القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي وعشرون 21بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي وعشرون 21بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي وعشرون 21بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ٢١ ـ


~ نتيجة عكسية ؟! ~


ــــــــ


في صباح اليوم التالي، وبينما كان حسن ينتظر في الرواق برفقة عمر ونادية، التي أصرت على الحضور منذ ساعات الصباح الأولى، خرج الطبيب بعد أن أنهى فحصه لسالم، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة مطمئنة، ثم قال بنبرة هادئة:

ـ الحمد لله، نقدر نقول إن الخطر زال بنسبة ٨٥٪.. الوالد دلوقتي كويس جدًا، ومؤشراته كلها مستقرة ومطمئنة.


كان حسن أول من تنفس الصعداء، إذ أطلق زفرة مسموعة، ومسح وجهه براحة ظاهرة، ثم التفت إلى الطبيب وقال:

ـ طيب يعني نقدر دلوقتي نشوفه ونتكلم معاه؟!


رد الطبيب بإيماءة إيجابية وقال:

ـ أيوه، دلوقتي تقدروا تشوفوه وتتكلموا معاه، بس يُفضّل تدخلوا اتنين باتنين علشان نحافظ على الهدوء والراحة للمريض، وطول اليوم هيكون تحت الملاحظة، وبإذن الله بكرة الصبح نكتب له خروج.


وضعت نادية يدها على كتف عمر، وضغطت عليه برفق وهي تدفعه نحو الباب قائلة:

ـ يلا يا حبيبي، ادخل اطمن على باباك.


همَّ حسن بالدخول هو الآخر، ينوي مرافقة عمر، لكن يد نادية ارتفعت أمامه فجأة، تعترض طريقه، وهي تقول بصرامة:

ـ من فضلك استنى إنت.. عمر هيدخل الأول.


رمقها حسن بنظرة دهشة، ورفع حاجبه مستنكرًا، وقال بحدة لا تخلو من سخرية:

ـ هو إيه اللي عمر هيدخل الأول؟! هو احنا واقفين على باب الحمام؟!


ثم تقدّم بخطوة نحو عمر، وأحاط عنقه بذراعه في حركة ودية، لكنها تحمل في طياتها رسالة سيطرة على الموقف واضحة، وقال بابتسامة واثقة:

ـ أنا وعمر هندخل سوا.. يلا يا عمر.


ومضى الاثنان معًا نحو باب الغرفة، وعندما حاولت نادية اللحاق بهما، وجدت حسن يقف عند الباب عارضًا جسده ليمنعها، وابتسامة مصطنعة ترتسم على وجهه وهو يقول:

ـ لا مؤاخذة ، الدكتور قال اتنين باتنين !


رمقته نادية بنظرة يملؤها الذهول، يتخللها بعض من الحيرة، ثم تراجعت خطوة إلى الوراء حين رأته يُغلق الباب خلفه، فتنفست بعمق تحاول جاهدة السيطرة على الغضب المتصاعد بداخلها، وأخذت تضرب راحة يدها بقبضة اليد الأخرى وهي تتنقل في الرواق ذهابًا وإيابًا، تتمتم بكلمات لم تُرد أن تُسمع، لكنها وصلت واضحة إلى مسامع زينب:

ـ الحقير!! بيقفل الباب في وشي أنا! يظهر إنه نسي أصله ابن الخدامة!!


كانت كلماتها تقطر غضبًا وحقدًا، ونظراتها لا تخفي نيران الغيظ، مما دفع زينب إلى الرد وقد بلغ بها الصمت مبلغه، فقالت بهدوء متماسك:

ـ ابن الخدامة ده يا نادية هانم يبقى ابن سالم باشا زيه زي عمر ابنك.. وهو أولى الناس بزيارة أبوه، خصوصًا إنه طول الليل واقف على رجليه قدام أوضته ومستني يطمن عليه، وكان قلقان أكتر من أي حد.


رمقتها نادية بعينين يشتعلان غضبًا، وصرخت بانفعال حانق:

ـ الكلمة وجعتك أوي مش كده!! طبعًا... ما الخدامين لازم يتحمقوا لبعض!! وبعدين إنتي هتديني درس في الأخلاق ولا إيه؟!


لم تجب زينب، بل أخفضت نظرها بهدوء وتجنبتها تمامًا، لكن في أعماقها، كانت تشعر بنيران الغضب تلتهمها، وتتوسل إلى الله أن يحرق بنفس تلك النيران من كان السبب في ذلها !


---


في الداخل، دخل حسن وبجواره عمر، واقتربا من سرير سالم الذي بدا عليه التعب، رغم محاولته رسم ابتسامة واهنة حين رآهما يتقدمان نحوه.


انحنى حسن أمام والده، وأمسك يده ثم قبّلها بلطف، قبل أن يضغط على كتف عمر ويشير له بعينيه أن يفعل المثل. فعل عمر ذلك على مضض، وقال بنبرة قصيرة:

ـ حمدالله على السلامة.


جلس الاثنان أمامه، على الكراسي الموضوعة قرب السرير، فابتسم حسن وقال بنبرة دافئة:

ـ حمدالله على سلامتك يا حج. ربنا ميحرمناش منك، وتفضل دايمًا فوق راسنا.


ابتسم سالم ابتسامة خفيفة، لكنها كانت صادقة، فقد كان حسن يجيد انتقاء كلماته، ويعرف كيف يخاطب نقطة ضعفه الأثيرة: غروره.


أومأ سالم برأسه ببطء، منتشيًا بتلك الكلمات التي أرضت شيئًا في داخله، ثم وجه حديثه إلى عمر قائلًا:

ـ عامل إيه يا عمر؟!


تفاجأ عمر بالسؤال، فرفع ناظريه عن الأرض إلى وجه والده، ثم أومأ بإيماءة خفيفة وأجابه بنبرة باردة:

ـ كويس، إزي حضرتك؟


أومأ سالم بهدوء، وقال:

ـ أنا بخير طول ما أنا شايفكم مع بعض وجنب بعض دايمًا...


ابتسم حسن، ونظر إلى عمر بحنان، ثم أحاط عنقه بذراعه وجذبه قليلًا ناحيته قائلًا بمرح:

ـ متقلقش يا حجوج، عمر ده حبيب أخوه.


بادل عمر ابتسامته بهدوء، وربت على فخذ حسن تأكيدًا لكلامه، فتابع سالم حديثه بنبرة صافية:

ـ أنا مش قلقان طول ما عمر عنده أخ زيك يا حسن، الأب بيكون مرتاح لو ولاده بيحبوا بعض، لأنه بيكون واثق حتى لو مات، هيسيبهم قلبهم على قلب بعض.


ثم تنهد ببطء، وكأن في صدره شيئًا أثقله، وحدّق في عمر وقال:

ـ و علشان أكون منصف بردو، لازم أقولك إنك أكتر واحد محظوظ في إخواتك، لأنك عندك أخ كبير زي حسن، وأخ تاني بيعتبر نفسه أب ليك زي فريد... إخواتك دول نعمة، لازم تحافظ عليهم، لأن الأخ هو اللي بيدوم، وهو اللي بينفع.


ثم نقل بصره إلى حسن الذي بدا متأثرًا بتلك الكلمات، فأردف سالم:

ـ لا فلوس بتنفع، ولا زوجة، ولا ولاد... الأهل أولًا وآخرًا يا حسن. أهم من كل شيء. مش هيسندك ولا يقف في ضهرك غير أخوك.


هزّ حسن رأسه مقتنعًا، وهو يحاول أن يُخفي مشاعره المتأججة، بينما تابع سالم بنبرة حزينة وهو ينقل عينيه بينهما ثم إلى الفراغ أمامه:

ـ ربنا يهديكم لبعض، ويبعد عنكم الشيطان اللي واقف بينكم ده!


في تلك اللحظة، لمعت نظرة ضيق خافتة في عيني حسن، ممتزجة بشعور بالعجز، فقد كان يكاد يجزم أن والده يقصد "شخصًا بعينه" بذلك الشيطان، ولولا أن وضعه لا يسمح بالجدال، لما ابتلع ذلك الوصف المهين، لكنه أسرّها في نفسه، وصمت.



في الخارج…


كانت نادية تتابع المشهد بعينين تغليان غضبًا، تراقب كل تفصيلة بدقة وشرر في قلبها يكبر ويشتد. رأت كيف ينظر سالم إلى حسن، وكيف يخاطبه، ثم كيف يتحدث مع ابنها، وكيف كانت ردود أفعالهم. وحين انتهت الزيارة، وخرج الاثنان من الغرفة، همّت نادية بالدخول، لكن صوت عمر استوقفها بلهجة حاسمة:

ـ متدخليش، بيقول مش عاوز ازعاج.


تجمدت في مكانها عند الباب، وحدّقت من خلف الزجاج إلى سالم المستلقي، تتساءل في صمت: هل قالها حقًا؟ هل طلب ألّا تراها؟ أم أن عمر يتصرف من تلقاء نفسه؟


جلس حسن في مكانه المعتاد، بينما مال عمر نحوه هامسًا بأنه سيعود إلى المنزل للراحة، فانتهزت نادية الفرصة، وخرجت خلفه، واستوقفته في بهو المستشفى تناديه باسمه بانفعال:

ـ عمر!


التفت إليها بتعجب، فأردفت غاضبة:

ـ رايح فين؟


أجابها بهدوء وهو يُدخل يديه في جيبي سرواله:

ـ راجع البيت، اتخنقت من جو المستشفى ده!


كزت على شفتيها مستاءة، وكأنها تحاول السيطرة على أعصابها، ثم قالت بصوت مكتوم:

ـ يعني مش قادر تصبر الكام ساعة دول؟؟


أشاح عمر بوجهه عنها، وزفر بحدة وقد نفد صبره، ثم قال بعصبية:

ـ مش عاوز أستنى! ومش مضطر أستنى في مكان مش على هوايا لمجرد إني أثبت له شيء مش موجود أصلًا! سميها غباء، سميها عدم مسؤولية، مش مهم. أنا مش همثل عليه الحب والاهتمام لمجرد إن حسن ميكونش أحسن مني.


نظرت إليه بخيبة واضحة، لكنها لم تسكت، بل ألقت ما بداخلها دفعة واحدة وقد علا صوتها بحرقة وغل:

ـ إنت أصلًا خلاص مبقتش محتاج تثبت ولا تنفي.. حسن مثل الدور بحذافيره واللي حصل حصل! مشوفتش كان بيبص له إزاي وبيبص لك إزاي؟؟ مشوفتش كان بيتكلم معاه باهتمام إزاي وبيهمشك إزاي؟! حسن كَل بعقله حلاوة زي ما بيقولوا وانت ولا انت هنا .


أغلق عمر عينيه في محاولة لكتم الغضب، ثم مرر يده في شعره بانفعال وقال:

ـ بقولك إيه يا ماما، بلا حلاوة بلا بطيخ! أنا كل الكلام ده ميفرقش معايا.. يشوفني أو ميشوفنيش ده آخر همي!


ثم نظر إليها نظرة حادة، وأردف:

ـ وبعدين أنا مش عارف انتي واخدة بالك من حسن ليه! بتحاولي تكرهيني فيه ليه وانتي عارفة إن محاولاتك دي كلها هتفشل! زي ما حاولتي تكرهيني طول عمري في فريد وبرضه فشلتي!! 


وتابع بحدة، وهو يهتف إليها غاضبا:

ـ بتكرهي اخواتي ليه وشايفاهم مصدر أذى؟! مع إن هم اللي المفروض يكرهوني مش العكس لأن وضعي أفضل منهم!! أنا ابن نادية هانم اللي خدت أبوهم من أمهاتهم !!


هتفت نادية وقد فُجعت بصراحته:

ـ إنت بتشبهني أنا بيهم؟!!


فقال بسرعة وغضب:

ـ هم مين يا ماما؟ ما خلاص الاتنين ماتوا ومش فاضل غيرك على ذمته! ليه بقى الكُره ده ناحية ولادهم؟ وليه بتحاولي تبعديني عنهم؟!


توقف لحظة ليلتقط أنفاسه، ثم أشار إليها محذرًا:

ـ لو سمحتي يا ماما، متحاوليش تفرقي بيني وبين إخواتي، أو تزرعي بينا العداوة، لأن صدقيني محاولاتك دي هتجيب نتيجة عكسية.


ثم تركها وغادر بخطًى مسرعة، تاركًا إياها في حالة من الذهول والصعقة، تسترجع جملته الأخيرة.

نتيجة عكسية؟!

هل يعني أنه سيبتعد عنها هي؟!

شعرت بأن الأرض تترنح تحتها، وكأن قلبها سقط أسفل قدميها، فما كان منها إلا أن عادت مسرعة إلى داخل المستشفى، التقطت حقيبتها وغادرت في عجلة.


وما إن خرجت، حتى أسرعت تُخرج هاتفها وتتصل بچيلان، وما إن أجابت ابنتها حتى هتفت نادية مستغيثة:

ـ الحقيني يا چيچي! عمر أخوكي اتجنن خلاص! الحقير حسن ضحك عليه وسيطر على دماغه، أنا مش قادرة أصدق! تخيلي بيقولي إيه؟!!


ردت چيلان ببرود شديد، قائلة:

ـ مامي.. بعد إذنك، عندي meeting ضروري، هخلصه وأكلمك حبيبتي، باي.


ثم أنهت المكالمة دون انتظار رد، تاركة نادية تحدق في شاشة الهاتف مصعوقة، تتلقى صفعة جديدة من أبناءها.

كيف وصل بها الحال إلى هنا؟

ماذا زرعت لتحصد هذا البرود والجفاء؟

اقتربت من أقرب مقعد وتهاوت فوقه بألم، بينما دار السؤال في ذهنها للمرة الألف... ثم جاءت الإجابة القاطعة: هي لم تزرع شيئًا قط لتجنيه ! 


༺═────────────────═༻


كانت تحتضن تلك الدمية التي أهداها لها، تضمها إلى صدرها كأنها تحنو على ما تبقى من ذكرى، وتسترجع في ذهنها كل لحظة من ذلك اليوم الذي اشتراها فيه، حين وعدته أنها ستحتفظ بها لتروي لأطفالهما عنها، وتحكي لهم قصة حبهما المتقدة كالنار.


ثم اصطحبها إلى الدار، وقدمها للأطفال على أنها خطيبته وزوجته المستقبلية، هي بالفعل كانت أقرب لأن تصبح زوجته، وتعيش معه عمراً من الدفء والسكينة…


نظرت إلى المرآة المقابلة لسريرها، وتسائلت :


ولكن، ما الجديد يا نغم؟!

منذ متى تتوّج أحلامك بالفرح؟

منذ متى تكتمل فصول قصصك بالسعادة؟

منذ متى والقدر يُهادنكِ؟

لطالما كانت خطواتكِ نحو السعادة تُبتر في منتصف الطريق.

...منذ متى وأمنياتك البسيطة تجد طريقها للنور؟

ألم تعتادي الخيبات يا نغم؟


وتلك الدمية، الشاهدة الصامتة على وعدٍ لم يتم، وذكرى من زمنٍ لم يكتمل، لا تزال بين يديكِ، لا لشيء إلا لتذكّركِ كم كنتِ قريبة من الفرح... وكم سلبكِ الواقع حقك فيه.


أنتِ لم تريدي الكثير، فقط حب، وبيت لا يُهدم، وذراعين تحتمين فيهما حين تشتد الحياة. لكنكِ ـ وكعادتكِ ـ استيقظتِ على غياب، وصدمة، وبرد لا يُدفّئه شيء، حتى الذكريات.


ولم يبقَ لكِ سوى تلك الدمية… وأنتِ.


كانت تمسح على شعر الدمية بأنامل مرتجفة، كأنها تُهدّئ بداخلها الطفلة التي لم تكبر، الطفلة التي كانت تحلم بأمانٍ لا يُهدد، وبحب لا ينتهي.


تذكّرت نظراته حين قال لها أمام الأطفال: "هذه نغم، خطيبتي، وزوجتي المستقبلية..."

كم شعرت وقتها أنها ملكة، وأن العالم كله صار ملك يدها، كم صدّقت وعده، وكم آمنت به.


لكن الواقع لا يمنح القلوب الطيبة مهلة، ولا يراعي الأرواح التي تعبت من الصبر، فيخذلها أكثر، ويُمعن في قسوته كأنّه يُعاقبها على صدقها، على وفائها، على ذلك النقاء الذي ظلّت تتمسّك به رغم كل ما مرّت به.

الواقع لا يُجيد العدل يا نغم، لا يُكافئ الذين أحبّوا بصدق، بل كثيرًا ما يتركهم وحيدين، يُجالسون الذكريات، يُربتون على جراحٍ لم تلتئم، ويواصلون الحياة كأنهم لم يُكسروا ألف مرة.


جففت دموعها بأنامل مرتجفة، تخنقها غصة صامتة لا تجد مخرجًا، ثم التقطت هاتفها مرة أخرى… للمرة المئة ربما، تحدق فيه بلهفةٍ ووجع.

هل اتصل؟ هل كتب شيئًا؟

تعلم في قرارة نفسها أنها من انسحبت هذه المرة أيضًا… لكن ما كان بيدها حيلة.

ابتعدت مرغمة، وكل ذرة فيها كانت تصرخ بالبقاء.


كل ما قابلها منه هو الصمت، جدارٌ لا يُكسر.

فتحت حسابه على فيسبوك علّها تجد أي شيء… أيّ شيء يخفف حنينها، يرضي فضولها، يطفيء شوقها المتأجج، لكن كعادته، لا يكتب شيئًا، لا يشارك شيئًا


تأملت شاشة الهاتف مطولًا، تراودها الفكرة تلو الأخرى…

هل تتصل بزينب وتشكي إليها همها؟

أم تهاتف نسيم؟ فهي على الأقل تعرفها عن قرب، من جيلها، ستفهمها دون أن تضطر لشرحٍ طويل.


لكنها، فجأة، وصلت لقرار آخر تمامًا.


أغلقت الهاتف، ووضعته جانبًا كأنها تخلّت عن الانتظار كله.

قامت، بدّلت ملابسها في صمت، وغادرت.

أوقفت سيارة أجرة، وحددت وجهتها دون تردد: المقابر.


هناك فقط، ستجد من يسمعها دون أن يقاطعها، دون أن يحكم عليها أو يخذلها…

ستخبر خالتها بكل شيء، فالميتون وحدهم لا يملّون من حكايات الأحياء.


༺═────────────────═༻


بعد ساعة…


وصل فريد إلى الفندق الذي تم الاتفاق على إنهاء الترتيبات فيه. وبينما كان يقترب من الطاولة المخصصة للاجتماع، دوّى رنين هاتفه مُعلنًا عن وصول رسالة جديدة.


توقف للحظة، فتح الهاتف بتلقائية، فتجمّد في مكانه. كانت صورة لنغم، أرسلها له الشخص الذي كلّفه بتتبعها. ظهرت فيها بملابس بسيطة جدًا، تسير بخطى بطيئة نحو قبر خالتها.


رغم أن ملامح وجهها لم تكن واضحة، إلا أن روحها كانت حاضرة، شعر وكأن العالم كله تقلص في تلك اللحظة، وأن كيانه قد انقلب رأسًا على عقب. ظل يحدق في الصورة مطولًا، وكأنّه يحاول أن يلمسها من خلال الشاشة، أن يتنفس ما تبقى من حضورها الهارب.


وفجأة تذكّر وعده القديم لنفسه… ذلك العهد الصامت الذي قطعه وعليه - مهما كلفه الأمر - أن يفي به.


تنفّس بعمق، أغلق الهاتف وأعاده إلى جيبه كمن يدفن سرًا، محاولًا إقناع نفسه أن تلك الصورة لا تعني شيئًا، وأنها لم تترك في قلبه أي أثر... رغم أنه يعلم عكس ذلك جيدًا.


تابع سيره بخطواتٍ واثقة حتى بلغ الطاولة، فنهض كلٌّ من "چيرالد" و"آرون" لاستقباله، وتبادلوا التحية بأدبٍ رسميّ قبل أن يشرعوا مباشرةً في مناقشة بنود العمل. انغمس فريد سريعًا في تفاصيل العقود والمسودات التي سبق له مراجعتها بدقة مع نادر، بصفته المستشار القانوني الخاص بالعائلة وبشركاته سابقًا، عبر الإنترنت، في جلسة طويلة استمرت حتى ساعات متأخرة من الليل.


كانت النقاط موثقة بعناية، والملاحظات الدقيقة التي أضافها نادر قد أزالت أي لبس قانوني، ما أضفى على الاجتماع طابعًا سلسًا وفعّالًا. بعد استعراض النقاط الأساسية، تبادل الحاضرون النظرات، ثم تناول كلٌّ منهم قلمه ووقّع العقد الرسمي للشراكة، لتُعلن بذلك انطلاقة جديدة لمشروعهم المنتظر.


صمتٌ قصيرٌ خيّم على المكان، تلته ابتسامات رضا وعبارات تهنئة رسمية، تبادلها الجميع بروح من الاحتراف والطمأنينة. ثم قال چيرالد وهو يرفع كأس القهوة:

— إلى بداية موفّقة… وأرباح واعدة.


ردّ عليه فريد بابتسامة خفيفة وهو يرفع قدح قهوته بالمثل: 

— إلى شراكة مثمرة .


ثم التفت إلى آرون وأردف:

— الخطوة القادمة ستكون الإعلان الرسمي، أليس كذلك؟


هز آرون رأسه قائلاً:

— تمامًا، لدينا خطة إعلامية محضّرة وجاهزة للتنفيذ، فقط كن مستعدًا للظهور في مقابلة قصيرة خلال الأسبوع المقبل.


أومأ فريد موافقًا، ثم نهض واقفًا وأزاح كرسيه بهدوء عن الطاولة، قائلاً بنبرة جادة ولكن هادئة:

— حسنًا، فلنشرع في ترتيبات الإعلان فورًا.


ابتسم جيرالد ابتسامة رضا وقال:

— أُقدّر روحك العملية يا فريد، لكن لا تنسَ أن لدينا هذا المساء حفلًا للاحتفال بهذه الشراكة. وهناك ضيف بالغ الأهمية أرغب بشدة أن أعرّفك عليه.


رفع فريد حاجبه باهتمام وسأله:

— ضيف مهم؟ هل لي أن أعرف من يكون؟


هزّ جيرالد رأسه مبتسمًا بمكر خفيف:

— ستعرف كل شيء في وقته، لكن ما أستطيع قوله الآن... أن هذا اللقاء قد يفتح لك أبوابًا جديدة، ليس فقط في العمل، بل ربما في أمور أخرى.


نظر فريد إليه مليًّا، متوجسًا من نبرة الغموض، ثم قال بنبرة حذرة:

— طالما أن الأمر لا يخرج عن إطار الشراكة... فأنا مستعد لأي مفاجأة.


قهقه آرون ضاحكًا وقال:

— ستتمنى لاحقًا لو أنك لم تقل هذه الجملة!


أجابهم فريد بابتسامة متحفّظة، ثم التفت ليلملم أوراقه من على الطاولة، غادر مسرعًا، وما إن غاب عن الأنظار حتى أخرج هاتفه، وفتح الرسائل التي أرسلت إليه في التو، ليراها منكفئة على قبر خالتها، بالتأكيد تبكي، وشيء ما في صدره انقبض بقوة، تلك الصورة تحديدًا أيقظت في رأسه دوّامة من الأسئلة والوساوس:


هل ينبغي له أن يرسل إليها الآن؟

أتراه إن لم يفعل، ستظن أنه لم يعُد يكترث؟ أم ربما تظنه قد كرهها، أو تخلّى عن حبّه لها؟

لكن… إن فعل، أفلا يبدو كأنه قد غفر لها؟ وكأنّ ما فعلته أمرٌ يسير يمكن أن يمرّ دون حساب؟


تردّد قلبه قبل أصابعه، لكنه فتح المحادثة أخيرًا. كتب كلمات واهية مبعثرة، لا تسندها حجة ولا يبررها منطق؛ أخبرها بأنه اشتاقها، وبأن الفُرقة قد أكلت روحه حتى ما عاد يدري هل هو نفسه أم أنه أصبح شخصًا غيره لا يمت إليه بصلة.

قرأ رسالته مرة… اثنتين… خمسًا. ثم محاها.


كتب غيرها، وجعل عباراتها أشد تحفظًا، ثم تراجع مجددًا، ومسح كل شيء.

أغلق الهاتف فجأة، كما لو كان يُسكت صوتًا داخليًا يكاد يصرخ.


ركب سيارته، وفك أزرار قميصه الأولى، وكأن صدره يطلب أنفاسًا أوسع من هذا الضيق الذي يكتم صدره. مدّ يده إلى هاتفه واتصل بنادر، أراد أن يخبره أن كل شيء على ما يرام، ولكن نادر لم يجب. انتظر، ثم أعاد المحاولة مرة أخرى، بلا جدوى.


فحاول الاتصال بعمر، ولكن عمر أيضًا... لم يجب.


هنا بدأ القلق يتسلل كالدخان في صدره، فاتجه لرقم نسيم. كان يعلم أن الاتصال بها آخر ما يفعله حين يكون مضطربًا، لكنها كانت دائمًا تفهم صمته، تلتقط من بين أنفاسه المبعثرة حقيقة حاله.


ضغط على زر الاتصال... لكن الهاتف كان مغلقًا.


نظر إلى الشاشة في تعجب؟! انكمش حاجباه، وبدأ قلبه ينبض بسرعة غير مألوفة.


هل يعقل أن تكون صدفة أن الجميع لا يرد؟

أم أن في الأمر ما هو أعمق؟

هل من الممكن أن يكون هناك شيء يدور خلف ظهره؟

أم أنه فقط... بالغ في التوتر؟


وعندما أيقن أن ذلك القلق سيودي به إلى الجنون، أدار محرك السيارة بعصبية، وانطلق بها في الطريق دون وجهة محددة. كل ما كان يشغل ذهنه الآن أن يهرب من تلك الوساوس التي تتربص به وتريد أن تفتك برأسه.


༺═────────────────═༻


كانت تبكي بحرقة كما لم تبكِ من قبل، تسند رأسها إلى القبر من أمامها وتجهش ببكاءٍ ملتاع، تبحث عن شخصٍ يأخذ بيدها، يقودها نحو بر الأمان .


ـ أنا محتاجالك يا خالتي، مش قادرة أعيش لوحدي، يا ريت أموت، يا ريت ربنا ياخدني أنا مبقيتش متحملة العيشة لوحدي ولا عاوزاها.


صمتت قليلا، ثم تابعت :

ـ حتى فريد الحياة مستكتراه عليا، الانسان الوحيد اللي ليا وكنت بقول هو عوض ربنا، حتى هو اتحرمت منه، أنا الدنيا في عنيا بقت سودا وملهاش طعم، يا رب أرتاح من العذاب ده بقا يااا رب .


ظلت جالسة نحو ما يقارب الساعتين، تقرأ القرآن أحيانا، وتتحدث إليها أحيانًا أخرى، إلى أن انتصف النهار، فنهضت، وغادرت عائدةً إلى بيتها .


ترجّلت من سيارة الأجرة، لتُفاجأ بالسيارة التي اشتراها لها فريد مصطفّة أمام المنزل. انقبض قلبها لا إراديًا، وتقدّمت بخطى مترددة نحوها. وما إن اقتربت، حتى رأت شابًا يخطو باتجاهها، يحمل دفترًا صغيرًا بيده، وقال:

ـ حضرتك آنسة نغم؟


نظرت إليه بتوجّس، ثم أومأت برأسها. فابتسم ومدّ الدفتر نحوها قائلًا:

ـ ممكن توقّعي هنا بعد إذنك؟ ده إيصال استلام العربية.


نظرت إلى الدفتر بيده، ثم مدت يدها ووقّعت حيث أشار فقال مبتسمًا: 

ـ مبروك عليكي. 


سلّمتهُ الدفتر، فأخرج ملفًا صغيرًا من حقيبته وناوله لها:

ـ ده العقد المؤقت والرخصة المؤقتة، والتراخيص النهائية هتخلص خلال يومين وهنبعت لحضرتك النسخة الأصلية.


ثم ابتسم بلطف وقال:

ـ مبروك العربية يا فندم، وأي حاجة تحتاجيها ده كارت الشركة.


وغادر بهدوء، تاركًا نغم تقف أمام السيارة الجديدة، تتأملها بحزن.

هي لا تستحق كل ذلك، لا تستحق كل ما فعله لأجلها، ولا الحنان الذي أغدقها به يومًا ما، هي لا تستحق سوى ما تعيشه وتعانيه الآن من وحدة وظلام وضياع.

مررت يدها بخفة على سطح السيارة اللامع، وكأنها تودّ أن تقول شيئًا لها، لتلك الهدية التي جاءت في أسوأ توقيت، من رجل تُحبه وتشتاقه لأبعد حد، ثم دست المفاتيح بجيبها ودخلت إلى المنزل. 


أسرعت بالبحث عن الهاتف، فتحته مسرعة تتلهف لإيجاد رسالة منه، ولكن آمالها خابت عندما لم تجد منه شيئا.


شعرت بفراغٍ موحشٍ يتسلل إلى صدرها، وكأن الغرفة قد خلت من الهواء.

انكمشت على الأريكة، والهاتف بين يديها، تنظر إليه كما لو كان شاهدًا على خيبة أملها.


وضعت يدها على صدرها، تشعر بانقباضٍ حاد، كأن قلبها يسقط في بئر لا قرار له، ثم نهضت ببطء، واتجهت إلى النافذة، فتحتها، ونظرت إلى السيارة من جديد.


ظلت صامتة، تحدّق فيها بحسرة، وكأنها تنظر إلى نفسها في مرآة محطّمة .


༺═────────────────═༻


كان عمر مستلقيًا على سريره في غرفته، شاخصًا ببصره في سقف الغرفة بشرود، وكلمات والدته تدوي كالقصف في أذنيه:

ـ شايف كان بيبص لك ازاي وبيبص له إزاي ؟! كان مهتم بيه إزاي وبيهمشك إزاي ؟! حسن خلاص كل بعقله حلاوة وانت ولا انت هنا !!


أراد أن يُخمد ذلك الصوت، أن يُسكت تلك العبارات التي تنخر في صدره كالسكاكين، لكنه لم يستطع… كانت تكرارًا أليمًا، يعيد على مسامعه كل خيبة شعر بها، كل لحظة أحس فيها بأنه لا يُرى، بأنه شفاف في عين الجميع، لا يملك من حضور الوجود سوى اسمه.


ضغط بيده على أذنه وكأنه يحاول أن يمنع الصوت من التسلل أكثر، لكن صدى كلمات والدته ظل يدوي في داخله:

ـ "حسن كل بعقله حلاوة… وانت؟ ولا كأنك موجود!"

" فريد هو الابن المفضل عند سالم مرسال، وانت هوا بالنسبة له "

" انت هتعيش طول عمرك تابع وعمرك ما هيكون ليك شخصية أبدا "

" انت فاشل، غبي ومستهتر وعديم المسؤولية "


كأنها صفعات لم يتعافَ منها بعد، رغم تكرارها… بل ربما لأنها تكررت، ترسّخت فيه كيقين.


جلس فجأة، وكأن رغبة ملحة في الثورة على كل شيء اجتاحته، ثم نهض ببطء وراح يتأمل وجهه في المرآة…

هل هو أقل؟ هل في ملامحه ما يستدعي الإهمال؟ أم أن الإهمال طبع فيمن حوله؟


حدّق في صورته المنعكسة في المرآة طويلًا، وكأنّه يحاول أن يرى ما لا يُرى، أن يلتقط في ملامحه خيطًا يبرر كل ما سمعه، كل ما آلمه، كل ما حفر في قلبه خندقًا من الشكّ.


اقترب أكثر، تطلع إلى عينيه الذابلتين، إلى قسمات وجهه المتعبة، إلى شحوبٍ لم يكن يعلم متى بدأ يقتات عليه. رفع يده ليمررها على ذقنه التي أهمل حلاقتها، ثم تمتم بصوت خافت كأنّه يُجري محاكمة:

ـ "هل أنا كذلك؟ غبي؟ فاشل؟ عديم الشخصية؟"


صمت لبرهة، ثم أطرق برأسه نحو الأسفل، وكأنّه خسر قضيته قبل أن تبدأ. جلس على طرف السرير، يشبك أصابعه بقوة بين راحتيه، وكأنّه يحاول أن يجمع شتات روحه المتناثر في كلمات والدته، وفي نظرات الآخرين، وفي خيباته المتكررة.


لكن الحقيقة كانت أقسى من أن تُقال: لقد اعتاد التهميش، صار صوته خافتًا حتى في داخله، صار ظله أضعف من أن يُحدث فرقًا، وصار يشكّ في ذاته حتى قبل أن يشكّ فيه أحد.


مرّت لحظات ثقيلة وهو على حاله؛ لا يتحرّك، لا يتنفّس بعمق، كأنّ الزمن تجمّد عند لحظة انكسار حادّة، لا رجعة منها.


ظلّ جالسًا، متخشّب الجوارح، فارغ النظرات، وكأنّه فقد القدرة على التفاعل مع كلّ ما حوله.


رنّ هاتفه وكان المتّصل "حسن". استمرّ الرنين طويلًا، إلا أنّه لم يُجبه، لم يرفع الهاتف حتى ليرى المتّصل، وكأنّه أراد أن يقطع صلته بكل ما يربطه بالماضي، بالواقع، بالناس.


لأوّل مرة يشعر بعدم الرغبة في الحديث إلى أي أحد.

لأوّل مرة، يشعر برغبةٍ عارمة في الفرار، لا من موقف ولا من شخص، بل من نفسه.

أراد أن يذهب إلى مكانٍ لا يعرفه أحد، بعيدًا، قد يكون جبلًا مهجورًا، أو شاطئًا منسيًا، أو حتى غرفة ضيقة في مدينة لا يتقن لغتها، فقط ليختلي بنفسه.


ربما يحتاج أسبوعًا، ربما شهرًا، وربما عامًا بأكمله، ليعيد اكتشاف ذاته؛ لعلّه يجد فيها شيئًا يستحق التقدير، شيئًا يمنحه معنى، ينقذه من الشعور بالتفاهة، ويعيد إليه احترامه لنفسه قبل احترام الآخرين له.


كان في حاجة إلى الصمت، إلى الوحدة، إلى إعادة تعريف ما يعنيه أن يكون "هو".


لذا نهض، وجمع أغراضه، وغادر المنزل، لا يعرف إلى أين، لكن كل ما يعرفه أنه لا يرغب في البقاء بهذا المنزل على الأقل لفترة .. وخرج، استقل سيارته، وانطلق بها نحو وجهة غير معلومة.


༺═────────────────═༻


في المستشفى.


كان سالم مستلقيًا على سريره بوهن ظاهر، وعلى المقعد المجاور جلس نادر، يتبادلان الحديث بصوت خافت.


قال نادر مطمئنًا:

ـ متقلقش يا باشا، كل حاجة ماشية تمام. مستر جيرالد ماشي على الخطة بحذافيرها، وبعتلي رسالة من شوية بيقول فيها إن العقود اتمضت، وهيحتفلوا بالليل كمان.


أومأ سالم برأسه ببطء، ثم قال:

ـ والموضوع اللي قلتلك عليه؟ عملت فيه إيه؟!


ردّ نادر بثقة:

ـ هيحصل يا باشا، النهارده في الحفلة جيرالد هيعرّفهم ببعض، وإن شاء الله الأمور تمشي زي ما بنتمنى!


هزّ سالم رأسه نافيًا، وقد بدا عليه عدم التفاؤل، وقال:

ـ مش عارف يا نادر... مش حاسس إنه هيبلع الطُعم، فريد ابني وأنا عارفه، ملوش في السكة دي أبدًا.


ضحك نادر بخفة، وقال بنبرة واثقة:

ـ متقلقش يا باشا، وحتى لو ملوش... هيبقاله. جيرالد شايف شغله كويس أوي، وعارف هو بيعمل إيه.


زفر سالم في ضيق، وقال بتحذير:

ـ ربنا يستر... أهم حاجة متخليش جيرالد ده يبالغ في أي حاجة، انت عارف فريد عنده حساسات ولا حساسات الرادار! لو شم أي حاجة كده ولا كده، هيطربقها فوق نافوخنا كلنا.


ضحك نادر ضحكة خافتة، ثم قال بثقة:

ـ متقلقش يا باشا، أنا واخد كل احتياطاتي. وبالنسبة لجيرالد، فهو كمان مش سهل... كله في السليم، متشغلش بالك.


تنهد سالم بأسى، وقال:

ـ مشغلش بالي إزاي يا نادر؟ اللي كنت خايف منه حصل! الاتنين وقفوا في وش بعض وبهدلوا بعض... عشان حتة بت عاملة شبه العروسة البلاستيك.


ثم أكمل بنبرة ساخرة لا يخرجها إلا أمام نادر:

ـ أومال لو كانت حاجة كده تملى العين، شبه النسوان اللي كنا بنشوفها زمان، كانوا عملوا في بعض إيه بقى؟!


قهقه نادر ضاحكًا وقال:

ـ دلوقتي المعايير اختلفت يا باشا... والقطع اللي بتحكي عنها دي خلاص، مبقتش موجودة. كل الموجود في السوق نفس القطعية كده!


ابتسم سالم ابتسامة خفيفة، وهزّ رأسه بيأس، وقال:

ـ تعرف؟ أنا لولا عارف إنها مش هتتحمّل السجن، كنت قلتلك خلّص بالشيكات اللي معانا وكنّا ارتحنا من نغم وسنينها. لكن أنا مش ضامن... البت روحها قصيرة، ويمكن تفطس، وأرجع أشيل ذنبها... وأنا مش ناقص!


تنهد نادر تنهيدة طويلة، ثم قال مقترحًا:

ـ مش شرط نسجنها يا باشا... ممكن نلعب لعبة صغيرة كده، نخليها تلف حوالين نفسها شوية وتتلهي في حالها...


لكن سالم هزّ رأسه نافيًا، وقال بلهجة حاسمة:

ـ لأ... ساعتها نبقى كأننا بنلفت الأنظار ليها أكتر. حسن بيه وفريد باشا ما هيصدقوا يرموا روحهم تحت رجليها ويعرضوا عليها المساعدة، وهي ما هتصدق!

أنا مش عاوزها تصعب عليهم... أنا عاوزهم يكرهوها. أقولك؟


سكت للحظة، وكأنه يعيد ترتيب أفكاره، ثم أردف بنبرة هادئة وخبيثة:

ـ زي ما هتعمل مع فريد... اعمل معاها!


نظر إلى نادر نظرة ذات مغزى، ففهم الأخير الإشارة تمامًا، وأومأ مبتسمًا، ثم قال بإعجاب:

ـ تعجبني دماغك يا باشا... ربنا ميحرمناش من دماغك الألماظ!


تنهد سالم بتعب، وأردف بشرود:

ـ هعمل إيه بس يا نادر ! ما هو لازم حد يفكر بالعقل علشان الكفتين يبقوا متساويين، ما انت شايفهم الأربعة أخيب من الخيابة، شايلين مخهم وحاطين فردة جزمة، وقلبهم هو اللي سايقهم، لو أنا كمان خليت قلبي اللي يمشيني زيهم الدنيا هتخرب، لازم يكون في توازن يا نادر وإلا الميزان يختل وكل حاجه تبوظ !


أومأ نادر مؤكدًا وقال :

ـ معاك حق يا باشا، ربنا يديك الصحة ويخليك ليهم وتفضل دايما السند والضهر ليهم .


أومأ سالم وقال :

ـ يارب يا نادر ، ويهديك وتسمع كلامي كده وتتجوز، مش عارف إنت عايش مبسوط إزاي من غير ست في حياتك !


قهقه نادر عاليًا وقال :

ـ أنا عايش مبسوط بالتحديد لأن مفيش ست في حياتي، دول صنف يقصف العمر يا باشا .


نظر إليه سالم وأخذ يحدق فيه للحظات، ثم أشار إليه وكأنه يؤكد على كلماته وقال:

ـ تصدق إن دي أكتر جملة واقعية قلتها في حياتك كلها يا نادر !! فعلا.. دول صنف يقصف العمر ، هو انا جابني ورا غيرهم !


ضحك نادر وهو ينهض واقفا، ثم ربت على كتفه وقال بود:

ـ ربنا يديك الصحة يا باشا ويطول في عمرك ويخليك لاولادك ولينا .


ـ تسلم يا نادر، تسلم .


ـ أنا همشي دلوقتي وهكلم فريد بيه أطمن منه الدنيا ماشية إزاي، وجيرالد هيبعتلي صور من حفلة بالليل وهبعتها لسعادتك، لازم تكون على علم بكل شيء.


ـ ربنا يقويك يا نادر ، مع السلامة !


 خرج نادر بهدوء، وما إن أغلق الباب خلفه حتى دخلت الممرضة إلى الغرفة بخطوات محسوبة، تحمل في يدها جهاز قياس الضغط. اقتربت من سالم، ثم انحنت لتضع الرباط حول ذراعه، وقد بالغت قليلًا في انحنائها بطريقة لا تخلو من إيحاء، متظاهرة بالتركيز على مهمتها.


رفعت رأسها ببطء، متظاهرة بتفقد سالم، فالتقت عيناها بعينيه... كان سالم يرمقها بنظرة ثابتة، لا تخفى عليها، وقد استقرت عيناه للحظة عند مقدمة صدرها قبل أن يشيح بوجهه كأنه انتبه لما فعل.


ابتسمت الممرضة ابتسامة خفيفة خلت من البراءة، وقالت بصوت ناعم:

 ـ ضغطك مظبوط يا سالم باشا.. ما شاء الله صحتك بتتحسن وهنضطر نودعك .


لم يجبها، بل أغلق عينيه برهة كأنه يحاول كبح شيء ما داخله، ثم قال بنبرة باردة:

 ـ لو خلصتي شغلك اخرجي .


أومأت بهدوء ، ثم استقامت في وقفتها، ونظرت إليه قبل أن تغادر وقالت:

ـ تحت أمرك في أي حاجه يا سالم باشا، لو احتجتني دوس بس على الزرار اللي جنبك ده هكون عندك فورا ، عن اذنك .


ثم انسحبت من الغرفة بخطوات واثقة يرافقها شيء من الزهو، بينما هو يتعقب أثرها بطرف عينه، ثم تنهد مطولا وأخذ يهز رأسه بيأس وهو يقول:

ـ أعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.


༺═────────────────═༻


في المساء .


كان فريد قد استعد للذهاب إلى الحفل فقرر ارتداء ملابس بسيطة، ولكنها أضفت إلى وسامته لمسة لا يمكن تجاهلها أبدا، فارتدى قميصا وسروالا باللون الأسود، وانطلق بسيارته نحو المرسى، حيث يُقام الحفل على يخت فاخر يتهادى فوق مياة بحر إيچة الهادئة، تلمع أضواؤه من بعيد وكأنها نجوم سقطت على صفحة البحر .


صعد إلى اليخت بخطوات واثقة، يتفقد المكان بعينيه بينما يعلو صوت الموسيقى الناعمة ممزوجًا بأصوات الضحك والأحاديث الخافتةؤ فيما كان الحفل يضج بأناقة مترفة وهدوء مغرٍ.


نظر حوله قليلًا قبل أن يتجه نحو السلم الداخلي لليخت، متأملًا في التفاصيل، ليجد جيرالد في انتظاره، أنيقًا كالعادة، يحمل كأسًا زجاجيًا صغيرًا بيده ويبتسم ابتسامة واسعة، ثم قال وهو يربّت على كتف فريد:

ـ تأخّرتَ علينا، ظننتُك ستتراجع في اللحظة الأخيرة.


ابتسم فريد ابتسامة خفيفة وقال:

ـ ويفوتني الحفل؟ لا أظن.


قال جيرالد وهو يشير نحو مجموعة من الضيوف: 

ــ دعني أُعرّفك على بعض الأصدقاء، أعتقد أنك ستجد صحبتهم ممتعة.


اقتربا من رجل طويل القامة، أنيق الهندام، تعلو وجهه ملامح صارمة، لكنه كان يتحدث بلباقة.

 ـ هذا ماس دي فالوا، رجل أعمال فرنسي، يملك سلسلة فنادق فاخرة على ضفاف الريفييرا.


صافحه فريد بلطف، وأومأ برأسه، فاقتاد جيرالد فريد إلى مجموعة وقفت بجانب البار العائم. هناك، كان شابان يتبادلان حديثًا عن العملات الرقمية، أحدهما يُدعى "رافائيل"، نصف يوناني نصف فرنسي، يعمل في تمويل الشركات الناشئة، والآخر يُدعى "ديميتريوس"، صحفي استقصائي تتبعه الشبهات أكثر من الأخبار.


ثم أشار إلى امرأة مسنّة ذات حضور طاغٍ رغم تجاعيد الزمن، وقال: 

ــ وهذه السيدة "إيلينا كوستاس"، إحدى أشهر صانعات المحتوى السياسي في أوروبا... لا تدع مظهرها يخدعك، فهي تعرف عنك أكثر مما تتصور.


ابتسم فريد بخفة وردّ:

 ــ من الواضح أن هذا الحفل ليس عاديًا.


ضحك جيرالد وقال:

 ــ ولمَ ينبغي له أن يكون؟ نحن لا ندعو أشخاصًا عاديين، فريد.


ثم انتقل معه جيرالد إلى الطرف الآخر من اليخت حيث وقفت امرأة فائقة الجمال، فقال جيرالد بابتسامة خبيثة:

ــ وهذه الجميلة يا عزيزي تُدعى " سيلين " ... أتوقع أنكما ستنسجمان.


وأشار إلى سيلين لتقترب، فتقدمت منهما بخطوات واثقة، وكأنها تعلم تمامًا وقع حضورها على من حولها.

كانت سيلين فاتنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، شعرها الأسود الطويل يتماوج على كتفيها، وعيناها بلون العسل المتمازج بنظرة لا تخلو من التحدي. ارتدت فستانًا بلون الزمرد، أظهر أنوثتها بجرأة محسوبة.


مدّت يدها نحو فريد وقالت بصوت ناعم ذو لكنة فرنسية واضحة:

ــ تشرفت بلقائك سيد فريد... جيرالد كثيرًا ما تحدث عنك.


نظر فريد إليها بهدوء وهو يمدّ يده مصافحًا، ثم قال بنبرة ثابتة:

ــ أتمنى أن يكون قد ذكر أشياء جيدة.


ضحكت بخفة وقالت وهو تنظر داخل عيني فريد:

ــ الحقيقة أن كل ما قاله أثار فضولي جدًا.


ابتسم فريد مجاملةً، لكنه لم يغفل عن فحص ملامحها سريعًا، كما لو كان يستشعر شيئًا خلف بريق جمالها. وعلى الرغم من فتنتها اللافتة، لم يشعر بالارتياح، بل تسللت إلى صدره نغزة قلق مألوفة. فهو يعاني من وسواس قهري، يجعل عقله يتحرك في دوائر لا تنتهي، تُدقق في النوايا وتتفحص التفاصيل.


لكنه لم يُظهر شيئًا من ذلك، بل ابتسم بهدوء وقال:

 ــ تشرفت بمعرفتك، آنسة سيلين.


قال جيرالد بصوت منفتح:

ـ سيلين.. فرنسية من أصولٍ يونانية.. وتعمل كمنظمة حفلات خاصة لكبار الشخصيات والمشاهير. يعرفها الجميع هنا، ليس فقط لحسن تنظيمها، بل لأنها تعرف كيف تصنع الأجواء .


وأشار بيده حوله مستعرضًا أجواء السهرة قائلًا بابتسامة فخر:

ــ وكما ترى... هذا الإبداع من توقيعها! هي من نظّمت الحفل بأدق تفاصيله، من الموسيقى إلى قائمة المدعوين.


ثم التفت إلى سيلين وأضاف مازحًا:

ــ بل إنها من اختارت حتى نوع النبيذ!


ضحكت سيلين بخفة، وقالت وهي تُعدل خصلات شعرها:

ــ لا تصدقه فريد... هو فقط يُحب أن يُلقي عليّ كل المسؤولية!


قال جيرالد مبتسمًا وهو ينظر إليها:

ــ وعلى ما يبدو أن المسؤولية كانت في يدٍ ماهرة فعلًا.


بادلته سيلين النظرة، وقالت بنبرة لطيفة:

ــ إن أعجبك الجو، فانتظر ما هو قادم... ما زلنا في البداية فقط.


 ألقى فريد نظرة عابرة نحوها، لا تحمل في طياتها أي انفعال، ثم عاد بنظره إلى جيرالد وابتسم ابتسامة خفيفة، فقهقه جيرالد قائلاً بنبرة مازحة:

ــ ما الأمر يا فريد؟ إلى متى ستظل صامتًا؟ تبدو وكأنك في مهمة استخباراتية! هذه حفلة للترفيه، لم ندخل طور الجدية بعد يا صديقي!


ابتسم فريد بهدوء، وقد وضع يده في جيبه، ثم قال بصوت منخفض:

ـ لا بأس يا جيرالد... أُفضّل أن أراقب المشهد أولاً.


وفي اللحظة ذاتها، اقتربت سيلين بخطوات واثقة، وقد بدت وكأنها تستعد لدورٍ مسرحيّ دقيق، مالت بجسدها قليلاً نحو فريد وقالت بصوت ناعم:

ـ ألن تُشاركنا الحديث؟ بدا حضورك صامتًا أكثر مما توقعت، وحسب معلوماتي عنك فهذا لا يليق بك.


نظر إليها فريد بهدوء دون أن يُغيّر من تعبيره، ثم قال وهو يحوّل عينيه نحو جيرالد:

ـ أعتقد أنك أخبرتها عني بعض المعلومات الخاطئة، جيرالد، وهذا خطأك وعليك إصلاحه.. 


ثم نظر إليها نظرة سريعة وقال وهو ينسحب من بينهما:

ـ فرصة سعيدة، سيلين !


وانصرف بخطوات واثقة، تاركًا إياها خلفه، ليتجه نحو حافة اليخت حيث وقف وحده يُطل على صفحة الماء الممتدة، يراقب تماوج الأمواج تحت ضوء النجوم، وكأن البحر وحده يفهم صمته الثقيل.


بينما تبادل جيرالد وسيلين نظرات متحيرة، قبل أن يبتسم جيرالد بخفة ويقول:

 ـ يبدو أن فريد ما زال على حاله… لا تهمه الزينة ولا الكلمات الملساء.


لكن سيلين لم تجبه، كانت تراقب فريد من مكانها بعينين مثقلتين بالتساؤل، وشيء من الفضول... وربما التحدي.


༺═────────────

#يتبع

 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close