القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل العشرون 20بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل العشرون 20بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات






رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل العشرون 20بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات




ـ ٢٠ ـ


~ كيف يُصان الحب ؟! ~


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وقف حسن خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصله عن غرفة العناية المركزة، عيناه معلقتان بجسد والده الراقد فوق السرير، كأنه يترقّب منه حركة، نظرة، أو أي علامة تطمئنه بأنه ما زال هناك… لم يغادر بعد.


لكن الجسد بدا ساكنًا، منهكًا، تحيط به الأسلاك والأنابيب التي تتصل بأجهزة طبية تراقب أنفاسه، نبضه، وكل تغير طفيف في حالته.


وجهه الشاحب فقد صلابته المعهودة، وملامحه بدت مرتخية، كأن التعب تسلل إلى عمقها، بينما جفناه المغلقان يُثقلانهما السكون.

أنبوبة تخرج من فمه وتتصل بجهاز تنفس صناعي، تُبقي رئتيه تعملان، حين لم يعد الجسد قادرًا على التنفس وحده.


تنهد حسن بأسى.. لا يريده أن يموت، لا زال الوقت مبكرًا على فقدانه، لم يُخبره بعد بما يعتمل في قلبه.


لم يشعر بمرور الوقت، ولم ينتبه إلى أن الليل قد مضى بكامله، إلا حين لمح الطبيب يدخل غرفة والده في تمام السادسة صباحًا لمتابعة حالته.


ظل واقفًا في مكانه، يرقبه من بعيد، ينتظر خروجه، وقلبه معلق بكلمة واحدة تُطفئ نار القلق بداخله.


وبعد دقائق بدت كأنها دهر، خرج الطبيب، خلع قفازيه بهدوء، ثم التفت إليه.

لم يحتج حسن إلى السؤال، فملامحه كانت كافية لتصرخ بكل ما لم يُقال.


ابتسم الطبيب ابتسامة صغيرة، وقال بصوت منخفض:

ـ مفيش جديد لكن المؤشرات مستقرة الحمد لله. استجابته خفيفة بس موجودة… وده يطمن مبدئيًا.


تعلّقت أنفاس حسن بكلمة "استجابة"، كأنها خيط نجاة وسط بحر من اللا يقين.


أومأ برأسه في صمت، وعيناه تبحثان عن مزيد من الطمأنينة، ثم سأل:

ـ يعني ممكن يفوق قريب؟


رد الطبيب بهدوء:

ـ كل شيء ممكن. إحنا منتظرين إشارات أكتر من المخ، والمهدئات بدأت تقل تدريجيًا. خلينا نتابع على مدار اليوم ونشوف.. إن شاء الله خير.


أومأ حسن من جديد، دون كلام، ثم أعاد نظره نحو الزجاج، وكأن قلبه يحادثه فهمس:

ـ قلبي بيقوللي إن نَفَسك طويل وهتقوم منها، ماهو مش معقول هتسيبني في نص الطريق كده وتمشي!! أنا لسه محتاج لك !


ثم جلس على الكرسي المقابل، أسند ظهره إلى الجدار، وظلت عيناه معلقتين بوالده، لا تفارقه.


أما في الداخل، لم يكن الأب غائبًا تمامًا.

كان معلقًا في مكانٍ ما، بين الوعي واللاوعي…

يرى ومضات متقطعة، ويسمع صوتًا مألوفًا، قادمًا من زمنٍ بعيد .


"نفسك في إيه قبل ما تموت... يا سالم؟"


تردد الصوت في أذنيه كأنه صدى يأتي من قاع بئرٍ مظلم. حاول سالم جاهدًا أن يفتح عينيه، أن يزيح ذاك الثقل الجاثم على جفنيه، لكنه فشل... كل شيء كان ساكنًا إلا قلبه، الذي أخذ ينبض بقوة كطبول حرب على وشك أن تُقرع.


أراد أن يسأل، أن يعرف من صاحب الصوت، فدفع لسانه نحو الكلمات، لكنه اكتشف أن فمه مغلق بإحكام، وكأن أحدهم قد حاك شفتيه بخيطٍ غليظ .


ثم جاءت الخطوات...

خطوات بطيئة وثقيلة، تقترب منه أكثر فأكثر، ومع كل خطوة، شعر وكأن الأرض تنكمش تحته، وكأن صدره يضيق.


حتى اقترب الصوت من أذنه، وبث أنفاسه الحارّة على بشرته المرتعشة، وهمس من جديد بصوتٍ يقطر قسوة:

ـ ما رديتش عليا... نفسك في إيه قبل ما تموت؟ 


ارتجف قلب سالم، ليس من الخوف فقط، بل من الاعتراف…


اعتراف أنه لا يملك جوابًا.


ألم يكن دومًا يعرف ما يريد؟ 

السلطة، الأولاد، المال، النفوذ، النساء...

ولكن الآن؟ الآن فقط اكتشف أنه لا يعرف ما يتمناه في آخر لحظة من حياته.


همس الصوت من جديد، هذه المرة أقرب، وأكثر اختراقًا:

ـ أنا شايف إن مش ناقصك حاجة من اللي كنت بتسعى ليها طول عمرك ، عندك المال، والعيال، والقوة، والنفوذ.. مش ناقصك غير حاجة واحدة بس وأظنها مش مهمة بالنسبة لك.. 


توقف الصوت برهة، وكأن لصاحبه متعة خفية في ترك الجُرح مفتوحًا دون تضميد، ثم أردف بنبرة أكثر مرارة:

ـ ناقصك " الحب " !! عمرك ما عرفت تحب حد، ولا حد قدر يحبك بسبب قسوة قلبك وجبروتك .. عِشت وهتموت مكروه ومحدش هيفتكرك أبدا وكأنك لم تكن .


حاول سالم أن يتحرك، أن يصرخ، أن يعترض، لكن جسده كان رهينة الغياب، ولسانه أسير سجن لا مرئي. القلب وحده كان يضجّ، كأن دقاته تحاول أن تصرخ بدلًا عنه.


شعر بيدٍ تتلمس يده بخفة، خُيّل إليه أنها ستمسك بها، أو لعلها ستربت على جلده المرتجف، لكن ما حدث كان أبعد ما يكون عن ذلك.


شعر بها تنزع الأسلاك عن ذراعه، ثم تسحب أنبوب الهواء الممتد عبر فمه ببطءٍ قاتل؛ فأحس ببرودةٍ تسري في جسده، كأن الحياة تتسلل منه شيئًا فشيئًا.


وفي الخلفية جاء صوت أجوف هادئ، لا يحمل شفقة ولا تردد:

ـ أنا بقول كفاية عليك كده يا سالم… آن الأوان ترتاح، وهم كمان يرتاحوا.


 هل هذا هو الموت؟ هل قرر أحدهم أن يسدل الستار على حياته ؟


كان عاجزًا عن فتح عينيه أو الصراخ، فقط شعور الخدر يزداد، والضوء يبهت من حوله...


أراد أن يصرخ، أن يحتج، أن يسأل من يكون هذا، ولماذا ينهي ما لم يبدأ بعد؟

لكنه لم يستطع…

لسانه كان أثقل من الرصاص، وعقله غارق في ضباب رمادي كثيف…


أمر جسده أن يتحرك، أن يرفع يده، أن يرمش بعينيه، لكن لا استجابة…

كأنما تخلى عنه جسده… كأن كل شيء فيه قرر التوقف.


تراجع ذلك الوجه الغريب… واختفى في العتمة، تلاشت الأصوات، وضاقت الرؤية، حتى لم يبقَ إلا الفراغ…

فراغ خانق، صامت… كأن كل ما حوله اختفى فجأة.


تشنّج جسده، وزادت خفقات قلبه بشكل مفاجئ، فبدأ الجهاز يطلق إنذارات عالية، تُعلن عن خلل خطير.


الخط البياني على الشاشة بدأ يتراقص بجنون، ومعدل ضربات القلب قفز بشكل مخيف.


هرع الأطباء إلى الغرفة، بينما اندفع حسن نحو الحاجز الزجاجي يراقب المشهد بقلبٍ يرتجف وملامح يشوبها الذعر.


رآهم يلتفون حوله بسرعة، أحدهم يضغط على صدره، وآخر يجهز جهاز الصدمات الكهربائية.


صوت الجهاز يعلو، ثم تنطلق الصدمة! فيرتج جسده بعنف، ويظل السكون يلف الغرفة للحظة، ثم يعلو صوت صافرة أخرى…


"لسه مفيش نبض!" صاح أحد الأطباء ..


صدمة ثانية... ثم ثالثة.


وفي كل مرة، كان قلب حسن يكاد ينخلع من مكانه، أنفاسه محبوسة، وعيناه لا ترمش، كأن الزمن توقف داخله.


تراكمت اللحظات ثقيلة كالرصاص، وكل ثانية تمر كانت كأنها دهر.

ثم... فجأة، ارتفعت وتيرة الجهاز، وصدر عنه صوت منتظم!


تبادل الأطباء نظرات الارتياح، بينما عاد صدره يرتفع وينخفض ببطء.


في الخارج، ترنّحت قدما حسن للخلف، وتهدّج صدره بزفرة مرتعشة، وكأن روحه كانت معلّقة في الهواء، فعادت إليه أخيرًا.


عاد إلى مقعده من جديد وهو يشعر وكأنه خاض حربًا ضروس للتو، قلبه كان يعلو ويهبط بشدة من فرط الخوف، وأطرافه لا تقوى على حمله .


مسح جبينه بكفٍ مرتعشة، وكأن العرق الذي يغمره يحمل كل ما مرّ به في تلك اللحظات، ثم أسند رأسه للخلف مُغمضًا عينيه، يحاول أن يلتقط أنفاسه المقطوعة.


وما إن غادر الطبيب الغرفة حتى هرول إليه متسائلا بقلق واضح:

ـ إيه اللي حصل ؟


تنهد الطبيب ثم قال بصوت منخفض لكنه حازم:

ـ للأسف حصل انخفاض حاد في ضغط الدم، وضربات القلب كانت ضعيفة جدًا لدرجة إن القلب كان على وشك التوقف، عملنا له إنعاش قلبي بالصدمات الكهربائية... والحمد لله استجاب ورجع النبض انتظم تاني .


رمش حسن بعينيه في صدمة محاولا استيعاب ما يقوله الطبيب، ثم سأله باستغراب:

ـ أنا كنت واقف ومتابع حالته كان كويس، إيه اللي حصل فجأة وصّله للمرحلة دي؟!


رد الطبيب بعملية شديدة: 

ـ مفيش سبب عضوي مباشر، إنما بحسب ملاحظتنا وتحليل الحالة ورسم المخ اللي أثبت وجود نشاط غير طبيعي.. نقدر نرجح إنه على الأغلب حصل له صدمة نفسية مفاجئة أو شاف كابوس عنيف وهو نايم، وده اللي تسبب في التدهور المفاجئ ده، على العموم إحنا عملنا اللازم والحالة مستقرة دلوقتي، بس محتاج يفضل تحت الملاحظة شوية كمان.. عن إذنك.


وقف حسن ينظر حوله تائهًا، يحاول تحليل ما قاله الطبيب وهو ينظر مجددا نحو والده الراقد دون حراك، وبداخله يفكر .. هل سينجو منها أم أنه قرر الرحيل بصمت ؟


انتبه إلى مجيء عمر الذي بدا عليه أثر النعاس، واقترب منه متسائلا :

ـ انت هنا يا حسن ! أنا راحت عليا نومة وأنا قاعد مكاني وصحيت ملقيتكش ، انت منمتش ؟


نظر إليه حسن نظرة مشوبة بالقلق والإرهاق، ومسح على وجهه بكفّه قبل أن يرد بإختصار :

ـ لأ .


نظر عمر إلى غرفة والده، وتساءل بنبرة هادئة لا تعكس أي اهتمام حقيقي أو قلق :

ـ إيه الأخبار ؟


لم يرد أن يخيفه، بالرغم من أنه لا يرى في عينيه ذلك القلق الصادق أو التوتر الطبيعي الذي يفترض أن يصاحب هذه اللحظات، فاكتفى حسن بالقول بصوت منخفض:

ـ مفيش جديد.


أومأ عمر برأسه دون أن ينبس بكلمة، ثم قال :

ـ طيب مش هنرجع البيت ؟! أنا محتاج أخد شاور وأغير هدومي دي .. !


ربت حسن على ذراعه بخفة وقال :

ـ روح ارتاح إنت وأنا هفضل هنا ..


حك عمر جانب عنقه ، ثم خلل شعره الكثيف بيده وهو يقول :

ـ مش حاسس إنك محتاج تنام ؟! إنت مطبق من امبارح !


ـ لأ أنا تمام متشغلش بالك.. يلا روح انت .


أومأ عمر موافقا وقال بنبرة هزلية :

ـ أنا آسف يا أبو علي .. مش قادر أصمد أكتر من كدة.. هريح ساعتين بس وأجيلك .


أومأ حسن مبتسما ابتسامة واهية، فانصرف عمر مسرعًا، استقل سيارته وقاد في طريقه إلى الڤيلا .


༺═────────────────═༻


بعد نصف ساعة تقريبا .


ترجل من سيارته ودخل الڤيلا، صعد إلى غرفته ليلتقي بوالدته التي خرجت للتو من غرفتها فتفاجئت به عندما رأته، فقالت:

ـ عمر !! إنت إيه اللي جايبك ؟! 


ـ جاي أخد شاور وأرتاح شوية .


تسائلت بترقب:

ـ وفين حسن ؟!


ليجيبها وهو يتحرك نحو غرفته:

ـ حسن في المستشفى مستني !


لمعت عيناها بالغضب، واحتدت نبرتها وهي تقول باستنكار:

ـ وانت سايب حسن لوحده في المستشفى مع باباك وجاي ترتاح ؟! للدرجة دي مش قادر تتحمل المسؤولية يوم واحد ؟


توقف في مكانه، ونظر إليها متعجبًا وقال:

ـ و فين المشكلة لما أسيب حسن لوحده هناك؟ هيتخطف مثلا ؟!


زفرت بضيق وعلا صوتها قليلا وهي تقول:

ـ لأ مش هيتخطف، هو عاوز كده أصلا.. علشان لما باباك يفوق يلاقيه هو لوحده اللي واقف جنبه، وسيادتك بمنتهى السذاجة نايم هنا في البيت .


قطب عمر جبينه متعجبا المنطق الذي تتحدث به، وقال:

ـ حضرتك غلطانة، حسن مش بيفكر كده أبدا.. هو واقف هناك جنبه لأنه قلقان بجد، مش لأنه عاوز أبوه يشوفه جنبه .


رمقته بنظرة حادة، وقالت بلهجة تنضح بالازدراء:

ـ هتفضل طول عمرك ساذج .. حتى لما الفرصة جت تثبت له إنك راجل سِبتها لابن عيشة بمنتهى الغباء ، مصمم تبان أضعف منهم وأقل منهم ، مصمم تتعامل وكأنك ولد صغير مش نافع في شيء .


زفر عمر بضيق، وهتف بانفعال:

ـ ممكن كفاية كلام ملوش داعي ؟! أنا لا ساذج ولا عيل صغير، وبالنسبة لسالم هيشوفني ازاي وهيشوف حسن ازاي فمش فارفة معايا نهائي، أما بقا بالنسبة للطريقة التي حضرتك معتقدة إن حسن بيفكر بيها فدي مش حقيقة أبدا لأن حسن أغلب من كده بكتير ..


ـ والله ما حد غلبان وأهبل غيرك ! 


قالتها بنبرة فيها مزيج من الغضب وخيبة الأمل، أما هو فاكتفى بابتسامة هادئة امتزجت بالبرود، ثم اقترب منها، وقبّل خدها بقوة، وهمس:

ـ صح.. حضرتك معاكي حق.. عن إذنك.


تنهد عمر بيأس وهو يتجه إلى غرفته، وما إن خطا بضع خطوات حتى توقف فجأة، ثم التفت إلى والدته وسأل:

ـ نسيت أسألك، رايحة فين بدري كده؟


رمقته بنظرة حانقة، وردّت بحدة:

ـ رايحة أستنى في المستشفى جنب باباك، مش هسمح لابن عيشة يتصدر المشهد لوحده.


أنهت عبارتها بنبرة قاطعة، ثم استدارت وبدأت في النزول على الدرج. تابعها عمر بنظرة متعبة، قبل أن يطلق زفرة طويلة ويواصل طريقه إلى غرفته. وما إن وضع يده على مقبض الباب وهمّ بالدخول، حتى لاحظ أن باب غرفة چيلان المجاور قد انفتح قليلاً، فاستوقفه ذلك.


ناداها بنبرة خافتة:

ـ صباح الخير يا چيچي.


نظرت إليه چيلان وقد ارتسمت على وجهها علامات الاستغراب، وسألته:

ـ أنكل سالم بقى كويس؟!


أجابها وهو يهز رأسه نفيًا:

ـ لسه مفيش جديد.


مطّت شفتيها متعجبة، ثم سألت:

ـ أومال إنت سِبته لوحده ليه؟


رد بهدوء:

ـ مش لوحده. حسن هناك.


هزّت رأسها كما لو أنها أدركت شيئًا كانت تتوقعه، وقالت بثقة:

ـ طبعًا... الفرصة جت له على طبق من فضة.


ظلّ يحدّق فيها بدهشة واضحة، ثم خطا نحوها واقترب منها أكثر، وأخذ يتأمل ملامحها بتمعّن أثار ارتباكها، فسألته بقلق:

ـ في إيه؟!


ردّ بنبرة تجمع بين الذهول والاستنكار:

ـ انتوا إزاي كده؟! إزاي شبه بعض كده؟!


قطبت جبينها وقالت باستغراب:

ـ تقصد مين؟


أجابها دون تفكير:

ـ أقصد نادية هانم.. لسه حالا قايلالي نفس الكلام، ازاي عندكوا القدرة تفكروا بنفس الطريقة في نفس الوقت؟! أنا بجد مستغرب !


ردّت عليه وهي تطلق زفرة طويلة، وذراعاها معقودتان أمام صدرها، ثم قالت بنبرة هادئة لكنها واثقة:

ـ لأن أي حد واعي هيفكر بالطريقه دي، إنت بس اللي مش شايف الحقيقة .. أو بمعنى أوضح ..


ورفعت يديها لتصنع بإصبعيها علامة تنصيص في الهواء، وهي تضيف بلهجة ساخرة:

ـ مش شايف حسن على حقيقته.


بكل هدوء، مرر يده على وجهه في محاولة لطرد الضيق، وقد بدا عليه نفاد الصبر، ثم أنهى النقاش بنبرة حاسمة:

ـ والله لو في حد مش شايف حسن على حقيقته فعلاً، فهو انتوا .. على العموم ده مش موضوعنا، انتي رايحة على المستشفى انتي كمان؟!


هزت كتفيها بلا اكتراث، وردّت ببرود:

ـ ليه هو أنا فاضية؟! شغلي أهم طبعًا .


ثم استدارت، وبدأت تتحرك بخطوات واثقة نحو الدرج، وهي تقول:

ـ يلا سي يو .


لم يرد، دخل غرفته ومنها إلى الحمام، أخذ حماما وأبدل ثيابه على عجل، ثم ألقى بجسده إلى الفراش وغط سريعا في النوم .


༺═────────────────═༻


منذ أن وصل إلى المنزل عند الساعة الواحدة صباحًا، أجبر نفسه على النوم متعمدًا، فتناول حبتين من الأقراص المنومة، هربًا من دوامة التفكير التي بدأت تنهشه.


والآن، وقد دق المنبّه معلنًا حلول الثامنة صباحًا، نهض بتكاسل. امتدت يده مباشرة نحو الهاتف، وكأنه يبحث عن شيء محدد. تظاهر بأنه يتحقق من الاتصالات، لكنه كان يعلم جيدًا أن ما ينتظره هو أي اتصال أو رسالة منها .. هي فقط !


تفقد الهاتف بسرعة، ثم استدعى محادثتهما الأخيرة، وراح يتنقل بين الرسائل، يقرأها واحدة تلو الأخرى، وكأنها تنبض بالحياة. توقف عند الرسائل الصوتية، تلك التي كانت تبعثها بصوتها الرقيق الذي كان يصنع يومه، واستمع إليها جميعًا، بصمتٍ يختلط فيه الشوق بالألم.


كان الحنين يمزق قلبه، وكاد في لحظة ضعف، أن يهاتفها متجاهلًا كل ما حدث، متناسيًا كرامته، لكنّه تراجع في اللحظة الأخيرة.


لن يفرض نفسه عليها مجددًا…

هذه المرة، سيجعلها تدفع ثمن ابتعادها.


لن يتركها، هذا مؤكد، لأنه لا يستطيع احتمال فكرة غيابها. ولن يسمح لأي رجل أن يقترب منها، مهما كان. لكنه أيضًا لن يركض خلفها من جديد… على الأقل، ليس الآن.


يعلم يقينًا أن هناك سببًا دفعها لتلك الحماقة، وسيسعى لكشفه، ومعرفة من يقف خلفه. لكن حتى يحدث ذلك، سيجعلها تدرك تمامًا كيف يُصان الحب… وكيف يُقاتل المرء لأجل من يحب .


لقد تحمّل منها ما لا يُطاق، وكان مستعدًا لتحمّل المزيد، فقط لو بقيت معه، قريبة منه. لكنها اختارت البعد مرة أخرى… وهذه المرة، يقسم أنه لن يغفر بسهولة… لن يتهاون، إلا بعد أن تتذوق من نفس الكأس الذي جرعته له.


سيتركها تشتاق، تحترق، تتساءل أين هو، ولماذا لم يعد يسأل كما اعتاد. سيتركها تبحث عنه في كل شيء، في الأغاني، في الأماكن، في التفاصيل الصغيرة التي كان يملؤها بوجوده. سيتركها تواجه وحدتها، وتدرك معنى الخسارة حين يتعلق الأمر به هو تحديدًا.


ولن يمنحها الطمأنينة هذه المرة بسهولة…

لن يكون ذاك الذي يغفر سريعًا، ويعود بمجرد أن تلمح له بالندم. لا، هذه المرة مختلفة.


لأن الحب ليس ضعفًا، ولا كرامته رخيصة.

وإن أرادت العودة، فعليها أن تعود بكل ما أوتيت من صدق واعتراف ووجع…

أن تعود كما يليق بمن أدارت له ظهرها يومًا، دون تفسير.


فهو لا يزال يحبها، نعم… لكن الحب وحده لا يكفي .


كل ما فكّر فيه سابقًا لم يكن إلا جسرًا هشًا من الأوهام، تهاوى تمامًا لحظة رأى صورتها على هاتفه.


اللعينة… بدت وكأنها تحدّق فيه مباشرة، كأن عينيها الحزينتين تناديانه، تتوسّل إليه في صمت ألا يرحل، ألا يتخلّى عنها، مهما حدث.


كانت نظرتها مزيجًا من الرجاء والخذلان، وكأنها تهمس له عبر الصورة:

"لا تفعلها… لا تكن أنت أيضًا ضدي."


انكمش قلبه، وانفلتت أنفاسه في اضطراب، وسقط الهاتف من بين يديه دون أن يشعر. جلس على طرف السرير، يداري انهياره بكفه، يتصارع داخله رجلٌ قرر الثأر، وعاشق لا يزال متيمًا، مجنونًا بها .


لقد أراد أن يعاقبها، أن يجعلها تذوق مرّ البعد، لكنه الآن هو من يتجرّع الألم… بملء روحه.


سقط رأسه للخلف، وأغمض عينيه.

هو لا يزال يحبها… وهذه الحقيقة وحدها كفيلة بهدم كل قراراته.


لكنه هذه المرة لن يعود بسهولة.

وإن عادت هي، فعليها أن تقاتل كما قاتل هو مرارًا…

عليها أن تبرهن أن ما بينهما لم يكن مجرد لحظات حب عابرة… بل قدرٌ لا مفرّ منه.


تشتت انتباهه قليلا عندما وصلته رسالة من "جيرالد" تتضمّن موقع الفندق الذي سيجمعهما لعقد الاجتماع النهائي والتوقيع على الأوراق الرسمية، فتنهد باستسلام، ونهض بتثاقل ليبدأ في تجهيز نفسه، كأنما يُساق إلى موعد حتمي لا مناص منه .


༺═────────────────═༻


بعد ساعة ، وصل فريد إلى فندق Grand Bretagne .


ترجل من السيارة وراح يتقدّم بخطى واثقة داخل بهو الفندق الفخم، يحمل في يده حقيبة صغيرة من الجلد الأسود، ويرتدي بدلة رمادية أنيقة زادها وقار نظارة الشمس الداكنة التي أزاحها إلى الأعلى وهو يبحث بعينيه عن شريكه الجديد.


توقّف لحظة أمام المرآة الضخمة في الممر الجانبي، رتّب رابطة عنقه، ثم تنفّس بعمق.


اقترب منه أحد موظفي الاستقبال وسأله بأدب:

ـ هل يمكنني مساعدتك، سيدي؟


أجاب فريد بابتسامة خفيفة:

ـ لدي موعد مع السيد جيرالد إيفانز. أظنه ينتظرني في صالة الـ"لورانج".


أومأ الموظف:

ـ نعم، السيد إيفانز هناك بالفعل. من فضلك من هذا الاتجاه.


اتّجه فريد إلى الصالة الفسيحة ذات النوافذ الزجاجية العالية المطلة على الأكروبوليس.


كان جيرالد يجلس إلى طاولة في الزاوية، وبجواره محاميه الخاص آرون ، يحتسيان قهوتهما ببطء، وجيرالد يقلب بعض الأوراق أمامه.


ما إن لمح فريد حتى وقف، مدّ يده مرحّبًا:

ـ فريد! سعيد برؤيتك.


صافحه فريد بهدوء، وقال:

ـ وأنا أكثر، جيرالد. المكان رائع كعادتك دائما في الاختيار.


جلسا متقابلَين، وسرعان ما بدأ الحديث يأخذ طابعه العملي، فقال جيرالد :

ـ في البداية، لا يسعني أن أعبّر عن مدى سعادتي بموافقتك على هذه الشراكة، فالأمر بحق يُعد مصدر فخر وامتنان لي.


ابتسم فريد بهدوء، وقال بنبرة موزونة تعكس حرصه على انتقاء كلماته:

ـ وأنا بدوري سعيد بالتعاون معك سيد جيرالد، وآمل أن تعود هذه الشراكة بالخير والفائدة على الجميع، وأن تسهم في تطوير السياحة في البلدين.


قال جيرالد وهو يشير إلى الأوراق أمامه:

ـ لقد أعددتُ تصورًا مبدئيًّا لخطة العمل، يشمل أهم النقاط التي يمكن أن ننطلق منها. نحن نسعى لإنشاء وكالة سياحية متكاملة، تستهدف السائح العربي والأوروبي على حد سواء، وتُقدم خدمات متنوعة تشمل تنظيم الجولات السياحية، وحجوزات الفنادق، والرحلات البحرية، إضافة إلى تجارب ثقافية فريدة في ربوع اليونان.


تبادل فريد نظرة إعجاب بالفكرة، ثم قال:

ـ ممتاز... كنت حريصًا على أن تكون الشراكة بيننا ذات طابع استثماري مستدام، وليس مجرد نشاط موسمي. وبنا أنني درست الوضع المالي والإداري لشركتكم بعناية، وجدت أن أمامنا فرصة حقيقية للنمو إذا أحسنا استغلال الموارد، وركزنا على قطاعات واعدة مثل السياحة العلاجية، وسياحة المؤتمرات، بالإضافة إلى الرحلات البيئية التي تلقى رواجًا متزايدًا في السنوات الأخيرة.


ثم أضاف وهو يرفع نظره بثقة نحو جيرالد:

ـ الشركة تمتلك بنية أساسية جيدة، لكن ينقصها التمويل والتسويق الدولي، وهنا يأتي دوري. من خلال شبكة علاقاتي الواسعة، أستطيع فتح أبواب جديدة في السوق الأوروبي، وجذب شريحة مميزة من السائحين الباحثين عن تجربة مختلفة وآمنة في بلدكم.


ابتسم جيرالد وهو يطوي الأوراق برفق قائلاً:

ـ وهذا تحديدًا ما نحتاجه، سيد فريد. نحن نمتلك الفكرة والهيكل، لكننا بحاجة إلى دفعة من الخبرة والسمعة الدولية التي تتمتع بها أنت. وجودك معنا سيمنح المشروع مصداقية وثقة أكبر، خصوصًا في أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.


تدخّل "آرون" محامي جيرالد، وقد بدا عليه الحرص والاحتراف، وقال وهو يضع ملفًا صغيرًا على الطاولة:

ـ لقد أعددنا مسودة أولية لاتفاقية الشراكة، تنص على توزيع نسب المساهمة، ومسؤوليات كل طرف، والهيكل الإداري المقترح. يمكنك بالطبع مراجعتها على مهل، وسنكون منفتحين لأي تعديلات.


فتح فريد الملف، وأخذ يقلب صفحاته بعناية، ثم قال دون أن يرفع عينيه:

ـ أُقدّر هذا التنظيم. من المهم أن تكون البداية واضحة ومرنة، حتى لا نصطدم لاحقًا بتفاصيل لم تُدرس جيدًا. سأتولى مراجعة البنود، لكن بشكل مبدئي.. الأمور تبدو مطمئنة.


أومأ جيرالد موافقًا، ثم قال بنبرة جدّية:

ـ نُخطّط لإطلاق الحملة التسويقية الأولى في غضون ثلاثة أشهر. نريد أن نكون حاضرين بقوة في المعارض السياحية الدولية، خصوصًا تلك التي تُقام في دبي وباريس. هل ترى توقيتًا آخر أنسب من ذلك؟


أجاب فريد وهو يغلق الملف ويضعه بهدوء على الطاولة:

ـ بل أراه توقيتًا مثاليًا. لدينا متسع للتجهيز، وسأقوم بترشيح فريق إعلامي وتسويقي يمكنه تولّي إعداد هوية بصرية احترافية للوكالة، مع خطة واضحة للمحتوى والتواصل مع الوكلاء الخارجيين.


ثم تابع قائلاً بابتسامة خفيفة:

ـ الأهم أن نبدأ بداية ذكية؛ فليست العبرة بالظهور السريع، بل بالثبات المدروس.


قال جيرالد وهو يبتسم بإعجاب صادق:

ـ إنها حقًا كلمات لا تصدر سوى عن رجل خبير، لا عجب في أنهم يلقبونك بـ"اللورد فريد"... أنت لا تدخل صفقة إلا وتنقذها من الانهيار، كما يفعل اللورد حين ينهض بمملكته في وقت الشدة. كل شركة كنتَ تدخلها كانت توشك على السقوط، ثم تتحول على يديك إلى قلعة قائمة من جديد.. إضافة لكونك تشبه كثيرًا نبلاء الإنجليز في أناقتك، وانضباطك، وسعة أفقك.


ابتسم فريد ابتسامة هادئة متزنة، لا توحي بفرح غامر بذلك المديح، وكأن ما سمعه ليس بجديد عليه، ثم قال بنبرة رصينة:

ـ شكرا لك سيد جيرالد، على كل حال.. سنؤجل التوقيع النهائي للغد، لحين الانتهاء من مراجعة المسودة والعقود مرة أخرى.


نهض فريد معلنًا انتهاء اللقاء، فنهض جيرالد وصافحه بحرارة، وقال بابتسامة ودودة:

ـ شكرًا على ثقتك يا فريد. أظننا بدأنا صفحة جديدة في سجلّ ناجح بإذن الله.


أومأ فريد موافقًا، ثم غادر الصالة بخطى واثقة، فيما بادر جيرالد فورًا بإجراء اتصال هاتفي، وقال:

ـ مرحبًا سيد نادر، أردت إبلاغك بأن كل شيء يسير على ما يرام. شراكتنا مع فريد أصبحت وشيكة التحقق، فغدًا سنوقّع العقود النهائية، وتنطلق رحلة العمل فورًا !!!!!!


༺═────────────────═༻


ما إن غادر فريد الفندق، حتى بدأت ملامحه بالانكماش تدريجيًا، وكأن القناع الذي ارتداه للتو قد ذاب تحت حرارة القلق المتراكم داخله. عاد الإحباط ليزحف إلى صدره، ذاك الإحباط الذي ظلّ يكابده بصمت طوال لقائه مع جيرالد.


مدّ يده إلى ربطة عنقه يعبث بها بضيق، قبل أن يفكها بنفَسٍ مكتوم، كمن يحرر نفسه من قيدٍ ثقيل. انزلق إلى داخل سيارته وأغلق الباب بإحكام، ثم ألقى بجسده المُثقل على المقعد، كأن روحه فقدت توازنها. خلع ربطة العنق تمامًا ورماها إلى جواره، ثم نزع سترته، وشرع يشمّر أكمام قميصه حتى منتصف ساعديه، علّه يتنفس بحرية.


كان يشعر بشيء يخنقه، اختناق غير مادي، لا من الحر أو الضيق، بل من الداخل.. من فكرة لم تكتمل، من احتمال لم يُغلق، من تفصيلة لم تُضبط كما يجب.


لماذا يُماطل؟ لماذا لم يوقّع العقود اليوم كما كان مُقررًا؟ لا يدري.. شيء ما في داخله يمنعه. صوت خافت يهمس: "ليس الآن.. ثمة شيء ناقص.. تفصيلة لم تتحقق.. أمر لم يُراجع."


عقله لا يكفّ عن طرح الأسئلة، الأسئلة نفسها، مرارًا وتكرارًا:

 "هل تأكدت من كل بنود العقد؟ هل قرأته أكثر من مرة؟ ماذا إن فاتتك فقرة قد تُدمرك؟ ماذا لو كان هناك خطأ مطبعي صغير يقلب كل شيء؟ ماذا لو كان جيرالد يخفي نية مبيّتة؟"


الفكرة لا تتركه، تحاصره، تعيده إلى النقطة نفسها، رغم أنه قرأ العقود أكثر من خمس مرات. ورغم الضمانات، هناك ذعر داخلي من التفاصيل الصغيرة، من الهفوات التي لا تُغتفر.. وكأن حياته كلها تقف على نقطة فاصلة لم يرها بعد.


طوال مدة حديثه مع جيرالد كان يقول لنفسه:

 ـ ربما لو أعدت المراجعة مرة سادسة.. ربما لو عرضته على محامٍ آخر.. ربما لو انتظرت الغد، سيكون عقلي أكثر صفاءً.."


ثم يهمس شيء أعمق في قلبه:

"ربما لا ينبغي توقيعه أبدًا.. ربما هو بداية الخطأ الكبير الذي ستندم عليه.."


وفجأة.. يتذكر نظرات جيرالد، وطريقته في الابتسام، ثم يعيد تحليلها بتوتر:


"هل كان يخفي شيئًا؟ هل ابتسامته طبيعية؟ هل ضغط على يده بقوة متعمدة في المصافحة؟ هل تلك إشارة؟"


أغلق عينيه بقوة، وضغط بجبهته على المقود، كأنه يحاول إسكات صخب التفكير الإجباري داخله، لكن الأصوات لم تهدأ، بل أخذت تتناسل في رأسه كأنها جنود تعبأ للمعركة.


مرت لحظات وهو يتنفس بصعوبة، يحاول أن يستجمع شتاته، لكن كل محاولة منه لإقناع نفسه بالهدوء كانت تقابلها موجة من الشكوك.


فتح عينيه فجأة، ثم التفت إلى المقعد المجاور وكأنه يتحقق أن حقيبته لا تزال هناك، وكرر تلك النظرة المرتابة إلى مرآة السيارة.


ضغط على صدره براحة يده، كان يشعر وكأن قلبه يطرق جدران قفصه في عصبية. لم يكن شيئًا في العالم يُرضي قلقه.


أدار المحرك بعصبية، لكن يده توقفت قبل أن يضغط دواسة البنزين.. التقط حقيبته وأخذ يفحص كل الأوراق، ويتأكد… ربما أسقط شيئا، ربما دس أحدهما ورقة عن عمد، ربما كان عليه أن يراجع كل شيء مرة أخرى !!


أرجع رأسه إلى الخلف مطلقًا زفرةً تحمل ثقل العجز، يحاول أن يتغلب على أفكاره المتشابكة، وهو يدرك تمامًا أن سيل الفرضيات الذي لا ينقطع ليس إلا دليلًا صارخًا على أن عدوه القديم قد عاد ليتربص به من جديد، وبقسوة أشد هذه المرة.


كان يدرك أن ما يحدث داخله ليس طبيعيًا، لكنه لم يجد وسيلة يُسكت بها ذلك الضجيج المتواصل الذي يعصف بعقله.


سوى عندما تذكّر النصيحة التي أسداها له الطبيب النفسي يومًا:

"أن يصنع موضع ألم... شيء يُوجعه جسديًا، لكنه يشتت ذهنه، يلهيه عن سيل الأفكار الجارف."


حينها، رفع يده ببطء، وضغط بأصابعه على موضع معين في ساعده، كما اعتاد أن يفعل. لم يكن الألم حادًا، لكنه كان كافيًا ليُحدث شرخًا بسيطًا في جدار ذهنه المشحون بالأفكار المتدفقة.


وكأن ذهنه توقف لوهلة، تراجع الصخب قليلًا، ثم عاد أضعف، أكثر خضوعًا.


كان يعرف أن هذه الحيلة مؤقتة، لكنها تمنحه هدنة.

هدنة، ولو قصيرة، يستطيع خلالها أن يتنفس.


بمجرد أن تدارك نفسه من جديد، انطلق بسيارته عائدًا إلى منزله، عليه أن يستعيد توازنه قبل أن ينهار تماما .


༺═────────────────═༻


هل جرب أحدكم يومًا أن يغفو مثقلًا، ثم يستفيق فجأة ليجد نفسه وكأنه يُحلّق في فردوسٍ لا يُشبه إلا الأحلام؟

ذلك كان تمامًا إحساسها عندما فتحت عينيها لتجد وردة حمراء موضوعة بعناية في مكانه، تشعّ بعطرٍ دافئ يُشبه حضوره، كأنها كانت تنوب عنه في البقاء.


رفعت رأسها ببطء، فما لبثت أن لمحت على الأرض رسمًا بسيطًا لسهم، منثورًا ببتلات الورد، يشير صوب باب الغرفة. اتسعت عيناها بدهشة ممزوجة بالحنين، وتبعت السهم بخطى مترددة، تتعقّب أثر الورود المتناثرة كأنها نثرات عشق صامتة، تتفتح تحت قدميها كأنما تفرش لها دربًا من السعادة.


خرجت من الغرفة لا تدري ما ينتظرها، لكن قلبها كان يسبقها بخطوات، يلهث كطفل يركض صوب مفاجأة طال انتظارها.


على امتداد الممر، تابعت الورود رحلتها، تتهادى في نسقٍ بديعٍ كأنها تعزف لحنًا لا يُسمع إلا للقلوب العاشقة. تباطأت خطواتها كلما اقتربت، حتى وصلت باب الشرفة، ففتحته بهدوء، وتوقف نفسها برهة من فرط ما رأت.


فقد وجدت الشرفة وقد تحولت إلى حديقة صغيرة، يفوح منها عبق الأزهار، وعلى الطاولة المستديرة تنتصب صينية أنيقة تحمل فطورًا بسيطًا أُعِدَّ بعناية ومحبة.


نظرت حولها تبحث عنه، حتى لمحته واقفًا في أحد الأركان، مولّيًا إياها ظهره، وهاتفه على أذنه.


كان يتلقى اتصالًا من رشيد، يُبلغه فيه أن سالم قد أُصيب بجلطة حادّة وهو الآن في المشفى. انقبض وجه عاصم لحظتها، وشعر بمرارة لم يستطع إخفاءها، وتوسل في أعماقه ألا تكون هذه نهاية سالم.


ذلك الرجل لا يستحق نهاية صامتة، لا زال في نفسه ثأر لم يُغلق، ولحظة لم تُحسم.

لا، لا يمكن أن تموت الآن يا سالم مرسال، ليس قبل أن أنال منك وأكتب نهايتك بيدي !


في تلك اللحظة، شمّ نسيمها ينساب نحوه قبل أن يسمع وقع خطواتها. كانت كعادتها، لا تطأ الأرض إلا وتفوح منها رائحة ورد تعبُر إلى القلب دون إذن.


أنهى الاتصال بتمهّل، وأبعد الهاتف عن أذنه، ثم استدار نحوها، وعلى وجهه ابتسامة هادئة، وفتح ذراعيه وتلقّفها كمن يستردّ جزءًا من روحه.


ضمّها إليه بحنان، فأسندت رأسها إلى صدره، تطوّقه بذراعيها وتهمس بصوتٍ ناعم:

ـ صباح الخير...


قبّل أعلى رأسها بلطف، وردّ بصوته الدافئ:

ـ صباح الورد...


رفعت رأسها ونظرت في عينيه باسمة، وقالت:

ـ صباح الورد فعلاً مش مجازًا.. 


ضحك بهدوء، واقترب أكثر، قبّل مقدمة أنفها، ونظر في عينيها قائلاً بنبرة دافئة تحمل إطراءًا صادقًا :

ـ الورد للورد ، لازم دايمًا أعاملك بالطريقة اللي تليق بيكي .


أسندت رأسها إلى صدره من جديد، تتنفس دفء حضنه وتُصغي لنبضات قلبه التي باتت تعني لها الحياة. مرّر يده برفق على ذراعها، بينما كان شارد الذهن، يتصارع داخله صخب الأفكار والتفاصيل التي لا تهدأ، حتى قطعت هي الصمت وهمست:

ـ كنت بتكلم مين؟!


انتبه لسؤالها، فحدّق في عينيها بنظرة هادئة وقال بثبات:

 ـ رشيد.. كان بيظبطلي شوية حاجات تخص الشغل.


نظرت له بتعجب وقالت:

 ـ ليه هو انت مش ناوي تروح الشغل بردو؟


ابتسم بخفة، وأبعدها برفق عن صدره، ثم أمسك يدها وسار بها ناحية الطاولة وهو يقول: 

ـ وانتي شفتي قبل كده عريس يسيب مراته في شهر العسل وينزل الشغل ؟! طب ده حتى يبقى مغفل .


ضحكت بهدوء وهي تتفادى النظر إليه، ثم ردّت مازحة:

 ـ وسيادتك ناوي تفضل عريس لحد إمتى بقى؟!


جلسا معًا، ونظر إليها بعينين تعجّان بالعشق، وقال بنبرة عميقة:

 ـ لحد ما أشبع منك.. 


ناولها شريحة خبز بعد أن دهنها بالمربى، واقترب بها من فمها لتأخذ قضمة، بينما عيناه معلقتان بعينيها وهو يقول بابتسامة دافئة:

ـ وبما إني مش هشبع منك أبدًا فاعتبري إني في أجازة مفتوحة ..


ثم أرسل لها غمزة مشاكسة وأضاف بخفة ظل:

ـ فاضيلك يا جميل .


بدأت تتناول طعامها بهدوء، وكذلك هو ظل صامتًا، غارقًا في التفكير بما أخبره به رشيد، حتى قطعت هي الصمت بصوت يملؤه الضيق، قائلة:

ـ عاصم.. قضية الحيوان اللي اسمه موسى وصلت لفين؟


نظر إليها باهتمام، وأجاب:

ـ هيتحكم فيها يوم ٣٠.. بتسألي ليه؟


هزّت رأسها بلا اكتراث، وقالت:

ـ عادي.. بسأل.


شعر بضيقها، فمد يده وأخذ كفها بلطف وضغط عليه داعمًا، ثم قال:

ـ متشغليش بالك يا حبيبتي، هياخد الحكم اللي يستحقه إن شاء الله.


أومأت بتأكيد، فتابع بنبرة مبهمة:

ـ لازم كل واحد ينال جزاء أفعاله.


أومأت من جديد، فقال وهو يتابع بنبرة دافئة:

ـ من المفروض إن افتتاح دار الأيتام الأولى هيكون الأسبوع الجاي..


نظرت إليه باهتمام، فابتسم، وفي عينيه لمحة شجن وهو يقول:

ـ متحمس أشوف اسم حازم الله يرحمه متعلّق على واجهة الدار.. حاسس إن دي أكتر خطوة صح خدتها علشانه.


أومأت بصمت، وقد اغرورقت عيناها بأطياف من الذكريات القديمة، سرعان ما جرفها الحنين وغرقت فيها، فأحسّ هو بشعورٍ لم يكن مستعدًا لمواجهته.. غيرة خفية تسللت إلى قلبه، من ذلك الحنين الذي سكن عينيها حينما ذُكر اسم أخيه.. لذلك سحبها من شرودها سريعًا قائلاً:

ـ بعد ما نفطر هنروح مشوار مع بعض، محضر لِك مفاجأة.


نجح فعلًا في لفت انتباهها من جديد، فقد التمعت عيناها بفضول طفولي وهي تقول:

ـ مفاجأة إيه؟!


ـ بلاش تستعجلي.. خلّينا نفطر الأول، وبعد كده هقولّك.


أنهت فطورها على عجل، يتملكها الحماس، تتوق لمعرفة ما ينتظرها؛ فقال بنبرة دافئة وهو يسحبها لتجلس فوق قدميه ويضمها إليه:

ــ اتفاجئت أول مبارح إنّي مبعوت لي دعوة رسمية من اللجنة المنظمة لبطولة الملاكمة الدولية في كوبا، كعضو شرفي في لجنة التحكيم الفخرية.


نظرت له بدهشة أكبر، فابتسم وأضاف:

ــ الظاهر إنهم لسه فاكريني، خصوصًا بعد ما انتشرت قصتي في مجلة الرياضة اللاتينية، وإن سجلي القانوني أخيرًا اتمسح بعد انتهاء فترة العقوبة... وبقيت دلوقتي رسميًا أقدر أرجع وأشارك في البطولات أو حتى أكون جزء من لجان التحكيم.


ابتسمت بسعادة لأجله، وقالت وهي تضع يدها على وجهه بحنان:

ـ طيب مش بتفكر ترجع تشارك تاني؟ جايز يجيلك عرض كويس وترجع تعمل الحاجة اللي إنت بتحبها ؟!


أومأ نافيًا، وقال بعد أن تنهد :

ـ لأ.. خلاص موضوع الملاكمة بالنسبة لي مبقاش في أولوياتي، الظاهر إن حازم الله يرحمه كان معاه حق إنه يخاف عليا منها، مخدتش منها غير وجع القلب وسنين شبابي ضاعت على الفاضي .. كل ما هنالك إني كده كده كنت عاوز أنا وانتي نسافر نقضي يومين في مكان بعيد شوية ، فلما جتلي الدعوة قلت ليه لأ ؟! نسافر كوبا، منها أحضر البطولة ومنها نقضي وقت لذيذ هناك.. إيه رأيك ؟!


مررت أناملها برفق بين خصلات شعره، ثم أسندت رأسها إلى كتفه وهمست بابتسامة دافئة:

ـ طبعًا موافقة، ومتحمسة جدًا كمان.


ابتسم بدوره وقال وهو ينهض قليلًا:

ـ طيب يلا .. خلينا نجهز علشان نروح نخلص موضوع التأشيرة والجوازات.


أومأت موافقة، ثم شهقت بخفة وكأن شيئًا تذكّرته فجأة، وهتفت:

ـ الأول لازم أفتح موبايلي وأكلم فريد وبعدين نغم.. واضح إن حصل حاجة مبارح خلتهم يلغوا عيد الميلاد.


نظر إليها وهو يبتسم، ثم قرص خدها بلطف وقال بنبرة دافئة:

ـ بعدين يا حبيبي، نخلص مشوارنا الأول ولما نرجع كلميهم زي ما تحبي..


رفعت حاجبها بضيق خفيف، فأردف بنبرة تبدو بريئة، تخفي ما هو أكثر:

ـ ماهو مش معقول بردو تكلميهم تحققي معاهم على الصبح كده يا نسيم! اليوم طويل كلميهم بعدين.


بدت عليها علامات الاقتناع، فأجابت:

ـ صح، معاك حق.


هز رأسه بثقة وقال مبتسمًا:

ـ امشي ورايا تكسبي.


ثم نهض، وحملها بين ذراعيه بخفة، متجهًا بها نحو الغرفة، بينما عيناه لا تبارحان وجهها، وقال ممازحًا:

ـ تصدقي إني نسيت أستغل موضوع السفر ده وأطلب رشوة؟


رفعت حاجبيها باندهاش مشوب بالحنق وهتفت:

ـ على فكرة إنت اللي اقترحت موضوع السفر مش أنا!


ضحك ابتسامة واسعة وهو يومئ برأسه قائلاً:

ـ أنا اقترحت وانتِ وافقتي.. حتى قلتي بالنص إنك موافقة ومتحمسة جدًا كمان ! يبقى طالما السفرية دي هتعود عليكي بالنفع إذًا من حقي أخد مقابل أنا كمان.


وما إن وصل إلى السرير حتى ألقاها فوقه بخفة، فهتفت وهي تحاول كتم ضحكاتها:

ـ انت انتهازي على فكرة!


نظر إليها، وبدأ يعدّ على أصابعه قائلاً بمبالغة درامية:

ـ ومتسلق، ووصولي، واستغلالي، ومُرتشي… 


ثم أدار جسده نحوها، ولفّ ذراعه حول خصرها بحنو واضح. وعيناه رغم المزاح كانت تشعّان بحب لا تخطئه عين، ثم قال بنبرة حانية:

ـ وبحبك…


ثم طبع قبلة طويلة على شفتيها، كأنها اعتراف خطير كان مكتومًا لسنين، وتابع بهمس:

ـ وبموت فيكي…


ثم مال برفق ليقبّل خدها، وقال بعدها:

ـ وبعشقك…


كانت أنفاسه تتلاحق مع كل كلمة، ومع كل صفة كان يهمس بها، يُهديها قبلة، كأنها ختم يؤكّد به صدق مشاعره. لم يكن يمزح.. كان عاشقًا على طريقته… ساخر في ألفاظه، لكنه صادق في مشاعره .


أما هي، فكانت تذوب رويدًا، تنصهر، تفقد نفسها في حضرة رجل يعرف كيف يحب، ويُتقن فن اللعب الكلمات واللمسات في آنٍ واحد.


༺═────────────────═༻


في المساء...


كان الجميع في المستشفى ينتظرون في صمتٍ مشوب بالقلق. جلس كلٌّ من حسن، عمر، زينب، نادية، وجيلان متفرقين في المقاعد، يتبادلون النظرات بين حينٍ وآخر، لكن الصمت بقي سيد الموقف، وكلٌّ منهم غارقٌ في أفكاره، يحكي لنفسه ما لا يجرؤ على البوح به.


اقترب حسن من عمر وهمس بصوت منخفض:

ـ نسيم تليفونها مقفول من الصبح!! أنا بفكر أروح لها البيت وأبلغها.. جايز تكون حابة تشوفه وتزعل إن محدش قالها.


ردّ عمر بنبرة هادئة دون أن ينظر إليه:

ـ لأ، متقلقش، مش هتزعل.


التفت إليه حسن بدهشة وقال، وهو يضرب كفًا بكف باستنكار:

ـ أنا مش فاهم البرود اللي نازل عليك ده جايبه منين؟!


ابتسم عمر ابتسامة خفيفة، أشبه بابتسامة من اعتاد الخذلان، وقال بهدوء:

ـ من عصارة خمس وعشرين سنة عشتهم مع الباشا، ضربني فيهم أكتر ما حضني، هزّأني أكتر ما قالّي كلمة حلوة.. إنت متخيل يعني إنه لما يتعب قلبي هيوجعني علشانه؟! نفس الحال مع نسيم.. شافت منه اللي محدش شافه، فبالنسبة لها وجوده من عدمه مش فارق.. علشان كده بقولك، نسيم مش هتزعل.. لأنه ماقدّمش لينا حاجة تشفعله.


تنهد حسن بضيق واضح، ثم نهض من مكانه وتوجه نحو النافذة، كأنما يبحث عن نفسٍ أوسع من هواء القاعة المكتوم. فخطرت على باله نغم، وتذكر مشهد الأمس، وما جرى من فريد، وثورته المفاجئة.


مدّ يده إلى جيب بنطاله، أخرج هاتفه ونظر إليه قليلاً، ثم قرر أن يتصل بها ويسألها عما جرى. لكن يده تجمّدت عند آخر لحظة، حين سمع صوت الممرضة التي خرجت للتو من غرفة والده تقول:

ـ سالم بيه فاق، الحمد لله.


استدار حسن بسرعة، عائدًا نحوهم، وقلبه يخفق بخليطٍ من الترقب والقلق، بينما الممرضة تتابع قائلة:

ـ  الحمد لله حالته دلوقتي مستقرة، وبدأ يستعيد وعيه تدريجيًّا، لكن لسه محتاج راحة وممنوع الزيارة دلوقتي غير لحدّ واحد بس.


ساد المكان صمتٌ مشحون بالتوتّر، تشابكت فيه النظرات وتقاطعت بين الحاضرين، وكأنّ كلّ منهم ينتظر الآخر ليكسر هذا الجمود.


قطع حسن هذا الصمت أخيرًا، بصوتٍ هادئ لكنّه حازم: — أنا هدخل أشوفه.


لكن نادية سارعت بالكلام، مقاطعةً قراره دون تردّد: 

— لأ، عمر هو اللي هيدخل... وإنت خليك لوقت تاني.


إلا أن عمر، على عكس المتوقع، رفع حاجبيه وقال بنبرة ساخرة ممزوجة باللامبالاة: 

— لأ، أنا مش ضروري أدخل دلوقتي... ولا حتى بعدين!


وقبل أن يزداد التوتّر، تقدّمت الممرضة بخطوات هادئة، ثم نظرت نحو حسن وسألته: 

— حضرتك حسن؟!


أومأ برأسه إيجابًا، فقالت بنبرة جدّية:

 — يفضّل تدخل له انت.. لأنه ذكر اسمك أكتر من مرة من ساعة ما بدأ يفوق.


تبادل حسن وعمر النظرات، ثم التفت عمر نحو والدته نادية، وحدّق فيها طويلًا، بعينين تقولان بوضوح " أرأيتِ؟ "


انصرف عمر إلى الخارج، ببنما دخل حسن الغرفة، فرأى والده مستلقيًا على السرير، وجهه شاحب، وعيناه نصف مفتوحتين، تتجولان ببطء كأنهما تبحثان عن شيء مفقود.


اقترب حسن، وجلس على الكرسي القريب منه، وتمتم بصوت خافت مرتجف :

ـ عامل إيه دلوقتي يا حج ؟!


رمش سالم ببطء، ثم أدنى رأسه قليلا ناحيته، وقال بصوت واهن بالكاد يسمع :

ـ حسن .. 


أومأ حسن بسرعة وهو يمسك يده:

ـ أيوة أنا جنبك ، سامعك .. عاوز تقول حاجة ؟!


تهادى صوت سالم مرتجفا، وكأنه مذعورا من شيء ما:

ـ مش عاوزك تركز في اللي قاله فريد.. متزعلش .


هز حسن رأسه وضم يد والده أكثر، ثم قال بصوت تختنق به العبرات :

ـ مش زعلان ، متشغلش بالك انت أهم حاجة تقوم لنا بالسلامة.


ارتسمت ابتسامة واهية على جانب شفتي سالم، وتساءل بصوت خافت:

ـ خايف عليا ؟


ارتجف صوت حسن، لكنه حاول التماسك، وقال:

ـ أكيد.. مش انت أبويا ؟! في حد ميخافش على أبوه ؟!


ابتسم سالم ابتسامة خفيفة، ثم أغلق عينيه لثوانٍ، قبل أن يفتحها بصعوبة ويربت بأنامل واهية على يد حسن الذي قال:

ـ أنا مش عاوز أتعبك ، هسيبك ترتاح دلوقتي لكن هفضل مستني بره، عمر كمان مستني معايا وكلهم هنا وقلقانين عليك.. بس الممرضة قالت واحد بس اللي يدخل وأنا أصريت أدخل ، عمر هيدخل يطمن عليك وقت تاني .


هز سالم رأسه باقتضاب، ونظر إلى حسن نظرةً مربكة، حيرت الأخير وأربكت قلبه.


كأن عيني والده تخفيان خلف سكونهما شيئًا لم يفهمه بعد.. 


شيئًا بين الرجاء والخوف، أو ربما الحزن العميق الذي لا تُجيد الكلمات ترجمته.


غادر حسن الغرفة وهو يشعر بثقل غريب يجثم على صدره .


غادر حسن الغرفة وخطاه تجر بعضها بثقل. وما إن لمح نادية تحدّق فيه بتأهب، وزينب تتابعه بترقب، حتى قرر ألا يبقى في قاعة الانتظار، وانصرف قاصدًا الخارج ليجلس رفقة عمر، لكن ما إن خرج حتى لمح عمر يركب سيارته ويغادر المكان.


فجلس حسن على أحد مقاعد الانتظار في الساحة الخارجية، أخرج سيجارة من جيبه وأشعلها خلسة، ثم جلس يحاول أن يجمع شتات أفكاره المتناثرة.


وفجأة، سمع وقع خطوات حذاء نسائي يلامس الأرض برتابة خلفه، وقبل أن يلتفت، كانت چيلان قد جلست على طرف المقعد الطويل، واضعةً ساقًا فوق الأخرى، ثم رمقته بطرف عينها وقالت بسخرية:

ـ كل مرة مستوى ذكائك بيبهرني الصراحة .


كان يدرك أن كلماتها مغموسة في السخرية والازدراء، لكنه لن يكون حسن إن لم يُصبها بجلطة مثل تلك التي أصابت والده. فتنهد ببرود، وأطلق سحابة من دخان سيجارته، ثم قال :

ـ بس أنا بقا مستوى ذكائِك مش بيبهرني الصراحة.


رفعت حاجبًا بضيق خفي، ثم تنهدت وهي تحاول ألا تظهر أثر الضيق عليها، وتابعت:

ـ فاكر إنك أذكى واحد في الدنيا، وإنك هتقدر تلغي وجود عمر وفريد في لمح البصر وهتاخد انت اللقطة زي ما بيقولوا .


ابتسم حسن ابتسامة خفيفة، ومال بجسده للأمام قليلًا، وهو يرمقها بنظرة واثقة ممزوجة ببعض التهكم، ثم قال بنبرة ثابتة:

ـ أخد اللقطة من مين وليه؟! وبعدين أنا مش محتاج أخد لقطة ولا أتعب نفسي.


وأشار لنفسه بطريقة تعكس ثقته وقال:

ـ أنا حسن سالم مرسال زي ما انتي شايفة، يعني مش محتاج أثبت حاجة .


رفعت رأسها بشموخ، ثم زفرت بهدوء وقالت بلهجةٍ ساخرة:

ــ طيب ما هو فريد كمان ابن سالم مرسال، بس شتان بينك وبينه بصراحة... اسأل نغم، وهي تقولك الفرق! ليه حبّته هو وإنت لأ؟!


كانت كلماتها قاسية، وأصابته في مقتل، لكنه أخفى تأثره ببراعة. ابتسم ابتسامة أوسع، وتقدم نحوها بخطوة، ثم غمز لها بطريقة تنطوي على سؤال خفي، وقال متعمدًا استفزازها:

ــ طب ما تجاوبيني انتي على السؤال ده... فريد ليه حب نغم وإنتي لأ؟!


اتسعت عيناها بذهول، وظهر الارتباك جليًا في ملامحها. ابتلعت ريقها في توتر، ثم نهضت فجأة، وانسحبت غاضبة، تخبط الأرض بخطواتها السريعة وهي تغادر المشفى وتتجه نحو سيارتها.


أما هو، فظل يراقبها وهي تبتعد، وابتسامته لا تفارقه، ممزوجة بزهوٍ وانتصار، وفي داخله قد أقسم، أن ذلك الفرس الجامح لن يروضه سواه .


#يتبع

 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع