رواية غناء الروح الفصل الخامس عشر 15بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الخامس عشر 15بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
غناء الروح
الفصل الخامس عشر.
نقطة تحول: إما أن تكون المؤثر الحقيقي في حياتك، أو تظل تابعًا لقرارات الآخرين!
ظل "يزن" يجوب الطرقات بسيارته وعقله شاردًا فيما حدث الليلة، ولأول مرة، يشعر بضجيج عارم يخترق كيانه، فلم يستطع تمييز ما يريده وسبب غضبه.
إهانة "سليم" له أمام عائلته كانت السبب الرئيسي في كسر خاطره، أوقف سيارته في طريقٍ هادئ وأرجع رأسه للخلف، غارقًا في تفكير عميق في حديث سليم الليلة وقراراته المصيرية التي أصدرها وكأنه الحاكم الفعلي في حياة الآخرين.
عاد برأسه إلى الزجاج بجانبه وشرد بـ"سيرا" لدرجة أن صورتها تجسدت أمامه على زجاج سيارته، حرك رأسه نفيًا، رافضًا ما تؤول إليه أفكاره في الفترة الأخيرة منذ معرفته بها، لقد تبدلت حياته كليًا وأصبح تابعًا لها، منتظرًا كالشحاذ أن تمنحه الفرصة ليتعرف عليها أكثر.
مط شفتيه بضيق، مجاهدًا التفكير في أمر ينجو به من قرارات "سليم" الصارمة، والتي يعلم جيدًا أنه سيظل يحارب حتى يخضع له، وهذا لن يحدث! فإن تعلق الأمر بقلبه وحياته، فلا تهاون ولا خضوع.
ارتفع رنين هاتفه باستمرار، فنظر بجانبه بضيق، حتى وجد اسم "أبلة حكمت" يتلألأ في وسط الشاشة، رفع الهاتف وأجاب على الفور.
-الو.
-ازيك يا يزن اخبارك؟
ابتسم بلطف لهذه المرأة والتي تنافس أختها في غرابتها:
-الحمد لله بخير.
-بقولك، أنا عشمانة فيك، تيجي بكرة تقابلني أنا والحاج صافي جوزي، أصل في عربية واحد صاحبه عايز يدبسه فيها وهو مُصر يشتريها وأنا عايزاك تشوفها وتقولنا رأيك.
صمت قليلاً وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بيأس، ولكنه أجاب بهدوء ولطف:
-بصي هو أنا ماليش في الجو ده، بس تمام هاجي عشان خاطرك!
-والله أنا قولت ما ليا غير يزن، تسلم، خلاص هخلي سيرا اختي تبعتلك العنوان على الواتس، عشان أنا ماليش في الحوارات دي.
فرك وجهه بيده عندما ذكرت اسمها، الذي يحاول جاهدًا نسيانه، فيبدو أن الحياة تصر على جمعهما معًا.
-تمام، مع السلامة.
أغلق الهاتف والقاه جانبًا، ثم قاد السيارة مرة أخرى وظل يجوب بلا هدف، مقررًا عدم العودة للمنزل الليلة.
****
في منزل "سيرا"
عادت "سيرا" من الخارج مرهقة، والنوم يداعب جفنيها بعد إرهاق طويل في عملها، ثم التقت بفاطمة وذهبتا للتسوق في إحدى المولات الشهيرة حتى عادت تجر قدميها كالعجوز، وكل ما تتمناه هو رؤية فراشها والاستمتاع بحمام ساخن ونومة هنيئة بعيدة عن ضجيج الصغار المستمر حتى آذان الفجر!
استطاعت الفرار من التجمع العائلي في الصالة متحججة بحاجتها للنوم، وما إن دخلت غرفتها حتى وجدت ابن أختها يغفو فوق فراشها في سبات عميق، زمت شفتيها بضيق لوجوده نظرًا لصغر حجم الفراش، ولكنها لم ترد إيقاظه، فقررت أن تأخذ ثيابها وتأخذ حمامًا دافئًا يريح جسدها، لكنها وجدت دورة المياه مشغولة، فطرقت على الباب عدة مرات حتى ظهر صوت ابنة أختها "كريمة" تقول بصوت خفيض ومتألم:
-معلش يا خالتو، أنا بطني واجعني اوي، مش عارفة اخرج.
-خلاص يا حبيبة خالتو براحتك، بس اوعي تنسي زي كل مرة وتنامي في الحمام.
قالتها "سيرا" بتهكم طفيف، ثم جرت قدميها بإحباط نحو غرفتها، وأبدلت ثيابها وذهبت بجانب الصغير لتستلقي بجانبه، لكنها شعرت بأن الفراش مبتل ورائحة شاذة تفوح منه، أبعدت الغطاء حتى وجدت ما لم تتمناه أبدًا، الصغير نائم باستغراق لدرجة أنه قضى حاجته على الفراش ولم يشعر!
كانت صدمتها كبيرة، نابعة من إرهاق تغلغل في كل خلايا جسدها، إلى جانب اقتحام دائم لخصوصيتها، بداية من فراشها إلى ثيابها إلى أبسط الأشياء التي أصبحت مباحة للجميع، نادت على والدتها بصوت مختنق حتى جاءت إليها باستفهام، فلم تتفوه بحرف وأشارت نحو الصغير بغضب مكتوم، ظهر على ملامحها وعينيها التي بدأت الدموع تتجمع بهما، فوضعت والدتها يدها على فمها قائلة:
-يالهوي مين نيم بودي على سريرك!
رأت والدتها الدموع المتجمعة في مقلتيها، فمسحت على كتفيها قائلة بحنو:
-معلش يا سيرا تلاقي الواد اللي نام منه لنفسه أو شاهندا مالقتش مكان جوه في اوضتها نيمته هنا، حقك عليا، أنا هغسلك المرتبة واظبطهالك واحطهالك في الشمس تتشمس هتبقى فلة.
انفجرت باكية بتعب وحزن خالط صوتها:
-أنا راجعة تعبانة وكنت نفسي ارتاح شوية، هانام فين والاوض كلها مشغولة ومينفعش انام في الصالة وانتوا قاعدين فيها واوضة عبود وقاسم كفاية عليهم، أنام على الارض!
احتضنتها والدتها بحب، متفهمة أن تلك الدموع نابعة من ضغط نفسي تعاني منه ابنتها الصغرى نظرًا لاقتحام خصوصيتها المستمر:
-معلش حقك عليا، اخواتك يا حبيبتي ولازم نستحملهم، يعني نسيبهم في ظروفهم الصعبة دي ومانقفش جنبهم، ما هو بكرة لما تتجوزي لازم نقف جنبك بردو وده واجبنا...
قاطعتها "سيرا" باختناق وهي تقول ببكاء:
-لا مش عايزة اتجوز، أنا مش عايزة اتجوز وابقى كده.
عضت والدتها على شفتيها بعتاب وهي تردف بصوت خفيض كي لا يسمعها أحد:
-ماتقوليش كده لاحسن حد من اخواتك يسمعك ويزعلوا منك، هما مش ذنبهم يا حبيبتي إن الدنيا زنقت معاهم حبتين، واخواتك بنات أصول عايشين على الحلوة والمرة مع اجوازاتهم واحنا دورنا اننا نساعدهم، هو انتي متضايقة إن اخواتك قاعدين معانا في البيت؟!
-مش متضايقة يا ماما ده بيتهم بردو، بس أنا مش عارفة اخد راحتي في أي حاجة، وزي ما انتي شايفة ابسط حاجة بعد يوم طويل في الشغل ارجع الاقي السرير كده!
ونظرت إلى فراشها بحسرة، فردت والدتها بضيق ممزوج بالعتاب:
-انتي اللي عايزة تشتغلي، بابكي قالك اقعدي وهو يديلك مصروفك وانتي اللي قولتي لا.
رفعت "سيرا" عينيها باستنكار، ظهر أيضًا في صوتها:
-ازاي يا ماما وانا شايفة بعيني الضغط اللي عليكوا انتي وبابا والمصاريف الكتيرة، أنا كمان هبقى عبأ عليكوا، كفاية اللي انتوا فيه.
وقبل أن تتفوه والدتها بحرف آخر، نطقت بصوت مجهد تختصر عليها أي محاولات لإقناعها بشيء هي لن تقتنع به، طالما سيظل الوضع كما هو عليه!
-دلوقتي أنا هموت وأنام هعمل أيه؟
-انزلي نامي عند حكمت، وانا هتصلك عليها.
فتحت عينيها بصعوبة تجاهد ستائر النوم المسدلة على جفنيها، فقالت بنبرة خاملة:
-ماشي قوليلها بقى، أصل أنا احتمال أنام على السلم من كتر التعب.
-طيب انزليلها وانا هفهمها الوضع!
***
فتحت "حكمت" باب شقتها لسيرا التي كانت تقف مغمضة عينيها من شدة تعبها، فأدخلتها وهي تقول بتبرم:
-انتي يا بت مازعقتيش لشاهندا ليه وهي تنيم ابنها على سريرك ليه؟
توقفت "سيرا" وهي تقول بتعجب:
-هزعقلها يا أبلة، شاهندا أكبر مني وبعدين ده عيل صغير أكيد مش دريان بنفسه.
-امال تاكلي في نفسك يا عبيطة وتفضلي تعيطي زي الهبلة، امك حكت لي، الصبح يطلع بس وأنا هديهم كلمتين الهوانم اللي قاعدين عند أبوهم ومسهلين الدنيا لجوازاتهم.
وضعت "سيرا" يدها فوق صدرها تردف برجاء:
-لا يا أبلة بلاش عشان مايزعلوش وفي الآخر بابا هيزعل منك، وهيقولوا إن أنا اشتكيت.
توسعت أعين "حكمت" باستنكار:
-انتي عايزاني اكتم في نفسي زيك، لا ده أنا هموت فيها، أنا اقول اللي أنا عايزاه واللي يحصل يحصل ياختي.
حسنًا، المشاكل قادمة لا محالة، وهي الآن ترحب بأي شيء في سبيل أن تقتنص نومه هنيئة ينعم به جسدها المرهق.
-ماشي يا أبلة اللي انتي شايفاه، انام فين عشان تعبانة؟
سارت معها "حكمت" صوب إحدى الغرف وهي تثرثر كعادتها وابتسامة واسعة تحتل ثغرها:
-جايلك عريس.
جلست "سيرا" على الفراش وهي تشير نحو نفسها بعدم اهتمام:
-أنا!
جلست "أبلة حكمت" بجانبها، وهي تردف بحماس:
-اه عارفة فايق جارنا، اخته كلمتني وهتموت عليكي وأنا قولت لبابا.
توسعت عينيها بصدمة بالغة، فزحف الحنق لصوتها:
-أيه، ليه كده يا أبلة، هو أنا مش قولتلك إن أنا مش عايزاه!
عقدت "أبلة حكمت" ما بين حاجبيها بضيق وأبرزت عدم اهتمامها برأي سيرا رغم أنها صاحبة الشأن:
-اسكتي يا بت انتي هبلة ولا فاهمة فين مصلحتك.
رمشت "سيرا" بعدم فهم مستهجنة بكل قوتها:
-مصلحتي تبقى مع فايق ازاي؟! ده واحد مدمن خمرة يا أبلة!
أشارت "أبلة حكمت" بلا مبالاة مقتنعة برأيها:
-أنا مابصدقش طالما ماشوفتش بعنيا.
فركت "سيرا" وجهها ضيق وهي تتلفظ بحروفها الحانقة:
-وهتشوفي ازاي يا ابلة الحاجات دي بتتعرف عن طريق الشباب وجوز فريال، ابيه "كمال" قالي....
قاطعتها "حكمت" بتجاهل وهي تصر على رأيها برعونة، وهذا ما استفز "سيرا":
-لا بقولك أيه أنا مابعتمدش الكلام من جوز فريال، أنا بعتمد إن الواد شاريكي وهيموت عليكي واخته قالتلي الشبكة اللي هي عايزاها والشقة والفرش كمان هتعوزي أيه تاني! وانا هبقى افهم بابا يطلب مهر عالي...
-يا أبلة ده كله مايهمنيش، هعمل بيهم لما يكون بجد مدمن؟!
هدأت نبرة "حكمت" وحاولت التحدث بلين علها تقنعها وتتم الزيجة المناسبة من وجهة نظرها:
-يا بت ده طيش شباب وهيروح لحاله اول ما يتجوز، أنا اعرف ناس كتير كانت كده وحالهم اتعدلت.
برز سلاح الرفض بعيني "سيرا" وهي تقول بإصرار:
-لا يا أبلة انا استحالة اوافق على فايق ده.
ضيقت "حكمت" عينيها بخبث وهي تسألها بنبرة غامضة:
-في حد في حياتك؟!
بلعت "سيرا" ريقها وأردفت ببرود ظاهري، تخفي داخلها إعجابها بيزن المتزايد لدرجة أن فؤادها فقد السيطرة على دقاته كلما قيل اسمه، أو قابلها لمجرد الصدفة:
-أنا لا خالص، أنا مابفكرش في الحاجات دي.
ابتسمت "حكمت" بمكر وهي ترواغها:
-اهو اللي بيقول مابيفكرش ده بيبقى بيفكر، المهم الرأي الاول والأخير اصلاً لبابا، بصي بقى عشان عايزاكي تعلميني ابعت العنوان لحد على الواتس.
كتمت "سيرا" اعتراضها وقالت برجاء:
-طيب ممكن بكرة، هموت وانام.
صاحت "أبلة حكمت" باعتراض توسعت لأجله عيني "سيرا" التي كانت تمسك بقنينة المياه بجانبها وتتجرع منها القليل:
-لا طبعا حالاً، ماينفعش اتأخر على يزن.
وعندما تفوهت باسم "يزن" اندفعت المياه من فم سيرا اندفاعًا قويًا يصاحبه شهقة قوية أدت إلى سعالها، فقالت "حكمت" باشمئزاز:
-الله يقرفك، شرقتي ولا أيه؟!
مسحت "سيرا" فمها وهي تحاول تنظيم أنفاسها المختنقة، فظهر صوتها متحشرج وهي تسأل بهدوء زائف:
-سيبك مني أنا، المهم يزن مين؟!
ضربتها "حكمت" فوق ساقها بخفة وهي تبتسم باتساع:
-يزن الشعراوي، أيه نسيته؟!
-وده انساه ازاي بس، طيب هو انتي عايزاه في أيه؟
قالت معظم حديثها بنبرة خافتة للغاية، ثم رفعت نبرتها تسأل بفضول يقطر منه القلق، فأجابت "حكمت" بخبث وحاولت تغيير مجرى الحديث:
-لا صافي منبه عليا ماعرفش حد.
ضيقت "سيرا" عينيها تحاول التركيز بملامح "حكمت" التي أخفتها سريعًا، فقالت بدهاء:
-لا انتي اللي مش عايزة حد يعرف مش أبيه صافي.
عادت "حكمت" تضربها بخفة فوق كتفها قائلة بحنق ونفاد صبر:
-وانتي مالك يا حشرية، هتعرفيني ولا لا؟!
-هعرفك بس تحكيلي وأنا والله ما هقول لحد خالص.
تبخر النوم من عيني "سيرا" واستيقظ العقل بتأهب وكأنه على وشك خوض اختبار صعب، فانتبهت جميع حواسها وهي تستمع لحديث اختها الكبرى التي حتمًا ستصيبها بجلطة ذات مرة من تصرفاتها الحمقاء!
****
أغلقت "شمس" باب شقتها خلفها وبحثت بعينيها عن "سليم"، الذي اختفى فجأة بعد ذهاب "يزن"، رافضًا تدخلهم، حتى "منال" التزمت الصمت واكتفت بالبكاء المصحوب بخوفٍ على أصغر أبنائها، لعلمها أن صفاته تحمل جزءًا كبيرًا من التهور، فالعناد المرسوم بعينيه وهو يقف يجابه "سليم" دفعهم للتأكد من أنه لن يخضع بسهولة لقرارات "سليم".
ظلت تبحث عنه حتى وجدته في غرفة الصغيرة "قمر"، يحرك فراشها الصغير بلطف، وصوت الموسيقى الهادئة يصدح في الأجواء، مستغلاً هالة الهدوء الطاغية على غرفتها لينفض عنه الشحنات السلبية المتملكة منه منذ شجاره مع "يزن".
زمت شفتيها بضيق وهي تحرك رأسها بيأس، وقالت بنبرة منسوجة بخيوط الغيظ الثقيلة:
-سليم لو سمحت أنا عايزاك.
التفت إليها سريعًا وأشار إليها بالصمت كي لا تستيقظ طفلته، فرفعت "شمس" أحد حاجبيها بتحدٍ سافر لم يعجبها تصرفه، ولكنه لم يعِرها أي انتباه واستكمل تحريك فراش الصغيرة بلطف حتى تأكد أنها غرقت في سبات عميق، ترك الغرفة وخرج يبحث عنها، فوجدها تجلس على مضض في الصالة تنتظره، وفور رؤيتها له، قالت بضيق محتدم ظهر أيضًا في عينيها، التي قرأ فيهما عدم رضاها على تصرفه الليلة:
-يزن لغاية دلوقتي مارجعش يا سليم، وماما منهارة من العياط تحت.
هز كتفيه ببرود متعمد يخفي غضبه من تصرفات أخيه:
-هيرجع هيروح فين يعني!
لم تستطع "شمس" التحكم في ذاتها أكثر من ذلك، فانفجرت قائلة بغيظ شديد تحكم من نبرتها وملامح وجهها التي كانت على وشك الانفجار:
-سليم أنا مش عاجبني....
قاطعها بنبرة صلدة صارمة، وعيناه تشتد ظلمة وقسوة:
-شمس وانتي من امتى بتراجعيني في اللي بعمله!
رفعت حاجبيها معًا ولم تخشَ نبرته، فرفعت رأسها بتحدٍ وهي تواجهه:
-لا براجعك بس لما بتكون بتتصرف غلط.
انكمشت ملامحه لجرأتها معه في الحديث، فتحرك صوب غرفته وهو يقول بحنق ونبرة صوته ارتفعت رغمًا عنه:
-غلط ولا صح، أنا اللي شايفه مناسب هعمله ومش هستنى رأي حد.
كانت تعرف تمام المعرفة أن زوجها لن يقتنع بذلك الأسلوب، لذا هدأت قليلاً وذهبت نحوه تمسك بيديه، مستخدمة أساليبها الناعمة ودفء نبرتها المغوية وهي تقول:
-سليم الدنيا اخد وعطا، خلينا نتكلم.
أبعد يدها عنه بانزعاج واضح، لقد طفح الكيل به منذ الصباح عندما طل عليه الحاج "أحمد" وحديثه القاسي عن "يزن" مرورًا بما حدث الليلة مع أخيه الذي لم ولن يتوانى عن تصرفاته الحمقاء وسيظل يتهاون بما حوله في سبيل إرضاء رغباته وأهوائه.
-وأنا مش عايز اسمع كلام من حد يا شمس، محدش كان معايا وأنا بسمع كلام زي السم من الراجل صاحب البرج عن أسلوب يزن وشخصيته، أنا حذرته كتير وقولتله خد بالك من تصرفاتك، انت مش صغير، وهو ولا على باله، ماشي ورا بنت باين عليها مجتش معاه سكة، أنا مش هستنى لما يحصل مصيبة، لا يقف عند حده، ويشرب نتيجة تصرفاته، ويعرف إن بنات الناس مش لعبة.
زفرت بضيق قبل أن تبرز اقتناعها بحديثه فقالت بهدوء:
-معاك، بس يزن راجل مش بنت عشان تغصبه على جواز.
-لا لما يكون مش مؤهل يتحكم في تصرفاته وحياته، يبقى أنا لازم اتدخل.
-بس...
ورغم هدوء نبرتها وصفاء عينيها وتخليهما عن التحدي المعلن منذ بداية بحثها عنه، إلا أنه لم يعد يتحمل الجدال أكثر من ذلك، لذا قاطعها بنبرة مختنقة وملامح وجهه عادت تدخل في كنف الجمود والقسوة:
-كفاية ومش هستحمل نقاش اكتر من كده.
لا شك أنها شعرت بالضيق من محاولاته لإسكاتها وعدم تدخلها في شأن "يزن"، ولكن الضيق الأكبر كان منه أنه عاد لـ"سليم" القديم بطباعه الحادة وجمود خصاله، وهذا لن تتحمله كثيرًا، فانفجرت به قبل أن تتركه وتذهب لمواساة "منال" الباكية:
-تمام براحتك، بس عايزة اقولك بردو إن تصرفك معاه تحت كان غلط في غلط واحرجته جامد قدامنا.
ثم تركته دون أن تعيره الانتباه، ودون أن تستأذنه حتى، وكأنها تعاقبه باختفائها عن أنظاره، وهو كان في أمس الحاجة لعناقها وينعم بدفء حنانها لتزول عنه متاعب اليوم بمواقفه السيئة، فهي وحدها مَن تملك مفاتيح نعيم جنانها، لكنها أغلقت أبوابها في وجهه وطردته خارجها!
*****
في اليوم التالي..
رفعت "حكمت" زجاجة معطر للجو برائحة الياسمين ونثرتها في أرجاء السيارة بغزارة، مما جعل "صافي" زوجها يسعل بشدة، فقال بضيق:
-جرى أيه يا حكمت، ده كله معطر، هتموتينا.
تأففت بضيق وهي تقول بحنق:
-العربية دي ريحتها وحشة، وبعدين يزن أكيد هيدخل يقعد فيها يقول عليك أيه انت وصاحبك معفنين!
انكمشت ملامح "صافي" بغضب واخشوشنت نبرته وهو يزجرها:
-ماتحسني الفاظك يا حكمت في أيه!
رفعت أحد حاجبيها بتحد وعدم رضا من نبرته:
-صـــــــافـــي!
أشاح بيده بلا مبالاة وهو يتمتم بغيظ:
-خلاص سكتنا.
وقبل أن يتحرك بالسيارة، وجدا "سيرا" تفتح باب السيارة الخلفي وتدخل وعلى وجهها ابتسامة كبيرة مصطنعة:
-ازيكم، الحمد لله لحقتكم.
نظر "صافي" إلى زوجته يسأل باهتمام:
-أيه ده هي سيرا جاية معانا؟!
التفتت "حكمت" إلى أختها تردف بانفعال وغيظ:
-انتي مين قالك تيجي معانا؟
توسعت عيناها ثم رمشت ببراءة وهي تجيب:
-انتي يا ابلة!
رفعت "حكمت" حاجبيها باستنكار ثم قالت:
-والله ما نطقتها!
غمزت "سيرا" بطرف عينيها وهي تصر على قولها:
-يا ابلة بليل وانتي بتحكي لي على العربية.
انفجرت "حكمت" باستشاطة:
-يا بت انتي بتغمزي ليه؟، أنا مابخبيش على صافي جوزي حاجة.
شعرت "سيرا" بالإحراج من نظرات زوج اختها إليها، ففكرت سريعًا وقالت باندفاع:
-يا ابلة أنا قولت آجي معاكم عشان لو يزن ده قالكم حاجة مش فاهمينها افهمكم أنا، وماتبنوش قدامه انكم نص كم.
اخشوشنت نبرة "صافي" بضيق وهو يعاتبها:
-إيه نص كم دي، ماتحسني الفاظك يا سيرا.
رمشت بعينيها تعلن أسفها برقة:
-أسفة يا أبيه.
ثم التفت إلى "اختها" التي كانت ترمقها بشك أثار قلق "سيرا" فاستكملت خطتها:
-وبعدين يا ابلة، أنا كنت عايزاكي تيجي معايا بعد المشوار ده، نشتري هدوم ليا ذوقك بيعجبني وكمان أنا بيتضحك عليا في الأسعار.
لم تصبها سهام الشك المصوبة من "حكمت"، واستعادت السيطرة على موقفها خاصةً عندما قالت "حكمت" بحماس:
-اه إذا كان كده ماشي، يلا بينا يا صافي، عشان مانتأخرش على يزن زمانه راح.
همست بداخلها وهي تضغط على هاتفها وفي ذات الوقت مغمضة عينيها بقوة:
-يا رب يا ميروح.
ثم رفعت هاتفها وقرأت رسالتها التي أرسلتها له صباحًا تعتذر عن مجيء "أبلة حكمت" في المعاد المحدد بينهما نظرًا لظروف خارجة عن إرادتها، ولكنه لم يرد ولم يريح خاطرها المشغول بأمر هذا اللقاء.
قضى "صافي" وقتًا ليس بطويل حتى وصل إلى المكان المقرر مقابلتهم فيه، نظرت "سيرا" سريعًا حولها لم تجده وهي لا تزال في السيارة، فاستمعت لصوت "حكمت" وهي تنزل من السيارة:
-يلا انزلي يا سيرا.
هبطت هي الأخرى والتزمت الصمت وعيناها تفر في المكان كله بإمعان وداخلها بدأ يشعر براحة كبيرة لعدم مجيئه، فاستمعت لقول "حكمت" الحانق:
-هو يزن ده كله مجاش!
-مش قولتلك يا أبلة من الاول، ده هو بيضحك عليكي، وتلاقي ابوه وامه هما اللي فاتحين المعرض ده تلاقيه ولا بيفهم في العربيات ولا نيلة!
حمدت الله كثيرًا ووضعت يدها على قلبها باطمئنان وراحة ولكن راحتها لم تدم طويلاً وذلك عندما صدح صوت من خلفها:
-اللي مابيفهمش وصل يا جماعة!
استدارت سريعًا كمَن لسعها عقرب، وتوسعت عيناها فتفوهت بغيظ:
-انت جيت ازاي!
ضربتها "حكمت" في كتفها بخفة وهي تضغط على شفتيها السفلى وعيناها تصدر التنبيهات الصارمة:
-هو ايه اللي جه ازاي انتي عبيطة، اسكتي بقى.
ثم أشارت بفخر نحو "يزن"، وكأنها تقدم وزيرًا أو رئيس جمهورية، "فحكمت" "وصافي" يسعدان بعلاقتهما مع معارف أثرياء، فيشعران بالفخر والاعتزاز، معتقدين أن تلك العلاقات ستفتح لهما آفاقًا جديدة لكسب الأموال وتعزيز مكانتهما المادية.
-اعرفك يا يزن على الحاج صافي جوزي.
صافحه "يزن" بحبور شديد وبدآ يتعرفان على بعضهما البعض، فكان ليزن جاذبية خاصة يملكها يستطيع كسب اهتمام وتقدير من حوله، بينما هي كانت تقف بتوتر شديد وهي تتابع حديثهما باهتمام، واكتشفت فيه جانبًا جديدًا يتسم بالجدية المفرطة طالما كان الأمر يخص عمله، واستطاع بدهائه إقناع "صافي" بأن تلك السيارة لن تليق به وإمكانياتها قليلة على شخصية مثله، وأن معرضه مفتوح له في أي وقت، فقرر "صافي" أن يشتري سيارة منه، مقتنعًا بحديثه هو و"حكمت" التي كانت تحرك رأسها بإيجاب على كل كلمة يتفوه بها "يزن".
فمالت حكمت على زوجها وهي تقول بثقة:
-شوفت يا صافي، قولتلك صاحبك ده معفن ماصدقتنيش!
-طيب اقوله أيه يا حكمت، ده أنا وعدته اشتريها ومديهالي بقالي اسبوع.
قالها "صافي" بحيرة، فأوقفته بيدها وسألت يزن بمكر:
-بقولك يا يزن، هي العربية دي تسوى كام؟
مط "يزن" شفتيه وهو يقيمها بجدية:
-يعني ٣٥٠ الف بالكتير.
رفعت أحد حاجبيها وابتسامة ماكرة تحتل ثغرها وهي تجذب "صافي" من ذراعه مشيرة إلي يزن وسيرا بالانتظار:
-استنوني ثانية.
ثم التفت إلى صافي تدفعه للتحرك بعيدًا عنهما وهي تقول بإصرار:
-اتصل على صاحبك وافتح الاسبيكر.
وما إن ابتعدا حتى قال يزن بابتسامة محركًا رأسه بيأس:
-اختك هتخسف بسعر العربية الارض!
عقدت حاجبيها بضيق عندما شعرت منه بسخرية مبطنة منه:
-قصدك أيه يعني؟!
أشار إليها بالهدوء متعجبًا من نبرتها التي تحولت وأصبحت أكثر حدة صوتها وكأنها على وشك الشجار معه:
-ماقصديش، اهدي في أيه؟
رفعت أنفها بغرور وهي تقول بترفع محاولة الحفاظ على كرامة عائلتها المعبثرة هنا وهناك بسبب تصرفات حكمت المتناقضة:
-على فكرة بقى ابلة حكمت أخر حاجة همها الفلوس، بس هي مابتحبش يتضحك عليها.
تلونت ابتسامته بتهكم وهو يقول:
-غريبة مع إن ده مكنش كلامك عليها!
ازداد انعقاد حاجبيها وارتفعت نبرتها قليلاً بحدة وهي تخرج حروفها الغاضبة المهددة:
-قصدك أيه؟، والله انادي عليها واقولها إنك بتشتم عليها.
اقترب خطوة متسائلاً بشك وعيناه تجولان فوق ملامحها المتوترة:
-مش هتصدقك هي واثقة فيا، وبعدين انتي مالك مُصرة تبوظي العلاقة ما بينا ليه؟ وفي كل مرة بشوف ابلة حكمت بتنطي فجأة ليه؟!
جاهدت إخفاء توترها عندما لمس محاولاتها الفاشلة لهدم لقاءاته مع أختها:
-دي اختي يعني وارد اكون معاها!
ثبت بصره عليها وأردف بنبرة قوية وقد تغيرت ملامحه الممازحة دومًا لأخرى جادة تحوي غموضًا مربكًا:
-خليكي واضحة يا سيرا، احيانًا الوضوح بيكون حلو.
عقدت ذراعيها أمامها وهي تسأل بنبرة مستنكرة:
-وانا اكون واضحة مع واحد ماعرفوش ليه؟!
هز رأسه موافقًا على رأيها، ولكنه حاول الضغط عليها أكثر لتكشف ستائر الظلام المسدلة على عينيها:
-عندك حق، بس يعني اظن اللي ما بينا...
توسعت عيناها بتعجب ساخر ثم ضحكت بتهكم طفيف وهي تقول بنبرة جافة:
-نعم؟ هو أيه اللي ما بينا يا يزن! مفيش أي حاجة على فكرة، احنا مجرد اتنين اغراب عن بعض، وبتجمعنا الصدف مش اكتر.
لم يهتز بل ألقى بسؤاله الحاد في ساحة مشاعرها المضطربة:
-انتي عايزة أيه بالظبط؟!
هزت كتفيها بلا مبالاة ظاهرية، وإمارات البرود تحتل ملامحها التي كادت تهتز وتظهر له مدى إعجابها به:
-مش عايزة أي حاجة، ويا ريت يكون ما بينا حدود أكتر من كده.
لم يبعد عيناه عن عينيها المرتبكتين، فقال بهدوء مصاحب بسمة جانبية ساخرة:
-بس عينك بتقول غير كده!
ضحكت بسخرية وهي تضرب كفًا بآخر، قائلة:
-تاني هيقولي عيني، هو انت معاك ماجستير في لغة العيون ولا أيه مش فاهمة حقيقي!
شعر بالسأم قليلاً من عدم وضوحها، ولم يدرك أنها في النهاية فتاة ولن تصرح له عن مشاعرها بسهولة، مثل باقي الفتيات اللاتي تعرف عليهن:
-بعدين هتفهمي، وهنشوف كلام مين فينا صح!
مطت شفتيها بملل تعمدته وهي تردف ببرود:
-أنا ماقولتش أي كلام انت اللي بتقول وبس.
شعر بالضيق منها ومن تصرفاتها غير الواضحة معه، ولم يعرف لماذا هي تحديدًا يصر عقله على زجها دائمًا في محيط أفكاره، ومهما حاول إخراجها يعود فاشلاً أمام الصدف التي تجمعهما، متجاهلاً أنه أحيانًا هو يدور حولها كالنحلة منتظرًا نصب خليته.
عادت "حكمت" ونبرة الانتصار تقطر من صوتها:
-خلصت العربية على ٢٠٠ الف، اصله مزنوق في قرشين فهيموت ويبعها هشتريها أنا كاستثمار.
نظر "يزن" إلى سيرا التي تلون وجهها باحمرار قاني
من شدة إحراجها، فابتسم وهو يوجه حديثه لحكمت السعيدة بانتصارها:
-مفيش في شطارتك، أستاذة ورئيسة قسم، احنا نقعد ونتعلم منك.
ازداد اعتزازها بنفسها وهي تنظر إليه بسعادة:
-أنا مكدبتش لما قولت عليك بتفهم.
اغتاظت "سيرا" ففقدت السيطرة على نفسها وخرجت نبرتها صلدة:
-ابلة أنا همشي عشان ورايا شغل.
-مش كان ورانا مشوار...
قاطعتها "سيرا" وهي تهم بالتحرك وتغادر موقعهم الذي أصبح أكثر اختناقًا:
-بعدين يا أبلة بعدين، ومبروك على العربية، سلام يا أبية صافي.
ولم تعر ليزن أي انتباه، متعمدة إحراجه ولكنه لم يغضب وقد توقعها تصرفها الطفولي من وجهة نظره، ووضع يده في جيب سرواله بتسلية وهو يعود لحكمت مقررًا التعرف عليها أكثر ومن خلال ثرثرتهما سيتعرف عن شخصية سيرا التي كانت لا تزال غامضة وتثير اهتمامه بها!
****
خرج "يزن" من عيادة "نوح"، صديقه، وتوجه نحو سيارته بعد أن قضى بعض الوقت معه، ساردًا عليه ما حدث وأبلغه بقراره الاختفاء عن الأنظار ليحسم قراره ويؤنب ضمير "سليم" على أسلوبه معه، فلم يعد الفتى الصغير الذي يقف ويتلقى توبيخه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه؛ فقد تغيرت مجريات الأمور وأصبح شابًا ناضجًا يستطيع السيطرة على حياته وتسيير أموره كيفما يشاء.
وها هو قد غاب يومًا آخر عن الأنظار، مغلقًا هاتفه، ولم يذهب إلى معرضه، ولم يحاول الاتصال بأحد لمعرفة إن كانت عائلته تبحث عنه أم لا؛ فلم يعد الأمر برمته يهمه.
وقبل أن يقود سيارته، وجد بابها يفتح ويدخل "زيدان"، جالسًا بالمقعد المجاور له.
-انت فاكر كده يعني إن أنا مش هعرف اجيبك!
زفر "يزن" بضيق وهو يرمقه بنظرة حادة:
-بقولك أيه سيبني في حالي، أنا مش طايق نفسي.
هدأ "زيدان" قليلاً محاولاً امتصاص غضبه والذي يبدو أنه لم يهدأ:
-ومش طايق نفسك ليه، اهدا وروق وكل حاجة هتتحل.
ضيق "يزن" عينيه وهو يتسائل باستنكار لاذع:
-انت جايب البرود ده منين؟!
اخشوشنت نبرة "زيدان" محاولاً السيطرة على نفسه كي لا ينفجر به:
-لم لسانك عشان نشوفلك حل.
ارتفعت نبرة يزن بالمقابل وقال بغيظ ناري كتمه داخله ولم يعد لديه القدرة على السيطرة على نفسه:
-وانت شايف فيها حل، سليم متعمد يعمل كده قداكم عشان يحطني قدام سياسة الأمر الواقع، بس على مين والله ما هيحصل.
رمقه زيدان بنظرة غامضة تحوي داخلها تسلية أخفاها سريعًا:
-ماتحلفش بس!
لمعت عيناه بوميض العناد وهو يقول:
-قصدك أيه، إن هو هينفذ كلامه، طيب اقعد واتفرج.
زفر زيدان بهدوء قبل أن يفسر حديثه بوضوح أكثر:
-يزن هي مش حرب، وانت عارف أكتر واحد إن سليم مابيتاخدش بالطريقة دي!
عاد يزن بجسده لينظر أمامه وهو يقول بتحدٍ وبرود:
-لا ماعرفش، لغاية حياتي ومستقبلي وماعرفش حد.
زم زيدان شفتيه بضيق وهو يلفت انتباه أخيه المتهور:
-الوضع مش مستحمل عند منك.
احتدت نبرة يزن وهو يعود برأسه ينظر إليه:
-انت جاي تناقشني في أيه؟
-أنا مش جاي اناقشك، بس هو يعني لما تختفي يوم أنت كده فاكر إن سليم مايعرفش يوصلك، وبعدين أنا الصراحة مستغربك ومش فاهمك.
ثبت يزن بصره على زيدان دون أن يتفوه بأي كلمة، فاستكمل زيدان حديثه بوضوح وصراحة فجة كعادته:
-ايوه ماتبصليش، ياعم مش دي البت اللي خلتني اسيب شغلي واجاي انقذ صاحبتها، وكنت محموق لها اوي.
قبض "يزن" يده فوق المقود وشعر بتعريته أمام إخوته، فازداد غيظه منه، فلم تجرؤ فتاة على قلب حياته هكذا مثلما فعلت هي:
-وانت عرفت ازاي انها نفس البنت؟
-الحاج أحمد باعت لسليم فيديوهات من كاميرات المراقبة وانت بتتعرض للبنت دي كتير واخرهم لما كنت معاها جوه البرج وبتمسك ايدها غصب عنها.
وصل غضبه إلى ذروته وصاح بنبرة مستشيطة:
-أيه الجنان ده الراجل ده عايز يتربى ويتعلم الادب.
انزعج زيدان من تهوره وقال بهدوء ظاهري:
-اقعد بس واسكت مش وقته الكلام ده أساسًا، دلوقتي هتعمل أيه مع سليم؟!
-مش هعمل ولا عايز اعمل، تصدق بالله أنا مخنوق ونفسي اختفي من الدنيا كلها ومحدش يعرف لي طريق.
أخرج يزن حقيقة ما يعتمل داخله، وصمت مرة واحدة وهو ينظر نحو الزجاج شاردًا بحياته التي تعقدت،فشعر باختناق وكأن هناك حبالاً غليظة تلتف حول رقبته، بينما "زيدان" كان يفكر هو أيضًا في حل تلك المعضلة، فصاح باعتقاده علنًا:
-تصدق هي فكرة كويسة، يمكن سليم يهدا ويرجع عن اللي بيفكر فيه.
سأل يزن بعدم فهم وقد بدت نبرته أكثر اهتمامًا:
-مش فاهم قصدك؟
أجاب "زيدان" وهو يفسر له حديثه:
-قصدي إنك تختفي فترة من قدامه خالص.
لان عقله الجامد وقد أعجبه فكرة "زيدان" ومنها يسعى لصفاء ذهنه ليخرج سيرا من تفكيره:
-وهروح فين عندك مكان؟، سليم عارف كل الامكان اللي بروحها.
فكر زيدان قليلاً قبل أن تلمع عيناه بوميض غامض وابتسامة جانبية احتلت ثغره:
-إلا مكان واحد بس ماعرفش انت هتتحمل تقعد فيه؟!
انعقد حاجبا "يزن" ففسر الآخر حديثه بهدوء يخفي خلفه تسلية كبيرة:
-يعني اقصد مفيهوش رفاهيات ومكان بعيد.
تنهد "يزن" بقلة حيلة وعجز سيطر عليه:
-ياعم أي حاجة، أنا اقسم بالله زاهد كل حاجة في الدنيا، ومش عايز غير إن أنا افصل بجد، بس انت مش هتقول لسليم على مكاني؟!
-خالص، انت مجنون؟ أنا جاي عشان أساعدك وأقف جنبك، استنى هكلم الراجل.
قالها زيدان بنبرة يغمرها الحماس، ثم رفع هاتفه وأجرى اتصالاً بشخص ما:
-ألو، إزيك يا عباس؟ أنا تمام، بقولك، عارف الشقة اللي كنت جايبها لي عندكم في الأقصر؟!
صمت قليلاً يستمع لرد الآخر، ثم قال بابتسامة واسعة وهو ينظر ليزن بطرف عينه:
-لا لا، أول شقة، أيوه، متأكد بقولك، بس نضفهالي، وهبعت لك أخويا هيقعد فيها كام يوم.
استمع لرد "عباس" الذي سأل باستفهام:
-المسكونة يا باشا؟
-أيوه يا عم، بقولك، انجز بقى.
أغلق "زيدان" الاتصال، ثم التفت إلى "يزن" وأردف بابتسامة واسعة ونبرة صوته مغمورة في نهر من الغموض:
-ده أنت هتفصل فصلان، هتتبسط أوي، عمرك رحت الأقصر قبل كده؟
****
بعد مرور عدة ساعات.
هبط "يزن" من سيارة الأجرة التي أوصلته إلى العنوان المنشود، فوجد "عباس" في انتظاره، فمد يده بحبور وصافحه:
-ازيك يا عم عباس، أنا يزن أخو زيدان.
رحب "عباس" به بترحاب شديد:
-اهلاً اهلاً يا يزن باشا، والله نورت البلد كلها.
-ربنا يخليك، بس هو أيه ده مفيش حد ليه كده في المنطقة احنا لسه يعني الساعة ١٠.
التفت "يزن" حوله وهو يمرر بصره على البنايات وعلى المنطقة الساكنة وخلوها من المارة، فقال "عباس" بهدوء يتخلله بعض الارتباك:
-البلد هنا هادية يا باشا، والناس بتنام من المغرب بس أنا ببقى صاحي على طول لو عايز أي حاجة.
فرك "يزن" وجهه بارهاق فلم يحظَ بنوم مريح منذ يومين، فقال بصوت واهن:
-أنا مش عايز حاجة غير إنك توديني الشقة اللي هقعد فيها، عشان أنا فاصل ومش قادر.
نظر "عباس" خلف يزن نظرة متوترة نحو البناية الساكنة والمظلمة، قائلاً وهو يشير نحو البناية:
-اه المسافة بعيدة بردو، يلا بينا العمارة اهي والشقة في الدور التاني.
سار "يزن" بجانب "عباس" يسأله من باب الفضول:
-في حد ساكن في العمارة دي؟؟
توقف "عباس" وقد ظهر الارتباك عليه، مردفًا:
-ها؟
تعجب "يزن" من رد فعل "عباس" فاستنكر بنبرته سريعًا معقبًا عليه:
-هو أيه اللي ها، في حد ساكن؟!
أصاب "عباس" نوبة سعال شديدة ولم يستطع السيطرة على نفسه، فمد إليه يزن زجاجة المياه خاصته:
-مالك اهدا، معايا ميه خد اشرب.
وضع "عباس" يده فوق صدره وقد بدت نبرته متحشرجة:
-شكرا يا باشا، تعال اطلع يلا.
صعد "يزن" معه ووصلا إلى الشقة المنشودة، فسلم إليه "عباس" مفتاح الشقة وغادر سريعًا تحت نظرات "يزن" المتعجبة، ولكن إرهاقه لم يجعله يفكر بارتباك "عباس" الغريب.
فتح باب الشقة وأغلقه خلفه ناظرًا إليها نظرة سريعة ليقيمها، فكانت حالتها لا بأس بها، وأثاثها قديم نوعًا ما، ولكن لن يهم، فاختفاؤه ليومين ليس إلا!
وضع المفاتيح فوق طاولة صغيرة بجانب باب الشقة، ثم توجه نحو الغرفة الوحيدة الموجودة بالشقة وكانت أمامه على بعد مسافة قصيرة، دخلها وأغلق الباب خلفه، ولم يلاحظ أن باب الشقة قد أعيد فتحه!
أبدل ثيابه بثياب منزلية مريحة وقرر الخلود إلى النوم، مستغلاً حالة الإرهاق المسيطرة عليه كي لا يفكر بشيء يؤرق تفكيره.
وبالفعل، لم يأخذ وقتًا طويلًا وغرق في سبات عميق ولم ينتبه إلى باب الغرفة الذي قد أعيد فتحه هو الآخر.
****
"قوليلي يا خاينة ليه الشيطان وزك"
ظلت تلك الجملة تتكرر مصاحبة لصوت موسيقى عالٍ اخترق أحلامه وأيقظ "يزن" من نومه، ففرق جفنيه بصعوبة وحاول التركيز لمعرفة مصدر تلك الموسيقى، حتى أدرك أنها تأتي من الشرفة الموجودة بالغرفة والمطلة على الحديقة الخلفية للبناية.
تحرك يزن بإرهاق وعلى وجهه علامات الانزعاج من تلك الموسيقى الصاخبة، ففتح الشرفة وبحث بعينيه حتى وجد رجلاً يجلس أسفل الشرفة في الحديقة ويدخن تبغًا وصوت المسجل بجانبه.
-لو سمحت، يا عم، يا عم أنت.
ظل يكرر حديثه عدة مرات حتى رفع الرجل وجهه إليه، فابتسم يزن ابتسامة مقتضبة:
-يا عم احنا الساعة ٢ بليل، ونايمين، معلش وطي أحزانك... قصدي وطي الأغاني شوية!
احتدت ملامح الرجل وقست ملامحه المتسمة بالشر الدفين، فقرر "يزن" الولوج إلى الداخل واقتصار الشر البادي عليه، في النهاية هو مجرد ساكن جديد ولن يزعج ساكني البناية، فهمس بضيق:
-طب براحة، في أيه!
وقبل أن يدخل، وجد بالشرفة المجاورة له، والتي يبدو أنها تابعة للشقة المجاورة، سيدة تقف هي وصغيرتها وتنظران إلى الأسفل نحو الرجل، ثم حولتا نظراتهما نحوه، فابتسم إليهما وقال:
-مساء الخير، برضو مش عارفين تناموا زيي؟
لم يتحدثا وظلا ينظران إليه بضيق حتى شعر يزن بالإحراج الشديد ودخل وهو يتمتم:
-عالم غريبة، أقسم بالله!
أغلق باب الشرفة خلفه ولكنه صدم من باب الغرفة المفتوح، فتحرك نحو الباب ليغلقه، ولكن صدمته الكبرى كانت بباب الشقة المفتوح على مصراعيه!
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق