رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي عشر 11بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي عشر 11بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ١١ ـ
~ إكسير الحياة !! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غادرت نسيم غرفتها وتوجهت على الفور نحو غرفة عاصم ، طرقت الباب ظنًا منها بأنه لا يزال نائمًا، فلقد استيقظت أبكر من المعتاد وقررت أن توقظه بنفسها مثلما يفعل هو كل يوم .
لم تجد ردًا، فكررت طرقاتها مرة وثانية وثالثة، وعندما تأكدت أنه ليس بالداخل فتحت الباب ونظرت بالغرفة لتجد فراشه مرتبًا وكأنه لم يضع جانبه عليه !!
حينها علمت أنه قد غادر ، ولكن ما أثار ريبتها أنه لا يخرج للعمل قبل العاشرة !! والساعة الآن لم تتجاوز الثامنة ! لذا عادت إلى غرفتها والتقطت هاتفها ثم قامت بالاتصال به ولكن تلك الرسالة المسجلة التي سمعتها أخبرتها أن هاتفه مغلقًا الآن وهذا ما أخافها أكثر .
غادرت الغرفة مجددا وزرعت الشقة كلها ذهابًا وإيابًا، ليست عادته أن يغلق الهاتف ، وليست عادته أن يغادر دون أن يخبرها، هناك شيئا غريبا لا تفهمه .
تذكرت حديثهما بالأمس، وكيف انسحب وهو يبدو عليه الضيق والانزعاج، وبينما هي تنظر حولها وقعت عيناها على ورقة مطوية موضوعة فوق الطاولة، أسرعت بالتقاطها وفتحتها وبدأت بقراءة ما خطته يده " صباح الخير ، اضطريت اسافر فجأة ومحبيتش أقلقك ، لما أوصل هكلمك أطمنك ، خلي بالك من نفسك "
جلست على الأريكة وهي لا زالت تمسك برسالته في يدها، وأصابها من الاحباط ما كان كافيًا لسد شهيتها عن كل شيء، فتمددت وهي تمسك بهاتفها باهتمام، تنتظر اتصاله أو حتى رسالة منه.
طال انتظارها، مرت ساعة، والثانية ، والثالثة، وهي لا زالت في انتظاره، انقبض شيئا ما في صدرها، أدركت أن جزءًا صغيرًا منها يشعر بالشوق إليه، وأزعجها كثيرًا هذا الإحساس الضاغط وأيقظ العديد من الأسئلة التي لا تملك لها إجابة داخل رأسها. كلها أسئلة تدور حول الشيء نفسه.
هل تعمد إزعاجها حين سافر دون اخبارها؟ هل ما دار بينهما بالأمس من حديث هو سبب سفره المفاجئ ؟ وهل سافر دون أن يودعها لأنه يعرف أن ذلك سيؤثر عليها بالسلب ويشعرها بالسوء ؟
توقفت عن التفكير عندما استمعت إلى رنين هاتفها أخيرًا باسمه، فأجابت اتصاله دون تردد وقالت بلهفة لم يغفل عنها :
ـ ألو … عاصم ….
التقط لهفتها، وخوفها، وقلقها عليه، واستشف حالة التخبط الشديد في صوتها، فهو كذلك كان يعاني من نفس الشيء.
وقبل أن يتحدث بادرت هي مجددا :
ـ ليه سافرت فجأة من غير ما تقوللي ؟ قلقت جدا لما حاولت أكلمك وتليفونك كان مقفول ، كنت لسه مشفتش الرسالة اللي سيبتهالي ..
لم يصلها سوى تنهيدته المرهقة فتوقفت عن الثرثرة ، ثم تساءلت:
ـ انت كويس ؟
ابتسم وهو يومئ وكأنها تراه ثم قال:
ـ أنا كويس متقلقيش ، في شغل جديد بجهز له وكان لازم أجي بنفسي، على العموم أنا لسه حالا خارج من المطار وفي طريقي للاوتيل ، هرتاح بس وأكلمك تاني ..
ـ تمام ، هستناك تكلمني .
وأنهت نسيم الاتصال وشردت ، حاولت التغافل عن احساسها بأن هناك شيئًا يدعو للخوف في حديثه ولكنها لم تفلح أبدًا في ذلك، حدسها يخبرها أن ثمة شئ عليها أن تحترس منه، ولكنها تجهل ماهيته.
انتزعها من شرودها وصول رسالة من فريد يخبرها فيها أنه يرغب في رؤيتها ، فأسرعت بالرد عليه أنها أيضا تود لقائه، وأرسلت إليه عنوان كافيه يقع بالقرب منها ستنتظره به .
***
غادر حسن غرفته وأخذ ينظر حوله قليلًا وهو يشعر بالضيق لأنه سيترك ذكرى والدته ويرحل ، وسار نحو غرفة نغم ثم طرق الباب فإذ بها تفتحه وهي تستعد للخروج بالفعل.
وقفا في مواجهة بعضهما البعض ، ينظران إلى بعضهما بصمت إلى أن تحدث حسن وهو يمد يده إليها بمفتاح قائلا :
ـ امسكي يا نغم ، ده مفتاح الشقة، اعتبريها بقت بتاعتك من هنا ورايح .
نظرت إلى المفتاح باستغراب ثم إليه وقالت:
ـ ليه إنت رايح فين ؟
ظهر على ملامحه بعضًا من الزهو ولم تفلح نبرته الجادة في طمس الحماس الذي يفوح من صوته ، وقال :
ـ أصل أنا خلاص من النهارده هعيش في الڤيلا ..
قطبت جبينها بتعجب وظهرت عليها المفاجأة فقال وهو يحك ذقنه ويشيح بعيدا عنها بعينين غير واثقتين :
ـ أمي الله يرحمها كانت وصيتها إني أدور على أهلي وأعيش معاهم ..
لم يجد التصديق الذي ينشده في عينيها فزفر وتدلى كتفيه بإحباط وقال :
ـ بصراحة مش بسبب وصيتها بس، أنا كمان حابب أبقا في المكان الصح ، في الأول وفي الآخر دول عيلتي ، وأنا واحد منهم سواء حبيت ده أو لأ وسواء هم حبوا ده أو لأ.. صح ولا غلط ؟!
كان يريد منها جوابًا يطمئنه، يخبره أنه فعل الصواب، كان يريد أن يرى الموافقة والتأييد في نظراتها لكي يتأكد أنه كان محقًا في اتخاذه تلك الخطوة .
نظرت إليه بهدوء وأمعنت النظر في وجهه، يبدو أن الأمر حقيقيا ، حسن وفريد أشقاء !! لقد حاولت الاقتناع بتلك الحقيقة ولكنها فشلت، فهي إلى الآن لم تتمكن من تصديق أن حسن ـ ذلك الهمجي المثير للجدل ـ ينتمي فعلا إلى عائلة مرسال !
هي تراه ابن خالتها الذي تربت ونشأت معه في نفس البيت و اصطبغت بالكثير من خصاله فقط ! ابن خالتها الذي كانت تعتبره في فترة من الفترات كابوس عليها أن تتخلص منه .
والآن لا يسعفها عقلها لتصديق أنه ابن سالم مرسال وشقيق كلا من فريد وعمر ونسيم !!
ـ ساكته ليه يا نغم ؟!
قالها حسن بطريقة أهدى من المعتاد، فنظرت إليه بانتباه واستشفت تلك الرغبة في الاطمئنان من صوته ونبرته القلقة ، فقالت بابتسامة:
ـ خير ما عملت يا حسن .
ابتهجت ملامحه أكثر وظهرت الابتسامة وهي يقول:
ـ يعني قراري ده مش مضايقك ؟
كانت ابتسامتها نابعة من القلب بصدق ، هي توقن في قرارة نفسها أنه يستحق أن يكون له عائلة يستظل بظلها، وهو الذي لطالما عاش وحيداً ، محرومًا من الأب والأخ والسند، تعرف كذلك أنه كان يفتقد ذلك بشدة ، ودائمًا ما كان يلقي اللوم على والدته لأنها لم تنجب له أخوة، وكان دائم الشكوى لأنه كالمقطوع من شجرة .. ولكنه لم يعد كذلك، لذا تنهدت ثم أجابته :
ـ أبدا ، بالعكس أنا مبسوطة عشانك ، انت من حقك تعيش وسط عيلتك وتتونس بيهم بدل ما تعيش لوحدك .
ابتسم ابتسامة مهزوزة ثم قال :
ـ صح ، بيني وبينك أنا مبسوط إني أخيرا بقالي عيلة وأهل واخوات ، مشتاق أجرب الاحساس ده .. إحساس إني أبقى مسنود على حد من دمي، عارف إني لو وقعت هلاقيه جنبي، لو احتاجت أي حاجه هلاقي حد يسد معايا .. أصل الوحدة دي قاسية أوي يا نغم .
رق قلبها كثيرا لأجله، فهي أشد من يشعر به لأنها تشاركه نفس الفقد ، هي أيضا تتمنى لو أنها تملك عائلة تلتجأ إليها أو تحتمي بها ..
ـ مع اني خايف وقلقان ، مش عارف حياتي الجديدة دي هتبقا عاملة ازاي ، خصوصا يعني إن مفيش غير عمر اللي متقبل وجودي .
ابتسمت وهي تنظر إليه وكأنها ترى أمامها شخص آخر ، تراه لأول مرة كطفل صغير مهزوز ومذبذب، ليس هو نفسه حسن المتسلط المتجبر ، إنه الآن يبدو متخبطّا، خائفًا، يخشى الرفض والمواجهة، فقالت وهي تحاول طمأنته :
ـ متقلقش، فريد ونسيم هما كمان هيحبوك وهيقبلوا بيك ، نسيم نصك التاني يا حسن ، ودايما كنت بسمع إن التوأم بيكونوا متعلقين ببعض .. يعني لو قربت منها وحاولت تتكلم معاها هي هتحن لك بسرعة أنا واثقة .
تنهد تنهيدة ثقيلة حارة، طرد معها جزءًا من خوفه وقلقه ثم قال:
ـ مش عارف ، بس أكيد هحاول أتكلم معاها وأقرب منها ..
أومأت بتأييد وقالت بابتسامة مترددة تعكس الترقب:
ـ و فريد كمان ..
تحفزت ملامحه كليًا ، بينما هي لم تتراجع وتابعت:
ـ فريد طيب جدا ولو فهمتوا بعض أكيد حاجات كتير هتتغير .
ظل ينظر إليها بتفرّس لم تفهمه ولكنه أربكها فتنحنحت وقالت:
ـ على العموم أنا مش هاخد المفتاح، أنا كمان ماشية .
هز رأسه متسائلا وقال:
ـ ماشية رايحة فين ؟
فتحت فمها وأغلقته، ثم تنهدت بتوتر وظهر عليها التردد فأخذت تنظر حولها وعيناه تتبعان حركتها إلى أن نظرت إليه أخيرا بحزم وقالت:
ـ هنقل في بيت تاني .
ـ فين البيت ده ؟
زفرت بانهمام وأجابت بإيجاز صريح:
ـ جنب بيت فريد .
مط شفتيه باستهجان، وتجهم وجهه وقد شعر بأنه ابتلع مع كلماتها كرة من الرصاص ، فقالت لرغبتها في حسم الأمر:
ـ أنا وفريد هنتجوز قريب .
احتد شعوره بالألم، وكأن تلك الكرة امتدت واجتاحت كل دواخله وبدأت في قتله ببطء ، فأخذ يطالعها بنظرات تقطر منها الحسرة وكأنه يتفاجأ بقرارها للتو !
بينما هي ابتلعت ارتباكها وتابعت بجرأة أكثر :
ـ أنا وفريد بنحب بعض يا حسن !
ابتلع ريقه بصمت وعيناه لا تبارح خاصتها، بينما هي تنظر إليه بعينين ممتلئتين بالدموع وهي لا تنفك عن إثبات حبها لأخيه قائلة:
ـ فريد هو الانسان الوحيد اللي حسيت معاه بالأمان ، فريد هو كل عيلتي !
ابتسم ابتسامة ساخرة قصيرة، أراد بها أن يكبح دموعًا لعينة أرادت الفرار ، ثم نطق بنبرة مهزوزة:
ـ بتصعبيها عليا يا نغم ؟
ـ دي الحقيقة، أنا مليش غير فريد ، أنا طول عمري محرومة من الأب، والأخ، اتحرمت من كل حاجه.. بس ربنا عوضني وحط فريد في طريقي وبقا هو بالنسبة لي كل شيء ..
ابتلع تلك الغصة التي تكونت في حلقه ومسح جانب عنقه بتوتر وهو ينظر إليها من فينة لأخرى، فوجدها أخيرا تنظر إليه برجاء قائلة :
ـ لو ليا غلاوة في قلبك فعلا..
ـ متكمليش يا نغم !! …… قاطعها وتابع بنبرة ميتة : أنا مهما كان ايه بيني وبينه عمري ما هفكر هأذيه ، مش عشانك .. عشان هو في الأول وفي الآخر أخويا ، سواء أنا وهو قبلنا ده أو لأ بس دي حقيقة مش هنعرف نهرب منها .
اختتم حديثه ومالت حدقتاه جانبًا وشرد وهو يردد :
ـ مش هنكر اني لما بشوفك معاه بحس إني كارهه، بحس وقتها إني نفسي أخنقه وأمحيه من الوجود..
ابتلعت ريقها بخوف وهي ترى أثر صدق حديثه على تقاسيم وجهه الحادة المنقبضة ، فنظر إليها مجددًا ثم قال :
ـ بس لما بفكر بعدها بعقلي مش بقلبي بلاقيني غلطان، هو ملوش ذنب.. أنا اللي معرفتش أخليكي تحبيني !
قالها وهو ينظر إليها بعينين تائهين وكأنه يبحث عن مخرج من نفسه، وكأن الكلمات غادرت قلبه لا فمه .
ساد الصمت برهة، ثم تنهد وكأن الاعتراف كان أكثر من احتماله، وتابع :
ـ يمكن أذيتك صحيح زي ما قولتيلي .. فكرت إن حبي لوحده كفاية، مكنتش عارف إنتي بتدوري على إيه.. لا حطيت في اعتباري إنك عاوزة الأمان والسند، ولا كنت الراجل اللي المفروض ياخد بإيدك لقدام مش يرجعك مليون خطوة ورا .. أنا معرفتش أحبك الحب اللي تستاهليه يا نغم .
ترقرقت عيناها بشفقة ، لا من غضب ولا لوم، وتدفقت دمعاتها تباعًا وكأنها تبكي عليه أكثر من نفسها .
أرادت أن تقول له شيئا ، أن تمد له جملة تمسح بها دمعه ، ولكنه حمحم بخفة وهو ينتشل نفسه من ذلك الانهيار وبادرها بنبرة منفتحة قليلا :
ـ على العموم أنا أكيد عاوز أشوفك سعيدة ومرتاحة ، ده كل اللي يهمني .. وأكيد لما أشوفك مبسوطة هكون أنا كمان مبسوط .. ولا إيه ؟
هزت رأسها بابتسامة حزينة فابتسم بدوره ثم ربت على كتفها وهو يقول :
ـ على كل حال خلي بالك من نفسك ، وفي أي وقت تحتاجيني هسيب الدنيا كلها وأجي لحد عندك، أنا عنيا ليكي وانتي عارفة .
اطمئن قلبها قليلا وهدأت نبضاته الثائرة فارتخت ملامحها نسبيًا وتنهدت وأومأت موافقة ، فمد يده إليها ليصافحها قبل أن ينصرف وهو يحاول إخفاء شوقه الذي نبض إليها قبل أن يفارقها وقال:
ـ يلا أشوف وشك بخير .
ودعته فانصرف ، ومن ثم عادت إلى غرفتها حيث كانت تنتظر زينب التي عانقتها بقوة وهي تربت على ظهرها وتمسد شعرها بحنان وتقول :
ـ خير ما عملتي يا حبيبتي ، الصراحة أوقات بتوجع لكن دايما بتفوّق وتخلي الواحد يعيد حساباته من جديد.
انخرطت نغم في نوبة بكاء عاتية وهي تعانق زينب بكل قوتها وتقول:
ـ صعبان عليا أوي يا خالتي، بالرغم من انه أذاني كتير بس مش هاين عليا أكسر قلبه.
ربتت الأخرى على كتفها وهي تقول بابتسامة:
ـ متقلقيش على حسن ، ربنا بيعوض يا نغم ، وحسن ربنا عوضه بأهله ، وبكره يحب اللي تنسيه كل بنات الكون اللي شافهم قبلها، زي ما انتي ربنا عوضك بفريد عن حرمانك من الأهل والصحاب ..
و ابتعدت عنها ثم نظرت إليها بابتسامة واثقة وهي تمسك بكتفيها وتقول :
ـ مفيش حد بيملك كل شيء يا حبيبتي و إلا تبقى الدنيا دي متفرقش حاجة عن الجنة ! الدنيا دي دار ابتلاء يا نغم ولا بد كل واحد فينا يكون عنده ابتلاء شكل ، في اللي معاه الحبيب لكن ملوش أهل، وفي اللي عنده الأهل ومش لاقي حبيب، وفي اللي عنده الأهل والحبيب وناقصه الفلوس ، وفي اللي معاه كل دول وربنا مبتليه بمرض مخليه مش قادر يستمتع بأي شيء بيملكه، افرحي بالرزق اللي ربنا رزقك بيه يا حبيبتي ومتشيليش هم غيرك، الأيام ياما بتداوي .
اقتربت منها نغم وطبعت على خدها قبلة قوية وهي تقول بامتنان صادق:
ـ أنا مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه ، ربنا ميحرمنيش منك يا خالتي.
ـ ولا يحرمني منك يا روح خالتك ، يلا علشان تلمي بقية حاجتك وأنا كمان أجهز وأمشي .
***
كانت نسيم تجلس في انتظار فريد، فتلك هي المرة الأولى التي ستراه فيها بعد عودته من اليونان .
كانت تنظر حولها يمينًا ويسارًا بتوتر، فهذه مرتها الأولى التي تخرج فيها بمفردها، و لولا أنها طلبت من السائق الخاص أن يوصلها إلى هذا المكان فما كانت ستعرف كيف تصل إليه .
وبينما هي تنتظر رأت فريد يتوقف بسيارته أمام مدخل الكافيه، فتأهبت للقائه وتحمست أكثر وهي تراه يدنو منها منفرج الأسارير، فنهضت وفتحت ذراعيها لتستقبله بعناقٍ حار، فعانقها بشوق وأخذ يربت على ظهرها وهو يقول:
ـ وحشتيني يا نسومه ..
ـ وانت كمان وحشتني جدا يا فريد، انت جيت في الوقت المناسب بجد.
ابتعد عنها واستدار حول الطاولة ليجلس في مقابلها وهو يقول باهتمام:
ـ في إيه مالك ؟ انتي متضايقه من حاجه ولا إيه ؟
ابتسمت ابتسامة فاترة وعقدت ذراعيها فوق الطاولة ، ثم تنهدت وقالت :
ـ لا أبدا ، كل الحكايه إني كان نفسي أشوفك وأتكلم معاك..
ـ بلاش كدب يا نسيم، هو أنا مش عارفك ولا إيه ؟! واضح ان اللي اسمه عاصم ده مضايقك، اتكلمي وقوليلي عمل لك إيه وأنا أجيبلك حقك منه حالا ..
لم ترد، كانت تخشى أن ينكسر صوتها أو يُسمع صدى خوفها في كلامها، وتنهدت وهي تبتسم بلطف وقالت:
ـ صدقني يا فريد مفيش حاجه ، عاصم كويس جدا معايا والله، أنا مش شايفاه مصدر خطر أبدا بالنسبة لي ، بالعكس ، أنا أول مرة أكون حاسة بالأمان ده معاه .. لكن حاسة إن في شيء غريب بيحصل من ورايا والاحساس ده مضايقني ..
قمعت رغبتها في البكاء وحافظت على نظرها المصوب تجاه أخيها، ثم زفرت وهي تحاول كبح خوفها الذي بدأ يتسلل إلى ملامحها فقال :
ـ ده مش مجرد احساس عابر يا نسيم ، كل واحد مننا بيكون جواه صوت يشبه جرس الانذار ، بيدق لو حس بالخطر أو لو كان شاكك ان في حاجه غلط ، الصوت ده مينفعش نتجاهله، لأنه دايما بيكون صح.
تجنبت النظر إليه وأشاحت بعينيها في اتجاه مغاير ، كانت تخشى أن تنهار دفاعاتها إن رمشت فقط، أما هو فكان قد قرأ ارتجافة عينيها، واستمع إلى ارتباك أنفاسها فلم يرغب في مناقشتها حول الأمر أكثر ورفع يده مشيرًا إلى النادل ليقترب وسألها :
ـ نفطر سوا ؟!
ـ لأ.. مليش نفس ، هشرب قهوة .
نظر فريد إلى النادل الذي يقف في انتظار قرارهما وقال :
ـ اتنين برتقان فريش من فضلك .
نظرت إليه نسيم بطرف عينها ثم انفلتت ضحكتها فقال باسمًا :
ـ اتعلمتي شرب القهوة امتا ده انتي عمرك ما حبيتي طعمها ؟ انتي لحقتي ؟! اومال لما يبقى لكم سنه متجوزين هيعلمك ايه تاني ؟
ظهرت ابتسامتها وهي تنظر إلى سطح الطاولة بشرود، وتعبث بالملصق البلاستيكي على زجاجة المياه وهي تقول بترقب :
ـ تفتكر إن جوازنا ممكن يستمر سنه ؟!
كان ينظر إلى تشتتها وحيرتها البادية في عينيها بوضوح ثم تنهد وقال :
ـ والله باللي أنا شايفُه قدامي دلوقتي أفتكر أه ..
نظرت إليه نظرة متخوفة، حذرة، وتساءلت :
ـ إيه اللي انت شايفُه ؟!
مال نحوها بجذعه ثم عقد ذراعيه أمامه فوق الطاولة وهو ينظر إليها بابتسامة يملئها الأسى ثم قال:
ـ شايف إنك مش عاوزة جوازكم يستمر سنة واحدة بس، لا انتي عاوزاه يستمر سنين.. شايف إنك حبيتيه يا نسيم .
اضطربت ملامحها كليًا، وابتلعت ريقها بتوتر وهي تتلاشى النظر إليه وتحاول إيجاد مهرب من نظراته التي تحاصرها وهي تقول :
ـ لا مش بالظبط ..
ـ نسيــم .. ملوش داعي تخبي عليا ، أنا فاهمك وحاسس بيكي وبالحيرة اللي انتي عايشاها .
تراخى كتفيها فيما يشبه الانهزام ، ونظرت إليه باستسلام وقالت:
ـ أنا بتعذب يا فريد ، جوايا مليون حاجه وعكسها ..
ـ عارف ، الشعور اللي انتي عايشاه ده طبيعي لأنك مش واقفة على أرض صلبة ، جواكي مشاعر قديمة ، ومشاعر جديدة بادئة تظهر وتعلن عن نفسها، وانتي في صراع بين الاتنين ..
أومأت بموافقة وهي تغمض عينيها لتمنع دموعها من الانهمار بينما هو يستطرد حديثه قائلا :
ـ رأيي إنك متتسرعيش وسيبي كل حاجه تاخد وقتها ، المشاعر الحقيقية هتفرض نفسها وهي اللي هتحركك..
ثم تنحنح بحرج وقليل من الضيق والضحر وهو يقول :
ـ ونصيحة مني أجلي خطوة وجود طفل دلوقتي تماما.. اللي زي عاصم انتي مش عارفة لسه ممكن يفاجئك بإيه .
تخضب وجهها بالحمرة وأول ما جال بخاطرها سؤال لم تتطرق له من قبل .. هل من الممكن أن تتطور علاقتها بعاصم وتمتد لكي تصل إلى علاقة جسدية حميمة ؟!
ارتجف جسدها وهي تنفض ذلك الخاطر من بالها ، ونظرت إلى النادل الذي أحضر البرتقال ، فشكره فريد فانصرف، فتناولت كأسها وتجرعت منه جرعتين لكي ينزلق خجلها و توترها معهما .
أما هو ، فأخذ ينظر إلى كأسه وهو يتخيل كائنات سوداء لا ترى بالعين المجردة تتراقص بداخله، فنظر إليها راغبًا في أن يصرف تفكيره عن تلك الوساوس وقال :
ـ ليه عملتي اللي عملتيه ده يوم العزا ؟!
لم تسعه الفرصة من قبل لكي يتحدث معها حول ذلك الفعل الأحمق الذي ارتكبته، فالأيام الماضية كانت تشبه ماراثون للركض بالنسبة له، إضافة إلى أنه لم يرغب في مناقشتها حول الأمر إلا بعد مرور فترة مناسبة لكي تتدارك نفسها جيدا وتصبح في حال يسمح بذلك.
نظرت نسيم إليه وهي تشرب العصير، ثم أخفضت كأسها ببطء وأسندته فوق الطاولة مجددا، وقبل أن تفلح في الرد قاطعها وقال :
ـ أوكي أنا عارف انتي ليه اتصرفتي بالشكل ده، عارف انك كنتي مجروحة وحاسة إنك لو اتصرفتي عكس احساسك ده هيفيدك ، وخلاص اللي حصل حصل ملوش داعي نقلب فيه بس .. لازم تحاولي تصلحي الغلط ده ، متخربيش علاقتك بنغم يا نسيم ، انتي وهي محتاجين بعض.
أومأت بتأييد ، فهي تعرف أنها تصرفت بسخف لم يكن عليها أن ترتكبه ، وتعرف أنه خطأ غير مقبول تماما، ولكنها كذلك تثق أته خطأ يمكنها إصلاحه ! فتنهدت وقالت:
ـ حاضر، أوعدك هتكلم مع نغم وهعتذر لها، صدقني أنا نفسي مش راضيه عن اللي عملته وندمانة ومستاءة جدا إني اتسببت لنغم في جرح زي ده بدون قصد، أنا مكنتش قاصداها أبدا يا فريد..
ابتسم وهو يمد يده نحوها وأمسك بيدها وضغط عليها داعمًا إياها ثم قال:
ـ أنا متأكد من ده، على العموم نغم مفيش أطيب منها، وهي بتحبك جدا على فكرة ومجرد ما تشوفك هتنسى كل اللي حصل.
ـ إن شاء الله ، طيب قوللي ناوي على إيه ؟! هتفضل ولا هترجع تاني أثينا ؟
تساءلت فنظر إليها مبتسما وقال :
ـ هسافر أخلص شوية تحضيرات بخصوص الشغل الجديد وأرجع تاني، و لما أرجع بإذن الله عاوز أنا ونغم نبدأ نشوف تحضيرات الفرح ..
لمعت عينيها بفرح، وبدأت ابتسامتها بالاتساع وهي تقول:
ـ أنا فرحانة علشانكم جدا ، انت ونغم تستاهلوا كل حاجه حلوة .
تنهد تنهيدة مطولة وتسللت أنفاسه بثقل، ثم قال :
ـ انتي كمان يا حبيبتي تستاهلي كل خير، وواثق إن ربنا هيعوضك وهتكوني أسعد واحدة في الدنيا.
أطلقت تنهيدة مرتابة ثم هزت رأسها بتأييد وقالت :
ـ إن شاء الله.
***
وصل حسن إلى الڤيلا بعد أن أوصله السائق الخاص بوالده الذي كان في انتظاره .
نزل من السيارة وهو ينظر حوله بترقب، ثم سار نحو الداخل وهو يحمل حقيبته التي جمع بها كل أغراضه، وبينما هو بصدد الدخول اصطدم بعمر الذي اتسعت ابتسامته بسعادة وعانقه على الفور وهو يقول :
ـ يا عم وحشتني .
ابتسم حسن بهدوء ولم يفلح في إخفاء سعادته بما قاله عمر، ثم ربت على كتفه بقوة وهو يقول :
ـ واضح إني وحشتك جامد لدرجة انك بتستقبلني عند الباب.
حك الآخر جانب عنقه متصنعًا الحرج وهو يقول :
ـ هو بصراحة انت وحشتني جامد جداا بس أنا كنت خارج أصلا ..
ضحك حسن وقال :
ـ تعرف إن أكتر حاجة بحترمها فيها هي صراحتك ؟! … ضحك عمر فتابع : بس قوللي ، خارج على فين بدري كده ؟
أجابه عمر وهو يدس كلتا يديه بداخل جيبي بنطاله بحماس:
ـ من زمان مقابلتش صحابي وكنا متفقين نفطر سوا، ما تيجي اعرفك عليهم..
هنا برز صوت والدهم الذي قال :
ـ أجل خروجة صحابك دي لبعدين يا عمر وخليك النهارده مع حسن علشان لو محتاج يعرف حاجه أو يسأل عن حاجه.. أنا عندي مشوار ضروري دلوقتي لازم يخلص ولما ارجع نتكلم ..
ثم أسند يده على كتف حسن وقال مبتسمًا :
ـ نورت بيتك يا حسن .
أومأ حسن بهدوء، بينما انصرف سالم ، فنظر إليه عمر وقال بحماس:
ـ تعالى بقا أوريك الاوضه بتاعتك وبالمرة تتعرف على والدتي ..
قاده نحو الطابق العلوي وهو يمسك بيده وكأنه المرشد الخاص به، وصعدا سويًا الدرج وهو يشير إليه قائلا :
ـ بص يا سيدي.. مبدأيًا كده احنا عندنا الدور ده فيه ١٢ أوضة ..
نظر إليه حسن متفاجئًا وهو يردد باستنكار :
ـ ١٢ أوضة ؟! ڤيلا دي ولا قصر عابدين ؟
ضحك عمر ثم قال :
ـ اومال لو رحت السرايا اللي في العزبة بقا هتقول إيه ؟! هتحس إن الڤيلا هنا بالنسبة لها كشك سجاير .
هز حسن رأسه وهو يضحك ساخرًا ثم قال :
ـ أما الاغنيا دول عليهم حاجات !!
ـ بص يا أبو علي .. أول اوضة دي بتاعت الباشا .. لو حالفك الحظ وكنت من المقربين هتدخلها ..
نظر إليه حسن متعجبًا وقال بصوت خافت:
ـ ليه يعني كل ده ؟ هي مش المفروض أوضة زي أي اوضة ؟
ـ لأ طبعا .. دي أوضة سالم مرسال بجلالة قدره ، محدش بيدخلها غير زينب وقت التنضيف بس ..
تغضن جبينه وهو ينظر إلى عمر قائلا بهمس:
ـ والله ما شاكك غير في زينب دي ، شكله هيطلع متجوزها في الآخر وهناخد كلنا صابونة .
ـ متجوزها إيه يا عم انت كمان هو أبونا ده في واحدة تتحمله ؟ ده احنا عايشين معاه كده جدعنة مننا ..
أخذ حسن يحدق في جانب وجهه وهو يستوعب كلماته التي خلقت بداخله هاجسًا ما ، فتابع عمر قائلا :
ـ ما علينا.. الاوضة اللي جنبه دي بتاعت والدتي .. نادية هانم الصواف.
في هذه اللحظة شعر حسن بشيئا ما يطرق صدره بإلحاح، وكأن شقيقه الأصغر وضع الحقيقة أمامه ببساطة خدرت عقله لأنه أخذ يحدق فيه دون حراك .
يعرف والدته بنادية هانم ، هذه حقيقة لا مناص منها ، واحتمال كبير أنها غير متعمدة ، ولكنها وضحت الصورة أمامه بدون أدنى مجهود ..
أخوه يكون ابن الهانم هذه حقيقته التي لا يمكنه أن ينكرها كما لن يتمكن هو أيضا من إنكار حقيقة أنه ابن الخادمة !
اقترب عمر و هم بطرق باب غرفة والدته، ولكن حسن استوقفه وهو يقول:
ـ انت هتعمل إيه ؟
ـ هعرفكم ببعض .. !
ـ لأ معلش خليها مرة تانية .
هكذا استطاع الهرب من تلك المواجهة التي لا يرغب فيها، فهو غير مستعد الآن لأن يتلقى النظرات المليئة بالاستهجان والاستنكار منهم .
ـ طيب زي ما تحب ، المهم ، الاوضة اللي هناك دي بتاعت چيلان أختي ..
نظر إليها حسن وردد بعفوية :
ـ القطة المخربشة !
طالعهُ عمر باستغراب ثم ضحك وهو يهز رأسه يائسًا ويقول:
ـ هي تبان كده بس من جواها كيوت وبريئة جدا على فكرة .
ابتسم حسن ساخرًا وقال :
ـ والله يا حبيب أخوك أنا ما شوفت حد كيوت وبريء في البيت ده غيرك ، ها وبعدين.. واللي جنبها دي بتاعت مين ؟
نظر إليها عمر وتمتم بحزن ملأ نبرته :
ـ دي اوضة چوليا الله يرحمها .
تنهد حسن وهو يربت على ساعده قائلا بنبرة خفيضة:
ـ الله يرحمها ، تعيش وتفتكر ..
ابتلع تلك المرارة وأومأ مبتسما بحزن ثم تنهد وهو يشير إلى الجانب الآخر وقال :
ـ بالترتيب كده أول اوضة دي بتاعة فريد.. وبعدين نسيم وبعدين اوضتي .. و الاوضة اللي في وش اوضتي دي هتكون بتاعتك من هنا ورايح .. وطبعا لو مش عاجباك ممكن تختار اوضة تانية..
أومأ حسن موافقا ثم قال بإيجاز:
ـ لا تانية ولا تالتة أهي اوضة زي أي اوضة..
امتنعا عن الحديث فور أن انفرج باب غرفة چيلان وظهرت بهيئتها التي جعلت الكون كله يسكن من حولهم ..
امرأة تفيض بالرقة، بالقوة، بالكبرياء. تملك عينين تحملان في طياتهما هدوءًا عميقًا وسحرًا خفيًا.
وقفا يتبادلان النظرات الصامتة، يراقب ملامحها الصارخة بالعجرفة وتراقب ملامحه المشحونة بالصخب وللحظة تذكرت اليوم الذي اختطفها فيه وكيف احتجزها بمنزله بمنتهى الوقاحة التي من الممكن أن يمتلكها رجل ، فتشنجت عضلات وجهها لا إراديًا وزفرت نفسًا مستاءًا على مهل .
أما حسن فكان يشاركها نفس الذكرى، يتذكر عندما اختطفها ظنًا منه أنها شقيقة فريد، ولم يخطر بباله ولو لحظة أنه هو شقيق فريد بذاته .
لمح عمر كيف يتراشقون بالنظرات المتحفزة الممتلئة بالرسائل المشفرة فرغب في تلطيف الجو بينهما فقال:
ـ طيب أنا عارف انكم اتعرفتوا قبل كده بس مفيش مانع تتعرفوا تاني..
ونظر إلى حسن الذي لم تَحد عيناه عن چيلان وقال :
ـ أعرفك يا حسن .. چيچي أختي..
ابتسم حسن ابتسامة جانبية وكأنها تحمل سخرية خفية أو ثمة لغز لا يعرف حله سواه، ابتسامة لم تصل عيناه اللتان كانتا مليئتان بالحذر والخبث وهو يطالعها بتركيز وكأنه يقيس رد فعلها مما أشعرها بالضيق وعدم الارتياح وقبل أن تنطق كان عمر قد سبقها وقال وهو يقف بجوار حسن ويربت على صدره بفخر :
ـ أعرفك يا چيچي، حسن مرسال.. أخويا .
شعر حسن بانتفاضة إمتنان تضرب وجدانه فجأة ، وود في تلك اللحظة لو أنه عانق أخاه الذي لا يتوقف عن دعمه وتعزيز ثقته بنفسه ، ولكنه عوضًا عن ذلك ابتسم باتزان وهو يمد يده نحو چيلان قائلا :
ـ أهلا يا چيچي..
نظرت چيلان إلى يده الممدودة في اتجاهها، ثم تقدمت منه خطوة ووقفت أمامه مباشرةً وهي تنظر داخل عينيه بجرأة تلائمها وتناسب حدة عيناها وقالت بنبرة رصينة :
ـ چيلان !! اسمي چيلان عبدالعزيز !
ثم مدت يدها وصافحته فضم يده قليلا حول كفها وهو ينظر داخل زرقاوتيها حيث غرق انتباهه وقال بتلاعب يفقهه جيدًا :
ـ وماله ! أهلا يا چيلان عبدالعزيز ، وأنا حسن .. حسن سالم مرسال !
نطق اسمه متمهلًا ، كل اسم بمفرده ، منفردًا بذاته ، معلنًا عن نفسه بقوة واستحقاق.. أما هي فأومأت متعمدةً المبالغة في إظهار لامبالاتها وعجرفتها ثم أشاحت بوجهها محاولةً الدفع بأفكارها كلها جانبًا وقالت موجهة حديثها إلى عمر :
ـ خلينا نتكلم شوية يا عمر.
أومأ عمر موافقًا ثم أشار إليها لتتقدمه فنظرت إلى حسن وتجاوزته وسارت إلى الأمام وهي تطرق الأرض بكعبها العالي وكأنها تعلن عن حضورها في صمتٍ مدوٍ ، وكأن كل خطوة منها تحكي معانٍ ورسائل مختلفة ، وكأنها تخبره موجز قصير عن شخصيتها التي لم يعرفها بعد وتقول له أنا لا أتعثر، لا ألتفت، أنا أمضي للأمام فحسب وكل ما ورائي يبقى ورائي .
كان يتأملها وهي تغادر أمام عينيه في هدوء ناطق بالفتنة، حلتها الرسمية بلونها الأصفر الباهت تلائم بشرتها القمحية وتمنحها إنسجامًا رهيبًا ، ظل في مكانه وكأن عينيه تعلقتا عند تلك المساحة المكشوفة من ساقيها بفعل تنورتها القصيرة التي انحسرت فوق ركبتيها، وبعد أن اختفت من أمام ناظريه التفت ودخل إلى غرفته ثم صفق الباب .
وقف ينظر إلى السرير الفخم، مفروش وكأنه في جناحٍ ملكي، أغطيته ناعمة بلون العاج، الغرفة كلها كانت عبارة عن تحفة فنية، وبالرغم من ذلك فهي باردة أكثر مما توقع .
فجأة. طافت في ذهنه صورة سريره القديم الذي عاشره لثلاثة وثلاثين عامًا، ذلك السرير الخشبي الذي كانت تصدر كل حركة فيه صريرًا .. الغرفة كانت مشوشة ومزعجة ولكنها كانت .. دافئة !
ابتسم بسخرية في نفسه، ثم جلس على حافة الفراش وأسند كفيه بجواره وهو يتطلع حوله وغرق في حديثٍ طويل لم يقل منه شيئا.
عيناه ترقرقتا .. بدون إذن .
كان كل شيء باهت وقديم ومتهالك ولكن وجود أمه كان يشعره بالامتلاء ، بالرغم من كونه ساخطًا وناقمًا معظم الأحيان ولكنه كان مطمئنًا ومرتاح البال بسبب وجودها .
قبض كفيه بقوة وهو يبتلع ريقه بصعوبة، ثم تنهد وترك ظهره ليسقط على السرير ببطء وتمدد بصمت، ذراعيه مبسوطتين بجانبه، وعيناه ثابتتان في السقف، لا يتأمل، لا يحلم، فقط يسلم نفسه للصمت وفي داخله موجة من الخوف والترقب، كأنه يخشى أن يغفو فتستيقظ على حياة لا ترحب به ولا تتسع لوجوده .
*****
في مدريد ..
كان عاصم في طريقه إليها، وقبل أن يترجل من سيارته أتاه إتصال من سائقه الخاص فقام بالرد فورا وقال :
ـ خير يا حسين ؟!
ـ عاصم بيه، مدام نسيم طلبت مني أوصلها لكافيه أراوند ذا كورنر اللي جنب الكومباوند .. وبعدين دخلت وبعد نص ساعه جالها أخوها فريد مرسال وهو دلوقتي قاعد معاها وبيتكلموا بقالهم حبة .
شعر عاصم بالغضب ينهش صدره، لم يكن الأمر مجرد مقابلة لأخيها، بل كان تجاوز صريح وفج لحدودها الذي ظن أنها تعلمها جيدًا، فها هي قد خرجت دون اذنه بالرغم من أنها هاتفته وكان بإمكانها أن تخبره ولكنها لم تتكبد عناء مجادلته ربما لأنها كانت تظن أنه سيرفض مقابلتها لأخيها .
أنهى الاتصال دون رد، ثم ترجل من السيارة ودخل المنزل ومن ثم اندفع نحو تلك الغرفة وخطواته تحمل وقع عاصفة مكتومة، وعيناه لا تشي إلا بالوعيد .
فتح الباب، فنظرت إليه بتأهب صامت دون أن تنطق، أما هو فحدق فيها طويلا واقترب أكثر ليقف في مواجهتها وهو ينظر إلى بطنها المنتفخ ثم نطق قائلا بالإسبانية :
ـ لماذا حاولتِ الهرب ؟!
ارتعشت وجف حلقها وهي تراه ينظر إليها بعينيه اللتان تقدحان شررًا من الغضب المكبوت، ثم يقترب منها أكثر وهو يهمس بفحيحٍ مخيف :
ـ تكلمي، لماذا حاولتِ خرق الاتفاق بيننا والهرب ؟! ألم أكن واضحًا معكِ من البداية حين أخبرتكِ أن هذا الطفل ببطنكِ أهم لدي من أي شيء حاليًا ؟!
لم تستطع الرد، فتحت فمها ولكنها لم تجد صوتًا، فمال بجذعه نحوها ثم ضرب الفراش بكلتا يديه وهو يهدر بصوتٍ عاصف:
ـ تكلمي !
برز صوتها مرتجفًا للغاية :
ـ بلى أخبرتني ، ولكني لم أكن أعرف أن هذا الحمل من الممكن أن يكلفني حياتي !! أنا لا أريد هذا الطفل ، في النهاية هو سيصل إلى والده وأنا من ستخسر حياتها .
أغمض عينيه وهو يسحب نفسًا عميقًا ثم زفره على معل وقال بصوتٍ غاضب وهو ينطق اسمها بتحذير :
ـ لاتويا .. لا تقوديني إلى الجنون ، أنتِ الآن في شهركِ السابع ! انتهى وقت القرار !! شئتِ أم أبيتِ ستلدين هذا الطفل ، أنتِ لستِ مخيرة ، وإن صور لكِ عقلكِ الغبي مرة أخرى أن في خلاصكِ من الطفل نجاتكِ فصدقيني ستكون محاولتك تلك ليست سوى محاولة للانتحار .
نزلت من الفراش بتمهل وهي تتحايل على آلامها ووقفت أمامه بغضب وصاحت :
ـ أنا .. لا … أريد .. الموت !! هل سمعت ؟! أنا لا أريد الموت ، اللعنة عليك وعلى مخططاتك !
تقلص فكهُ وهو يحاول كبح جماح غضبه ثم قبض على رسغها بعنف وهو يقول :
ـ أخبرتكِ أن النقاش الآن لن يكون مجديًا، أنتِ حامل بالفعل !! وأنا لا أتوانى عن رعايتك ، لقد سخرت أمهر وأكفأ الأطباء لرعايتك أنتِ على وجه الخصوص لكي نضمن سلامتك وسلامة الطفل ولكنكِ لا تستعملي عقلكِ أبدًا، لو كنتِ نجحتِ في الهرب وإجهاض الطفل لكنتِ الآن ميتة وملقاة في ثلاجة الموتى لحين التعرف على هويتك ..
تجمدت ملامحها وقد انعكس الرعب في عينيها ، بينما هو أشهر سبابته في وجهها بتحذير وهو يقول :
ـ سلامة الطفل من سلامتكِ، إن وسوس لكِ عقلكِ الغبي بإيذاء الطفل مرة أخرى تأكدي أنكِ لن تنجِ بحياتك .
خف احتقان وجهه وارتخى فكه وهو يتراجع عن ثورته مؤقتًا ثم قال بلين لا يخلو من الحزم:
ـ أما إذا التزمتِ بالمطلوب منكِ وأتممتِ مهمتكِ بنجاح ستتحول حياتكِ حينها لنعيم مقيم ، أعدكِ بذلك .
تراخت أطرافها وتهدلت نظراتها باستسلام ، ثم تهاوى جسدها الضئيل فوق الفراش مرة أخرى بتعب ، فقال بحدة طفيفة :
ـ لم يتبق سوى القليل ، اعتني بنفسك جيدًا .
وتركها وغادر الغرفة، وبمجرد أن خرج تنفس بعنف ومد يده مسرعًا إلى الزر الأعلى من قميصه وقام بفكه ، ثم اتجه إلى الغرفة الخاصة بالممرضات اللواتي خصصهن لرعايتها طبيًا وأخذ يتناقش معهن حول حالتها ووضعها الصحي ثم غادر المنزل وقام بالاتصال بأيمن وأبلغه أنه سيذهب لملاقاته .
***
غادر فريد الكافيه بعد أن انصرفت نسيم عائدةً إلى منزلها ، وقام بالتوجه إلى نغم لينقلها إلى بيتها الجديد .
وقف أسفل المبنى وقام بالاتصال بها فسرعان ما لبت ندائه على الفور وأخذت أغراضها وغادرت البناية .
كان فريد يراقبها وهي تقترب منه ، تجر حقيبتها التي لا يقل طولها كثيرًا عن قامتها القصيرة . بدا المشهد في عينيه طريفًا، فلم يتمالك نفسه من الضحك، فيما تنظر هي إليه حانقةً وقد التمعت عيناها بالغيظ ، وزمت شفتيها بضيق وهي تسرع خطاها نحوه، تجر الحقيبة بعنادٍ أكبر .
رمقته بضيق فور وصولها أمامه فقال وهو يلتقط منها يد الحقيبة ويحملها ليضعها بحقيبة السيارة :
ـ ايه ده يا نغم ؟! إنتي جايبه عفش البيت معاكي في الشنطة ؟ الشنطة مالها تقيلة كده ليه ؟!
تنهدت فيما يشبه الحسرة وقالت بهدوء :
ـ أصل فيها حاجات لخالتي مهانش عليا أسيبها ، حسيت إن ريحتها فيها .
أومأ وهو يغلق حقيبة السيارة ويتجه نحو مقعده وهو يردد :
ـ الله يرحمها .
استقلت المقعد المجاور له فقال وهو ينظر إليها مبتسما ثم تساءل بحنانه المعتاد :
ـ انتي كويسة ؟
أومأت في صمت، لكنها لم تنظر إليه. كانت تحاول جاهدة أن تخفي ما يدور بداخلها، أن تُبعد عنه عاصفة الشعور التي تخبطها من الداخل. عيناها ثبتتا على نقطة عشوائية أمامها، وكأنها تخشى أن تنهار بمجرد أن تلتقي نظراتهما.. ثم قالت :
ـ أيوة كويسة .
تأمل وجهها قليلًا، ثم انعقد حاجباه، وقال بنبرة يغلبها القلق:
ـ مش واضح أبدًا إنك كويسة ..
التفتت إليه وأخذت تحدق به بينما هو يمعن النظر إلى عينيها بعينين لا يفوتهما شيء وقال ونبرته لا تزال حانية :
ـ عيونك حبايبي دول لما بيكونوا مش رايقين كده يبقا لازم في حاجه حصلت وضايقتك .. ها إيه اللي حصل ؟
تنهدت بعدم راحة وكأن الهواء من حولها كان ثقيلا على صدرها للغاية، ثم قالت دون تردد :
ـ إنت عارف إن حسن من النهارده هيعيش في الڤيلا معاهم ؟
ما إن سألت حتى لاحظت التغير الطفيف في ملامحه، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة، باهتة، بلا معنى واضح، وكأنها محاولة فاشلة لإخفاء انزعاجه وقال بصوت بدا أبطأ من المعتاد، كأنّه ينتقي كلماته بعناية:
ـ أيوة … عارف .
وتابعها بنظرة طويلة، فيها سؤال لم يُنطق لكنها شعرت به بكل وضوح:
ـ بتسألي ليه ؟! وأساسًا إيه علاقة حسن ورجوعه الڤيلا باللي احنا بنتكلم فيه دلوقتي ؟!
ثم زفر بقوة وارتفعت نبرة صوته دون أن يدرك وقال :
ـ إحنا ليه بنتكلم عن حسن أصلا ؟!! أنا بسألك إيه مضايقك ؟! إيه اللي جاب سيرة البني ادم ده أنا مش عارف !
دون أن تمهل نفسها فرصة للرد أجابته بنبرة ترتجف من شدة الانفعال:
ـ البني آدم ده يبقى أخوك على فكرة !
ارتفع حاجبيه بتعجب وأخذ يطالعها بصمت ثم قال محاولا الحفاظ على هدوئه :
ـ و إذا ؟! المطلوب مني إيه مش فاهم ؟! وبعدين قوليلي ، هو حسن اللي ضايقك ؟!
نطق جملته الأخيرة بنبرة ظاهرها هادئ ولكنها تخفي في طياتها جحيمًا مشتعلا ، فنظرت إليه ونفت بقوة :
ـ لأ أبدا ..
أومأ بتمهل وهو يوهمها بهدوءه المفتعل فبدأت تتحدث ببطء أولا :
ـ كل الحكاية إني اتكلمت معاه من قلبي ..
ما إن نطقت بجملتها بصوتًا بدا عاديًا لها حتى تغير وجهه وكأن كلماتها ارتطمت بجدار داخلي لم يكن مستعدًا لانهياره .
في اللحظة الأولى لم يقل شيئًا… فقط حدق فيها. ثم اتسعت عيناه قليلا وتحولت ملامحه الساكنة إلى أخرى أقرب إلى الدهشة ولكنها دهشة مشوبة بحرارة حارقة ، وكأن شيئا ما اشتعل بداخله!
ـ اتكلمتي معاه من قلبك إزاي ؟!
كرر جملتها مستفهمًا ، لكن نبرة الاستفهام فيها كانت تحمل شيئا أعمق من السؤال، كانت تشبه الاتهام، أو ربما صدمة من نوع خاص. فابتلعت ريقها بتوتر لما رأت نار الغضب الذي يحاول أن يلجمه وهو يتكاثر كالنار تحت جلده وقالت بخفوت :
ـ لأ مش قصدي..
ثم تابعت بسرعة، وكأنها تحاول أن تلملم المعنى:
ـ أقصد يعني إني كنت صريحة معاه ..
ارتجف صوته، ثم انفجر فجأة، وكأن كل ما حاول كبته انفلت دفعة واحدة:
— وانتي تبقي صريحة معاه ولا تفتحي له قلبك.. ولا تتكلمي معاه ليــــه أصلا ؟!
قاطعته وكأنها تحاول إبعاد تهمة أُلصقت بها عمدًا :
ـ أنا مقلتش إني فتحت له قلبي، أنا بقولك اتكلمت معاه من قلبي.. تفرق كتير .
نظر إليه بطرف عينه بغضب وهتف بحدة :
ـ للأسف عندي أنا متفرقش ..
ـ بس عندي تفرق ..
ـ بردو بتجادلي وتعندي ؟!!
ـ فريد لو سمحت … !!!!
نطقتها بانزعاج واضح فلوح بيده في الهواء بلا اكتراث وهو يقول:
ـ بلا فريد بلا زفت ..
والتفت ليواجهها مجددا وهو يتابع:
ـ ممكن أعرف بقا إيه الكلام اللي تكرمتي وقولتيهوله من قلبك ؟!
كانت تنظر إليه بخيبة أمل ونظراته تنغرس فيها كالسكاكين، وصوته يرتفع دون أن يشعر ، ونظراته تقطر وجعًا لا غضبًا ، فقالت بإيجاز :
ـ مش لازم تعرف .
نظر إليها مذهولًا، وكأن كلماتها الأخيرة صفعت قلبه لا أذنه.
تراجع في مقعده للوراء، ثم ضحك ضحكة قصيرة، مكسورة، بلا فرح... كانت أشبه بانفجار داخلي خرج على هيئة سخرية:
ـ مش لازم أعرف؟!
أومأ بموافقة صامتة، ثم أدار محرك السيارة وانطلق بها كالسهم، كان يقود الغضب، أو الغضب هو من يقوده.. أيهما أقرب ، وبدون وعي زادت سرعته بينما هي بجواره تنظر إليه من حين لآخر وهي تحاول تهدئة نبضاتها المضطربة على أمل أن يهدأ بدوره ويبطئ سرعته .
لم يكن في وعيه،
كانت يداه على المقود، لكن الغضب هو من كان يقود.
عيناه مفتوحتان، لكن داخله مشوش، والرؤية ضباب، والنبض قصف لا يتوقف.
فهتفت بصوتٍ مرتجف :
ـ ممكن تهدي السرعة شوية ؟
استمع إليها ، بلغته كلماتها ، ولكنه لم يجب، فهتفت بصوت أعلى وأكثر حدة :
ـ بقوللك هدي السرعة شوية أنا بدوخ على فكرة !!
نظر إليها بطرف عينيه بغضب وقال بنبرة مستبدة :
ـ مش قبل ما تقوليلي كنتي بتتكلمي معاه في إيه ؟
ارتفع حاجبيها ببطء في تعجب شديد وقالت باستنكار :
ـ والله ؟ طيب جنان بجنان بقا مش هقول ..
أومأ وهو يمط شفتيه بلا اكتراث وقال :
ـ وأنا مش ههدي السرعة ..
زفرت بحنق وقالت :
ـ أحسن ، خلينا ندخل في العمود ونرتاح .
كبح ابتسامته وهو يشدّ قبضته على المقود، فارتفع صوت المحرك تدريجيًا، كأن السيارة بدأت تزأر من شدة السرعة. بينما هي إلى جواره، تمسك بطرف المقعد بأصابع مرتجفة ، وظهرها ملتصق بالمقعد وكأنها تحاول أن تذوب فيه لتفلت من الخطر المحدق.
وعندما لم تجد بدًا من الإجابة صاحت بانفعال يائس :
ـ كنت بقولله إني بحبك ومقدرش أحب غيرك ، قولتله إنك بالنسبة لي عيلتي كلها ، وانك انت الانسان الوحيد اللي حسيت معاه بالأمان !
أنهت كلماتها ووضعت يديها تخفي بهما عينها التي فاضت بمرارة الخذلان ، وظلت تبكي بانهيار كانت قد كبتته سابقًا .
أما هو ، فلم يكن يتوقع أن يسمع منها هذا، ولا أن يراها تتفتت أمامه هكذا . فانزلقت يده عن المقود للحظة ، ثم أعادها في ارتباك، فيما عينيه تتسعان ببطء كمن صُفع على حين غرة .
تلك الكلمات التي نطقت بها للتو يسمعها منها للمرة الأولى ، هي لم تعترف له بحبها من قبل اعترافًا منطوقًا .
نعم، ابتسامتها الحصرية فعلت، وعيناها أفصحت عما هو أعمق من الحب ، ولكنها لم تقل له " أحبك " أبدا .. ولكنها صرحت بكل شيء للآخر وكأنها تضع له حدًا لن تسمح بتجاوزه أبدًا .. كأنها تقطع عليه الطريق إليها وتخبره أنها لن يتسع قلبها لرجل آخر سواه هو وأنها لا تشعر بالأمان سوى معه هو .
وفي المقابل ماذا فعل ؟! أخافها لكي يضغط عليها لتعترف !!!
غص حلقه بغصة حارقة همس، وكأن الكلمات خرجت من داخله دون وعي:
ـ نغم ..
لكنها لم ترد، اكتفت بأن تحوّل وجهها نحو النافذة، تُخفي دموعًا ما عادت تملك لها قوة الردع.
أبطأ السرعة أخيرًا، وكأن الحقيقة التي قالتها أجهزت على غضبه. تباطأ المحرك… وصمته كان أشدّ قسوة من أي عتاب، ثم قال بصوتٍ مبحوح، كأنما يبلع ندماً لاذعاً:
ـ أنا آسف، مكانش قصدي أخوّفك.. أنا… أنا مكنتش شايف قدامي من كتر غيرتي عليكي ، أنا آسف والله.
لم تحتمل نغم المزيد. ظلت صامتة لبعض الوقت، نظراتها تائهة في زجاج النافذة، بينما يداها متشابكتان في حجرها، تشدّ الواحدة الأخرى كأنها تحاول أن تثبّت نفسها من الانهيار من جديد.
ثم، بصوت خافت مُرهق، كأنما أُطفئت فيه كل طاقتها، قالت دون أن تلتفت إليه:
ـ أنا خلاص مش عاوزة أتكلم .
أومأ على مهل بندم ، وظلّ ينظر إليها، إلى انعكاس وجهها الباهت على زجاج السيارة، وشعرها يتناثر حول خدها، يخفي نصف ملامحها، لكنه كان يرى جيدًا ما خلفه... الإحباط، الخذلان، والانكسار.
أدار وجهه نحو الطريق مجددًا، وأخفض السرعة أكثر، كأنما يحاول أن يعتذر أو يصلح ما أفسده ثم أكمل المسير نحو وجهتهما .
بعد قليل كانا قد وصلا إلى المجمع السكني الذي يقطن فيه فريد ، ومنه إلى بيتها الذي يجاور بيته تمامًا ، فأوقف السيارة ، ونظر إليها وقال بهدوء :
ـ وصلنا .
أومأت بصمت، ثم فتحت حقيبتها وأخرجت منها ظرفًا كبيرًا ومدته في اتجاهه فقال متعجبا :
ـ إيه ده ؟!
ـ دول ال ٣٠ ألف جنيه اللي انت دفعتهم لعاليا قصاد الشيكات.
أومأ وهو يحاول السيطرة على غضبه واستياءه ثم قال:
ـ وبعدين ؟
هتفت بحدة :
ـ وبعدين إيه ؟! خدهم !!
ـ أخدهم ليه ؟!
زفرت بنفاذ صبر وقالت :
ـ لأنك لو مخدتهمش أنا مش هدخل البيت ده !
انعكس الضيق في ملامحه بوضوح. تقطّبت حاجباه، وانكمشت قسمات وجهه بضيقٍ ظاهر، وزفر بتأففٍ مكتوم، وهو يحدّق في الظرف الذي بين أصابعها وهو يقول :
ـ نغم بلاش تعندي في كل حاجه من فضلك .. أسلوبك ده بيضايقني !!
لكنها لم تُجبه، فقط أبقت يدها ممدودة، ثابتة، تتحدّاه بصمتٍ عنيد، وكأنها تُعلن بصمتٍ لا يقبل الجدل أن لا خيار له إلا القبول.
ـ طيب خليهم علشانك .. هاتي بيهم لبس أو أي حاجه تحتاجيها .
ـ شكرا .. مش محتاجة حاجة !
وابتسمت بسخرية موجوعة ، ثم قالت بصوت خفيض لكن ثابت :
ـ على أساس إنك سايبلي فرصة أحتاج !
وزفرت وكأن الكلام يخرج من بين أشواك صدرها، وأردفت وكأنما تتحدث إلى نفسها :
ـ هدومي وانت اللي جايبها، والبيت اللي هقعد فيه دلوقتي إنت اللي هتدفع ايجاره ، وكل مشاكلي انت اللي بتحلها .. هحتاج إيه تاني ؟!
قالتها، ثم سكتت، لكن كلماتها بقيت معلّقة في الهواء، أثقل من أن تُهمَل.
أخفض بصره للحظة، كأن الكلام أصابه في موضعٍ لا يمسّه أحد، ثم أمسك بيدها الممدودة إليه بالظرف وهو يتنهد بأسى ثم رفع عينيه نحوها، نظرته كانت جامدة لكنها مفجوعة، تحاول أن لا تفضح شيئًا من عشقه النهم اللحوح، لكن العروق التي انتفضت في عنقه، والأنفاس التي احتبست في صدره، كانت تقول ما لم ينطقه لسانه.. وهمس أخيرا بهدوء وتفهم :
ـ لو اللي وصلك من تصرفاتي دي إني عايز أو بحاول ألغيكي فده مش صح أبدا .. أنا مش عاوز أخليكي محتاجة حاجه، يعني.. ده تصرف نابع من حبي ليكي، حاسس إني مسؤول عنك ، زي بالظبط الأب لما بيحاول يجيب لأولاده كل اللي ناقصهم علشان يشوفهم مرتاحين ومبسوطين ، صدقيني ده احساسي بيكي ، ومش عارف ليه بتتعاملي بالحساسية دي وبتحطي فرق بيني وبينك .. مع إنك المفروض عارفة إنك حبيبتي وأغلى عندي من روحي .. ولو بإيديا أتفرغ ٢٤ ساعة لراحتك أنا هعمل كده .
همت بالحديث ولكنه سبقها لأنه يعرف ما ستقول :
ـ ومش معنى كده بردو إني مش عاوزك تعتمدي على نفسك، بالعكس، أنا أتمنى إنك توصلي للوقت اللي تكوني فيه قادرة تقفي وتواجهي لوحدك، ومتكونيش محتاجة لأي حد ، حتى أنا .. أتمنى أشوفك أقوى وأنجح حد .. عاوزك دايما جنبي مش ورايا .. وطول ما عندك اصرار إنك تكوني حاجة كبيرة وانك تقدري تعتمدي على نفسك وتديري شؤونك بنفسك فأنا واثق إنك هتوصلي وهتكوني في المكان اللي تستحقيه .
زال غضبها فجأة ، وذاب قلبها كما يذوب الثلج.
نظرت إليه بامتنان صادق التمسه هو في نظرتها وابتسامة عينيها، وابتسمت وهي تقول :
ـ أنا دلوقتي بالذات مش عاوزة أقوللك غير اني بحبك ، أنا بحبك يا فريد ، بحبك من كل قلبي .
اتسعت ابتسامته بسعادة غامرة بعد أن أعلنتها أخيرا وفاض بها لسانها ..
ـ مش ممكن يا نغم ، دي أحلى كلمة قولتيها من يوم ما شفتك .
تراجعت ابتسامتها فانفجر ضاحكا وقال :
ـ خلاص بلاش تقفشي بهزر معاكي، إنتي كل كلامك حلو ، وكلك على بعضك حلوة ..
وأردف بامتنان صادق:
ـ صدقيني والله انتي اللي حليتي حياتي وغيرتيني ١٨٠ درجة ، نغم انتي عالجتيني من غير مجهود ، الكابوس اللي كنت خلاص استسلمت اني هعيش أعاني منه طول عمري خف بس لما عرفتك وحبيتك ، اوكي لسه آثاره موجودة وأوقات بيكون له هجمات عنيفة بس مش زي الأول أبدا ، والفضل في ده بعد ربنا يرجع لك انتي .
ابتسمت ابتسامة واهية من فرط التأثر، وأزالت دمعة لقيطة توقفت بزاوية عينها، بينما هو كان يجاهد نفسه لئلا يعانقها ..
حقًا جاهد وكان جهادًا شاقًا عليه ، فهو الآن أمام عينيها المملوئتين بكل ما يقتله حيًا : الدموع، والحب، والاحتياج.
كأن قلبه يُسحب من بين ضلوعه، وكأن المسافة الصغيرة بينهما اتسعت فجأة حتى باتت تُرهقه، تُعذّبه، تُغريه بكسر كل القيود...
كبح يديه اللتين اشتاقتا لتطويقها، وجعل أصابعه تتقلص في مواضعها، كأنها تخشى أن تسبق نبضه إليها.
كان يتنفس بصعوبة، وكأن الهواء من حوله صار ثقيلاً، يُضيق صدره، لا لشيء… إلا لأنه لا يضمّها.
رمقها بنظرة طويلة، فيها لوعة من عاشق، وفيها حب لا طاقة له به، وفيها ذلك الرجاء الصامت أن تفر من أمامه قبل أن يداهم تلك الشفتين اللتين استقرت فوقهما دموعها .
وفي النهاية قرر أن يعتصر نفسه بقبضة الإرادة، وفتح الباب المجاور له وهو يقول :
ـ يلا بينا ، بيتك الجديد مستنيكي يا نغم هانم .
انفلتت ضحكتها ، ثم فتحت الباب وترجلت، بينما هو كان قد استدار وفتح حقيبة السيارة ليخرج حقيبتها وهو يقول مازحًا :
ـ متأكدة إن الشنطة دي فيها ذكريات خالتك الله يرحمها بس ؟!
ضحكت ضحكة صافية نابعة من أعماق قلبها فضحك بدوره وهو يحمل الحقيبة ثم وضعها أمام باب بيتها الجديد ، ومن ثم أخرج المفتاح من جيبه وهو يمده نحوها ويقول مبتسما :
ـ اتفضلي يا نغومة قلبي ، يا رب البيت يعجبك ، على فكرة أنا جهزت كل حاجه على ذوقك ، وجهزت لك كمان مكتبة زي اللي عندي عشان تسلي فراغك ، وأي حاجة تحتاجيها في أي وقت كلميني وأنا أجيبهالك ..
ثم غمز بعينه بمرح وقال :
ـ الجيران لبعضها.
أومأت ضاحكة فتركها واتجه إلى بيته ثم لوح كلا منهما للآخر قبل أن تدلف نغم للداخل، ووقفت تطالع البيت المعبأ برائحته ودفئه ، وليس ذلك فحسب.. بل بلمساته الحانية أيضًا ، حيث ترك في كل زاوية صورة لها رسمها بنفسه .
أما فريد ، فبعد أن دخل منزله ومنه إلى الغرفة ، ثم وقف ينزع ملابسه استعدادا لحمام منعش، فيما هو شارد بها ، يتذكر ابتسامتها، وصوتها، وعيناها ، وتلك الرغبة اللحوحة منه لضمها عندما كانت تبكي ..
فسار نحو سريره ، وجلس فوقه والتقط حاسوبه راغبًا في استرجاع هوايته المفضلة ، ففتح مدونته الإلكترونية التي هجرها لفترة ، وبدأ بتدوين تلك الكلمات ..
" أعجز عن إسكات ندائي الداخلي، حين تغرق عيناك في ظلال الحزن، وحين يصبح وجهك باهتًا كأن الحياة تسربت منه، هناك، في لحظة ضعفك، أجدني أذوب، لا من رغبة، بل من وطأة حنانٍ طاغٍ، يتوق إلى مُلامسة وجنتيك، وتقبيل جبينك، أنتِ لي مهما ترنحتِ بين دروب الحياة ، لن يحظى غيري بإكسير الحياة الساكن فوق شفتيكِ نغم . "
ولكن.. بعد تفكير ، تراجع عن نشرها عبر المدونة ، وبدلا من ذلك قام بنسخها وإرسالها إلى نغم ، ومن ثم ترك الحاسوب والهاتف واستلقى فوق الفراش بتعب وصورتها المتمردة لا تفارق مخيلته المسكينة ولا ترفق بها مما جعله يهمس دون وعيٍ منه ويرجو برجاء صادق :
ـ يا رب .. أتوسل إليك مش عاوز حاجة من الحياة كلها غير نغم وبس.
*****************
#يتبع .
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق