رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن عشر 18بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن عشر 18بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ١٨ ـ
~ ٱسفة ؟! ~
ـــــــــــــــ
جئتكِ بقلبٍِ يرفع راية العصيان، لم يتطلب الأمر سوى جولة واحد وها أنا قد رفعت الراية البيضاء ! أنا أمام عينيكِ مهزوم .. واسيني .. ضميني !
ـ عاصم الدالي .
•••
استفاقت نسيم ببطء، كانت لاتزال بين دوامة من الدفء والحنان اللذان غمراها حين أحاطها بذراعيه، وحين فتحت عينيها على مهل، وجدته أمامها، ينظر إليها متأملًا ملامحها في سكون، بعينين يقطران حبًا وحنانًا .
لم تتكلم، لم ترد أن تفسد تلك اللحظة بالكلام، وظلت تنظر إليه بهدوء، عن كثب تراقب عينيه اللتان تحدقان فيها دون أن ترف، وكأنها محور الكون .
ابتسم ابتسامة قصيرة، وتحرك نحوها خطوة حتى بات ملاصقًا لها، ثم مد يده وأسند كفه فوق وجنتها وهو يقول:
ـ متسيبينيش أبدا .
نبرته كان بها شيئا من الخوف، مما جعلها تتسائل :
ـ ليه بتقول كده ؟!
قرّب وجهه أكثر ، فصارت نظراته تعرف طريقها إلى قلبها قبل أن تصل إلى عينيها، وبنبرة هامسة تختلط فيها الرغبة بالخوف، قال:
ـ لأني خايف تبعدي عني في يوم من الأيام.. وأنا مبقتش أعرف أعيش من غيرِك .
تقلّص قلبها من كلماته، شعرت وكأنه يعترف بضعفه الوحيد، بها.
أجابت بصوت خافت وهي تضع يدها فوق يده المُسندة إلى وجهها:
ـ مش هبعد .. أنا كمان مبقتش أعرف أعيش من غيرك .
أغمض عينيه لوهلة، كأن كلماتها تسللت إلى أعماقه وهدّأت العاصفة بداخله، ثم فتحهما وهمس من جديد:
ـ بحبك أوي يا نسيم، أنا عمري ما اتعلقت بحد ولا كان ليا نقطة ضعف، بس دلوقتي بقيتي انتي نقطة ضعفي، انتي إزاي خلتيني أحبك من أول نظرة !!
بدا عليها الإندهاش قليلا، فأومأ مؤكدًا وقال :
ـ من أول نظرة .. من يوم الحفلة وأنا مش زي ما كنت أبدا ، أول ما شفتك حسيت إنك تخصيني، إنك ملكي، حسيت إني عايزِك، أنا كنت ناوي أسجن سالم ، كنت جاي ومحدد هدفي وواثق من قراري، بس في اللحظة الأخيرة غيرت كل شيء وطلبت أتجوزك .. ده أكبر قرار صح خدته في حياتي ، اني اخترتك .
لم ترد، لكنها مالت إليه ببطء، ثم وضعت جبينها على جبينه، وأغمضت عينيها، لتقول بالصمت ما تعجز عنه الكلمات.
كانت تلك طريقتها الوحيدة التي تعرف التعبير بها... أن تقترب، أن تسكن، أن تُسلم قلبها دون كلام. لم تعتد الإفصاح عن مشاعرها، لكنها حين تُحب، تحب بصمتٍ يملأ الدنيا... وبقربٍ يعوّض عن ألف اعتراف.
شعر بجبينها يلامس جبينه، بأنفاسها الدافئة تختلط بأنفاسه، فسكنت كل ذرة فيه، هدأ، وابتسم مغلقًا عينيه كمن وصل أخيرًا إلى مرساه.
مرّت لحظات لم تقاومها نسيم، لم تحاول الفرار منها، بل استسلمت لها بكاملها... حتى تساءلت داخليًا:
"كيف استطاع هذا الرجل أن يقتحم صمتي... ويُحبني بكل هذا العمق؟!"
فتح عاصم عينيه أخيرًا، ليجدها لا تزال ملتصقة به، لم تبتعد، لم تتردد، فقال هامسًا وقد غلبه الشوق إليها :
ـ بحلم باليوم اللي تكوني فيه مراتي بجد .
ما إن وصلت كلماته إلى أذنيها، حتى ارتجف قلبها في صدرها، وارتسمت على ملامحها علامات التوتر.. انكمشت قليلاً في مكانها، وابتعدت عنه بخفة لا إرادية، كأنها تحاول الاحتماء من وقع الكلمة.
ولكنه منعها بأن وضع يده حول خصرها وثبتها في مكانها، وهمس بنفس الهدوء:
ـ متبعديش، متخافيش من حاجة أبدا أنا بس بقوللك اللي في قلبي .
حاولت أن تظهر تماسكها من جديد، أن تغير اتجاه دفة الحوار عله يتوقف عن اقتحام المساحات الهشة داخلها، وقالت مبتسمة بخفة:
ـ مش هتروح شغلك ؟!
هز رأسه رافضًا، ونظر إلى عينيها بعمق، ثم قال بنبرة واثقة:
ـ وهو في حاجة أهم من اللحظة دي ؟! ما أنا ياما اشتغلت خدت إيه من الشغل !
ضحكت بخفوت، ولكن يده التي بدأت تجول وتصول من خصرها إلى ظهرها إلى كتفها، جعلت الضحكة تتلاشى شيئًا فشيئًا، وملامحها تتبدّل ما بين الحرج والتوتر. لم تكن تلك الحركات عابرة، ولم تكن عفوية، بل كانت تحمل في طياتها رغبة مكتومة تتسلل في بطء، تختبر فيها حدود الصمت والاقتراب.
رفعت يدها لتوقفه، بلطف، لكنها كانت ترتجف قليلًا، وقالت بصوت مبحوح :
ـ عاصم.. من فضلك .
ولكنه وأد الكلمات على شفتيها، ليس اندفاعًا، بل شوقًا مكبوتًا طال احتباسه…
قبّلتها شفتاه بخفة، كأنّه يعتذر ويشتاق في آنٍ واحد، كأنّه يُخبرها دون كلام عما يجتاح صدره من مشاعر لا طاقة له بها.
ولكن رنين الهاتف كان حائلًا بين اللحظة ونضجها، كأن القدر تدخّل ليوقف ما لا زال مبكرًا على حدوثه.
انتفضت نسيم، وابتعدت عنه بخجلٍ واضح، فيما ظل هو يرمقها بنظرة طويلة، وكأن عينيه ترفض الانفصال عن وجهها.
امتدت يدها المرتعشة نحو الهاتف، نظرت إلى الشاشة بسرعة، ورفّت بعينيها وهي تقول بصوتٍ خافت، لا تدري إن كانت تخاطبه أم تخاطب نفسها:
ـ ده فريد !!
تبدلت ملامحه فورًا، فرمقته بنظرة خاطفة قبل أن تجيب الاتصال قائلة:
ـ صباح الخير يا فريد .
ـ صباح الخير يا نسومة، عاملة إيه ؟
ـ أنا كويسة الحمد لله ، انت كويس ؟
ـ كله تمام.. بلف بخلص شوية مشاوير قبل السفر ، طيارتي ١٠ بالليل .
ـ توصل بالسلامه إن شاء الله.
ـ إن شاء الله ، المهم دلوقتي إني بكلمك علشان اقولك إن عيد ميلاد نغم النهارده ، وكنت عاوز أطلب منك تكوني موجودة انتي وعمر ، بصراحة حابب أحسسها إنها مش لوحدها ، وبعدين فرصة كويسة إنكم تتصافوا وتنسوا اللي فات .. إيه رأيك ؟
حانت منها إلتفاتة سريعة نحو عاصم الذي كان ينظر إليها بتركيز، وينتظر أن تنهي الاتصال بصبر مصطنع، فتنهدت ثم قالت باقتضاب:
ـ أكيد طبعا موافقة .. ابعتلي بس اللوكيشن ومتشغلش بالك .
برز صوته منفتحًا قليلا عن ذي قبل، وقال بهدوء:
ـ تمام يا حبيبتي، يلا أسيبك دلوقتي ..
أنهت نسيم الاتصال ، ونظرت إلى عاصم قائلةً بترقب:
ـ عيد ميلاد نغم النهارده، وفريد طلب مني أكون موجودة أنا وعمر، حابب إننا نكون معاها ونفرحها .
ظل عاصم صامتًا للحظات، يراقب وجهها بنظرات يصعب فك شيفرتها، ثم قال بهدوءٍ خافت:
ـ وانتي حابة إيه ؟!
ـ بصراحة أنا حابة أعتذر لها بطريقة غير مباشرة على اللي حصل مني يوم العزا .. نغم كويسة جدا وأنا بحبها جدا جدا .. وشايفة إن دي فرصة نرجع نتكلم يعني .
تقلّب تعبير وجهه، وكأنه لا يزال يحلّل أبعاد الموقف، ثم اعتدل في جلسته وسألها بجدية:
ـ انتي عاوزة تروحي فعلا علشان نغم ؟! ولا علشان فريد طلب منك كده وانتي مش عاوزة ترفضي طلبه ؟
لم تظهر عليها ردة فعل للحظات، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تقول:
ـ هيفرق معاك ؟
نظر إليها بنظرة هادئة، ورفع حاجبه قليلاً قبل أن يرد بصوته الواثق:
ـ لو مش هيفرق.. مكنتش سألتك.
هزت رأسها بيأس، وأجابته دون مراوغة:
ـ علشان الاتنين.. علشان حابة أكون مع نغم وأفرحها في يوم زي ده، وعلشان فريد طلب مني كده ومش عاوزة أقوله لأ.
ابتسم بخفة، وكأنه توقّع الإجابة، ولكن تلك الابتسامة هي ما أثارت سخطها وحنقها؛ فعدلت وضعية جلوسها بحيث تكون في مقابله تمامًا، وقالت بنبرة يشوبها العتاب الهادئ:
ـ ممكن أعرف ملامحك بتتبدل ١٨٠ درجة ليه لما بتيجي سيرة فريد أو عمر ؟! على عكس حسن مثلا !! يعني لما شفت حسن امبارح هنا ردة فعلك كانت هادية وعقلانية جدًا.. على عكس فريد وعمر ، وكأن في بينك وبينهم تار !
كان للكلمة وقعًا ثقيلا جدا على قلبه ، فتجمدت ملامحه للحظة، بينما خيّم الإحباط على نظرته، ونبرته، وهو يجيبها بانفعال:
ـ لأن دي الحقيقة يا نسيم، عمر وفريد بيني وبينهم تار فعلا..
سكن الوجع نظراتها، وتهادى صوتها حزينًا مرهقًا وهي تقول بانفعال لانت حدته قليلا:
ـ انت غلطان يا عاصم، عمر وفريد مش هم اللي قتلوا حازم ، أنا فاهمة ومقدرة موقفك تجاه اللي اتسبب في موت حازم الله يرحمه، وعارفة إنك معاك حق في أي حاجه انت بتفكر فيها تجاهه، بس اخواتي ملهمش ذنب ، خرجهم برا حساباتك يا عاصم أرجوك !
ـ ملهمش ذنب ؟!
قالها عاصم بصوتٍ مشوب بالغضب، وارتفع حاجباه بدهشة مصدومة، كأن كلماتها جاءت كصفعة على قلبه، ثم أكمل وهو ينهض واقفًا وقد انعكست مشاعره في خطواته المتوترة:
ـ انتي مصدقة اللي بتقوليه ده ؟! ملهمش ذنب ازاي وهما كانوا عارفين باللي أبوهم عمله، عارفين إنه قتل إنسان بريء ملوش ذنب غير انه كان بيحب أختهم وبيحاول يخلصها من السجن اللي كانت مسجونة جواه، وعارفين انه اتقتل بدم بارد، بأمر من إنسان عديم الشرف ، معندوش أخلاق ولا دين.. إنسان عبارة عن جبروت حي اسمه سالم مرسال !! ومع ذلك محدش فيهم كلف خاطره يعمل أي حاجه.. !
تساءلت بنفاذ صبر وقد فاض الكيل بها :
ـ كنت عاوزهم يعملوا إيه يعني ؟! يروحوا يبلغوا عنه مثلا ؟!
حدق بها بنظرة ممتزجة بين الغضب والذهول، وكأن سؤالها لم يكن سوى ملحًا وُضع فوق جرح نازف .
ارتجفت ملامحه للحظة، وارتسمت على وجهه خيبة موجعة، قبل أن يشيح بنظره عنها، وكأن النظر إليها يؤلمه أكثر، ثم قال بصوت خافت لكنه حاد، يقطر خذلانًا:
ـ انتي صح ! هم مكانش مفروض يبلغوا ولا ياخدوا أي رد فعل، مش مُنتظر منهم أصلا يعملوا كده لأن خطوة زي دي محتاجة حد عنده ضمير وإنسانية.
حقنت كلماته دماءها بالغضب، فحاولت التحدث، فتحت فمها لتتفوه بشيء ما، ولكن سبابته التي أُشهرت في وجهها بتحذير ووجع قد منعتها، حين قال :
ـ إياكي.. إياكي تحاولي تبرري له أو ليهم .. اخواتك شركا في موت حازم سواء قبلتي ده أو رفضتيه .. أصبحوا شركا لما قرروا يغطوا على اللي عمله أبوكي ويعيشوا حياتهم عادي جداا وكأن مفيش حاجه حصلت ، بياكلوا ويشربوا ويشتغلوا وينجحوا وكأن شيئا لم يكن، وكأن اللي مات واندفن ده كلب وراح !
كلماته كانت كسياط على قلبها، فتجمدت في مكانها، تاهت نظراتها للحظة، ثم زاغت إلى الأرض، وكأنها تبحث عن فتحة تهرب منها من الواقع.
تسلّل الخزي إلى ملامحها، تلوّن وجهها بانكسارٍ فاضح، وانها بداخلها تماسكها الهشّ.
انفجرت نظراتها بارتباك ودموع محتبسة، وانشقت أنفاسها على حافة الانهيار، لكنها تماسكت، بالكاد.
أما هو، فظل واقفًا أمامها، يتنفس بثقل، وصدره يعلو ويهبط كأنما يخوض حربًا داخلية لا تهدأ، بين حبه لها، ووجعه منها، بين ما يُمليه عليه قلبه، وما يصرخ به عقله الجريح.
رمقها بنظرة طويلة، كانت تتأرجح بين القسوة والانكسار، كأن جزءًا منه يصر على كرهها، وجزءًا آخر يتشبث بها رغم كل شيء.
لكنه حين رأى دموعها، وتلك الرجفة التي تسكن أطرافها، خفتت حدة نظراته قليلًا، وخنق أنفاسه في صدره واقترب منها .
عانقها بقوة، وقبّلها بشوقٍ غاضب، مُضر، ولكنه لم يؤلمها.
أفرغ غلّهُ على شفتيها بقسوة لم تسؤها، لم تجرحها، بل جعلتها تطوقه أكثر، وكأنها تعتذر إليه بالنيابة عن الجميع، تعتذر عن ذنب لم تفعله، عن خذلان لم يكن منها، لكنها حملته على كتفيها قسرًا.
حين قرر أن يترك لها مجالا لتلتقط أنفاسها لم يتركها، بل ظل محتفظًا بها بين ذراعيه بنفس القرب، وأسقط رأسه على كتفها، ثم أغمض عينيه وهو يهمس بنبرة أضعف مما بدت عليه كلماته قبل لحظات:
ـ خليكي معايا .. النار اللي في قلبي مبتخمدش غير وانتي قدامي.. معاكي بس بعرف أنسى أو أتجاهل الوجع اللي جوايا، وأنا لوحدي ببقا عايز أحرق الكون كله عشان النار اللي جوايا تنطفي، متبعديش، علشان خاطري يا نسيم .
ذابت نسيم .. قهرتها كلماته ولمحة الرجاء فيها، قهرتها دموعه المقهورة التي لامست كتفها وأشعرتها بعجزها أكثر، شعرت بقلبها يتهاوى كبرجٍ من رمال مقاومته كانت عبثًا أمام ما يحمله من ألم، فكان لزامًا عليها أن تلبي النداء، ليس عن ضعف، بل عن احتياج يشبه احتياجه تمامًا.
الآن فقط، شعرت نسيم أنّ صمتها لم يعد كافيًا، وأن حضنها وحده لم يعد دواءً لهذا الوجع العالق في روحه. شعرت بثقل الألم في صدره كأنه جرح غائر في قلبٍ تآكل من الانتظار والصراعات. ولأول مرة، أدركت أنّه بحاجة لفعلٍ لا قول، لخطوة منها قد تساهم في نزع ذلك الألم من قلبه ولو لفترة مؤقتة .
تعرف أنه لطالما لمحت في عينيه رغبةً بها، جنونًا وتوقًا لامتلاكها، وأنها طالما ترددت، أرجأت، واختبأت خلف الحياد.
لكن الآن… الآن فقط عليها أن تفعل شيئًا لأجله، أي شيء.
ولأنها تعرف، بكل خلية فيها، أن قربها منه هو السبيل الوحيد لانتشاله من تلك الهوة المظلمة التي سحبته بداخلها، فما كان منها إلا أن أسقطت دفاعاتها، ومنحته صك القبول.
لا بكلماتٍ واضحة، بل بابتسامة مرتجفة تعقبها قُبلة مرتبكة خجولة على شفتيه ترجمت بها آلاف من المشاعر المتضاربة التي تعصف بها — خزي، ووجع، واحتياج، وإشفاق، وشوق لم تعد قادرة على إنكاره.
حين رأى صراحةً تلك الدعوة، لم يتراجع.
قبِل دعوتها بصدرٍ رحب، لا كغنيمة ينقضّ عليها، بل كامرأة يعشقها، طال شغفه بها، والآن هي تمنحه الفرصة بقلبٍ فتح بابه عن طيب خاطر، بعدما ظلّ مواربًا طويلًا، ليعبّر عن هذا العشق كما تاقت روحه منذ زمن .
اقترب منها أكثر برويّة، ليس فقط رغبةً في الامتلاك، بل احتياج للاتحاد، للنجاة، وللحبّ الذي لم يعرفه سواها.
وبدأ يحررها من كل قيودها، يُلقي بكل ما يحول بينهما أرضًا… حتى لم يتبقَّ سوى الحقيقة العارية بينهما: قلبان خائفان يتمنّيان الأمان، وروحان مشتعلتان لم تعد تقوى أيهما على الفرار ولا الإنكار .
نالها لا بشهوةٍ عابرة، بل بشوقٍ متراكم، حنون وقاطع في آنٍ واحد..
كان امتلاكه لها فعل حبّ لا افتراس، احتواء لا هيمنة… لم تكن لحظة غلبة، بل لحظة انصهار جعلتها تسلم نفسها لليقين الجديد.. أنهما معًا، ومعًا فقط سينجوان، معًا فقط سيلتئم الشرخ الذي خلّفه الفقد، ويسكن الألم الذي أضناهما طويلاً.
كانت بين ذراعيه كما لم تكن من قبل، لا أسيرة ولا مُنكسرة، بل امرأة اختارت بكامل وعيها أن تجعله يتذوق لذة القرب منها، أن تمنحه سكونها، وحبها، وذاك الجزء العميق من روحها الذي لم يطأه أحدٌ سواه.
وكان هو، في تلك اللحظة، أكثر من راضٍ، وسعيد، ومنتصر، ولأول مرة يشعر وكأن قلبه لم يعد ساحة حرب، بل وطن آمن وجد أخيرًا المرأة الوحيدة التي تستحق أن تسكنه .
༺═────────────────═༻
كان حسن برفقة عمر، متجهين إلى التوكيل الذي اعتاد والدهما ارتياده، ليشتري حسن سيارته الأولى.
لاحظ عمر شروده، حيث أنه كان ينظر من نافذته المجاورة بصمت، وبالرغم من أنه استطاع تخمين سبب ضيقه إلا أنه تساءل باهتمام:
ـ مالك يا أبو علي .. ساكت ليه ؟
انتبه حسن لنداء أخيه، فالتفت إليه وهو يتنهد، ثم قال بنبرة هادئة تخفي وراءها اضطرابًا دفينًا:
ـ مفيش يا عمر .. أنا كويس أهو .
ـ مفيش يا عمر ؟! لأ طالما قلت يا عمر دي يبقى انت مش كويس خالص.
قطب حسن جبينه متعجبًا، ثم سأله متهكمًا :
ـ ليه ؟! هي عمر دي كلمة أبيحة وأنا مش عارف ؟
ضحك الآخر وهو يهز رأسه يائسًا وقال:
ـ لأ أصل انت في العادي مش بتقول عمر.. بتقول يا عمورة، يا حبيب أخوك .. كده يعني .
ابتسم حسن ابتسامة خافتة، ثم ضربه بخفة على مؤخرة عنقه وهو يقول ضاحكًا :
ـ طيب مفيش يا حبيب أخوك ، أنا كويس وزي الفل يا عمورة ، حلو كده ؟
أومأ عمر مؤكدًا وقال:
ـ يعني .. إلى حدٍ ما ، المهم قوللي.. في دماغك تختار موديل إيه ؟
مط الآخر شفتيه بلا اكتراث حقيقي وقال:
ـ مش فارقة ، أي حاجه.
ـ إيه رأيك لو تجيب واحدة مرسيدس c 180 زي اللي مع فريد ؟!
نظر إليه حسن قاطبًا جبينه وهو يقول :
ـ لأ يا عم c 180 إيه .. مش هينفع طبعا، على الأقل دلوقتي، أنا في دماغي حاجات كتير لازم أعملها ومش عاوز أهدر الفلوس على الفاضي .
أومأ عمر باقتناع، وردد تلقائيا:
ـ معاك حق بردو ..
ـ أنا عاوزك انت كمان توفر في المصاريف يا عمر ، لو معاك فلوس لازم تشوف لك مشروع تبدأ بيه وتعمل لنفسك مستقبل ، انت مبقتش صغير .
ابتسم عمر قائلا بلامبالاة :
ـ والله يا ريت ، بس الحقيقة أنا مفيش قدامي هدف معين عاوز أوصل له يعني .. تقدر تقول كده عايش حياتي freelancer .
ـ مش هينفع ، انت مش هتفضل طول عمرك عمر دلوعة ماما ولا آخر العنقود اللي بيصرف ويضيع من غير حساب، الفلوس اللي سايبها لنا أبونا دي مش كنز علي بابا كل ما نحتاج فلوس نقول افتح يا سمسم وندخل المغارة نغرف منه ، المثل بيقول خد من التل يختل ، يعني لازم كل حاجه تكون بحساب ..
وصمت قليلا ثم تابع بنبرة حاول أن تبدو متزنة قدر الإمكان :
ـ عندك فريد مثلا.. المفروض نعمل زيه، ماشاءالله راجل ناجح وعنده طموح ومش معتمد على أبوه ولا فلوس أبوه ، أسس نفسه بنفسه ومحدد أهدافه .. لازم ناخدُه قدوة .
أومأ عمر موافقًا بجدية ثم قال مبتسمًا :
ـ طب بقوللك إيه .. بمناسبة اننا اتكلمنا على فريد وأنا شايف إنك عندك استعداد تقعد وتتكلم معاه وبتاع، النهارده عيد ميلاد نغم وفريد عازمني أنا ونسيم علشان نحتفل معاهم .. إيه رأيك لو تيجي معانا ؟! ما هي بنت خالتك وهتكون مرات أخوك مستقبلا يعني انت مش غريب !
تسلّل الإحباط إلى ملامحه، وتنهّدت عيناه قبل صدره، ثم أدار وجهه إلى النافذة مجددًا، وكأنه يهرب منه ومن السؤال، وقال بصوت منخفض:
ـ بلاش يا عمر... أو على الأقل، بلاش دلوقتي.
عقد عمر حاجبيه في استغراب وسأله بنبرة تحمل شيئًا من الاعتراض:
ـ ليه طيب؟!
ردّ حسن بسرعة، وكأنه يود غلق الباب قبل أن يُفتح:
ـ كده أحسن... روح انت ونسيم واحتفلوا معاهم.
ثم أردف بنبرة مراوغة، ونظرة مصطنعة إلى ساعته:
ـ أساسًا أنا مشغول النهارده، عندي مشاوير كتير لازم أخلّصها.
لكن عمر لم يُصدّق ذلك تمامًا… فهو يعرف أن حسن لا يرغب في إثارة حنق وغضب فريد، وبالرغم من اقتناعه الداخلي بأن هذا الافتراض قد يكون بعيدًا عن الحقيقة، إلا أنه اختار ألّا يضغط عليه أكثر، وترك له مساحته الخاصة. وقال بنبرة خفيفة، تخفي خلفها كثيرًا من التفهم والمحبة:
ـ خلاص يا حبيبي... اللي يريحك.
ابتسم حسن، وقد لامست الكلمة شيئًا عميقًا بداخله، ثم التفت إليه وقال بنبرة خافتة تمزج بين الامتنان والحنان:
ـ والله إنت اللي حبيب أخوك…
وصلا لتوهما أمام توكيل السيارات، فترجلا من السيارة بخطى واثقة، ودخلا إلى صالة العرض الواسعة حيث استقبلهما مالك التوكيل بنفسه، بابتسامةٍ ترحيبية ونظرة مهنية تدل على معرفته المسبقة بقدومهما.
كان سالم قد أبلغه منذ قليل بموعد حضورهما، لذلك بدا الرجل مستعدًا، وقال وهو يمدّ يده لمصافحة حسن:
ـ أهلًا وسهلًا حسن بيه، شرفتنا يا عمر بيه، نورتوا المعرض… سالم باشا بلغني إنكم جاين، واللي تطلبوه هتلاقوه إن شاء الله.
ابتسم حسن بهدوء ورد التحية، بينما أخذ عمر يتلفت حوله بانبهار كالعادة وقال :
ـ إيه الأخبار يا مستر منتصر ، واضح إن المكان بيكبر كل مرة عن اللي قبلها ماشاء الله.
ضحك منتصر بود وهو يرد بلطف:
ـ الحمد لله يا بشمهندس عمر كله من فضل ربنا، ثم فضل وجود عملا محترمين ومميزين زي حضراتكم ..
ونظر إلى حسن مبتسمًا وقال :
ــ اتفضل يا حسن بيه، تحب نبدأ نشوف الموديلات ولا في موديل محدد في دماغك ؟
ـ في الحقيقة مفيش حاجة معينة .. أهم حاجة السعر ميكونش عالي اوي.
تعجب منتصر من منطقه قليلًا، فكيف له — وهو ابن سالم مرسال، المعروف عنه ثراؤه الواسع وكرمه في الإنفاق — أن يطلب سيارة بسعرٍ بسيط؟!
لكنّه لم يُظهر شيئًا من دهشته، وأومأ برأسه باحترام، محافظًا على ابتسامته المهنية، وقال بودّ:
ــ تمام يا فندم، عندنا كذا موديل من الفئة الاقتصادية، أنيقة وبتواكب السوق، وفيها إمكانيات ممتازة بالنسبة لسعرها.. تعالى أوريك الأنواع اللي ممكن تعجبك.
أشار بيده إلى أحد الموظفين ليرافقهم نحو الجزء المخصص للفئات المتوسطة، بينما تابع قائلاً:
ــ على فكرة، في عربيات كتير جديدة نازلة بميزات ممتازة وسعرها مناسب جدًا.. وأنا متأكد إننا هنلاقي حاجة تناسب ذوق حضرتك.
ابتسم حسن بلطف، ثم قال بنبرة هادئة:
ــ إن شاء الله.. خلينا نشوف الأول.
بينما تبعه عمر وهو يهمس له مازحًا :
ـ مستر منتصر مذهول يا عيني ، أصل أنا لما باجي هنا بطلب أعلى حاجة، فأكيد دلوقتي بيسأل نفسه ازاي أنا وانت أخوات !
ضحك حسن وهو يضع يده على كتف عمر، يسيران سويًا وهو يردد بصوت خافت بعضًا من كلمات أغنية شعبية متجاوزًا بها سؤال أخيه :
ـ انا وانت اجدع اخوات .. روح قلب أخوك انت يا واد .. أنا النمر وانت الأسد .. في ضهر بعض في أي حتة .
༺═────────────────═༻
كلما التفت إليها بين الحين والآخر، وجد شرودها يسرق نظراتها، والعبوس يعيث فسادًا في ملامح وجهها الرقيق، كأنها تحمل على عاتقها هماً أثقل من قدرتها على الاحتمال. كانت نظراتها غارقة في مكانٍ لا يراه، وعقلها مسافر إلى حيث لا يستطيع الوصول، فيراوده القلق رغم صمته، ويتساءل في أعماقه: ما الذي يسكنها ويجعلها بهذه الهشاشة الممزوجة بالحزن ؟
ـ نغم .. ساكتة ليه يا جميل ؟
سألها باهتمام يشوبه القلق، وانتظر جوابها، ولكنها لم تجب، حيث أنها لم تسمع سؤاله من الأساس، مما أثار تعجبه أكثر وجعله يهدأ من سرعته وهو ينظر إليها بقلق قد بدأ يشغل حيزاً أكبر، وقال وهو يمرر يده أمام وجهها جاذبًا انتباهها :
ـ نغم .. سرحانة في إيه ؟
نظرت إليه منتبهة أخيرًا، كمن عاد تواً من غفوةٍ طويلة، فرمشت بعينيها مرتين كأنها تحاول استيعاب اللحظة، ثم تمتمت بصوتٍ خافت يكاد لا يُسمع:
ـ ولا حاجة... كنت بس بفكر شوية .
ـ بتفكري في إيه ؟!
ـ مفيش يا فريد .. بالي مشغول حبتين .
لم يقتنع تمامًا، فحدق بها بتريث وقال بنبرة أكثر دفئًا :
ـ أيوة يعني بالك مشغول بإيه، اتكلمي معايا .
تنهدت بضيق شديد والتزمت الصمت، فاستشعر عدم رغبتها في الحديث، لذا أوقف السيارة تمامًا، ونظر إليها قائلا بجدية :
ـ ماهو انتي هتتكلمي يعني هتتكلمي .. مالك؟ حصل إيه ؟ أنا ملاحظ من أول ما شفتك انك متغيرة !!
ابتلعت ريقها بصعوبة، كأنها تجاهد لتمرير غصّة مؤلمة، ثم تمتمت بصوت واهن مختنق:
ــ مفيش… شوية تعب بس.
رمقها فريد بنظرة مشوبة بالقلق، وقطّب حاجبيه متعجبًا، ثم مد يده نحو المقود ليستعد للتحرك وهو يقول بلهجة حاسمة:
ــ وساكتة ليه من بدري لما انتي تعبانة ؟! هنروح المستشفى فورًا.
نظرت إليه باندهاش، وقد باغتها أنه صدّق مبررها الهش، ثم انفجرت في وجهه بنفاد صبر ونبرة يغلفها الإنهاك والعجز:
ــ مش تعبانة يا فريد! أنا بس مش قادرة أتكلم دلوقتي… ومش طايقة نفسي، فبلاش تضغط عليا وتصرّ إنك تخليني أتكلم بالعافية!
أنهت كلامها بزفرة ثقيلة، ثم أغلقت عينيها وأرخت رأسها إلى الخلف على مسند المقعد، بينما ظل هو إلى جوارها، يراقبها في صمت قَلِق، ما لبث أن ازداد عندما رآها تبكي بصمت .
فتح فمه ليتحدث، ليلقي سؤالًا أو حتى كلمة واحدة، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة… يعلم أنها إن سمعته يسأل عما بها مرة أخرى، ستنفجر في وجهه بعصبية وتطالبه بأن يكفّ عن الإلحاح.
فاكتفى بالنظر أمامه بصمت، يحبس فضوله وقلقه في صدره، ويحاول تهدئة صراعٍ داخلي بين رغبته في الفهم، واحترامه لمساحتها التي تطلبها بصراحة موجعة.
كانت كلماته على طرف لسانه، لكنها بقيت هناك… وكل ما كان يفعله أنه ينظر إليها من حين لآخر .
حاولت أن تتوقف عن البكاء، حقًا حاولت… شدّت على شفتيها، حبست أنفاسها، أغمضت عينيها بقوة، لكنها فشلت.
يكفي أنها تكتم صراخها لئلا تنهار تمامًا أمامه، ولم تكن تعلم أن ذلك الكتمان سيعتصر معدتها بقبضة غليظة لا ترحم ؛ فمدت يدها تلقائيا تحيط بموضع الألم، كأنها تحاول تهدئة ذاك الوجع المتصاعد من أعماقها، وجسدها ينكمش دون وعي منها، وكأنها تتلقى ضرباتٍ خفية تنهال على داخلها.
كانت تنهار بصمت، تتآكل من الداخل دون أن تنبس بكلمة، وهو بجوارها يراقبها بصبرٍ قلق، يحاول أن يفهم ما طرأ عليها فجأة من تبدلٍ في المزاج وانكسارٍ مفاجئ.
ظل يحدّق فيها مطولًا، يحلل كل حركة وكل نفس يصدر عنها، حتى ومض في ذهنه خاطرٌ جعله ينتبه: ما تمر به ليس عبثًا ولا لغزًا مستحيل الفهم... التقلب الحاد في المشاعر، الحزن الغامر دون مبرر، وآلام البطن ، كل ذلك لا يدل إلا على شيء واحد.. إنها رحلة الآلام الشهرية !
وبينما هو يعيد توجيه نظره للطريق، لمح لافتة لصيدلية على أحد الشوارع الجانبية، فلم يتردد. أوقف السيارة بهدوء، ترجل دون أن يشرح، وعاد بعد دقائق حاملاً زجاجة ماء وشريطًا من المسكنات.
مد يده نحوها قائلًا بنبرة حانية:
ـ اتفضلي يا نغم.. خدي حباية من ده هتهديكي شوية.
نظرت إليه دون كلام، ثم حوّلت بصرها ببطء إلى ما بيده. ظلت تنظر للحبوب والماء وكأنها ترى فيهما احتمالًا للهروب.. مجرد فكرة عابرة تسربت إلى عقلها: ماذا لو ابتلعت الشريط كاملًا؟ هل ستموت؟ هل ستنتهي المعاناة؟ هل سيكون ذلك راحة لها وللجميع؟ الموت... ربما بدا أهون من استمرارها في هذه الحياة المرهقة.
انحنت فجأة، وأجهشت بالبكاء.. دموع صامتة ثقيلة تنهمر بحرقة. حاولت كتم صوتها، لكنها لم تستطع حبس الوجع. مدّ فريد يده إلى ظهرها، يربّت عليه بحنانٍ خالص، محاولًا التخفيف عنها، غير مدرك أن عطفه هذا لا يواسيها، بل ينهكها أكثر.
تناولت في النهاية حبة من الدواء، ليس لأنها صدقته بأنها ستخفف، بل لأنها لم تكن تملك رفاهية الشرح أو الرفض. أرادت فقط أن تُغلق الباب أمام أي أسئلة أخرى.
وبعد دقائق من الصمت والدموع، بدأت تستعيد تماسكها تدريجيًا. مررت كفّها على وجهها لتزيل الدموع، فاقترب منها فريد، وضع كفيه خلف رأسها، وأخذ بإبهاميه يمسح آثار الحزن من عينيها، ثم نفخ بهدوء أمام وجهها وقال:
ـ روقي بقا وبطلي عياط.. إحنا مش عايزين اليوم يضيع في الزعل. ركزي معايا شوية، أنا محضّرك مفاجأة يا رب تعجبك.
انتظر منها ابتسامة أو حتى سؤالًا عابرًا يكشف فضولها المعتاد، لكنها خذلته هذه المرة، واكتفت بالصمت التام طوال الطريق.
حتى توقفت السيارة أمام أحد معارض السيارات الفخمة، نفس المكان الذي يتواجد فيه حسن وعمر . أطفأ المحرك، وترجّل ليفتح لها الباب بنفسه. نهضت من مقعدها بصمت، تخطو خلفه بحذر، تحاول أن تخفي عينيها عن عينيه، كي لا يرى في نظرتها ما تحاول جاهدًة دفنه.
كان فريد قد قرر أن يهديها سيارة، مفاجأة عيد ميلادها…
نظرت حولها في تعجب، ثم التفتت إليه وقد ارتسمت الحيرة على وجهها:
ـ احنا جايين هنا ليه؟
ابتسم وأمسك بكفها برقة وهو يقول:
ـ لما ندخل جوه هتفهمي كل حاجة.
دخلا إلى صالة العرض الفسيحة، حيث كانت السيارات مصطفة بجاذبية مرتبة، فأخذت تنظر من حولها بانبهار ممزوج بالارتباك، قبل أن تستدير نحوه مجددًا تنتظر تفسيرًا.
ابتسم وهو ينظر في عينيها قائلاً:
ـ جبتك علشان أشتريلك عربية هدية عيد ميلادك!
اتسعت عيناها بدهشة، ورفعت حاجبيها في استغراب قبل أن تسحب يدها من قبضته بسرعة وتقول بانفعال:
ـ على أساس إني بعرف أسوق؟!
مد يده ثانية وأمسك بكفها مجددًا قائلاً بلطف:
ـ هعلمك أنا.
لكنها انتزعت يدها مرة أخرى، هذه المرة بغضب أكبر، وهتفت:
ـ أنا مش عايزة عربيات ولا هدايا ولا أي حاجة! أنا عايزة أمشي وبس!
رغم انفعالها، ظل محتفظًا بهدوئه، مدركًا كم أن حالتها النفسية مرهقة، وأنها لا تحتاج سوى الاحتواء، فابتسم بصبر وأومأ:
ـ ماشي، هنخلّص ونمشي.
وما إن انتهى من كلماته حتى سمع صوتًا قادمًا من الطابق العلوي، فالتفت ليرى صاحب المعرض يهبط السلم، يتبعه شقيقاه… ليصطدم بذلك اللقاء غير المتوقع.
لم يكن فريد وحده من فوجئ بذلك اللقاء المفاجئ، بل عمّت الدهشة وجوه الجميع... حسن، عمر، ونغم أيضًا!
تبادلت العيون نظرات متسائلة وصامتة، كأن كل منهم يبحث عن تفسير في ملامح الآخر.
كان عمر أول من كسر الجمود، فاقترب من فريد بابتسامته المعهودة، صافحه بحرارة ثم احتضنه قائلاً بخفة ظل:
ـ ده إيه الصدفة المريبة دي ؟!
لحق به حسن، محافظًا على هدوئه المعتاد، مدّ يده وصافح فريد بتوازن، دون أن تظهر على وجهه ملامح واضحة، لا ترحيب ولا انزعاج، ثم التفت إلى نغم ومدّ يده أيضًا، لكنها كانت تطالعه بنظرة حادة، ساخطة، فيها من الشك بقدر ما فيها من الاستفهام… نظرة أربكته وأثارت استغرابه في آن.
كانت عينا فريد متسمّرتين بضيق على يد حسن الممتدة نحو يد نغم، وكأن المشهد بأكمله يُشعل شيئًا خامدًا بداخله. شعر بالغيرة تنهش أعماقه في صمت قاتل، وتسلل الغضب إلى صدره كجمر تحت رماد هادئ.
زفر ببطء محاولًا لجم مشاعره، ثم حوّل نظره نحو عمر الذي قال مازحًا:
ـ خير يا كبير ؟! بتعملوا إيه هنا؟ ناوي تجدد ولا إيه؟
ابتلع فريد حيرته سريعًا، وأجبر شفتيه على ابتسامة مصطنعة وهو يرد باقتضاب :
ـ لا .
ونقل نظره إلى حسن، كأنه يختبره بنظرات صامتة، يتساءل في داخله إن كان سيعود ببصره نحو نغم.. لكنه وجده محدقًا فيه هو، بعينين ثابتتين، مليئتين بتساؤلات قديمة وصراعات أعمق مما يبدو.
عندها قطع فريد الصمت وهو يقول بنبرة لا تشي بشيء :
ـ طب وانتوا؟ بتعملوا إيه هنا؟
تولى حسن زمام الرد، بصوته الهادئ الذي لم يخلُ من نبرةٍ خفيفة تداري التوتر:
ـ كنت بشتري عربية وخلصت خلاص.
ثم التفت إلى عمر وأضاف، كمن ينهي حوارًا لا يريد له أن يطول:
ـ يلا يا عمر نمشي؟
أومأ عمر موافقا وقال :
ـ يلا ..
وغمز إلى فريد وقال بنظرة ذات مغزى:
ـ سي يو ..
أومأ فريد بهدوء وبصمت، وعيناه تتبعان حسن الذي انسحب بهدوء مغادرًا الصالة .
رحب بهما منتصر وقال مبتسمًا :
ـ إحنا حصل لنا الشرف النهارده بزيارة أبناء الباشا سالم مرسال ، ده أكيد يوم حظنا .
ابتسم فريد بهدوء وقال:
ـ الشرف لينا احنا يا أستاذ منتصر .
ونظر إلى نغم وقال بابتسامة:
ـ عاوزين حاجة manual كده لطيفة علشان لسه هنتعلم السواقة .
حانت من منتصر نظرة خاطفة نحو نغم التي تجاهد لاخفاء حزنها ، وأومأ موافقا وقال :
ـ تحت أمرك يا فريد بيه، اتفضل معايا .. في موديلات شيك جداا ومناسبة هتعجب حضراتكم ..
وبالفعل، تبعه كلٌّ من فريد ونغم، بينما راح منتصر يعرض أمامهما مجموعة من الموديلات التي تناسب طلبهما. لم تكن نغم تبدي أي اهتمام، واكتفت بالصمت وتفادي النظرات، أما فريد فقد تابع باهتمام حتى استقر رأيه أخيرًا على سيارة حمراء أنيقة من طراز شيري أريزو.
اتخذ قراره منفردًا، بعدما لاحظ أن نغم ما زالت ترفض التفاعل أو حتى إبداء الرأي، فاحترم صمتها... واختار ما ظنّ أنه سيسعدها .
لكن أمله سرعان ما خاب حين غادرا المعرض ووجدها لا تزال غارقة في نفس السكون الكئيب، ملامحها لا توحي بأي تحسُّن. تطلع إليها بقلق وقال بلطف:
ـ طمنيني... حاسة إنك أحسن شوية؟
رفعت عينيها نحوه، حدّقت فيه مطولًا، وكأنها تبحث عن إجابة لا تملكها. كيف يمكنها أن تكون أفضل؟! بعد كل ما حدث، هي تدرك جيدًا أن القادم لن يكون إلا أكثر قسوة... من هذه اللحظة، لن يعرف حالها إلا الانحدار.
بدت وكأنها على وشك قول شيء ما، لكنّه سبقها بخطوة حين أمسك بيديها برفق وهمس:
ـ أنا آسف لو اليوم مرهق بالنسبة لك ... أنا بس عايز أقضيه معاكي قبل ما أسافر.
لم يسعها أن تقل شيئا ، كل ما فعلته أنها أومأت بصمت، وأرجأت الحديث لوقتٍ لاحق .
فتح لها باب السيارة، فاستقلت مقعدها، ومن ثم استقل مقعده بدوره وانطلق متحركًا .. كان ينقل نظره بين الطريق وبينها ليراها على نفس الحال .
أما هي فكانت مستغرقة فيما حدث قبل قليل ….
~ استرجاع زمني ~
وقفت تطالع الزائر بصدمة، واصطبغت جميع معالم وجهها بالصدمة !
بينما هو كان ينظر إليها بثبات لا يخلو من التعالي، يده اليسرى في جيب سرواله، واليمنى يمسك بها سيجاره الفاخر، ثم نطق أخيرا وقال :
ـ إيه ؟! هتسيبيني واقف على الباب كده ؟! مفيش اتفضل ؟!
حاولت أن تستجمع بقايا صوتها الضائع، ثم تنحّت جانبًا بصمت، تفتح له الطريق، وهمست باقتضاب:
ـ اتفضل.
تقدّم سالم بخطوات واثقة إلى الداخل، يتفحّص أركان البيت بنظرة متفحصة متعالية، ثم دلف إلى غرفة الجلوس وجلس على الأريكة واضعًا ساقًا فوق الأخرى كمن يعلن عن سيطرته على المكان. عيناه لم تفارقا وجهها، ثم أشار بيده قائلاً بصوت لا يخلو من الأوامر:
ـ اقعدي يا نغم.
جلست بتوتر في المقعد المقابل، تنتظر ما سيقوله، فجاء صوته مباشرًا:
ـ أكيد مستغربة إني جيتلك، وعاوزة تعرفي السبب.
حاولت أن تتظاهر باللباقة والهدوء، وردّت بأدب مجامل:
ـ أهلًا وسهلًا بحضرتك، في أي وقت... البيت بيتك.
أومأ برأسه في بطء، ثم رفع سبابته مؤكدًا وكأنه يوقّع على ما قالته:
ـ معاكي حق... البيت فعلًا بيتي، بما إن فريد اشتراه بفلوسي! مش كده؟ المهم .. ما علينا… !
ازدردت ريقها بصعوبة، فقد أدركت أن حديثه لا يحمل أي نوايا طيبة، وأن ما سيأتي بعدها سيكون أثقل وطأة، حتى باغتها بقوله:
ـ أنا جيتلك النهاردة يا نغم، عشان أتكلم معاكي لأول مرة... كأب.
انعقد حاجباها في دهشة، فتابع بنبرة بدت وكأنها تتوسل، لكنها لا تخلو من حسم:
ـ أنا جاي أطلب منك طلب إنساني... وعارف إنك قدها، وإنك بنت جدعة وبتفهمي.
ازدادت نظرتها توترًا، وحدقت فيه بارتباك، قبل أن تسأله بصوت خافت:
ـ طلب إيه؟
ثبت نظره في عينيها مباشرة، وبكل هدوء قال:
ـ ابعدي عن فريد.
تجمّدت ملامحها، وكأن الزمان توقف عند تلك الجملة، شعرت وكأن الكلمات أصابت قلبها برصاصة لا تُخطئ، فتردت على اثرها قتيلة.
واصل حديثه دون رحمة، كمن يغرس الخنجر بقلبها ببطء:
ـ أنتي عارفة إن حسن بيحبك... وأنا بنفسي سمعته بيقول لعمر إن الحقد اللي جواه ناحية فريد ساعات بيخليه يتمنى موته!
وانتي مش هترضي تبقي سبب في عداوة بين الإخوات... مش كده؟ مش هتقبلي إنك تكوني سبب إن واحد منهم لا قدر الله يقتل التاني ..
ثم صمت لحظة، قبل أن يضيف بنبرة مشبعة بالوجع:
ـ أو يموت بحسرته مثلا علشان أخوه أخد منه حبيبته !!
تقلصت ملامحها في ذهول، لم تستوعب كل هذا التصعيد، شعرت أن ما يقوله مبالغ فيه، لا يمت للواقع بصلة، فهتفت :
ـ حضرتك مكبر الموضوع ، الأمور عمرها ما هتوصل ان حد منهم يؤذي التاني علشاني ، ولا حتى زي ما بتقول يموت بحسرته بسببي !!
ابتسم سالم بسخرية، ضحكة قصيرة جوفاء خرجت منه بلا روح، وقال بنبرة من يعرف أكثر مما تُدرك:
ـ بيتهيأ لك صدقيني. يا نغم انتي لسة صغيرة ومش عارفه حاجة .. في مقولة بتقول ومن الحب ما قتل ! وأنا بصدقها! الحب أعمى، والغيرة لما بتدخل قلب بني آدم ممكن تغيّره تمامًا، تخليه ينسى أخوه، أبوه، نفسه حتى… وأنا مش هقعد أتفرج على ولادي وهما بيتحولوا لأعداء لمجرد ان واحدة دخلت بينهم .
همّت أن تعترض، ولكنّه كان أسرع منها، قطع عليها الطريق كأنه توقع ردها:
ـ حتى لو مش هتوصل للأذية، لكن العداوة هتفضل بينهم طول العمر ، ولو في احتمال ٥ ٪ انهم يتقبلوا بعض بوجودك مع فريد يبقى أنا بقضي على الاحتمال ده تماما .
جمعت شتات نفسها، حاولت أن تتمسك ببقايا شجاعتها، تلك التي كثيرًا ما تخلّت عنها، لكنها هذه المرة أبت أن تصمت... أن تنهزم.
رفعت عينيها إليه، نظرة مستقيمة وإن كانت واهنة في ثباتها، وقالت بنبرة خافتة لكنها حاسمة:
ـ أنا آسفة، بس مش هقدر أبعد عن فريد، أنا وفريد بنحب بعض وهنتجوز قريب، وحسن عارف كده كويس وهو بنفسه وعدني انه مش هيأذي أخوه أبدا .. وبعدين حسن ابن خالتي وأنا عارفاه كويس، لا يمكن يخون أو يغدر بحد من دمه .
احتدت ملامحه قليلا، ثم نفث دخان سيجاره بهدوء، وقال بنبرة تهكمية :
ـ كنت عارف على فكرة إنك مش هتوافقي بالساهل، ما هو فريد مش فرصة تتساب بسهولة بردو ..
راودها شعور خفي بالمهانة في نبرة صوته... شيء ثقيل بين السطور لم تستطع تجاهله، نظرت إليه بعجز، كأنها تنتظر صفعة لا تعرف متى ستقع.
وبهدوء مريب، مد يده إلى الجيب الداخلي لسترته، وأخرج ملفًا صغيرًا أنيق الشكل، ثم ناولها إياه دون أن تنبس ببنت شفة.
تناولت الملف من يده بارتباك، تساؤلات كثيرة تعصف بذهنها، فقالت بنبرة مرتعشة:
ـ إيه ده ؟!
ـ بعد ما أمشي من عندك اقعدي وشوفي الفيديو ده مرة واتنين وتلاتة، وحاولي تتخيلي شكل فريد هيكون عامل ازاي لو الفيديو ده وصله وشافك وانتي بتسرقي ..
ارتج قلبها، وانكمشت ملامحها من الذهول، كأنما تجمدت الكلمات على لسانها، وبدأت الدموع تتجمع في عينيها دون إذن.
لكن صوته ظل يخترق صمتها:
ـ هل تعتقدي أنه هيفضل مكمل معاكي ؟! نظرته ليكي بعد الفيديو هتكون هي نفس نظرته ليكي دلوقتي ؟! هيفضل فخور بيكي وشايفك الزوجة المناسبة والأم اللي تصلح تربي أولاد فريد مرسال ؟!
لم تحتمل وقع كلماته... لم تحتمل أن ترى الصورة التي يرسمها أمامها.
وانفجرت بالبكاء، بلا مقاومة، كأنها سقطت فجأة من هاوية الألم إلى قاع العجز، وراحت دموعها تنساب في صمت مؤلم .
ـ مكنتش حابب أستعمل الأسلوب ده معاكي لكنك اضطرتيني.. اسمعيني يا نغم ، جايز تكوني بتحبي فريد بجد، وجايز هو بيحبك فعلا، لكن لازم تعرفي إن الحب مش كل حاجه ، والانسان اللي دايما بيحسب كل شيء بالعاطفة ده انسان فاشل !
رفعت نظرها إليه ببطء، صمتها أبلغ من الكلام، ونظراتها كانت كفيلة بأن تسكب عليه كل ما تحمله من رفض واحتقار. لكنه لم يتأثر، بل ابتسم ابتسامة باردة متغافلة وقال:
ـ عارف إنك دلوقتي بتقولي في نفسك إني انسان قاسي وظالم، بكسر قلب ابني بايديا ، بس الحقيقة اللي مسيرك هتعرفيها لما تقابلي ابن الحلال المناسب وتتجوزيه وتكوني أم… إن الأب والأم أحيانا بيضطروا يعملوا حاجات تبدو قاسية جدااا ، لكن هما واثقين بخبرتهم ونظرتهم المبعدية للأمور إن ده هو الصح لولادهم .
ثم مد يده بإيماءة مسرحية، كأنه يرسم أمامها مشهدًا فلسفيًا، وقال بنبرة ادّعى فيها الحكمة:
ـ أوقات الدكتور الجراح بيضطر يفتح قلب ابنه بإيديه عشان يعمل له عملية وينقذه من الموت ، هل هو أب سيء إنه بيؤلم ابنه بإيديه؟ أكيد لأ .. لكنه مضطر .. نفس الشيء ، أنا مضطر .. فريد هيحزن يوم يومين لكن هينسى.. هينشغل مع اخواته وشغله وحياته وهيقابل غيرك وحياته هتكمل عادي.. كذلك انتي.. الحياة عمرها ما بتقف على حد صدقيني .
نهض معلنًا انتهاء الحوار بينهما ، ثم نظر إليها وقال وهو يحاول أن يلقي الكرة بملعبها :
ـ فكري وخدي قرار على مهلك، بس يا ريت تكوني فاهمة إن اللي بيحب حد بجد بيضحي علشانه، وتضحيتك علشان فريد يحسن علاقته بأخوه هتكون أكبر دليل على حبك ليه .. لأن لو حصل وكملتوا سوا مش هتكوني مرتاحة ولا سعيدة أبدا وانتي شايفة حياته مع أهله كلها مشاكل وعداوات بسببك ..
ثم تحرك بخطى ثابتة نحو الباب، خطواته توحي بأنه واثق من النتيجة، وكأن كلماته ستظل تتردد داخلها حتى تستسلم لها.
وقبل أن يغادر تمامًا، توقف عند العتبة، ألقى عليها نظرة جانبية وعلّق بنبرة حذرة لكن صارمة:
ـ طبعا مش محتاج اقول لك ملوش داعي فريد يعرف بالزيارة دي، لأن وقتها هيتمسك بيكي أكتر عندًا فيا .. وبدل ما كان بيكره أخوه بس، بفضلك هيبقا بيكره أخوه وأبوه ..
ثم التفت أكثر نحوها، ونظر إليها نظرة صارخة في هدوئها، قاسية في صمتها، نظرة حملت كل معاني السيطرة والتهديد، قبل أن ينطق بكلمته الأخيرة:
ـ و بردو مش هتتجوزيه !
ـ ـ ـ عودة للحاضر ـ ـ ـ
لم يجد بدًا من مواجهتها ، حتمًا ولا بد ستعترف .. ستخبره بكل شيء الآن .
صف السيارة على جانب الطريق ، ثم التفت إليها وناداها ..
ـ نغـــم …
كرر نداءه مرة واثنتين وثلاثة.. فجاء محملا بنبرة انفعالية قليلا، مما جعلها تنظر إليه باستغراب وتساءلت بهدوء :
ـ نعم ؟!
ـ نعم إيه ؟!
قالها ثم زفر بضيق سافر، وتابع:
ـ اسمعي.. الحكاية مش حكاية تعب ولا مغص ولا أي كلام من ده ، في حاجه حصلت ولازم أعرفها دلوقتي حالا .
ـ أنا عاوزة أرجع البيت !
قالتها بهدوء وتبلد استفزه كثيرا ، فقال بانفعال كاد يدفعه إلى حافة الجنون :
ـ مش هتحرك خطوة قبل ما تتكلمي، في إيه بالظبط ؟! حصل إيه ومخبيه عني ؟!
ـ مفيش حاجة .
مسح على وجهه بكلتا يديه بغضب وهو يهمس :
ـ يا الله يا ولي الصابرين .. اتكلمي يا نغم وقولي اللي حصل بالظبط عشان أنا صبري نفد من أول اليوم .. انطقي !
فتحت الباب المجاور لها، ترجلت من السيارة ووقفت مستندة بظهرها إليها، فلحق بها، وقف أمامها وجها لوجه، يحاول أن يقرأ ملامحها، أن ينفذ إلى دواخلها من خلال عينيها، لكنها كانت تتهرب من نظراته، تزيح بعينيها في اتجاهات أخرى، فقال:
ـ بصي لي يا نغم واتكلمي ، فيكي إيه ؟! طيب بتعيطي ليه ؟! طيب تعالي نروح دلوقتي للدكتور لو انتي بتعيطي من التعب فعلا !! اتكلمي قولي أي حاجه متسيبينيش أهاتي مع نفسي كده كتير .. !!
رفعت عينيها أخيرًا نحوه، شفتاها ترتجفان، كأن كل حروف العالم عالقة خلفهما، لا تريد أن تخرج. كانت تنظر إليه وكأنها تحفظ ملامحه للمرة الأخيرة... لأنها تعلم جيدًا أن هذه هي اللحظة الأخيرة التي سترى فيها وجهه.
أما هو، فكان غارقًا في حيرته، يبحث في وجهها عن أي تفسير، عن أي خيط يرشده لما يحدث، وما إن طال صمتها حتى قال بصوت خفيض، كمن بدأ يشك:
ـ انتي مخبية عليا حاجة بخصوص حسن مش كده ؟!
ارتسمت على وجهها علامات الدهشة، للحظة اعتقدت أنه ربما علم بزيارة والده، لكن ظنه لم يكن في هذا الاتجاه، فقد استكمل على الفور:
ـ أنا شفت نظراتك ليه في المعرض كانت كلها غضب واشمئزاز ، أكيد هو حاول يضايقك!
ـ لأ .. مفيش حاجه من دي حصلت.
زمّ شفتيه بنفاد صبر، وزفر بقوة، كأن صدره يضيق بكل ثانية تمر، ثم تمتم بصوت خافت مستغفرًا، يحاول كبح جماح غضبه المتصاعد، لكنه سرعان ما فقد توازنه الداخلي وقال بعصبية تكاد تنفجر من بين حروفه:
ـ كدّابة... أنا متأكد إن الحيوان ده عملك حاجة مخلياكي مش طبيعية.
تحرك بخطوات سريعة نحو السيارة، وكأنه على وشك اقتراف شيء لا رجعة فيه. رأت في عينيه نية لا تعرف مداها، فارتعدت وسارعت تقول بصوت ملهوف مرتعش:
ـ انت هتعمل إيه؟!
توقف، نظر إليها بعينين تشتعلان، وأجاب من بين أسنانه:
ـ هروح له... لازم أعرف إيه اللي عمله فيكي ووصلك لكده!
تقدمت خطوة، تحاول أن توقف زحف النار بداخله، وقالت بصوت متوسل:
ـ حسن معملش حاجة... صدقني، كل الحكاية إني…
أشاح بوجهه جانبًا، يحاول السيطرة على نفسه من جديد، ثم عاد ينظر إليها بعينين يوشك الدمع أن يطالهما من شدة الضغط، وقال بصبر متكلف:
ـ إنك إيه؟!
نظرت إليه مطولًا... في عينيه، في وجهه، كأنها تودعه بصمت، ثم تهدلت ملامحها فجأة، وارتخى كتفاها فيما يشبه الانهزام، وقالت بصوت خافت ميت النبرة:
ـ مش عاوزة أكمل.
توقف الزمن... تجمد الهواء حوله، حدّق بها بذهول لا يصدق أذنيه، ثم هز رأسه كمن يطلب توضيحًا، يتشبث بأمل أنها لم تقصد ما قالته، وسأل بصدمة:
ـ مش إيه؟! مش عاوزة تكملي؟!!!
نظرت إلى الأرض بخضوع، ثم أومأت بخفة بالكاد تُرى. وما إن لمح تلك الإيماءة، حتى استدار ناحيتها فجأة، رفع وجهها نحوه بعنف، وحدّق في عينيها بغضب متأجج، وصوته يخرج كصفعة:
ـ مش عاوزة تكملي إزاي يعني؟! مش عاوزة تكملي إيه بالضبط؟! هو إحنا بنلعب؟!
أغمضت عينيها، تحاول الهرب من شرار نظراته، لكنها لم تنجُ، إذ أمسك بوجهها وأجبرها أن تنظر إليه مباشرة، وقال بنبرة آمره:
ـ انتي هتسكتي تاني؟! اتكلمي! إيه اللي مش عاوزة تكمليه؟!
ترددت، لكن صوتها خرج أخيرًا ضعيفًا، منكسرًا، بالكاد يُسمع:
ـ فريد...
اتسعت عيناه في ذهول، وأمسك بذراعيها، يهزها قليلًا وكأنه يحاول أن يوقظها من وهمها:
ـ فريد إيه؟! انتي واعية لكلامك؟! يعني إيه مش عاوزة تكملي؟!
أجابت وهي تشيح بوجهها، كأنها تخشى أن تنهار تمامًا إذا نظرت إليه أكثر:
ـ ده الصح... إحنا مش هينفع نتجوز. في أسباب كتير تمنعنا.
ضحك ضحكة جافة، ممزوجة بالتهكم والانكسار في آن، وهز رأسه ببطء:
ـ والله؟! زي إيه بقى الأسباب دي؟! ممكن أعرف؟!
نظرت مجددًا إلى الأرض، تتفادى نظراته، تتفادى الحقيقة. أما هو، فكان قد بدأ يفقد الأمل في سماع إجابة واحدة صادقة، فاستدار مبتعدًا خطوة بخطوة، يتحرك في محيطه كمن يحاول أن ينجو من الجنون .
مدّ كلتا يديه، يمررهما على رأسه ووجهه بتوتر عارم، كأن عقله على وشك الانفجار من فرط الضغط، من هول الصدمة. كان يتنفس بصعوبة، وكل حركة من جسده تنطق بعجزه عن التصديق.
خلفه، كانت هي واقفة، تتأمله بصمت موجوع. نظراتها تائهة بين شعورها بالعجز والرغبة في البكاء. أرادت لو اقتربت... لو مدت يدها وربتت على كتفه، لو اعتذرت، لو همست له بالسبب الحقيقي، لو أخبرته أنها تفعل ذلك لكي يحتفظ بالصورة النقية التي رسمها لها في مخيلته كما هي .
كانت تعرف أن الحقيقة ستطعن رجولته، ثقته، قلبه. وإن حدث، لن تبقى هي كما كانت في عينيه، ولا حتى في عين نفسها. كانت تخشى عار انكشافها أكثر من أي شيء، تخشى أن تصبح في نظره مجرد سارقة محترفة، إضافة لماضيها المخزي معه والطريقة التي تعرفت عليه بها .
ربما كانت تستطيع العيش بدونه... لكن أن تعيش بعد أن تسقط من نظره؟ مستحيل.
كانت ستنزف خجلًا كلما التقت عيناها بعينيه، وربما... ستموت بعارها قبل أن يلفظ هو أي كلمة.
ولهذا، كان لابد أن تختفي، أن تختار الهروب بكرامتها الممزقة، على أن تمزقها يد الحقيقة أمامه.
التفت وعاد إليها، وقف أمامها يرجوها أن تخبره الحقيقة :
ـ علشان خاطري اتكلمي .. حسن هددك بأيه ؟! قاللك انه هيحاول يأذيني لو مبعدتيش عني مش كده ؟! ده السبب ؟!
هزت رأسها برفض، فقال بتشوش وتشتت:
ـ طيب ….. هددك بأي حاجة تانية ؟!
قطبت جبينها باستنكار وقالت :
ـ حاجة تانية زي إيه ؟!
بسط ذراعيه أمامها بنفاذ صبر وقال وكأنه يرجوها لتريحه من دوامة الشك :
ـ مش عارف.. أنا مش عارف حاجة ..
ودت أن تقطع الطريق أمامه تماما، لذا قالت بقسوة مفتعلة :
ـ لا تانية ولا تالتة، أنا فكرت مع نفسي وخدت قرار ، أنا وانت مش هينفع نتجوز .. حياتنا مش راكبة على بعضها، لو اتجوزنا مش هنعيش مبسوطين، علشان كده من الأحسن ان كل واحد يروح لحاله .. انت مسيرك هتقابل اللي تناسبك، وأنا كمان ..
قاطعها حين أمسك برسغها بقوة ، ونظر إليها محذرًا إياها من تكملة تلك الحماقة التي تتفوه بها.. وفجأة.. ضرب زجاج نافذة السيارة بقبضته مفرغًا غضبه والجحيم المستعر بداخله .
صرخت بصدمة، واقتربت منه بلهفة وهي تنظر إلى يده وهو يسحبها من بين شظايا الزجاج، وقد تسرب الدم من موضع الجرح ببطء. أمسكت يده بخوف، تتفحصها في فزع، وهي تردد بصوت مرتجف:
ـ ايدك اتجرحت جامد.. لازم تروح مستشفى!
كان ينظر إلى لهفتها بمرارة، وداخل عينيه خيبة أمل لا توصف… كيف يمكن لإنسانة تحبه بهذا القدر، أن تختار الرحيل عنه؟! كيف لدموعها ولهفتها أن تكون صادقة، وقلبها يخذله في اللحظة التي كان يحتاجها فيها أكثر من أي وقت؟
لم تكن نظراتها تمثل، لم يكن ذاك القلق زائفًا… لم يكن الحب الذي رآه في عينيها وهْمًا.
وبينما هو غارق في هذا الصراع، سحبت الوشاح الخفيف عن رأسها دون تردد، ولفته حول جرحه بيدين مرتعشتين ودموع منهمرة، لكنه سحب يده من بين يديها فجأة، ونظر إليها بعينين لا تحملان سوى وجع مختنق، وهمس باقتضاب:
ـ مش مستاهلة…
عاد إلى السيارة وهو يحكم ربط الوشاح حول يده، وجلس خلف مقعده بصمت مطبق، أدار المحرك، فاستقلت السيارة بدورها، ونطقت بما لا يدع مجالا للتراجع:
ـ عايزة أرجع البيت .
سيكون كاذبًا إن قال أنه لم يكن متأملا أن تتوقف عن جنونها لآخر لحظة، ولكن عندما رأى اصرارها على موقفها أومأ موافقا بصمت، وانطلق متحركًا صوب المنزل .
قاد الطريق لحوالي نصف ساعة صامتًا، وبجواره هي لم تتفوه بحرف، حتى دموعها تجمدت ، إلى أن وصل إلى المنزل، أوقف السيارة ثم نظر إليها يرجوها في داخله أن تقول شيئا آخرا .. أن تخبره أنها أخطأت، أنها تراجعت ..
فنظرت إليه، وقالت بنبرة تحمل من الوجع ما يعجز عن وصفه الكلام:
ـ أنا آسفة.
كلماتها انزلقت كخنجر مغلف بالحنان… لم تكن اعتذارًا فقط، بل وداعًا أخيرًا، إعلان هزيمتها أمام شيء لم تستطع البوح به.
ظل ينظر إليها، لا يتحرك، لا يرمش، كأن الزمن تجمّد للحظة على اعتاب هذا الفقد، ثم تنفس ببطء وكأنه يحاول ابتلاع مرارة الجملة دون أن يختنق بها .
فتحت باب السيارة، ترجلت دون أن تنتظر رد، ولم تنظر خلفها، ولكنها تجمدت حين سمعته يبلغها برده أخيرا قبل أن تغادر :
ـ أسفك مش مقبول يا نغم .
أغمضت عينيها تعتصر وجعًا، وكأن كلماته قد صفعتها بقوة لم تتوقعها، فاهتز لها قلبها قبل جسدها. لم يكن ردّه مجرد جملة عابرة، بل كان حكماً بالإعدام .
ارتعشت شفتيها، وكادت تلتفت… لكنها ثبتت قدميها في الأرض، وكأنها تجاهد ألّا تنهار، ألّا تعود باكية ترجوه أن يسامحها، أن يفهم ما لا يمكن قوله.
تركته وتحركت نحو منزلها، بينما هو بقي في السيارة، يحدّق أمامه في اللا شيء، يتمتم لنفسه لئلا يتراجع :
ـ أسفك مش مقبول أبدا .
******
#يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق