل كل هذا. لكن قوتها تُنهكها، وداخلها صوت صغير يهمس: "أنا أيضًا أحتاج إلى الراحة... إلى حضن يخفف عني."
تستحق لحظة هدوء، كوب شاي دافئ في صمت، كلمة طيبة أو حضنًا دون طلب. تستحق أن يتوقف العالم قليلًا، ليُعيد لها ما تمنحه بلا توقف.
قد تبدو عادية في عيون الآخرين، لكنها بطلة خلف الكواليس. تستحق التقدير الذي ننسى أحيانًا أن نقدمه لها.
❈-❈-❈
كان يوقع بعض المستندات أمامه بعقل شارد غارق في التفكير.
يفكر بجدية أن يسافر لها، لعله يخفف عنها،
ويأخذها لبعض الأماكن لكي تتحسن نفسيتها،
أو على الأقل جلسة طويلة.
يعلم حقاً ماذا يحدث هناك،
ماذا تخفي بقلبها الصغير؟
لماذا لا تحكي له،
أو لأحد إخوته؟
حسناً، على الأقل تحادث ملك.
فلتخبرها إن كان هناك شيء مخجل مثلاً،
تخجل من الحديث به معه أو أحد إخوته.
لكن متى كان بينهم تلك الأمور؟
كان الأقرب لها،
دائماً وأبداً.
حتى في تلك المحادثة الطويلة،
لم تستفضِ كثيراً بالحديث،
فقط بكت.
بكت حتى تورمت عيناها،
وشكت بما يحدث معها مع الصغار:
عدم نومها،
رغبتها بالدخول للحمام كباقي البشر
دون صراخ.
واحد من الصغار فوق ساقيها يمشط خصلاتها
أو يقتلعها.
ولوهلة تسأل: لماذا يمشط الصغير خصلاتها في لحظة كتلك؟
ما هذا القرف؟
وحينما سأل مرة أخرى،
لم ترد أن تزيد.
ولم يرد أن يضغط عليها.
يكفيها ما يحدث معها،
وكم هذا الضغط المهلك لها.
لكنه يحزن ويتألم قلبه.
هو فقط.
لم يعتدها بهذا الضعف يوماً.
كانت قوية وأصبحت هشة.
حتى وقت فقدهم زهرة حياتهم،
أمهم الغالية،
وأغلى ما لديهم.
كانت صامدة قوية،
تشد أزر إخوتها، تقف بجانبهم تحتضن ألمهم.
كانت بجانبهم ولم تترك يدهم يوماً.
والآن دوره.
سيعلم ما بها،
ويحتضن قلبها بكل ما أوتي من قوة.
قالها لنفسه وهو يوقع آخر ملف أمامه.
تبعه دخول السكرتير الخاص به وهو يقول بهدوء:
"عندنا بعد عشر دقائق اجتماع يا بشمهندس."
أومأ له وهو يعطية الملفات،
متسائلاً بضيق:
"مع شركة ياسر الفاروقي؟"
إجابة الآخر بتأكيد:
"أيوة يا بشمهندس."
حرك رأسه قائلاً بتأكيد:
"خلي أي حد من المهندسين يجتمع بيهم،
أنا مشغول النهاردة."
توترت ملامح الآخر ليجيبه بسرعة:
"بس أستاذ ياسر طالب حضرتك تكون موجود،
بيقول مش هيوقع غير وحضرتك موجود."
زم شفتيه بغيظ من هذا الياسر.
يمقته ولا يحبه.
ثقيل على قلبه.
ذا طلبات متكررة معقدة.
عبء ثقيل عليه.
ويصعب إرضاؤه.
لكن يبقى العمل معه شيئاً لابد منه.
حرك رأسه موافقاً وهو يخبره بإجهاد:
"تمام يا علي، ابعتلي لو سمحت فنجان قهوة كبير.
طالما فيها ياسر،
يبقى صداع للصبح."
أخفى على ابتسامة وهو يتوجه سريعاً للخارج
لجلب قهوة لمديرة ولنفسه.
فحقاً، هذا الياسر مزعج.
❈-❈-❈
الجميع في غرفة الاجتماعات منذ ثلاث عشر دقيقة، والياسر في مكالمة مهمة يبدو أنها ستطول.
اعتذر مساعده للمرة السابعة عشر لتميم قائلاً بتوتر:
"بعتذر بشمهندس تميم،
بس أكيد حضرتك عارف مكالمات مهمة،
لابد منها."
ناظرةً بحدة، أوقفته عن التبرير.
وظل مكانه يرتشف من فنجان القهوة بهدوء،
وهو يرى ياسر يدلف للمكتب ببتسامة مزعجة كشخصه.
وهو يقترب من تميم، يمد يده ليصافحه.
نظر ليده تارة وله تارة،
قبل أن يرد بقلة ذوق وهو يرفع الفنجان مرة أخرى لفمه:
"معلش، إيدي مشغولة.
اتفضل."
قالها بابتسامة صفراء،
وهو يراه يجلس بغضب، أرضاه حقيقة.
وبعد أن شرب القهوة في خمس دقائق ببطء السلحفاة،
وحرق دمه مرة أخرى،
بدأوا الاجتماع.
وبداخله هو يريد أن يبرح ياسر ضرباً مبرحاً لعله يهدأ قليلاً.
لكنه، ورغم عدم حبه لشخصيته، يراه شخصًا ناجحًا، مجتهدًا، ذا عزيمة قوية وشريفة، يشرفه العمل معه دون معاندة.
❈-❈-❈
خرجت من المطبخ تحمل بين يديها كوب الشاي بحليب الساخن وطبق كبير به عدّة شطائر من الفول والفلافل، وهناك أيضاً شرائح البطاطس، ومعهم أيضاً شرائح الباذنجان والفلفل المقلي بخليط شهيّ غريب وحار للغاية،
وبصل، لكن لن تأكل البصل.
وجدتهم صباحاً بالمطبخ.
يبدو أن عمر أحضرهم لها صباحاً وهي نائمة.
وضعتهم من يدها فوق الطاولة،
وأخذت تشمشم فيهم.
حسناً، كانت باردة وبحاجة للتسخين،
لكن لا بأس،
تفي بالغرض.
جلست تمسّد على معدتها برفق.
أصبحت تؤلمها في كل وقت، وأيضاً تعاني من بعض الانتفاخ في بعض الأحيان.
نظرت للشطائر بضيق.
أصبحت ذات معدة حساسة للغاية،
حساسة حقاً ومقرفة.
اختلاف نوعية الطعام أثر عليها بشكل كبير.
هي بالغت في تناول ما لا يجب،
ولا يناسب جسدها ولا نظام حياتها السابق.
هي عاشت عمراً تأكل الطعام الصحي جداً:
مسلوق وخضروات،
ممتنعة عن أبسط الدهون.
والآن تأكل المعبي به،
وأيضاً عندما أعدّت الطعام وضعت سمن،
سمن يا فريدة!
منذ أن تزوجت، تتناول كل ما ينافي هذا.
أصبحت تتألم بشدة من عدم تحملها،
حتى لشرب الماء.
صوت رنين هاتفها أخرجها من أفكارها.
كانت سارة.
فتحت المكالمة وهي تلتقط شطيرة الفول،
وضعت عليها شريحة باذنجان وفلفل كما يفعل عمر لترفعها إلى فمها تلتهما ممهّدة لمعدة الألم القادمة،
وهي تغمغم بفم ممتلئ:
"أرغي،
وأشجيني."
قالتها بثقة من الحديث القادم،
وسينتهي بحظرها إن شاء الله.
❈-❈-❈
وصل إلى المقهى المعتاد له ولأحمد.
يريد أن يريح رأسه لبعض الوقت.
طالت اجتماعات اليوم،
ولم يعد في رأسه مكان أبداً.
يريد شرب أي مشروب دافئ،
وأكل أي شيء يملأ معدته الخاوية.
طلب لنفسه فطائر محشوة وأضاف خضروات وجبن إضافي.
وطلب لأحمد طلبه المعتاد.
جلس يقلب في هاتفه في انتظار أحمد أو الطعام، من يأتي أولاً.
لفت انتباهه الإشعارات المتكررة.
فتحها ليُري ما لفت انتباهه أكثر.
كان طلب صداقة.
لم يهتم للوهلة الأولى،
لكن صورة الحساب جعلته يتسمّر لوهلة.
كانت قريبة قطعه السكر خاصته.
المدعوة "آسيا".
❈-❈-❈
نظر للحساب بفضول فقط لشئ واحد،
ليس لها،
بل لقطعة السكر.
لكن وقبل أن يبحث عن حسابها،
توقفت يداه.
هو ليس هذا الوغد؟
منذ متى يقبل على الآخرين ما لا يقبله على أهل بيته؟
إن أرادها فليذهب ويأخذها من قلب بيتها،
أمام الجميع،
لا أن يراقبها بتلك الطريقة الوقحة.
أغلق الصفحة والهاتف بضيق،
قبل أن يلقيه على الطاولة وهو يرى النادل يقترب منه ليضع الطعام أمامه بابتسامة.
شكره وهو ينظر للفطيرة بسعادة.
صدق من قال إن الطريق لقلب الرجل معدته.
أمسك بقطعة وقبل أن يرفعها إلى فمه،
رأى أحمد يدخل المقهى بملامح عابسة،
يحادث أحدهم، وطبعا كانت خطيبته.
وضع القطعة من يده،
واثقاً أن القادم سيفقده شهيته.
تبا للأصدقاء.
❈-❈-❈
جلس أحمد يتحدث بغضب بعد أن ألقى الهاتف في حقيبته الصغيرة،
وهو يهتف بستياء:
"يلعن أبو الحب يا أخي، عليَّ اللي عايز يحب!"
رفع تميم حاجبه باستهجان،
قبل أن يقول مصححاً:
"اشتم نفسك بس،
مالِكش دعوة بالناس،
مالك يا أخويا،
منكدة عليك ولا إيه؟"
هز رأسه بإرهاق وهو يتمتم:
"منكدة...
ده أنا بقيت أنا والنكد أخوات، أخوات كده.
لو في يوم ما اتخانقناش ببقى عايز أزغرط!"
أفلتت من تميم ضحكة لم يقدر على كبحها،
ليضحك وهو يقول:
"مَنَا قلتلك يا بني،
أنتو مش نافعين،
هي غيرك،
أحلامها غيرك."
حصل إيه؟
إيه سبب النكد المرة دي؟"
زفر أحمد بضيق وهو يخبره بإرهاق:
"متخيل عايزة تشتري فستان الفرح بكام؟
خمسين ألف يا تميم،
والميك أب آرتيست بعشر آلاف،
وطالبة عشرة للتفاصيل الصغيرة.
ولما قلتلها نشوف حاجة أقل يا بنتي،
ده كثير أوي،
فوق طاقتي بجد،
تقولي أنت بتكسر فرحتي.
هو أنا أقل من بنت عمي اللي لبست مش عارف إيه؟
ولا بنت خالي اللي سوت إيه؟
أنا مالي؟
أنا ببنت عمها وبنت خالها؟
أنا ليّا بيا.
هي عارفة إني عينيَّ ليها،
بس مش طبيعي استلف من طوب الأرض عشان فستان هيتلبس كام ساعة
ويتركن في الدولاب.
بجد غلبت
كلام،
ومداديه،
ومحايله!
ويا بنتي يهديكي، يرضيكي!"
أبداً،
أبداً يا تميم!
مُصرة !
وأكمل بضيق:
"أنت مش فاكر عملت إيه وقت التجهيز ولا وقت العفش؟
يا ابني، ده أنا كنت مش بنام الليل عشان أجمع كل قرش،
وأجيب اللي نفسها فيه.
وفي الآخر أنا مش بقدرها ومش بحبها!
بالله عليك ده كلام ناس عاقلة؟
أنا زهقت!"
قالها وهو حقاً يشعر بالضغط.
طالعة تميم بنظرات مشفقة.
خطبة دامت لسنتين من الضغط العصبي والنفسي.
تطالب هي بما يفوق طاقته.
تريد وتريد،
مثل هذه وتلك.
وهو لا يقصر،
يعمل ليل نهار،
وفي النهاية،
هو المقصر بأي حال من الأحوال.
وهو لا يعلم كيف يساعده.
زم شفتيه ناطقاً بما يعلم أنه سيرفضه:
"أحمد،
أنت عارف أني بقول كده مش مجرد كلام.
اسمح لي فستان عروستك يكون هدية مني ليكم."
رفع أحمد رأسه يناظره بحدة،
قبل أن يحمل حقيبته وينتفض من مكانه مقرراً المغادرة.
لتمنعه يد تميم التي أمسكت بمعصمه،
وهو يقول مشدداً:
"أحمد، لو سمحت اقعد!"
نظر له الآخر لعدة ثوانٍ،
قبل أن يلقي حقيبته مرة أخرى جالساً قائلاً بحسم:
"آخر مرة يا تميم،
أنا مش بحكيلك عشان تقولي كده،
عيب يا تميم.
معقول متعرفنيش؟"
رمقه الآخر بغضب وهو يقول:
"شكلك أنت اللي مش عرفني.
أنت عارف أني عارف أنك بتفضفض،
بس قولي لو أنا صاحبك الوحيد مشلتش همك
وشلت عنك،
مين يشيل؟
أنا اللي زعلان يا أحمد.
المفروض أنا أول حد تطلب منه،
مش تروح للأغراب.
أنا أقرب ليك منهم.
أنا صاحبك،
اللي لو طلبت عيني هديهالك وأنا مغمض.
اللي بينا أكبر من صداقة.
أنت أخويا يلا،
قالها وهو يربت على كتفه وهو يكمل:
"أنت زي حسام وأمير عندي،
ويعلم ربنا،
بس أنت مضغوط هتعمل إيه.
يا عم اعتبرهم دين،
ووقت ما تحب وربك ييسر سدد.
ولو أنك عارف رفضي للموضوع،
بس تمام لأجل كرامتك يا أخويا."
قالها ممازحاً.
تنهد أحمد بضيق وهو يقول:
"لا يا تميم،
أنت فاكر أن ده الحل يعني؟
أن كل ما تحتاج حاجة فوق طاقتي
هروح أستلف.
ليه بجد؟
ما هي زيي شايفه الوضع والغلاء.
ليه تيجي عليا؟
لا يا تميم!
أنا خلاص جبت آخِرِى بجد.
ليه أنا بس الطرف اللي بيعافر في العلاقة دي؟
كأني بحب من طرف واحد."
الجملة الاخيرة لامست قلب تميم،
ذكرته بنفسه.
❈-❈-❈
وصل إلى منزله بعد خوض نقاش طويل مع أحمد. هو لا يعلم كيف يساعده، يرفض أي مساعدة، رغم أنه لا يراها هكذا. هو أخوه مثل حسام، كيف يتركه هكذا؟ كيف يطاوعه قلبه؟
دلف إلى المنزل الهادئ، قابل منير وقد كان مغادرًا، ليسأله بهدوء:
"بابا نام يا عم منير؟"
أومأ له الآخر مجيبًا بتأكيد:
"أيوة يا ابني، وأنا همشي اهو. أحطلك العشا قبل ما امشي."
ربت على كتفه وهو يهز رأسه نافيًا، شاكرا إياها.
ليسرع بالصعود والاطمئنان على والده قبل أن يخلد للنوم.
❈-❈-❈
اطمأن عليه، دثره جيدًا وقبل جبينه. كم يعاني ليُرضيه، لكن كيف تلك المرة؟ وقلبه هو المتضرر.
صوت وصول رسالة ظنها من أحمد. أخرج هاتفه وفتحه بلا مبالاة، لتصطدم عيناه برسالة لم تكن من حسام، كانت من اخر من توقع آسيا، قريبة قطعة السكر.
❈-❈-❈
#عريسُ_قيدِ_الرفض
#بينِ_الرفضِ_والقدر
#الفصلُ_العاشر
#عفافُ_شريف
❈-❈-❈
"لحظاتُ الخوفِ التي تهزُّنا، قد تدقُّ الرعبَ في قلوبِ غيرِنا.
خوفُ الفقدان... خوفُ الفراق... خوفٌ يقلبُ الموازين،
ويهزُّ الثباتَ في أعمقِ أعماقِنا.
مرحبًا بالرعبِ في اللحظةِ الأولى،
حين يصبحُ الصمتُ صدى لنبضِ القلوبِ المرتجفة."
❈-❈-❈
خرجت من الغرفةِ تتحدثُ في الهاتفِ متمتمةً بضيقٍ بعباراتٍ غيرِ مفهومةٍ.
تنهدت وهي تستمعُ إليه.
اتصل بها عمرُ منذ قليلٍ مُخبِرًا إياها برغبتهِ
في حلوى من صنعِ يديها.
كأنها الشيف بوراك مثلاً!
ما الجميلُ في صنعِ يديها باللهِ عليه؟
تكادُ تقطعُ يدها ولا تصنعُ الطعام.
نعم، يجبُ أن يمدحَ الشخصُ نفسه،
وأن تُمدحَ في شخصها.
لكن شخصها فاشلٌ في إعدادِ الطعام.
هي لا تريد.
ردت عليه بصوتٍ خافتٍ وهي تسمعُ إصرارهُ الرهيب:
"أوك، تمام، حاضر يا عمر.
سلام.
وأنا كمان."
حسنًا، هو طلبُ نوعٍ معينٍ،
وهي لا تأكله من الأساس.
لا تحبُّ تلك الحلوى
ولا تعرفُ صنعَها.
لكنها مجبرة.
ارتدت حذاءها ومعطفها.
وما إن فتحت الباب حتى اتسعت عيناها
وهي ترى قطةَ الأمسِ
تجلسُ أمام بابها.
كأنها تنتظرُ خروجها.
❈-❈-❈
انفرجت شفتاها بابتسامةٍ رقيقةٍ وهي تراها تقترب منها، تتمسحُ بساقها، تلتفُّ حولها بحبٍ.
انحنت مستندةً إلى ساقيها تُلاعبها برفقٍ وحنان.
كأنها أتت لترسمَ ابتسامةً على شفتاها.
مسَّدت على فرائها بحنانٍ وهي تهمسُ كأنها ستفهمها:
"عاملة إيه النهاردة؟"
وأكملت بلطف:
"والبيبي كمان؟"
ظلت معها لعدةِ دقائقَ تتحدثُ معها
قبل أن تستقيمَ وهي تقول:
"استني هنا، هيجيبلك مية وأجي."
وللمرةِ الثانيةِ، تقفُ في انتظارها.
كأنها حقًا تفهمها.
دلفت إلى المطبخ، أحضرت أحدَ أطباقِ البلاستيكِ،
وضعت الماء لتضعه لها.
بدأت تشربُ بعطشٍ شديدٍ،
ولم تخرجْ رأسها من الطبق
حتى اكتفت.
أهدتها ابتسامةً حنونةً وهي تجلسُ أرضًا بجانبها،
تحملُها على ساقها والأخرى هادئةٌ مسالمةٌ،
تمسدُ عليها.
ببساطةٍ، واضحٌ أنها أحبَّتها.
قبل أن تقول بتفكيرٍ:
"الجو سقعة عليكي.
إيه رأيك نكشف عليكي ونديكي التطعيمات اللازمة الأول
عشان أقدر أتعامل معاكي براحة؟"
بدأت القطة تُخرخر برفقٍ، معبرةً عن رضاها.
قبل أن تقفَ، تنفضُ ملابسها وهي تنظرُ لها بحيرة،
كيف ستأخذها للطبيب؟ هل تتحملها؟
أم ماذا تفعل؟
وقفت تناظر القطة بتفكير،
والأخرى تلتفُّ حول ساقها براحة.
❈-❈-❈
هبطت للأسفل تنظر خلفها كل دقيقةٍ وأخرى.
كانت القطة تسير خلفها ببطءٍ تتبعها أينما ذهبت.
ابتسمت براحةٍ، فهي ليست بحاجةٍ لحملها،
الجميلة لوزة.
ابتسمت وهي تتذكر، لقد أطلقت عليها لوزة.
أعجبها الاسم.
ويناسبها كثيرًا.
فقط كانت صاحبة لونٍ شبيهٍ بلون اللوز، حيث يمتزج البيج الفاتح مع درجاتٍ كريميةٍ ناعمةٍ،
كاللوز الطبيعي، خاصةً عندما يكون ناعمًا وفاتحًا.
وصلت للعيادة، وهناك فحصها الطبيب وأعطاها اللقاحات الضرورية والمناسبة لحملها،
وأيضًا التغذية اللازمة لها.
اشترت لها أيضًا حقيبة نقل لتحملها،
وأيضًا صندوق رمل.
وحملتها وخرجت،
بعدما دفعت مبلغًا وقدرًا من مصروفها الخاص، تقريبًا انتهى المصروف.
ابتسمت براحةٍ، لا يهم،
فقط وجدت من يونس وحدتها ويخفف عنها.
وقبل أن تدلف للبناية،
ضربت جبهتها قائلةً بتذكر:
"Oh my God"
نسيت طلبات الحلويات التي طلبها عمر.
وأسرعت لتحضرها وتركض للمنزل،
فلم يتبقَّ الكثير،
وقد سرقها الوقت برفقة لوزة.
❈-❈-❈
في المطبخ، وقفت تنظر لعبوة الكريم كراميل بتفحصٍ شديدٍ،
تنظر لها تارةً وللوزة الجالسة بجوار ساقها أرضًا تارةً.
حسنًا، الموضوع يتضح أنه سهل،
نضع هذا على ذاك،
وتصبح الحلوى جاهزة.
وضعت عبوة الحليب كاملةً،
وهي تضع بداخلها عبوات المسحوق،
وتمزجها.
نظرت للقوام الخفيف بشكٍ،
قبل أن تضعه بالكاسات الصغيرة،
وتضعهم في الثلاجة.
نظرت لهم برضى،
وهي تفكر بجديةٍ،
أنها صنعت الحلوى قبل أن تصنع الطعام نفسه.
تبا للمسؤولية.
❈-❈-❈
قررت في النهاية أن تطلب من عمر أن يجلب الطعام معه، فهي لا تريد الطبخ،
أو بمعنى أدق، هي لا تعرف.
ولا تحب إهدار المواد،
حرام عليها.
ستأخذ وذر بهذه الطريقة.
ورغم ضيق صوته في البداية،
إلا أنه وافق مُرغمًا.
كما وافقت هي على صناعة الحلوى.
فالحياة مشاركةٌ على كل حال.
تنهدت بابتسامةٍ اختفت وهي ترى حالة المطبخ.
هزت رأسها بيأس،
تنتهي مسؤولية تظهر أخرى.
إنه الزواج يا سادة،
تسع عشرة ألف واجبٍ على عاتق المرأة وحدها،
فقط وحدها.
حسنًا، ليس وحدها، فهو في الخارج أيضًا يحارب لأجلها.
❈-❈-❈
ظل ينظر للإشعار لبضع ثوانٍ.
ماذا تريد منه؟
تجاهل طلبها فأرسلت رسالة.
ما غايتها تلك الآسيا؟
ولماذا تريد التواصل معه؟
هو فعليًا لا يعرفها،
لا يعلم من هي أصلًا.
هي فقط بالنسبة له
قريبة قطعة السكر خاصته.
غير هذا هو لا يعرف،
وللحق حتى لا يريد أن يعرف.
ورغم هذا، فضوله يخبره أن يفتحها
يرى ماذا تريد
ولماذا تصر على محاصرته.
لماذا تبعث له من الأساس؟
ظل ينظر للرسالة في حيرة،
قبل أن يعزم على أنه
يجب أن ينهي تلك المهزلة
وإبعاد الأمر من أمام عينيه.
وبالفعل، حذف رسالتها
وتجاهل وجودها،
محاولًا فقط أن يجد الفرصة
لقاء قطعة السكر.
يريد أن يراها
ويعرف
هل إذا أتى هذه المرة
ستكون الإجابة مختلفة
أم ستكون نفسها هي؟
هل ما زال عالقًا بعقلها
كم علقت هي بلقبه
وتخللت أعماق روحه؟
أم كان لها مجرد عابر سبيل
لم يترك حتى أثرًا؟
وسيكون الرفض
هو الصفعه المؤلمة لقلبه المحب،
وكلمة النهاية لعلاقةٍ حكم عليها قبل أن تأخذ فرصة.
أخرجه من شروده المحتار
صوت مكالمة.
رفع الهاتف أمامه
قبل أن يبتسم براحةٍ، كانت من عزيزته ملك.
أميرة العائلة المدللة
وصديقته الصغيرة،
ابنته
قبل أن تكون شقيقته.
تلك التي تحطم قلبها ولم يُصلح بعد،
لم يُصلح أبدًا.
رد عليها وهو يصيح بسعادةٍ متوجهًا لغرفته
لكي يرتاح:
"يا هلا يا هلا،
أهلاً أهلاً،
بالي نسيني خالص،
صح من لاقي أحبابه.
أيوة يا ستي،
شكله كده أنس خدك مننا.
ماشي أما أشوفه بس،
أنا هوريه."
قهقهت بسعادةٍ وهي تهديه قبلة في الهواء
وهي تقضم تفاحتها
لتقول بعدها بشتياقٍ حقيقي:
"وحشتني قوي يا تيمو.
وحشتني بجد.
لو تعرف وحشتني قد إيه
ونفسي النهاردة قبل بكره
أنط في أول طيارة
أجي وأترمي في حضنك إنت وبابا.
حقيقي الحياة من غيركم مش حلوة أبدًا."
ابتسم لها وهو يقول بشتياق هو الآخر:
"والله وإنتِ أكثر يا لوكه،
وحشتني قوي.
وحشني صوتك."
وأكمل ممازحًا مذكرًا إياها:
"وطلباتكم اللي مبتخلصش.
تيمو هاتلي شوكولا.
تيمو عايزة مارشملو.
تيمو اقنع بابا أسافر مع أصحابي."
ضيقت عيناها وهي تردف بتنمر:
"على أساس كنت بتقنعه قوي،
ده إنت كنت بتصر إنه يرفض أكثر.
إنت أخ مش جدع."
أرجع رأسه للخلف يضحك بقوة
متذكرًا تلك الأيام.
آه كم اشتاق لها.
كم اشتاق لتجمعهم.
كانت جلسة
في حد ذاتها تحمل لقلبه الكثير.
كانت أجمل الأيام
ولن تعوضها أيام
أبدًا.
تنهد وهو يمزحها قائلاً:
"قوليلي بقى،
عامل إيه قلب خالو من جوه؟
طمِّنيني على الشقي ده."
قالها وهو يشير على بطنها الذي بدأ في الظهور حديثًا.
اختفت ابتسامتها وهي تمسد على بطنها بحب وخوف دائم يلازمها بشدة:
"بخير الحمد لله.
دعواتك يا تميم."
ابتلع تلك الغصة المرّة بحلقه
وهو يدعو من كل قلبه مرددًا بصدق:
"هتقومي بالسلامة إنتِ وهو إن شاء الله.
ثقي في الله بس، أهم حاجة
ما تشيليش الهم.
إحنا كلنا لله، وربك هيدبرها.
قوليلي طمّني عن صحتك، أخبار الحمل إيه؟
بتابعي من الدكتور وملتزمة باللي بيقوله؟"
أومأت بابتسامة مهزوزة،
قبل أن تخبره مرةً أخرى:
"ادعيلي كثير يا تميم.
ادعيلي لو سمحت، ربنا يتمم على خير."
وأخذته في حضني
أشم ريحته.
نفسي قوي يا تميم.
يا رب."
اهتزت ابتسامته لوهلة،
كأنه يرغب في ضمها إلى أحضانه
مربتًا على قلبها المتهالك
قبل
أن يهديها ابتسامةً واثقةً وهو يقول:
"أنا واثق إنك هتبقي بخير،
وهو هيكون بخير.
والسنة دي لما تنزلي إنتِ وأنس مصر
هتكونوا ثلاثةً إن شاء الله.
ثلاثة بإذن الله.
ثقي في ده،
والأهم ثقي في الله."
ابتلعت دموعها وهي تردد برجاء:
"يا رب يا رب يا تميم."
وظل طوال المكالمة
يضحكها ويحكي لها مواقفه مع شيقتهم آلاء.
حاول أن يخرجها من تلك الحالة.
حاول أن يرسم ضحكةً جميلةً تناسب وجهها.
هو يحاول دائمًا.
لكن المشكلة هنا
أن خوف ملك
كان أكبر من كل تلك المحاولات.
مهما حاولوا،
كانت خائفةً.
خائفةً بحق.
❈-❈-❈
أغلقت مع تميم وتحركت بحرص شديد للغاية.
حرص هي حتى لا تحتاجه، ليس لتلك الدرجة.
الحرص واجب كما أخبرها الطبيب، لكن المبالغة قاتلة للمرأة،
تقتلها حيّة، تجعلها ترجف بكل وهلة، متوقعة الأسوأ دائمًا.
أغلقت أضواء الشقة وتوجهت نحو غرفة واحدة، الأقرب والأوجع لقلبها.
وضعت يدها على المقبض، لا تريد أن تدخل، وتريد من كل قلبها أن تظل هناك.
فتحته ووقفت لعدة لحظات في الظلام، قبل أن تضيء الضوء.
تنظر لكل شبر بتلك الغرفة، لا تحتاج النظر، فهي تحفظها عن ظهر قلب.
جهزتها على مدار أشهر، خطوة خطوة، وقطعة قطعة، بطريقة مهوسة.
كانت تختار كل شيء بعناية فائقة، تعد اللحظات لتلك اللحظة،
أن تحمل طفلها، ثمرة حبها وإنس، تضمه لصدرها، تعطيه كل حنانها.
ذاك الذي زرعته أمها فيهم جميعًا، وحان موعد الولادة.
وقبل أن تضمه هي، ضمه التراب، توفي قبل أن تأخذه في أحضانها.
ولن تنسى أبدًا تلك اللحظة البشعة، وهي تمسك بين يديها جسد ابنها المتوفي.
تبكي وتبكي حتى سقطت مغشيًا عليها.
شهران كانت صامتة ساكنة، أتى الجميع وظل بجوارها، لم يتركوها لحظة.
تميم، حسام، أمير، حتى آلاء بأطفالها، لم يتركها أحد.
لن تنسى أول من أخذها بين أحضانه، كان تميم.
ضمها ولم يسمح لغيره، حتى غفت بين ذراعيه وهي تستمع إلى صوت القرآن يتلو عليها بحنان.
ترك كل شيء لأجلها، كان أول الحاضرين وآخر الراحلين.
لكنها لم تعد كما كانت منذ تلك اللحظة.
وبإصرار شديد حملت مرة أخرى.
رفض إنس، أخبرها أنه ببساطة يرفض أن تضع نفسها في هذا الوضع مرة أخرى.
لكنها تمردت، أرادت عوضًا لطفلها رغم أنها تعلم أنه لا عوض له.
أرادت آخر تضمه لصدرها، ويتغذى بحليبها، آخر تخشى عليه قبل أن تحمل به.
والآن تعيش بجحيم في كل لحظة، كل لحظة خوف ورعب من أن تفقده.
بكل دقيقة تتلمس بطنها، كأنها تطمئن أنه ما زال هنا.
تنهدت بألم وهي تقترب من فراشه المبطن، تتلمس وسادته الصغيرة.
غطاء الفراش الناعم، الألعاب والدببة المحشوة.
اقتربت من واحد فقط، كانت تحفظه بعيدًا عنهم جميعًا.
كان خاصًا به، كان معها طوال فترة الحمل، وكان معها يوم مولده ويوم غادر الحياة قبل أن يحياها.
❈-❈-❈
دَلفَ لمنزله بعد يوم عملٍ شاق وطويل.
ظلمة الشقة أخبرته أين يجدها.
تقريبًا كل يوم يأتي بها من هناك.
غرفة طفلهم.
تشعره أحيانًا أنه لم يتألم، وكم هذا يؤلمه.
لكن يعلم كم هي تتألم فيقدر ويصمت.
تحرك نحو الغرفة ووقف ببابها.
كانت تبكي تحتضن دبَّ صغيرهم المحشو.
تضمه بقوة.
اقترب منها ضمها بقوة.
ضمهم معًا.
وكان طفلهم يشاركهم اللحظة.
لتنتفض تنظر له بعيون حمراء منتفخة.
وهي تردد بقهر: "وحشني أوي يا أنس.
وحشني أوي وكان نفسي أخده جوه حضني."
رفع يده يمسح دموعها وهو يضمها هامسًا بأذنها:
"مينفعش يا ملك.
مينفعش اللي بتعمليه ده.
فين إيمانك بربنا؟
فين رضاكي؟
مينفعش صدقيني.
استودعيه عند الله.
صدقيني، إنتي بس محتاجة تصبري.
وتحتسبي صبرك خير.
عشان خاطري يا ملك.
متعمليش كده لو سمحتي.
عشان خاطري."
قالها وهو يضمها إلى صدره.
وصوت بكائها يعلو أكثر،
وألمها لا ينضب.
❈-❈-❈
عاد إلى منزله يحمل العديد من الأغراض بين يديه.
كان يوم عمل شاق، لكن يهون لأجلهم.
تأكد من كل شيء في القائمة، تلك القائمة الطويلة التي طلبتها زوجته،
وعاد محملاً بها لها وللصغيرة.
دق الجرس بكتفه وهو لا يجد مكانًا بيديه ليطرق به،
لكن مرة بعد مرة، ولم تفتح.
زم شفتيه بغيظ وهو يضع ما بيده أرضًا،
وهو يخرج المفتاح ليفتح الباب،
ليختفي عبوسه ويحّل محله ابتسامة مشرقة
وهو يقابل ذلك الملاك الصغير
التي ما إن رأته حتى حاولت الوقوف وهي تصفق بيدها بحماس شديد،
مرحبة به بسعادة،
قبل أن تحبو بسرعة لكي تصل له.
وضع ما بيده أرضًا
وهو يغلق الباب،
ينتشلها، يحملها وهو يغرق وجهها قبلات
ويردد بشوق: إلى وحشني خالص،
وحشني حبيب بابا يناس.
أصدرت عدة أصوات حماسية
وهي تمرمغ وجهها بصدره ورقبته،
تلك الصغيرة التي تحتل قلبه كل يوم أكثر من ذي قبل.
ظهورته الغالية،
وشمس تنير حياته.
لم يُخطئ حينما أسماها شمس،
شمسه المضيئة الغالية،
قطعة من قلبه بل كل قلبه.
رفعها في الهواء
يقذفها عدة مرات،
والأخرى لا تبخل عليه أبدًا
وتهديه أجمل الابتسامات.
وضحكاتها تعم المكان،
تزهره وتنيره.
صوتها في حياته
يريح قلبه وعقله من أي شيء.
يكفيه أن يعود فيجدها في استقباله.
ضمها إلى صدره وهو يقبل وجنتها الشبيهة بقطعة الخطمي سائلاً إياها:
فين ماما يا شمسي؟
أصدرت بعض أصوات وهي تتهته،
ما ما وتشير بيدها بكل مكان،
قبل أن تحط على وجهه.
أزاح يدها وهو يدعي أنه سيأكلها،
لتصرخ باكية بين لحظة والأخرى،
ليضمها إلى صدره نادمًا،
مربتًا على ظهرها برفق
لعلها ترضي وتضحك له من جديد.
وبعد بعض الوقت،
غفت بين ذراعيه،
بعد أن أضحكها حتى ضربته على وجهه
كف خماسي كعادتها.
حسنًا، يستحق.
دثرها جيدًا
وأحكم الغطاء عليها،
فهي كامها تمامًا
تنام بعرض السرير
وتلقيه من عليها كل خمس دقائق.
ومهمته في هذا البيت
أن يعيد عليهم الغطاء.
ضحك يائسًا
وهو يشعل مصباحها الملون الصغير،
فصغيرته لا تنام سوى به.
وضع معها أرنبها الخاص،
وأيضًا تأكد أن صوت القرآن يعم الغرفة بهدوء.
وأخيرًا،
خرج بهدوء شديد،
تاركا الباب غير مغلق
لكي لا تخاف صغيرته.
والتفت يبحث عن الأخرى،
فهو هنا منذ نصف ساعة
والمبجلة زوجته
لم تعره اهتمامًا.
فليرى أين هي،
تلك الحورية التي أهديته شمسه المضيئة،
حور قلبه.
❈-❈-❈
كانت بحوض الاستحمام تستحم.
هي تعلم أنه هنا.
بمجرد أن رأت سيارته، سارعت بتحضير ملابسها لتستحم أخيرًا.
فليجلس هو مع ابنته قليلاً، ولتستريح هي حتى تنتهي وتأخذ وقتها.
وبعد أن انتهت، ارتدت مازرها متوجهة سريعًا لخزانتها لتخرج أحد منامتها المريحة.
وقبل أن تفعل هذا، قاطعها صوت رنين هاتفها بنغمة خصصتها لأمها.
أجابتها بابتسامة: "إزايك يا ماما؟ وحشتني."
"أنتي كمان."
"الحمد لله. شمس كويسة، وحسام كمان."
"لا، مش جنبي. قاعد مع شمس بره لحد ما أخد شاور وأخرج."
"في حاجة ولا إيه؟"
ظلت أمها تتحدث، وهي تستمع لها وتحاول أن تفهم ما تقول.
لتردف بعدها: "طيب ومالها الشقة اللي إحنا قاعدين فيها؟"
أجابتها أمها بتأكيد: "الشقة دي أكبر وأوسع. بكرة إن شاء الله لما تخلفي تاني، شقتك الصغيرة دي مش هتنفع. وجوزك مش قليل. أنا مش فاهمة سايب عز أبوه ده كله، وشغال في الشركة الصغيرة دي ليه؟ ده بدل ما ينزل يقف جنب أبوه ويعيش في خيره. يا حور فكري في نفسك وبنتك. جوزك مش بيفكر خالص. وثم، إنتي محتاجة تجيبي غسالة أطباق."
حركت رأسها بتردد، وهي تقول: "إنتي عارفة حسام مش مقصر خالص معانا. بالعكس يا ماما. بس إنتي عارفة هو حابب يعتمد على نفسه. مش حابب أبدًا ياخد أي فلوس من عمو مدحت."
قاطعها أمها بحدة: "ليه إن شاء الله؟ وثم ده حقك وحق بنتك. اسمعي مني. فاتحيه في موضوع الشقة ده. وكمان إنتي مش قلتلي إن في خاتم عجبك أوي وإنتي عند الجواهرجي الشهر اللي فات؟"
هزت الأخرى رأسها كأنها تراها، وهي تجيب بتلعثم: "أيوة بس ده ماس يا ماما، وغالي أوي."
أكدت أمها بثقة: "الغالي يرخصلك. جوزك مش شوية. اطلبي إنتي وجمدي قلبك. المفروض تشيلي فلوس على جنب تنفعك. إنتي طالعة خايفة كده لمين؟ يا بنتي، محدش مضمون. خدي منه وزيادة. وزي ما فهمتك، ارجعي احملي بسرعة، اربطيه بعيال. جوزك يا حبيبتي ألف واحدة هتلف عليه عشان تتجوزه. فالحقي هاتي كام عيل يتلخم فيهم. وواعي تنسي. متسيبش معاه فلوس خالص أول بأول."
"ماشي يا حور، سمعاني؟ يلا أنا هقفل عشان أبوكي بينادي. سلام."
قالتها وأغلقت الخط.
والأخرى محلها تجلس بتشوش، لا تعلم ماذا تفعل.
أقوال أمها تنافي ما تحياه مع حسام.
نصائح أمها تفتعل الكثير من المشاكل.
هي تعلم، لكن كيف لها إلا تسير على خطاها؟
فعلتها أختها ورفضت أن تسير على خطاها، وتطلقت.
وهي تعشق حسام، ولا تريد الطلاق أبدًا.
أفزعها يد حسام التي وضعت على ذراعها وهو يقول بقلق: "حور، إنتي كويسة؟ مال وشك مخطوف كده؟ في حاجة حصلت ولا إيه؟"
ونظر للهاتف وقلقه يزداد ليقول بسرعة، وهو يخرج هاتفه: "إنتي كنتي بتكلمي مين؟ حد حصله حاجة؟ حد من البيت عندنا حصله حاجة؟"
أوقفته يدها وهي تمسك الهاتف قائلة بهدوء: "لا حبيبي، دي ماما. الكل بخير الحمد لله. أنا بس دوخت فقعدت على السرير."
زفر براحة وهو يربت على يدها، قبل أن يتوجه للخزانة ليخرج ملابس نظيفة ليستحم هو الآخر.
لكن توقفت يداها وهو يستمع إلى حور التي هتفت بسرعة وتهور: "حسام، أنا عايزة أخلف تاني."
تجمد في مكانه لوهلة، قبل أن يلتفت لها وهو يقترب قائلًا باستغراب: "نخلف تاني؟ غريبة. أنا فتحتك في الموضوع ده من شهر، وإنتي رفضتي جامد. وقلتي إنك مش ملاحقة على شمس، ومش مستعدة دلوقتي. والمشكلة حصلت بينا وقتها. إيه اللي اتغير في الشهر ده؟"
حركت يدها تمسح على مؤخرة رأسها تردد بتلعثم: "أه، بس عشان يكونوا ورا بعض، وحور متبقاش لوحدها. مش ده كان كلامك؟"
قطب حاجبيه وهو يقول بحيرة: "فجأة كده؟ غريبة برضو. إيه اللي جد؟"
قالها بإصرار، وهو يقترب منها أكثر.
أخفضت رأسها بتوتر، ليقترب أكثر وهو يرفع رأسها سائلا بشك: "في حد كلمك في الموضوع ده؟"
هزت رأسها نافية.
ليهز رأسه هو مؤكدًا: "لا، لا. أنا متأكد إن حد كلمك."
أصدر صوتًا ساخرًا وهو يبتعد عنها مرددًا بتأكيد: "مامتك صح."
صمتت تنظر له بتوتر، ليصيح بعصبية: "ردي يا حور! صح؟ ثاني يا حور! ثاني!"
"لا، لا. أنا تعبت بجد. تعبت من الكلام ليل نهار. أقولك أهلك وأهلنا بره حياتنا، بره قراراتنا. كفاية تدخلات! من وقت الخطوبة قلتلك أهلك وأهلي على عيني وعلى راسي، بس بره حياتنا. مامتك تتدخل في قرار زي ده ليه أصلاً؟ يعني أنا أكلمك، أطلب منك نخلف تاني، ترفضي. ولما مامتك تقولك، تجري تقوليلي. إيه المنطق ده؟"
واقترب منها يرفع يده يصيح بانفعال: "أنا قلتلك بدل المرة عشرة، وإنتي مصرة. إنتي عايزة توصلي لإيه يا حور؟ ها؟ قوليلي."
صمت لوهلة قبل أن يكمل بتأكيد: "آخر الطريق ده نار مش هتستحمليها. واعرفي إنك السبب في اللي بيحصل ده. والنتيجة هتتحمليها لوحدك."
قالها وخرج من الغرفة بل من المنزل بأكمله، غاضبًا وناقمًا على أفعالها.
لتجلس هي على الفراش بذهول من ثورته.
ثورة هي السبب فيها.
❈-❈-❈
ظلَّ يجوب بالسيارة لمدَّةٍ لا يعلمها،
يريد أن يبتعد،
هي تصنع الحواجز والمشاكل،
ويجب عليه أن يكون هادئًا متقبِّلاً.
كيف هذا؟
كيف يفعل هذا أصلًا؟
كيف لها أن تضع أمَّها بينهم؟
كيف لها أن تناقشها في أدقِّ أمور حياتهم؟
تستمع لها أكثر مما تستمتع له،
كأنه غير مرئيٍّ بالمرة.
هو زوجها،
تستثنيه،
وأمُّها تتدخل بطريقةٍ بشعة،
تجعله يكاد يجنُّ.
ماذا يفعل؟
زفر بضيقٍ وهو ينظر للسَّاعة،
وهو يفكر: من المؤكَّد أنها نامت.
ابتسم ساخرًا،
هي أصلاً لا تنتظره أبدًا.
تنتهي خلافاتهم دون نقاش،
فقط خلاف،
وفي اليوم التالي كان شيءٌ لم يكن،
يتظاهر كلاهما أن الأمور على ما يرام،
وكلُّ شيءٍ فاسد.
وبداخلها يتراكم،
وسيظل السؤال الأكثر رعبًا:
إلى متى؟
❈-❈-❈
دلف للمنزل بضيق يحتل صدره.
رفع عينيه ليجدها تجلس على المقعد مقابل للباب، كأنها في انتظاره.
انتفضت ما أن رأته.
ناظرها بدهشة لانتظارها، ليجدها تنطلق بسرعة لتلقي نفسها بين أحضانه.
وقف لدقيقة، قبل أن يرفع يديه ليضمها إلى صدره.
حور، حوريته، حبيبته وأم ابنته.
كيف له أن يغضب منها؟
وعشقها بقلبه لا مفر منه إلا إليه.
ضمها إلى قلبه، وهي تردد بأسف:
"أنا آسفة يا حبيبي، سامحيني، أنا آسفة."
قالتها وهي تضمه أكثر، تعتذر.
وبداخله، هو لا يريد اعتذارها.
هو يريد أن تتغير.
❈-❈-❈
بغرفة آسيا
رمت الهاتف بغضب على الفراش.
تجاهل رسائلها.
كيف له أن يفعل هذا؟
تراه متفاعلًا، بل نشر أيضًا صورة تخصه وأخواته.
لم يحظرها، لكن أيضًا تجاهلها.
ماذا يعني هذا؟
أهي لعبة قط وفأر؟
لماذا تجاهلها؟
ألم تعجبه؟
قفزت من على فراشها، تقترب من المرآة، وتنظر لنفسها بغرور.
تمسك بخصلة من خصلاتها وتتلاعب بها.
أهناك من هي أجمل منها؟
لا يوجد.
هي الأجمل، والأرقى.
هي تثق في نفسها، في جمالها، وفي جاذبيتها.
أفاقت على صوت دق على الباب.
التفتت، تناظر عمتها وهي تدلف للغرفة تحمل لها أحد الأكواب.
وهي تقترب منها تعطيها إياه قائلا بحنان:
"خليتهم يعملولك هوت شوكليت، عارفة إنك بتحبيه."
أخذته منها قبل أن تهديها قبلة على وجنتها، قبل أن تقودها صفيه للفراش.
جلست عليها وأجلستها بجانبها، تضمها إلى صدرها وهي تخبرها أن تحكي لها أكثر عما كانت تفعل بدونها.
وآسيا تحادثها بعقل شارد، عقل مع الهاتف الملقي عند قدميها.
تميم لها.
ستحصل عليه، مهما كلفها هذا.
❈-❈-❈
وصل عمر للمنزل لتستقبله فريدة ببسمتها المقربة لقلبه.
ضمها إليه وهو يعطيها الطعام لتحضره، وأسرع يدلف للحمام يأخذ حمامًا سريعًا.
ويرتدي ملابس نظيفة.
توجه بإرهاق وهو يغمض عينيه ويفركها بتعب، نحو الأريكة.
قبل أن يلقي بنفسه عليها بإرهاق.
عده ثوانٍ قبل أن يستمع إلى صوت غريب بجانبه، جعله يلف رأسه ببطء شديد للناحية الأخرى.
قبل أن تتسع عيناه بشدة، وهو يرى أمامه قطًا كبيرًا.
يجلس براحة شديدة على أريكته، كأنها في بيتها.
ولم تكن فريدة تعلم أنه لا يطيق القطط.
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
تعليقات
إرسال تعليق