القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس عشر 16بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات  


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس عشر 16بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات  





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس عشر 16بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات  



ـ ١٦ ـ


~ غرفة سرية !! ~

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


"بعض الأبواب لا تُفتح إلّا حين تقرر الحقيقة أن تخرج من تابوتها… واليوم، لم يفتح مجرد غرفة… بل أيقظ ميتًا ظلّ يتنفس في الظلام."


بعد أن عاد سالم إلى غرفته عقب استماعه لما اعترف به حسن لأخيه عمر.. وجد نفسه يقف أمام بابٍ خشبي عتيق، لم يُفتح منذ وفاة والده، لأنه يحوي كل ما يخصه، وتلك الغرفة كانت بمثابة كهف خفي لا يعرف به أحد ، وهو أول من اكتشفه بعد وفاته .


أدار المفتاح مرتين داخل القفل الصديء ، ودفع الباب الذي أحدث صريرًا مزعجًا، ثم نزل درجة وأصبح بداخل الغرفة السرية ..


أضاء المصباح الذي أمدّهُ بضوءٍ خافت، وأخذ ينظر حوله إلى الصور المعلقة على الجدران..


تقدم نحو المكتب الخاص بوالده، سحب المقعد، ثم جلس وهو يرمي ثقله وثقل ما يشعر به فوق المقعد، ثم فتح أحد الأدراج وأخرج منه ألبوم صور خاص بالعائلة .


فتح الألبوم، فكانت أول صورة لوالدته، السيدة توفيقة مرسال.

زينة سيدات القرية والقرى المجاورة، كانت تحمل على يدها ابنتها  ' ملكة ' والتي تصغر سالم بعامٍ واحد .


شرد في تلك الصورة، وغاص أكثر في ملامح شقيقته وهو يتذكر ذلك اليوم الذي أصرّ والده على أن يخضعها لجراحة الجهل التي لقيت حتفها على إثرها وهي شابة في ريعان شبابها، وبعدها بعام واحد لحقت بها أمها وتركت خلفها أثرًا لا يمحيه الزمن.


في الصورة التالية.. كانت صورة والده مع زوجته الثانية، زاهية شقيقة زوجته المرحومة، التي تزوجها عبدالعظيم وأقحمها إلى القصر برفقة صغارها الأربعة دون أن يضع اعتبار لأي شيء. 


حينها بدأت القسوة تستفحل في قلبه، وتغزوه من كل جانب، خاصةً عندما كان يراها تمحي كل أثر كان لوالدته يومًا ما وتحل محلها، ليس ذلك فحسب ، بل تملأ قلبه غضبًا وقسوة تجاه أولاده وتشحنه ضدهما ..


شعر بالضيق يعتريه وكأن كل الذكريات السيئة عادت لتتجسد أمامه من جديد، فأخذ يتجاوز كل الصور إلى أن توقف أمام صورة كان يبحث عنها من البداية .


أمسك بالصورة بين يديه وقربها إليه أكثر ليراها بوضوح، فغادرت صدره تنهيدة حارقة وهو يحدّق في ذلك الشاب ذو الملامح البريئة طويلًا...

وجهٌ دائري ببشرة قمحية، ملامح هادئة ومسالمة، تسبح على سطحه بساطةُ الأيام، وعينان واسعتان كأنهما لا تريان ما يراه الناس، بل تريان عالماً أكثر نقاءً، وأقلّ خداعًا.


كان مبروك، كما عهدَه دومًا، يبتسم... تلك الابتسامة التي لا تعرف حسابات البشر، ولا تُشبه سوى قلوب الأطفال ونقائهم.


تسللت ابتسامة خافتة نحو شفتيّ سالم وهو يمرر إبهامه على الصورة وكأنه يتلمس ملامح " مبروك " من جديد ، وقال بصوتٍ مضطرب :

ـ الله يرحمك يا مبروك ، الله يرحمك ياخويا .


تنهد بضيق، وهو يرفع رأسه نحو السقف، وكأنه يبحث عن مخرج من وجع ظل يرافقه سنوات عديدة، يبحث عن مهرب من ذنب حملهُ مُكرهًا، وأغمض عينيه للحظة وراح يتذكر كلمات كان لها وقع الموت على أذنيه :

ـ إنت هتتجوز ناهد ! ناهد بنت عمك عروسة تحل من على حبل المشنقة، عاوزها تروح من ايديك للغريب ؟


ـ بس… أنا مقدرش أتجوزها، انت عارف إن مبروك بيحبها !!


ـ مبروك ؟!!! وهو مبروك العبيط بيعرف يحب ؟! وفرضًا بيحبها، هيتجوزها إزاي وهو لسه بيعملها على روحه لحد دلوقتي ؟! خلاصة القول… أنا اتفقت مع عمك وخلصنا الكلام ، فرحك على ناهد بعد أسبوع .. !


 فتح سالم عينيه الممتلئتين بالوجع، وعاد ينظر نحو صورة أخيه مبروك..


ذلك الذي عاش سجينًا بين أربعة جدران، لا يعرف من العالم سوى ما يظهر له من خلف زجاج نافذته.

نافذةٌ وحيدة كانت عالمه… كانت عينه التي يرى بها الحياة، دون أن يُسمح له بلمسها.


لم يملك أي حق ذات يوم، حتى حقه في أن يكون ابن عبدالعظيم مرسال أمام العالم كله قد فقده، فوالده لم يكن ليعترف به أبدا في أي مجلس من مجالس القرية، وكيف وهو ناقص العقل !


مجرد وجوده كان عبئًا في عيون عبدالعظيم، لم يره يومًا كروحٍ تستحق الحب، أو كابنٍ من صلبه،

بل كعارٍ يُخفى، يُحبس، يُطمر خلف بابٍ لا يُفتح، حتى لا يرى الناس ما يخدش هيبته.


كان يتحدث عن سالم في المجالس، يعدد صفاته ومزاياه، لكن مبروك؟ لم يُذكر اسمه يومًا… لم تُرفع له كف دعاء، ولم تُحكَ له حكاية.


حتى حين أحب مبروك ناهد، حرمهُ والده ذلك الحب ومنحهُ لسالم، لأن الحب في عُرف عبدالعظيم "امتياز"، لا يُمنح لمن خُلقوا ناقصين كما يراهم…


وبالرغم من رفض سالم لتلك الزيجة، لأنه كان يعرف — بل يشعر في كل أعماقه — كم أن أخاه مبروك يحبها…

بطريقته البسيطة، العفوية، الصادقة… الحب الوحيد الذي رآه سالم نقيًا إلى هذا الحد، إلا أن رأيه لم يكن له وزن أمام كلمة عبدالعظيم مرسال.


وتزوج سالم من ناهد… تزوجها وهو مثقل بالذنب، كأن زواجه منها كان نوعًا من التكفير عن ذنب لم يغفره لنفسه قط.


ذنب خذلان أخيه مبروك، وتركه وحيدًا في وجه الظلم، ذنب سكوتٍ كان أثقل من أي كلمة نُطقت يومًا.. وبمجرد ما إن تزوجها حتى صرح لها أنه لن يتمكن من لمسها أبدا.. وحين سألته عن السبب أجابها.


أجابها بكل صراحة ووضوح، أنه تزوجها رغمًا عنها لأن أخاه يحبها، أخبرها أنه مذنب لأنه وافق على زواجه من حبيبة أخيه..


لكن هي...

هي لم ترَ في سالم الرجل المذنب، بل رأته الفارس، الحلم، النبض الذي ظلّ يدقّ في قلبها منذ كانت طفلة تتبعه بعينيها في الطرقات، تنتظر منه نظرة، كلمة، أي شيء يدلّ على أنه يراها.


كانت متيمة به حد الجنون. ولما جاء عمها وطلب يدها، لم تسأله عن موقف سالم،، ولا عن مشاعره، ولا لمَ لم يأتِ ويطلبها بنفسه! فقط وافقت، وركضت إلى أحلامها وهي تفتح لها ذراعيها.


أغدقت سالم بكل حبها، بكل حنانها، بكل جنونها…


جعلته يشعر، لأول مرة، أنه مطلوب، أنه مرغوب، أنه رجل يستطيع أن يملك العالم بأسره .


كانت تعرف كيف تغويه، كيف تفتنه، كيف تذيب صلابته بكلمة، وتهدم جدرانه بلمسة. فصار أسير حبها، متعلّقًا بها تعلقًا يخجل منه حين ينفرد بنفسه.


لكن رغم كل ذلك، ظلّ في قلبه ركن لا تصله ناهد… ولا غيرها، ركنٌ مظلم، ساكن، يسكنه وجعٌ قديم لا يُشفى لا بالحب... ولا بالزواج.. ولا حتى سلطته وسطوته.


 ركنٌ تجمد فيه الزمان، يسكنه أب قاسٍ، جاحد، زرع فيه فكرة أن الرجولة لا تعرف الضعف، أن الحب ترف لا يليق بالرجال، أن الرحمة تُهزم صاحبها.

 

وازداد اتساع ذلك الركن المظلم حالك السواد حين مات مبروك مقهورًا بعد أن تزوج سالم حبيبته…

لم يكن الحزن فقط ما تسلل إليه، بل ذلك النوع من الألم الغامض الذي لا يُقال، ولا يُغفر، ولا يُنسى.


في تلك الليلة، حين وصله خبر موت أخيه، لم يسع قلبه سوى أن يزداد حقدًا على أبيه… ذلك الرجل الذي لم يترك لهم خيارًا، ذلك الذي قرر وحده أن يختار، ويقصي، ويزوّج، ويحرِم، ويمنع !! 


في الصورة التي تليها، كان والده يقف منفردًا، وكأنه يعلن عن نفسه بكل كبرياء ووضوح..


تلك الصورة قادت سالم نحو ذكرى لم تبارح خياله أبدًا، حين مَرِض والده فجأة وقام باستدعاء الطبيب إلى المنزل .


كان عبدالعظيم يئن على فراشه من ألم حاد في صدره، بينما الطبيب يفحصه بوجهٍ متجهم، وبعد أن أنهى الفحص وغادر الغرفة برفقة سالم استدار نحوه وقال:

ـ أنا مش مطمن يا سالم بيه، الأعراض اللي بيشتكي منها الباشا بتقول إنه داخل على جلطة، لازم ننقله المستشفى فورا علشان نعمل له فحوصات لأنه غالبًا هيحتاج يعمل عملية في أقرب وقت .


أومأ سالم موافقًا، ثم دفع للطبيب حسابه وودعه، ومن ثم عاد أدراجه نحو غرفة والده الذي أخذ الألم يفترسه ببطء.


وما إن رآه عبدالعظيم حتى تساءل :

ـ الدكتور قال لك إيه يا سالم ؟


ابتسم سالم ابتسامة باهتة وهو يقترب من السرير، ثم جلس على الكرسي المجاور وقال بنبرة هادئة، متعمدة البرود:

ـ بيقول إنك محتاج ترتاح شوية، بس مفيش حاجة تقلق… مجرد إرهاق مش أكتر.


رمقه عبدالعظيم بنظرة مُرهقة، متشككة، وهمس بصوتٍ متقطع:

ـ هو… هو قال كده فعلاً؟


اقترب سالم أكثر، وعدّل الغطاء على صدره وهو يربت عليه قائلًا:

ـ آه يا حاج… كل اللي محتاجه دلوقتي إنك ترتاح، وبكرة هتبقى زي الفل.


ثم نهض بهدوء وأغلق الإضاءة جزئيًا، ليغرق والده في صمتٍ قاتم، لا يعلم أنه كان أقرب ما يكون للنهاية .


وغادر الغرفة، ليصطدم بخالته التي كانت تنتظر بغرفة أخرى لحين مغادرة الطبيب، فسألته بقلق :

ـ الدكتور قال إيه ؟!


طالعها سالم بغضب لم يخبُ وهجه، وقال :

ـ قال ممنوع الازعاج ، الباشا محتاج يرتاح ومحدش يدخل له، هو هيبقى كويس لو سيبتيه في حاله .


ألقى كلماته بحدة، مما جعلها تنظر إليه متعجبة، ولكنها لم تجرؤ على خرق الأوامر، فسالم قد بدأ يخيفها، منذ تزوج وأنجب وهي تشعر أن شخصيته قد اختلفت تماما ولم يعد هو نفسه سالم المسالم كما عهدته .


وفي الصباح، وبينما هو  يستعد لبدء يوم جديد ، بلغته صرخات زوجة والده معلنةً عن وفاته !


اهتز قلبه للحظة، ولكنه سرعان ما هدأ… أو بالأحرى، أسكته عقله.

لم يركض إلى الغرفة، لم يصرخ، لم يبكِ حتى.

فقط بدّل قميصه، ثم مشى بخطوات باردة نحو مصدر الصراخ.


وجد الجميع يلتفّون حول الجثمان…

أما هو، فوقف ثابتًا في مكانه، ينظر إلى وجه عبد العظيم وكأنه يتأكد بنفسه أن تلك "السلطة" قد فارقت الحياة.


كأنه لا يرى أباه، بل يرى سطوته، جبروته، سطوره التي نقشت أعماقه منذ كان طفلًا.


وقف للحظة، ثم زفر بهدوء وهو يشعر في تلك اللحظة، أنه لم يفقد أباه….. بل تحرر منه.


وقف في غسل أبيه، وحمل نعشه بيده، وشيع جنازته، قام بدفنه، ولكنه لم يستطع أن يدفن معه ذلك الوجع الذي خلّفه أبوه حين قتل ملكة، ومبروك، ووالدتهم، حين تزوج أخرى، وخان أمه مع أخريات..


ذلك الوجع ظل متأصلا فيه ولم يكن يعلم أنه انعكس عليه وتأثر به وانتهى الأمر.


عاد إلى القصر، وبعد انتهاء العزاء مباشرةً قام بطرد خالته وأولادها، ثم اصطحب زوجته وابنه فريد وانتقل إلى القاهرة .


نفض رأسه من تلك الذكريات المقبضة، وأعاد الصور حيث كان، ثم نهض واستدار ليغادر، ولكن في طريقه للخارج رأى مرآة والده.


الإطار الخشبي أصبح باهتًا، وبعض الزخارف تقشّرت عند الزوايا،

والزجاج نفسه لم يعد صافياً.. تشوبه ضبابية خفيفة.


توقف سالم لحظة، ناظرًا لانعكاسه في المرآة.. فلم يرَ نفسه.


لم يجد سوى نسخة مستحدثة من والده.

نفس الحدة، نفس الجبروت، نفس تلك النظرة التي طالما أرعبته في صغره.


رأى في المرآة طفلًا صغيرًا لم يُفهم يومًا، لم يُحتوَ، لم يُطمأن.

طفلًا عاش في كومة من العقد، فكبر وهو يحاول أن يثبت – لا شعوريًا – أنه هذه المرة المتحكم، لا الضحية.


طفلًا تربى على القسوة فتعلم أن الحب ضعف، وأن الرجولة هي أن لا تتنازل، لا ترحم، لا تضعف… حتى لو على حساب كل من حوله!


طفلًا عاش الخوف والإهانة حتى تحوّل – دون أن يدري – إلى نسخة ممن قهره، وبدأ يُمارس نفس القسوة، لكن هذه المرة من موقع القوة.


رأى جرحًا قديمًا لم يندمل، جرحًا صامتًا ظلّ ينزف داخله رغم مرور السنين، وجعل من كل قراراته… مجرد ردود أفعال على ألمه القديم.


طالع المرآة بثبات ظاهري، ثم اقترب نحوها خطوتين، ومد يده ممررًا إياها على انعكاسه في المرآة ، ثم أبعد يده وهو يحاول أن يخفي رجفة بسيطة في يده، واتجه نحو الباب مسرعًا، خرج وسحبه خلفه وما إن غادر فوهة ذلك البركان واستوعب نفسه من جديد حتى أرسل رسالة صوتية إلى هاتف حسن يخبره فيها أنهم سيعودون إلى القاهرة اليوم !


༺═────────────────═༻


كانا حسن وعمر يتجولان، ينظران إلى الأراضي الخضراء من حولهما بانبهار، يستنشقان الهواء المحمل بعبق الزهور، ويمتعان أنظارهما بالبساطة والصفاء من حولهما مما يبعث على السلام النفسي والسكينة .


لم يتنازل أيًا منهما عن صمته، فكما يقولون.. الصمت في حرم الجمال جمال ، وهما لأول مرة يستمتعان بكل هذا الكم من الجمال دفعة واحدة .


إلى أن تحدث حسن أخيرا وقال:

ـ تعرف يا عمر بفكر في إيه ؟


نظر إليه عمر منتبهًا ولكن بصمت، فأجابه حسن قائلا :

ـ أعمل صدقة جارية على روح أمي هنا في البلد .. جامع مثلا أو مستشفى!! 


ابتسم عمر متأثرًا بتلك الفكرة وقال داعمًا :

ـ لو مستشفى هيكون كويس جدا، لأن احنا بقالنا ساعة تقريبا بنلف مقابلناش مستشفيات، مفيش غير مركز صحي واحد ، فلو عملنا مستشفى في مكان زي ده هتفيد أهل البلد وهتوفر عليهم كتير جدا .


هز حسن رأسه مؤيدًا ما قاله حسن، وتابع :

ـ بالظبط ..


ـ طيب يلا وانا معاك.. من بكرة لو حابب نشوف المطلوب ونمشي في الاجراءات.


ابتسم حسن ابتسامة دقيقة ساخرة، وقال وهو ينظر حوله شاردًا:

ـ الموضوع مش بالسهولة دي يا حبيب أخوك .


ـ و إيه اللي مصعبه ؟؟ ما الفلوس موجودة ، مش انت قلت إن الباشا فتح لك حساب في البنك ؟؟ 


ـ مش قصة فلوس يا عمر ، القصة إني لما أعمل كده أكيد أهل البلد كلهم هيعرفوا أنا مين وابن مين.. هيعرفوا إني ابن عيشة، ووقتها مش ضامن إيه اللي هيتقال، ما انت شايف أبونا قال إيه، قال إني كنت مسافر بره، كان خجلان يقول إني ابن الخدامة ، الموضوع صعب يا عمر .. !!


صمت عمر لقليل، ثم نظر إليه بملامح متهللة وقال :

ـ طب إيه رأيك لقيت لك حل ؟؟


ـ حل إيه ؟


ـ إنت تتبرع بالمبلغ اللي انت عاوزُه وتعمل المستشفى بس مش شرط الناس تعرف هي صدقة جارية على روح مين بالتحديد ؛ وأكيد الثواب هيوصلها بردو .


رفع حسن حاجبيه مستنكرا وقال:

ـ بالشكل ده يبقا أنا كمان مكسوف من أمي ومش معترف بيها .


نظر إليه عمر متعجبا وقال:

ـ إنت حيرتني يا حسن، إنت عاوز إيه بالظبط ؟


ابتسم حسن ابتسامة حزينة وهو يطالع الأفق البعيد، ثم قال بصوت خافت:

ـ أنا عايز أقول لكل الدنيا إن أمي تبقا عيشة، عايزهم يعرفوا حقيقتي كاملة، بس في نفس الوقت... مش عايز أعرّض اسمها للكلام اللي يجرحها حتى وهي في قبرها.. الناس هنا لسانها ما بيرحمش يا عمر. 


سكت لحظة، ثم تابع بصوت أهدى:

ـ زائد ان أبوك ممكن يكدب كلامي، وساعتها هتكون كلمتي قصاد كلمته وطبعا مش محتاج أقولك مين اللي هيكسب.


كان عمر يراقبه بشفقة، يتألم لتخبطه، ويحزن لشعوره بالحيرة والتشتت بين الماضي والحاضر ، وتنهد وهو يمد يده ويضعها فوق كتفه وهو يقول:

ـ اعمل اللي قلبك بيقولك عليه يا ابو علي ، سيبك من كلام الباشا، حتى لو هو كدبك .. أنا معاك ، وهقف جنبك، وبعدين مش من مصلحته انه يكدبك لأنه مش عاوز يخسرك .


زفر حسن بحيرة وهو يوميء مرتابًا، ثم قال :

ـ معاك حق، هعمل اللي قلبي بيقوللي عليه، بس الأول أرتب أموري وأحسب لكل خطوة كويس .


ابتسم عمر وربت على ظهره بقوة خافتة وقال :

ـ وأنا معاك يا برو ، أي حاجه تضايق سالم مرسال وتعلي ضغطه أنا معاك فيها .


نظر إليه حسن نظرة جانبية وهو يشير إليه محذرًا، وقال بضحكة لم يسعه اخفائها :

ـ والله انت فلتان ويتخاف منك .


قطعا حديثهما سويًا عندما جذب انتباههما مجموعة من الأطفال يحاولون تسلق شجرة توت لقطف ثمارها ، فوقفا يطالعانهم باهتمام، ولما رأى حسن عدم تمكنهم من قطف ثمار التوت عرض عليهم المساعدة فقال :

ـ إيه يا رجالة ، محتاجين مساعدة ؟؟


نظروا جميعا إليه بصمت، فأجابه عمر وهو يدس يديه بجيبيه وهو ينصب ظهره أكثر بزهو:

ـ أكيد محتاجين مساعدة، مش شايف أطول واحد فيهم أد إيه ؟ 


نظر إليه الأطفال بحدة، ثم بدأوا بالتقدم منه، فنزع يديه من جيبيه وهو يتحدث قائلا :

ـ في إيه، هما بيبصوا لي كده ليه ؟! 


تبادل الأطفال نظرات سريعة، وكأنهم اتفقوا بصمت على خطة لا يُعلن عنها، ثم اقترب أحدهم بخطوات واثقة وقال بصوت خشن لا يلائم حداثة سنه :

ـ بتقول حاجة ؟! 


قهقه حسن وهو يضع يده على كتف الصغير ويقول:

ـ هدي نفسك يا حمادة .. ده زي أخوك الكبير يعني ؟


نظر إليه الولد وفي عينيه لمعة شر غاضبة وقال :

ـ ماسميش حمادة .. اسمي زقزوق وبيقولوا لي يا زوكا ..


رد عليه عمر قائلا :

ـ طيب يا زوكا بيه مالك مقبّل عليا وزي ما تكون ناوي لي على نية كده ؟! إحنا كان غرضنا نساعد مش أكتر ..


التفتا حين لمحا شابة تركض نحوهم، وهي تنادي بصوتٍ عالٍ :

ـ زوكا .. إنت يا يا هباب البرك .


نظر إليه عمر مبتسما بشماتة خفية وهو يشير نحو الفتاة ويقول:

ـ كلّم .


وقفت الفتاة أمامهم وهي تنظر إلى الطفل وأمسكت بذراعه وهي تصرخ في وجهه قائلة :

ـ إنت بتعمل إيه هنا ؟! هو مش أبوك قاللك ممنوع تيجي هنا تاني.. إنت محرمتش من العلقة اللي كلتها المرة اللي فاتت ؟


شدت أذنه بشدة آلمته كثيرًا، فصاح بها حسن وهو يجذب الطفل من بين يديها ويقول:

ـ انتي بتعملي في الواد كده ليه ؟؟ مهو عيل من ضمن العيال اللي بتلعب .


التفتت إليه الفتاة بحدة وقالت:

ـ ممكن متتدخلش انت ؟ 


ـ لأ مش ممكن .. وسيبي الواد .


ـ مش سايباه، ده أخويا أنا.. انت مالك؟


كور قبضتها وهو يشهرها في وجهها كتهديد ويقول: 

ـ سيبي الواد بقوللك بدل ما أرزعك بلحة أخنفك .


انتزع الولد من يدها بقوة، ونظر إليه ليجده يطالع شقيقته بغضب، فقال:

ـ إيه الحوار يا زوكا ؟ هي مش عايزاك تلعب هنا ليه ؟


أجابته الفتاة باندفاع:

ـ عشان حمار وتور ..


نظر إليها زوكا بغضب، فجذب انتباهه حسن مرة أخرى، وقال وهو يطالع الفتاة بحنق:

ـ سيبك منها يا زوكا وقوللي ، ابوك رزعك علقة قبل كده ليه ؟


ضحك عمر ولكن ضحكته بقت في المنتصف، عندما قال الطفل:

ـ عشان أخويا الله يرحمه وقع في الترعة وهو بيحاول يجيب توت من على الشجرة من كام سنة .


نظر إليه حسن وعمر بصدمة، وقال عمر :

ـ ده انت حمار وتور فعلا… يعني أخوك وقع في الترعة من على الشجرة دي، وانت جاي هنا بردو ومفيش فايده ؟ افرض وقعت ؟


ليجيبه الطفل ببسالة غير معهودة فيمن هم في نفس عمره:

ـ وإيه يعني.. العمر واحد والرب واحد ..


ابتسم حسن، وربت على كتفه مرارا، ليس لشيء إلا لأنه رأى فيه نفسه وهو صغير، نفس التحدي، نفس العناد، نفس الاستهتار والرعونة.


فأمسك بكتفيه وهو يقول مبتسما: 

ـ طيب يا زوكا أبوك معاه حق، الشجرة عالية ولو وقعت يا هتقع في الترعة يا هتقع تتكسر .. 


نظر عمر إلى الفتاة مبتسما بتلاعب وهو يقول:

ـ وأختك كمان معاها حق .. قولتيلي اسمِك إيه؟


رفعت حاجبيها وهي تجيبه بضيق ساخر:

ـ ملكش دعوة .


فاتسعت ابتسامته وهو يمعن النظر فيها ويقول:

ـ عاشت الأسامي .


أشاحت الفتاة بعيدا وهي تحاول كبح ضحكاتها، بينما نظر حسن إليها وقال:

ـ وانتي يا آنسة .. لاحظي انه مش عيل صغير، يعني مينفعش تتعاملي معاه كده قدام حد .. 


أومأت وهي تمسح على رأس أخيها بابتسامة حانية وتقول:

ـ أنا آسفة يا زوكا .. متزعلش مني .


كان حسن ينظر نحو الشجرة ويقيم الموقف، ثم سار نحوها وبدأ بتسلقها وأخذ يهز غصونها فتساقطت حبات التوت بوفرة ، فانحنت الفتاة وشقيقها وبدأا بجمعها من على الأرض، بينما انحنى عمر بجوارها وهو يجمع ثمار التوت ويناولها إليها وهو يقول: 

ـ مش هتقوليلي اسمك إيه ؟ طب ده حتى أخويا غامر بحياته عشانكم يعني وبقينا أهل .


رمقته الفتاة بتأفف، ثم تجاهلته ونهضت ، وقفت بالجوار إلى أن نزل حسن، فنظرت إليه مبتسمة وهي تقول:

ـ متشكرين يا أستاذ.. 


ابتسم حسن وهو يوميء، ثم قال:

ـ العفو يا …


ـ بسمة ، اسمي بسمة .


أومأ مبتسما وقال:

ـ العفو يا بسمة .


نظرت إليه مبتسمة ببشاشة، ثم ملأت كفيها من التوت الذي جمعته ووضعته بين كفيه وهي تقول:

ـ اتفضل ، حاجة بسيطة .


ابتسم وهو ينظر إليها بلطف وقال:

ـ هدية مقبولة يا بسمة، يلا خدي زوكا وروحي علشان أبوكي فاته قلقان عليه.


أومأت بموافقة، واصطحبت أخيها وغادرت، بينما ظل عمر ينظر في أثرهما حانقا، ونظر إلى حسن وقال:

ـ ممكن أفهم اشمعنا بقى ؟ اشمعنى انت قالتلك على اسمها وأنا قالتلي ملكش دعوه!!


ضحك حسن وهو يحيط كتف أخيه بذراعه ويتحركا في طريقهما للعودة، وقال مازحًا بغرور مصطنع :

ـ البنات يا عمر بيميلوا للرجالة الحِرشة اللي شبهي ، انما طول ما انت عامل فيها توم كروز كده ولا حد هيعبرك .


ضحكا سويًا، فتابع حسن بلهجة جادة :

ـ تعرف ان زوكا ده فكرني بنفسي وأنا صغير ؟ كنت عنيد عِند التيران شبهه كده وأمي الله يرحمها ياما غلبت معايا .


وضحك للذكرى ثم خفتت ابتسامته تدريجيا ، وهو يتمتم:

ـ الله يرحمك يما ويسامحك .


أخرج هاتفه وتفقده، ليجد رسالة من والده، فتحها وسمعها ونظر إلى عمر قائلا بضيق:

ـ يلا علشان راجعين القاهرة بعد شوية .


على عكسه، زفر عمر براحة وقال :

ـ وأخيرا… 


༺═────────────────═༻


استيقظت نسيم من نومها لتكتشف أنها قد غفت فوق الأريكة بعد وصلة بكاء هيستيري كادت تفقدها صوابها .


نهضت ببطء وتريث وهي تمسك برأسها من شدة ما تشعر به من ألم، ثم سارت نحو غرفة عاصم ووقفت أمامها بتردد، وعندما نظرت بساعة الحائط ووجدتها تشير إلى التاسعة صباحا علمت أنه قد خرج للشركة، أو…. أنه لم يعد منذ البارحة من الأساس ؟!


نفضت عنها التفكير، وحاولت إقناع نفسها أنه ليس من شأنها، فليبقى أينما أراد، ودخلت إلى غرفتها، أخذت حماما، وأبدلت ثيابها تنوي الخروج.


حين أصبحت جاهزة ظلت تنظر إلى هاتفها، هل تهاتفه لتخبره؟ أم تتجاهله ؟؟ وبين أخذٍ ورد قررت ألا تخبره، ليس لشيء سوى لأنها لا تريد الإفصاح عن المكان الذي ستتوجه إليه .


غادرت المنزل، فوجدت السائق الخاص به ينتظر بالسيارة، وما إن رآها حتى ترجل واستدار ليفتح لها الباب فورا ، فرمقته بحنق لم تتكلف عناء إخفاءه، ثم استقلت المقعد الخلفي وقالت:

ـ هتوصلني لمدافن عيلة الدالي .


أومأ الرجل مطيعًا، ثم انطلق بالسيارة على الفور، بينما هي تنظر من النافذة طوال الطريق وهي تراجع نفسها .


رن هاتفها برقم فريد، ولكنها تجاهلت المكالمة، فبالتأكيد ذلك السائق الواشي البغيض سينقل لعاصم كل حرف ستتفوه به ، كما أخبره قبل ذلك أنها التقت بأخيها .


وأرسلت إليه رسالة مفادها أنها ستحدثه لاحقا.


أغمضت عينيها تحاول تهدئة اضطرابها، لكن ضربات قلبها رفضت الانصياع، راحت تعلو وتثور كأنها تدق على أبواب الذكرى بلا هوادة…

كلما تذكّرت تلك القبلة التي انتزعها منها دون استئذان، ازداد ارتباكها، خجلها، وغضبها… بل وارتباك مشاعرها الأكثر.


وضعت كفها على قلبها، علّه يهدأ، لكنها كانت تدرك تمامًا…

أن ما بدأ في تلك اللحظة لم يعد سهل الإيقاف.


توقفت السيارة بعد حوالي ربع ساعة، وترجلت نسيم منها وهي تشعر بثورة من المشاعر تجتاحها كعاصفة لا تُبقي ولا تذر.


سارت نحو المدفن بخطى مترددة، تتقدم خطوة وتتراجع داخلها عشرات، ثم وقفت أمام القبر بصمتٍ يقطعه صوت أنفاسها المتسارعة، ومدّت يدها ووضعتها على شاهد القبر كأنها تلامس وجهه.


تمتمت بصوتٍ خافت وهي تحاول تمالك دموعها، وأغمضت عينيها وبدأت تردد آيات السورة بصوتٍ متهدّج، بينما قلبها يردد ألف سؤال وسؤال...

كيف لشيء أن يختفي ويظلّ أثره بهذا العمق؟

كيف لفقد أن ينهش سنوات عمرها دون أن يضعف؟

وكيف لقلبٍ أن يحمل كل هذا الحبّ... ثم يُطالب أن ينساه؟


بعد أن انتهت، أخذت تنظر إلى اسمه الموضوع على شاهد القبر، وقالت وهي تذرف الدموع:

ـ أنا آسفة يا حازم .. آسفة إني خلفت بوعدي ليك ولنفسي لما قلت إن مستحيل حد يدخل قلبي غيرك ! أنا حبيت عاصم يا حازم !!


قالتها وانخرطت في نوبة بكاء عاتية، أفرغت معها كل ما يعتمل به صدرها، وكل ما لا تجرؤ على قوله والمجاهرة به.


ـ أنا مش عارفة ده حصل إزاي ! وإمتا ؟! بس أنا فجأة لقيتني بحبه، عاصم معاه حق.. أنا بتهرب من حبي ليه ، أنا جبانة .. أنا خايفة أوي يا حازم ! حاسة إني لو سيبت نفسي لمشاعري هتأذيني ، حاسة إن عاصم مخبي عليا حاجات كتير مش فاهماها، حاجات لو عرفتها هتخلق بيننا مسافات طويلة أوي ، وفي نفس الوقت أنا مش قادرة أعمل كنترول.. أنا حابة الاحساس ده معاه !


قالتها وأخفضت عينيها وإحساس بالذنب يراودها، وكأنها تشعر بالخزي من حازم لأنها تعترف أمامه هذا الاعتراف ، ثم تابعت:

ـ انت تستاهل تفضل في القلب العمر كله يا حازم، انت عملت علشاني حاجات كتير حلوة، اديتني وقتك، وحبك، واهتمامك، اديتني كل اللي كان ناقصني وأكتر، أنا آسفة اني حسيت براجل غيرك ، اسفة بجد يا حازم انت متستاهلش مني كده .


غرقت في حزنها مجددا، وظلت تبكي وهي تشعر بغضة في قلبها لم يعد بمقدورها كتمانها، وودت لو أن في استطاعتها الآن أن تصرخ.. لو أنها تستطيع ستطلق صرخة تشق سكون الكون كله وأبعد .. ولكن صوتها كقلبها.. مكبل بأصفاد عاتية .


حاولت أن تلتزم الصمت ما تبقى من زيارتها، وأخرجت ذلك المصحف الصغير من حقيبتها، وبدأت بتلاوة القرآن الذي ساعدها كثيرا في إيجاد الطمأنينة التي كانت تفتقدها.


༺═────────────────═༻


وقفت نغم أمام المرآة، تطالع مظهرها النهائي بعين الرضا، ثم التقطت قنينة العطر الخاصة بفريد التي كان قد أرسلها إليها سابقا ، نثرت منها لمساتٍ خفيفة على عنقها ومعصميها، ثم أغمضت عينيها كأنها تستنشق شيئًا أعمق من العطر… تستنشق رائحته هو .. 


رأت هاتفها يهتز مصدرًا رنينًا باسمه، فالتقطت حقيبتها وخرجت على الفور، لتجده يقف مستندًا بجانب كتفه على الحائط، ممسكًا بوردة حمراء بين أنامله، يشم فيها بطريقة هزلية، ثم مدها إليها وهو يقول بلهجة رجل من الخمسينيات :

ـ نهارك شريف يا هانم .. !


التقطت الوردة وهي تضحك، ثم قربتها إلى أنفها وشمتها بهدوء، وقالت بابتسامة حالمة صادقة:

ـ نهاري حلو علشان بدأ بيك يا حبيبي .


تجرد وجهه من كل الانفعالات، وأطاحت به الصدمة، فأخذ ينظر إليها مصعوقًا وهو يقول: 

ـ نعم؟؟ قلتِ نهاري حلو علشان بدأ بيك يا إيه ؟!


رفعت كتفيها متصنعةً البراءة وهي تقول: 

ـ يا فريد.. هيكون يا إيه يعني ؟؟


بدا عليه الاقتناع قليلا، وقال مبتسما بخفة:

ـ فعلا.. مش عارف أنا يمكن عشان مش نايم كويس وصاحي مصدع تخيلت انك قلتِ حاجة تانية .


اتسعت ابتسامتها وهي تمر من جواره وتنظر إليه بدلال، ورفرفت بأهدابها بمشاكسة وهي تقول:

ـ سلامتك يا حبيبي .


نفض رأسه محاولا نفض ذاك الصداع اللعين الذي جعله يفترض أوهامًا ويصدقها، وسار خلفها متجهًا نحو السيارة وهو يقول:

ـ بس إيه الطعامة دي كلها ؟! 


نظرت إليه بابتسامة عريضة وقالت :

ـ بجد حلو ؟!


ـ بيرفكت يا روحي .


قالها وهو يستقل مقعده، بينما هي كانت تنظر نحوه مبتسمة بفرحة، ثم قالت:

ـ متشكرة جداا ، وانت كمان شكلك حلو أوي .


نظر إليها من زاوية عينيه مبتسما وقال:

ـ واحنا نيجي جنبك إيه بس يا نغم هانم ، ده انتي الجمال اتخلق علشانك يا جميل .


تألقت ابتسامتها أكثر ، ولكنها فجأة شعرت بانقباضة تغزو قلبها ببطء ، فحاولت التنفس ببطء وصرف تفكيرها عنها .


انتبهت لرنين هاتفه، ثم إليه وقد أجاب الاتصال متحدثًا الإنجليزية بطلاقة :

ـ مرحبًا سيد جيرالد، كيف حالك ؟ لا .. سأصل أثينا غدًا في الثامنة مساءًا .. لا تقلق، كل شيء سيتم في موعده .. حسنًا ، مع السلامة .


أنهي الاتصال ، ونظر إليها مبتسما وقال:

ـ ده مستر جيرالد الشريك اليوناني، بيطمن إذا كنت على اتفاقنا ولا لأ .


نظرت إليه بقلق لا تعرف مصدره، وقالت:

ـ هو لازم تسافر يا فريد ؟


نظر إليها متعجبا، وقال :

ـ أيوة يا حبيبتي لازم.. معلش، مش هغيب إن شاء الله ، أربع أيام بالكتير وهرجع .


ابتلعت ريقها وظلت شاردة، فأبطأ سرعة السيارة بهدوء، إلى أن توقف عن السير وهو ينظر إليها قائلا :

ـ مالك؟ بتفكري في إيه ؟


نظرت إليه ، واتشحت عينيها بالحزن وهي تقول:

ـ مش عاوزاك تسافر .


كان يطالعها بتعجب، لا يدري سبب ذلك الخوف البادي في عينيها، ولكنه أومأ وقال :

ـ طيب ممكن أعرف ليه ؟


هزت كتفيها لا تدري ما السبب، وقالت:

ـ من غير سبب ..


وأحاطت جبينها بكلتا يديها ثم جمعت شعرها للوراء بخفة، ونظرت إليه وقالت:

ـ خلاص يا فريد.. اعتبر إني مقولتش حاجة، أنا مش عارفة مالي النهارده متلخبطة وحاسة إني فيا حاجه مش مفهومه.


أخذ ينظر إليها لقليل ، ثم تنهد والتزم الصمت ، وأدار محرك السيارة مجددا، وظل يقود بصمت إلى أن وصل إلى الكافيه الذي تناولا فيه فطورهما من قبل، وصف السيارة، ثم ترجل واستدار ليفتح لها الباب ، بينما هي ترجلت وهي تنظر إلى عينيه بريبٍ ما، جعله يحدق فيها متعجبًا، يحاول إيجاد سبب لذلك الخوف الواضح في عينيها ثم قال: 

ـ انتي كويسة يا نغم ولا فيكي حاجة ومش راضية تقولي؟


ـ أنا كويسة متقلقش ، يلا بينا .


مدت يدها لأول مرة وبادرت بمسك يده، فضم كفها بقوة، ونظر إليها نظرة طويلة، كانت مشحونة بما لم يقله بعد .


دخلا الكافيه ، وسارا نحو الطاولة التي أصبحت خاصة بهما، سحب مقعدها بكياسة ولباقة باتت تعشقها، فجلست ، وجلس بدوره ثم نظر إليها وهو يخرج قنينة كحول من جيب سترته الداخلي ورش على يديه، ثم نظر إليها وقال:

ـ افتحي ايديكي..


نظرت إليه متعجبةً وهي تقول:

ـ أنت رجعت للكحول من تاني ؟!


نظر إليها رافعًا حاجبه ، فابتسمت لأنها فهمت مغزى نظرته، وبسطت كفيها فقام برش الكحول فوق راحتيها وهو يقول ساخرًا :

ـ بدل ما تسأليني ادعيلي ربنا يتوب عليا وأبطل .


ضحكت بخفوت، فضحك بدوره وقال :

ـ ها قوليلي.. هنفطر إيه ؟


تدلى كتفيها بإحباط وملل، وأسندت قبضتها أسفل خدها وهي تقول: 

ـ أي حاجه.


ـ ممممم ، واضح إنك مش في المود النهاردة .. طيب مفيش مانع أختار أنا ..


أومأت فأشار للنادل الذي اقترب مبتسمًا، متجاهلا فريد ونظر نحو نغم وقال :

ـ اؤمري حضرتك ؟


اعتدلت نغم، ونظرت إلى فريد الذي كان يطالع النادل باستغراب مشحون بالغضب، ثم هتف بصوت هادئ ممزوج بالحدة:

ـ خير يا عسل ؟ واخد في وشك كده ورايح فين ؟ كلامك معايا أنا .


نظر إليه الشاب ، وزم شفتيه مبتسما بعملية وقال:

ـ أنا آسف حضرتك.. اتفضل .


كبح فريد غضبه بصعوبة، ونظر إليه بهدوء مصطنع وأملاهُ الأصناف التي يريدها، فنظر الشاب إلى نغم وقال بابتسامة:

ـ حضرتك تحبي تضيفي حاجة ؟


هزت نغم رأسها بهدوء ، فانصرف الشاب ، بينما كان فريد يهمس من بين أسنانه: 

ـ يا الله يا ولي الصابرين .


كانت تلجم ابتسامتها بصعوبة، بينما هو ينظر إليها بضيق لا دخل لها فيه، ثم قال :

ـ إيه رأيك نمشي من هنا ؟ أنا مش هعرف أفطر في المكان ده؟


ـ إزاي يعني؟ والفطار اللي طلبناه؟


ـ مش مشكلة ندفع حسابه ونروح نفطر في مكان تاني .


ـ لأ طبعا.. 


تنهد تنهيدة متعبة وهو يمسح على وجهه بضيق، ثم تنهد وقال:

ـ نغم.. أنا بحبك .


تفاجئت لقوله، وظلت تنظر إليه بتعجب، فأومأ مرات متتالية مؤكدا ما قاله ، ومد يده ممسكًا بيدها وهو يقول برجاء صادق:

ـ قوليلي وأنا كمان بحبك يا فريد .


رمشت فأومأ يكرر طلبه، فقالت بصدق، وبعينين لامعتين :

ـ وأنا كمان بحبك يا فريد .


تنهد مطولا ، ثم قال بقلة حيلة:

ـ محتاج أسمعها كل يوم عشر مرات على الأقل علشان أطمن .


ـ و إيه اللي مخليك قلقان ؟


تساءلت وهي تنظر إلى عينيه المتيمتان بها ، فقال وهو يشدد من قبضته فوق أناملها :

ـ اللي مخليني قلقان إني حبيتك لدرجة الجنون ، حبيتك بكل طاقة الحب اللي جوايا ، أنا كنت كول عمري إنسان حريص جدا ومقفل على نفسي كويس جدا، عمري ما عبرت عن مشاعري لحد، وعمري ما بالغت في وصف شعوري لحد.. بس لما عرفتك انتي كل شيء اختلف، عامل زي الطفل الصغير اللي لسه شاري لعبة جديدة وكل شوية يلعب بيها، نفس الفكرة.. أنا فرحان بيكي وفرحان بحُبك ليا، علشان كده محتاج أسمعك بتقوليلي انك بتحبيني كل شوية، الكلمة دي بتطمني جداا ..


ارتجف قلبها مع كلماته، ولم تستطع أن تمنع تلك الابتسامة المرتجفة من التسلل إلى وجهها..نظرت إليه، وهمست بصوت خفيض لم يصل إلا إليه:

ـ أنا مش عاوزاك تقلق يا فريد ، وأنا عمري ما هبطل اقولك إني بحبك .


اقتحم النادل ذلك الجو المشحون بعاطفة رومانسيه جياشة عندما أحضر الفطور ، ونظر إليهما وقال :

ـ اتفضلوا .. يا رب الفطار يعجبكم ..


نظر فريد إليه لثوانٍ، ثم ألقى نظرة على بطاقة اسمه المثبتة على صدره، وقال بنبرة مرنة تخفي وراءها نفاد صبر مهذّب:

ـ شكرًا يا... شكرًا يا فادي.


انصرف فادي، ثم ما لبث أن التفت نحو نغم، وأخذ يصب لها القهوة بنفسه وهو يقول:

ـ كان ناقصنا فادي ده كمان .. افطري يا آنسة خلينا نمشي .


تناولا فطورهما، ثم غادرا ، استقلا السيارة فانطلق صامتًا، إلى أن توقف أمام متجر للحلويات ، فترجل وابتاع لها كعكة بالشوكولاته ، وعاد إليها وهو يقول :

ـ بما انك مش ناوية تعمليلي الكيكة قلت أجيبها أنا وأعفيكي .


ابتسمت وقالت:

ـ أنا وانت واحد ..


ـ ممم.. للأسف غلبتيني .


تبادلا نظرة طويلة ، خلت من اي كلام ولكنها لم تخل من المشاعر.


فتحت نغم العلبة، ثم قطعت قطعة صغيرة من الكعكة وناولته إياها بنفسها، وقالت:

ـ دوق وقوللي رأيك ؟


تناولها ومضغها بتلذذ، ثم نظر إليها مبتسما وقال :

ـ بجد ومن غير مجاملة .. تسلم ايديكي.


ضحكت وهي تهز رأسها بيأس، ذلك الرجل لا يتوقف عن مجاراتها ومشاركتها أتفه أمورها، كما لو أنها أغلى وأثمن ما يملك .


مدت يدها، وقامت بتشغيل كاسيت السيارة، وقامت بإيصاله بهاتفها فمن ثم صدح صوت الموسيقى، متحلية بصوتٍ راقٍ يملؤه الدلال..


اه يا اسمراني اللون حبيبي الاسمراني

يا عيوني ناسياني عيون حبيبي الاسمراني


آه تحت الرمش عتاب وحنين وعذاب وعيون ما تنام

آه دقت معاك طعم الايام دلوقتي تغيب يا سلام


جوني سالوني جاوبتهم عني دموع عيني


علشانك امشيها بلاد حبيبي يا اسمراني 

من غير ولا ميه ولا زاد يا حبيبي يا اسمراني


༺═────────────────═༻


#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع