رواية فراشة المقبرة الفصل السابع وعشرون والثامن وعشرون بقلم اسماعيل موسي
رواية فراشة المقبرة الفصل السابع وعشرون والثامن وعشرون بقلم اسماعيل موسي
#فراشة_المقبرة
عادت ميمي إلى غرفة زهرة بخطوات بطيئة، وكأن ثقل العالم فوق ظهرها الصغير.
لم تكن تلك القطة المرحة التي اعتادت زهرة على رؤيتها تتمدد بكسل في الشمس، أو تلك التي تتسلل إلى حجرتها ليلًا لتنام عند قدميها.
كانت مختلفة… شاردة، وكأنها فقدت جزءًا منها في مكان ما ولم تعد كما كانت.
أغلقت زهرة باب الغرفة بهدوء، ثم جلست على سريرها، تتأمل القطة التي قفزت إلى طرف السرير، جلست هناك، تلف ذيلها حول جسدها بإحكام، وعيناها التائهتان تحدقان في الفراغ.
— "ميمي؟" نادت زهرة بصوت خافت، لم تتحرك القطة.
لم تصدر حتى ذلك الخرير الناعم الذي اعتادت أن تردده عند سماع صوت زهرة.
زحفت زهرة قليلًا إلى الأمام، مدت يدها بحذر، تمرر أصابعها على فرو ميمي، لكنها لاحظت أن جسدها كان متوترًا، مشدودًا كما لو أنها ليست هنا، بل في مكان آخر بعيد جدًا.
— "في إيه يا ميمي؟ إنتي مش على بعضك من ساعة ما رجعتي."
لم يكن هناك رد،فقط صمت ثقيل.
كانت زهرة تحاول أن تخفي قلقها، لكن شيئًا ما كان يجعل صدرها ينقبض.
لم تعتد أن ترى ميمي بهذا الشكل،كانت دائمًا قوية، حتى في أشد الأوقات قسوة. أما الآن… فكان هناك شيء مكسور بداخلها.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم قالت برفق:
— "ميمي، بصّيلي."
ببطء، رفعت القطة رأسها، نظرت إلى زهرة، وعندها… شعرت زهرة بقشعريرة باردة تسري في جسدها.
كانت ميمي تنظر إليها كما لم تفعل من قبل، نظرة تحمل شيئًا أكبر من الحزن، أكبر من الخوف… كانت نظرة شخص يتذكر شيئًا كان يجب ألا يتذكره أبدًا.
مرت لحظة ثقيلة بينهما، قبل أن تفتح ميمي فمها أخيرًا، بصوت بالكاد يسمع:
— "أنا كنت هناك."
شهقت زهرة، كأن الهواء خرج من رئتيها دفعة واحدة.
— "إيه؟!"
لم يكن عقلها مستعدًا لاستيعاب ما سمعته، لكنها رأت الصدق في عيني القطة، ذلك الصدق القاسي الذي يجعل المرء يصدق دون أن يحتاج إلى دليل.
— "أنا كنت هناك، زهرة… في النار، في الليلة اللي اتحرق فيها البيت."
ارتعشت يد زهرة، سحبتها ببطء، كأنها تخشى أن تلمس شيئًا قد يحرقها.
— "بي… بيت مين؟"
— "بيت أمِّك."
الهواء في الغرفة صار أثقل، وكأن الجدران اقتربت، وكأن العالم كله انكمش حول زهرة في لحظة واحدة.
— "إنتي بتقولي إيه؟"
لكنها عرفت.
عرفت أنها لم تكن تكذب.
عرفت أن هناك شيئًا في أعماقها، شيئًا كان مختبئًا، يطرق باب وعيها بقوة الآن.
كانت ذكريات مشوشة، أشلاء صور ممزقة، أصوات بعيدة، لكنه كان هناك… كان دائمًا هناك.
— "زهرة، إنتِ كنتِ هناك برضه."
أرادت أن تنكر، أرادت أن تضحك وتقول إنها مجرّد قطة، قطة لا تفهم ما تقول، لكن عقلها لم يستطع إنكار شيء لم تفهمه، لكنه شعر به بكل كيانه.
— "أنا ما فاكراش أي حاجة عن ده."
هزّت ميمي رأسها، كأنها تعرف ذلك بالفعل، كأنها لم تتوقع غيره.
— "عشان عقلك حبسك برا الذكرى دي، زهرة، مش عشانها مش موجودة… لكن عشانها كانت كبيرة أوي، أكبر من اللي تستحميليه وقتها."
زهرة كانت تشعر أن رأسها سينفجر،قلبها كان ينبض بسرعة غير طبيعية، وأنفاسها أصبحت ضحلة، متسارعة.
— "إنتي بتتكلمي عن حاجات حصلت وأنا طفلة… حاجات أنا مش فاكرها أصلاً! إزاي ممكن تبقي متأكدة؟"
أمالت ميمي رأسها قليلًا، عيناها نصف مغمضتين، وكأنها ترى شيئًا خلف زهرة، خلف الحاضر نفسه.
— "لأن الحريق ده هو اللي فرقني عن أمي… زي ما فرقك عن أمِّك."
زهرة وضعت يديها على رأسها، شعرت بدوار مفاجئ، كان هناك شيء بداخله يتحرك، يصرخ، يحاول الخروج.
شيء ظل محبوسًا لسنوات طويلة.
ما كانت تمر به زهرة لم يكن غريبًا من الناحية الطبية، بل هو ظاهرة معروفة في علم النفس العصبي تُسمى "الكبت الصدمي" (Traumatic Repression) أو "فقدان الذاكرة التفارقي" (Dissociative Amnesia).
عندما يمر الإنسان بتجربة صادمة للغاية في سن مبكرة، فإن الدماغ—وخاصة الجهاز الحوفي (Limbic System)، المسؤول عن معالجة العواطف والذاكرة—يقوم بحماية النفس من الانهيار عبر إنشاء "حاجز ذهني" يمنع استرجاع تلك الذكرى.
المنطقة الرئيسية المسؤولة عن هذا الحاجز هي "اللوزة الدماغية" (Amygdala) و**"الحُصين"** (Hippocampus).
في اللحظات الأولى من الصدمة، ترتفع مستويات الكورتيزول والإبينفرين، وهما هرمونان يرتبطان بالاستجابة للخطر، ما يؤدي إلى تعطيل الحُصين جزئيًا، مما يجعل تكوين الذاكرة غير مكتمل أو مجزّأ.
إذا كانت الصدمة شديدة بما يكفي، فإن الدماغ قد يتعامل معها كـ"معلومات غير قابلة للوصول" بدلًا من تخزينها كذكرى طبيعية.
هذا يعني أن زهرة لم "تنسَ" الحريق بالطريقة العادية، بل إن دماغها قام بحماية نفسها من الألم عن طريق دفن الذكرى في اللاوعي.
لكن الذكريات المكبوتة لا تُمحى أبدًا.
تبقى هناك، كامنة، تنتظر المحفز المناسب لتطفو إلى السطح.
وفي حالة زهرة، كان المحفز هو "ميمي"… القطة التي كانت هناك في تلك الليلة.
شعرت زهرة بألم حاد خلف عينيها، كأن رأسها سينفجر، كأن شيئًا كان يحاول كسر الجدار الذي بناه عقلها لسنوات.
—
لكن الذكرى لم تعد تسأل عن إذنها.
وميض من نار.
صوت صراخ.
يد تمتد إليها وسط اللهب.
وجه لا تتذكره… لكنه محفور في أعماقها.
زهرة شهقت، وضعت يدها على فمها، عيناها اتسعتا بصدمة لم تعرف أنها كانت ممكنة.
كان الليل قد بدأ يزحف على القرية عندما خرجت زهرة من المنزل.
لم تكن تدري كيف حملتها قدماها إلى الخارج، لكنها وجدت نفسها تمشي بلا تفكير، وكأن قوة خفية كانت تقودها.
الهواء البارد لفح وجهها، لكن الدفء المتبقي في جلدها لم يكن بسبب الطقس، بل بسبب النار التي بدأت تحترق داخلها… النار التي لم تكن تعلم بوجودها حتى تلك اللحظة.
كان الطريق وعراً تحت قدميها، لكنها لم تشعر بشيء.
لا بالأحجار الصغيرة التي كانت تتسلل إلى نعليها، ولا بأغصان الأشجار المتشابكة التي امتدت كالأصابع لتحاول إيقافها.
لم تكن ترى شيئًا سوى هدفها الوحيد.
البيت.
البيت الذي احترق.
البيت الذي مات فيه الجميع.
❋ ❋ ❋
وقفت أمامه، قدماها مغروستان في الأرض كأنهما جذور شجرة، وعيناها متسعتان أمام الأنقاض المتفحمة.
لم يكن هناك سوى الجدران المهدمة، آثار الدخان الأسود الذي ما زال مطبوعًا على الحجارة، وبعض الأخشاب المحترقة التي لم يبتلعها الزمن تمامًا.
لكن زهرة لم تكن ترى هذا فقط.
كانت ترى الماضي.
كانت ترى ألسنة اللهب وهي تبتلع المنزل، تلعق الجدران، تلتهم الأثاث، تتصاعد إلى السماء كأنها غضب من الجحيم نفسه.
كانت ترى نفسها… طفلة صغيرة، قدماها عاريتان، ترتجف في زاوية الغرفة بينما النار تزمجر حولها.
ثم… جاء الرصاص.
❋ ❋ ❋
ضربت الذكرى عقلها كصاعقة، جعلتها تتراجع خطوة إلى الوراء، تلهث وكأن الأكسجين قد هرب من رئتيها.
كان هناك رجال.
رجال بملابس سوداء، يحملون أسلحة، يصرخون بلغة لم تفهمها وقتها.
كان والدها يقف أمامهم، عاري الصدر، يفتح ذراعيه كأنما يحاول حمايتهم جميعًا بجسده،كانت والدتها تمسك بالصغيرين، تحتضنهما، تحاول أن تغطيهم بجسدها.
ثم…
انطلقت الطلقة الأولى.
شهقت زهرة، وضعت يديها على أذنيها وكأنها تحاول إيقاف الصوت، لكنه كان قد اخترقها بالفعل.
ثم الثانية.
الثالثة.
الرابعة.
صرخة أمها كانت أقوى من الرصاص.
ثم سقطت.
سقطوا جميعًا.
❋ ❋ ❋
شهقت زهرة وهي تترنح إلى الخلف، قلبها يخفق بجنون.
لم تكن قادرة على التنفس، على التفكير، على استيعاب ما تراه. كانت دموعها تسيل على وجنتيها دون أن تدرك حتى أنها تبكي.
"لا… لا… ما ينفعش… ده مش حقيقي… مش حقيقي!"
لكن عقلها كان قد استيقظ.
كان يرفض العودة إلى النوم.
❋ ❋ ❋
ثم جاءت اللحظة التي لا تزال محفورة في وعيها. اللحظة التي سقط فيها جسدها الصغير على الأرض، بين الجثث، بين الدخان والدم، والبرد يزحف إلى عظامها
زحفها تحت السرير، اليد التى جذبتها من قدمها ثم لا شيء اخر
توقفت الذكريات عند هذا الحد سقطت الدكتوره زهره على الأرض فاقده للوعى
❋ ❋ ❋
عندما فتحت عينيها، كانت في مكان آخر.
كانت تشعر بخشونة الملاءة تحت جسدها، بالدفء الذي لم يكن موجودًا في تلك الليلة.
سقف خشبي داكن امتد فوقها، وعلى الجدران كانت هناك ظلال نار هادئة، تراقصت بفعل ضوء المصابيح الزيتية.
لم يكن هذا بيتها.
لم يكن هذا أي مكان تعرفه.
❋ ❋ ❋
— "أخيرًا فوقتي."
جفلت عند سماع الصوت، صوت رجل، عميق وثقيل كأنه قادم من أعماق الأرض.
التفتت ببطء، ورأت رجلاً يجلس على كرسي خشبي بالقرب من الباب، يراقبها بعينين غامضتين.
— كان "العمدة… العمدة علي النزاوي."
#فراشة_المقبرة
٢٩
❋ ❋ ❋
جلست زهرة على الفراش، تتنفس بصعوبة، تشعر بجسدها يرتجف رغم الدفء في الغرفة
عيناها تجولان في المكان، تحاول استيعاب ما يحدث، لكن عقلها كان لا يزال عالقًا هناك… عند الحريق… عند الرصاص… عند الدم.
رفع العمدة علي النزاوي كوبًا من الشاي إلى شفتيه، رشفة هادئة، ثم وضعه على الطاولة الخشبية بجانبه. لم يكن يبدو مستعجلاً، بل راقب زهرة بصبر، وكأنه يعرف أنها ستتحدث عاجلاً أم آجلاً.
لكن زهرة لم تكن مستعدة للصمت أكثر.
— انا إزاي وصلت هنا؟!"
كان صوتها حادًا، متوترًا، مليئًا بالشكوك والغضب.
رفع العمدة حاجبه، ثم قال بهدوء:
— "لقيناكي عند البيت المحروق، مغمى عليكي."
حدقت فيه زهرة، عقلها يحاول استيعاب كلماته، لم تتذكر أي شيء بعد اللحظة التي انهارت فيها الذكريات على رأسها،هل فقدت وعيها هناك؟ منذ متى؟ ومن الذي وجدها؟
— "مين اللي لقاني؟"
— "أنا."
— "إنت؟!"
تراجعت زهرة قليلاً، لم يعجبها ذلك، لم يعجبها أن يكون هذا الرجل هو من وجدها، ان يكون ذلك الرجل المتعجرف لمس جسدها لم تكن تثق به، لم تكن تثق بأي شخص هنا.
ابتسم العمدة ابتسامة باهتة، ثم قال:
— "أنا اللي لقيتك، وأنا اللي جبتك هنا
متصلتش ليه بالاسعاف او بدكتور الوحده الصحيه،؟
معلهش يا دكتوره كل واحد وعلى قد علامه بقا انا عملت الى قدرنى عليه ربنا، هو دا جزاتى؟
نهضت زهره بسرعة، جسدها ما زال مرهقًا، لكن رغبتها في الرحيل كانت أقوى من أي شيء آخر، توازنت بصعوبة، ثم تقدمت نحو الباب.
لم يبدُ على العمدة أنه انزعج، بل راقبها بصمت وهي تفتح الباب، وكأنه كان يتوقع رد فعلها هذا تمامًا.
— "متأكدة إنك تقدري تمشي كده؟"
لم ترد عليه، فقط خرجت من الغرفة، قدماها تتعثران قليلاً، لكن خطوتها كانت حازمة.
تابعها العمده على النزاوى من على المصطبة امام داره وهو يبرم شاربه كان يعرف انها أنثى مليحه وان يرغب ان يتذوقها
كان شيء داخله يرغب فيها بقوة لكنها ابتعدت
صرخ على النزاوى انت يا زفته انتى؟
ركضت الخادمه زوجة الرجل الذى مات امام اعين رجال القريه بجسدها النحيل ووجهها الشاحب
ادخلى حضريلى الحمام
ارتعش جسد الخادمة كانت تعرف ما سيحدث لاحقا كانت تعرف انها ستموت مثلما تموت كل مره يطلبها فيها العمده
❋ ❋ ❋
الليل كان باردًا في الخارج، والهواء محمَّل برائحة الأرض الرطبة. كانت الأنوار القليلة في القرية تومض على استحياء، والأصوات نادرة، وكأن المكان كله قد نام.
لكن زهرة لم تكن تفكر في أي شيء سوى وجهتها الوحيدة: الوحدة الصحية.
كانت بحاجة إلى الهدوء، إلى أي شيء يمنحها إحساسًا بالواقع، بعد أن كادت الذكريات تبتلعها.
❋ ❋ ❋
عندما وصلت أخيرًا إلى باب الوحدة الصحية، كانت أنفاسها متسارعة، ليس من التعب فقط، بل من كل شيء شعرت به الليلة.
وضعت يدها على مقبض الباب، ضغطت عليه ببطء، ثم دخلت إلى الداخل، حيث كان الضوء الخافت يملأ المكان، ورائحة الأدوية تطفو في الهواء.
لم تكن تريد شيئًا الآن… سوى أن تكون وحيدة مع أفكارها.
❋ ❋ ❋
أغلقت زهرة باب الوحدة الصحية خلفها، استندت للحظة على الجدار، وكأنها تحتاج إلى شيء تستند إليه حتى لا تنهار.
في الداخل، كانت ميمي جالسة على المكتب، تراقبها بعينيها الواسعتين اللتين تحملان أكثر مما يجب أن تحملهما قطة.
لم تقل زهرة شيئًا، فقط اقتربت ببطء، سحبت الكرسي وجلست، وضعت رأسها بين يديها، وشعرت بأن أنفاسها مضطربة، وكأنها لا تزال عالقة في الدخان… في الرصاص… في الصرخات.
مرت لحظة صامتة قبل أن تهمس بصوت مبحوح:
— "أنا شوفتهم، ميمي."
لم يكن هناك حاجة لذكر من هم.
رفعت القطة أذنها قليلًا، كأنها تنصت أكثر، لكن عينيها بقيتا ثابتتين على زهرة.
— "شوفت البيت… شوفت النار… شوفتهم وهما…"
توقفت، لم تستطع أن تكمل، لم تستطع أن تنطق تلك الكلمة.
أخذت نفسًا مرتجفًا، ثم رفعت عينيها إلى ميمي، وكأنها تبحث عن شيء، عن إجابة، عن تفسير.
— "بس في حاجة… حاجة مش قادرة أفهمها، مش قادرة أوصلها."
ضاقت عينا القطة قليلاً، وكأنها تفكر.
— "إيه اللي مش قادرة توصليله؟"
بلعت زهرة ريقها، ترددت، ثم همست:
— "أنا كنت تحت السرير، ميمي… كنت مستخبية، كنت خايفة، وكل حاجة كانت سريعة، النار، الرصاص، الصراخ…"
وضعت يدها على جبينها، أغمضت عينيها للحظة، ثم أكملت بصوت مرتعش:
— "بس… آخر حاجة فاكراها… هي اليد."
فتحت عينيها ببطء، نظرت إلى ميمي، وكأنها تحتاج إلى تأكيد بأن ما تتذكره حقيقي.
— "إيد… حد… كانت بتشدني من تحت السرير."
ميمي لم تتحرك، لكنها لم تبعد نظرها عن زهرة، وكأنها كانت تتوقع هذا.
— "فاكرة شكلها؟"
زهرة هزت رأسها ببطء.
— "لا… بس حاسة إنها كانت قوية… كانت بتسحبني بقوة، وأنا كنت بحاول أقاوم، كنت بموت من الخوف، كنت حاسة إنه… إنه لو خرجني، مش هشوف النور تاني."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها وهي تقول هذه الكلمات، كأنها للمرة الأولى تدركها حقًا.
ميمي اقتربت منها قليلاً، جلست أمامها على الطاولة، ثم قالت بهدوء:
— "بس أنتِ خرجتي، زهرة."
— "أنا مش عارفة مين اللي سحبني… مش عارفة إيه اللي حصل بعد كده… كأن عقلي قفل الباب عند اللحظة دي، كأنه رافض يخليني أعرف."
ثم رفعت عينيها إلى ميمي، نظرة تائهة، نظرة شخص يبحث عن إجابة في عيون قطة، في أي شيء قد يمنحه خيطًا لهذا اللغز الذي ظل يطارده طوال حياته.
— "إيه اللي حصل بعد كده، ميمي؟ وليه مش قادرة أفتكر؟"
❋ ❋ ❋
❋ ❋ ❋
في صباح اليوم التالي، جلست زهرة في شرفة غرفتها، تطالع الشارع الهادئ أمامها.
كانت الشمس قد بدأت بالكاد في شق طريقها عبر الضباب الخفيف الذي يغطي أطراف القرية، تاركة ضوءًا رماديًا باهتًا ينساب فوق الأسطح والجدران الحجرية.
على الطاولة أمامها، كان كوب القهوة لا يزال ساخنًا، لكن يدها لم تمتد إليه بعد. كانت منشغلة بمراقبة ميمي، التي جلست بجوارها في وضع متحفز، ذيلها ملتف حول جسدها، وعيناها الواسعتان تتابعان شيئًا محددًا في الشارع.
أدارت زهرة رأسها ببطء، تتبع نظرة القطة… فرأته.
العمدة علي النزاوي.
كان يسير بخطوات واثقة، كما لو أن كل حجر في الطريق يعرفه ويحني رأسه له. لم يكن يرتدي عباءته المعتادة، بل كان في جلباب أسود بسيط، لكن ذلك لم يغير شيئًا في حضوره الطاغي.
زهرة ضيّقت عينيها، ثم تمتمت بسخرية:
— "ها هو ذا العمدة المبجّل…
لم تتلقَّ ردًا.
أدارت رأسها نحو ميمي، لكنها وجدت القطة جالسة في وضع متوتر، عيناها متسعتان بشكل غريب، وكأنها رأت شبحًا بدلًا من رجل يعبر الشارع.
— "ميمي؟"
لم تتحرك القطة.
— "إيه يا بنتي؟ في إيه؟"
لكن ميمي لم تلتفت إليها، بل ظلت تحدق إلى العمدة بنظرة ثابتة، كأنها تحاول التأكد من شيء، كأن عقلها ينبش في ذاكرة بعيدة جدًا.
ثم فجأة، دون سابق إنذار، شهقت القطة بصوت خافت جدًا، صوت بالكاد سُمع، قبل أن تدير رأسها بسرعة، تغلق عينيها وتدفن وجهها في ذيلها.
زهرة عقدت حاجبيها، إحساس غامض بالتوجس بدأ يتسلل إلى قلبها.
— "ميمي؟ إنتِ شفتيه قبل كده؟"
لم تتحرك القطة.
— "ميمي، إيه اللي حصل؟"
لكن ميمي لم تجب. لم تصدر أي صوت.
وكأنها قررت في تلك اللحظة… أن تلتزم الصمت التام.
❋❋❋
ما إن أدارت ميمي وجهها بعيدًا عن العمدة حتى انتفض جسدها الصغير فجأة، وانطلقت من الشرفة كالسهم، قافزة إلى الداخل بسرعة أربكت زهرة. نادت عليها بقلق:
— "ميمي؟ إيه مالك؟!"
لكن القطة لم تتوقف،ركضت مباشرة نحو السرير، وانزلقت تحته بلمح البصر، كأنها تحاول الاختفاء من شيء لم يكن مرئيًا لغيرها.
نهضت زهرة بسرعة، اقتربت من السرير وانحنت لتنظر إلى الأسفل، لكن الظلمة التي خلفتها الستائر الثقيلة لم تسمح لها برؤية شيء سوى عينين خائفتين تتوهجان في العتمة.
— "ميمي، فيه إيه؟"
لكن ميمي لم تتحرك، لم تصدر حتى خرخرة أو مواءً،كانت ملتفة حول نفسها، جسدها متصلب، أنفاسها سريعة ومتوترة.
حاولت زهرة أن تمد يدها، لكن القطة ضغطت جسدها أكثر على الأرضية، كأنها تريد أن تذوب في العدم.
تنهدت زهرة، ثم تراجعت، مدركة أن ميمي لن تخرج حتى تهدأ بنفسها.
❋❋❋
في الأيام التالية، لم تكن ميمي كما كانت من قبل.
ظلت تحت السرير لساعات طويلة، بالكاد تخرج إلا لتأكل قليلًا أو تشرب الماء، لم تعد تقفز على السرير بجوار زهرة، ولم تعد تتمدد في الشمس كما اعتادت.
كانت أكثر من مجرد خائفة… كانت صامتة.
وكان صمتها ذلك أكثر إزعاجًا من أي مواء حزين.
زهرة كانت تراقبها بقلق متزايد، تحاول أن تفهم، لكنها لم تكن تملك أي دليل سوى تلك النظرة التي رأتها في عيني القطة عندما رأت العمدة.
لم تكن نظرة دهشة… بل كانت نظرة شخص تذكر شيئًا كان يجب ألا يتذكره.
❋❋❋
لم يكن صمت ميمي هو الشيء الوحيد الذي أرق زهرة، منذ أن عادت تلك الذكريات المقطوعة إلى ذهنها، لم تستطع أن تتجاهلها.
كانت تعرف أن عقلها يخفي عنها شيئًا، حاجزًا غير مرئي يمنعها من الوصول إلى ما حدث بعد سقوطها تحت السرير في تلك الليلة المشؤومة.
فقررت أن تواجه الأمر كما تفعل دائمًا… علميًا.
أخرجت دفاترها، بدأت تكتب ملاحظات حول ما تتذكره، تحاول إعادة ترتيب المشاهد المبعثرة، تقارنها مع النظريات العلمية عن الذكريات المكبوتة، عن كيفية استرجاعها.
جربت تقنيات الاسترخاء، التأمل العميق، حتى التنويم المغناطيسي الذاتي، لكنها كلما اقتربت من تلك النقطة المفقودة—تلك اليد التي أمسكت بقدمها تحت السرير—شعرت وكأن هناك قوة خفية تدفعها بعيدًا، وكأن عقلها يرفض تمامًا السماح لها بالعبور إلى الضفة الأخرى من الذكرى.
كانت تكتب في دفترها ذات ليلة:
"إذا كان العقل يدفن الذكريات المؤلمة لحمايتنا، فماذا يعني أنني أشعر بأنني أحتاج إلى تذكرها؟ هل تجاوزت مرحلة الحماية؟ أم أنني فقط... لم أعد أخشى الألم؟"
لكن الأسئلة بقيت بلا إجابة.
❋❋❋
في إحدى الليالي، بينما كانت زهرة تجلس في غرفتها، سمعت طرقًا خفيفًا على نافذتها.
نظرت باستغراب… كان الوقت متأخرًا، ولم تكن تتوقع أحدًا.
نهضت ببطء، فتحت النافذة، فوجدت امرأة واقفة في الظلام، كانت ترتدي ملاءة سوداء تغطيها بالكامل، لكن يديها كانتا ترتجفان بشدة.
— "دكتورة زهرة؟"
كان الصوت ضعيفًا، متوسلًا، وكأن المتحدثة تخشى حتى أن يسمعها الهواء.
— "مين؟"
— "أنا… أنا زوجة سالم اللي اتقتل."
شهقت زهرة بصمت، فقد عرفت فورًا من تكون.
زوجة الرجل الذي قُتل على يد رجال العمدة، والذي ادّعوا أنه قُتل في شجار، بينما كان الجميع يعرفون أنه أُعدم بدم بارد.
— "إنتِ لازم تساعديني… العمدة… مش سايبني في حالي!"
كان صوتها يزداد اضطرابًا، وعندما تحركت قليلًا نحو الضوء، استطاعت زهرة أن ترى وجهها أخيرًا.
وجه امرأة كانت على وشك الانهيار.
— "عايز إيه منك؟"
اغرورقت عينا المرأة بالدموع، ثم شهقت كأنها تختنق بكلماتها.
— "عايزني… ليه… ليه مش عايز يسيبني؟! أنا ما ليش حد، ما عنديش قوة، بس مش هقدر… مش هقدر أكون كده !"
قبضت زهرة يديها بقوة، شعرت بغضب لا يمكن تفسيره يتصاعد في داخلها.
لم تكن مجرد استغاثة امرأة ضعيفة… بل كانت صرخة ضد الظلم.
"العمدة علي النزاوي لم يكتفِ بقتل زوجها… بل يريد أن يمتلكها أيضًا."
❋❋❋
نظرت زهرة إلى المرأة التي كانت تكاد تسقط على الأرض من شدة الانهيار، ثم مدت يدها وأمسكت بمعصمها، أصابعها باردة، لكنها كانت تحمل شيئًا أقوى من مجرد تعاطف.
— "تعالي معايا."
❋❋❋
كانت زهرة تعرف جيدًا أن التدخل في شؤون العمدة هو لعب بالنار.
لكنها لم تكن يومًا تخشى الاحتراق فقد احترقت من قبل أن تبداء
تعليقات
إرسال تعليق