رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع عشر 19بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع عشر 19بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ١٩ ـ
~ رشوة !! ~
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجل فريد من سيارته وعيناه تقدحان شررًا، الغضب يتملّكه حتى يكاد ينفجر، كأن نارًا تستعر في صدره لا يُطفئها إلا المواجهة.
اندفع نحو الداخل كالسهم، خطواته متسارعة، وكل نبضة في صدره تدفعه للأعلى. تجاهل تحية "زينب" التي فوجئت بمروره المشتعل، ولم يلتفت لها، فقط كان يتقدم، يصعد الدرج كما لو كان كل سُلَّم يحمله نحو بركان الغضب.
ما إن وصل للطابق العلوي حتى وقف أمام غرفة حسن، وطرق الباب بعنفٍ ينمّ عن عزمه كسره إن لم يُفتح، وفور أن فتح حسن الباب، اندفع فريد إلى الداخل كالعاصفة، وعيناه تتقدان بالجنون، وصوته ينفجر كالقنبلة:
ـ عاوز إيه من نغم يا حسن؟!
ارتفع حاجبا حسن بدهشة واستنكار، ونظر إليه مشدوهًا وهو يقول:
ـ وأنا هعوز إيه من نغم يا فريد؟! وبعدين في إيه مالك؟! إيه الطريقة دي؟! جاي وواخد في وشك كده؟! في إيه؟
رد فريد بعنف، والشرر يتطاير من عينيه:
ـ أنا اللي مفروض أسألك في إيه؟! عملت إيه لنغم؟ ولا قلت لها إيه؟
تزايدت حيرة حسن، وارتفعت نبرته تدريجيًا وهو يرد:
ـ أنا؟!! أنا لا قلت ولا عملت ولا شفت نغم من يوم ما سيبت البيت غير النهارده معاك في المعرض، هو في إيه بالظبط؟!
حاول فريد كبح جماح غضبه، فسحب نفسًا طويلًا وأخرجه ببطء، قبل أن يوجه إصبعه نحو حسن بتحذير حاسم وصوت غاضب:
ـ اسمع، أنا مش هسمحلك تحاول مجرد محاولة إنك تبعدها عني، أنا عارف انت بتعمل إيه كويس، ومش هديك الفرصة تعبي دماغها بحاجات ملهاش وجود.
في تلك اللحظة، اقتحم "عمر" الغرفة وقد جذبته أصوات الصراخ، وقال مستنكرًا:
ـ في إيه يا جماعة؟! مالكم صوتكم عالي ليه؟!
توقف باندهاش حين رأى يد فريد ملفوفة بوشاح ملطخ بالدم، فسأل بقلق:
ـ إيه ده؟ مالها إيدك؟
لكن فريد كان غارقًا في دوامة غضبه، حتى أنه لم يسمع السؤال. أما حسن، فظل ينظر إلى أخيه مذهولًا من اتهاماته، عاجزًا عن إيجاد تفسير، إلى أن قال بصوت مثقل بالخذلان:
ـ لأ، انت مش عارف حاجة يا فريد.. اللي انت بتقوله ده أوهام في دماغك، أنا لا بحاول أبعدها عنك، ولا بعبي دماغها بحاجات زي ما بتقول.. نغم بقت بالنسبة لي زي نسيم بالظبط.
ظهر على وجه فريد استهزاء ساخر، لكنه كان يقطر ألمًا، ثم اقترب منه خطوة كمن يتجاوز خط النار، وهتف بانفعال:
ـ ابعد عن نغم أحسن لك يا حسن، علشان أنا مش هسيبك تأثر عليها..
ثم أشار إلى صدره، وكأنها ملك له، وقال:
ـ نغم ليا أنا وبس.. فاهم ؟!
وأشار بأصبعه إلى عقل حسن، مضيفًا بتهكم :
ـ حط الكلمتين دول في دماغك واعقلهم كويس، شغل الصعبانيات اللي انت بتعمله ده مش هيخيل عليا، أنا فاهمك كويس!
هنا، تغيرت ملامح حسن، لم يعد وجهه يحمل صدمة أو وجع، بل جمودٌ عائد من زمنٍ قديم. فردّ بنبرة حادة، يتكلم بثباتٍ كاد يفتك بالجميع :
ـ لا أنا مش بعمل شغل صعبانيات يا فريد، ولا يلزمني، قلت لك نغم بقت بالنسبة لي زي نسيم، زي أختي، لا عاوز منها أبيض ولا أسود، عاوز تصدق صدق، مش عاوز براحتك.
في هذه الأثناء، كانت چيلان قد عادت من عملها، ليجذبها صراخهم فتتوقف عند الباب، تنظر إليهم بدهشة، ثم تستقر نظرتها على فريد، وتراه كما لم تره من قبل.
رجلٌ كانت تراه دائمًا قويًا، قائدًا، حاسمًا لا يهتز، ها هو الآن يقف محطمًا، يوشك على الانهيار، يتشاجر مع شقيقه بضراوة من أجل فتاة لا تستحق أن تكون في عالمه من الأساس…
في تلك اللحظة، كان سالم قد عاد لتوّه من الخارج، وما إن دخل المنزل حتى استوقفه صوت الجدال الحاد المنبعث من الطابق العلوي. رفع رأسه بقلق وقد بدا الصوت واضحًا، متشابكًا بين نبرتين يعرفهما جيدًا.
ثم التفت فوجد زينب تقف عند مقدمة الدرج من الأسفل، تنظر إلى الأعلى بعينين ممتلئتين بالقلق، تضع يدها على قلبها وكأنها تحاول تهدئته من فرط التوتر، بينما تتمتم بدعاء خافت:
ـ يا رب… يا رب استرها وعدّيها على خير…
تبادل معها النظرات للحظة، وكان كل ما قرأه في وجهها هو الخوف.. الخوف من أن يتفاقم الأمر لما لا يُحمد عقباه.
أسرع سالم يصعد الدرج وهو ينادي بصوته الجهوري، الذي طالما فرض النظام في المنزل دون كثير جدال:
ـ إيه اللي بيحصل فوق؟!
كان صوته حازمًا، مشبعًا بالغضب أكثر منه تساؤل، وما إن اقترب من الغرفة حتى التفت إليه الجميع، وكأن حضوره أعاد بعضًا من التوازن الذي كان مفقودًا.
وقف على العتبة، ينظر إلى فريد وهالة الغضب التي تحيط به، ثم إلى حسن الذي بدت عليه علامات التحدي والخذلان، وأخيرًا إلى عمر الذي وقف في المنتصف محاولًا تهدئة الأجواء دون جدوى.
ثم قال سالم بصوت عميق مفعم بالصرامة:
ـ إيه اللي بيحصل؟! حد فيكم يشرحلي! صوتكم عالي ليه؟
لكن لا أحد تحدث، وكأن الزمن تجمد للحظة، سوى أنفاس متسارعة وأعين تتجنب النظر المباشر إلى بعضها البعض.
أول من نطق كان حسن، الذي تنفس بعمق، ثم قال دون أن يلتفت:
ـ مفيش حاجة، فريد كان عنده سؤال وعرف جوابه خلاص.
رفع سالم حاجبه في تعجب، وضيق عينيه وهو يحاول أن يفهم حقيقة ما يدور أمامه. نظر مباشرة إلى فريد، فوقع بصره على الوشاح الملفوف حول يده، والدم الذي لطّخ أطرافه، فتجاهل نبرة الغضب السائدة وتساءل بهدوء متعمد:
ـ مالها إيدك؟
لكن سؤال والده لم يُطفئ النيران المشتعلة في صدر فريد، بل أعاده مجددًا إلى قمة انفعاله. زفر بعنف، ثم حوّل عينيه الحادتين صوب حسن، يطلق كلماته كقرارات نهائية لا رجعة فيها:
ـ أنا قلت اللي عندي، نغم خط أحمر يا حسن…
ورفع سبابته في وجهه بتحذير صارم، وأضاف بصوت غاضب تخلله قسم غليظ:
ـ أقسم بربي، لو شفتك جنبها أو عرفت إنك بتحاول تحوم حواليها من جديد، هنسفك! ولا يهمني وقتها إنت مين.
ارتجف جوف حسن، لا من الخوف، بل من الصدمة التي خلفتها قسوة تلك الكلمات… قسوة لم يتوقعها يومًا من شقيقه، قسوة مشبعة بالكره والنفور، وكأن العلاقة التي بينهما لم تكن يومًا أخوية.
أما سالم، فقد كانت عيناه تتنقلان بين ولديه، وقلبه يدق بتوجس حقيقي، إحساسٌ لا يشبه ما اختبره من قبل… كان يعلم أن هذه اللحظة لن تمر ببساطة، أن ما يراه الآن ليس خلافًا عابرًا.
قبل أن ينبس بكلمة، كان حسن قد التقط طرف الحديث، محاولًا أن يحبس ما تبقى من صبره، رغم أن كلماته كانت مغلفة بمرارةٍ لا تخفى، وابتسامة ساخرة تسكن على طرف فمه:
ـ وماله! اللي انت عايزه يا فريد بيه… مش هتشوفني جنبها أبدًا، مش هحوم حواليها، حاضر.
ثم تقدم خطوة، لتخفت السخرية وتحل محلها نبرة غليظة، باردة، وهو ينظر في عيني فريد نظرة جامدة خالية من أي دفء، وقال بحدة:
ـ بس مش عشان دي أوامرك، ولا عشان أنا خايف من تهديدك… لأ، عشان انت أخويا. وأنا عمري ما هفضّل أي حد مهما كان على أخويا.
توقف الزمن للحظة، للحظة واحدة فقط شعر فيها بوخز خفيف في أعماقه، إحساس خافت بالخزي كاد يطفو، لكنه وئده بسرعة، تجاهله كما اعتاد دائمًا أن يتجاهل ما يربكه.
نظر إليه بنظرةٍ يملؤها الاستخفاف، وكأن كل ما سمعه لا وزن له، وقال ساخرًا وهو يكمل بسخرية لاذعة:
ـ أخوك؟!
كان الغضب يغلي في صدر فريد، كأنه وقود يحترق ببطء. في عينيه صورة نغم وهي تترك يده فجأة، في لحظةٍ لم يكن يتخيل فيها أن تختار سواه. اختزل كل ذلك الألم في شخص واحد، في ذلك الذي يسميه "أخيه"، فانطلقت كلماته مسمومة، مدفوعة بالحقد والانهيار:
ـ انت صدقت نفسك ياد انت ولا إيه؟! أنا ميشرفنيش يكون لي أخ ابن حرام زيك!
تجمد حسن في مكانه، اتسعت عيناه، كأن الكلمة التي سمعها أطاحت بكل ما تبقى له من اتزان. لم يصدق أذنه، لم يتخيل يومًا أن تصدر من فم أخيه مثل هذه الإهانة. تقدم منه بخطوة، يتساءل مذهولًا:
ـ انت قلت إيه؟!
وأشار إلى نفسه، كأنه يطلب توكيدًا على الكارثة التي سمعها للتو:
ـ أنا ابن حرام؟!
ثم، كأن صاعقًا ضربه، انقض على فريد فجأة دون سابق إنذار، ونطحه برأسه في جبينه، فارتد فريد للوراء متألمًا، وقبل أن يستوعب ما جرى، عاجله حسن بلكمة صاعقة استقرت في فكه، وهو يهتف، والصدمة تزلزل صوته:
ـ أنا ابن حرام؟!
هرع سالم على الفور وتوسط بينهما محاولًا تهدئة الموقف، بينما كان عمر قد أمسك بذراعي حسن محاولًا كبحه وهو يسحبه بعيدًا عنه.
صاح سالم بانفعال حاد، غير مصدقًا ما يجري:
ـ بس انتوا الاتنين، إيه اللي بتعملوه ده؟! انتوا خلاص اتجننتوا؟!
كان فريد يزمجر كوحش غاضب، يحاول الإفلات من يد أبيه التي حالت بينه وبين حسن، بينما سالم ينظر في وجهه غاضبًا وهو يقول :
ـ إيه اللي انت هببته ده انت كمان؟! ازاي تقول لأخوك كده؟! اعتذر له حالًا.
لكن فريد لم يسمع، لم ير، لم يشعر سوى بالدماء التي تغلي في عروقه. كانت عيناه مسمرتين على حسن، مستعدًا لمواصلة الاشتباك وكأن الحرب قد بدأت لتوها. أما سالم، فكان يصرخ في الخلفية بقلب ممزق:
ـ بتعملوا في بعض كده ليــــه؟! عشان حتة بت متسواش نِكلة؟!
التفت كلاهما نحوه في آنٍ واحد، نظرات صادمة، ناقمة، أثارت فيه الخوف لأول مرة.
ـ إيــــه!! هتضربوني؟! ما كل واحد فيكم يلطشني قلمين لو الكلام مش عاجبه؟! دي أخرتها؟! ولاد سالم مرسال واقفين في وش بعض وبيتخانقوا عشان واحدة؟!
عاد حسن بناظريه نحو فريد، وقد انطفأت فيه آخر بقايا الاحتمال، وتحول صبره إلى وعيدٍ صريح، فهتف بكلمات تملأها النية القاتلة:
ـ أقسم بالله، لو اتكررت، ما هعمل حساب لأنك أخويا، وهدفنك حي يا فريد!
انتزع جسده من بين يدي عمر بقوة، وانطلق إلى الدرج، يهبط درجاته بخطوات غاضبة، حتى اختفى عن الأنظار. وقف عمر يتلفت بينهما، لا يعرف أيهما يحتاج أن يلحق به أولًا، لكن صوت والده صرخ من خلفه، آمرًا بانفعال:
ـ انت مستني إيه؟! وراه!!!
لكن فريد لم يتحرك، بل تراجع خطوة، ونظر إلى والده بعينين تشتعلان بالرفض والوجع، وقال بحدة جازمة:
ـ لو خايف عليه، خليه يبعد عن طريقي أنا ونغم.
ثم اندفع بدوره إلى الخارج، يغادر المنزل والغضب يتصاعد منه كبركان على وشك الانفجار.
أما سالم، فقد بقي واقفًا في مكانه، نظراته تائهة نحو الدرج، قلبه يطرق صدره بعنف، كأن كل نبضة فيه تحمل ألمًا لا يُحتمل. رفع يده إلى موضع قلبه، وكأنها محاولة أخيرة للنجاة، لكن الألم كان أعمق من أن يُحتمَل...
وفجأة... هوى جسده على الأرض.
ـ أنكل سالم!
هتفت بها چيلان بفزع ، وهي تقف مذهولة على عتبة باب غرفتها، تتابع المشهد الذي انقلب إلى كارثة أمام عينيها. وفي اللحظة التي سقط فيها جسد سالم على الأرض، هرعت نحوه مسرعة .
في تلك الأثناء، كانت نادية تتابع ما يجري من خلف باب غرفتها، صامتة، يعتصرها الغضب والكبرياء، ترفض أن تنخرط في ذلك المشهد السخيف بين زوجها وأولاده — هكذا كانت ترى الأمر. لم تكن لتخرج، حتى حين علت الأصوات واشتد التوتر، لكنها ما إن سمعت نداء ابنتها المذعور حتى فزعت بدورها، واندفعت خارجة بسرعة غير معتادة، وقد تبدلت ملامحها كليًا، ثم هتفت بقوة:
ـ زينب.. اطلبي الاسعاف فورا.
༺═────────────────═༻
استفاقت نسيم من غفوة دافئة امتدت لساعتين تقريبًا، وقد استكانت طوالها بجوار عاصم. فتحت عينيها على مهل، ثم التفتت برأسها لتطالعه، فوجدته ينام بهدوء خلفها، أنفاسه العميقة تدل على سُبات عميق.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة، امتزجت بالامتنان والحب، ومدّت أناملها بلطف تتحسس شعر لحيته الذي بدأ ينمو من جديد، ثم راحت أطراف أصابعها تتجول بخفة فوق ملامحه — حاجباه الكثيفان، جفناه المطبقان، أنفه الدقيق، وشفتيه الممتلئتين.
لكنها سرعان ما انتفضت فجأة عندما أحست بأسنانه تقبض على إصبعها بعضة خفيفة مباغتة، فقهقهت ضاحكة وهي تسحب يدها قائلة:
ـ انت صاحي وبتستعبط؟!
فتح عاصم عينيه ونظر إليها مبتسمًا، ثم أسند كفه إلى وجنتها، ومال نحوها ليطبع قبلة رقيقة على أنفها وهمس:
ـ صحيت وانتي بتستكشفيني..
ابتسمت من أعماقها، وظلت تنظر إليه نظرات ناعمة تقول الكثير دون أن تنطق، كما لو أن صمتها يحمل كل الاعترافات التي لم تُقال بعد.
أما عاصم فكان يتأمل ملامحها كما لو أنه يراها للمرة الأولى... أو ربما يراها الآن بعين قلبه أكثر من عينيه. جمالها لم يكن في ملامحها وحدها، بل في الأمان الذي تحمله، في دفء قربها، في طمأنينة لم يعهدها إلا معها.
مدّ يده والتقط كفها برفق، رفعه إلى شفتيه وقبّل باطنه بافتتان، ثم أسنده برقة على وجنته الخشنة وهمس بنبرة مدهوشة:
ـ انتي جميلة كده ليه؟!
ابتسمت بخجلٍ رقيق وقالت:
ـ يمكن لأنك بتحبني شايفني جميلة.
هز رأسه نافيًا، وقال بشغف لا يشوبه شك:
ـ لأ.. الحكاية مش كده، انتي فعلاً جميلة... انتي كتير عليا يا نسيم.
اهتز شيء في داخلها، تقلص حاجباها تأثرًا، لكن نظراته أكّدت صدقه، فتابع بصوت أكثر دفئًا:
ـ انتي كتير على أي حد... أنا ربنا عوضني بيكي عن كل اللي خسرته.
تنهدت تنهيدة حب عميقة، ثم اقتربت منه، وطبعت قبلة على وجنته بشغف خافت، وهمست:
ـ أنا اللي ربنا عوضني بيك عن كل حاجة عشتها.
وغامت نظرتها قليلًا، وهي تتذكر.. ماضيها المليء بالخذلان والخوف:
ـ زمان.. كنت بتمنى الموت، كنت شايفة كل حاجة سودا وملهاش معنى. مكنتش فاهمة أنا بتعاقب على إيه، ولا ليه مرفوضة ومكروهة بالشكل ده! كنت عايشة في سجن ومش عارفة هخرج امتى ولا إزاي...
ثم نظرت إليه ممتنة، والدموع تترقرق في عينيها:
ـ لحد ما اتقدمتلي... مكانش عندي وقت أفكر، قلت مهما كان التمن هقبل وأتجوزك. حتى لو كان جحيم، أنا كنت مستعدة... بس أهرب من السجن اللي كنت فيه.
سكنت لحظة، ثم ابتسمت بحنان ممتن:
ـ وكل يوم بيعدي باكتشف إنك كنت طوق النجاة.. الحمد لله إنك أنقذتني.
لم يتمالك نفسه، اقترب منها فجأة، وقد فاض قلبه بمشاعر لا تحتمل التأجيل. قبّل عينيها، ثم وجنتيها، ثم ثغرها، وضمّها إلى صدره بقوة، كأنّه يخبّئها من العالم كله، وهتف:
ـ اوعديني متسيبينيش أبدًا.
فاحتضنته بكل ما أوتيت من حب، وقالت بصدق لا يعرف تزييفًا:
ـ أوعدك مش هسيبك أبدًا.
همس من جديد، والنبرة في صوته تخفي خوفًا أكبر من أن يُقال:
ـ مهما حصل؟
أجابته وهي تغمض عينيها وتتشبث به أكثر، وما يمنحها إياه من حنان وعطف يُسكرها تمامًا، يخدرها فيجعلها تنطق بما تعي أو لا تعي.
ـ مهما حصل.
حاول أن يستمد الطمأنينة من وعدها، لكن القلق ظلّ يتسلل إلى صدره.. يعلم أنه لا يملك القوة لفقدانها، ولا القدرة على التنازل عن حقه، يعلم أنه بين نارين إحداهما فراقها إن اختارت أن تبتعد حين ينال انتقامه، والأخرى أن يخسر ثأره إن قرر أن يحافظ عليها.
هو الآن لا يثق في الحظ ولا في الوقت، فقط يتمسك بوعدها، يتشبث به وكأنه قشة النجاة في بحرٍ هائج من الخوف والاحتمالات، لكنه في قرارة نفسه يدرك... أن بعض الوعود تنهار تحت وطأة الحقيقة.
ضمّها إليه أكثر، كأن بين ذراعيه العالم كله، ولكنها فجأة انتفضت، وابتعدت عنه وأخذت تنظر إليه بعينين متسعتين وهي تقول:
ـ أنا نسيت نغم !!
التفت إليها وقد رفع حاجبيه باستنكار، ثم جذبها نحوه مرة أخرى قائلاً بنبرة تحمل مزيجًا من التعجب والتأنيب:
ـ نغم إيه دلوقتي يا نسيم؟ إحنا في إيه ولا في إيه يا بابا!
ردّت وهي ترفع كفها تستوقف اعتراضه:
ـ استنى بس يا عاصم، مش هينفع ماروحش.
تناولت هاتفها بنفاد صبر، وألقت عليه نظرة سريعة قبل أن تتنهد براحة وتقول:
ـ الحمد لله، لسه في وقت… يدوب أجهز وتوصلني.
زفر بضيق واضح، مما دفعها للالتفات إليه تنظر له بحدة وتسأله:
ـ خير؟! حضرتك عندك اعتراض؟
بدون أن يرد بالكلام، اكتفى برفع حاجبه وجذب خصرها بقوة حتى مالت فوق صدره، ونظر في عينيها بنظرة ماكرة فيها عبث وتحدٍّ، ثم قال:
ـ عندي مليون اعتراض.
انتقل بنظره إلى شفتيها، في حين حاولت هي إخفاء ابتسامتها التي خذلتها، وقالت بنبرة جادة مزيفة:
ـ أولهم؟
رفع وجهه إليها بخفة وطبَع قبلة سريعة على شفتيها قبل أن يجيب:
ـ من هنا ورايح، مفيش طلب ولا اقتراح هيتوافق عليه من ناحيتي… غير برشوة.
ابتسمت رغماً عنها، وإن لم تخفِ لمعة التمرد التي لاحت في عينيها، وقالت بنبرة فيها دلال متحدٍّ:
ـ زي إيه الرشوة دي؟
ضيق عينيه وأخذ يتصنع التفكير، ثم قال:
ـ والله علي حسب الطلب هتتحدد الرشوة، يعني مثلا مشوار زي ده لازم يكون المقابل مجزي وإلا طلبك مرفوض يا فندم .
رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة، وقالت بنبرة تمثّل الاستنكار:
ـ بقى كده؟! يعني كل طلباتي بقى ليها تسعيرة دلوقتي؟
أومأ برأسه مؤكدًا بابتسامة لعوب:
ـ طبعًا، ده نظام جديد.. من غير رشوة، مفيش خدمة!
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تبتسم وترد بخفة:
ـ أوكي.. مشوار زي ده يكلفني كام بالضبط؟
زم شفتيه متظاهراً بالتفكير والصبر، ثم قال:
ـ والله عشان أسيبك تقومي من حضني، دي لوحدها محتاجة بتاع خمس بوسات مثلاً، وعشان بقى أخدك زي الشاطرة وأوصلك بعربيتي... ها… "بعربيتي" دي برضو بخمس بوسات تانيين، إنما بقى عشان أوافق على المشوار نفسه، مع إنه غصب عني الصراحة، بس ما علينا... فدي محتاجة مكافأة كبرى!
لم تتمالك نفسها من الضحك، بينما هو يواصل تمثيل الجدية ويقول:
ـ خدي بالك، العرض ده مش متاح كتير، يعني أي تأخير في التنفيذ هنعتبر العرض لاغي ونشوف عرض غيره .
نظرت إليه تغالب ضحكتها من جنونه الذي لم تدركه سوى الآن، ثم اقتربت منه وطبعت قبلة على وجنته، ثم أخرى على الجهة الثانية، وهكذا حتى أكملت الخمس قبلات. وما إن انتهت حتى وجدت عينيه تتابعانها باستنكار، وهو يرفع حاجبه قائلًا:
ـ إيه ده؟ هو انتي بتبوسي ابن أختك؟!
رفعت حاجبيها باندهاش صادق ونبرة ساخطة، وقالت:
ـ والله؟!
فرد سريعًا، وهو يعتدل في جلسته وكأن الأمر جدي جدًا:
ـ ما تبوسي كويس، في إيه مالك؟!
زفرت بضيق وهتفت به بانفعال:
ـ على فكرة إنت استغلالي وبتخُم!
رد عليها بنفس الجدية المصطنعة:
ـ انتي اللي عاوزة تقلبيني! لازم يكون عندك ضمير على فكرة!
همّت بالنهوض من جواره، لكنه كان أسرع، جذبها نحوه فجأة فسقطت على ظهرها، بينما أخذ يحدق بها ويقول بمكر:
ـ ولو انتي متعرفيش يعني إيه ضمير، أعرّفك!
مال فوقها، لكنّها سبقت رد فعله، انسحبت بسرعة من تحته ليجد نفسه منكبًا على وجهه، وسط ضحكتها المنتشية بانتصارها الطفيف.
رنّ هاتفها، فأشارت إليه قائلة:
ـ دي زينب!
بخفة ومباغتة، انتزع الهاتف من يدها وأغلقه على الفور، ثم تقدّم نحوها مشهرًا قبضتيه بطريقة تمثيلية وكأنه يستعد لملاكمتها، وهو يقول بجدية هزلية:
ـ ولا زينب، ولا نغم، ولا الجن الأزرق حتى، مش هسيبك تعملي أي حاجه قبل ما تسددي المستحقات اللي عليكي الأول.
تراجعت للوراء وهي تضحك بحرارة، ضحكة ألهبت قلبه، وأشعلت فيه رغبة لا تهدأ، زادته تعلقًا وولعًا بها. وقبل أن تهم بالخروج من الغرفة، كان قد ظفر بها مجددًا، واحتجزها بين ذراعيه كجدار لا ينكسر، وهمس بنبرة مجنونة بالعشق:
ـ خليكي متعاونة معايا عشان أسيبك تخرجي، صدقيني أنا في العند مجابتنيش ولّادة.
وضعت يديها على صدره في محاولة لدفعه، لكنه لم يتحرك قيد أنملة، كان ثابتًا كجبل، فتنهدت بعجز، فهمس وهو يطالعها بعينين عاشقتين:
ـ متحاوليش، مش هسيبك.
وحين لم تجد حيلة أخرى، لجأت إلى سلاحها المعتاد... اقتربت منه ببطء، طوقت عنقه بذراعيها، ثم منحت ثغرها له طواعية، كأنها تقدّم له "الرشوة" بطريقتها الخاصة... قبلة تفصله عن العالم، تجعله يظن أن الكون اختُزل في لحظتهما، وأنها خُلقت له وحده.
وفي تلك اللحظة، لم يكن يملك إلا أن يسلّمها قلبه، ووجدانه، وكل ذرة من روحه، كأنما يضعهم بين يديها على طبق من ذهب، مؤمنًا أنها وحدها مفتاح سعادته التي طالما بحث عنها.
༺═────────────────═༻
في المستشفى، أمام وحدة الطوارئ…
وقفت زينب في الممر، تتشبث بهاتفها بين يديها، تحاول الاتصال بأيٍّ من أولاد سالم الأربعة، لكن لا أحد يرد. نظراتها القلقة كانت كفيلة بأن تنقل مدى توترها، وحين خذلها الهاتف مرة أخرى، زفرت بضيق وهمست لنفسها بيأس:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.
على بعد خطوات، كانت نادية جالسة على أحد مقاعد الانتظار، تجلس بجانبها چيلان، وكلتاهما تراقبان زينب التي تتحرك بتوتر ظاهر، وكأنها تخفي أمرًا ما. مالت چيلان ناحية والدتها، وهمست بصوت منخفض:
ـ هي مالها قلقانة كده ليه ومش على بعضها؟ هو أنكل سالم كان من بقية أهلها؟
ردت نادية بنبرة تحمل مزيجًا من الريبة والشك، دون أن تزيح عينيها عن زينب:
ـ مين عارف! سالم ده بير غويط ملوش قرار.
زفرت چيلان بضيق ونفاد صبر، ثم انتفضت واقفة وهي تقول:
ـ أنا اتخنقت، هرجع البيت أخد شاور وأغير هدومي وأجي تاني..
أومأت نادية دون اعتراض، وبينما چيلان تستعد للمغادرة، انفتح باب غرفة الكشف وخرج منه الطبيب، مبتسما ابتسامة مهنية خفيفة وهو ينظر إليهم، ثم قال بنبرة هادئة لكنها حاسمة:
ـ الحمد لله، المريض وصل في الوقت المناسب، حالته مستقرة حاليًا... لكن التشخيص المبدئي هو اشتباه جلطة دماغية.
ارتفعت الحواجب وانحبست الأنفاس، فتقدّمت زينب خطوة نحوه بسرعة وسألت بقلق:
ـ جلطة؟ يعني حالته خطيرة؟
أومأ الطبيب برأسه، ثم قال موضحًا:
ـ هو فقد وعيه بسبب ضغط عصبي شديد، وده تسبب في أعراض تشبه الجلطة الدماغية: تشوّش في الإدراك، ارتخاء طفيف في جانب الوجه، وعدم قدرة مؤقتة على الحركة.
سألته نادية بقلق:
ـ طب محتاج عملية؟
هزّ رأسه نافيًا:
ـ لأ، مش في الوقت الحالي. إحنا دلوقتي في مرحلة الفحص بالأشعة والتحاليل للتأكد، بس أقدر أقول إننا لحقناه قبل ما الجلطة تكتمل، وده في حد ذاته شيء كويس جدًا.
قالت زينب بصوت واهن:
ـ يعني هيكون كويس؟
رد الطبيب مطمئنًا:
ـ ده يعتمد على استجابته للعلاج خلال الـ24 ساعة الجاية. احنا جهزنا له جناح خاص لمتابعة الحالة عن قرب، ولو كل شيء ماشي تمام، ممكن يتنقل بعدها لغرفة عادية.
ثم نظر إليهم وسأل:
ـ ممكن حد من قرايبه يقدر ييجي دلوقتي؟ محتاجين توقيع على بعض الأوراق.
نظرت زينب حولها بتوتر واضح، ثم تمتمت:
ـ أولاده مش بيردوا ..
هنا تحدثت نادية قائلة:
ـ أنا زوجته !
أومأ ثم قال:
ـ تمام، تعالي معايا على المكتب نخلص شوية أوراق مبدئية.
لحقت به نادية، بينما اتخذت چيلان طريقها نحو الخارج، فين حين ظلت زينب جالسة على المقعد بساحة الانتظار، شاردة فيما مضى، تتساءل .. هل يعيد الزمان نفسه ؟!
༺═────────────────═༻
أوقف فريد سيارته أمام منزله، ترجل منها ببطء، وقبل أن يخطو للداخل، توقف لثوانٍ يحدّق نحو باب بيت نغم المقابل، يعتصره شعور عارم بالغضب والرغبة في المواجهة. كأنما تتملّكه رغبة طاغية إما أن يقتلع الباب الآن ويراها، أو يقتلع رأسها من فوق عنقها لينهي هذا الألم الذي ينهشه.
دخل المنزل بخطى متوترة، واتجه مباشرة إلى غرفته، فتح حقيبته وبدأ يحشوها بأغراضه بشكل عشوائي. لم يكن هناك ترتيب، فقط هروب. توجه بعدها إلى الحمام، اغتسل سريعًا، وبدّل ملابسه، ثم عاد والتقط الحقيبة، وخرج مغادرًا بلا تراجع.
عند باب منزله، توقف مجددًا للحظات، نظر نحو بيتها نظرة طويلة مثقلة، كأنه يراها بعينه الآن، منكفئة على نفسها تبكي، منهارة كما لم تكن من قبل. هو يعرف نغم جيدًا، يتخيّل نحيبها بوضوح. لكنها جرحته بما يكفي… ولن يطرق بابها مرة أخرى.
كانت سيارة الأجرة قد وصلت كما طلب، فصعد إليها دون كلمة، وانطلقت به نحو المطار.
أسند رأسه إلى ظهر المقعد، وأغمض عينيه يحاول الفرار من ضجيج قلبه، لكن هاتفه رن فجأة برقم مجهول. أجاب دون حماس، ليأتيه صوت رجل على الجانب الآخر:
ـ فريد بيه؟
ـ أيوة..؟
ـ حضرتك كنت حاجز معانا في الكافيه لحفلة...
قاطعه فريد بحدة، دون انتظار:
ـ الغي كل حاجة.
تردد الرجل لثوانٍ، ثم قال:
ـ طيب لو في رقم حساب نرجع لحضرتك عليه جزء من المبلغ..؟
ـ لأ مش مشكلة… خليهم علشانك.
أنهى الاتصال وأعاد الهاتف إلى جيبه، ثم أغمض عينيه من جديد، لكن الهاتف عاود الرنين، وهذه المرة كان اسم زينب هو الظاهر على الشاشة. تنهد بضيق وأسى وهو يضغط زر الرفض ويتمتم لنفسه:
ـ مش وقتك خالص يا زينب.
حاول أن يشتت ذهنه، ففتح عينيه ينظر من النافذة إلى الطريق الممتد أمامه، السيارات تتسابق، الأشجار تمرّ، لكن لا شيء يمرّ داخله سوى دموع نغم وصوت بكائها، يلحقانه في كل منعطف، يفتّتان قلبه. أغمض عينيه من جديد، محاولًا كتم ذاك الصوت، لكنه كان كصدى لا ينطفئ… فيما الألم في رأسه كان يشتد، كأنه يوشك أن ينفجر.
بعد قليل، كان قد وصل إلى المطار.
دخل إلى صالة السفر بخطى ثابتة، أكمل الإجراءات واحدة تلو الأخرى حتى وجد نفسه بعد ما يقارب الساعة جالسًا في صالة الانتظار، يحدق في شاشة هاتفه وكأنه ينتظر منها أن تتصل.
كان يعلم جيدًا أن مجرد مكالمة واحدة منها، كلمة اعتذار واحدة فقط، كفيلة بأن تغير كل شيء. أقسم بينه وبين نفسه أن يتراجع عن السفر، أن يلقي بكل شيء خلفه دون تردد… فقط لو اتصلت، فقط لو تراجعت.
لكن الوقت مضى، والانتظار طال، والسكوت منها كان أبلغ من أي رفض… أدرك حينها أن عنادها قد بلغ منتهاه، وأن غبائها هذه المرة لن يسمح لها بأن تعود. انتهى الأمر.
رن الهاتف فجأة، فقفز قلبه قبل جسده، تطلعت عيناه سريعًا إلى الشاشة، وفي لحظة عابرة ظن أن أمله تحقق… لكن خاب ظنه حين رأى الاسم ظاهرًا:
"نسيم"
زفر بعمق، ومرر يده على وجهه قبل أن يجيب المكالمة بنبرة متعبة حملت كل ما في قلبه:
ـ أيوة يا نسيم…
وصله صوتها عبر الهاتف، خافتًا ومترددًا:
ـ فريد.. أنا آسفة جدًا والله، راحت عليا نومة وملحقتش أحضر.. بالله عليك متزعلش مني، هعوضها لنغم في أقرب فرصة.
ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، ابتسامة شخص هزمه التعب والانكسار، ممزوجة بحزن عميق كأنها خرجت من قلب مثقَل. تنهد بحرارة، ثم قال بصوت خافت يحمل مرارة الخيبة:
ـ ولا يهمك، مفيش حاجة فاتتك، لأن مفيش حاجة حصلت أصلاً.
تملكها الذهول، فأجابت مستنكرة:
ـ إيه؟! ليه طيب؟!
أطلق زفرة طويلة، وكأنه يحاول بها التخلص من ثقل لا يُحتمل، ثم أجاب بفتور:
ـ مش عارف.
ساد الصمت للحظة، ثم تسللت تساؤلاتها بصوت حذر:
ـ اتخانقت انت ونغم؟
رد بنفس البرود المستسلم:
ـ برضو مش عارف.
مرر يده على وجهه بتعب، يضغط بأصابعه بين عينيه المنهكتين، قبل أن يقول باقتضاب:
ـ لازم أطلع على الطيارة دلوقتي، إن شاء الله لما أوصل هكلمك.
أجابته بلطف قلق:
ـ توصل بالسلامة يا حبيبي، هستناك تطمني.
أومأ رغم أنها لا تراه، لم يجد ما يقوله، فقط أنهى الاتصال بهدوء، ثم صعد إلى الطائرة، كان يشعر بشيء ثقيل يطبق على قلبه، لكنه مضطر أن يتجاوزه.
༺═────────────────═༻
ـ نسيم...
جاءها صوته واهنًا من خلف السكون، فظنّت أنه غارق في النوم، لم تكن تعلم أن عاصم لا ينام أبدًا إلا كذئبٍ حذر، يغفو بعينٍ ويترك الأخرى يقظة.
همست وهي تلتفت إليه:
ـ نعم يا عاصم؟
لم يجبها بالكلمات فورًا، بل جذبها برفق حتى استقرت فوق صدره، لتسمع خفقات قلبه المتسارعة، ثم قال بصوت دافئ يختلط فيه الرجاء بالحب:
ـ بلاش تقولي لأي حد غيري "يا حبيبي".. أنا وبس اللي حبيبك.
لم تتمالك نفسها، فابتسمت.. وسرعان ما تحولت الابتسامة إلى ضحكة خفيفة خرجت من أعماقها، وهي ترفع يدها لتمسح على صدره برقة:
ـ حاضر.. إنت وبس اللي حبيبي.
قبّل جبينها قبلة امتنانٍ صامتة، كأنما يشكر القدر الذي أبعدها عن الحفل دون أن يتدخل، ويشكره أكثر لأنه منحها له، كاملة، ليومٍ كامل.. يوم تنفّس فيه الحياة من جديد، وعاش لحظات سكن فيها الألم وهدأ فيه كل ما يؤرقه.
أما هي، فبينما تستند إليه وكأنها وجدت وطنها، كان عقلها لا يهدأ… تتزاحم الأفكار في رأسها، بين صوت أخيها الذي بدا خائرًا حين تحدث معها، وبين عاصم، قلبها، مأمنها… وبين نشوة النعيم التي غمرتها في هذا اليوم قربه، طعم السعادة الذي ذاقته معه، والذي لا تريد أن تفقده أبدًا.
༺═────────────────═༻
كانا يجلسان إلى جوار بعضهما، والصمت يخيّم عليهما بثقله. كلاهما غارق في شروده، لا صوت يعلو سوى رنين الهاتف المتكرر، وزينب على الخط مرة تلو الأخرى... لكنهما تجاهلاه، كأن لا أحد في هذا العالم يعني لهما شيئًا الآن.
ألقى عمر نظرة جانبية على حسن، يرمقه بشفقة صامتة. يعزّ عليه أن يراه بهذه الحالة: منكسر، متهالك، يوشك أن ينهار. مد يده وربت على ظهره مرة أخرى، للمرة العاشرة، قبل أن يقطّع ذلك الصمت بصوته:
ـ وبعدين يا عم حسن؟! هتفضل ساكت كده؟
رد حسن دون أن ينظر إليه، بصوت أجوف لا حياة فيه:
ـ لو زهقت امشي انت.
زمّ عمر شفتيه بضيق، وقد آلمه ما سمعه، وقال بنبرة دافئة:
ـ أنا مزهقتش، بس قلقان عليك.
ـ أنا كويس.
ـ لأ، إنت مش كويس يا حسن. طيب يا سيدي، أنا آسف بالنيابة عنه.
ثم مال نحوه، وطبع قبلة على رأسه، وقال بلطف يمزج الجد بالمزاح:
ـ وادي راسك أبوسها.. فك بقى عشان خاطري.
تنهد حسن تنهيدة طويلة متعبة، وعيونه تلمع بدموع حاول كتمانها، لكن بعضها خان كبرياءه، وانسدل على خده بهدوء. غصّ عمر برؤية أخيه على هذه الحال، اقترب منه أكثر، وضم كتفه بذراعه، وهمس:
ـ يابني روق عشان خاطري. دول كلمتين مالهمش معنى قالهم فريد في لحظة غضب، الله أعلم إيه اللي حصل بينه وبين نغم خلاه ينفعل كده…
ثم تابع، كأنه يحاول إقناع نفسه قبل أخيه:
ـ أنا معاك إن اللي قاله ملوش أي مبرر، بس أنا متأكد إن في حاجة كبيرة حصلت.. أول مرة أشوف فريد ينفعل كده بالشكل ده.
نظر إلى حسن مرة أخرى، وقال بإخلاص:
ـ هتصدقني لو قلت لك إني أول مرة أسمعه حتى بيقول لفظ زي ده؟! فريد مش من نوع اللي بيهين أو يجرح حد أبدا، بس في حاجة كبيرة حصلت خلته يخرج عن السيطرة كده.
هزّ حسن رأسه بصمت، ثم تنهد تنهيدة أثقل من التي سبقتها، وقال بصوت أجوف لا يخلو من نغمة مظلمة:
ـ تعرف أنا المرة الوحيدة اللي واحد اتجرأ عليا وقال لي كده عملت فيه إيه؟!
نظر إليه عمر بترقب، وسأله:
ـ إيه؟!
أدار حسن رأسه ببطء نحوه، ونطق بجملة جعلت وجه عمر يتجمد من الصدمة:
ـ قطعت له لسانه.
تجمدت الملامح على وجه عمر، واتسعت عيناه، بينما ظل حسن جامدًا، وكأن ما قاله كان شيئًا عاديًا لا يستحق الانفعال…
عاد عمر بوجهه للأمام، لا تزال ملامح الدهشة مرسومة عليه؛ حاجباه مرفوعان، وعيناه متسعتان قليلاً، كمن تلقّى صدمة لم يستوعبها بعد. لقد ظنّ أنه كان يهدد فقط حين توعّد فريد بدفنه حيًّا إن كرر ما قاله… لكنه اكتشف الآن أن حسن لا يهدد عبثًا، بل يعني تمامًا ما يقوله، ويملك الجرأة الكافية لتنفيذه!
رن الهاتف مجددًا، هذه المرة كانت والدته، فأجاب فورًا:
ـ نعم يا ماما؟
جاءه صوت نادية قلقًا، متعجلًا:
ـ إنت فين يا عمر؟! زينب اتصلت عليك وعلى حسن كذا مرة ومحدش بيرد!
ـ أنا وحسن مع بعض دلوقتي… خير؟!
ـ مش خير… باباك في المستشفى!
سأل ببرودٍ صادم:
ـ ليه؟ ماله؟
زفرت نادية بضيق، ثم قالت بلهجة صارمة:
ـ تعب فجأة وفقد الوعي! نقلناه على المستشفى، والدكاترة بيقولوا فيه اشتباه جلطة… لازم تيجي حالًا.
أغلق عمر عينيه لوهلة وتنهد، ثم قال:
ـ حاضر… مع السلامة.
أنهى المكالمة ونظر إلى حسن بجمود:
ـ الباشا في المستشفى، الدكاترة بيقولوا اشتباه في جلطة.
لم يصدق حسن ما سمع، فهتف مذهولًا وهو ينهض سريعًا:
ـ ولسه قاعد؟! يلا بينا نروحله فورًا!
اندفعا خارج المكان نحو السيارة، وخلال الطريق كان قلب حسن يعجّ بالأسئلة والهواجس… هل هي مجرد أزمة وستمر؟ أم أنه على وشك اختبار فقد جديد؟ فقد آخر في وقت لم يضمد فيه بعد جراحه السابقة؟
قطع عمر الصمت وهو ينظر في ساعته:
ـ الساعة بقت 10… تفتكر نلحق نبلغ فريد؟
رد حسن بهدوء، محاولًا التماسك:
ـ جرب تكلمه.
اتصل عمر، لكن الهاتف كان مغلقًا، فهتف بضيق:
ـ موبايله اتقفل… واضح إنه طلع على الطيارة.
ساد الصمت من جديد، قبل أن يقطع حسن شروده بنظرة إلى عمر وقال:
ـ نسيم…
تردد عمر، ثم قال بتفكير:
ـ تفتكر نبلغها؟ أنا رأيي لأ… جوزها ممكن يمنعها، وساعتها نكون قلقناها على الفاضي.
أومأ حسن موافقًا، ثم تمتم بصوت خافت:
ـ معاك حق.
بعد مرور نحو نصف ساعة، وصلا إلى المستشفى، يلهثان وهما يهرولان نحو غرفة الطوارئ حيث يرقد والدهما، ليجدا نادية وزينب تجلسان في الانتظار.
ما إن وقعت عين زينب عليهما حتى رمقتهما بنظرة عتاب، وقالت بضيق:
ـ غلبت وأنا بكلمكم… ولا واحد فيكم بيرد!
اقترب منها حسن، وملامحه متوترة، سألها مباشرة:
ـ إيه اللي حصل؟ تعب إزاي؟
نظرت إليه زينب نظرة امتزج فيها العتاب بالألم، وقالت بصوت مثقل باللوم:
ـ بعد ما شافك إنت وأخوك ماسكين في بعض وبتتخانقوا بالشكل ده… وقع على الأرض مغمى عليه! ماقدرش يتحمّل صدمته في ولاده… لما ولاده يعملوا كده في بعض، أومال الناس الغريبة هتعمل في بعض إيه؟
رفع حسن حاجبًا واحدًا بدهشة، ينظر إليها باستغراب من فرط اهتمامها، ثم ردّ بتهكم خفيف:
ـ احنا آسفين… ملناش بركة إلا انتي.
وابتعد عنها، مشى صوب النافذة، أخرج سيجارة وأشعلها بيد مرتجفة، شعر بصدره يضيق وكأنه سينفجر، لذا انحنى قليلًا وأسند جبهته المثقلة فوق يديه المرتعشتين، يحاول استيعاب ما يحدث.
وفجأة، شعر بيد تربت عليه بلطف، التفت معتقدًا أنها يد عمر، لكن المفاجأة كانت أنها يد زينب. قالت بنبرة دافئة:
ـ متزعلش يا حسن… ماكنتش أقصد أضايقك يبني.
شيء في صوتها… في نبرتها… في طريقتها، أيقظ شيئًا بداخله، شيء يخص أمه. نظر إليها طويلًا، يحاول كتم نشيجه، ثم أومأ برأسه في صمت.
لكنه عاد وسألها بصوت خافت:
ـ الدكاترة بيقولوا إيه؟ حالته خطيرة؟
استشعرت الخوف في نبرته، فبادرت بطمأنته:
ـ لسه الـ٢٤ ساعة الجاية هم اللي هيحددوا. إن شاء الله يبقى كويس.
أومأ مجددًا، وعاد ينظر أمامه في شرود، ليقطع صمته سؤالها المباغت:
ـ خايف عليه؟
نظر إليها، متفاجئًا من جرأتها، ابتلع ريقه ومعه غصّة ثقيلة كادت تخنقه، وردّ بنبرة حاول أن تبدو متماسكة:
ـ ملحقتش أفرح إن ليّا أب.
اهتز قلبها بكلماته، وضعت يدها على كتفه مرة أخرى، فالتفت نحوها متعجبًا، وسألها باندهاش:
ـ انتي بتعملي معايا كده ليه؟!
ارتبكت للحظة، وسحبت يدها بسرعة، لكنه تابع، يحدّق في وجهها بتوتر:
ـ يعني فريد، عمر، نسيم… انتي اللي مربياهم، فاهم. إنما أنا؟ أنا بتعامليني كإني فارق معاكي، كإني غالي عندك… مع إني مجرد ابن الراجل اللي انتي شغالة في بيته ولسه عارفاني من كام يوم!
ابتسمت، ابتسامة حنونة دافئة لم يعرف مثلها إلا من أمه، ثم قالت باختصار أربكه أكثر:
ـ عشان فعلا إنت غالي عندي.
تركت كلمتها معلّقة في الهواء، واستدارت مبتعدة.
ظلّ يحدّق في أثرها، يتساءل بصوتٍ لا يسمعه سواه:
ـ غالي عندِك؟! عينك مني ولا إيه؟!
انتصف الليل وهم لا يزالون في الانتظار، عمر، حسن، زينب، نادية وچيلان التي عادت قبل قليل .
خرج الطبيب من غرفة الطواريء بعدما فحص سالم للمرة الثانية ، فاندفع نحوه حسن باهتمام، وقال:
ـ إيه الأخبار يا دكتور ؟
أومأ الطبيب بابتسامة مهنية وقال:
ـ مخبيش عليكم، الحالة كانت حرجة جدًا لما وصل، ضغطه كان منخفض والنبض ضعيف، وكنا شاكين في جلطة دماغية، لكن الحمد لله قدرنا نسيطر على الحالة مبدئيا .
انفرجت أنفاس حسن قليلًا، بينما سأله عمر بسرعة:
ـ يعني هو بخير دلوقتي؟ نقدر نشوفه؟
أومأ الطبيب بتأنٍ وقال:
ـ لسه بدري نحكم إذا كان فعلاً خرج من مرحلة الخطر، الأشعة أظهرت تجلط بسيط في أحد شرايين المخ، بس قدرنا نلحقه قبل ما يسبب ضرر كبير... هنحتاج نتابع حالته لحظة بلحظة، والساعات الجاية هي الأهم.
تساءل حسن بتوتر:
ـ يعني ممكن يفوق دلوقتي؟ يعرفنا؟ يتكلم؟
هز الطبيب رأسه وقال:
ـ إن شاء الله، هو حالياً تحت تأثير المهدئات، لكن استجابته العصبية مبدئيًا مطمئنة. هننقله للعناية المركزة لمتابعته عن قرب.. تقدروا تشوفوه من بعيد أول ما ينقلوه، لكن الزيارة هتكون محدودة جدًا النهاردة، ويفضل يكون مرافق واحد اللي موجود ، أهم حاجة دلوقتي بالنسبة له الهدوء والراحة.
أومأ الجميع بصمت، وكل منهم قد اتخذ قراره، فغادرت كلا من نادية وابنتها، ومعهما زينب ، عائدات إلى الڤيلا.. بينما ظل حسن وعمر بالمشفى .
༺═────────────────═༻
ها هي نغم، في زاويةٍ من الغرفة، تتكوّر كطفلةٍ صغيرة احتمت بصمتها من عاصفةٍ داخليّةٍ لا تُرى.
تسارعت أنفاسها كمن يُلاحقه طيفُ موتٍ خفي، صدرها يعلو ويهبط في تتابعٍ متوترٍ كطبول حربٍ خرساء، ويدها المرتجفة تستقر على قلبها، كأنها تحاول أن تروض وحشاً انفلت من عقاله في أعماقها .
جف حلقها، وتصلّب لسانها، وغامت الدنيا في عينيها، لم تعد ترى العالم كما هو، بل تشعر وكأنها في محيط مرعب، تشعر بشعوى موحش فاجأها دون استئذان.
صوت دقات قلبها صار أعلى من صوت الواقع، كأن قلبها نفسه يصرخ بها: النجدة!
أمّا عقلها، فقد صار كالسفينة وسط عاصفة، تتلاطمها أفكار مشوشة، تتقاذفها مخاوف لا ملامح لها…
"أنا أموت؟ لا، بل أختنق... لا، بل أتهاوى!"
تحاول أن تنطق، أن تستغيث، لكن صوتها خانها، ودموعها انسابت بصمت، كأنها تبكي شيئًا لا تفهمه، ولا تعرف كيف تمنعه .
في تلك اللحظة، كانت نغم جسداً حاضرًا، وروحًا هاربة، بين ظلّ الخوف وهاوية الانهيار.
وما كانت تحتاجه حقًا... لم يكن أكثر من يدٍ تمسك بيدها وتقول: "أنا هنا... ولن أدعكِ تغرقين."
تريده بالتحديد.. يده الوحيدة التي ستنقذها من الغرق، لكنها لا تعلم إن كانت سترسو بها على بر الأمان، أم تسحبها نحو القاع مجددًا.
كل شيء حولها بدا باهتًا، مشوشًا، كأن الضباب لفّ العالم من حولها فجأة، وكأن غيابه انتزع الأمان من صدرها.
ارتجف صوتها بالبكاء، حاولت كتمه لكنها لم تفلح، فاندفع خارجها على هيئة شهقات مكتومة، ثم صرخات مكسورة شقت سكون الليل. نادت اسمه مرة تلو الأخرى، رغم علمها التام أنه لن يُجيب، لكنه كان ملاذها الوحيد، تلوذ بندائه كأن في تكراره طمأنينة مؤقتة.
شعرت وكأن روحها على وشك أن تُنتزع، وكأن شيئًا ما ينهار داخلها ببطء لا يُحتمل. لم يكن هذا حزنًا عابرًا، ولا مجرد لحظة ضعف.. كانت على حافة الانهيار.
تلمست هاتفها بيد مرتجفة، عبثت بين الأشياء بحثًا عنه حتى وجدته أخيرًا، ثم حدّقت في شاشته بعينين غيمتهما الدموع.. تفكر: من الذي يمكنها اللجوء إليه الآن؟ ومن سيتلقى استغاثتها في هذا الوقت المتأخر؟
وعندما لم تجد إجابة استسلمت أخيرًا، تمددت على الأرض في وضع أشبه بجنين يطلب النجاة في رحم مظلم، احتضنت ركبتيها إلى صدرها وأغمضت عينيها، محاوِلة تهدئة العاصفة داخلها.
مرّت الدقائق ببطء، حتى خفّ ثقل نوبة الهلع التي داهمتها، وسرعان ما استسلم جسدها المُنهك للنوم، غارقة في تعب يفوق قدرتها على الاحتمال.
༺═────────────────═༻
#يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق