رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث عشر 13بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث عشر 13بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث عشر 13بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
محسنين الغرام ٢
وقفت نغم في المطبخ بهدوء، وقد رفعت شعرها بعناية إلى كعكة بسيطة، وارتدت مئزرًا مزركشًا يغطي بلوزتها القطنية التي التصق بها بعض من آثار الدقيق.
أمامها وعاء زجاجي كبير، كانت تحرّك بداخله خليط الكعكة برفق، وعلى ثغرها ارتسمت ابتسامة حالمة وهي تغني بنغمة ناعمة تشبهها :
ـ وطبطب الهوى علينا.. وفتح الهوى عينينا.. قالي كلام احلى كلام.. من بعد ما قاله ما بنام
أخذت تدور حول نفسها بخفة، كأنها ترقص وحدها في عالم صغير صُنع على هواها... تنقل خطواتها بين الرفوف والموقد، تقطف شيئًا من هنا، وتضيف لمسة هناك.. وتغني :
ـ قاللي ايه … قاللي عينيكي يا حلوة بتسحر ، قاللي كلامِك شهد مكرر ، قال على بعدُك عمري ما حقدر .. قاللي كلااام.. أحلى كلام .. من بعد ما قاله ما بنام .
توقفت لوهلة عن الدوران، وراحت تسكب الخليط داخل الصينية ببطء، ثم وضعتها في الفرن بهدوء، وجففت يديها، قبل أن تعود إلى الغناء من جديد:
ـ وقاللي ايه … قاللي تعالي يا حلوة معايا… نفرح نسهر دا انتي هنايا.. وقالي ايـــــــــــــــه.. قاللي ده نورك شمس حياتي.. يا اللي مليتي كل حياتي.. قاللي كلام احلى كلام.. من بعد ما قاله ما بنام.
ما إن وصلت إلى نهاية المقطع، حتى عادت إلى منتصف المطبخ، ثم انحنت بخفة أمام الفراغ، كما لو كانت تُحيي جمهورًا وهميًا تصوّرته يصفق لها بحرارة!
ابتسمت، ورفعت رأسها بفخر وحماس… لكن في لحظة خاطفة، ارتطم رأسها بحافة السطح الرخامي مما جعلها تصرخ متأوهةً وهي تمسك بجبهتها بألم .
عادت لتجلس على مقعد قريب وهي تمسد موضع الألم، ثم مالت على حافة الطاولة وأسندت ذقنها إلى كفّيها، تحدق في مؤقت الفرن وكأنها تعد الثواني لا لنضج الحلوى، بل للّحظة التي سيتذوق فيها فريد طعم ما فعلته بيديها... وبقلبها.
بعد حوالي نصف ساعة كانت قد انتهت من إعداد الكعكة، ثم وضعتها في القالب المخصص بعناية، ومن ثم غطّته بغطاءٍ شفافٍ ليحفظ رائحتها الفوّاحة، ثم اختارت شريطة وردية اللون، عقدتها على شكل أنشوطة أنيقة .
تراجعت خطوة للوراء لتتفقد النتيجة، ثم أومأت برضا وقالت:
ـ تسلم ايديكي يا أنون .
ذلك اللقب أعادها إلى ذكرى خالتها ، حيث أنها كانت الوحيدة التي تناديها بهذا الاسم .
شردت عيناها الدامعتين لوهلة، وسكنت ملامحها، ثم تنفست ببطء وكأنها تعيد إغلاق باب الذكرى برفق وهي تقول :
ـ الله يرحمك يا خالتي وينور قبرك .
مدت يدها، وضبطت وضع الشريطة على القالب، ثم خلعت مريول المطبخ، وخرجت منه إلى غرفتها ، ارتدت ملابس مناسبة وحملت قالب الكعك ثم اتجهت نحو باب المنزل، فتحته وهمت بالخروج ولكنها تفاجأت بفريد يقف أمامها.
وقعت عيناه فورا على قالب الكعك بيديها ، ثم نظر إليها وقال مبتسما :
ـ على فين يا جميل ؟
طالعته بابتسامة ، وكأن دفء الكلمة لامس شيئًا عزيزا بداخلها، فازدادت عينيها بريقًا وهي تجيبه بنبرة أكثر ليونة :
ـ كنت جايبالك الكيك ده .
نظر إلى ما بين يديها متعجبًا، ثم رفع نظره ليلتقي عينيها اللامعتين وهو يقول :
ـ يا خبر أبيض ! ليا أنا ؟!
أومأت وهي تمد القالب نحوه ، فارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه ومد يده ليتسلم القالب وهو يقول :
ـ أنا متشكر جدا يا نغومة ، أنا محدش عمل لي كيك مخصوص عشاني قبل كده .
ضحكت بخفة وقالت بمرح :
ـ أكيد لأنك مش بتاكل من ايدين حد ، بس متقلقش أنا عملت حسابي وكنت لابسة جوانتي ..
ضحك بدوره وهو ينظر إليها ما بين دهشةٍ وامتنان وقال :
ـ جوانتي ايه بس يا نغم هو احنا بينا الكلام ده .. احنا خلاص بقينا أهل .
ارتفعت ضحكتها قليلا فأخذ يحدق في الحب المشع من وجهها بولهٍ تام ، وبينما عيناه تجول على قسمات وجهها الناعم.. لمح ندبة صغيرة قرب طرف حاجبها الأيسر .
انحنى قليلًا للأمام دون أن يشعر، أمال رأسه بفضول خافت، ثم رفع يده وأشار بإصبعه دون أن يلمسها، صوته خرج هادئًا، حنونًا بشدة :
ـ من إيه دي ؟!
رفعت عينيها إليه ببطء، فالتقت بنظرته، تلك النظرة التي لم تلمس ندبتها ولكن لامست ما هو أعمق منها… نظراته كانت لا تحوم على السطح، بل تتوغّل، بهدوء، دون أن تطلب إذنًا، تربّت على قلبها من الداخل. وتمنحه من السكينة ما يكفي لآخر العمر .
شيء في تلك النظرة جعل الهواء من حولها أثقل… والصمت بينهما أعمق.. فأنزلت عينيها سريعا، ومرّت أصابعها فوق الندبة بخفة لا واعية وهي تقول :
ـ خبطة خفيفة ..
زم شفتيه بيأس وهو ينظر إليها مبتسما بخفة وهو يقول :
ـ تاني يا نغم ؟! حبيبتي لو عليكي ندر قوليلي وأنا أوفيه عنك بدل الكوارث اللي بتعمليها كل شوية !
أفلح في إضحاكها، فانفرجت شفتاها عن ضحكة حقيقية، ناعمة، كسرت التوتر الذي كان معلقًا بينهما.
ضحك بدوره، ضحكة المغلوب على أمره، وهو يهزّ رأسه بأسى خفيف وقال بنبرة فيها مزيج من الحنان والتوبيخ المرِح:
ـ طيب حطّي عليها تلج ولا حاجة… الحمد لله إنها بعيدة عن عينيكي الحلوة دي!
توقفت الضحكة، لكن أثرها بقي في عينيها، وبهمسة شبه خجولة، ردّت دون أن ترفع عينيها إليه وهي تحاول ردعه عن النظر إليها بتلك الطريقة :
ـ المهم.. مش هتدوق وتقوللي رأيك ؟!
ـ متأكد إنها تحفة طبعا ، كفاية انها من ايديكي ..
وأسند كتفه إلى الباب، وترك جسده يميل عليه بنصف راحة، وقال مبتسما :
ـ الكيكة الجاية ان شاء الله نعملها سوا في بيتنا ..
سكتت لوهلة، ثم أشاحت بوجهها في محاولة فاشلة لإخفاء ابتسامتها، وقالت وهي تخفض عيناها عن مرمى نظراته :
ـ يا رب .. إن شاء الله.
ثم رفعت عيناها ونظرت إليه بجدية بلهاء وقالت :
ـ هو انت إيه اللي جايبك ؟!
رفع حاجبه بمشاغبة وهتف بحنق مصطنع :
ـ إيه اللي جايبني ؟!
ضحكت وأردفت :
ـ أقصد يعني جاي ليه ؟
عدل وقفته وقال مبتسمًا :
ـ جيت أشوفك قبل ما أمشي ، مهو لو جيتي على بالي وأنا في نص الطريق ممكن أرجع مخصوص أشوفك وأمشي تاني .. وأنا وقتي ضيق الحقيقة ميسمحش أقضيها رايح جاي .
ابتسمت وهي تحاول تجاهل غزله المفرط وقالت بنبرة خفيفة تغلفها محاولة للهروب:
ـ هتمشي تروح فين ؟!
ـ هزور الأطفال في الدار ، بقالي فترة غايب عنهم وأنا متعود أشوفهم باستمرار ، ما تيجي معايا !
فاجئتها دعوته، فاتسعت عيناها بحماس، وارتسمت على وجهها ابتسامة فرح نقي، صادق وبسيط .
ـ بتتكلم بجد ؟!
أومأ مؤكدا وهو يقول بابتسامة مرحة:
ـ طبعا .. أهي فرصة يتعرفوا على زوجتي المستقبلية .
تألقت ابتسامتها أكثر ، وهتفت بحماس:
ـ طيب ، خمس دقايق بس هغير هدومي وأرجعلك .
وقبل أن يرد كانت قد صفقت الباب بوجهه .
وقف في مكانه لثانية، متجمد، وهو يحدق في الباب المغلق، ثم رفع حاجبيه بدهشة، وابتسم ابتسامة واسعة وهو يهز رأسه ساخرا من حاله ويقول :
ـ اوكي يا نغم هستناكي ي حبيبتي.
༺═────────────────═༻
وقف حسن في الاسطبل مبهورًا .
عيناه تجولان من جهة إلى أخرى، يتأمل الأعناق المرفوعة، الأجساد المصقولة، والعيون التي تلمع بثقةٍ لم يرَها في مكانٍ آخر .
صفوف من الخيول الأصيلة، كل واحدةٍ منها تُحاكي الكبرياء بصمت، تتبادل النظرات، وتضرب الأرض بحوافرها بثباتٍ مهيب.
نظر يمينًا… ثم يسارًا، وحين لامس بيده عنق حصانٍ ضخمٍ بجلدٍ لامع، ازدادت دهشته وغرابته .
لم يكن يُصدّق… كل هذه الخيول؟ هذه القامات النبيلة، وهذا العزّ؟ ملك والده؟
لكنه سرعان ما تنفّس بعمق، واستدار ببطء وهو يشق طريقه نحو الإجابة : هل من يملك كل هذه الأملاك يُعجزه امتلاك بضعة خيول؟
مدّ يده ببطء إلى رقبة فرسٍ بيضاء، ناعمة الشعر، وديعة النظرة، فاقتربت منه دون خوف ، وهذا ما أدهشه بحق ، وجعله يمرر يده على شعرها مبتسما بحنان وهو يقول :
ـ ما شاء الله.. شكلك بنت عز ومتربية عالغالي .
استمع إلى خطوات واثقة تدنو منه ، فعرف على الفور أنه والده، لذا التفت وهو لازال مبتسما، وعندما رأى والده يقترب منه مبتسما هتف وعيناه تلمع بحماس كطفل صغير:
ـ الحلوة دي عندها كم سنة ؟!
ضحك سالم بخفوت وهو يجيبه بنبرة مرتاحة وهو ينظر إلى الفرس بفخر :
ـ " نرجس " عندها تلت سنين ونص !
ارتفع حاجبي حسن باعجاب عفوي وهو ينظر مجددا إلى الفرس ويسألها :
ـ اسمك نرجس ؟! يختي حلوة .
ضحك سالم ببساطة ، وأردف وهو يمسح على عنق الفرس بزهو ويقول :
ـ دي من نسل ' عبير شمر ' خط عربي نادر ، دم نضيف وطباع نبيلة ، لكن رغم جمالها … دمها حامي ، ومش بتدي وش لحد بسهولة .. و انها تكون هادية قدامك وهي أول مرة تشوفك فمعنى كده إنها حست بالأمان نحيتك .
نظر حسن إلى والده بتعجب، وسأله بفضول نهم :
ـ معقوله ؟!
أومأ سالم مؤكدا وتابع بثقة :
ـ أيوة طبعا .. الخيل بيقرأ لغة الجسد كويس جدا ، ولو شاف اللي قدامه مصدر تهديد بالنسبة له بيبعد فورا .
سكت حسن، وارتفعت زاوية فمه بابتسامة خفيفة، ثم مال قليلًا على الفرس وقال :
ـ شكلي هحبك يا نرجس !
ابتسم سالم ، ثم أشار نحو فرسٍ شقراء وقال :
ـ بص دي .. " شُموس " بنت " أصيل " .. أصيل ده كان أقوى فحل عندي .. فاز بسباقات كتير جداا في باريس و دبي ..
ـ و راح فين سي أصيل دلوقتي ؟! مات ؟!
أجابه والده وهو يمسح على عنق شموس بود :
ـ لأ .. هاديت بيه واحد معرفة .
مط حسن شفتيه بتعجب ، وعاد ينظر إلى شموس، بينما استطرد سالم وقال :
ـ بس شموس دي طبعها نار .. عنيدة جداا .. ولو حست إن اللي راكبها مش قدها بتطرحه عالأرض فورا .
زم شفتيه مجددا ولكن باعجاب ، و راقهُ كثيرا الغوص في عالم لم يكن يدري عنه شيئا .. ونظر إلى أبيه وقال بانبهار :
ـ واضح إنك بتحب الخيل وفاهمهم كويس .
استقامت ابتسامة سالم بزهو وهو يجيبه :
ـ ده صحيح ، الخيل يا حسن زيها زي الستات ، لو حبيتهم هيحبوك ، ولو غدرت بيهم يقلبوا عليك فورا .. كل واحدة فيهم لها مزاج، وطبع ، في اللي تبص لك من بعيد وتيجي لوحدها ، وفي اللي تفضل واقفة مكانها مستنية تشوف انت نيتك إيه ، لو خدتها بالحنية تنخ وتبقا تحت طوعك ، ولو حاولت تسيطر عليها بالقوة ترميك من فوق ضهرها وتدوس عليك وانت واقع .. ببساطة.. الخيل والستات محتاجين اللي يفهمهم ويعرف يتعامل معاهم .
ابتسم حسن ابتسامة صادقة ، وعيناه تشعان بتقدير لم يظهره من قبل، وهزّ رأسه بإعجاب واضح، ثم قال:
ـ الكلام ده يتباع بفلوس والله .
ضحك سالم بهدوء وثقة ثم نظر إلى حصان بني قوي ، وأشار نحوه وهو يقول باعتزاز :
ـ ده بقا ' سهم ' من سلالة نادرة اسمها " الرماح الكبير " ، بس ده محدش بيركبه غيري ، أنا مربيه من وهو مهر صغير ، اتولد هنا في الاسطبل ، وأول ما وقف على رجليه مكانش حد غيري بيقرب له ، لحد ما اتعود عليا وارتاح لي .. ومن يومها وهو الأقرب لقلبي من بين كل الخيول دي ..
أخذ حسن يتأمله بصمت، مأخوذ بحضور الحصان،
كان جسمه مغطّى بلمعة العافية، عضلاته تتحرك تحت جلده كلما هزّ رأسه أو مشى خطوة، وفي عينيه... شموخ يقترب من الغرور،
لكن غرور "واعي"، غرور من يعرف من هو، فلا يجد داعيًا لإثبات نفسه.
وابتسم وهو يقترب منه بحذر، ثم قال بصوت خافت واعجاب لا يخبو :
ـ بسم الله ماشاء الله ، ده الواحد محتاج يقضي هنا يومين تلاته وسط الجمال ده .
رحب الوالد على الفور وابتسم قائلا :
ـ و ليه لأ .. احنا فيها ..
ـ احنا فيها ازاي.. احنا جايين من غير هدوم ولا حاجه.. هنبات ازاي .
أشار إليه سالم ببساطة وقال :
ـ متشيلش هم التفاهات دي.. دلوقتي أبعتهم يجيبوا لكم اللي تحتاجوه وزياده ، أهي فرصة ، تتعرف على العيلة ويتعرفوا عليك .
أومأ حسن بهدوء ، وأدار نظره نحو ' سهم ' فقال سالم :
ـ هسيبك تتعرف عليهم بنفسك وهروح أقوللهم يجهزوا لنا الحاجات اللي هنحتاجها .
انصرف سالم، وأخذ حسن ينظر حوله باندهاش لا يهبط ، فاستمع إلى صوت عمر الذي هتف وهو يقترب منه :
ـ بقالي ساعة بدور عليك وانت هنا .
نظر إليه حسن مبتسما وقال بمرح ساخر :
ـ كنت بتعرف على نرجس وشموس .
ضحك عمر وهو يشير نحو فرس عنيدة، يميل لونها إلى الرمادي ، وقال :
ـ مشفتش عنود ؟!
نظر إليها حسن وقال :
ـ اسمها حلو ..
ـ اسمها حلو بس هزارها مش حلو .. عنود دي وقعتني من على ضهرها قبل كده حصللي خلع في الكتف وتمزق في الأربطة .
ضحك أخاه وهو ينظر إلى عنود بتفحص ويقول وهما يسيران خارج الاسطبل :
ـ تلاقيك اتعافيت عليها …
واقتبس من قول أبيه مدعيًا الخبرة وقال :
ـ أصل الخيل دول يا عمر عاملين زي الستات .. وانت شكلك مش فالح في الاتنين !
وقف عمر أمامه بتحدي وهو يقول :
ـ لأ.. أنا ميمي أه بس راجل أوي .
قهقه حسن عاليًا وهو يربت على كتف أخاه برفق لا يخلو من السخرية وأحاط كتفه بذراعه وهما يسيران خارج الاسطبل.
༺═────────────────═༻
كان فريد يقود سيارته نحو الدار ، وبجواره نغم تنظر من النافذة بهدوء، وهي تحمل قالب الكعك الذي صنعته بيديها .
حينئذ قطع فريد الصمت، وهو ينظر إليها مبتسما، ثم مد يده وقرص وجنتها بخفة جاذبًا انتباهها وهو يقول بحنق مصطنع:
ـ بقا بعد ما تعملي لي الكيك مخصوص تاخديه معاكي للأولاد في الدار ؟!
نظرت إليه وابتسمت ابتسامة صافية، ثم قالت :
ـ معلش ، ليك عندي كيكة كبيــــرة وبالشوكولاته كمان .
ابتسم وهو يهز رأسه موافقا وقال :
ـ ماشي يا ستي اللي تشوفيه ، على العموم .. خلينا نشتري لهم شوية هدايا في طريقنا لأنهم بيفرحوا جداا بالحاجات دي .
فركت يديها بحماس وهي تقول بابتسامة:
ـ أنا اللي هختار ..
هز رأسه مؤيدًا وقال بابتسامة حنونة :
ـ انتي اللي هتختاري يا نغومة .
توقف على جانب الطريق أمام واجهة أحد المتاجر الخاصة بهدايا وألعاب الأطفال ، ثم ترجل أولا وفتح لها الباب بابتسامة هادئة ، فوضعت قالب الكعك على مقعده، ونزلت وهي تبتسم ابتسامة متحمسة ..
دلفا سويًا ، فأخذت تنظر حولها بانبهار ، لأول مرة تدخل مكان مشابة..
كان المتجر ينبض بالألوان والأنغام، رفوفٌ متراصّة تحمل دُمى من مختلف الأشكال، سيارات صغيرة، ألعاب تركيب خشبية، وأخرى ناعمة الملمس تليق بأيد صغيرة .
وقفت نغم تنظر حولها، وعيناها اتسعتا بدهشة طفولية..
تقدمت بخطوات خفيفة بين الرفوف، تتفقد لعبة تلو الأخرى وكأنها في عالمٍ تعرفه جيدًا وتشتاق إليه في آنٍ واحد.
ابتسم فريد وهو يتبعها من الخلف، يراقب حماسها بصمت..
لم تكن تُمسك بالألعاب كراشدة تختار هدية، بل كطفلة تبحث في الأرفف عن شيءٍ طال انتظاره… شيءٍ لم تنله يومًا، ولم تطلبه حتى.
شعر فريد بانقباضة دافئة في صدره، ذلك النوع من المشاعر التي تختلط فيها الشفقة بالحب، والحنان بالرغبة في الحماية.
لقد كانت نغم، رغم كل ما عانته، لا تزال تحمل في داخلها تلك الطفلة التي لم تشترِ لها الحياة شيئًا قط.
هو يعلم ذلك… يعلم كم حُرمت، وكم تألمت في صمت، ويعلم أن اللعب، بالنسبة لها، ليست مجرد أدوات للتسلية… بل رموز صغيرة لأحلامٍ مؤجلة.
اقترب منها دون أن يقول شيئًا، التقط دمية صغيرة على شكل دبّ بني، كانت تبدو مفزعة بعض الشيء بوجهها الدائري الكبير وعينيها الواسعتين المخيفتين، تبتسم بسذاجة، وكأنها خُلِقت خصيصًا لتثير الفزع !
مدّ فريد يده والتقطها بخفّة، وخبّأها خلف ظهره وهو يقترب من نغم بهدوء متعمَّد، ثم فجأة، أخرج اللعبة ووضعها أمام وجهها مباشرة ، فانتفضت نغم بخوف ، وعلى الفور باغتته بضربة حازمة بتلك الدمية التي كانت تمسك بها وهي تقول :
ـ في حد يهزر بالشكل ده ؟!
لم يفلح في إخفاء ضحكته وهو يطالعها وهي تنظر إليه بحنق وغضب، وتضع يدها على صدرها محاولةً تهدئة ضربات قلبها، بينما اقترب منها وهو يقول :
ـ ايه رأيك في الكائن ده اللي مش عارف هو ايه بالظبط ؟!
على الفور تحدثت مالكة المتجر التي كانت تتابع المشهد بابتسامة:
ــ لابوبو ..
قطب كلا من فريد ونغم جبينهما بتعجب ثم نظر إلى نغم وقال ضاحكا :
ـ إيه رأيك يا نغومة ؟! أشتري لك لابوبو ؟!
التقطته من يده، وأخذت تنظر إليه بتفحص، ثم ضحكت بيأس وهي تقول :
ـ هو مخيف شوية ، بس ماشي موافقة ..
وأخذت تنظر إلى الدمية واستغرقت في التفكير ثم نظرت إليه نظرة رقيقة، خجولة، وهمست بعفوية لذيذة :
ـ هحتفظ بيها علشان لما نكبر إن شاء الله أوريها لولادنا ..
تجمّد فريد لثانية… وكأن قلبه هو من تلقّى العبارة، لا أذناه.
لم يرد، فقط ابتسم، ابتسامة من لا يعرف ماذا يقول،
حين تأتيه السعادة فجأة، على هيئة اعتراف صغير… يشبه الحلم.
عصف به الحب، الشوق، الجنون، وسريعا مر أمامه مستقبلهما سويا، زوجته، ثم أم أولاده ، ثم يكبران ، ويشيخان معًا..
فاضت عيناه بالحب وهو ينظر إليها صامتًا، ثم مدّ يده وربّت على رأسها برقة، كأنها طفلته بالفعل، ثم قال بصوت خفيض:
ـ إن شاء الله.
رآها تحدق في الدمية بصدمة حقيقية، عيناها اتسعتا، وحاجباها ارتفعا فجأة، ثم هتفت بصوتٍ عالٍ لا يخلو من استنكار طفولي:
ـ بكام ؟!
نظر إليها فريد متعجبا، وسألها :
ـ في إيه ؟!
أشارت نحو العلامة الملصقة بظهر الدمية، والمدون فوقها سعرها، وهتفت باستهجان :
ـ ١٤,٠٠٠ ألف جنية ؟! فريد هو أنا قرأت الرقم صح ؟!
حين هتفت نغم بذلك الذهول الطفولي وهي تشير إلى سعر الدمية، لم يستطع فريد أن يمنع نفسه من الشعور بالدهشة هو الآخر.
نعم، السعر مبالغ فيه… وفوق كل توقّع معقول.
أربعة عشر ألف جنيه؟ في لعبة قماشية صغيرة لا تتحدث، ولا تتحرك، ولا حتى تومئ برأسها؟!
ضاقت عيناه قليلًا وهو ينظر إلى الرقم، وتظاهر بالتمعن كخبير اقتصادي، وقال :
ـ الرقم صح فعلا ..
هنا تحدثت مالكة المتجر وقالت :
ـ هي سعرها غالي فعلا لأن الاصدار منها محدود جداا لأنها صنع يدوي، زائد انها مصنوعة من خامات طبية ومضادة للحساسية يعني آمنة على الأطفال تماما ..
نزعت نغم الدمية من يد فريد وهي تعيدها إلى الرف حيث كانت، فقال وهو يلتقطها من فوق الرف مجددا:
ـ انتي بتعملي ايه ، احنا خلاص هنشتريها .
نظرت إليه بحدة وهي تنزعها من يده مجددا وتعيدها للرف مرة أخرى وتقول :
ـ ليه إن شاء الله ، بتقولك آمنة على الأطفال ، هو انت شايفني طفلة !
ـ نغم بطّلي بقا .. هناخدها بردو ..
وقفت في مواجهته بحدة وقالت :
ـ لأ .. مش هشتري لعبة بالرقم ده!! ده يبقا سفه وتبذير .
ـ مش مشكلة ، طالما عجباكي أنا مستعد أدفع فيها كل اللي حيلتي .
زفرت بنفاذ صبر، وأخذت تنظر حولها إلى أن وقعت عيناها على دمية صغيرة الحجم، ملامحها خجولة، ترتدي فستانًا من قماش الكتان، وشعرها من خيوط الصوف، وعيناها مطرزتان بخيط أسود.
أمسكت بها برفق، وكأنها وجدت شيئًا تائهًا منذ زمن، ثم التفتت نحو فريد وقالت بابتسامة:
ـ هاخد دي.. إيه رأيك ؟ بذمتك مش شبهي ؟!
ابتسم وأخذ ينظر إليها بحب وتقدير، وقال ممازحًا إياها :
ـ بصراحة انتي أحلى .
ابتسمت وهي تضمها بفرحة، وقالت :
ـ هسميها نغمغم ..
ضحك وهو يهز رأسه بيأس من عفويتها المحببة ، وأومأ موافقًا وهو يقول :
ـ حلو وماله، اللي تشوفيه .
فتقدمت نحو السيدة، وسألتها بترقب :
ـ اشمعنا دي مش مكتوب عليها سعرها ؟
ابتسمت الأخيرة وأجابت ببساطة :
ـ لأن سعرها مش مستاهل ..
تنهدت نغم براحة، قبل أن تستمع إلى السيدة تستطرد قائلة :
ـ ٣٣٠٠ جنية بس !
علت الدهشة ملامحها من جديد، مما جعل فريد ينفجر ضاحكًا مرة أخرى، ثم مال نحوها وهو يمعن النظر في عينيها الجميلتين وقال:
ـ نغم يا روحي متشغليش بالك بالحاجات دي ..
وأكمل بزهو مصطنع:
ـ الخير كتير والحمد لله .
ضحكت بخفة، فضحك بدوره، ومن ثم بدأا باختيار لعبة لكل طفل في الدار حسب جنسه وسنه ، ثم أعطى فريد بطاقته البنكية إلى مالكة المكان فقامت بسحب ثمن ما اشتراه، وانصرفا .
سارا نحو السيارة وهما يحملان الحقائب مناصفةً، ثم فتح حقيبة السيارة وقاما بوضعها بعناية، ومن ثم عادا كلا منهما إلى مكانه ..
قادر فريد السيارة مجددا ومن حين لآخر كان ينظر إلى نغم التي تمسك بدميتها وتنظر إليها بعينين لامعتين ، فقال مشاكسًا :
ـ الظاهر إن نغمغم واخدة عقلك .
نظرت إليه وابتسمت بهدوء، وأخذت تنظر إلى جانب وجهه بحب لا ينضب، وقالت بامتنان :
ـ شكرا يا فريد ، ربنا يخليك ليا .
لم يرد فورا ، فقط ابتسم، وابتسامته هذه المرة كانت مختلفة، لأن احساسه كان مختلفا كذلك .. وتنهد مطولا ثم قال بصدق وهو يربت على رأسها بحنوٍ :
ـ ربنا يباركلي فيكي يا حبيبتي.
ارتعشت أهدابُها ارتعاشةً خفيفة، ثم أطبقت جفنيها كالطفل إذا لامسته نسمةٌ باردةٌ بعد حرٍّ طويل.
لم تُسقط عينيها إلى الأرض خجلًا، بل أغمضتهما لحظةً وكأنّها تُوثّق في ذاكرتها إحساس تلك الكفّ المطمئِنّة على رأسها؛ شعرت بأنّ كلّ ما افتقدته من حنانٍ في سنواتٍ مضت قد انسكب فجأةً في ذاك اللمس الوجيز ، وانفرج طرفُ شفتيها عن ابتسامةٍ صغيرةٍ أضاءت قسماتها .
ثم ما لبثت أن تنفّست بعمق، امتدّ شهيقها طويلًا حتى بدا وكأنها تجرب هواءا جديدا لم تستنشقه من قبل .
بعد قليل.. وصلا إلى الدار ، وبمجرد ما إن ترجلت ووقفت في البهو، حتى عادت إليها ذكرى هذا اليوم ..
نظر إليها فريد، وسرعان ما التقط الشيء الذي دار بخاطرها، وأخذ ينظر إلى البهو بدوره، حيث وقفت نغم يومها ، ومنحته أول وأرعن قبلة من الممكن أن يحظى بها رجل على الإطلاق .
ابتسم للذكرى التي لا تزال حية في أعماقه..
وفي قلبه… ترددت رغبة حاول إخفاءها بكل ما أوتي من قوة،
كأنها نار صامتة لا تليق بها اللحظة، ولا يسمح بها ظرف،
لكنها اشتعلت، رغمًا عنه، في لمحة عينٍ…
حين طال نظره إلى شفتيها دون أن يقصد، وحين تخيّل لثانيةٍ أن يقبّلها هذه المرة عن وعي، لا اندفاع.
أما هي، فقد أقسمت أن تلك النظرة الساكنة فوق شفتيها، لم تكن بريئة. فيها شيء لم يُقال… شيء جعل وجنتيها تشتعلان،
فأشاحت وجهها بسرعة، وهربت من أمامه بخطوات بطيئة مرتجفة خجولة لأبعد حد وهي تلعن غباءها الذي أقنعها بالقيام بتلك الحماقة ذات يوم.
أما هو… فتنحنح، كأنه يحاول أن يجلّي صوته من أثر الفكرة، أو أن يطردها من رأسه قبل أن تطغى، وهمس في نفسه، بنبرة تمزج بين الحرج والعجز:
ـ يا الله… يا ولي الصابرين .
لحق بها، ودخلا سويًا إلى عنبر الفتيات أولا ، اللواتي ما إن رأين فريد حتى أسرعن نحوه ، وبعضهن اندفعن نحوه بشوقٍ كبير .. وآخريات أحطن به من الجانبين، يتحدثن في وقتٍ واحد، يضحكن ويشدن بأكمامه، وكأن حضورَه بعث الحياة في جدران المكان.
أما نغم، فوقفت خلفه تراقب المشهد، وعيناها تغرورقان بشيءٍ لم تفهمه تمامًا، مزيج من الدهشة، والحب، وربما غُصّة صغيرة…
كأنّها ترى وجهًا آخر لفريد، لم تكن تعرفه..
وجهًا أبويًا حنونًا، يشعّ بالأمان، لا يُظهره أمام الجميع، لكنه حاضرٌ بقوة هنا .. وهذا ما جعلها تقع في غرامه أكثر ..
وقفت طفلة صغيرة أمامها، تتأملها بصمت، ثم اقتربت منها وسألتها بخجل:
ــ إنتي مرات عمو فريد؟
ابتسمت نغم ونظرت إلى فريد بصمت، ثم انحنت وقالت بلطف:
ـ لأ يا حبيبتي..
هنا أشار إليهن فريد لكي يقتربن، وأشار إلى نغم وقال :
ـ أعرفكم يا بنات … نغم خطيبتي وقريب إن شاء الله هنتجوز ..
تساءلت إحداهن في عمر السابعة تقريبا:
ـ واحنا مش هنيجي فرحك يا عمو فريد..
ربت على رأسها وقال بابتسامة:
ـ هتيجوا طبعا يا هند .. كلكوا معزومين من دلوقتي وفساتين الفرح عليا .
علت صيحاتهن المتحمسة، ثم، وبحركة جماعية طفولية تلقائية،
اندفعن نحو نغم، يُحطن بها من كل جانب، يسألنها بتتابعٍ لا يترك لها فرصة للرد:
ـ هتتجوزي عمو فريد بجد ؟!
ـ هتيجي تزورينا دايما ؟!
ـ بتحبي عمو فريد ؟
استوقفها السؤال الأخير، فنظرت تلقائيا إلى فريد الذي نظر إليها بتأهب وقال مبتسما :
ـ الجواب إجباري ..
فنظرت نغم إلى الفتيات، ثم إليه مرة أخرى وقالت بحب صادق :
ـ أنا مش بحب في حياتي غير عمو فريد .
༺═────────────────═༻
كيف تُخبر الآخرين أنك تمشي وبداخلك جرحٌ لم يلتئم،
أنك تضحك وفي عروقك صدى صرخةٍ مكتومة؟
كيف تشرح لهم أنّ السنين لم تمر، بل تراكمت عليك كالغبار على حديدٍ لم يُمسّ؟
ـ عاصم الدالي .
في المساء ..
دفع عاصم الباب الزجاجي للصالة الرياضية الموجودة في الطابق السفلي بالفندق، ثم دخل بخطوات هادئة وهو ينظر إلى المكان البارد من حوله.. الإنارة الهادئة، والأجهزة المصطفة كجنود بلا صوت، والرائحة العقيمة للمطهرات... كل شيء بدا كأنّه مُعدّ للعابرين، لا للمقاتلين.
لا أحد هنا.
لا مدرّبين، ولا موسيقى، ولا صوت أنفاسٍ مُتعَبَة.
مكانٌ بلا ذاكرة… وهذا بالضبط ما يحتاجه.
تقدّم نحو كيس الملاكمة المعلّق في الزاوية، بدا كأنه الشيء الوحيد الذي ينتمي لعالمه القديم.
وقف أمامه برهة، ثم أنزل حقيبته على الأرض وبدأ يلف الضمادات حول معصميه بحركة بطيئة، معتادة، لم ينسَها رغم مرور السنين.
أدار اللفافات بإحكام، شدّها بأسنانه، ثم رفع رأسه نحو الكيس ووقف في وضعيّة القتال.
لكنّه لم يتحرّك، ظلّ واقفًا، يتأمل ما أمامه بصمتٍ طويل.
أغمض عينيه… فارتدّت إليه كل الليالي التي حاول فيها أن ينسى.، كل الغضب الذي كبته، كل الضجيج الذي أخفاه تحت جلده.
ضرب الكيس.
الضربة الأولى كانت كتجربة، كنبشٍ في حجر قديم.
الثانية… أعمق، خرجت من خاصرته كما تخرج الصرخة من قلبٍ مخنوق.
ثم بدأت الضربات تتوالى، بإيقاع متصاعد، لا يحكمه منطق ولا تدريب، بل وجع.
كل ضربة كانت أشبه بتطهير، وكأن جسده يحاول أن يطرد ما علق به منذ سنوات.
صوت ارتطام قبضته بالجلد كان كدويٍّ صغيرٍ في هذا الصمت المتكلّف.
كل ضربة كان يطرد بها ألمًا ويمحي بها وجعًا من داخله..
كل ضربة كان يتخيلها خصمًا من أخصامه، فتارة يضرب سالم، وتارة يضرب فريد، وتارة أخرى يضرب عمر ..
تابع الضرب، حتى بلل العرقُ قميصه، وسرت الرجفة في كتفيه، وفي قلبه .. ...ثم توقّف برهة، أنزل ذراعيه ببطء، وبين أنفاسه المتقطعة مرّت الحقيقة كصفعة .
عشر سنوات كاملة ! عشر سنوات مرت ولم يقاتل، لكنه في الواقع قد قاتل ما هو أبشع من الخصوم .
عشر سنوات لم يكن فيها على الحلبة ، ولكنه خاض معاركًا لم يعرفها أحد .
فقد فيها الكثير… أخاه أولا، وحريته، ونفسه .
طوال تلك السنوات العشر كان يخسر كل يوم جزء من إنسانيته ورحمته، كان يشحن نفسه كل يوم بالغضب والحقد والكره حتى لم يبق فيه مكان لشيء آخر.
كان يعد نفسه كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة للحظة الحساب، لحظة الثأر ، لحظة استرداد الحقوق !
جسده كان مقيدًا، لكن عقله كان حرًا طليقًا.. يجيء ويذهب، يغدو ويرحل.. يتجول في طرق الانتقام..
يفكر، يخطط، يتخيّل كيف سيُنهي كل شيء عندما يحين الوقت.
لم يكن ينتظر العدالة، كان يصنعها على طريقته بقلبٍ لم يعد يعرف الشفقة، يتحين ضربته الأولى التي سددها نحو الهدف بكل سعادة وحماس دون أن يشعر لحظة بوخز الضمير .
وفي خضم تلك العزلة الفكرية المليئة بالفوضى والصخب، دُفع باب الصالة ودخل أيمن الذي ما إن رأى عاصم في هذه اللحظة حتى التزم مكانه ووقف يشاهده بصمت .
كان عاصم واقفًا أمام الكيس الجلدي يُسدد له ضربات بطيئة وثقيلة، كأنها ليست للتدريب، بل لتفريغ أعوام من الغضب.
ظل أيمن يتأمله، يرى كيف يتحرك جسده كآلة بينما بالتأكيد.. عقله في الداخل مشتعل .
يعرف أنه تحمل الكثير ، وعانى الأكثر ، يعرف جيدا أنه بالرغم مما عاناه ولكنه يحاول الحفاظ على نقطة صغيرة بيضاء بقلبه، لا يريدها أن تتلوث ، لذا فقد أتى الآن إلى هنا .. ليحرق غضبه، لكي يُسكت ذلك الوحش القابع بداخله ، لأنه يعرف جيدا.. لو ترك كل ذلك يتراكم بداخله سينفجر، سيدمر كل شيء كما النار في الهشيم، ستحترق معه تلك النقطة البيضاء للأبد .
اقترب أيمن خطوة، ثم ناداه بنبرة خافتة :
ـ عاصم…..
توقفت قبضة عاصم في الهواء، ثم هبطت ببطء..
تنفس بقوة، ثم مسح العرق على جبينه، وقال بصوتٍ لاهث دون أن يلتفت :
ـ خير ؟!
ـ على أساس إننا كنا هنسهر ونتعشى سوا لأنك راجع مصر الصبح .
استدار عاصم بنظرة سريعة، منهكة، ثم رد وهو يخلع قفاز الملاكمة ويلقيه أرضًا :
ـ معلش يا أيمن ، كنت مضغوط ومحتاج أفك شوية قبل ما أسافر .
أومأ الآخر بتفهم ، ثم قال :
ـ ولا يهمك أنا فاهم الوضع كويس، على العموم أنا كنت عاوز أسألك.. ناوي على إيه بعد ما الخطوة اللي خدتها النهارده ؟!
حدق عاصم بالفراغ قليلا وهو يحاول ترتيب خطواته القادمة ، ثم قال بإيجاز :
ـ لسة مفيش حاجه واضحة قدامي ، محتاج أهدى الأول وأفكر كويس .
أومأ أيمن ولكن بعدم اقتناع، فهو يعرف أن عاصم لا يحكي كل شيء، ونادرًا ما يفصح عن خططه لأحد، مهما كانت صلته به ،
بل إنه من الممكن أن يعتبر الشخص الذي يلح لمعرفة خططه وأسراره هو عدوه المستقبلي !
يفهم ويعي جيدًا تركيبته النفسية منذ سنوات عديدة حتى قبل موت حازم ، فهو كان دائما الشاب المنطوي الغامض الذي يؤمن أن كل كلمة تغادر فمه تُخصم من رصيده من الغموض .. والغموض بالنسبة لعاصم سلاحًا فتاكًا لا تقل قوته عن أي سلاح آخر ، فمن وجهة نظره الشخصية.. كلما كان الرجل أكثر غموضًا كلما صعب الإيقاع به .. والعكس بالعكس.
وكبر عاصم وهو لا زال يحمل نفس الصفات ..
لا يتحدث كثيرا ، لا يفصح بسهولة ، لا يثق بسهولة ، ولا يعطي مفاتيحه لأحد .. ببساطة .. لن يدعك تعرف عنه سوى ما يريد هو أن تعرف !
يراقب، يستمع، يحلل، ثم في النهاية يتحرك حين لا يتوقعهُ أحد .
غادرا سويًا الصالة الرياضية ، ودعهُ أيمن علمًا منه بأن الآخر يحتاج لقسط من الراحة، بينما اجتاز عاصم الممر المؤدي إلى المصعد بخُطى متمهلة، وضغط زر الطابق السابع حيث غرفته ، ثم دلف .
حين خرج، كان الممر خاليًا إلا من أضواء واهنة، فتح باب غرفته ببطاقةٍ بلاستيكية ، ثم دخل وما إن أغلق الباب وراءه حتى تنفس بعمق وهو يلقي بمنشفته فوق المقعد، ثم اتجه على الفور نحو الحمام ليتنعم بحمامًا دافئا .
بعد أن غادر الحمام استلقى على الفراش بتعب، والتقط هاتفه وقام بفتحه وهو ينوي مهاتفة نسيم على الفور.
وبمجرد أن فتح الهاتف حتى بدأت الرسائل تتدافع نحوه معلنةً عن كم المكالمات التي لم تصله، وغيرها من الرسائل التي أرسلتها إليه نسيم تتسائل عن سبب اختفائه التام منذ الليلة الماضية!
أعاد الاتصال بها وهو يشعر بالشوق إليها ينهشه، وما إن استمع إلى نبرتها الخالية من الروح وكأنها قادمة من مسافة بعيدة حتى تملكه القلق، وعصف به الشوق أكثر، وقال معلنًا استسلامه :
ـ نسيم .. وحشتيني!
سكتت للحظة، وكأن كلمته باغتتها، فانهارت كل دفاعاتها واحدة تلو الأخرى ، وظهر الانهيار جليًا في صوتها وهي ترد :
ـ كنت فين طول اليوم وقافل تليفونك ؟!
ـ أنا آسف ..
لكنها لم تمنحه الفرصة للاختباء خلف تلك الكلمة، فقد جاء ردّها بانفعال، يتخلله نحيب لم تستطع كتمانه:
ـ آسف ؟! عاصم أنا كلمتك فوق العشرين مرة .. وبعتلك مسجات كتير جدا .. ممكن أفهم انت ليه كنت قافل تليفونك ؟! طيب حتى لو مضايق ومش حابب تحكي ، على الأقل كنت طمني عليك وأنا كنت هسيبك براحتك !
شعر بالضيق واللوم الذي يتخلل صوتها، ذاك الضيق الممزوج بقلقٍ عميق وإنكارٍ خائف، وكأنها تُعاتب لتمنع نفسها من الاعتراف بأنها خافت عليه حدّ الانهيار.
لكن، ورغم ذلك، لم يستطع أن يمنع ابتسامة خافتة من أن تتسرّب إلى وجهه، كأنها اعترافٌ داخليّ بلذّةٍ خفية لأنها كانت قلقة عليه... خائفة، مرتبكة، تسأل وتعاتب وتنتظر..
إذًا لقد أتى البُعدُ أُكُلَه، تمامًا كما توقّع؛
لم يكن أمرُ المحكمةِ، ولا زيارةُ لاتويا، هما الدافعَ الحقيقيّ خلف سفره، بل كان يُراهن -في صمت- على أن يمنحَها مساحةً تكتشف فيها ذاتها من دونه، لترى ماذا تريد حقًّا… ومِمَّ تخشى.
تردّد قليلًا، ثم قال بنبرته الواثقة الهادئة، فيما يتقلَّب داخله مزيجٌ مربك من الرضا والشفقة:
ـ نسيم … وحشتيني بقولك!
اشتد نحيبها ، واتخذ منها الأمر لحظات قليلة قبل أن تجيبه بنفس نبرته الملتاعة :
ـ وانت وحشتني يا عاصم .
الآن .. أغمض عينيه برضا ، وتنفس بعمق ، ثم همس إليها بتعب :
ـ طيب ينفع تهدي ؟! اهدي وهنتكلم في كل حاجه بكرة إن شاء الله لما أرجع .
ارتخى صوتها بقليل من الراحة وهي تتأكد :
ـ راجع بكرة ؟
ـ بإذن الله .. ولما أرجع هنتكلم لأن في حاجات كتير عاوز أقولها لك. اتفقنا ؟
أومأت وكأنه يراها، ثم زفرت قبل أن تقول :
ـ أنا كمان عندي كلام كتير عاوزة أقوله ..
كان يظن أنها تشير لخروجها وملاقاتها بفريد، وهذا ما أثلج صدره قليلا ، فتنهد وقال :
ـ تمام.. خلي بالك من نفسك لحد ما أرجع .. محتاجة حاجة أجيبهالك من هنا ؟!
لكنّ ردّها جاء حادًّا بخفة ساخرة، تسلّلت عبر الكلمات رغم نعومة صوتها:
ـ مش لما أعرف الأول "هنا" ده... اللي هو فين بالتحديد؟
ابتسم ابتسامة صغيرة لم تصل لعينيه، ثم ردّ بصوتٍ حاول أن يبقيه ثابتًا:
ـ مدريد.
لم يستمع إلى رد، فقط كل ما وصله كانت تنهيدة مرتابة، تعيث بها الظنون والشكوك والأوهام.
تنهيدة مشحونة بالأسئلة غير المنطوقة، بالاحتمالات التي تتكاثر في الصمت وتكبر في الغياب.
يعرف أن فضولها الآن قد بلغ الذروة، وربما الغضب أيضًا،
لكنّه كان يعلم أيضًا أن قول السبب لن يطفئ ذلك الفضول،
بل سيشعل ما هو أعمق منه.
فالشيء بالشيء يُذكر، وإن ذكر السبب... لا بد أن يكمل ما بدأه،
وأن يعود للحظة البداية، إلى جذور الحكاية .
وهو الآن طاقته صفر، غير مستعدًا لا لفتح صندوقٍ ظلّ مغلقًا عشرة أعوام، لذا تنفس ببطء، ثم قال بصوتٍ أقرب إلى الهروب منه إلى التفسير:
ـ بكرة هنتكلم وهتفهمي كل حاجه أوعدك ، أنا لسة مخلص تمرين حالا وحاسس إن كل حاجه فيا سليمة بس لوحدها .
ضحكت بخفوت، فابتسم وقال بنبرة دافئة، صادقة :
ـ نسيم هو أنا قولتلك إنك وحشتيني ؟!
اتسعت ابتسامتها، وتألقت ملامحها أكثر كما لو أن قلبها عاد للنبض بعد توقف ، وأجابت بصوت مشاكس يشبهه في دفئه :
ـ لأ ..
ـ طيب وحشتيني.. والله وحشتيني جداا ونفسي أغمض عينيا وأفتحها ألاقيكي قدامي .
ما إن أنهى جملته، حتى شعرت بحرارة خفيفة تصعد إلى وجهها، لم تكن خجلًا معتادًا، بل كان نداءً صامتاً إلى دفئه.
ذلك الاحمرار الخفيف الذي سرى في وجنتيها كان علامة اشتياقٍ طاغٍ، في تلك اللحظة أدركت أنها لا تريد كلماتٍ تطمئنها فحسب، بل تريد قربه الملموس، أن تختبئ بين ذراعيه حتى يهدأ خفقان قلبها ويتلاشى خوفها تماما ..
ابتسمت وهي تحاول الفرار من تلك المشاعر التي داهمت قلبها على حين غفلة ، وقالت :
ـ توصل بالسلامه إن شاء الله.
انتهت مكالمتهما، وسرعان ما غرق في هوة نوم سحيقة ابتلعته سريعا.
أما هي .. وبعد أن اطمئن قلبها قليلا ، وخمدت نيران شوقها نسبيًا .. عادت لتذكر ما كانت تنوي قوله ، وكيف كانت تشعر بالغضب يعتريها ويعصف بها ، وكيف أنها كانت تنوي مواجهته بالحقيقة المرة التي اكتشفتها .
لكن... صوته.. صوته وحده قلب كل المعادلات.
كلماته التي اعترف فيها بشوقه، بنبرة لا تعرف الزيف، فتحت لها أبوابًا كانت توشك على إغلاقها للأبد.
ذابت حروف اللوم، تبخّر الوعيد،
وتحوّلت دموعها إلى ابتساماتٍ بلهاء، وقلبها الثائر بدأ يتراقص طربًا، كأنه لم يكن قبل دقائق يصرخ من الجرح.
نظرت أمامها بشرود ، وهمست لنفسها بمرارةٍ لاذعة، تستخفّ بضعفها:
ـ تبًّا لكِ... ولحماقتكِ، نسيم! أين ذهب غضبكِ؟! وحنقكِ منه وعليه؟!
ألهذا الحد أصبحتِ مسكينة؟! تنهارين فقط لأنه قال "وحشتيني"؟! ألهذا الحد بلغ تأثيره عليكِ ؟!
أغمضت عينيها، لا لتنام، بل لتُسكت صوتها الداخلي الذي يعيث فسادًا برأسها.. ذاك الصوت الذي يعرف الحقيقة جيدا ، ثم استلقت في سريرها وأسبلت جفنيها لكي يمر الليل سريعا وتجده أمامها في أقرب وقت .. !
༺═────────────────═༻
لم يحتمل حسن البقاء في تلك السرايا أكثر من ذلك.
وكأن كل زاوية فيها ، كل قطعة أثاث، كل بلاطة، كل ستارة مهترئة في ركنٍ منسيّ، تحمل بصمة أمه .
وكأن روحها ما زالت تذرع المكان، تعمل في صمت، وتبكي في صمت، وترحل كل يوم مائة مرة دون أن يشعر بها أحد.
كان يتخيلها…
تكنس الأرضية في الصباح، وتُزيح الغبار عن الأسطح، وترتب الفراش الذي لا تنام عليه .
تتلقى نظرة مُحتقرة من تلك، ونظرة شرهة من ذاك.
تغضب، تتحرق من الداخل، لكنها لا تُظهر شيئًا.
تحني رأسها باستسلام، وتُخفي انكسارها تحت عباءتها البسيطة، ثم تمضي... تلملم وجعها في صدرها، وتخرج لتبكي وحدها في زاوية مظلمة، لأنها تعلم تمامًا أن الشكوى لا تُسمع، والاعتراض ليس من حق الضعفاء أمثالها .
كان صدره يعصف بالوجع وكأنه ابتلع كرة من النار ، وكلما تذكرها وهي تقول له أنها كانت مغلوبة على أمرها عندما وقعت في فخ عشق والده شعر بتلك الكرة تتمدد داخله أكثر وتحرق جوفه دون رحمة .
نظر إلى جانبه ، حيث يتمدد عمر غارقًا في نوم عميق وكأنه مغشيًا عليه ، ذاك الأخ الحنون.. اللطيف، طيب القلب، الأرعن ..
الذي يذكره في كل مرة أنه ابن الخادمة عن غير قصد..
يحبّه، نعم.. لكنه لا ينسى كيف تستقر كلماته البريئة العفوية كالسكين في قلبه .
شعر بالنار تلتهمه حيًا وقبل أن تطفو تلك النيران على السطح قرر أن يخمدها .
لذا غادر الغرفة ونزل على درجات السلم العتيق وهو ينظر إلى يساره حيث تصطف صور العائلة من الجد السابع وحتى صورة والده ..
سلسال يحمل نفس الملامح تقريبًا .. نفس الهيبة والوقار ، نفس الكبرياء، نفس الجحود الجليّ في الأعين ، وكان هذا أكبر إثبات أن القسوة تُورّث كما يُورّث الاسم .
ـ تحب صورتك يكون اللي عليها الدور بعد صورتي ؟!
نظر حيث مصدر الصوت، ليتفاجأ بوالده، واقفًا كعادته.. يداه معقودتان خلف ظهره وقامته منتصبة بإباء لا ينحني ، مظهره يؤكد أنه رجل لا يتخلى عن عنفوانه مهما اشتعل الرأس شيبًا .
أكمل حسن المسير نحوه، ثم وقف أمامه مباشرةً ، أخذ يحدق في ملامحه، يفكر … كم مرة نهش والدته بعينيه الحادتان ، هل كان يتلصص عليها وهي تنظف ؟! هل سبق وتحرش بها مثلا ؟! أم أنه كان على درجة عالية من الأخلاق التي لم تسمح له إلا بزواجها !
أطال التحديق… ترى روايتها أم روايته هي الأدق ؟! أيهما أحق أن يصدقها ؟!
أفاق من شروده بعد لحظات، وأشاح بوجهه جانبًا بضيق، فاستل علبة سجائره من جيبه وأشعل سيجارة لكي ينفث ضيقه مع دخانها .
رأى والده يبتسم.. فتعجب، ليأتيه الرد على الفور حين قال سالم بنبرة مرنة :
ـ تعرف .. أنا من الجيل اللي كنا بنشرب السجاير في الحمام علشان أبهاتنا ميشوفوناش !
توقف دخان السيجارة في حلقه على الفور ، ونزع السيجارة من فمه ولكن سالم عاجلهُ قائلا :
ـ ولا يهمك .. الزمن دلوقتي غير الزمن !
سار سالم نحو الخارج وهو لا زال على نفس وضعيته ، يديه خلف ظهره ومنكبيه محنيين قليلا للأمام ، وحسن يجاوره بقامته الطويلة ..
ـ مسمعتش جوابك يا حسن ، تحب صورتك تكون بعد صورتي ؟! كل واحد عاش في العزبة دي واداها من وقته وجهده وماله علشان يفضل راية العيلة مرفوعة واسمها مادد جذوره في الأرض هتلاقي صورته بين الصور اللي انت شفتها دي .
كان من البديهي أن يتسائل :
ـ وانت اديتها من وقتك وجهدك ومالك ؟! ازاي وانت مش قاعد هنا اصلا!
كانا قد وصلا إلى الاستراحة الخاصة بسالم، وهي عبارة عن دوران رخامي على شكل مقاعد ، تحيط بطاولة منخفضة من نفس النوع .
ابتسم سالم وهو يشير إلى حسن لكي يجلس، ثم قال :
ـ أنا فعلا مش مقيم هنا إقامة كاملة، لكن بنزل على الأقل مرة كل شهر ، باخد استراحة من كل شيء وأرجع سالم بتاع زمان .. بقابل الفلاحين والعمال وأهل البلد .. بجمع ولاد اعمامي واولادهم هنا .. ونتكلم ولو في جديد بعرفه .. أنا هنا بلاقي نفسي ، دي الأرض اللي اتربيت فيها ولما أموت هتكون وصيتي إني أرجع أندفن فيها ..
كان حارس العزبة والعامل الوحيد فيها قد أسرع بإحضار النارجيلة الخاصة بسالم، ووقف ينظر إلى حسن وهو يقول :
ـ تؤمر بحاجة يا حسن بيه ؟! تحب تشرب شاي ؟! ولا أخلي الجماعة يحضروا لك لقمة تاكلها ؟!
أجابه حسن بابتسامة خافتة :
ـ كتر خيرك يا عم حمدان ، أنا زي الفل كده .
انصرف حمدان، بينما أخذ حسن يحدق في والده وهو يدخن النارجيلة بهدوء وصفاء ذهن لا يتماشى مع كم الصراعات التي تلاحقه ، وتساءل :
ـ اشمعنا أنا اللي سألتني إذا حابب صورتي جنب صور العيله ؟! أو بمعنى أصح .. طالما أنا اللي هيتحط صورتي يبقا معناها اني أنا اللي هخلي بالي من العزبة وأديها وقتي وجهدي ومالي زي ما بتقول .
أومأ سالم مؤكدا وقال :
ـ مظبوط.
ـ و ليه أنا بالذات ؟! ليه مش فريد مثلا ؟! بما انه ابنك الكبير !
ابتسم سالم ابتسامة هادئة، وأخذ نفسًا عميقا من النارجيلة وقال:
ـ لأنك انت اللي شبهي ! انت اللي شبه الأرض دي.. انت اللي مش محتاج تعرّف نفسك عشان يعرفوا انك ابن سالم مرسال.
اختلطت مشاعره، وربما تلك الكلمات هي ما أحاطته بطيف من الثقة، فاقترب خطوة لا إرادية بمقعده تجاه والده، وتأهب لسماع المزيد.
ـ يعني أنا مثلا من أول لحظة قالت عيشة إنك ابني أنا صدقت، من غير ما أستنى نتيجة تحاليل ولا غيره ، وخد بالك.. التحاليل والكلام الفاضي ده كله كان شكليات عشان الورق والإجراءات مش اكتر ، لكن أنا من أول ما بصيت في عينيك وأنا أقسمت انك ابني ومن صلبي .
تسارعت دقات قلبه قليلًا، لم يعرف إن كان بسبب الكلام، أم بسبب تلك النظرة المليئة باليقين التي رآها في عيني والده.
تراجع برأسه للخلف قليلًا، كأنه يحتاج لحيز أوسع كي يستوعب وقع الكلمات.. ثم تساءل بصوت خافت ولكنه حاد :
ـ عايز تزرعني في الأرض علشان أنا اللي شبهك ؟! ولا علشان عارف إن فريد ابن ناهد هانم وعمر ابن نادية هانم مش هيقبلوا أصلا يسيبوا القاهرة وييجوا يعيشوا هنا ؟! إنما أنا سهل تقنعني .. مهي دي مش بلدك بس ، بلد أمي الله يرحمها .. أمي اللي عاشت في البيت ده خدامة .. يعني وكأنك بتقول إني أنسب واحد وأولى واحد بالعيشة هنا .
احتدت نظرة سالم قليلا، ومال للأمام، وضع خرطوم النارجيلة، ثم نظر إلى ابنه بتحفز وقال:
ـ أولا .. فريد وعمر ولاد سالم مرسال ، ثانيا .. فيها إيه لما تسيب القاهرة وتيجي تعيش هنا ؟! إنت مستقل بهنا ليه ؟! بص حواليك وانت تعرف كل حاجه ، العزبة دي باللي فيها لو بقت ملكك هتكون انت الملك ، اللي هياخده فريد ولا عمر مش هييجي تلتين اللي انت هتاخده لو العزبة بقت بتاعتك .
احتدت نظرات حسن بدوره وهتف حانقا بضيق :
ـ ومين اللي قال لك اني عاوز أخد أكتر منهم ، انت قاريني غلط ليه ؟! أنا مش عاوز أكتر من حد ، ومش عاوز فلوس خالص ، أنا عاوز أعيش وسط عيلتي .. عاوز يبقالي اخوات ، يبقالي سند .. أنا يمكن زمان كنت بعمل كل اللي تتخيله أو متتخيلوش علشان يبقا معايا فلوس، لكن لو هختار بين الفلوس والاهل هختار يبقالي اهل .. أنا ما صدقت بقيت مش مقطوع من شجره ، انت بقا عاوز تقطعني من جدري وتزرعني في أرض بور ليه ؟!
سكت سالم لوهلة، كأن كلمات حسن سددت له صفعة غير متوقعة. ارتكن بظهره للخلف ببطء، وأخذ نفسًا ثقيلًا من صدره دون أن يلمس النارجيلة هذه المرة.
بدت ملامحه متصلبة، لكن عينيه افترشت فيهما نظرة مكسورة، لا يعرف إن كانت مفاجأة أم خيبة.. ثم قال أخيرا بصوت متزن :
ـ انت فهمتني غلط ، أنا عمري ما هبعدك عن اخواتك ، بالعكس.. أنا بتمنى تقربوا من بعض أكتر ، وفرحان جدا بعلاقتك بعمر ، وهكون فرحان أكتر لو علاقتك بفريد اتحسنت.. وعلى العموم .. طالما انت مش حابب تفضل هنا بلاها .. هنا مكانك وهناك مكانك.. وانت اختار المكان اللي ترتاح فيه وييجي على هواك . أنا مش هفرض عليك رأيي أبدا .
بدأت تقطيبة حاجبيّ حسن تتفكك رويدًا ، ثم زفر أنفاسًا متمهلة ، وقال :
ـ متقلقش ، أنا عمري ما بسمح لحد يفرض رأيه عليا لأني عارف أنا عاوز إيه كويس ، عن اذنك.
تركه ونهض، دون أن ينتظر ردًا، وسار ويديه بجيبي سترته، متجهًا نحو بوابة الخروج .
أما سالم فظل جالسًا في مكانه، ينظر في أثر ابنه بنظرة مركبة، بها مزيج من الفخر والأسى، يتذكر كيف أنه يشبهه في صغره، هو أيضا لم يكن ليترك أحدًا يشكل مصيره بالنيابة عنه .
وعلى الرغم من أنه كان يفعل الشيء ذاته ، ولكنه وجد فيه مرارة من نوع خاص ، فلقد اعتاد أن يكون صاحب الكلمة العليا ، أن يأمر فيطاع ، أن يحدد ما يراه مناسبًا لهم .. اختار لهم كل شيء منذ الصغر حتى مجال دراستهم . ولو أنه يعرف أنهم يصلحون لتلك المهمة لما تردد في غرسهم حيث يشاء ، ولكنه يعرف أنهم لن يثبتوا، لن يصمدوا، ولن يتحملوا ثِقل الأرض كما تحمله هو…وكما من الممكن أن يتحمله حسن.
حدق في خرطوم النارجيلة وكأنه لم يعد يشتهي طعم الدخان، يكفي الذي خرج من قلبه للتو .. وتركه جانبًا ، ثم أسند ظهره إلى المقعد كمن أعلن استسلامًا مؤقتًا... أو لعله بداية لفهم متأخر.
༺═────────────────═༻
#يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق