القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث وعشرون 23بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث وعشرون 23بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث وعشرون 23بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ٢٣ ـ


~ خطر !! ~

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان الليل ساكنًا، والقمر يسكب ضوءه الفضي على صفحة البحر الممتدة أمامها. 

وجدت نغم نفسها تسير على شاطئ هادئ، رملُه ناعم ودافئ تحت قدميها الحافيتين، وصوت الأمواج يهمس كأغنية قديمة تعرف الطريق إلى روحها.


لم تمضِ خطوات حتى شعرت بظل يقترب منها، التفتت، فإذا به فريد… يمشي نحوها بخطوات واثقة، وعيناه تلمعان كأنهما مرآتان تعكسان ضوء القمر. ابتسم لها ابتسامة دافئة بدّدت كل برودة البحر، ومد يده نحوها.


وضعت يدها في يده، فشعرت بحرارة غريبة تغمرها، وكأن دفء قلبها انتقل إلى يدها.


سارا معًا على الشاطئ، بلا كلام، وكأن الصمت بينهما كان أبلغ من أي حروف. ثم توقف فجأة، وأدارها برفق لتواجهه، وقال بصوتٍ خافت:

ـ وحشتيني ..


لم تستطع الرد، فقط شعرت بقلبها يخفق حتى ظنت أنه سيسمعه، فاقترب أكثر، ووضع يده على وجنتها برفق، ثم مال نحوها، حتى شعرت بأنفاسه تمتزج بأنفاسها… وقبل أن يكتمل المشهد، انفتح الأفق أمامهما، ورأت سماءً تتساقط منها نجوم صغيرة لا تحترق بل تتحول إلى فراشات بيضاء تحوم حولهما.


نظر فريد إلى الأعلى مبتسمًا، ثم عاد بعينيه نحوها .

وفجأة، وجدته يمد يده إلى البحر، فإذا بموجة عالية تقترب، لكنها حين وصلت عند قدميهما، انحسرت تاركةً صدفة صغيرة تلمع تحت ضوء القمر .


التقطها فريد، وفتحها أمامها، فوجدت بداخلها خاتمًا بسيطًا، لكنه يشع نورًا دافئًا، كأنه يختزن بين ذراته وعدًا خفيًّا. أمسك بيدها برفق، وأدخل الخاتم في إصبعها بصمت، ثم رفع كفها إلى شفتيه وقبّلها قبلة خفيفة، لكنها كانت كفيلة بأن تزلزل أعماقها.


شعرت حينها وكأن البحر من حولها هدأ، والنجوم اقتربت، وأن الدفء الذي سرى في جسدها لم يكن من لمسة يده فحسب، بل من يقينٍ مباغت بأنها وجدت أخيرًا مرفأها.


وفجأة… بدأ ضوء الفجر يتسلّل بين طيات الحلم، كخيوط ذهبية تشق العتمة برفق، وأخذ وجه فريد يبهت شيئًا فشيئًا، وكأن النور يسحبه بعيدًا عنها. حاولت أن تتمسك بنظراته، أن تحبس لحظته الأخيرة، لكن ملامحه تلاشت تمامًا، وبقي فقط صوت البحر يهمس باسمها، كنداء بعيد يتردد في قلبها قبل أذنها.


عندها فتحت عينيها على واقعها المظلم، وأنفاسها متسارعة، وقلبها ينبض بنفس الإيقاع الذي تركه الحلم في أعماقها… 


نظرت في يدها بترقب، ربما توهمت أنها ستجد الخاتم الذي رأته في منامها ولكنها أفاقت على حقيقة أنه ليس موجودا، وأن ما رأته كان منامًا ليس إلا.


تنهدت وهي تحاول كتم دمعاتها، وما ساعدها وشتت انتباهها هو جرس الباب .


تحفزت كل عضلات قلبها بخوف، وأخذت تتسائل في نفسها، من سيأتي إليها منذ الصباح؟


نهضت، ونظرت من عين الباب، وفورا فتحته بلهفة عندما رأت الزائر.


༺═────────────────═༻


وقف فريد أمام المرآة، يضبط ربطة عنقه بعناية، ثم فتح درج الساعات وأخرج ساعته. وقفت عيناه فجأة على الوشاح الذي كان قد لفّته نغم حول معصمه ذلك اليوم، فالتقطه ببطء وقربه إلى أنفه. رغم أنه غسله جيدًا لإزالة الدماء العالقة به، إلا أن عبير نغم ما زال ينساب منه، كأنه لم يُمحَ بعد.


أغلق عينيه، واستنشق نفسًا عميقًا، ثم زفره ببطء وفتح عينيه المحتقنتين بحزنٍ دفين.


رن هاتفه، فأعاد الوشاح إلى مكانه، والتقط الهاتف وأجاب وهو يتجه نحو الخارج:

ـ مرحبًا جيرالد.


ـ صباح الخير فريد، نحن جاهزون وننتظرك لبدء المؤتمر.


ـ تمام، أنا في طريقي إليكم.


أنهى المكالمة وغادر المنزل، استقل سيارته، لكنه تردد فجأة، ونزل منها ليعود إلى الداخل. تفقد ضوء غرفته، فلم يجده مضاءً، فتنهد بضيق وعاد إلى الخارج.


ركب السيارة مجددًا، وانطلق في طريقه نحو الفندق المقام به المؤتمر .


حين وصل فريد إلى قاعة المؤتمر الكبرى في الفندق، حيث كانت الاستعدادات على أشدها. الأضواء تلمع بأناقة، والطاولات مرتبة بدقة، والديكور يعكس الفخامة والاحترافية.


رحب كل من جيرالد وآرون بفريد بحرارة لدى وصوله إلى القاعة، بينما كانت سيلين، منظِّمة الحفل، تقف في إحدى زوايا المكان تتابع آخر الترتيبات بعين خبيرة.


كانت ترتدي بدلة أنيقة، وتمسك بجهاز اتصال لاسلكي في يدها، تتواصل مع فريقها بحزم وابتسامة ودودة في آنٍ معًا.


حين رأت فريد، اقتربت منه بسرعة ووجهها يشرق بابتسامة واثقة، وقالت:

– صباح الخير، أستاذ فريد! كل الأمور تسير على ما يرام، واثقة أن هذا الحدث سيكون على مستوى راقٍ.


ابتسم فريد بتحفظ وأجاب:

– أتمنى ذلك.


فأردفت بثقة:

– هذا عملي، ولا أترك أي تفصيل للصدفة. لقد اطلعت على تفاصيل الشراكة والرسالة التي نسعى إلى إيصالها، ونحن جاهزون لبذل كل جهد لضمان نجاح هذا اليوم المميز.


في تلك اللحظة، اقترب جيرالد من المكان، فحيّاها بابتسامة دافئة وقال:

– سيلين، عملكِ رائع كما عهدناك دائمًا. وجودك في هذا الحدث يمثل إضافة حقيقية.


ردّت بابتسامة رقيقة:

– شكرًا لك، جيرالد، هذا من ذوقك.


ثم نظرت إلى فريد وقالت بابتسامة وديّة ومالت نحوه بكتفها وهي تقول :

– استعد، فبعد قليل سيبدأ المؤتمر، وسنحرص على أن تجري كل الأمور وفقًا لما خططنا له بدقة.


نظر فريد عبر كتفه إلى كتفها المائل نحوه، وفورًا ترجم حركتها العفوية كخبير في لغة الجسد، فهو يعرف أن ميلها نحوه بتلك الطريقة يُفسر كإشارة للرغبة في التقارب العاطفي أو الجسدي، فهي حركة تُظهر الراحة تجاه الطرف الآخر ، أو ربما رغبة في بناء علاقة أكثر قربًا أو حميمية ، لذا ابتسم بنظرة هادئة وثقة قائلاً:

– أنا على أتم الاستعداد. 


حين حانت لحظة افتتاح المؤتمر، ارتفعت الأنظار نحو المنصة التي أُضيئت بأضواء ناعمة، وترقب الجميع الكلمات التي ستُقال والتي تحمل آمالًا كبيرة.


وقف فريد بثقة أمام الحضور، متسلحًا بهدوئه وثقته، وبدأ حديثه قائلاً بإنجليزية متقنة:

ـ أهلاً وسهلاً بكم جميعًا في هذا اليوم المميز الذي نعلن فيه عن بداية شراكة جديدة تحمل في طياتها فرصًا عظيمة ومشاريع واعدة...


كانت الكلمات تتدفق بسلاسة، وعيناه تلتقيان ببعض الحضور في كل اتجاه، يشاركهم الحماس والأمل، فيما خلفه تزين الشاشة شعار الشراكة الجديد.


ثم عاد ليركز على خطابه، وقال بحزم:

ـ هذه الشراكة ليست مجرد اتفاق بين شريكين، بل هي عهد جديد نبدأه معًا، مبني على الثقة والاحترام المتبادل، وهدفنا هو بناء مستقبل مزدهر يعود بالنفع على الجميع.


تخلل الحديث عرض تقديمي موجز يُظهر أبرز ملامح المشروع والخطط المستقبلية، مما أثار إعجاب الحضور الذين أبدوا تفاعلهم الإيجابي بالتصفيق والتأييد.


بعد انتهاء كلمته، نزل فريد عن المنصة وسط تصفيق حار، ليبدأ بعدها حفل الاستقبال الذي أُعدت له الأجواء بعناية فائقة، حيث توافد الضيوف وتبادلت الابتسامات والتهاني، في مشهد يعكس نجاح هذه الخطوة المهمة.


صعد جيرالد إلى المنصة ليُلقي كلمته، وبعد أن أنهى حديثه طلب من المصور أن يلتقط له صورة تجمعه بشريكه فريد وبقية فريق العمل.


وقف فريد متحفظًا، محاولًا كتم انزعاجه من الاقتراب والاحتكاك بالآخرين، ورسم ابتسامة ودودة على وجهه. وبينما كان المصور يستعد لالتقاط الصورة، قاطع جيرالد اللحظة وأشار إلى سيلين قائلاً:

ـ هيا سيلين، أنتِ أيضًا جزء من هذا النجاح الكبير.


مدت ذراعيها بطريقة مدروسة، الأيمن خلف ظهر جيرالد، والأيسر خلف ظهر فريد، وارتسمت على وجهها ابتسامة واثقة، تعكس تواصلاً خاصاً .


 كانت تدرك جيدًا أن هذه الصورة ستنتشر، وفي غضون ساعات ستصبح رائجة؛ فحرصت على أن تبدو واضحة ومميزة في المشهد، كأنها تريد أن تبرهن على وجود رابط غير معلن بينها وبين فريد.


༺═────────────────═༻


كانت زينب تمسح على رأس نغم المسنودة على قدمها بحنو فائض، والأخرى تغمض عينيها وكأنها وجدت أخيرا بعضا من الأمان الذي كانت تحتاجه.


ـ احكيلي يا حبيبتي، أنا زي أمك، ثقي فيا يا نغم.. الحِمل لما بيشيلوه اتنين بيخف صدقيني.. ولا انتي مش واثقة فيا وفكراني هحكي لفريد؟


كانت تلك عبارات مشجعة، مكررة، حاولت زينب أن تحل بها الوثاق من حول لسان نغم التي تذرف دمع عينيها بصمت. 


ومسدت ذراعيها بلطف ، وهي تتابع:

ـ متكتميش في نفسك يا بنتي، الكتمان بيموت صدقيني، اسأليني أنا .. 


وراحت تتابع دون وعي وبشرود:

ـ أنا كتمت وما زلت كاتمة في قلبي من خمسين سنة، بس ندمت، عمري انسرق مني وأنا واقفة بتفرج، ومعرفتش غلطي غير بعد فوات الأوان.


غص حلقها، ونزلت دمعة من عينها التقطتها سريعا، ثم عادت تربت على رأس نغم وهي تقول:

ـ اتكلمي يا نغم، متسكتيش صدقيني هتتعبي ..


 أجهشت نغم ببكاءٍ أفضت معه علة قلبها، والأخرى كانت تطالعها بشفقة يائسة، ثم قالت:

ـ أنا عارفة إن في حكايات جوانا بنكون فاكرين إنها لو اتحكت هتكون كارثة أو مصيبة، بنكون متخيلين إننا بس اللي عندنا حكايات متتصدقش، لكن أنا بقولك وخدي كلامي ثقة.. كل واحد مننا عنده حكاية أصعب من التاني.. المهم اننا نمتلك الجرأة والشجاعة إننا نتكلم.


توقفت نغم عن البكاء للحظة، ثم نهضت، رفعت رأسها كمن يستعيد وعيه بعد غيبوبة، ونظرت إلى زينب التي كتنت تحثها بعينيها أن تتحدث، فظهر التردد باديًا في عينيها، وتقطعت أحرف كلماتها بريبة.


ـ أنا سمعاكي يا حبيبتي.. فضفضي أكيد هترتاحي.. 


أغمضت نغم عينيها وأخذت نفسًا طويلا ، ثم أسندت رأسها فوق جبهتها وهي تحاول خلسة أن تخفي عينيها عن زينب حتى تواتيها الجرأة لتتحدث، وبصعوبة انفرجت شفتاها، وقالت:

ـ يوم عيد ميلادي.. اليوم اللي فريد سافر فيه..


أومأت زينب بصبر، وانتظرت ما قالته نغم بهدوء.


ـ سالم بيه جالي هنا.


قطبت زينب جبينها بتعجب، فتابعت نغم قائلة:

ـ قاللي ابعدي عن ولادي لأنك هتكوني السبب في إنهم يموتوا بعض عشانك .


تحول تعجب زينب إلى صدمة، ونغم تستطرد قائلة:

ـ قاللي انه سمع حسن نفسه بيقول انه لما بيشوف فريد معايا بيبقا عاوز يموته.. وطلب مني لو بحب فريد بجد أضحي علشانه وأبعد لأن الاخوات ملهاش غير بعضها في الآخر.


تنفست زينب بهدوء يعكس غضبها، وفي داخلها لعنت سالم ألف مرة، فيما استرسلت نغم بقهر :

ـ حاولت أدافع عن حبي لفريد، حاولت أتمسك بيه وأعمل علشانه حاجة واحدة صح، معرفتش .. هددني إنه هيفضحني… 


صمتت، ثم انفجرت في نوبة بكاءٍ عميقة، فيما قطبت زينب جبينها بدهشة وترقب، تستعد لسماع ما ستبوح به نغم بعد ذلك، التي قالت بخجل وبتردد يخيم عليه البرود:

ـ أنا كنت بسرق صاحبة الكوافير اللي كنت بشتغل فيه زمان .


عكست ملامح زينب الصدمة والذهول، وحاولت استيعاب ما سمعت.. لم تعلق، وتركتها تسترسل بهدوء..

ـ مش لاقية مبرر أقوله ، لو قلت إني كنت بعمل كده عشان مضطرة أصرف على علاج خالتي ممكن تقولي في نفسك كان في ألف طريقة غير كده.. بس وقتها مكانش في ولا طريقة غير كده والله.. أنا كنت بشتغل، وكنت بتبهدل وبتذل كتير علشان أجيب فلوس حلال، لكن اقسم بالله ما كان في حاجة مكفية .. الجلسة لوحدها كانت بمرتب شهر في الكوافير .. وخالتي كانت بتحتاج جلستين كل أسبوع، غير مصاريف العلاج والأكل.. أنا حتى عمري ما اشتريت لنفسي حاجة نفسي فيها.. لأني بالرغم من اللي كنت بعمله كان مش مكفي ..


احتضنتها زينب، عانقتها بقوة وقبّلت أعلى رأسها، منحتها الأمان لتكمل، وتقول كل ما تخشى البوح به:

ـ معرفش سالم بيه وصل للفيديوهات دي إزاي بس أنا متأكدة إن فيفي صاحبة الكوافير هي اللي وراها.


ـ اهدي يا حبيبتي ، متفكريش كتير خلاص اللي حصل حصل.. سواء فيفي أو غيرها فسالم مش صعب عليه يوصل لأي حاجة .. 


ـ أنا مكسوفة من نفسي أوي، سالم بيه معاه حق،  واحدة زيي متستحقش واحد زي فريد. 


ـ يا حبيبتي انتي زي الفل .. كلنا بنغلط احنا مش ملايكة، متشيليش نفسك فوق طاقتها .. ربنا غفور رحيم يا بنتي .


ـ ربنا بيغفر بس الناس مبتغفرش ولا بتنسى يا خالتي، فريد لو عرف حقيقتي عمره ما هيبص في وشي تاني، عشان كده لازم أفضل بعيدة عنه .


ـ لأ.. أنا مش معاكي أبدا يا نغم.. فريد بيحبك يا حبيبتي ، وتأكدي إنه أخر واحد ممكن يتخلى عنك علشان حاجة حصلت زمان .. انتي لو تعرفي فريد زي ما أنا أعرفه مش هتقولي كده أبدا .. اديله وادي نفسك فرصة و…


قاطعتها نغم إذ نظرت إليها بقوة وقالت:

ـ اوعي يا خالتي.. علشان خاطري لو بتعزيني اوعي تجيبي له سيرة عن اللي قلته ليكي.


تنهدت زينب مطولا، وأومأت وهي تسند رأس نغم على كتفها من جديد وتقول:

ـ أوعدك يا نغم .. مش هقول له حاجه متقلقيش.


وظلت بجوارها، تدعمها وتربت عليها بقلبها قبل يدها، تمنحها من الأمان ما تحتاجه كلا منهما .


ثم نهضت بعد قليل، دخلت المطبخ وأعدت لها طعاما يكفيها لعدة أيام، فلقد رأت حالتها وكيف أصبحت شاحبة شحوب الموتى ، ومن ثم ودعتها على وعد بزيارتها مجددا في أقرب وقت. وانصرفت.


༺═────────────────═༻


ـ يعني إيه مش عارفين هو فين ؟! 


هدر بها سالم بغضب عاصف، فأفزع كلا من نادية، وحسن، الواقفان أمامه وقلة الحيلة باديةً على وجهيهما.. وتابع بحدة أقسى وغضب أشد:

ـ هيكون راح فين يعني من أول امبارح، وإزاي مبلغتنيش بحاجة زي دي من وقتها ؟!


هنا وجّه سؤاله الأخير لنادية، التي ما إن همت بالإجابة حتى قاطعها هاتفًا بقوة:

ـ ولا انتي قُلتي بقا أنا بموت وخلاص مبقاليش لزمه والدنيا هتمشي سلطة .. اللي يخرج يخرج، واللي يدخل يدخل .


نظرت نادية إلى حسن ثم عادت بعينيها إلى سالم بسرعة، وقد علت وجهها علامات الاستنكار والذهول، تتساءل في قرارة نفسها: كيف يجرؤ على مخاطبتي بهذه الوقاحة أمام ابنه ؟! ثم خرجت من الغرفة دون أن ترد، وأغلقت الباب بقوة خلفها.


 دخلت غرفتها وقفت أمام المرآة، تحدق في نفسها بغضب، ومررت يديها على وجهها وعنقها محاولة أن تهدئ من ثورة غضبها المكبوت الذي يكاد يخنقها. 


انفرج الباب ودخلت چيلان، تقدمت منها ووقفت بجوارها، وضعت يدها على ذراع والدتها وهي تقول:

ـ في إيه يا مامي؟ أنكل سالم منفعل بالشكل ده ليه؟


رمقتها والدتها بشبه لوم وقالت بنبرة مضطربة وهي تسير نحو الأريكة:

ـ عمر مرجعش البيت من أول امبارح، وكان في الأول مش بيرد على موبايله، بعدين الموبايل اتقفل ! 


ظهر على ملامحها بعض الحيرة، وتعكرت زرقاوتا عينيها وهي ترى حزن وغضب والدتها؛ فنظرت إليها وقالت:

ـ هو إيه اللي حصل؟! في حاجة ضايقته عشان كده مشي؟


في تلك اللحظة، تذكرت نادية كلماتها التي قالتها له في ذلك اليوم، إذ لاحظت مدى انزعاجه وتهديده بأنها إن استمرت في محاولاتها فستؤول الأمور إلى نتيجة عكسية، ولكنها أبت أن تعترف أن حديثها المسموم هو السبب، لذا تنهدت وقالت:

ـ محصلش حاجه مستاهلة يعني، كلمتين عاديين بس انتي عارفة عمر حساس إزاي.


زفرت چيلان وهي تفرك جبهتها بإرهاق، ثم قالت:

ـ طيب mostly هيكون سافر، انتي عارفة عمر بيحب يهرب دايما.. لكن علشان نطمن أكتر أنا هخرج دلوقتي وهحاول أشوف الكافيهات اللي بيقعد فيها، وكمان صحابه من أيام الكلية جايز قاعد عند حد فيهم .. 


انحنت قليلاً نحو والدتها وقبّلت رأسها برقة، وتابعت:

ـ إن شاء الله خير يا مامي متقلقيش.


ثم خرجت من الغرفة، أما نادية، فجلست تسترجع كل ما قالته، وبدأت تحاسب نفسها وتلومها. كانت تدرك جيدًا أنها أخطأت وزادت الأمور سوءًا في ذلك اليوم، كما تعلم أيضًا أنها لن تتحمل المزيد، ولن تصمد أمام خسارته، خاصة وأن جراح خسارتها الأولى لم تندمل بعد…


أمسكت هاتفها وأرسلت رسالة صوتية إلى عمر، اعتذرت فيها منه، واعترفت بخطئها، ووعدته ألا يتكرر ذلك مرة أخرى. أرسلت الرسالة وانتظرت ردّه، وظلت تنتظر طويلاً، ولكن في النهاية لم يصلها أي رد.


…………..


ـ إزاي تغفل عنه بالشكل ده يا حسن؟! هو أنا مش قلت لك خلي بالك منه .. قلت لكم عمر ده طايش وأهبل محدش صدقني.. أهو اختفى و حلني على ما نعرف نوصل له، ادعي ربنا بقا ميكونش بيهبب مصيبة دلوقتي من مصايبه السودا .


نظر حسن إلى والده وشعور بالذنب بدأ يتسلل نحوه، ثم تنهد وقال:

ـ أنا مكنتش أعرف إنه هيختفي يا حاج، وبعدين محصلش حاجه أصلا .. ما احنا كنا مع بعض في المستشفى وكان كويس .


زفر سالم بضيق، وقال بانفعال حاد:

ـ هو عمر كده.. كل ساعة بحال.. مفيش غير فريد اللي كان مسيطر عليه ومعلّمه الأدب ، ادي أخرة الصحوبية والدلع .


شعر حسن بضيق عميق، وكأنه هو المسؤول عن ضياعه، وبدأ يتملكه إحساس بالذنب يتصاعد داخله. لقد كان من المفترض أن يكون هو الحارس الذي يحمي أخاه، لكنه لم يكن يقظًا بما فيه الكفاية، لذا تنهد وهو ينهض قائلا:

ـ متقلقش يا حج، أنا هقلب عليه الدنيا وهيظهر إن شاء الله.. 


ربت حسن على كتفه ثم خرج بصمت، وما إن أغلق الباب خلفه حتى أطلق تنهيدة ثقيلة محمّلة بالضيق والهمّ.


وفي الدرج التقى بزينب التي وصلت للتو إلى الفيلا، وكانت في طريقها إلى غرفة الباشا لتُعلمه بتفاصيل زيارتها لنغم.


نظرت إليه زينب فجأة، وتذكرت كلمات سالم التي سمعها على لسان نغم: إن حسن كلما رأى فريد بجوار نغم، شعَر برغبة في قتله... وضيقّت عيناها دون وعي وهي تحدّق في حسن بعينين مليئتين بالعتب، فرفع حاجبه متسائلاً:

ـ في إيه؟! ليه بتبصي لي كده؟


تملّصت منه، وأشاحت بنظرها الغاضب عنه، وسألته:

ـ الباشا في أوضته؟


أجابها متهكمًا:

ـ لأ، الباشا بيضرب غطس في حمام السباحة برّه... ما أكيد الباشا في أوضته، اومال هيروح فين بحالته دي؟


هز رأسه يائسًا، ونزل الدرج تاركًا إياها ترمقه في حيرة، لا تدري هل تغضب منه أم تشفق عليه.


ثم صعدت إلى غرفة سالم، تشحذ همتها استعدادًا للقاء مهلك يستنزف كل قوتها.


༺═────────────────═༻


خرج حسن إلى الحديقة، وعزمه واضح على ركوب سيارته والانطلاق، لكنه لمح چيلان جالسة خلف المقود تحاول مرارًا تشغيل المحرك الذي أعلن عن تمرده وعصيانه.


فدنا منها، وانحنى بقامته الطويلة ليطل عليها من النافذة، وسألها بجدية :

ـ هي عطلانة ولا إيه ؟!


رمقته بطرف عينها بضيق وزفرت وهي تضرب المقود بقبضتها في غضب، فاقترب من باب السيارة، وفتحه دون استئذان، وقال:

ـ انزلي ..


رمقته من أسفل عبر النافذة وهو يقف أمامها وقامته الطويلة تهيمن على المشهد، وباغتته بعناد، وسحبت الباب بغضب، ثم أوصدته وهي تنظر إليه وتقول بحنق:

ـ محدش طلب منك مساعدة .


رفع حاجبه متعجبًا عنادها الطفولي، وقال بنبرة لا مبالية:

ـ خلاص انتي حرة، يا رب ما تدور في يومها.


تراجع، وتوجه نحو سيارته وهو يبتسم ساخرًا في سره من حنقها الذي لا يجد مبررًا. استقل السيارة وبدأ يقود بهدوء، ثم عَمِد إلى المرور بجانبها عن قصد ليثير حنقها أكثر، وأشار اليها بيده ملوّحًا بسخرية، وتجاوزها وعندما أوشك على مغادرة الڤيلا استمع إليها وقد استعملت الزامور لتعطيه إشارة توقف، وهي تصرخ:

ـ أنت !!


توقف، ثم سار عائدًا نحوها، ونظر إليها مبتسما بشماتة وقال:

ـ بتكلميني أنا ؟!


قلبت عينيها بملل، وهتفت بحدة:

ـ للأسف بكلمك انت  .. اتفضل تعالى شوف هتساعدني إزاي.


ضيق عينيه وهو يرمقها بغيظ وقال:

ـ مش هاين عليكي تتكلمي بأدب حتى وانتي بتطلبي المساعدة.


زفرت بقوة غاضبة وهي تسأله :

ـ هتساعدني ولا تمشي من سكات ؟!


هز رأسه يائسًا، ونزل من سيارته، ثم اقترب منها وقال:

ـ انزلي.. لما نشوف أخرتها .


فتحت باب السيارة ونزلت مترددة، لفت انتباهه تنورتها القصيرة التي كشفت عن ساقين رشيقتين، فأبعد نظره بحذر ليخفي إعجابه.


ثم اقتحم حسن مقعد السائق في سيارتها، وجلس خلف المقود، محاولاً تشغيل المحرك بنفسه، يمعن النظر في لوحة العدادات ويتفقد الأعطال، ثم نظر إليها وقال بثقة :

ـ المشكلة في الكتاوت .


نظرت إليه بامتعاض وردت: 

ـ قصدك الريليه .. 


هز رأسه متهكمًا وقال:

ـ أيوة هو الريليه يا چيچي هانم ، هنسيب المشكلة ونمسك في كتاوت ولا ريليه.. 


رفعت حاجبها وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي ترمق السيارة بحيرة، فقال وهو يترجل منها ويغلق الباب قائلا:

ـ لازم ميكانيكي يشوفها.. 


وسار نحو سيارته وقال:

ـ لو في مشوار ضروري ممكن أتنازل وأوصلك .


رمقته بحدة، ورفعت حاجبيها باستنكار ، بينما كان هو قد استقل مقعده، ونظر إليها وقال:

ـ هاا .. هتيجي ولا أمشي ؟


لم تجب، كانت تفكر بهدوء، ماذا تفعل؟ هل تذهب معه للبحث عن عمر؟ أم تتراجع وتعود إلى الڤيلا إلى حين حل مشكلتها، وفي النهاية تقدمت من سيارته بصمت، استقلت المقعد المجاور، وصفقت الباب بحدة وهي تنظر أمامها بعجرفة متناهية ، فنظر إليها وهز رأسه بيأس وقال وهو يدير المحرك :

ـ الصبر من عندك يارب.


ونظر إليها ، وسألها :

ـ رايحه فين؟


ـ مدينتي .


ـ ومدينتك دي فين بالظبط؟


نظرت إليه بطرف عينيها بسخط، ثم قالت:

ـ مدينتي.. التجمع الخامس.. إيه مسمعتش عنها ؟! 


مط شفتيه وقال بهدوء:

ـ ورايحة تعملي إيه هناك؟


ـ صحاب عمر عندهم كافيه هناك، هسألهم جايز حد فيهم يعرف عنه حاجه.


تنهد بضيق ، وزفر زفرة مطولة وقال محظثًا نفسه :

ـ كانت ناقصة جنانك يا عمر !!


༺═────────────────═༻


كانت زينب تجلس أمام سالم، يسألها فتجيب بهدوء، وعيناها مطرقتان أرضًا .


ـ يعني مقالتش ليكي على أي حاجه ؟! ولا إذا كان فريد بيحاول يكلمها أو لأ من ساعة ما سافر ؟!


هزت رأسها بنفي وقالت:

ـ لأ.. اتكلمت معاها كتير وحاولت أسحب منها أي معلومه معرفتش.. مش راضية تتكلم ابدا ولا تحكيلي على أي حاجه.


زفر بضيق، وانتابته الحيرة، فأشد ما يبغضه أن لا يكون على علم بكل شيء يدور حوله، سواء كان يخصه أم لا .


ـ كلمتي نسيم ؟! 


سألها مجددا، فأجابته على الفور دون تردد:

ـ تليفونها مقفول، بكرة لو معرفتش أوصلها هروح أزورها.


نظر إليها بحدة، وهتف:

ـ بقيتي بتقرري وتتصرفي من دماغك ولا إيه يا زينب؟؟ لما أقول تزوريها تبقي تزوريها.


أومأت موافقة بصمت، ونهضت لتغادر الغرفة ولكن تلك الآهة التي غادرت سالم استوقفتها، فنظرت إليه، فوجدته مغمض العينين، تغشاه علامات التعب، وهو يتساءل بمرارة:

ـ وبعدين ؟! هلاقيها منين ولا منين؟! هو إيه اللي بيحصل بالظبط ؟! هو أنا مبقاش ورايا غير مشاكل ولادي؟! كل واحد منهم بقا عايش في ملكوت لوحده وكأنه ملوش حد… للدرجة دي مبقاش ليك لزمة يا سالم يا مرسال ؟


زفرت بأنين مكتوم، ليس شفقةً عليه، بل شفقةً بأولئك المساكين الذين عبث بقلوبهم وأحلامهم، حتى اضطرّوا للفرار منه إلى مصائر لا تُحمد عقباها.


غادرت الغرفة واتجهت نحو غرفة الممرضة، طرقت الباب، ففتحت لها الأخرى، فقالت زينب:

ـ اطلعي لسالم باشا، قيسي له ضغطه لأنه تعبان.


أومأت الممرضة امتثالًا، وصعدت مسرعة إلى حيث غرفة سالم. طرقت الباب، وما إن سمعت صوته يسمح بالدخول حتى ولجت.


تفاجأ بوجودها؛ لم يكن يتوقع أن تكون هي الطارقة. وقفت عند المدخل قائلة:

ـ زينب قالتلي أجي أقيس لك الضغط، عشان تعبان.


رمقها بهدوء، وفي أعماقه تساؤل مستنكر: أي لعنة هذه؟! وهو الذي ظن يومًا أنه شُفي من داء النساء، وأنه لن يلتفت لإحداهن مجددًا... فما بال هذه الممرضة تُشعل في داخله شيئًا كان قد دفنه منذ زمن؟

والأعجب أن نظراتها فضحَت كل شيء، وهو سيد من يقرأ العيون، وخاصة عيون النساء.


تنحنح محاولًا محو أثر اضطرابه، وقال بحدة:

ـ زينب دي بتلعب معاكي في الشارع؟


ارتبكت من حدّته وظهر عليها الحرج، فأردف:

ـ زينب أكبر منك سنًّا ومقامًا، لما تيجي تتكلمي معاها أو عنها، تقولي "أبلة زينب".


أومأت على مضض، ثم خطت خطوتين نحو المنضدة لالتقاط جهاز قياس الضغط الذي كانت قد وضعته بالأمس، لكنها أسقطته عمدًا، فانحنت ببطء لتلتقطه، كاشفةً عن قدرٍ من أنوثتها لا يخفى على عين خبيرة مثله.


وعندما وقفت، جعلت شعرها ينزلق قليلًا على كتفها، ثم عدّلت وقفتها بطريقة واثقة، متعمدةً أن تُبقي عينيه مشدودتين إليها… وكأنها تمارس طقسًا مدروسًا من الإغواء، مرةً بعد مرة.


ثم تقدّمت نحوه وهي تحمل الجهاز بين يديها، وجلست على المقعد الملاصق له، فيما كان هو قد أغمض عينيه وأسند رأسه إلى الخلف، كمن يحاول بعناد أن يشتّت انتباهه عن تلك اللعوب.


أما هي، فانحنت قليلًا نحوه، وبدأت بربط حزام الجهاز حول ذراعه، تتحرّك ببطء محسوب، كأن كل التفافةٍ ليدها وكل لمسةٍ لجلده جزءٌ من لعبة تُتقنها.


ـ ضغطك عالي يا سالم باشا، لازم تاخد حباية للضغط .


تناولت دواء الضغط من فوق المنضدة، وانتزعت منه حبة ناولتها له، فابتلعها سريعًا دون تردد، ثم ثبت عينيه إلى الأمام وقال ببرودٍ قاطع:

ـ اخرجي.


رفعت نظرها إليه، وتوغلت بعينيها في عينيه مباشرة، قبل أن تنطق بصوتٍ خافت ذي نبرة إغراء:

ـ حضرتك محتاج حاجة تانية؟


أجال فيها نظرة طويلة من طرف عينه، ثم أشار برأسه نحو الباب بصمت صارم، فاستدارت خارجة كما أمر، وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة عريضة تحمل في طياتها أكثر مما تُظهر.


༺═────────────────═༻


بعد مغادرة زينب، قامت نغم وتناولت قليلاً من الطعام الذي أعدته لها، وهاجس غريب انتابها برغبة في الأكل، لم يكن ذلك بدافع الجوع فقط، بل لأن ذلك الطعام يحمل بين نكهاته ذكرياتها، وذكريات خالتها التي لا تزال حاضرة في أعماق قلبها، فهو الطعم ذاته الذي يعيدها إلى أيام كانت تحيط بها فيها الطمأنينة والدفء.


وأثناء تناولها الطعام ببطء، ممسكة بهاتفها بيدها الأخرى، تصفحت تطبيق "فيسبوك" ثم توجهت تلقائيًا إلى حساب فريد، كعادة يومية مكتسبة. فوجئت بمنشور جديد شاركه من حساب يحمل اسم "جيرالد إيفانز".


لم يكن منشورًا عاديًا، بل كان عبارة عن مجموعة من الصور التي التقطت لهم في المؤتمر الصحفي.


في الصور الأولى، كان قلبها يخفق شوقًا وهي تتمعن في ملامحه فقط دون غيره، تكبر الصور وتتأملها بحنين، صورة تلو الأخرى، حتى توقفت عند صورة صادمة مزقت قلبها إلى أشلاء.


فريد في الصورة، يقف بجانب امرأة هيفاء الطول، ذات حضور لافت، تقف بينه وبين شخص آخر يشاركهما الصور، ترتدي فستانًا أزرقًا سماويًا يصل طوله إلى أعلى ركبتيها، كاشفًا عن قوام ممشوق ينبض بأنوثة متفجرة. تضع يدها خلف ظهر فريد وتميل نحوه بودّ لا يمكن اغفاله، والآخر يبتسم بهدوء وكأن الأمر يروقه .


لم تستطع نغم رفع عينيها عن الصورة، وبدأت دموعها تنهمر واحدة تلو الأخرى، حتى غاصت في بحر من الغيرة والمرارة.


أغلقت الهاتف وألقته فوق الطاولة بقوة، ثم نهضت وقد شعرت بأنها قد فقدت شهيتها، وجمعت الطعام وأعادته إلى المبرد، ثم دخلت إلى غرفتها، أبدلت ثيابها وغادرت المنزل، لا تعرف إلى أين، ولكن كل ما تعرفه أنها تحتاج لفعل أي شيء يمنعها من التفكير، وإلا فهي مستعدة لإنهاء حياتها الآن بكل رضا.


༺═────────────────═༻


مرَّت قرابة الساعتين والنصف، وكان كلٌّ من جيلان وحسن يبحثان بالسيارة عن عمر.


سألا في المقهى فلم يُفِدهما أيُّ من أصدقائه، واتصلا بأصدقاء آخرين، لكن أحدًا منهم لم يتحدث معه منذ زمن طويل.


حلَّ بهما الضيق، والحزن، والخوف!


تنهدت جيلان وهي تنظر من النافذة المجاورة وقالت بعجز:

 ـ وبعدين؟! مش عارفين نوصل لحاجة، معقول سافر؟!


كان حسن شاردًا، يغوص في تفكير عميق، ثم نظر إليها سريعًا وقال:

 ـ أنا عرفت ممكن يكون فين.


هزَّت رأسها استغرابًا، فأجاب وهو يدير السيارة: 

ـ العزبة!


مدَّت شفتيها بصمت، ثم نظرت إليه وقالت: 

ـ العزبة؟!!


ـ أيوة.. لما كنا هناك الجو كان عاجبه وعلى هواه، أكيد هرب على هناك.


تنهدت جيلان بأسى، غير مدركة إن كانت هذه المحاولة مجدية أم لا، لكنها لم تمانع المحاولة.


شق حسن طريقه نحو محافظة الشرقية، وبينما كانت جيلان تنظر من زجاج النافذة إلى الطريق، كان هو ينظر إليها بين الحين والآخر، ثم قال:

 ـ أول مرة تروحي العزبة مش كده؟


نظرت إليه بهدوء، ثم أومأت وأجابت باقتضاب:

 ـ رحت مرة مع فريد وعمر من سنين.


رفع حاجبه بتعجب، ثم قال:

 ـ وإيه رأيك بقا في الجو هناك؟!


مدت شفتيها ببرود وقالت:

 ـ عادي.. مش حلو ومش وحش.. أنا شخصيًا مقدرش أعيش هناك خالص.. الناس هناك no way أقدر أعيش معاهم.


رفع حاجبه متعجبًا من تلك الغطرسة في كلامها، ثم أومأ بهدوء، محولًا نظره من عليها إلى الطريق أمامه، وقال: 

ـ معاكي حق، الناس هناك ما بيعرفوش يتعاملوا غير مع الطيبين السالكين اللي قلبهم أبيض شبههم.


أدارت وجهها نحوه بحدة وبصدمة من مغزى كلامه، فوجدته يسند يده إلى المقود، وفي الأخرى يدخن سيجارة، متجاهلًا إياها بكل برود، مما جعلها تغلي غضبًا، وتبحث جاهدةً لإيجاد كل وسائل ضبط النفس إلى أن تنتهي رحلتها معه .


طيلة الطريق ظلت صامتة، كذلك هو لم يحاول بدء أي حديث معها، إلى أن وصلا إلى العزبة، استقبلهم الغفير استقبالا حارا ففتح حسن باب السيارة ينوي النزول، وعندما همت جيلان بالنزول نظر إليها ثم إلى ساقيها المكشوفتين وقال:

ـ خليكي انتي .


نظرت إليه بتعجب وقالت: 

ـ ليه بقا ؟!


مال نحوها بجذعه قليلا، ثم قال وهو ينظر داخل عينيها بعبث معلن وقال بابتسامة ماكرة:

ـ أصلك خطر على الأمن القومي للبلد .


نزل من السيارة وأوصد الباب خلفه، وما إن غادر حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة خافتة، لكنها سرعان ما وأدتها وكأنها تلوم نفسها قائلة: كيف لي أن أبتسم على مثل تلك الترهات؟! 


دخل حسن إلى السرايا، بحث بنفسه بالرغم من أن الغفير أخبره أن عمر ليس موجودا، وأخذ يفتش في الغرف بنفسه، وعندما استيئس من وجوده غادر مجددا، دخل السيارة فسألته چيلان وقد بدا عليها الاحباط:

ـ بردو مش موجود؟!! 


هز رأسه نافيًا، وأسند يده إلى المقود في يأس وهو يتمتم :

ـ رحت فين يا عمر ؟!! 


༺═────────────────═༻


غادرت نغم المنزل وهي في حالة من الغضب الشديد، تجولت بلا هدف في أروقة المجمع السكني، غير عارفة إلى أين تتجه. كان الغضب يعتصر صدرها بقوة، وإن طالهُ سيحرقه ويحرق الأرض بمن عليها.


كانت بحاجة ماسة إلى شيء تفرغ به ذلك الكم من المشاعر المكبوتة قبل أن ينفجر كل شيء بداخلها.


نظرت حولها بحيرة، فقد كان عالمها ضيقاً ومجهولاً إلى حد كبير، إلى أن لفت نظرها لافتة كبيرة مكتوب عليه "Gym" فتقدمت دون تردد.


دخلت بسرعة لتجد نفسها في مكان يعج بالشباب والفتيات، أخذت تنظر إليهم بقلق وترقب، تشعر أنها غريبة في هذا العالم الجديد، ولكنها مصممة على أن تخوض التجربة.


تقدمت نحو آلة الجري، وقفت أمامها مترددة لوهلة، ثم أمسكت بالمقبضين بيدين مرتجفتين. حاولت أن تركز على التعليمات المكتوبة على الشاشة أمامها، ثم بدأت بخطوات بطيئة مترددة، تحاول أن تملأ ذلك الفراغ الذي يعتصر قلبها بحركة متواصلة.

ومع كل خطوة كانت تخطوها على جهاز الجري، كانت تتكاثر في ذهنها صور فريد وبقربه تلك الفتاة الهيفاء، فتتخيله وهو يتحدث معها تارة، ويمازحها تارة، يتقاربان، يتلامسان..


ومع كل تصور كانت تلتف حول قلبها غمامة من الألم والخذلان. كل نبضة في صدرها كانت تتصاعد كلسعة بؤس لا تنتهي، وكأنها تلهث خلف سراب من الحب الذي صار بعيداً، بعيداً جداً. 


تسارع طت خطواتها وسط صمت مطبق من حولها، لكنها كانت تشعر أن روحها تزداد ثقلاً، مكسورة على قارعة الألم، بلا ملجأ سوى الوحدة التي تحاصرها من كل جانب.


وبعد أن أنهكت قواها من الجري المتواصل، توقفت فجأة، تنهدت بعمق، وارتفع صدرها وهو يتقاذف أنفاسها المتقطعة. نظرت حولها بعينين دامعتين، والمرآة أمامها تعكس صورة امرأة منهكة، تحاول جاهدة أن تمسك بشظايا قلبها المنكسر، لكنها تجد نفسها تائهة بين خيبات الأمل والألم الذي يعتصرها. في تلك اللحظة، أدركت أن الهروب لم يكن سوى وهم.


إن هربت من حبها له، فكيف ستهرب من ذكراه التي تسكن في كل زاوية من روحها، ومن نبضات قلبها التي تنادي اسمه في صمت؟! كيف تفلت من ظلّه الذي يطاردها في كل خطوة، يهمس بأشجانه في أذنها، ولا يترك لها مهربًا سوى المواجهة أو الاستسلام؟!


ابتعدت عن الآلة، وتراجع الحماس الذي كان يملؤها تدريجيًا، تاركة وراءها أثرًا من التعب والخيبة. جلست على المقعد القريب، تسند رأسها بيدها، وعينيها تغوصان في بحر من الأفكار المتلاطمة بين العجز واليأس، بين الاشتياق والألم، تحاول أن تجد في صمت المكان ملجأً من عاصفة المشاعر التي تعصف بها.


وفجأة سمعت أحدهما ينادي باسمها، فرفعت رأسها فجأة لتتسيد ملامحها الغرابة والدهشة .. كان واقفًا أمامها يرتدي ثيابًا رياضية، وعلى كتفه منشفة، وفي يده حقيبة رياضية.


ـ نغم.. !! بتعملي إيه هنا ؟!


ـ عمر !! 


تساءلت بتعجب، فمد يده نحوها ليصافحها وقال مبتسما:

ـ إيه الصدفة الحلوة دي؟!


صافحته بود، وقالت:

ـ هي صدفة فعلا.. أنا كنت زهقانة شوية وقلت أعمل أي حاجه.


ابتسم وقال:

ـ الحال من بعضه.


نهضت، وسارت رفقته إلى الخارج، وتساءلت:

ـ وانت زهقان من ايه ؟! 

.مط شفتيه بانزعاج وقال بإيجاز :

ـ حاجات كتير، مفيش حاجه محددة.


أومأت بموافقة، وسارت رفقته بصمت، إلى أن قطعه متسائلا باهتمام:

ـ لسه مش بتكلمي فريد ؟


أشاحت بعينيها عنه، وقالت بهدوء:

ـ موضوعي أنا وفريد انتهى .


قطب جبينه باستنكار وقال:

ـ انتهى ؟!! مستحيل !


نظرت إليه ، فهز رأسه باستنكار وهو ينظر أمامه، ثم عاد ليتسائل :

ـ هو إيه اللي حصل يومها يخليكوا تسيبوا بعض أصلا ؟! فريد كان محضر لك عيد ميلاد حلو جداا وكان طالب مني أنا ونسيم نحتفل معاكم .. إزاي فجأة كده كل حاجه انتهت ؟! 


زفرت نغم بأسى، فاستشعر عمر عدم رغبتها في الحديث، فتنهد وقال :

ـ طيب مش هضغط عليكي .. براحتك .


أكملا طريقهما سويا، حتى وصلت أمام باب منزلها، فوجدته ينظر إليها مبتسما ويقول:

ـ أشوفك وقت تاني إن شاء الله.


نظرت إليه متعجبةً وقالت:

ـ انت بتيجي هنا كتير ؟


صعد درجات باب منزل فريد الملاصق لمنزلها وقال:

ـ أنا هكون جارك لفترة مؤقتة.


اتسعت عيناها بتعجب، ثم أومأت وهي تنظر نحو منزل فريد، تتمنى لو أنه موجود الان فيزيح عنها ثقل ما تشعر به وتكابده.


ونظرت إلى عمر فابتسم وقال:

ـ طبعا محدش غيرك يعرف اني موجود هنا، ويفضل محدش يعرف .


نظرت إليه بارتياب، وأومأت موافقة وقالت:

ـ اكيد محدش هيعرف، متقلقش.


أومأ موافقا ، ولوح لها مودعا وهو يدخل المنزل، فدخلت منزلها بدورها والحزن يخيم على قلبها بطريقة لا توصف.


.............


#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close