رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثانى عشر 12بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثانى عشر 12بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثانى عشر 12بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
محسنين الغرام ٢
كان سؤالي الوحيد والدائم: لماذا وُجدت إن لم يكن لي مكان؟! متى ينتهي الظلم؟ متى ترفع عني الحياة ستار النسيان الذي أسدلته منذ زمن بعيد ؟
واليوم أدركتُ أن الوحدة ليست قدرًا، وأن الحزن ليس أبديًا. فها أنا ذا أقفُ على أعتاب الأمل ، أمد يدي للحياة مرتبكًا، متوجسًا، ليس لأن الغد مظلم، بل لأنه مضيئًا أكثر مما اعتدت .
༺═────────────────═༻
استمع إلى طرقات لحوحة على باب غرفته كانت كفيلة بأن تنتشله من أحلامه وتطفو به على سطح الواقع .
انتفض جسده وكأن صاعقة ضربتهُ، ثم جلس معتدلا في فراشه وعيناه تنظر حوله وهو يحاول استيعاب تلك الغرفة الفندقية الموجود بها. لكن فور سماعه لصوت زينب وهي تستعجله للحضور إلى مائدة الإفطار أدرك أن هذه الغرفة ليست سوى غرفته في بيته الجديد.
نهض وسار خطوات متمهلة نحو الباب، ثم فتحه ليجد زينب تقف عند الباب مبتسمة وما إن رأته حتى اتسعت ابتسامتها وقالت:
ـ صباح الخير يا حسن .
أومأ وردد بإيجاز :
ـ صباح الخير.
ـ الباشا بيستعجلك للفطار ، وعمر في انتظارك كمان .
أومأ بتمهل ثم قال :
ـ جاي وراكي .
هزت رأسها بلطف ثم نظرت خلفها فتقدمت فتاتان تجر كلا منهما حامل ملابس حديدي تتدلى منه مجموعة ثياب فاخرة وأنيقة.
قمصان مفصلة بعناية، سراويل أنيقة، سترات فخمة تبدو وكأنها خرجت للتو من واجهة متجر باهظ .
أخذ حسن ينظر إلى حامليّ الملابس بتفحص ولم يفلح في إخفاء تعجبه، ثم نظر إلى زينب التي تراقب رد فعله وقالت :
ـ الباشا بعت الحاجات دي لحد ما تروح بنفسك تختار اللي يناسبك .. أسيبك تجهز، عن إذنك .
أشارت للفتاتين فانصرفتا ومن ثم لحقت بهم وأوصدت الباب خلفها، أما هو فظل واقفًا في مواجهة مع تلك الملابس الجديدة التي تخبره بصمتٍ صاخب أنه لم يعد كما كان .
مد يدهُ والتقط قميصًا وسروالاًا بصورة عشوائية وبعد أن تنعم بحمامًا منعشًا ارتداهما على عجالة .
كان القميص مفصلًا على مقاسه تمامًا، السروال ينسدل برقي، والحذاء الجلدي يلمع وكأنه لم يصنع للمشي بل للعرض .
وقف أمام المرآة، ثم مرر يدهُ على ياقته، وأخذ نفسًا عميقًا وهو ينظر إلى انعكاسه ويقول مُشيعًا شخصيته القديمة :
ـ الله يرحمك يا حسن يا جاد الله ، من النهاردة خلاص مفيش غير حسن واحد ..
ثم نصب قامته ونظر إلى نفسه بعينٍ جديدة وقال بصوت منخفض لكنه واثق :
ـ حسن سالم مرسال !!
ثم التفت عن المرآة، وسار نحو الباب بخطوات ثابتة ثم فتحهُ وخرج من الغرفة تزامنًا مع خروج چيلان من غرفتها .
اتسعت عينيها لا إراديًا بدهشة خفية وكأنها لم تتوقع حضوره بهذا الشكل ، وسرعان ما أعادت ترتيب ملامحها، كأن شيئًا لم يكن، كبرياؤها حال بينها وبين أي انفعال ظاهر، وكأنها ترفض أن تمنحه نشوة الانتصار.
ـ صباح الخير..
قالها وهو يسير نحوها قاصدًا الدرج، بينما هي لم تتحرك قيد أنملة، وقفت بثبات، ونظرت إليه نظرة مقتضبة، ثم قالت بنبرة هادئة لا تخلو من الجفاء :
ـ صباح الخير .
سارا سويًا ، خطواتهما تتجاور دون أن تقترب ، وحين بلغا منتصف الدرج قال دون أن ينظر إليها:
ـ اللون البمبي ده أحلى من الاصفر بتاع امبارح ، مخليكي وتكة كده .
توقفت لوهلة، كأنها لم تصدق ما سمعته، ثم استدارت لتقف في مواجهته، وحاجبيها مرفوعان بدهشة لم تستطع إخفاءها، ثم قالت باستنكار :
ـ اللون الإيه ؟! البمبي ؟!!
أومأ ببساطة وكأن الأمر لا يستحق كل هذا الاستغراب، ثم نظر تلقائيًا إلى سترتها ليتحقق من أنه رأى اللون صحيحًا، وقال بهدوء:
ـ هو مش بمبي ولا إيه ؟! هو بمبي فاتح بس بمبي !!
نظرت إلى سترتها، ثم إليه، وهي تشعر باقتراب نوبة قلبية ستودي بحياتها على الفور، وقالت بصوت لا تتعارض حدته مع هدوءه:
ـ بعيدًا عن اللون ، هو مين اللي طلب رأيك أصلا ؟!
ابتسم بخفة، وهز رأسه كمن يداري ضحكة ثم قال :
ـ هو لازم تطلبي رأيي ؟ أنا كده بحب لما أشوف حاجة حلوة أعبر عن اعجابي بيها .. الموضوع بسيط !
رفعت عينيها للسقف وكأنها تستعين بصبرٍ سماوي، ثم قالت بنبرة يقطر منها الكبرياء :
ـ هو ممكن تعبر عن اعجابك بينك وبين نفسك بعد كده ؟!
هز كتفيه بلا مبالاة وهو يضع يديه بجيبي سرواله، وهتف متعمدًا اثارة حنقها:
ـ ممكن طبعا .
أطلقت زفيرًا طويلا وهي تحاول أن تتمالك أعصابها، ثم استدارت لتكمل نزول الدرج قبله بخطوات سريعة، ومع كل خطوة كان كعب حذائها يحدث صوتًا حادًا منتظمًا، ويتردد صداه في الردهة الهادئة وكأنه يترجم انفعالها بدقات متسارعة من الغضب المكتوم .
ثم توقفت فجأة وكأنها تذكرت شيئًا ما وسط زحام غضبها، واستدارت نحوه بحدة، وقطبت جبينها وهي تسأله باستنكار صريح:
ـ وبعدين يعني إيه وتكة دي ؟!
توقف هو بدوره، ورفع حاجبيه قليلًا، كأن السؤال أدهشه، ثم ابتسم ابتسامة عريضة وهو يميل نحوها قليلا وقال بثقة لا تخلو من العبث :
ـ يعني جامدة !
ارتفع حاجبيها فجأة، وارتسمت على وجهها ملامح صدمة قصيرة، رمشت مرتين، ثم قالت ببطء :
ـ جامدة ؟!
ضحك بخفة، وكأن ردة فعلها كانت تمامًا ما توقعه.
أشاحت بوجهها بعيدًا كأنها لو استمرت في النظر إليه أكثر من ذلك ستنفجر، ثم غمغمت بنبرة حادة ما بين الضيق والاستهزاء، وهي تبدأ في النزول مجددًا:
ـ مش ممكن بجد .. too vulgar
نعتته بالبذيء السُوقي وهي تعلم جيدًا أنه لن يفقه ما تعنيه الكلمة، لكنه فاجئها حين باغتها صوته من الخلف ، نصف خافت ونصف ضاحك:
ـ سمعتك على فكرة .. على العموم ربنا يسامحك.
تسارعت خطواتها أكثر، وصوت كعبها على الدرج بات كأنه طبول حرب… وهو؟
كان يسير خلفها بنفس ابتسامته… وكأنه فخور بأنه أخرج تلك المتعجرفة عن طورها بهذا الشكل.
مرت من أمام غرفة الطعام، فألقت التحية قائلة :
ـ صباح الخير يا أنكل سالم ، صباح الخير يا عمر .
أجابها سالم باقتضاب وهو ينظر نحو حسن:
ـ صباح الخير.
بينما تحدث عنر متسائلا :
ـ مش هتفطري معانا ولا إيه ؟!
ـ لأ .. متأخرة .. عن اذنكم .
قبل أن تنصرف حدجت حسن بنظرة ساخطة، حادة كالسهم، فبادلها بأخرى مشاكسة، ونصف ابتسامة وكأنها لا تستفزه بل تُسليه، ثم اجتاز الغرفة متوجهًا نحو المائدة وهو يقول :
ـ صباح الخير.
كان سالم يحدق في ابنه بصمت، وكأن الصورة التي رسمها في خياله وهو ينتقي له تلك الملابس قد تحققت أمامه بكل تفاصيلها.. ورد قائلا بنبرة يملئها الترحاب:
ـ صباح النور ..
رآه يجر الكرسي المجاور لعمر ليجلس عليه فبادره قائلا :
ـ لأ.. تعالى جنبي هنا يا حسن .
ثم أشار بيده إلى المقعد الفارغ على يمينه، والذي يواجه عمر تمامًا.
نبرة صوته لم تكن مجرد دعوة للجلوس، بل كانت إشارة ضمنية.. كأن في الأمر ترتيبًا لمشهد أكبر لم يُقال بعد .
توقّف حسن لبرهة، نظر إلى أبيه، ثم إلى الكرسي، وأخيرًا جلس في صمت، لكن في عينيه سؤال لم يُطرح، وفضول لم يُخمد.
لم يكن هو الوحيد المتعجب، فالأشد اندهاشًا منه كان عمر الذي ظل يحدق في والده باستغراب !!
ذلك الكرسي تحديدًا…
الذي ظل لسنوات طويلة ملكًا لامرأة واحدة فقط .. والدته نادية هانم.. ولم يجرؤ أحد أن يمسه سواء كانت حاضرة أو غائبة !
هل الآن وبكل بساطة يدعو حسن لامتلاكه ؟! هل لأنها اعتزلت الجميع ولم تعد تشاركهم المائدة فمعنى ذلك أن يتم استبدالها بتلك السهولة ؟!
أما سالم، فاعتدل في جلسته قليلًا، وراح يسكب لنفسه بعض القهوة، قبل أن يقول دون أن ينظر إلى أحد:
ـ يلا افطروا ..
.ونظر إلى حسن مباشرة، نظرة فيها قدر من الجدية وخصهُ بالقول :
ـ عاوزين بعد الفطار نروح أنا وانت مشوار مهم يا حسن .
رمقه حسن بنظرة طويلة… ثم أومأ بصمت، وانعكست في عينيه لمحة لم تُعرف بعد. هل هي حماس؟ أم حذر ؟
༺═────────────────═༻
في قلبي خوف، في قلبي قلق، رغم الهدوء حولي، رغم التغير في حياتي، رغم أني الآن امسك إرادتي وقراري بيدي، لما هذا الشعور بالخوف يخالجني يخبرني أني مازلت لا املك إرادتي وأن قراري مازال ليس بيدي ؟
ـ بقلم فيروزة 🩷
جلست نسيم على طرف السرير، كأنها لا تجيد الجلوس إلا على أطراف الانتظار...
كانت عيناها تحدّقان في شاشة الهاتف، لا ترى شيئًا سوى اسمه الغائب، وصوته الذي تحفظ نبراته عن ظهر قلب.
يدها تتنقل بين الهاتف وقلبها، مرة تمسكه كأنها ستتلقى المكالمة الآن، ومرة تتركه فجأة، كأنها تعاقبه على تأخره. فمنذ الأمس وهي تنتظر اتصاله أو على الأقل رسالة منه تخبرها أنه بخير ولكنه لم يفعل. فبعد عودتها من ملاقاة فريد أعادت الاتصال به ولكن هاتفه كان مغلقًا ولم تفلح في التواصل معاه.
كانت أنفاسها ضحلة، تخرج بتثاقل، وكأن كل دقيقة تمرّ هي اختناق جديد.
تحاول أن تلهي نفسها بأي شيء، ولكن بالها كان مشغولا بالقدر الذي جعلها لا تحسن التفكير في أي شيء آخر ..
تخوض معركتها الصامتة بين كرامتها التي ترفض أن تبادر مجددًا ، واشتياقها الذي يصيح بداخلها كل ثانية ويخبرها أن تهاتفه من جديد وأن تضرب بكل شيء عرض الحائط.
عند ذلك الخاطر توقفت عن التفكير وراحت تنزلق نحو منحدر آخر تمامًا، هل هي حقًا تشتاقه ؟! هل ما تشعر به اشتياق ؟! هل ما تشعر به تعلق أم مجرد تعود ؟!
وبينما هي تخوض حربًا صامتة وسط دوامة من المشاعر استوقفها شيئًا هامًا .. أين هو من الأساس ؟! هي لا تعرف أين سافر ! لم يخبرها، ولم تسأل، بالرغم من أنه من المفترض به أن يخبرها عن وجهته، ولكنه لم يفعل، فقط اكتفى بإخطارها أنه قد سافر !!
تجمدت أنفاسها للحظة، وكأن هذا السؤال قد كشف لها فجأة مدى هشاشة العلاقة بينهما !!
شعرت بشيء كالغصة يتسلل إلى صدرها.
لماذا انزعجت؟ في النهاية هي ليست قريبة منه بما يكفي لتطالبه بالوضوح، حتى صداقتهما الوليدة لا تستدعي أن يخبرها كل تفاصيله. ما بينهما شيئًا رماديًا لا اسم له، وهذا ما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا وعمقًا.
رن هاتفها بين يديها فجأة فانتفض قلبها وتحفزت كل جوارحها بلا وعي، وكأنها كانت تنتظر ذلك الرنين منذ دهر.
لكن ما إن وقعت عيناها على الشاشة حتى خبا كل شيء.
كل ذلك الحماس انتهى وتحول إلى إحباط وخيبة باردة بمجرد أن رأت اسم المتصل " زينب " .
زفرت بصمت، وأجلت الرد للحظات، وكأنها تحتاج لأن تلملم خيبتها أولا، ثم أجابت بهدوء :
ـ صباح الخير يا زينب .
جاءها صوت زينب منغلقًا، يشي بالضيق، فمنذ ما حدث يوم العزاء وهي تتلاشاها، ولكنها أجابت بهدوء مماثل :
ـ صباح الخير يا نسيم، بكلمك عشان أطمن عليكي، أخبارك إيه؟
كان هذا السؤال البسيط بمثابة فتيل انفجار صامت داخلها، فهي لا تعرف كيف حالها ؟ هل هي الآن بخير أم لا ! لا تعرف كيف يفترض أن تكون !
توقفت لحظة قبل أن ترد، وبداخلها تدفقت كل المشاعر التي تحاول دفنها ..
ـ أنا كويسة .
بدت نبرتها ضائعة، متخبطة، وهذا ما التقطته زينب سريعًا من صوتها الذي يعكس شيئًا متصدعًا، وكأنها تتماسك بصعوبة .
ـ لأ انتي مش كويسة أبدا وصوتك واضح عليه انك متضايقة !! قوليلي انتي تعبانة ؟
تساءلت زينب بلهفة صادقة واهتمام حقيقي نابع من القلب، وتابعت عندما لم تجد رد :
ـ أجي لك ؟
على الفور أجابتها نسيم :
ـ لا لا.. أنا كويسة صدقيني، بالي مشغول بس شوية لكن كل حاجه تمام .
تنهدت زينب وهي تشعر بالريبة تتسلل إلى داخلها، هناك شيئا ما في كلامها لا يبدو كما يُقال، فقالت بنبرة أقل تصميمًا :
ـ طيب… على العموم أنا رجعت الڤيلا، لو احتاجتيني كلميني وأنا هستأذن من الباشا وأجيلك .
ـ شكرا يا زينب ربنا ميحرمنيش منك . قوليلي.. إيه الأخبار ؟ عمر كويس ؟!
وكأنها تدير دفة الحديث بعيدًا عنها، فهي لا ترغب في البوح، ولا في تقليب وجعها على لسانها، وهذا ما استشفته زينب سريعًا، فاستجابت بلين، وقالت بابتسامة :
ـ عمر كويس جدا الحمدلله ، مبسوط جدا بوجود حسن، ومن امبارح وهو ماشي في ديله زي العيل الصغير .
ابتسمت زينب بخفة، ولكن نسيم لم تفعل، فلقد تفاجئت أن الأمر تطور وقد انتقل حسن ـ توأمها الافتراضي ـ للعيش في الڤيلا .
لم تعرف هل عليها أن تشعر بالضيق أم بالراحة ! فالأمر برمته لا يزال أشبه بالخيال !
هي إلى الآن لم تقتنع بوجود حسن كفرد من العائلة، بل لم تمنح نفسها فرصة للتفكير في ذلك من الأساس ! لكن .. وعلى ما يبدو أن الموضوع جدي جدًا ، وعليها أن تقبل به.
ـ نسيم .. امتى يا حبيبتي هتتكلمي مع حسن وتحاولي تقربي منه؟
لم تجب ، ولم تعرف بما عليها أن تجيبها، فبادرتها زينب مجددا :
ـ في النهاية ده أخوكي زي فريد وعمر .. وهو يا حبيبي غلبان أوي وطيب وما هيصدق انك تقربي منه وتتقبلي وجوده .
ـ أنا مش رافضاه يا زينب، أنا بس مش مستوعباه !!
وتنفست ببطء، ثم أردفت بنبرة أقرب للهمس:
ـ ومش عارفه بصراحة امتا هستوعب إن ليا أخ جديد .. و توأم !! الفكرة دي ما زالت غريبة بالنسبة لي ، عارفة انه اتظلم زيي وانه ملوش ذنب انها تختاره هو وترميني أنا .. بس في نفس الوقت مش قادرة أفكر غير في انه طول ال٣٣ سنة دول كان عايش في حضنها وأنا عايشة يتيمة ! أنا حاسة اني حتى لو اتكلمت معاه وقربت منه هفضل أحقد عليه وأغير منه .. أنا عشت بين أهلي صحيح لكن زي الغريبة، لولا الملامة أبويا كان مش هيعترف بيا ، عشت مع أبويا لكن طول عمره بيكرهني ومش متقبلني وكأن بيني وبينه طار .. في كل فرصة تسمح كان بيحاول يتخلص مني ويبعدني عنه.. كل ده بسببها هي .. !!
رقت عينا زينب وغص حلقها بدموع حارقة وتمتمت باختناق:
ـ فاهماكي وحاسة بيكي..
ـ لأ يا زينب، محدش هيحس بيا ويفهمني أبدا مهما كان قريب مني.. أنا عشت اللي محدش عاشه .
ابتسمت زينب ابتسامة ساخرة موجوعة، فما قالته نسيم أشبه بسكين يغوص ببطء في صدرها.
لم يكن مجرد بوح، بل مرآة عكست لها وجعًا قديمًا كانت تظنه انتهى، أو على الأقل نام منذ سنوات.
ذلك الإحساس تحديدًا...
أن يكون لك حق لا يعترف به أحد،
أن تكون موجود، لكن في الظل...
أن تحمل ذنب لم تصنعه ..
شعرت بشيء يختنق داخلها،
كأن الطفلة الصغيرة التي كانت تبكي على وسادتها منذ زمن بعيد في صمت قد عادت تتململ في قلبها.. وتنهدت بأسى ثم قالت:
ـ متهيأ لك يا حبيبتي ، كل واحد مننا جواه وجع محدش يعرف عنه حاجه صدقيني ، وكلنا ماشيين شايلين جوانا هموم كتير .. حسن نفسه اللي انتي شايفة انه كان محظوظ أكتر منك لأنها اختارته هو .. هو كمان جواه جروح وشايل هموم كتير ، صدقيني محدش مرتاح يا نسيم ، أنا مش بقولك كده علشان تنسي وتسامحي وتيجي على نفسك أو تحسي إنك مفروض عليكي شيء انتي مش قبلاه، لأ إطلاقًا.. أنا بس كل اللي طلباه منك تسيبي لنفسك فرصة تتنفسي.. تعيشي حياتك من غير غضب، من غير ما تفكري في الماضي والحسابات القديمة .
سكتت نسيم طويلا بعد كلمات زينب، وبدأ حديثها يرن في أعماقها، كان مقنعًا، ومريحًا لأبعد حد.. وكأن الكلمات بدأت تجد لها مكانًا آمنًا في صدرها المضطرب.
أنهت نسيم المكالمة مع زينب، ثم ألقت الهاتف بجوارها بإهمال ومن ثم نهضت وهي تشعر بالملل والقلق يقتلانها ببطء، وفي النهاية قررت أن تتصل به مجددًا.. لتلقى نفس الرد.. الهاتف ربما يكون مغلقًا .
زفرت بضيق شديد وغادرت الغرفة، أخذت تتجول في كل مكان بالبيت بملل إلى أن توقفت خطواتها أمام باب غرفة عاصم .
تسللت إليها نظرة غريبة، مزيجٌ من التردد والفضول، وكأن شيئًا خفيًا يدفعها لأن تقترب، أن تعرف، أن تفتح الباب وتدخل إلى المساحة المغلقة على أسرار لا تبوح بها الجدران.
وضعت يدها على المقبض، وترددت لوهلة. قلبها ينبض بقوة لا تتناسب مع بساطة الموقف... لكن الفضول قد نما، تمدد داخلها حتى صار أقوى من ترددها، أقوى من خوفها؛ ففتحت الباب ثم دخلت.
غرفته كانت على قدر كبير من الترتيب... لا، بل الانضباط. كل شيء فيها يشبه صاحبه: هادئ، صارم، وواضح الحدود.
لم تكن مجرد مساحة نوم...
بل امتداد دقيق لشخص لا يسمح للفوضى أن تخترقه — رجل سيجما حقيقي، يفرض حضوره دون أن يتحدث، وتُشبه غرفته صمته أكثر مما تشبه كلامه.
فالجدران مطلية بلون رمادي داكن يوحي بالثبات والجدية، تتزين بلوحتين فقط: واحدة بالأبيض والأسود لمدينة مدريد ليلاً، والثانية اقتباس محفور بخط معدني أنيق على خلفية خشبية.
والسقف مزود بإضاءة دافئة خافتة، لا تسرف في الضوء، لكنها تكشف ما يكفي لتشعر أن المكان يشبه عقل صاحبه — منظم، بلا فوضى، وبلا مساحة للمفاجآت غير الضرورية.
المكتب الزجاجي الموضوع بجوار النافذة لا يحمل إلا لابتوب مغلق بعناية، دفتر جلدي أسود، وقلم معدني واحد، لا أوراق متناثرة، لا شيء زائد عن الحاجة.
خزانة الملابس مفتوحة قليلًا، تكشف عن صف من القمصان المفروزة حسب اللون، ومعاطف داكنة، وعلبة مخصصة للساعات... كلها تشير إلى رجل لا يلبس لمجرد الستر، بل يختار حضوره بدقة.
وهناك، على الطاولة الجانبية، ساعة توقيت كلاسيكية، وكتاب بعنوان: "فن الصمت الاستراتيجي".
السرير مفروش بأغطية رمادية نظيفة ومشدودة بإحكام، وكأن لا أحد ينام هنا إلا بعقد صمت داخلي.. وبجواره كومود صغير مسنود فوقه إطار يضم صورته برفقة أخيه .
لم تكن صورة عابرة، بل لحظة نادرة اصطيدت من الزمن، يظهر فيها عاصم واقفًا خلف أخيه واضعًا يده على كتفه، وعيناه تنظران نحو الكاميرا بثبات، أما حازم فكان يبتسم وكأن الدنيا لم تُخنه بعد.
أطالت النظر للصورة وهي تذرف ماء عينيها المقهور ..
كان بها شيء غريب، شيء مؤلم. لم تكن مجرد ذكرى، بل شاهد صامت على الخسارة. ولوهلة، أحست أن عاصم يحتفظ بالصورة هنا لا لأنها ذكرى من أخيه، بل لأنه لا ينسى. وكأنها مرآة صغيرة تعكس سبب كل شيء... وتغذي نارًا ما تزال مشتعلة رغم الرماد.
ضمت الصورة إلى صدرها بحزن، وحدقت بالحائط من أمامها فلفت انتباهها الاقتباس المدون على اللوحة الخشبية لذا نهضت واقتربت لتقرأه بوضوح .
" أنا لا أبحث عن العدالة، أنا أصنعها "
قرأت الكلمات بصوتٍ خافت، وكل كلمة كانت تنغرس في عقلها كالسهم ، مما أسرى الرجفة في جسدها وجعل خوفها يتفاقم ويبلغ ذروته .
اقتربت أكثر، يدها امتدت بتردد نحو زاوية اللوحة، حيث لاحظت ذلك الجزء المرتفع بالكاد يُرى، ثم مررت أصابعها عليه، ودفعتها جانبًا بخفة فتحركت اللوحة بصوت خافت، وانفرجت قليلًا عن الحائط.
حبست أنفاسها، وسحبتها ببطء… لتنكشف أمامها فتحة مستطيلة في الجدار، مخفية بعناية، وكأنها لم تكن موجودة أصلًا.
داخلها، وُضع ملف أسود أنيق، مغلق بإحكام، تعلوه ورقة صغيرة كُتب عليها "ملف العدالة."
ترددت للحظة. عيناها تحدقان فيه وكأنها تنظر إلى قلب عاصم نفسه... إلى المكان الذي يخبئ فيه نواياه الحقيقية.
مدّت يدها، وسحبته ببطء، وكأنها تنتزع سلاحًا لا تعرف إن كانت مؤهلة لحمله.
فتحت الغلاف، وبدأت تقلب الصفحات، وكل ورقة تسحب من روحها جزءًا.
صورة والدها… يليها صور لشقيقيها فريد وعمر .
ملفات قديمة...
ملاحظات مكتوبة بخط يد عاصم: تواريخ، أسماء، خيوط كثيرة تتقاطع كلها نحو نقطة واحدة.
انقبض قلبها وهي تقلب الأوراق بين يديها إلى أن وقعت عيناها على ملف آخر فأخذت تقلب بين أوراقه ببطء ، تنظر إلى المستندات الموجودة بعين قلقة، تلتقط منها سطورًا مبعثرة لا تستقر في ذهنها من فرط التوتر…حتى توقفت عند ورقة مختلفة تمامًا في طابعها.
كانت مطبوعة على ورق رسمي يحمل شعار وزارة العدل الإسبانية، وعنوانها في الأعلى بلغة لا تخطئها عين:
(شهادة الصحيفة الجنائية)
تستمر القصة أدناه
تسارعت أنفاسها، ونظرت أسفل الصفحة، حيث توالت الصدمات .
الاسم الكامل: عاصم عبدالرحمن الدالي
الجنسية: مصري
رقم الهوية الأجنبية (NIE): X9985321-A
مكان وتاريخ الميلاد: القاهرة – 14 يوليو 1990
السوابق الجنائية:
> طبقًا لسجلات النظام القضائي الإسباني، فإن الشخص المذكور أعلاه قد صدر بحقه الحكم التالي:
السجن لمدة 8 سنوات
مع إمكانية الإفراج المشروط بعد 7 سنوات، بناءً على مراجعة لجنة الإصلاح.
مدة التنفيذ:
من 15 مارس 2015 حتى 12 يونيو 2022 (إفراج مشروط)
الوضع القانوني الحالي:
– تم الإفراج عن المعنيّ بالأمر بتاريخ 12 يونيو 2022 بموجب قرار الإفراج المشروط رقم (LCP/22-1095)
– يخضع لفترة رقابة قضائية تكميلية حتى 12 يونيو 2024. وفقًا لما تقرّره المادة 96 مكرر من قانون العقوبات، والمتعلقة بمراقبة السلوك العام بعد انتهاء العقوبة في الجرائم العنيفة.
القيود السارية خلال الفترة المذكورة:
– منع مغادرة أراضي الاتحاد الأوروبي دون تصريح قضائي
– إلزام بالتبليغ الدوري عن محل الإقامة
– تقييد الحق في طلب شطب السجل الجنائي إلا بعد انتهاء مدة الرقابة التكميلية .
نوع الجريمة .
– التسبب في أذى بدني جسيم أفضى إلى إعاقة دائمة
– استخدام القوة المفرطة كسلاح بشري.
– رفض التعاون مع التحقيق في بداية القبض.
– مقاومة الشرطة أثناء التوقيف.
_ تخريب منشآت عامة ( مقهى مرخص )
رقم السجين: 621B
مكان الاحتجاز: سجن مدريد المركزي - وحدة VII
تاريخ الدخول: 15 مارس 2015
تاريخ الإفراج المشروط: 12 يونيو 2022
ملاحظات إضافية:
– تمت إدانته بناءً على شهادة شهود وكاميرات مراقبة.
– اعتبرت المحكمة أن المتهم، بصفته ملاكمًا محترفًا، استخدم قوة مفرطة لا تتناسب مع الموقف، مستغلا خبرته القتالية كمقاتل مدرب. وبناءً عليه، قررت تشديد العقوبة، نظرًا لخطورة ما صدر عنه بوصفه شخصًا مدرَّبًا على استخدام العنف، لا مجرد مدني عادي."
– أُضيفت تهمة التخريب بعد ثبوت تدمير جزء من واجهة زجاجية لمقهى مرخص خلال الواقعة.
ظلت نسيم تحدّق في الورقة مطولًا بصدمة أفقدتها النطق …
الآن بدأت تدرك كل ما كان غير واضحًا لها.
الآن فهمت سبب غيابه، وسبب تأخره عن الثأر لأخيه كل هذه المدة !
الآن فقط أدركت كم كان فريد محقًا حين حذرها من التسرع في الحكم على عاصم، فهي لم تكن تعرف ما يخفيه عنها، ولا إلى أي منقلب ستؤول علاقتهما الغامضة.
كانت الصدمة كافية. ما عاد يعنيها أن تعرف أكثر، ولا تملك طاقة لدهشة جديدة. لذا أعادت الملف حيث كان ومن ثم تلك اللوحة الخشبية التي كانت تخفي تلك الخزنة السرية، وغادرت الغرفة ومنها إلى غرفتها على الفور .
༺═────────────────═༻
وقف حسن في بهو الڤيلا ينظر حوله وهو يغالب سيلًا من الأفكار التي تهاجمه دفعة واحدة .. أولها انطلق من عند نغم ، وآخرها توقف عند السؤال المعلّق: أين سيذهب برفقة والده المستجد ؟!
ـ اتفضل يا حسن !
استدار سريعًا، فوجد والده واقفًا خلفه، يمدّ إليه بطاقة هوية جديدة. تناولها حسن بصمت، وعيناه ما زالتا معلّقتين على والده، الذي أردف بنبرة يعلوها شيء من الفخر:
ـ بطاقتك الجديدة...
ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، وأشار إلى الاسم المكتوب وهو يقول:
ـ من النهاردة... بقيت رسميًا حسن سالم مرسال.
أخذ حسن البطاقة بهدوء، وتطلع إليها للحظات دون أن ينطق، ثم قال بمرارة خفية دون أن يرفع عينيه :
ـ صدق اللي قال ان الدنيا دي غريبة ومفيش فيها حاجة مضمونة، تبات حسن جادالله، تصبح حسن مرسال .. !
رفع عينيه ببطء، ثم نظر في عيون سالم مباشرةً وقبل أن ينطق تحدث سالم وقال :
ـ صحيح ، على العموم معايا مفيش حاجة مستحيلة ، وهتشوف بنفسك.. يلا بينا ؟
ـ على فين ؟!
ـ مشوار مهم أوي ، لازم الناس كلها تعرف وتعترف بوجود حسن مرسال ، دي البداية الصحيحة .
لم يفهم ما قاله والده ، ولكنه لحق به إلى السيارة على أية حال ، وبينما كان السائق يستعد للانطلاق استوقفهم صوت عمر الذي كان يركض نحوهم وهو يلوّح بيده قائلا:
ـ استنوني ، أنا جاي معاكم .
فتح عمر باب السيارة وهو ينظر نحوهم ويقول باسمًا :
ـ يلا ، توكلنا على الله .
رمقه والده عبر المرآة الجانبية وهو يتسائل بنبرة حنقة :
ـ انت عارف احنا رايحين فين أصلا ؟!
فنظر عمر إلى حسن سريعا ، وقال بثقة :
ـ مكان ما يكون حسن أنا وراه .
أشار سالم إلى السائق لينطلق ففعل ، وبمجرد ما إن سلك السائق طريقًا بدا مألوفًا لعمر حتى قال :
ـ إيه ده ؟! هو احنا رايحين العزبة ؟!
أومأ سالم بصمت ، فنظر عمر إلى حسن ومال نحوه وهو يهمس بخفوت وبطريقة ساخرة :
ـ جهز نفسك يا برو .. هتزور مهد أجدادك .. كوم الأشراف هتنور بيك .
ـ إيه كوم الأشراف دي ؟!
نظر إليه عمر باحباط مصطنع وقال باقتضاب هامس:
ـ مش لازم تسأل ، السيد الوالد هيقوم بالواجب حالا .
وبالفعل، تنحنح سالم ثم قال مفتتحًا حديثه :
ـ الزيارة بتاعة النهارده دي يا حسن مش مجرد زيارة أو نزهة، لأ.. دي زيارة مهمة أوي علشان تعرف انت أصلك إيه وأصل ابوك وأجدادك .. وعلشان كمان تدرك قيمتك الحقيقة وتعرف انت بتملك إيه والناس بتعمل لك حساب ليه ، عشان كده كان لازم المنطلق يكون من كوم الأشراف.. البلد اللي أنا منها وأبويا وأجدادي منها .
نظر عمر وحسن لبعضهما البعض وزم عمر شفتيه مبتسما بسخرية طفيفة وكأنه يقول له " ها قد جاء الرد أسرع من المتوقع "
بينما أكمل سالم وهو يقول ونبرته تشي بالفخر والزهو :
ـ جدك عبدالعظيم الله يرحمه كان عمدة البلد ، وورث العمودية عن أبوه وأبوه ورثها عن أبوه وهكذا..
كان عمر معتاد الصمت في حضرة والده لذا لم يعلق ، أما حسن فتسائل بفضول مستفسرًا :
ـ وليه انت مورثتش العمودية من جدي ؟!
انفرجت أسارير سالم على مهل، وابتسم ابتسامة صغيرة لكنها حقيقية.
"جدي"... لم تمر عليه مرور الكرام.
في تلك اللحظة، شعر أن حسن بدأ ينتمي، بدأ يعترف، بدأ يتكلم بلغة العائلة دون حواجز.
وقال أخيرًا بصوت خافت لكنه يحمل نبرة رضا:
ـ لأن العمودية مش مجرد لقب بيتورّث، دي مسؤولية محتاجة اللي يكون قدّها.. ولما أبويا مات حسيت إني مش لاقي نفسي هنا، ناهد كمان الله يرحمها مكانتش حابة تفضل هنا ، وسافرنا بعدها على القاهرة واستقريت هناك ..
نظر عمر إلى حسن وهتف بتلقائية:
ـ ناهد هانم الله يرحمها اللي هي والدة فريد ونسيم ..
التفت إليه حسن بحدة مفاجئة، وكأن الكلمة لامست شيئا لم يلتئم بعد.
حدته جعلت الآخر يتراجع مسرعا وهو يقول :
ـ لأ.. والدة فريد بس ، معلش لسه مش واخد على الوضع الجديد.
ظل حسن ينظر إليه لحظة، ثم حول نظره للطريق دون أن يعلّق، لكن ملامحه انغلقت قليلًا.
بعد مرور ساعتين ..
وما إن اقتربت السيارة من حدود القرية، حتى بدأت معالم "كوم الأشراف" تتكشف أمامهم رويدًا رويدًا.
حقول خضراء تمتد على مد البصر، تتراقص سنابلها تحت نسيم العصر، كأنها تهمس بالحكايات القديمة.
أشجار النخيل العالية تقف كالحراس، تحرس مداخل الطرق الترابية.
أشار سالم بإصبعه نحو امتداد الأرض وقال بنبرةٍ يملؤها الفخر:
ـ شايف يا حسن ؟ كوم الأشراف مش بس بلد... دي أصل، دي الجذور اللي مهما بعدت عنها، هتفضل شدّاك ليها.
كوم الأشراف طول عمرها منورة بأهلها، ناسها طيبين، بس يعرفوا الأصول، واللي ليه قيمة هنا، بيتشاف من أول خطوة.
كان عمر يستمع إلى حديث والده بملل ظاهر، رأسه مستند إلى زجاج النافذة، وعيناه تتابعان الحقول وهي تمرّ ببطء.
قد حفظ مثل هذا الكلام عن "الأصل والجذور" منذ صغره، فلم يعد يثير فيه فضولًا ولا انبهارًا.
بالنسبة له، "كوم الأشراف" لم تكن سوى محطة سنوية يمر بها مجاملة، لا أكثر.
وغمغم لنفسه وهو يعدّل جلسته:
ـ نفس الكلام كل مرة مفيش بتلاتة جنية كريتيڤتي ..
ثم التفت بخفة نحو حسن وهمس بملل ساخر :
ـ استعد بقا لفقرة "جدي كان فارس قبيلة" و"الأرض دي بتتكلم عننا"… أنا مني لله إني جيت معاكم أصلا.
ما إن تجاوزت السيارة آخر منعطف ترابي، حتى بدأت ملامح العزبة في الظهور، و كأنها قطعة منفصلة عن الزمن.
على جانبي الطريق، اصطفت أشجار النخيل العالية كأنها حرس شرف، وفي وسط المساحة الواسعة، ظهرت "السرايا الكبيرة" بكل وقارها.
بوابة حديدية ضخمة مطعّمة بنقوش عربية، رست فوقها لافتة كبيرة مكتوب عليها " عزبة مرسال " وسور مرتفع يُحاوط فناء فسيح مفروش بالبلاط الحجري، تتوسّطه نافورة حجرية صغيرة، يصدر منها خرير ماء خافت .
خلف البوابة، ظهر البيت الفخم. طابقان بواجهات بيضاء مشبّعة بلمسة ريفية أصيلة، وشرفات مُطلة على الحقول .
توقف السائق أمام البوابة، فترجل منها أحد العمّال فورًا وفتحها باحترام، وهو يحيّي سالم قائلاً:
ـ نوّرت العزبة يا باشا ..
أومأ سالم بصمت ووقار، لكن عينيه كانتا تراقبان حسن، ينتظر تلك النظرة الأولى.
وحسن... كان يحدّق في كل شيء حوله، بعين مندهشة، وكأن مشهدًا من فيلم تاريخي قد نُقِل إلى الواقع أمامه وجعله يقف أمام عظمته وجماله مبهورا مأخوذا ..
༺═────────────────═༻
في مدريد …
نزل عاصم من سيارته أمام مبنى المحكمة ، ومن ثم ترجل محاميه الخاص ( خوليو أولونسو ) .
لم يتبادلا الكثير من الكلمات، كانت الخطوات المتجهة نحو البوابة كفيلة بأن تعبّر عن ثقل اللحظة.
قال المحامي وهو يراجع الملف بين يديه:
ـ الجلسة ستُعقد في القاعة الرابعة. الملف مكتمل، والمرفقات الرسمية قُدمت منذ أسبوعين..كل ما علينا الآن هو انتظار القاضي.
أومأ عاصم دون أن يلتفت إليه، ثم قال:
ـ في حال قُبل الطلب... ماذا يحدث تحديدًا؟ هل يُحذف الملف؟
رد المحامي بنبرة دقيقة:
ـ لا يُحذف. يُغلق.
سيبقى محفوظًا في السجل القضائي الداخلي، لكنه لن يظهر في الصحيفة الجنائية، ولن يُستخدم ضدك في أي إجراء قانوني أو إداري..
توقّف عاصم لحظة على درجات السلم، ثم سأل دون أن ينظر إليه:
ـ وما احتمالات الرفض؟
ـ موجودة. خاصة أن الجريمة الأصلية كانت مصنّفة كعنف جسدي.
لكننا أرفقنا شهادة السلوك، وتقرير المتابعة إيجابي جدًا.
سلوكك بعد الإفراج كان نموذجيًّا.
أكمل عاصم سيره، وقال بلهجة ثابتة:
ـ وهل وجودي في الجلسة إلزامي؟
ـ نعم. القاضي قد يوجّه إليك أسئلة مباشرة، يريد أن يراك... أن يتأكّد أنك لم تعد خطرًا.
وصل إلى باب القاعة، فتوقّف عاصم لحظة، وأخذ نفسًا عميقًا فقال المحامي أخيرًا بصوت منخفض:
ـ لا تُبرّر الماضي، فقط أثبت أنك تجاوزته .
كانت القاعة الرابعة هادئة على نحو مهيب، تتردد فيها الأصوات بخفوت .
دخل عاصم برفقة محاميه، وخطا خطواته الأولى نحو المنصة المُخصّصة للطلب، ثابتًا من الخارج، وإن تمايلت بداخله آلاف الذكريات.
جلسا في المقاعد الأمامية المخصصة للمتقدمين بطلبات إخلاء السجل، بينما كانت هيئة المحكمة تتكوّن من قاضٍ رئيسي، وكاتبة جلسة، وممثل عن النيابة.
فتح القاضي ملف القضية، ثم نظر إلى عاصم نظرة قصيرة متفحّصة، قبل أن يُلقي السؤال الأول بلغة أسبانية، بنبرة رسمية لا تخلو من فتور:
ـ السيد عاصم عبد الرحمن الدالي ..
هل حضرتك على دراية بمضمون الطلب الذي تقدّمت به؟ وهل تؤكد رغبتك في إغلاق سجلّك القضائي وفقًا للمواد المنصوص عليها في القانون الجنائي الإسباني؟
رد عاصم بهدوء: ـ نعم، سيدي القاضي. أؤكّد ذلك.
تبادل القاضي نظرة سريعة مع ممثل النيابة، ثم قال: ـ بحسب الملف، فقد انقضت مدة العقوبة الأساسية، وانتهت الرقابة التكميلية منذ أكثر من عام ونصف، وسلوكك خلال تلك الفترة جاء خاليًا من أية مخالفات.. هل ترغب في تقديم أي توضيح إضافي أمام المحكمة؟
تقدّم المحامي بخطوة وقال:
ـ سيدي القاضي، موكّلي لا يسعى لإخفاء الماضي، بل للعيش خارجه.. وقد قدمنا ما يُثبت اندماجه الكامل في الحياة المدنية، ومشاركته الفعّالة في المجتمع منذ انتهاء التزاماته القانونية.
نأمل النظر بعين القانون، لا بعين الماضي.
أومأ القاضي برأسه، ثم التفت إلى عاصم مجددًا:
ـ أراك هادئًا… ما الذي تعنيه هذه الخطوة بالنسبة لك؟
أجاب عاصم بنبرة هادئة، لكن نبرته لم تخلُ من الحزم:
ـ تعني أن أتوقّف عن دفع ثمنٍ سبق أن دفعته.
أن أُعامَل كإنسانٍ أنهى التزامه، لا كمن يعيش تحت ظله إلى الأبد.ـ لقد التزمت بالقانون، وأنهيت ما فُرض عليّ. وما أطلبه الآن ليس منحة... بل حقٌ قانوني.
سجّلت كاتبة الجلسة الملاحظة، بينما أغلق القاضي الملف وقال: ـ المحكمة ستُصدر قرارها خلال دقائق.
ثم نطق بجملته الأخيرة:
ـ الجلسة مرفوعة.
……
بعد انتهاء الجلسة ..
جلس عاصم على أحد المقاعد الرخامية في بهو المحكمة، محدِّقًا في الأرض بعينين ساكنتين، يتذكر الماضي ، وكيف دخل هذا المكان مكرهًا، وكيف وطئه الآن بكامل إرادته رغبة في التخلص من كل آثاره وتبعاته .
مرت دقائق بدت أطول من الجلسة ذاتها، قبل أن يخرج محاميه من القاعة، يحمل في يده ملفًّا.
اقترب منه وقال بهدوء محسوب وبابتسامة رصينة:
ـ تهاني لك سيد عاصم، تمّت الموافقة على الطلب… القاضي صدّق على إخلاء ملفك الجنائي، واعتبارًا من هذه اللحظة، لا يُسجَّل عليك أي قيد جنائي، ولا يُعتَبر لك سجلٌ مفعَّل، وإذا طلبتُ فيشًا جنائيًا سيظهر خاليًا. كما يمكنك التقدّم لأي وظيفة، أو استخراج تأشيرة سفر، أو مباشرة أي إجراء قانوني، دون أن يُذكر شيء من ماضيك.
ثم تابع بنبرة واثقة :
ـ أنت الآن أمام الدولة مواطن لا تُنسب إليه سابقة.
زفر عاصم وهو ينحني قليلا ويسند جبهته فوق راحتيه و كأنما أُزيح عن صدره حملٌ ثقيل، ثم قال بنبرة أقرب للهمس:
ـ أخيرًا...
ثم أمسك بالورقة المدون بها قرار المحكة، ونظر إليها للحظة، ثم طواها بهدوء ووضعها في جيبه ثم نهض واقفا وقال بنبرة منفرجة لا تخلو من امتنان :
ـ شكرا لك سيد خوليو ، أنت دائما جدير بالثقة .
ابتسم خوليو وردد بابتسامة:
ـ أنا في خدمتك دائمًا سيد عاصم .
سارا سويًا نحو الخارج وهما يتحدثان، فقال عاصم بإقرار :
ـ تلك الخطوة كنت أظنها مجرد ورقة ستطوى وتوضع في جيبي، لم أدرك أهميتها سوى الآن .
ـ صحيح، ليست مجرد ورقة يا سيد عاصم، بل مفتاح لبداية جديدة. لو لم تتقدم بهذا الطلب، لما مُنحت فرصة ثانية للعودة إلى الحلبة. فوجود قيد جنائي فعّال، لاسيما في قضايا العنف، يحول دون تسجيلك في أي اتحاد رسمي مرة أخرى.
تنهد عاصم، وشرَد بنظره قليلًا قبل أن يقول بصوت هادئ:
ـ في الحقيقة... لا أظن أنني أرغب بالعودة إلى الملاكمة مجددًا. لقد أسست عملي، وصنعت لنفسي حياة مختلفة تمامًا.
ثم التفت إليه وابتسم بخفة، وعلت نبرته قليلًا وهو يمازحه:
ـ لكن لا بأس ببعض القتال من وقت لآخر... فقط لتذكير النفس بما كانت عليه .
ضحك المحامي ثم مد يده إليه ليصافحه ثم قال :
ـ موفق سيد عاصم، أتمنى رؤيتك قريبًا .
بادله عاصم الابتسام ثم قال :
ـ أكيد سيد خوليو ، مع السلامة .
استقل خوليو سيارته وانصرف، ومن ثم استقل عاصم سيارته وانطلق عائدا إلى الفندق .
༺═────────────────═༻
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق