القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع عشر 17بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع عشر 17بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع عشر 17بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع عشر 17بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ١٧ ـ


~ حرب باردة!! ~


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كانت چيلان تجلس بجوار والدتها، تمسك بيدها وتقوم بتدليكها، ثم التقطت كفها ورفعته إلى فمها، وقامت بتقبيله ثم قالت:

ـ مامي.. حبيبتي مش ناوية تخرجي بقا من الاوضة دي؟ أنا محتاجاكي معايا وجنبي، احساس إني لوحدي ده بيقتلني !


نظرت إليها نادية وكأن الكلمة أفزعتها، وسرعان ما بادرت بضمها وهي تقول:

ـ بعد الشر عنك يا چيچي… اوعي اسمعك بتقولي كده تاني .


لفت چيلان ذراعيها حول خصر أمها، وأراحت رأسها على صدرها وهي تقول:

ـ أنا تعبانة يا مامي، لأول مرة في حياتي أبقى بفكر بجدية في موضوع السفر، خلاص مش قادرة أفضل هنا ! أرجوكي خلينا نمشي .


تعجبت نادية قولها، فهي التي كانت تعترض دومًا على قرار السفر، ما بها الآن ؟


ربتت نادية على ظهرها وقالت بصوتها الخافت المشوب بالحنو:

ـ چيچي.. فيكي إيه يا ماما .. ؟


بكت چيلان كما لم تبكِ من قبل، هي بالفعل مرات بكاءها أمام غيرها تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة ؛ فمعنى أن تبكي بهذه السهولة وكأن الدموع كانت تتوقف عاى حافة جفنيها أنها تخبيء في قلبها الكثير مما لم تبح به .


ـ أنا تعبانة يا ماما، زهقت من الشغل، حاسة إن عمري بيضيع على الفاضي، بفكر أخد أجازة وأسافر أي مكان عشان أفصل .. إيه رأيك تيجي معايا ؟! 


ـ طيب عمر ؟!


تساءلت نادية باهتمام، فرمقتها چيلان باستهجام واستنكار شديدين، وقالت :

ـ عمر ؟! هو فين عمر أصلا ؟ عمر ماشي ورا اللي اسمه حسن ده من يوم ما عرف انه أخوه، بقاله كام يوم في العزبة وحتى مش بيفكر يكلمني أو يكلم حضرتك على الأقل يطمن عليكي !! فين عمر يا مامي بجد ؟! أنا ناسية إني ليا أخ اسمه عمر أصلا !!


تغضن جبين نادية بضيق، وقد أدركت صدق ما قالته ابنتها، فنهضت چيلان تنوي الانصراف نحو غرفتها ولكنها توقفت بمكانها عندما انفرج الباب ودخل عمر مبتسمًا باتساع، باسطًا ذراعيه عن آخرهما وهو يدنو منهما قائلا :

ـ وحشتوني .. طب والله بجد وحشتوني … !!


تهلل وجه نادية وانفرجت أساريرها بفرحة، بينما چيلان قد تفاجئت عندما حث الخطى نحوها واحتضنها بقوة وهو يقول معبرًا بصدق:

ـ وحشتيني أوي يا چيچي .. حاسس إني كنت غايب بقالي سنة !


عانقته چيلان بحب، وأجابته بنبرة يمتزج فيها الود باللوم:

ـ إنت فعلا غايب بقالك كتير ، حمدالله على السلامه.


انتزع نفسه من عناقها وأقبل على والدته مبتسمًا، وبداخله نزعة ندم لا تفارقه، إضافة إلى شعور قاس بالخزي من نفسه بعد أن أدرك مدى اشتياقه لها .


عانقها بقوة، وأحاط رأسها التي ارتكزت على كتفه بذراعه، كان يشعر أنها في أشد الحاجة إليه، وذلك الشعور أزاد من ندمه ومن قسوة شعوره المخزي .


ـ وحشتيني يا ماما ، أنا آسف متزعليش مني إني غِبت اليومين دول .


ربتت والدته على ظهره ، وخللت شعره الكثيف بأناملها كعادتها عند عناقه، وقالت:

ـ وانت كمان وحشتني يا حبيبي، طمني عليك، انت كويس؟ كنت بتاكل كويس وتنام كويس هناك؟


ابتعد مفرقًا عناقهما، ونظر إليها مبتسمًا وهو يمسك بيديها ويقول:

ـ كل حاجه كانت تمام وزي الفل، بصراحة قضيت يومين حلوين أوي مع حسن .. مفيش حاجه كانت نقصاني غير حضنك ده يا ست الكل.


مسحت نادية على وجهه برفق، فقبل يدها وقال:

ـ طمنيني عليكي ، صحتك كويسة ؟ 


ـ أنا بقيت كويسة لما شفتك يا عموري .


مرر يده على جانب عنقه وهو يقول بأسف :

ـ سامحيني اني انشغلت عنك .


ـ ولا يهمك يا حبيبي، المهم انك كويس.


أشاحت چيلان بوجهها بضيق، وكتفت ذراعيها أمام صدرها وقالت:

ـ أنا رايحة على اوضتي يا مامي.. سي يو عمر .. 


نظر إليها عمر مبتسمًا وردد :

ـ سي يو ..


وما إن غادرت الغرفة، حتى تمدد بجوار والدته، وعانقها مجددا وهو يقول بابتسامة:

ـ تعالي بقا أحكيلك عن مغامراتنا أنا وحسن في كوم الأشراف ، It was a great experience بجد .


أخذ عمر يحكي لها عن كل شيء حكى لها عن جولته رفقة حسن إلى الاسطبل، و أراها صورته مع المدعوة نرجس، وحكى لها عن بسمة وشقيقها وشجرة التوت، وبالطبع لم ينس أن يخبرها عن مجلس رجال القرية الذي أعده والده ودعاهما إليه .


كانت تسمعه برحابة صدر، بالرغم من أنه أقحم اسم حسن تقريبًا في كل جملة كان ينطقها إلا أنها كانت سعيدة برؤيته مبتسمًا بهذا الانفتاح، ولكن كعادة نادية الصواف.. ... لم تكن لتترك الأمور تمر مرور الكرام.


رفعت حاجبًا بتلك الطريقة المميزة التي كانت دومًا تُنذر بتعليقٍ يحمل في طيّاته الكثير، ثم قالت وهي تنظر إليه بنصف ابتسامة:

ـ حبيبي.. أنا مقدرة إنك مبسوط بعلاقتك بحسن، لكن من فضلك خلي بالك منه.


ضحك عمر وهو يهز رأسه متعجبًا، وقال :

ـ أخلي بالي من مين يا ماما، ده هو اللي بيخلي باله مني، حضرتك متتخيليش حسن بيحبني أنا وفريد أد إيه، ونفسه علاقته بينا تكون كويسة ، تخيلي إنه قاللي انه عنده استعداد يضحي بأي شيء علشان خاطرنا !! صدقيني يا حبيبتي حسن ده غلبان وميتخافش منه أبدا .


تنهدت نادية بيأس، فهي تعرف ابنها الأرعن، الذي دومًا ما ينظر للأمور بقلبه قبل عقله، ويمنح الثقة لأي شخص، حتى لو كان لا يستحقها، فقالت بنبرة جادة وقد خفتت ابتسامتها:

ـ يا عمر، الطيبة لوحدها مش كفاية، لازم تعرف إن الطيبة ساعات بتكون قناع، ومش كل اللي تشوفه تصدقه.


نظر إليها باستغراب، فقالت وقد رفعت يدها لتمنع مقاطعته:

ـ مش بقول إنه شرير، ولا إنك تبعد عنه، أنا بس بقولك خليك واعي. حسن ده ابن أبوه، أكتر واحد شبه سالم، وواثقة إنه هيكون اكتر واحد وارث قساوته وجبروته، وأنا شايفة إنك بتندمج معاه بسرعة.. وده مش صح.


قال بحنق خفيف: 

ـ بس حسن غير سالم مرسال تماما.. اوكي معاكي انه شبهه في الشكل أكتر مني ومن فريد ، لكن الطبع مختلف تماما، حسن لا يمكن يكون نسخه تانيه من أبونا متقلقيش.


هزّت رأسها ببطء وقالت:

 ـ ماشي يا حبيبي.. اللي تشوفه، كل الحكايه إني عاوزاك تكون واخد بالك من نفسك ومن مصلحتك، مش عايزاك تتأذي.. لا بطيبة حسن، ولا بخبث غيره.


ظل صامتًا لوهلة، ثم تنهد وقال:

 ـ حاضر يا ماما، متخافيش عليا يا نادية هانم.. أوعدك هخلي بالي من نفسي كويس ، بس لازم انتي كمان توعديني تخلي بالك من نفسك وصحتك، وتخرجي بقا من الاوضة دي يا ماما، أرجوكي !


ابتسمت بمرارة، وأومأت بموافقة، وقالت:

ـ حاضر يا حبيبي.. يلا روح خد شاور وارتاح..


استلقى بجوارها، وهو يقول مبتسما بسماجة:

ـ لأ أنا مرتاح هنا، خليني جنبك يا حلو انت، يمكن سالم باشا وهو بيمر يشوفني ويسمعني كلمتين، أصلك متعرفيش التهزيء وحشني ازاي .


هزت نادية رأسها بيأس، وأخذت تتأمله وهو يتسطح جوارها بعينين يملؤهما الحنان، ثم مدت يدها تمسح على رأسه برفق، بينما هو اغمض عينيه مبتسمًا بطمأنينة باتت تغمره .


༺═────────────────═༻


في المساء ..


على غير العادة، كان سالم هو أول من دخل إلى غرفة المائدة، اتخذ مكانه واستدعى زينب التي أتت إليه مهرولةً فسألها بحدة :

ـ هما فين ؟ هما مش عارفين إن ممنوع التأخير ؟!


أجابته زينب وهي تخفض عينيها قليلا كما المعتاد وهي تقول:

ـ عمر بيه قاعد مع نادية هانم وقال انه هيتعشى معاها ف اوضتها، وحسن خرج من شوية .


لمحت نظرته تحتد أكثر، فأخفضت ناظريها أكثر، إقرارًا منها بخطأها وقالت مصوبةً خطأها :

ـ أقصد حسن بيه .


زفر سالم بضيق شديد، وأسند كفيه على حافة المائدة، وقال بلهجة غاضبة:

ـ ده مبقاش بيت وله قواعده وأصوله، دي بقت لوكاندا ، كل واحد فيها داخل خارج على مزاجه وكأن البيت ده ملوش كبير .


أخفضت رأسها أكثر، وقالت :

ـ العفو يا باشا ..


نظر إليها سالم مطوّلًا، بعينين مشتعلتين بالضيق، قبل أن يدفع الكرسي للخلف ببطء وينهض واقفًا كمن اتخذ قرارًا صارمًا.


اقترب منها بخطوات محسوبة وقال بنبرة باردة لكنها حادة:

ـ اللي حصل ده ميتكررش تاني، الكل يكونوا موجودين ومستنيين، مش أنا اللي اجي وأستناهم !! أي تقصير من أي نوع انتي اللي هتتحاسبي يا زينب .


أومأت زينب برأسها وهي تكتم دمعة خائنة، وحاولت التماسك قدر المستطاع، بينما هو كان قد ترك المائدة وانصرف نحو مكتبه، 


تمدد فوق أريكته الجلدية، وأخذ يفكر لقليل، ثم قام بالاتصال بمحاميه الخاص، وقال :

ـ أيوة يا نادر، بعد ما تخلص شغل في مكتبك فوت عليا، عاوزك في موضوع ضروري .


أنهى الاتصال، بينما طرقت زينب الباب ودخلت وقد أحضرت إليه العشاء، وضعته أمامه على الطاولة الصغيرة، ونظرت إليه بهدوء قائلة:

ـ تؤمر بحاجة تانية ؟ 


بدأ بتناول عشاءه، وهي تقف أمامه بصبر، تنتظر جوابه، ليفاجئها بسؤاله:

ـ مفيش أخبار عن نسيم ؟! 


ـ هي كويسة، بكلمها يوم بعد يوم .


ـ ممم.. عاملة إيه مع جوزها ؟! محملتش ولا حاجه ؟


تغضن جبين زينب بتعجب، ولكنها أجابت:

ـ مش بسألها في الأمور دي، بتطمن عليها بس.


هز رأسه بتمهل، ثم قال :

ـ ونغم ؟!


ـ مالها؟ ( تساءلت بقلق …)


ـ أخبارها إيه هي وفريد ؟! ناويين على إيه ؟!


ابتلعت زينب ريقها وهي تشعر بالريبة من سؤاله، وأجابت:

ـ الحقيقة مش عارفه ، مش بتحكيلي حاجة عنهم .


نظر إليها نظرة جانبية، جمدت الدماء في عروقها، ثم قال وهو يلوك طعامه ببطء:

ـ انتي كبرتي وخيبتي ولا إيه يا زينب ؟! مفكراني هقتنع بكلامك ده ؟!


ـ أنا أسفه يا باشا ، بس دي الحقيقة ، نغم من ساعة ما أنا رجعت البيت وهي راحت البيت الجديد وأنا مش عارفة عنها حاجه ، أكيد لو أعرف هقول لحضرتك .


أومأ بعدم اقتناع، ثم أشار إليها لتنصرف ففعلت، وما إن خرجت وأغلقت الباب حتى تنهدت بضيق، وراحت تتمتم:

ـ استر يا رب، ناوي على إيه المرة دي يا سالم ربنا يكفيهم شرك .


****


ـ وحشتيني يا عيشة .


قالها حسن وهو يُمرّر كفّه برفق فوق الشاهد الحجري الذي يحمل اسم والدته. جلس على الأرض في صمتٍ مُنهك، وراح يتأمل نقش اسمها كما لو كان يتلو سطرًا من دعاءٍ مفقود. امتلأت عيناه بالدموع، قبل أن يهمس بشفاه مرتعشة:


ـ أنا زُرت جدي وستي الله يرحمهم، عارف انك كان نفسك تزوريهم والفرصة مسمحتش، أنا كنت زيك بقول انه شيء مستحيل ، بس طلع مفيش حاجه اسمها مستحيل يما .. 


تنهّد، وراح يحدّثها وكأنها تجلس إلى جواره، كما كانت تفعل دائمًا، ثم قال: ـ 

ـ وحشتيني أوي، كنت شايفك حواليا في كل مكان، سامع صوتك وكأنك جنبي، كنت شامم ريحتك وحاسس اني هلاقيكي جنبي، فاتحه دراعاتك وبتاخديني بالحضن زي زمان ..


تنهد بقلبٍ مثقل، ثم تابع بصوتٍ خافت: 

ـ نغم عيد ميلادها بكرة يما.. فاكرة لما كانت تتخانق معايا عشان باكل من الكيك اللي كنتي بتعمليه علشانها ؟!


صمت، وهاجمته الذكرى فانفجر ضاحكًا رغمًا عنه، وتكدست الدموع في مقلتيه أكثر، وقال :

ـ يا ريت ينفع دلوقتي أجيب لها تورته كبيرة لوحدها .. بس مينفعش، أي محاولة مني للقرب هتتفهم غلط، وأنا مش عاوز أضايقها أو أضايق فريد .. أنا خدت قرار اني هبعد خالص وكده أحسن .


سكت قليلًا ثم تمتم بأسى:

ـ أنا بيصعب عليا نفسي أوي من غيرك انتي وهيا يما ، مكنتش أعرف انكم غاليين عندي أوي كدة، يا ريتني ما زعلتك ولا ضايقتك في يوم، يا ريتني ما قهرتك أبدا ولا كنت السبب في دموعك، أنا طول عمري تاعبك ومطير النوم من عينيكي، طول عمرك شقيانة بسببي يا عيشة.. الله يرحمك ويغفر لك .


ثم أطرق رأسه، وأغمض عينيه، وكأن صمته كان أبلغ من أي كلمات، وظلّ جالسًا في حضرة الغياب، يسترجع كل ما فقده… وكل ما لا يمكن تعويضه .


وبينما هو غارقًا في وجعه، أُثير من حوله نسيم خفيف، جذب انتباهه، وجعله يتلفت حوله، رفع رأسه ببطء، وقد بلّلت دموعه وجنتيه، وشهق شهقة مكبوتة، كأن هذا النسيم حمل له حضنًا من الغيب. فابتسم رغم ألمه، ثم قال بصوتٍ هامس:

ـ حاسة بيا يما مش كده ؟! قاصدة تطبطبي عليا زي ما كنتي بتعملي دايما، عارفة إن مفيش حاجه بتعرف تهديني غير ضمتك..


شعر بها، يقسم أنه يشعر بروحها حوله، ليس مجازًا.. يشعر بها حقيقةً، يشعر بدفء عناقها، ولمسة يدها التي تربت بها على كتفه، يسمع همسها، تخبره ألا يحزن، ألا يبكي، ألا يبالغ في جلد نفسه، وأنه مهما فعل، كانت ستسامحه.. كانت دائمًا تسامحه.


صمت لوهلة، يبتلع مرارة الحديث، ثم قال بصدق موجع:

ـ بحبك أوي.. ومش عارف أحب حد في الدنيا زيك.. مش بتروحي عن بالي أبدا يا عيشة، وحشتيني ووحشني الأكل من ايديكي، وحشني تفضلي سهرانة جنب الشباك للفجر لحد ما أرجع، أنا إزاي مكنتش شايف كل ده وانتي عايشة ؟!


أطرق رأسه أرضًا والدمع على خده شلال لا يتوقف.


ساد صمت ثقيل، فقط الريح تعزف مرثية حزينة بين أشجار المقابر، جعلته يخبيء رأسه بين كفيه ويبكي..


وفجأة.. شعر بها تهتف إليه، تخبره أنه ليس بمفرده، حتى وإن غابت فلقد تركت إليه شطرًا منها ومنه.. نفس الدم، نفس الحزن، نفس الضياع !

تحتاجه كما يحتاجها، تخاف الاقتراب كما يخافه، ومع ذلك..

هو الآن مطالب بخطوة.


نهض وهو ينظر بساعة معصمه فوجدها تشير إلى التاسعة مساءً، مد عينيه عبر الطريق بشرود وتيه، ثم غادر وقد اتخذ قراره.. سيذهب إلى نسيم !!


༺═────────────────═༻


بعد زيارتها لقبر حازم عادت إلى المنزل ، كانت تأمل أن تدخل فتجده في انتظارها، ولكنها لم تجد سوى الصمت والسكون اللذان خلفتهما وراءها حين خرجت.


دلفت غرفتها، أخذت حماما وأبدلت ثيابها، ثم خرجت إلى غرفة المعيشة ، ألقت بجسدها بملل فوق الأريكة، وأمسكت بهاتفها وأخذت تنظر إلى رقمه بتردد..


هي لا تقوى على سماع صوته الآن، ليست مستعدة للانهيار مجددًا.. ولكنها كذلك ترغب بشدة في الاطمئنان عليه .


قامت بإرسال رسالة إليه كتبت فيها " وحشتني " وقبل أن تقوم بارسالها كانت قد مسحت ما كتبته وأبدلته بسؤالٍ مهتم " انت كويس ؟ وأرفقت مع رسالتها رمز تعبيري لقلب أبيض "


جلست تنتظر الرد، لا تعرف مدى صحة ما فعلته للتو، هل كان عليها ألا تفعل، أم أنها محقة، لا تدري .. !


ثوانٍ ووصلها الرد، فأخذت تقرأ وقلبها يرتجف بين أضلاعها " أنا دلوقتي بقيت كويس، وحشتيني " وأرفق مع رسالته رمز تعبيري لقلب أحمر .


هدأ قلبها قليلا .. اطمأنت لأنه لم يغلق الباب، لأنه لم يتجاهلها، لأنه ردّ بذات الشعور الذي حاولت كتمانه.

كلمته الأخيرة "وحشتيني" كانت بمثابة بلسم على قلبٍ كان يخشى الندم، يخشى أن تكون المسافة قد طالت، وأن يكون الفُقد قد تمدد بينهما دون رجعة.


أغمضت نسيم عينيها، وأسندت رأسها إلى الوسادة خلفها، وابتسمت رغم الدموع العالقة في طرف عينيها.. لم تكن لتجيبه وتخبره أنها أيضا اشتاقته حد اللعنة، لم تكن تملك الجرأة لتضع قلبها على راحة كفها مجددًا، ولكنها كانت تأمل.. أن يفعل هو.


أن يفتح نافذة الأمل، أن يمدّ لها يده دون تردّد، أن يُخبرها ـ ولو بكلمة بسيطة ـ أنه سيعود، وأن ما حدث لم يُصب حبّه لها ولو بخدشٍ صغير، لم يؤثر، ولو بمثقال ذرّة، على مشاعره تجاهها..


أن يخبرها بأنه يحبها، بأنه افتقدها.. مجددًا.. نعم، مجددًا.


تريد أن تسمعها، لا مرة، بل كل يوم، كل ساعة، كلما مرّت بها نوبة حنينٍ مفاجئة أو غيمة وجع عابرة، لا تطلب منه وعدًا ولا تذكرة، فقط تلك الكلمة.


"أحبك."


وليس شرطًا أن تجيب، لا الآن ولا بعد حين.. يكفيها أن تحتفظ بحق الرد لنفسها، أن تعرف أن الباب لا يزال مواربًا، وأنه ينتظر، بصبرٍ العاشق، تلك اللحظة التي تفتح فيها قلبها وتفصح عما تشعر به بجسارة .


وها هو يفعل.. فلقد أرسل إليها رسالة جعلت الغرفة لا تسع أجنحتها من الفرحة .

" هعتبر انك قولتيلي اني كمان وحشتك وهقوللك انتي وحشاني أكتر ، حضنك كمان وحشني، ومحتاجك جنبي جدا "


قرأت الرسالة مرة، مرتين، ثلاثًا… ثم أخفت الهاتف بين كفّيها، وابتسمت تلك الابتسامة التي يعرفها جيدًا، تلك التي تُولد فقط عندما تكون على وشك البكاء من شدّة الفرح.


أغمضت نسيم عينيها، وكأنها تحاول احتواء كل ما شعرت به دفعة واحدة، كأنها تود أن تحفظ كلماته في أعماق قلبها، ثم فتحت عينيها ببطء، وضغطت على شاشة الهاتف، كتبت شيئًا، ثم مسحته... كتبت مرة أخرى، وترددت.


أنفاسها باتت متلاحقة، والدمع لا يزال عالقًا على أطراف جفنيها، لكنها لم تكن حزينة، بل كانت تتنفس حبًا، وشوقًا، وارتباكًا ناعمًا يليق بتلك الحالة الفريدة التي تختبرها الآن .


أخيرًا، كتبت:

ـ " أنا كمان محتاجالك جنبي .. جدًا "


قمت بارسال الرسالة قبل أن تمسحها مجددا، وأخذت تنظر إلى ما كتبته وهي تشعر بأن شيئًا منها قد تسلّل مع الكلمات… شيء دافئ، عارٍ من التجمُّل، أقرب ما يكون إلى الحقيقة، وربما لهذا تحديدًا شعرت بالخوف.


لم يجب، ولم تعرف ما السبب..


 مضت الدقائق ثقيلة، تتراكم فوق صدرها كأنها حجارة، وكل واحدة منها تحمل ظنًا جديدًا، وتفسيرًا لا يطمئن.


عصفت بها الظنون…

هل ندم؟ هل لم يقرأ الرسالة؟ أم قرأها ولم تعجبه؟

هل خانها التوقيت؟ أم خانها الرد؟

هل تجاوزت ما كان يجب أن يُقال؟

هل شعَر بثقل اعترافها؟ هل ارتبك؟ هل هرب؟


جلست في مكانها متسمّرة، تمسك بالهاتف كما لو كان أداة تعذيب، وكل ثانية تمر تُشعل قلبها بقلق جديد، ثم همست لنفسها، محاولة كبح ذعرها:

ـ أكيد دلوقتي هيرد .


رن جرس الباب، فتسمرت، هل أتى بتلك السرعة ؟! 


نهضت بتوتر، ترددت في خطوتها الأولى، ثم اقتربت بخفةٍ، وقدماها بالكاد تلامسان الأرض.


عدلت ثيابها وشعرها سريعا أمام المرآة المجاورة للبلب، وقفت خلف الباب، تتنفس باضطراب… ثم وضعت يدها على المقبض، وبهدوء أدارته فانفرج، ولكن آمالها كلها خابت عندما لم تجده .


لم يكن عاصم، كان حسن !!


تجمدت في مكانها للحظة، وقلبها خفق بعنف. لم تكن تتوقع رؤيتها هنا.. أمام باب منزلها !! … في هذا التوقيت !! وفجأة دون إذن مسبق أو تمهيد لزيارتها !


بدا عليه التوتر والارتباك، فنظر إليها بتخبط وأخذ ينظر حوله بندم لأنه أتى !


همّ بالحديث، لكن كلمات كثيرة تجمعت على طرف لسانه ولم تجد طريقها للخروج. فقط نظر إليها نظرة طويلة، وابتسم ابتسامة مهزوزة، ونطق أخيرا :

ـ ازيك .. ؟


تلبّدت الأجواء بلحظة صمت كثيف، حتى الهواء بدا وكأنه يحتبس بينهما. قلب حسن خفق بقوة، ولم يعرف إن كان ما يشعر به شوقًا أم وجعًا، أما نسيم فشعرت أن الأرض تميد تحت قدميها، كأنها طفلة ترى ظلها للمرة الأولى.


ازدردت ريقها بصعوبة، ورفّت بعينيها كمن يحاول أن يفصل بين الحلم واليقظة. أمامها كان يقف شقيقها… الأقرب دمًا، والأبعد مسافةً وقلبًا، هو الوحيد الذي يجمعها به أبٌ وأم، هو توأمها… نصفها الآخر الذي ظل مفقودًا طويلًا.


كان حضوره كرجفة زمن قديم، يفتح أبواب الذاكرة المغلقة. نظرت إليه وكأنها تراه للمرة الأولى، أو لعلها تؤمن به حد الإنكار، تنتظره في سرّها، وتخاف من مجيئه في العلن.


أما هو، فوقف متردّدًا، كمن وجد ضالته بعد رحلة بحث طويلة وشاقة، لا يعرف من أين يبدأ، ولا بأي كلمة يُطفئ كل ما اشتعل في قلبه من ألم .


 كان يتوقع أنها لن تجب، فنظر إلى الأرض، ثم إليها، وكأن عينيه تعتذران قبل لسانه، ثم تنهد وقال:

 ـ ممكن أدخل… ولا الوقت مش مناسب؟


تمهلت، لم تجب، لكنها فتحت الباب قليلاً، ثم انحنت جانبًا لتفسح له الطريق. مر بجوارها، وظل واقفا ينتظر منها أن تقود خطواته نحو غرفةٍ ما.. فأشارت إليه ليتقدم نحو غرفة الاستقبال ، ولحقت به بصمت .


ـ اتفضل اقعد ..


أشارت إلى المقعد فجلس، كان ينظر إليها على استحياء ، ثمة شعور غريب لا يمكنه تفسير ماهيته قد ضرب صدره، ومن ثم أخذ يتأمل ملامحها ثم ابتسم بتوتر وقال :

ـ بيقولوا التوأم بيبقوا شبه بعض .. بس الحقيقة مفيش أي شبه بينا.. انتي أحلى طبعا .


ارتعشت شفتيها في ابتسامة لا تدري لها وصف..  و أومأت قائلة باقتضاب، و بنبرة لا تشي بشيء:

ـ شكرا ..


أومأ بارتباك، وأخذ يبحث عن كلمات ليقولها، ما باله وقد فقد النكق، لماذا جاء إذًا ؟!


ـ هو أنا ضايقتك؟ أتمنى يعني مكونش ضايقتك لأني جيت فجأة .


ـ لأ ابدا.. أهلا بيك في أي وقت .


أومأ باطمئنان قليلا، وقال:

ـ الحقيقة انا كنت كلمت عمر علشان يعني يحاول يقرب المسافات ويخليني أشوفِك ،بس لما قعدت مع نفسي وفكرت لقيت اني المفروض ماستناش مساعدة من حد، ما هو انتي أختي بردو والمفروض وقت ما أحب أشوفك أجي أخبط على بابك وأقولك وحشتيني.. ولا إيه ؟!


نظرت إليه نسيم طويلًا، كأنها تحاول قراءة ملامحه، صدقه.. ثم تنهدت هي الأخرى، وقالت بنبرة دافئة:

 ـ معاك حق .


ابتهجت ملامحه وقد شعر وكأنه قد قطع شوطًا طويلا، وتنهد وكأنه كان يحمل على صدره حجر قد أزاحه أخيرا .


نهضت، وهي تسأله:.

ـ  تحب تشرب إيه ؟!


ـ لأ خليكي مرتاحة، أنا مش عاوز أشرب حاجه، أنا همشي قبل جوزك ما ييجي ويتضايق من وجودي .. مش حابب أعملك مشكلة من أولها .


انفرج الباب فعلا ، وأُغلق ، فنظرت نسيم إلى حسن ثم إلى الباب بتوتر ، وغادرت الغرفة مسرعةً لتجد عاصم أمامها ، باغتها بعناقٍ مفاجئ، أربك خطواتها، فاستسلمت له للحظة، قبل أن تبتعد قليلاً وتنظر إليه بعينين مذعورتين، تخشى اللحظة القادمة .


مال نحوها وأحاط وجنتيها بكفيه، وتمتم مبتسما:

ـ وحشتيني أوي ، حاسس إني بقالي شهر مشوفتكيش .


لاحظ ارتباكها، وعيناها اللتان تنظران نحو غرفة الصالون المضاءة، فنظر إليها تلقائيا وقال :

ـ في حد هنا ؟!


أخذت نفسًا سريعًا، وقبل أن تنطق كان حسن قد خرج من الغرفة معلنًا عن نفسه ..


قطب عاصم جبينه مصدومًا لوهلة ، ولكنه سرعان ما تنفس ببطء عندما أدرك أنه حسن شقيقها .


إدراكه لم يمحُ ضيقه، ولكنه كان ضروريًا، لا.. بل ضروريًا جدًا لكبح تلك الشرارة التي كادت أن تتحول إلى حريقٍ في لحظة.

كان الموقف قاب قوسين من الانفجار، لكنه تماسَك، شدّ على أعصابه، وأدرك أن ردة فعله الآن ستكون حاسمة، إما أن تقرّب نسيم منه أكثر، أو تدفعها بعيدًا للأبد.


اقترب حسن منه، ومد يده مبادرًا بالسلام، وقال:

ـ أنا حسن ، أخو نسيم .


رمقه عاصم بنظرة طويلة، فيها من الفحص بقدر ما فيها من الحذر، ثم مد يده مصافحا إياه، قال بنبرة هادئة ولكنها مشدودة:

 ـ أهلا وسهلا ..


ردّ حسن بثبات، رغم ما في صدره من ارتباك:

ـ لا مؤاخذه إني جيت من غير استئذان ..


هز عاصم رأسه بهدوء، وأجابه برصانة:

ـ ولا يهمك، أهلا بيك في أي وقت .


تبادل الرجلان نظرات طويلة، كأنها حوارٌ من نوعٍ آخر، حوار يُدار بالصمت أكثر من الكلمات.. ثم تحرك عاصم نحو غرفته، وقال:

ـ كملوا كلامكم .. عن اذنكم .


ـ لأ.. أنا كنت ماشي..


قالها حسن، ونظر إلى نسيم مبتسما بتوتر وقال:

ـ أنا حبيت بس أجي أشوف نسيم، وأطلب منها إننا يعني … نفتح صفحة جديدة مع بعض، أنا لا ليا ذنب في اللي فات، ولا هي كمان، وفي الأول وفي الآخر احنا ملناش غير بعض.


نظرت إليه نسيم بصمت، وزفرت بتمهل، ثم أومأت بهدوء وقالت:

ـ شرفت يا حسن ، اتبسطت اني شفتك .


اتسعت ابتسامته بفرحة عارمة، فابتسمت بهدوء حرج، ولكنها صعقت عندما اقترب منها فجأة ومنح جبينها قبلة أخوية حنونة صادقة، وربت على كتفها بحنوٍ فائض ثم قال:

ـ هاخد رقمك من عمر وهرنلك علشان تسجلي رقمي عندك..


أومأت بموافقة، فقال :

ـ لو احتجتي أي حاجه في أي وقت كلميني..


هزت رأسها مجددا ، فمد يده مرة أخيرة ليصافحها، ثم مد يده مصافحا عاصم وقال بثبات:

ـ فرصة سعيدة يا بشمهندس.


هز عاصم رأسه ورافقه إلى الباب، فغادر حسن، ومن ثم أغلق عاصم الباب وعاد إلى نسيم التي تقف هائمة على وجهها، وأخذ ينظر إليها بصمت، ثم مسح بيده على شعرها بحنان وقال :

ـ هو هنا من إمتا ؟


أجابته بنبرة تتشح بالارتباك:

ـ مكملش ربع ساعة .. اتفاجئت بيه !


أومأ وقال بهدوءه المعتاد حين يحلل الأمور، وهو لا يزال ينظر إلى عينيها بتفحص عميق:

ـ وإيه انطباعك عنه ؟! 


رفعت كتفيها بجهل، وزاغت عيناها بتشتت، وقالت:

ـ مش عارفة، حسيته طيب وحنين أوي .


أومأ مؤكدا ما قالته، وتابع :

ـ معاكي حق، أنا كمان حاسس إنه طيب وحابب يقرب منك بصدق.


هزت رأسها ، فقال متسائلا :

ـ وانتي ؟! حابة تقربي منه ؟


نظرت إليه ببراءة، ومطت شفتيها وقالت:

ـ مش عارفة يا عاصم، بس حاسة اننا لو عرفنا بعض أكتر هيكون أحسن لينا احنا الاتنين.. 


مسح على رأسها مجددا بحنان، ونظر إليها بعينين مبتسمتين، ثم سرعان ما زالت ابتسامته وهو يمسح فوق جبينها ويقول:

ـ اوكي قربوا زي ما تحبوا بس بلاش يبوسك تاني.. 


نظرت إليه متفاجئة من قوله ، واتسعت ابتسامتها، ثم قالت بنبرة بها بعض من الدلال :

ـ وفيها إيه لما يبوسني ؟


ظهرت الصدمة جلية على وجهه وقال حانقًا :

ـ إيه البجاحة دي؟ وبتقوليها في وشي كده عادي ؟


اتسعت ابتسامتها أكثر حتى تحولت إلى ضحكة عالية وقالت:

ـ ده أخويا على فكرة !


ـ و إيه يعني ؟! 


ومال نحوها يقبل خدها وهو يقول:

ـ محدش يبوسك غيري .


تجرد وجهها من التعابير، وابتعدت خطوة، فهمس وهو ينظر إليها بتمعن:

ـ تاني ؟! يا ترى المرة دي هتحبسي نفسك فين ؟! للأسف باب اوضتك مكسور ومش هينفع تستخبي جواها .


تهدج صدرها بأنفاسٍ مضطربة، وابتلعت ريقها، فهمس وهو يتفحص ملامحها عن قرب ، وقال بنبرة شغوفة :

ـ إيه رأيك تستخبي في الاوضة عندي ؟! 


رمقته بتحذير، فابتسم مشاغبًا وقال :

ـ مش انتي قلتِ في المسدچ اللي بعتيهالي من شوية انك محتاجالي ؟! وأنا أهو .. أول ما شفت رسالتك جيت جري .. 


تراجعت خطوة للوراء، وأجابته بارتباك مشحون بالخجل، تحاول تغيير مسار الحديث المخجل هذا :

ـ انت كنت فين امبارح ؟! و ليه مرجعتش بالليل ؟ 


أمسك يدها، وقبلها، ثم قال مبتسما:

ـ قضيت الليل كله في الشركة بشتغل، بقالي يومين مطبق ومحتاجك تاخديني في حضنك جايز أهدا وأنام ..


رفعا حاجبيها متعجبةً صراحته الفجة، أو وقاحته بالأحرى ، فاقترب منها خطوة وقال:

ـ انتي هتفضلي متنحة فيا كده كتير ؟ بقوللك بقالي يومين مطبق ومش شايف قدامي .. 


سحب يدها وسارا سويًا نحو غرفته، دخلا فأغلق الباب خلفهوهو ينظر إليها ويقول:

ـ من النهارده هنّام هنا .. انسي موضوع إن كل واحد ينام في اوضة ده.. 


كانت لا تزال تطالعه باستغراب، وتساءلت:

ـ مالك يا عاصم؟ في إيه ؟


أخذ ينظر إليها مبتسما ، وأمسك بكلتا يديها، ثم قبلهما واحدة تلو الأخرى ..


ماذا يخبرها؟ أنه تأكد من عشقها له عندما سمعها بنفسه عند قبر أخيه ؟! بالتأكيد لن يخبرها أن سائقه أبلغه بتواجدها هناك ومن ثم لحق هو بها كالمجنون !


وتنهد، ثم أجابها باختصار:

ـ في إني بحبك !


قالها كأنها الخلاصة، كأنها الحقيقة الوحيدة الثابتة وسط كل ما حولهما من ارتباكٍ وتشويش.


صمتت نسيم، لكنها شعرت بأن تلك الكلمات تسللت إلى قلبها كما يتسلل النسيم وقت الفجر، هادئًا، صادقًا، لا يُقاوَم.


نظرت إليه، بعينين تحملان كل شيء… الدهشة، والخوف، واللهفة، وكأنها للمرة الأولى تسمع هذه الكلمة، وكأنها خُلِقت لتُقال لها من فمه تحديدًا.


ـ مبقاش ينفع ، ولا ليه داعي أخبي أكتر من كده ..


قالها بعينين تُقرّان بما حاول قلبه طويلاً إنكاره، وبنبرة مفعمة بالصدق والاحتياج:

ـ أنا بحبك يا نسيم.


كانت الكلمات كطلقة رحمة في قلبها المرهق، فلم تقاوم، لم تُجِب، لم تهرب، فقط نظرت إليه، ثم سمحت لنفسها أن تضع كل دفاعاتها جانبًا.


عانقها…


فاستسلمت لدفء عناقه، كأنها وجدت أخيرًا ما تفتّش عنه منذ زمن. لا كلمات، لا تبريرات، فقط نبضه المتسارع بجوار نبضها، وصمتهما المشترك وهو يقول كل شيء.


لم تكن تحتاج أكثر من هذا… لحظة صدق واحدة، تحتوي كل ما سبقها من صراعات وتردّدات، وتفتح أمامها بابًا جديدًا… 


لم تجد الجرأة على الاعتراف بالمثل، ولكنّه لم يكن بحاجة إلى كلماتها.

لقد قرأ الجواب في ارتجاف يديها، في نظرة عينيها حين احتوته، في الطريقة التي استسلمت بها لذراعيه كمن عاد إلى وطنه.


ـ عاصم .. أنا..


قاطعها لأنه يعرف حالتها وكيف تشعر بالتخبط الآن، فاكتفى أن يضمّها إليه أكثر، ثم همس قرب أذنها بصوت دافئ مطمئن:

ـ أنا مش عايزك ترهقي نفسك بالتفكير في اجابة، كل اللي أنا طالبُه منك متهربيش من مشاعرك، واجهيها.. اسمحي لها تثبت نفسها ، وأنا معاكي لآخر العمر.. هتلتقيني دايما صابر، وراضي بأي شيء المهم تفضلي جنبي .


سقط قلبها في هوة سحيقة، وضمته أكثر ، بتملك لم يراه منها من قبل، فابتسم وأسند ذقنه على رأسها باطمئنان، وهتف ممازحًا :

ـ حلوة صابر وراضي دي.. ممكن نبقا نسمي عيالنا في المستقبل صابر وراضي .. إيه رأيك ؟


ابتسمت بخجل، وأطرقت برأسها أرضًا، فرفع وجهها إليه، ونظر داخل عينيها وهو يقول :

ـ وممكن لو بنت نسميها نسيم .. واسم الدلع نسانيسو .. 


ارتفع حاجبها بحنق وقالت :

ـ نسانيسو ؟!


انفجر ضاحكًا وأحاط رقبتها بذراعه وقربها إليه، وقال :

ـ قلت ممكن مش اكيد.. إلا لو انتي ليكي اختيار معين طبعا مش هقدر أناقشك .


هزت رأسها برفض عفوي، ثم قالت متأملةً بابتسامة، وهي تفرك أصابعها بهدوء يغلب عليه الخجل:

ـ أنا كان نفسي لما اتجوز وأخلف بنت أسميها أمل، أو نور .. 


وشردت نحو ذكرى بعيدة، فنظر إليها عاصم طويلًا، وقد لمعت عيناه بوميض من السعادة لم يستطع إخفاءه. لم يكن السبب فقط في جمال ما قالته، بل لأنها – دون أن تنتبه – اعترفت ضمنيًا بأنها ترى معه مستقبلًا، تتحدث عن طفلة مستقبلية ستكون نتاج زواجهما الذي لم يتممانه بعد .


راقبها وهي تسرح في حديثها عن "أمل" و"نور"، وقلبه يرقص فرحًا... لم تكن تدري أنها لتوها منحت قلبه طمأنينةً كان يفتقدها، ومنحته يقينًا كانت الشكوك تحاصره بسببه.


اقترب منها بهدوء، وابتسامة ناعمة ترتسم على ملامحه، كأنما يحتفي بلحظة صغيرة لكنها بالنسبة له كنز، ثم قال بنبرة دافئة محملة بالامتنان، مشوبة بالمرح :

ـ يبقا كده عندنا تارجت لازم نحققه، أمل، ونور… ونسانيسو !


نظرت إليه، ثم رمشت بعفوية، وضحكت، فضحك أكثر وأضاف:

ـ ربنا يقدرني إن شاء الله.


ضربت الحمرة وجهها، وأخفضت نظرها وهي تضحك بيأس من فجاجته حديثة العهد..


جاءت لتهرب، ولكنه أحاط خصرها لكي يمنعها من الهرب، وقال:

ـ على فين ؟


نظرت إليه بصمت، لم تجد ما تقوله، فقال :

ـ خليكي جنبي النهارده.. ممكن ؟


ارتجفت أوصالها، وأومأت بموافقة .. 


دخل حمام الغرفة سريعا، أخذ حماما وارتدى منامته ثم خرج، ليجدها واقفة في منتصف الغرفة تماما كما تركها .


رمقها باسمًا، ثم التقط يدها وسار نحو الفراش، دخلت وتمددت وهي تتحاشى النظر إليه، فاستلقى بجوارها، ونظر إليها نظرة يملؤها الضياع، والاستسلام ، وقال برجاء صادق:

ـ احضنيني .


كانت الكلمة أبسط من أن تُرفض، وأعمق من أن تُنطق .


ترددت لثوانٍ، ثم استدارت ببطء نحوه، وبدون كلمة واحدة، مدت ذراعيها نحوه، كمن يلبي نداءً داخليًا قديمًا، نداءً لا يملك له مقاومة.


اقترب منها كالغريق الذي وجد أخيرًا شاطئ الأمان، واحتواها بين ذراعيه بحنينٍ بدائيّ، وكأن بين أضلعه نيرانًا لا يهدئها إلا دفء صدرها.


لم يكن عناق جسدين، بل عناق روحين كان الفقد يوشك أن يفرّق بينهما إلى الأبد.

واستقرت أنفاسهما المتلاحقة في صمت الليل، تشهد على اتفاق غير منطوق.. أنهما، مهما اختلفا، لا يجيدان البُعد.


༺═────────────────═༻


في الصباح ..


لم تكن زينب لتكرر نفس الخطأ مرة أخرى، لذا نهضت باكرًا جدًا، أبكر من المعتاد .. وأيقظت الجميع وأبلغتهم بضرورة تواجدهم على مائدة الإفطار اليوم وإلا فهي غير مسؤولة .


 استعد حسن واختار مظهره بعناية بات يفقهها تلقائيا، ومن ثم غادر الغرفة متجهًا نحو غرفة المائدة فوجد عمر يجلس منتظرًا بمكانه، يعبث بهاتفه في ملل.


ـ صباح الخير.


قالها حسن وهو يتجه نحو مقعده، فطالعه عمر مبتسمًا وقال:

ـ صباح الفل.. واضح على وشك انك جاي تثبت حضور مش أكتر زيي.


هز حسن رأسه بيأس وقال:

ـ مش عارف أنا لزمتها إيه تحكيمة الرأي دي ! الواحد بيقوم من النوم محتاج يفوق وبعدين نشوف حوار الفطار ده، مش من عالسرير للسفرة كده .. 


ضحك عمر بخفة وقال ساخرًا :

ـ دي قوانين مينفعش نتجاهلها وإلا نبقى بنعرض روحنا للمسائلة.. 


قاطعهما دخول چيلان التي ألقت التحية برسمية، ولكنها لم تعرف أنها بإطلالتها تلك كانت قد أسرت انتباه حسن وجعلته ينظر إليها بطرف عينه متأملا دون أن يشعر .


كانت ترتدي بلوزة بيضاء ناعمة، وشعرها مربوط على عجل، وكأنها لم تبذل جهدًا يُذكر في مظهرها، ومع ذلك بدت له أكثر جاذبية من أي وقت مضى.

هناك شيء ما في حضورها الصامت، في تلك الطريقة التي سحبت بها الكرسي وجلست، في عبوسها الخفيف الذي يحمل بين طياته قوة مضمرة.. شيء جعله يطيل النظر.


ساد لحظات من الصمت المشحون بالتوتر الخفيف، قبل أن يقطعها دخول سالم ملقيًا تحية الصباح، وبينما أربعتهم يستعدون لتناول الفطور انتبهوا جميعهم لدخول نادية إلى الغرفة .


نهض عمر متفاجئًا، وتقدم من أمه وهو يمسك بيدها و يسير بها نحو المائدة وهو يقول مبتهجًا:

ـ ده إيه الصباح الحلو ده، أحلى حاجه عملتيها إنك رجعتي تقعدي معانا على الفطار من تاني..


وهمس إليها :

ـ على الأقل ألاقي حاجه تفتح نفسي على الأكل .


ابتسمت نادية وربتت على يد ابنها، ثم توقفت في منتصف الغرفة وقالت:

ـ صباح الخير.


ردّوا جميعًا التحية، لكنّ سالم ظلّ صامتًا للحظة، يراقبها بنظرة مختلطة بين الدهشة والحذر، ثم قال أخيرًا بنبرة جافة:

ـ أهلا يا نادية، حمدالله على السلامه.


حانت التفاتة من نادية نحو حسن الذي نهض من فوره ومد يده نحوها مرحبًا بها بما أنه يراها للمرة الأولى وقال :

ـ حمدالله على السلامة يا نادية هانم .


أومأت نادية بابتسامة مصطنعة، ومدت أطراف أناملها تصافحه بصمت، مما أثار ضيقه وضيق عمر أيضا لأنه رأى شحوب وجه حسن.. كذلك سالم الذي لا تفتهُ فائتة إلا ولاحظها، وأدرك منها الكثير .


لكنّه لم يُعلّق، بل اكتفى برفع فنجانه بهدوء، مُخفيًا عينيه خلف ظلال تفكيره، وهو يبحث ويكثف جهوده لرد الصاع صاعين في نفس اللحظة، فقال مشيرًا للمقعد الذي يجاور مقعد چيلان :

ـ اتفضلي يا نادية ، الكراسي كتيرة أهي اختاري لك كرسي ، لأن من هنا ورايح حسن هيقعد جنبي .. 


ونظر إليها من جديد مبتسما نفس ابتسامتها المزيفة وقال:

ـ بس ما عدا الكرسي الخاص بفريد طبعا .. 


أومأت نادية بهدوء، وهي لا زالت تحتفظ بابتسامتها وقالت:

ـ مفيش مشكلة إطلاقا، كل دي شكليات مش مهمة أبدا بالنسبه لي، أهم حاجة إني رجعت أكون جنب ولادي من تاني.


نظرت چيلان إلى أمها وأومأت بابتسامة ممتنة، فربتت نادية على كتفها، وهي تتجه نحو المقعد المجاور لها وجلست عليه.


دارت بينهم بعضًا من النظرات المشحونة بالتحدي المستتر، بينما أشاح حسن برأسه وأخذ ينظر في طبقه، يتناول طعامه بهدوء وبصمت، في حين أن الأم وابنتها تتبادلان النظرات الواثقة.


*** قبل قليل …


بعد أن غادرت چيلان غرفتها، مرت بغرفة والدتها لتجدها جالسةً فوق فراشها بهدوء، تمسك بصورة چوليا وتمرر يدها عليها كعادة مكتسبة أصبحت تفعلها كل صباح، فجلست چيلان بجوارها وربتت على ظهرها وقالت:

ـ صباح الخير يا مامي..


ـ صباح الخير يا حبيبتي.


ـ إيه رأيك تنزلي تفطري معانا النهارده ؟ 


أعادت نادية الصورة حيث كانت، وهي تزفر ببطء وتقول:

ـ لا.. مش حابة يا چيلان انزلي انتي حبيبتي..


ـ بليز يا ماما.. لو مش علشاني يبقى علشان عمر .


نظرت إليها والدتها باستفهام وقالت:

ـ ماله عمر ؟! 


ـ عمر مش لازم يحس انه لوحده، لأن لو الاحساس ده اتمكن منه هيكون سهل أوي إن حسن يسحبه نحيته ويسيطر عليه، لازم عمر يحس إننا كلنا حواليه، وحسن كمان يبقا فاهم ومتأكد ان عمر مش لوحده، لأ ده وراه أم قوية جداا و واعية جدا جدا لابنها وللناس المحيطة بيه .. لازم تكوني جنبنا يا مامي احنا محتاجين لك دايما .


شردت نادية لبعض الوقت، ثم أومأت بموافقة وقالت:

ـ معاكي حق، لازم حسن يفهم ان عمر مش لوحده فعلا .


أومأت چيلان بتأكيد، ثم مالت لتطبع قبلة حانية على وجنة أمها ثم قالت:

ـ بالظبط .. يلا يا مامي قومي كده خدي شاور والبسي حاجه ملونة بدل الغوامق دي وارجعي نادية هانم الصواف .. We missed her


ابتسمت نادية بخفوت، وربتت على كف چيلان ثم أومأت موافقةً.. عليها أن تعود، وبقوة، عليها أن تثبت للجميع أنها ليست على هامش حياة أبناءها، لا، بل هي الأساس، هي الركيزة التي يستندون إليها في حال هدمت من حولهم جميع الأسوار .


وبالفعل نهضت وأزالت عنها غبار الحزن ولو بصورة مؤقتة ، وسمحت لنفسها أن تسترجع شيئا من نادية القديمة .


نظرت إلى خزانة ملابسها، واختارت بعناية قطعة ملونة، كأنها تعلن من خلالها عودتها… ليس فقط إلى مائدة الفطور، بل إلى مشهد الحياة ذاته، وكأنها تقول للجميع وأولهم سالم.. 

ـ" أنا لم أُقصَ يومًا.. بل انسحبت بإرادتي، وحان الوقت لأتخذ مكاني من جديد، حتى وإن كنت قد تأخرت كثيرًا، لكن لا بأس، فبعض التأخيرات تأتي لتُعيد ترتيب كل شيء في مكانه الصحيح."


*** عودة للوقت الحالي.. 


ساد صمت لم يقطعه سواها، حين تنحنحت وقالت بنبرة سيدة أعمال واثقة، تحمل مزيجًا من الحزم والرقي، موجهةً حديثها نحو حسن:

ـ ناوي على إيه بقا يا حسن بعد ما بقيت من العيلة ؟ هتكمل اللي بدأه والدك ولا عندك طموح تؤسس كيان خاص بيك ؟


توقفت لحظة، ثم أكملت، وقد ازدادت نبرتها سُمّيّة، كأنها تقطّر التحقير في كلماتها وهي تطالع طبقها دون أن ترفع بصرها إليه، في مشهد محسوب لا يخلو من الاستعلاء:

ـ أظن مش هتقدر تدخل مجال البيزنس لأن المجال ده محتاج حد فاهم ودارس وعارف كويس أوي هيعمل إيه !


نظرت چيلان إلى حسن بتسلية، تنتظر إجابته بفضول قاتل، توقن أنها ستستمتع بما سيقوله جدا، بينما كان سالم ينظر إلى ابنه، يستشف ردة فعله، فوجده متريثًا، متزنًا ورصينًا لدرجة تدعو للاطمئنان.


رفع حسن رأسه من طبقه ببطء، واعتدل في جلسته، ثم وجّه لنادية نظرة مباشرة، فيها قدر محسوب من الاحترام والوعي، وقال بنبرة هادئة لكنها حاسمة:

ـ الحقيقة يا نادية هانم أنا لو مدخلتش مجال البيزنس فده مش عشان أنا مش دارس، في كتير دارسين ومعاهم شهادات لكن مش ناجحين، تفتكري ليه!


نظرت إليه نادية باهتمام حذر، وكذلك چيلان التي لم تُخفِ نظرة فضول مشوبة بالترقب، وعمر أيضًا بدا منتبهًا، أما سالم، فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، تحمل مزيجًا من الفخر والإعجاب بقدرة ابنه على إدارة الموقف ببراعة.


وحين ألقت نادية بسؤالها القصير والواضح:

ـ ليه؟


لم يُجب حسن، بل اكتفى بنظرة عابثة نحوها، ثم التفت ناحية چيلان وقال بنبرة خفيفة، مصحوبة بابتسامة متسلية لم تخلُ من التحدي:

ـ والنبي يا عروسة، ناوليني طبق البيض اللي قدامك ده.


كانت عبارته بريئة في ظاهرها، لكنها محمّلة بنبرة مستفزة، هازئة، جعلت چيلان تتسمر لوهلة قبل أن تمد يدها نحوه بالطبق، وهي تكاد تغلي من الداخل، تحاول أن تبقي ملامحها جامدة، لكن لمحة من الضيق ارتسمت على وجهها، لم تَغِب عن عينَي حسن، ولا سالم الذي كبح ضحكته متظاهرًا بانشغاله بطبقه .


ـ قولتيلي ليه .

قالها حسن وهو ينظر أخيرًا نحو نادية التي كانت تنتظر إجابته بصبر مصطنع، وبداخلها توقن جيدًا أن هذا الدخيل ـ من وجهة نظرها ـ ليس سوى متلاعب خبيث، عقرب يقطر سمًا فعلا .


تابع حسن وهو ينظر إليها بتركيز :

ـ لأن النجاح مش شرط يكون بالشهادات ولا بالسنين اللي الواحد قضاها في التعليم وسط الكتب والكشاكيل .. النجاح ممكن ييجي بالفهلوة، بالشطارة اللي بتخليك تشوف الفرصة قبل ما الناس حتى تلمحها.. أنا مش محتاج أكون درست في جامعة علشان أعرف أبقا ناجح، أنا اتعلمت من الحياة، من الشارع، من السوق اللي بيعلّم أكتر من ألف درس و محاضرة. وصدقيني يا نادية هانم.. اللي فاهم اللعبة صح، بيكسبها حتى لو بدأ متأخر.


ساد صمت ثقيل للحظات، كأن كلمات حسن سقطت كالحجر في ماء راكد، فحرّكت ما كان ساكنًا.


حدّقت فيه چيلان بتركيز، وطرف فمها ارتسمت عليه ابتسامة خافتة، نصفها إعجاب ونصفها تحدٍ. لم تكن تتوقع منه هذا الرد، على الأقل ليس بتلك الثقة وذلك الاتزان !


أما نادية، فقد بدت متصلّبة الملامح، وعيناها متسعتان بدهشة مكتومة. حاولت أن تُخفي انفعالها تحت قناع من البرود، لكن نظرة عينيها لم تكن تخفي وقع المفاجأة. أخذت نفسًا عميقًا وقالت بنبرة هادئة، يخالطها حذر: 

ـ عجباني ثقتك في نفسك ، يا ريت تكون في محلها .


أما سالم، فقد استند إلى مسند الكرسي، وتفرّس في ملامح ابنه بهدوء. لم يتفوه بكلمة، لكن تلك الابتسامة الطفيفة التي تسللت إلى زاوية فمه، وتلك الومضة في عينيه، كانت تقول كل شيء.


أما عمر، الذي كان يتابع الموقف بعينين متّقدتين، رمق حسن بنظرة طويلة لم تخلُ من الإعجاب. ابتسم ابتسامة واسعة، ثم مال برأسه قليلاً وقال بنبرة مدهوشة صادقة:

ـ برنس .. والله برنس ولو قلت يا بيزنس هتقعد ناس كتير في البيت.


ابتسم حسن وتابع تناول طعامه، وفي داخله قد أدرك أن نادية قد أعلنت بداية حرب باردة ضده. حرب لا تُخاض بالصوت العالي، بل بالابتسامات المتقنة، والتعليقات المغلفة باللباقة، والنظرات التي تقول كل شيء دون أن تنطق بكلمة.


انتهى الكل من فطوره، وانسحب سالم أولا، مستدعيًا حسن نحو مكتبه، فلحق به حسن وأغلق الباب خلفهما.


بينما انصرفت چيلان وسارت نحو سيارتها، استقلتها وحانت منها نظرة تصرخ بالحنق نحو حسن الذي كان واقفًا النافذة الزجاجية بمكتب والده المطل على الحديقة ، زمّت شفتيها وهمست ساخرة بغيظ مكبوت: 

ـ قال عروسة قال… بني آدم سوقي ومستفز !


وضغطت بقدمها على دواسة البنزين بكل ما أوتيت من انفعال، فصدر عن الإطارات صوت احتكاك حاد صاخب، جعله في مكانه يدرك مدى انزعاجها .


كان يراقبها مبتسما بتسلية، وما إن غادرت حتى التفت نحو والده وقد خفتت ابتسامته تدريجيا عندما قال :

ـ تعالى يا حسن اقعد .


سار نحوه حسن بخطوات ثابتة ، ثم جلس على المقعد المقابل لوالده، ونظر إليه باهتمام وقال:

ـ عاوزك تروح التوكيل اللي بنتعامل معاه ، تختارلك عربية على ذوقك .. وبعدين نادر هيخلص الورق والذي منه .


أومأ حسن موافقا ، فتابع والده :

ـ و عايزك كمان تشوف هتبدأ تتخصص في إيه ، شوفلك مشروع تنفذه واعمل حسابك عمر يكون معاك .. لو عرفتوا تختاروا حاجة مشتركة تعملوها سوا يبقا عال أوي ، هو غاويك وهيستجيب لكلامك عن أي حد ، عاوزينه يكبر بقا ويشيل مسئولية وينشف شوية بدل ما هو خايب كده .


ضحك حسن بخفة، وتابع بجدية:

ـ عمر مش خايب على فكرة ، عمر أكتر واحد ييجي منه بس لو حس انه مهم وان في حد بيثق فيه وبيعتمد عليه ، لكن علشان طول عمرك كنت مصمم تتعامل معاه على انه صغير ومش قد المسؤولية بقا شايف ان كله محصل بعضه .


ابتسم سالم بسخرية خفيفة وهزّ رأسه كمن يعترف ضمنيًا بصحة الكلام، ثم قال بنبرة تحمل مزيجًا من العتاب والاهتمام:

ـ جايز كلامك صح، على العموم خلينا نجرب ونشوف .. صدقني لو بقيتوا أحسن ناس في الدنيا أنا هكون مبسوط ومرتاح .. هو الأب عاوز إيه غير إنه يشوف ولاده فوق في السما ويرفعوا راسه .


ابتسم حسن ابتسامة عميقة وقد راقهُ كثيرا كلام والده، وقال بثقة:

ـ متقلقش ، إن شاء الله هنشرفك .


كان سينهض ليغادر، ولكن سالم قاطعه قائلا :

ـ استنى لسه مخلصتش كلامي.. 


نظر إليه حسن باهتمام، فتابع سالم :

ـ إيه رأيك في بسمة بنت حامد غزلان ؟


قطب حسن جبينه متعجبا وقال :

ـ مين دي؟


ـ البنت اللي قابلتوها عند شجرة التوت امبارح في البلد ؟


نظر حسن إلى والده متفاجئًا، وترجم سالم تلك النظرة على الفور فقال :

ـ متستغربش، دبة النملة أنا على علم بيها .. ها، إيه رأيك فيها ؟


مط شفتيه بتعجب لحظي، ثم قال متهكمًا :

ـ وانت بتسأل عن رأيي فيها ليه ؟! ناوي تتجوزها ولا إيه ؟


قهقه سالم ضاحكًا، فهز حسن رأسه وهو يضحك بدوره ثم قال:

ـ هي حلوة .. بس صغيرة عليك ولا مؤاخذه.


ـ بلاش لف ودوران يا حسن ، أنا عاوزك انت تتجوزها .


ـ وأنا مش شاغل بالي بالمواضيع دي دلوقتي.. لسه قدامي حاجات أهم .. 


ونهض وهو ينظر إلى والده قائلا بابتسامة لا تخلو من الدهاء:

ـ متقلقش يا سالم باشا ، كلنا هنتجوز وهنخلف وهنجيب عيال يشيلوا اسمك .. بس لما ربنا يريد .


وغادر الغرفة تاركًا وراءه سالم ينظر في أثره بنظرة طويلة، وكأنه يرى في هذا الابن مزيجًا من الحلم والقلق، من الحسم والحرية.. وكأن صراع الماضي يُعاد أمامه، ولكن بوجهٍ جديد.


تنهّد ببطء، واستند بظهره إلى مقعده، ثم أغمض عينيه لبرهة، كمن يُحاكم ذاته أمام شريط من الذكريات، لا يخلو من مرارة وندم.


مرّت في ذهنه صورة عبدالعظيم والده، صلبًا كالجدار، قاسيًا لا يلين، وكيف تمرد هو عليه ذات يوم، ثم ها هو اليوم يرى ملامح ذلك التمرّد تتكرّر، لكن في الاتجاه المعاكس.


فتح عينيه مجددًا، وحدّق في نقطة غامضة أمامه، ثم تمتم بصوت خفيض أقرب للهمس: 

ـ عشت وشفت واحد من ولادك بيتفوق عليك يا سالم .


لكن ملامحه ما لبثت أن استعادت برودها، وانطفأت نظرة التأمل من عينيه، ثم نهض، واتجه نحو غرفته ليستعد للخروج .


هناك مهمة صعبة لا بد أن يقوم بها … !!


༺═────────────────═༻


استيقظت نغم من نومها... للمرة الثالثة تقريبًا هذا الصباح.


كانت تغفو وتفيق كمن يُصارع شعورًا ثقيلًا لا يريد أن يواجهه. فكلما نهضت، شعرت بذلك الانقباض يشتد على صدرها، فتعود إلى النوم من جديد .


فالنوم... كان ولازال وسيلتها الوحيدة للهروب، ملاذها حين يضيق القلب وتضطرب الروح. لم تكن تملك الشجاعة لمواجهة ذلك الإحساس الغامض، فتغلق عينيها مرة أخرى، علّها تتخلص منه .


مدّت يدها بتكاسل نحو هاتفها الموضوع إلى جوارها، وضغطت زر الشاشة، فظهر التاريخ بارزًا في أعلى الصفحة…


توقفت أنفاسها للحظة وهي تحدق في الرقم وكأنها تراه لأول مرة، ثم اتسعت عيناها بدهشة صامتة، تبعها شعور مباغت كالسهم اخترق قلبها .


إنه يوم ميلادها ؟!!!


مرت صورة خالتها في خيالها، كما كانت دائمًا في هذا اليوم، تضحك وهي تزين الكعكة الصغيرة بطريقتها العشوائية المحببة، وتغني لها بصوت مرتعش لكنه دافئ… كانت تحوّل هذا التاريخ إلى طقس من الفرح البسيط، حتى في أحلك الأيام.


استندت نغم برأسها إلى الوسادة، وشردت بعينيها نحو السقف… شعور بالوحدة تسلّل إلى أعماقها، كأن ذلك الحنان الذي اعتادت عليه قد تُرك في ذاكرة قديمة، بعيدة، لا سبيل للعودة إليها.


مدّت يدها مرة أخرى تمسح دمعة تسللت إلى خدها رغمًا عنها، ولكنها انتبهت عندما وصلتها رسالة من فريد ، يخبرها فيها أن تذهب للصف الأول في مكتبتها، وتلتقط رواية بعنوان " الغريبة " ، صفحة رقم ١.٤ ، السطر ما قبل الأخير .


نهضت على الفور بحماس، ركضت إلى الخارج ، التقطت الرواية وأحضرت رقم الصفحة وقلبها يصنع انتفاضة قوية بداخلها .


" لو لم تأتِ إلى هذا العالم في مثل هذا اليوم… لما عرفتُ المعنى الحقيقي للدفء، ولا كيف يمكن لامرأةٍ أن تصنع وطنًا في صدر رجل." 


ارتجفت أناملها وهي تُقرأ الاقتباس مرة تلو الأخرى  وخبّأت وجهها خلف الكتاب كأنها تحتمي من فيض المشاعر الذي اجتاحها على حين غرّة. حاولت أن تمنع دموعها، أن تتماسك... لكن السعادة كانت أقوى من قدرتها على الصمود.


انفلتت دموعها في صمت، تسيل على وجنتيها كأنها تغسل قلبها، تطهّره من الوحشة، وتملأه بيقينٍ ناعم: هي ليست وحدها... هناك من يتذكّرها، ويعرف ما يعنيه هذا اليوم بالنسبة لها.


استمعت إلى رنين هاتفها فأجابته مسرعةً، ليصلها صوته الدافيء وهو يقول :

ـ حبيبة روحي ..


أغمضت عينيها وهي تحاول إيقاف أو قمع شعورها المتدفّق، ذاك الذي هاجم قلبها فجأة كنسمة حنونة في فجرٍ بارد، شعورٌ مختلط بين الفرح والارتباك، بين الحنين والخجل، بين الاحتياج والدهشة.


كان لصوته وقعٌ خاص، كأنه يربّت على قلبها بكفّ غير مرئية، تُعيد إليها شيئًا من نفسها التي ضاعت في زحام الأيام.

تنفّست ببطء، وابتسمت رغمًا عنها، ثم همست بصوت منخفض كأنها تخشى أن تبوح بكل ما فيها:

ـ فريد…


لكنها لم تُكمل، فقط اكتفت بندائه، وتركته يُدرك وحده كم كانت هذه الكلمة تحمل من امتنان، وكم من شوقٍ خبّأته بين الحروف.


ـ يا حبيبة قلب فريد، يا نن عين فريد وأغلى حاجة في حياته..


لم تتمالك نغم نفسها، فوضعت يدها على قلبها، وكأنها تمنعه من أن يقفز من مكانه، دموعها انسابت على وجنتيها بهدوء، وهي تحاول ألا تنطق، فقط كانت تستمعه وهو يربت على قلبها بحنانه الذي لا ينتهي .


ـ كل سنة وانتي أحلى وأغلى حد في حياتي، مفيش عندي أغلى ولا أقرب منك ولا هيكون أبدا .


راحت تبكي بهدوء، من شدة الفرح، من شدة الحب، من شعور نادر يصعب وصفه، لكنه يسكن الروح ويطمئنها… ثم تمتمت بصوت مرتجف:

ـ بحبك يا فريد… ومش قادرة أقول أكتر من كده دلوقتي…


ـ وأنا بحبك يا روحي، ومش عاوزك تقولي أي حاجه لأني عارف كل حاجه.. قوليلي فطرتي ؟!


ـ لسة يادوب صاحية ..


ـ طيب .. فوقي كده وهنخرج نفطر ونقضي اليوم سوا..


سكتت للحظة، ثم قالت بصوت منخفض يحمل مزيجًا من العتاب والرجاء:

ـ بتحاول تعوضني قبل ما تسيبني وتسافر مش كده ؟! 


استمعت إلى تنهيدته المثقلة، ثم أجاب بعدها:

ـ خلاص تعالي معايا .. 


ـ ازاي يعني ؟ مش هينفع طبعا .


ـ ليه هو أنا هاكلك ؟! ما انتي هتبقي في اوضة وانا في اوضة، وبعدين حتى لو في نفس الاوضة أنا محترم وبريء جدا على فكرة .


ـ أنت سخيف على فكرة ..


ضحك فضحكت بدورها فقال بهدوء:

ـ هعديها لك علشان أنا مش عاوز أنكد عليكي في عيد ميلادك ، بس انتي عارفة لو اتكررت تاني ؟! هعديها لك بردو عشان بحبك .


استمع إلى ضحكتها فتنهد مغلوبًا على أمره وقال :

ـ يلا اجهزي يا نغمغم .. اليوم يومك يا جميل .


أنهت الاتصال وعادت إلى غرفتها، فتحت خزانتها ووقفت تنظر إليها بحيرة، وبعد تفكير وقع اختيارها على سروال من الجينز الأبيض، وكنزة قطنية باللون البنفسجي، ارتدتهما وتركت العنان لخصلاتها البنية لتنسدل على ظهرها بحرية .. ثم التقطت وشاح رأس مربع من القطن، ووقفت أمام المرآة لتضعه ولكنها استمعت إلى رنين جرس الباب، فالتقطت حقيبتها مسرعةً وأمسكت بالوشاح بيدها وهي تركض لفتح الباب ظنًا منها بأن القادم هو فريد ، ولكنها صعقت برؤية آخر شخص كانت نتوقع أن تراه !


═────────────────═

#يتبع

 تكملة الرواية من هناااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع