القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع وعشرون 24بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع وعشرون 24بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع وعشرون 24بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

ـ ٢٤ ـ


~ إلا وأنا معاك ! ~

ــــــــــــــــــــــــــــــ


في المساء..


كان عمر ممدّدًا على الأريكة، يتصفّح كتابًا من مكتبة أخيه بعنوان "Who’s Me"، يقرأه بتمعّن لعلّه يجد فيه ما يعينه على رسم طريق يقوده لاكتشاف ذاته. لكن سرعان ما تسلّل الملل إلى نفسه، فوضع الكتاب جانبًا، ونهض متجهًا نحو المطبخ. هناك أعدّ لنفسه كوبًا من القهوة المثلّجة، ثم عاد إلى مكانه ليواصل محاولاته في التحلّي بالصبر، علّه يبلغ ما يبتغيه.


وبينما كان يستعد للغوص مجددًا في الصفحات، دوّى رنين هاتف المنزل، فانعقد حاجباه في دهشة وهو يحدّق بالجهاز. من عساه يتصل على منزل فريد والجميع يعلم أنّ صاحبه غائب منذ فترة؟!


مدّ يده ببطء والتقط السماعة، ثم قرّبها إلى أذنه بصمت، ليصله على الفور صوت فريد وهو يقول بلهفة :

ـ عمر .. 


ـ فريد .. ؟! 


ـ والله كويس إنك لسه فاكر صوتي أصلا !! 


قالها فريد بعتاب ممزوج بالحنق، فتنهد عمر ثم قال:

ـ عرفت إزاي إني عندك ؟! أنا مش قايل لحد أبدًا إني هنا ؟! 


وصمت لوهلة ثم تساءل:

ـ هي نغم لحقت قالت لك ؟!


كان فريد سيجيبه، ولكن بمجرد أن سمع اسمها تراجع عما كان ينوي قوله، وسأله بنبرة ملتاعة يخفيها خلف سؤالٍ مختصر :

ـ نغم !! اشمعنا ؟!!


ـ شفتها النهارده في الچيم وعرفت إني قاعد عندك، لكن عجيبة !! هي قالتلي إن موضوعكم انتهى !! 


ـ هي قالتلك كده ؟!!! 


سأله فريد بصدمة ممزوجة بالقهر ، فأغمض عمر عينيه بيأس من غبائه وتسرعه، وأخذ يحدث نفسه قائلا :

ـ كالعادة بقول أي هبل في أي عبط.. أنا آسف يا فريد، هي مقالتش كده بالظبط ، هي قالت انكم ….


ـ مش مهم.. 


قاطعه فريد بحدة، وتساءل مغيرًا مجرى الحديث عله يتخلص من صدمته تلك، وقال :

ـ على العموم مش هي اللي قالت لي، أنا ونغم مش بنتكلم .. أنا عرفت بطريقتي الخاصة.


قطب عمر جبينه بتعجب ، وقال :

ـ طريقتك الخاصه ؟! إنت بتراقبني ولا إيه ؟


ـ أيوة .


ارتفعا حاجبيّ عمر بصدمة من صراحة أخيه المطلقة، وقبل أن يتساءل مستنكرًا تصريح فريد، كان فريد قد استطرد قائلا :

ـ أكيد مش هكون في بلد وانت في بلد تانية وأنا مش عارف عنك حاجة يعني !! 


ابتسم عمر بيأس، فأخيه لا بد أن يؤدي دور الأب كما كان دومًا، وبالرغم من البعد، لكن المسافة لم تمنعه من الاطمئنان عليه ومتابعة أخباره، فتنهد وقال: 

ـ sorry يا برو .. المفروض كنت أستأذن منك قبل ما أقتحم بيتك فجأة كده لكن…


ـ عمر.. بيتي هو بيتك يا حبيبي ! 


ابتسم عمر، وأسند جبهته فوق راحة يده بصمت، ثم قال:

ـ وحشتني جدا يا فريد ووحشني كلامك ليا وخوفك عليا، حتى وحشني انك تهزأني لما أغلط.. أنا مفتقدك جدا.


ابتسم فريد بهدوء، فحديث عمر أشعره بالراحة قليلا، إذ كان يخشى أن يمحو حسن مكانته لدى عمر، ولكنه اكتشف الآن أن مكانه لازال محفوظًا .


وقال :

ـ انت كمان وحشتني ، جنانك وحشني، وتصرفاتك الخزعبلية كمان وحشتني .


ابتسم عمر ابتسامة مقتضبة، ثم تحولت إلى ضحكة هادئة وقال بعدها :

ـ فكرت أهرب لعندك على فكرة، كنت خلاص مجهز كل حاجه وجاي لك.. لكن حسيت إني محتاج أقعد مع نفسي فترة، عاوز أكتشف نفسي من جديد.. مش عارف هقدر أعمل كده ولا لأ .


ابتسم فريد بحنو وقال :

ـ أكيد هتقدر ، طالما عندك إصرار أكيد هتنجح تعرف مين هو عمر .


تحمس عمر قليلا ، وقال :

ـ أتمنى ..


وصمت عمر قليلا ثم تساءل:

ـ طمني عليك ، انت كويس ؟!


ـ أنا بقيت كويس لما اطمنت عليك، بحاول أوصل لك موبايلك مقفول، ونسيم قلقانة عليك على فكرة ، وأكيد الكل قلقانين عليك، والدتك وچيلان كمان أكيد بيحاولوا يوصلوا لك.. بلاش شغل عيال يا عمر وافتح تليفونك وطمنهم عليك .


ـ مش عايز يا فريد.. مش عايز اتكلم مع حد.. مقفول قفلة سودا من كل حاجه.


ـ طيب ايه اللي حصل ؟! اتخانقت مع حد ؟! 


كان يشير ضمنيًا إلى حسن، ولكن إجابة عمر بددت ظنه:

ـ من غير خناق.. حاسس إني مش طايق روحي، محتاج أفضل لوحدي فترة، أنا مش بخرج من البيت حتى، غير النهارده قلت أروح أتمرن شوية جايز أفك.. انما طول اليوم مقضيها برطعة !


وتابع متعمدا إثارة حنق فريد :

ـ عمال أتنقل من كنبة للتانية.. ومن الليفينج للسرير.. سريرك مريح أوي في النوم.. الاوضة كلها عامةً مريحة، أعتقد هتساعدني أكتشف نفسي من جديد.. 


فريد، الذي كانت ملامحه تتصلب شيئًا فشيئًا وهو يستمع لكلمات عمر الأخيرة، شعر بوخز قلقه المعتاد يشتعل في صدره. سكت للحظة، لكن أنفاسه تسارعت قليلًا، وكأن فكرة أن أحدًا يستخدم أغراضه أو ينام في سريره قد بدأت تجرّه إلى دوامة الوساوس.


فقال بنبرة حاول جاهدًا أن يخفي الضيق بها :

ـ سريري ؟! إنت بتنام في سريري ؟!


ـ اومال أنام فين؟! ما أنا خفت بصراحة أدخل الاوضة التانية غريبة الأطوار اللي كلها ألوان وحركات، قلت دي أكيد خاصة بنغم .. ومكانش في قدامي غير المرسم أو الليفنج… يرضيك أخوك يجيلك ضيف يومين ينام في الليفينج ؟! 


تردد فريد قبل أن يجيبه :

ـ أكيد لأ.. على العموم خلاص مش مشكلة..


 صمت، وكأن عقله انشغل بحساب كل احتمال للتلوث، وكل ما قد يترتب على تجاوز عمر لقواعده. وعاد يسأل بسرعة متلاحقة:

ـ أهم حاجة متلمسش هدومي.. والفوط والملايات كمان.


ـ الفوط والملايات ؟! أنا آسف يا فريد بس أنا مجبتش فوط وملايات معايا وأنا جاي، فاتتني دي .


تنهد فريد وقال بضيق :

ـ عمر أنا مش بهرج، لو اضطريت تستخدم حاجاتي من فضلك نضفها وعقمها كويس ورجّع الحاجة في نفس الاتجاه اللي كانت محطوطة بيه.. وإلا الدنيا هتبقى فوضى وأنا مبستحملش الفوضى.


ـ حاضر..


ابتسم فريد بقلق متوتر وكأنه يحاول أن يتظاهر بالهدوء، لكنه بدأ يمطر عمر بوابل جديد من التعليمات:

ـ وبص… متستخدمش الميكروويف من غير ما تحط الطبق جوه الغطا البلاستيك الشفاف، عشان الرزاز ميلزقش في الجوانب.

ولو شربت قهوة، إغسل المج بنوع السائل اللي لونه أخضر فاتح، مش الأزرق، الأزرق لصحون الأكل بس.

ومتنساش. كل كباية لها كُوسترها الخاص، ماتبدلهمش.

ومفيش حاجة تتساب في الحوض، حتى لو معلقة واحدة.


هنا ساد صمت قصير، لم يكن عمر يعرف فيه هل يضحك أم يغيّر الموضوع وهو يرى الحديث وقد تحوّل لمحاضرة طويلة عن قواعد فريد "المقدسة" .


بينما ظل فريد على الطرف الآخر ممسكًا بسماعة الهاتف، يراقب بعقله كل صورة محتملة لعمر وهو "يخل" بنظام البيت، وكأنها كابوس يقترب خطوة خطوة.


فتنهد عمر يائسًا وقال:

ـ حاضر .. أي أوامر تانية ؟!


- وبالمرة… متفتحش التلاجة بإيدك اليمين، افتحها بالشمال… مش هتفهم ليه، بس أنا كده مرتاح.


ابتسم عمر وهو يضغط على جبهته في يأس، ثم قال ساخرًا:

ـ خلاص يا فريد، أنا همشي أسهل لي .


زفر فريد يائسًا بعجز، وقال بنبرة مليئة بالضيق:

ـ أنا آسف يا عمر.. أكيد مش قصدي كده.


تنهد عمر وهو يشعر بمزيج من الضيق والشفقة على أخيه الذي يأسره الوسواس القهري بهذا الشكل. وقال:

ـ يا حبيبي أنا فاهم كل حاجه ، بس عاوز أقوللك إن إنت محتاج تروح لدكتور في أقرب وقت، أنا حاسس إن الأمور بتزيد سوء، دي انتكاسة قوية جدًا .


مال فريد برأسه للخلف وتنهد، يعرف في قرارة نفسه أن حديث عمر صحيح، هو فعلا يشعر أن قبضته على الأمور تضيق يومًا بعد يوم، وأن السيطرة التي كان يظنها حماية أصبحت قيدًا خانقًا له قبل أن تكون للآخرين. لكن الاعتراف بالأمر أمام نفسه كان أهون كثيرًا من الاعتراف به أمام غيره.


ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال بهدوء يناقض أفكاره :

ـ متقلقش يا عمر .. كله هيعدي إن شاء الله ، أهم حاجة إنت خلي بالك من نفسك.


ـ أنا تمام متشغلش بالك عليا .. يوم ولا اتنين وهرجع الڤيلا..


ـ ربنا معاك..


وصمتا قليلا، فتساءل عمر بنبرة حذرة:

ـ فريد.. مش ناوي تصالح نغم ؟! واضح جدًا إنها متأثرة باللي حصل على فكرة .


تنهد فريد مطولًا، وكأنه يفرغ من صدره حملًا أثقل روحه منذ مدة، ثم قال بصوت منخفض:

ـ والله يا عمر مش عارف هو المفروض أنا أعمل إيه معاها تاني، بس أيًا كان فمش دلوقتي ، مش هاخد أي خطوة دلوقتي لأني حرفيًا منهك .


ومرر يده على جبينه في إرهاق، وتابع:

ـ خليها تاخد وقتها جايز هي مرتاحة كده.. مش هي اختارت تبعد ؟ خلاص خليها تبعد ..


ثم أردف، محاولًا أن يبدو غير مبالٍ:

ـ جايز ده أحسن لينا احنا الاتنين.


لكن صوته خان ما حاول إخفاءه، إذ ارتجف بين نبراته ترددٌ وخوفٌ وضيقٌ عميق، مما جعل عمر يدرك أن ما يقوله أخوه لا يعكس ما يختلج في قلبه. كان يعلم أن نغم تسري في عروقه كما يسري الدم، لكنه يدرك أيضًا أن فريد رجل شديد الاعتداد بنفسه، لا يفرّط في كبريائه أبدًا، وإن خضع للحب مرة، فلن يسمح لنفسه بالخضوع له ثانية، حتى وإن كانت هي النبض الذي يبقيه على قيد الحياة، فإنه يفضل أن يوقف قلبه عن الخفقان على أن يتنازل عن كبريائه، ففريد لم يتعلّم الهزيمة أمام أحد، ولم يسمح لقلبه أن يفرض عليه طريقًا يراه مهينًا لروحه، حتى لو كان هذا الطريق يقوده إلى أحضانها، حيث الأمان الذي يفتقده والسكينة التي يتوق إليها. كان يفضّل التيه في صحراء وحدته على أن يعترف بانكساره أمامها، لأن الاعتراف في عرفه لم يكن سوى جرح مفتوح لكبريائه، وجرح الكبرياء عند فريد لا يندمل.


لم يجد عمر ما يقوله في الوقت الحالي، لكنه تنهد وقال:

ـ أنا مش عارف أقول إيه .. يا رب الأمور تتصلح وترجعوا لبعض .


ـ متشغلش بالك يا مانو .. كله خير ! 


ابتسم عمر وقد غلبه الشوق لأيام طفولته، عندما كان فريد يرمز إليه بهذا اللقب دائمًا، وتبسم قائلا:

ـ يااه بجد .. من زمان مقولتليش يا مانو.. هو إحنا كبرنا للدرجة دي .. 


أومأ فريد مرارًا.. اعترافا بحقيقة ما قاله عمر، وتابع :

ـ معاك حق .. من زمان أنا مقصر معاكم انت ونسيم.. إن شاء الله باقي أسبوعين تقريبا على الافتتاح ، يا ريت تتفقوا وتيجوا تقضوا معايا يومين قبلها .. أتمنى يعني.


ـ وحسن ؟!  


تسائل عمر بنبرة ذات مغزى، فتنهد فريد مطولا بصمت، فتابع عمر وقد واتته الفرصة ليدافع عن أخيه بإخلاص :

ـ فريد.. أنا متضايق منك من وقت اللي حصل.. مش قادر أصدق إنت تعمل كده إزاي.. 


قاطعه فريد بإرهاق:

ـ أنا متضايق من نفسي أكتر.. وقرفان من نفسي كمان .. تخيل ! مش قادر أستوعب إزاي قلت كده، أنا ندمان يا عمر لأن دي مش شخصيتي ولا دي طريقتي في التعامل مع أي حد مهما كان .


ـ بس حسن مش أي حد يا فريد.. حسن أخونا.. سواء قبلت ده أو لأ.. وبعدين أنا مش فاهم، ليه عملت كده أصلا ؟! حسن ملوش علاقة بنغم أبدا من وقت ما نقل الڤيلا.. وأنا متأكد من كلامي ده، ولو نغم بعدت فأكيد السبب مش حسن.. صدقني ! 


وراح يتابع وكأنه يحدث نفسه:

ـ حسن ده آخر واحد ممكن يسبب أذى للي حواليه .. ده إنسان pure جدًا.. حنون وخدوم وجدع لأقصى حد..


انتابه الضيق، لأنه تذكر على الفور كل ما مرت نغم به بسببه، لذا هتف حانقًا:

ـ عمر انت مش عارف حاجة..


ـ ومش عاوز أعرف يا فريد، أنا ليا أحكم على علاقتي بيه كأخ فقط لا غير ، أنا شايف إنه أخ رائع.. زي ما أنا شايف إنك أخ عظيم.. أما أي مساويء تانية أنا مش عايز أعرفها لأن كلنا فينا عيوب وكلنا لينا ذلات.. لا انا ولا انت ولا أي حد في الدنيا ملايكة.. علشان كده أنا بطلب منك تكلم حسن تعتذر له.. وأنا واثق إنه هيقبل اعتذارك لأنه بيحبك على فكرة.. حسن مفيش أحن منه، ولو انت كنت شفته واقف في المستشفى قلقان على الباشا إزاي بالرغم من إنه يعتبر لسه عارفُه من شهرين أصلا كنت هتعرف إن مفيش أحن منه .


قطب فريد حاجبيه بتعجب وقال :

ـ مستشفى ؟! ليه إيه اللي حصل ؟


تنهد عمر مطولا ، ثم قال ببرود ونبرته لا توحي بأي تأثر :

ـ السيد الوالد جاله بوادر جلطة بسبب اللي حصل بينك انت وحسن وقعد يومين في المستشفى!


رفع فريد حاجبيه قليلًا ، ثم قال بهدوء وكأن الأمر لا يعنيه :

ـ ودلوقتي ؟!


ـ مش عارف ، المفروض إنه خرج من يومين ، على العموم أكيد هيقوم منها يعني إنت عارف سالم باشا قط بسبع أرواح .


ابتسم فريد وهو يهز رأسه يائسًا من سخرية عمر اللامتناهية ، وقال:

ـ ربنا يستر إن شاء الله.. 


وانحرف عن الأمر سريعا، إذ قال :

ـ على العموم مش عاوزك تشغل بالك بأي حاجه ، أيًا كان اللي حصل بيني وبين حسن إنت برة الليلة أصلا، ومش هوصيك.. خد بالك من نفسك وافتح تليفونك وطمنهم عليك، خليك مسؤول يا عمر إنت مبقيتش صغير عشان تتصرف تصرفاتك الطايشة دي..


وتابع بنبرة أكثر انفتاحا وكأنه يعرض عليه الأمر ليقنعه :

ـ طمنهم يا سيدي واقفل الموبايل تاني لو حابب، بس المهم إنهم يعرفوا إنك بخير ومحتاج وقت لنفسك .. وقتها أكيد هيحترموا ده ويسيبوا لك مساحتك .


تنهد عمر مجولا، وقال مساومًا أخاه:

ـ حاضر يا فريد.. هعمل كده بس بشرط.. إنت كمان تفكر في كلامي وتعتذر لحسن.. 


صمت فريد قليلا، ثم قال :

ـ تمام أوعدك هفكر في الموضوع.. يلا .. ربنا معاك .


تنهد عمر بيأس ثم قال :

ـ ومعاك يا كبير .. سلام .


وأنهى عمر الاتصال، وعلى الفور امتثل لنصيحة أخيه الأكبر. فتح هاتفه ببطء، متوجسًا من سيل المكالمات والرسائل التي ستنهال عليه الآن، والتي ستجبره على كسر صمته والخروج من عزلته.


༺═────────────────═༻


خيّم الليل عليهما وهما في طريقهما نحو العودة من الشرقية إلى القاهرة، كان حسن يقود الطريق صامتًا وقد بدأ القلق يعصف به فعلا، فهو في البداية لم يمنح الأمر كل تلك الضخامة، لكنه الآن قد شعر بالخوف حقًا على أخيه.


وبجواره، چيلان التي كانت تمسك بهاتفها وتجري اتصالا تلو الآخر بجميع معارفها وتطلب منهم البحث عن عمر والتواصل معها في حين تم التوصل لأي خبر بخصوصه.


مدت يدها ورفعتها إلى جبهتها، تضغط على جانبي عقلها بإصبعيها بتعب، ثم أزاحت شعرها للخلف وهي تنظر إلى حسن وتقول بنفاذ صبر :

ـ وبعدين ؟! مامي كل شوية تكلمني وأنا مش عارفة أرد عليها أقول لها إيه.. 


نظر إليها بملامح متجهمة ، وزفر بضيق وهو يقول:

ـ مش عارف.. عمال أفكر مش عارف أوصل لحل، بس تقريبًا كده مش فاضل غير إننا نقدم بلاغ .. 


قطبت حاجبيها بتعجب وقالت:

ـ محضر ؟! أكيد لأ مش هينفع .


ـ عندك حل تاني؟! 


سألها بإحباط، فتنهدت بقلة حيلة، وزفرت ثم قالت:

ـ خلينا نكلم فريد.. ممكن يكون سافر له، ولو لأ فهو أكيد هيكون عنده حل أو له طرق يقدر يعرف بيها مكانه .


أشاح بوجهه في صمت، وقال باقتضاب:

ـ كلميه .


رفعت حاجبًا بضيق وقالت بإباء صارخ:

ـ لأ مش هكلمه .. 


نظر إليها مغتاظًا وقال:

ـ هو إيه لعب العيال ده؟ طيب أنا ومش راضي أكلمه لأنه غلط فيا، سيادتك بقا معترضة ليه؟. هو اللي مختفي ده مش أخوكي والمفروض تتنازلي علشانه؟!


نظرت إليه بعناد وقالت بحدة:

ـ Look who's talking 

( انظر من الذي يتحدث؟! )


ليجيبها بعناد أكبر وحدة أشد :

ـ كلميني عربي !!


زفرت بضيق، ثم قالت بتصميم:

ـ مش هكلم فريد، no way.


أومأ مغتاظًا وقال :

ـ انتي no way  وأنا كمان ستّين no way  .. خلينا بقا نعند على بعض ونسيب عمر مش عارفين عنه حاجة .


ونظر أمامه وضرب المقود براحة يده بغضب، بينما هي تلتزم الصمت وتفكر في حيلة ثم نظرت إليه وقالت:

ـ نسيم هي اللي هتكلم فريد .. 


نظر إليها ورفع حاجبه متعجبا وقال متهكما:

ـ يعني انتي عايزاني اكلم نسيم اللي هي أصلا متعرفش حاجة، و أقوللها عمر مش لاقيينه وكلمي فريد اسأليه عليه ؟! ودنَك منين يا جحا ؟!


رمقته من أعلى لأسفل بامتعاض وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه وأخذت تهز ساقيها بتوتر شديد، ثم فتحت حقيبتها، واستلت منها علبة سجائرها، التقطت منها واحدةً وقامت بإشعالها وبدأت بتدخينها بعصبية، بينما هو يرمقها من حين لآخر وهي تمسك بالسيجارة بين إصبعين، وأطراف أصابعها ترتجف قليلا من التوتر .


أعرض عنها بصمت، حينها رن هاتفه، فالتقطه ونظر به ليتفاجأ بوالده يتصل به، فأجابه بتوتر :

ـ أيوة يا حج ؟


ـ ها يا حسن ؟! وصلت لحاجة ؟! 


حانت منه التفاتة سريعة نحو چيلان التي ترمقه بترقب، ثم أجاب :

ـ لسه.. بس متقلقش هعمل اللي أقدر عليه إن شاء الله وأوصل له ..


زفر سالم بارتياب، ثم قال :

ـ ربنا يعديها على خير.


أنهى حسن الاتصال، وأخذ يفكر.. لقد وعد والده أنه سيبذل قصارى جهده لكي يعثر على أخيه، وعليه أن يفي بوعده مهما كلفه الأمر .. لذا نظر إلى چيلان مستسلمًا وقال :

ـ هاتي رقم فريد وأنا هكلمه ..


نظرت إليه بترقب، ثم أخرجت هاتفها لتمليه رقم فريد ولكنها تفاجأت بورود رسالة من رقم عمر تفيد بأنه أصبح متاحًا الآن، فنظرت إلى حسن بلهفة وهي تقول:

ـ موبايل عمر اتفتح.. 


على الفور سارعت بالاتصال بعمر، ولم تمض ثوانٍ حتى أجابها قائلا بهدوء :

ـ ألو..


ـ عمر … 


مدت يدها إلى رأسها وتنهدت بارتياح ثم قالت:

ـ عمر انت فين بس.. !! إحنا شوية وكنا هنروح نقدم بلاغ..


ليجيبها عمر بنبرة مفعمة بالاحباط:

ـ أنا تمام يا چيچي.. متقلقوش عليا ..


كان حسن قد صف السيارة، وانتزع منها حسن الهاتف دون استئذان، وتحدث بعصبية قائلا :

ـ انت فين يا عمر ؟! احنا قالبين الدنيا عليك، أبوك وأمك كمان قلقانين عليك ..


جلست چيلان تحدّق في حسن بعيون متّقدة غضبًا بعد أن انتزع الهاتف من يدها بلا استئذان، شفتاها تتحركان بصمت وهي تُعدّ في ذهنها سيلًا من الكلمات اللاذعة التي ستقذفه بها بمجرد أن ينهي مكالمته. لكن ما زاد احتقارها له هو سماعها طريقته في الحديث مع أخيها، نبرة تحمل مزيجًا من العشوائية والفظاظة، حتى انفلتت منها همسة ساخرة:

ـ أبوك وأمك؟ .. يا ربي !!


التقط حسن عبارتها على الفور، وألقى عليها نظرة جانبية حادّة، لم تجبرها إلا على تحويل وجهها إلى الأمام وتجنّب تحديقه. ثم عاد يركز على الهاتف وهو يخاطب أخاه بحدة:

ـ إيه البرود اللي بتتكلم بيه يا بني آدم إنت ده؟! يابني أبوك تعبان ومش حِمل قلق عليك يا عمر، قوللي إنت فين وأنا هجيلك طيب!


لكن عمر أجابه بهدوء لامبالي:

ـ حسن.. حبيبي أنا كويس متشغلش بالك، ولو على سالم باشا ونادية هانم فأكيد هيطمنوا طالما أنا كلمتك انت وچيچي.. وصدقني مش هيسألوا تاني، هما متعودين إني بغيب كتير، عادي يعتبروا إني مسافر أي مكان فترة وراجع.


شعر حسن بثقل الإحباط يهبط على صدره، وقال بصوت متهدّج بالضيق:

ـ إنت زعلان مني في حاجة طيب؟ أنا ضايقتك من غير قصد؟! يا سيدي لو ضايقتك حقك على راسي بس ارجع البيت.


تنهد عمر مطولًا، ثم قال:

ـ أنا عمري ما اتضايق منك، يا ريت كل الناس زيك.. صدقني أنا زي الفل والله، بس محتاج يومين أهدى كده وهرجع من نفسي.


زفر حسن بمرارة:

ـ طيب، اللي يريحك.. بس على الأقل متقفلش تليفونك تاني علشان أطمن عليك.


ـ حاضر.. خلي بالك من نفسك.. سلام.


أنهى عمر الاتصال بسرعة، فمد حسن الهاتف نحو چيلان. أخذت تحدّق في الجهاز بغيظ، قبل أن ترفع عينيها إلى وجهه وهي تقول بنبرة ساخطة:

ـ إنت مش هتبطل همجية بقا؟! إزاي تاخد مني الموبايل بالشكل ده أصلا؟!


انتزعت الهاتف من يده بعنف، فانعكس الغضب في ملامحه وهو يرد بحدة:

ـ ما بالراحة على نفسك يا عروسة مالك؟! جرى إيه يعني لما خدت منك التليفون كلمت أخويا؟!


أطلقت زفيرًا حارًّا وهي تقول بازدراء:

ـ هو إنت مصدق نفسك بجد؟! ولا مصدق إن في حد مصدقك أصلا؟!


وأشارت بسبابتها في الهواء تصنع دائرة وهمية، متابعة بلهجة لاذعة:

ـ فاكر إن الشويتين اللي انت عاملهم دول إحنا اقتنعنا بيهم؟! عايز تقنعنا إنك فعلا خايف وقلقان على عمر من قلبك؟!


ثم مالت نحوه بخطوة، حتى صارت قريبة بما يكفي ليتفحص ملامحها المتعجرفة، وزرقاوتاها اللتان تحدّقان فيه ببرود مهين، وهي تتلفظ بكلماتها ببطء قاصد:

ـ على أساس إنك من جواك مكنتش بتدعي إن عمر يكون جراله حاجة أو يفضل مختفي علشان إنت اللي تفضل في الصورة!


لمعت عيناه بالغضب، وفجأة أمسك بذراعها المرفوعة، قبض على رسغها بقوة حتى شعرت بوخز الألم، واقترب منها حتى باتت المسافة بينهما معدومة تقريبًا، وهو يقول بصوت منخفض لكن مشحون بالتهديد:

ـ تصدقي أو لأ ده شيء يرجع لك.. لكن تحاولي تشككي في حبي لأخويا وتتهميني إني بتمنى له الأذية ده اللي مش هسمح بيه أبدًا..


ابتلعت ريقها رغم ثبات نظراتها الواهية، بينما هو يمرّ بعينيه سريعًا على ملامح وجهها القريبة، قبل أن يهتف بحزم أشد:

ـ أقسم بالله.. لو حاولتي تبخي سمّك ده في ودان عمر، أو حاولتي توهميه إني بكرهه أو حاولتي بأي طريقة تبعديه عني وتزرعي أفكارك الخبيثة دي في دماغه أنا اللي هقف لك!


شعرت برجفة خفية وهي ترى السواد القاتم في عينيه، فيما تابع بنبرة هادئة لكنها أشد وقعًا من الصراخ:

ـ انتي لسه متعرفيش مين هو حسن العقرب!


وفي نفس اللحظة، نزلت عيناها إلى عنقه، ووقعت على الوشم الداكن لعقرب متحفز على جانب عنقه، ثم رفعت نظرها لتواجهه، فتابع بحدة:

ـ اوعي تتغري فيا وفي الأونطة دي كلها وتنسي حسن البلطجي اللي شفتيه قبل كده، لأن ده حسن الحقيقي مش حسن اللي قدامك دلوقتي.


حاولت التملص من قبضته، بثبات حذر، لكنه أبقاها أسيرة يده للحظة إضافية، قبل أن يطلقها أخيرًا بعد أن ألقى عليها نظرة صامتة طويلة، نظرة حملت من الوعيد ما يكفي ليجعل الهواء من حولها أثقل.


ثم أدار المحرك مرة أخرى، وأكمل ما تبقى من طريقهما صامتًا حتى بلغا الڤيلا بعد نصف ساعة تقريبا.


فورًا فتحت الباب بحدة، وترجلت تطرق الأرض بكعب حذائها بعصبية، دخلت الڤيلا لتلتقي عند المدخل بتلك الممرضة، لم تنس چيلان أن ترمقها بازدراء واضح قبل أن تصعد إلى الطابق العلوي، وتدخل إلى غرفة والدتها.


بينما غادر حسن سيارته بهدوء، ودخل الڤيلا ليتقابل بالممرضة التي اتسعت ابتسامتها فور رؤيته، ولكنه قابل ابتسامتها بوجوم وصعد على الفور إلى غرفة والده، ليرى چيلان وقد غادرت غرفة والدتها وتمر نحو غرفتها، وقف يرمقها بنفس الوجوم الغاضب فدخلت الغرفة وصفقت بابها بقوة في وجهه فأجفل إثر صوت الباب العالي، وتمتم حانقًا من بين أسنانه :

ـ الصبر من عندك يارب.


ودخل إلى غرفة والده ليبلغه بما توصل إليه .


༺═────────────────═༻


في تمام الحادية عشرة مساءًا ..


أنهى عاصم ونسيم كل إجراءات المطار، وها هما الآن في صالة الانتظار، يستعدان لركوب الطائرة المتجهة إلى كوبا.


كانت نسيم تحدّق بالطائرة من خلف الزجاج، مزيج من الحماس والخوف يلمع في عينيها؛ فمرتاها الوحيدتان في السفر الجوي لم تتركا لها سوى ذكريات ثقيلة، ومشاعر قلق لا تُمحى بسهولة. ومع ذلك، كانت على يقين أن هذه الرحلة ستكسر تلك الصورة الباهتة، لكن قلبها ظلّ يخفق بخوف خفي.


امتدت يدها نحو يد عاصم بلا وعي، فقبض عليها بحنان ونظر إليها بعينين تفيض دفئًا:

ـ ها يا نسومتي… مستعدة يا حبيبي؟


أومأت برأسها، لكنه مال برأسه نحوها في حركة مازحة قائلاً:

ـ مسمعتش؟


زفرت بخفة وقالت بصوت أوضح:

ـ مستعدة يا حبيبي.


أخرجت هاتفها على عجل وقالت:

ـ ثواني يا عاصم… هكلم نغم بسرعة قبل ما نتحرك.


هز رأسه بضحكة جانبية:

ـ يادي نغم اللي طلعالي في البخت…


رمقته بنظرة تحذير، فقال ضاحكًا:

ـ اتفضلي كلمي نغم. واعملي حسابك أول ما نطلع على الطيارة هرمي الموبايل من الشباك.


ابتسمت، وأخذت تحاول الاتصال مرارًا، لكن لا إجابة. فالتفتت إليه بإحباط وقالت:

ـ مش بترد.


ـ سيبيلها رسالة، قوليلها إنك هتطلعي على الطيارة… عشان لو حاولت تكلمك ولقت الموبايل مقفول.


سجّلت رسالة صوتية سريعة تخبر نغم فيها أنها كانت تود الاطمئنان عليها قبل السفر، ثم أغلقت الهاتف ووضعته في الحقيبة.


بدأ الركاب بالصعود للطائرة، فأمسك عاصم بيدها وسارا معًا نحو بوابة الصعود. خطواتها كانت مترددة قليلًا، وقلبها يدق على إيقاع مزدوج من القلق والشغف. صعدت أولاً، وعاصم يتبعها بخطوات ثابتة، حتى وصلا إلى مقعديهما.


جلست بجانبه وهي تلتقط أنفاسها، فأمسك بكفها وقبّلها قبلة مطمئنة:

ـ تعرفي… دي أول مرة أحس إني فرحان وأنا مسافر. السفر دايمًا كان تقيل على قلبي، لكن المرة دي غير … انتي أصلا خليتي كل حاجة في حياتي غير.


ابتسمت برقة، وأسندت رأسها على كتفه، بينما هو يحتفظ بكفها بين يديه وكأنه يخشى أن يفلتها.


ارتفعت أصوات المضيفات بإرشادات الإقلاع، وبدأت الطائرة تتحرك على المدرج. شعرت نسيم بانقباض في صدرها، فزادت من قبضتها على يده مما أشعره بتوترها فاحتوى كفها أكثر وهمس:

ـ خايفة؟ 


ـ مرتبكة شوية.


سألها بحذر وهو يظن أن الإجابة ستكون نعم:

ـ دي أول مرة تركبي طيارة مش كده ؟! 


ولكنها فاجئته عندما هزت رأسها بنفي وقالت :

ـ لأ.. سافرت دبي قبل كده وأنا عندي ٨ سنين تقريبا .


قطب جبينه متعجبا لأن تلك المعلومة جديدة عليه، فهو يعرف أنها عاشت حبيسة جدران غرفتها طوال عمرها تقريبا ، وبالرغم من أن الفضول بدأ يزحف نحوه لمعرفة تفاصيل تلك الفترة، خاصةً وأنه على ما يبدو كانت رحلة مؤلمة لأن آثارها لازالت تلحق بها إلى هذه اللحظة، ولكنه لم يسأل لأنه يعرف أن كل ذكرى في حياتها تحمل في طياتها جراحًا وندبات لم تمحى.


ـ طيب اهدي كده وخدي نفس .. عاوزين نستمتع بكل لحظة .. اتفقنا ؟


نظرت إليه، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها رغم التوتر، ثم أومأت وأغمضت عينيها حين بدأت الطائرة ترتفع عن الأرض، بينما هو يمرر إبهامه على ظهر يدها بحركات دافئة مطمئنة.


وفجأة، بدأت كلماتها تخرج ببطء، وكأن المشهد الذي عاشته منذ سنوات يتجسد أمامها من جديد:

ـ كان وقتها عندي ٨ سنين .. بعد ما ماتت ماما.. حياتي كلها اتغيرت، كنت طول عمري هادية ومسالمة لكن بعدها اتبدلت تماما.. كنت صغيرة لكن فاهمة انها ماتت لأنه اتجوز عليها .. كنت عارفه أنه السبب، حاولت أقتله .


تجمدت ملامحه من وقع اعترافها، وعيناه ثبتتا عليها بتركيز عميق، لا يرمش، ينتظر ما ستقوله.


ـ دخلت مكتبه ومسكت المسدس وصوبته ناحيته، دست على الزناد والرصاصة خرجت من المسدس وجت في الباب ، بعدها دخلت في نوبة هيستيرية ومحدش كان قادر يسيطر عليا وفقت منها فاقدة النطق تماما… 


بلعت ريقها بصعوبة، وصوتها انخفض أكثر:

ـ بطلت أروح المدرسة بعدها، وكل المدرسين اللي كانوا بييجوا البيت كانوا بيشتكوا مني لأني كنت دايما عصبية ومنفعلة.. أنا كنت بتعمد أضايقهم لأني مش متقبلة حد يقرب مني.. لحد ما نادية هانم اقترحت عليه إنه يدخلني مدرسة داخلية في دبي .


انقبض قلبه بشدة، وتخيل طفلة في عمرها تُنتزع من بيتها وتُرسل وحيدة لبلد غريب. لم يحتج لتفسير أكثر، فقد فهم فجأة لماذا ارتجفت لحظة صعود الطائرة.


ضم يدها إلى صدره، وضغط عليها برفق، وكأنه يريد أن يزرع الطمأنينة في قلبها، فتابعت و عينيها لازالتا مغمضتين، كأنها لا تزال تحتمي به من ذكريات الماضي :

ـ سافرت لوحدي، كنت تايهة ومرعوبة، مش فاهمة أنا ليه بيحصل فيا كده؟ ليه يبعدني عن بيتي وأخويا.. كل ده علشان غلطة ؟! عشت هناك أسود أيام حياتي.. كنت ضعيفة دايما ووحيدة ومكسورة.. كنت ببكي كل يوم قبل النوم من خوفي .. كانت دايما زينب بتكلمني، وتبكي علشاني، وتحاول تطمني إني هتعود وهحب صحابي والناس اللي حواليا وإني واحدة واحدة هنام من غير خوف ولا عياط.. لكن محصلش.. مفيش يوم في حياتي مر من غير خوف وعياط.. إلا وأنا معاك .. 


أنهت حديثها وتنهدت بعمق، كأن شيئًا من ذلك الجدار القديم الذي بنته حول قلبها بدأ يتصدع، وسمحت لدفء يده أن يتسرب إليها، لتستشعر لأول مرة منذ زمن بعيد أن الخوف يمكن أن يتلاشى ويختفي .


لم يسعه أن يواسيها سوى بقبلة حنونة على جانب رأسها، وهمس إليها بخفوت محاولا انتشالها من تلك الحالة:

ـ البوسة دي تحت الحساب لحد ما نوصل..


ارتسمت على شفتيها ابتسامة واهنة، فبادلها بابتسامة صادقة وقد سرّه أنه نجح في التخفيف عنها ولو بقدر يسير. ثم أسند رأسه إلى مسند المقعد وأرخى جفونه قليلًا، غير أن ملامحه ما لبثت أن تحولت إلى وجوم عابس، وسرى في عينيه غضب عارم. أخذ يتوعد سالم مرسال في قرارة نفسه أشد الوعيد، فكلما خبت نيران حقده، جاءه وقود جديد يلهبها من جديد، حتى غدت كالجمر المستعر في صدره. وأقسم في سرّه أن يهلكه هلاكًا بطيئًا، يتلذذ فيه بموته حيًّا يومًا بعد يوم، حتى تنطفئ تلك النيران وتتحول إلى رماد بارد.


༺═────────────────═༻


كان فريد جالسًا في عزلته، هاتفه بين يديه كأنه نافذة تطل على ماضٍ قريب يأبى أن ينقضي. يتنقل بين الرسائل والصور والذكريات، يصغي إلى تسجيلاتها الصوتية كما لو كان يستمع إلى تعويذة قديمة، تتكرر فلا تفقد أثرها، بل تنغرس أعمق في القلب.


في رسالة، كتبت له أنه رجلها "الفريد"، وأنه يحمل من اسمه كل المعاني التي يليق بها أن تُحمل.

وفي أخرى، اعترفت بأنه لها كل شيء، حبيب، وصديق، و.أب، يمنحها دفء الحنان الذي غاب عنها منذ زمن بعيد.

وفي ثالثة، أسرّت له بأنها تعشقه بجنون، وحين سألها عن مصير تلك الاعترافات حين تلتقيه وجهًا لوجه، قالت إنها تفقد القدرة على النطق أمام عينيه، كأن الكلمات تخشى أن تُقال في حضوره.


مضى في قراءة تلك الكلمات مرارًا، يطوي قلبه على مزيج من الدفء والخذلان، حتى تناول حاسوبه وفتح مدونته، وكتب جملة مختصرة لكنها ملغمة بالوجع:

"الكثير منكِ… وفي الحقيقة أنا لا أملك منكِ شيئًا."


ضغط زر النشر، ثم عاد إلى نافذة محادثتها.. فلمح مؤشر "تكتب الآن"، فاستوت قامته، وشد أنفاسه، ودق قلبه كما لو كان يطرق على باب مغلق.


طالت لحظة الكتابة، وتناوب المؤشر على الظهور والاختفاء، وهو يتخيل—بل يتوسل—أن تكون الرسالة المرتقبة مفتاحًا يعيد الأبواب المغلقة إلى الانفتاح. 


هل ستعتذر؟ لا يهم، فالاعتذار لم يكن ما ينتظره أصلًا. هل ستقول إنها اشتاقته؟ أو ربما تكتب اعترافًا طويلًا يخشاه بقدر ما يتمناه؟ لم يكن يعرف، لكنه كان مستعدًا أن يرد فورًا، أن يقابل كل كلمة بشغف مضاعف.


لكن… توقف كل شيء. اختفى المؤشر، ثم صورتها، ثم آخر ظهور. وفي لحظة باردة الفهم، أدرك أنها قد قامت بحظره !!!!!؟؟


أخذ يحدق أمامه بذهول… !!!


تبًا .. هل قامت بحظره فعلا ؟!!!!


بعد كل ذلك الانتظار والتردد قامت بحظره دون أن تقل شيئا ؟!


مرر يده على شعره بغضب من تلك الرعونة..


أراد أن يتأكد؛ فأرسل لها رسالة تجريبية، نقطتين فقط، لكنها لم تصل. ازداد يقينه، وتضاعف انقباضه، لكنه اندفع إلى فيسبوك، يبحث عنها، فإذا بإشعار يخبره أنها تفاعلت مع صورته مع سيلين بإعجاب.


ابتسم بذهول مُرّ: إنها تُبلغه بطريقة صامتة أنها رأت الصورة، وأنها السبب وراء هذا الحظر المفاجئ. 


لحظة صمت قصيرة جعلته يلعن تسرعه، فلو أنه تروّى قبل نشر تلك الصورة… لما حدث كل ذلك !


لقد كان يعلم أنها تراقب صفحته ألف مرة في اليوم، لذا كان عليه أن يكون حذرًا أكثر .


وبينما هو يتابع الإشعار بضيق وجده وقد اختفى، ومعه حسابها، ليكتشف أنها بدأت حملة إزالة عنيفة من نوعها، وبلا هوادة. 


تأكد بعدها أنها حظرته من كل مكان، فزفر بضيق شديد، وكل ما فعله أنه حذف المنشور الذي شاركه من حساب جيرالد.. ولكنه بعدها اخذ يرمق الهاتف بضيق وهو يقول :

ـ بعد ايه ؟!


 ألقى الهاتف على الطاولة بحدة، حتى أنه انزلق إلى الأرض ولكنهزلم يُعر سقوطه انتباهًا.


أسند رأسه إلى الخلف، وأغلق عينيه، وأصابع يده تضغط على جسر أنفه في محاولة لتهدئة دوامة الأفكار التي تفتك به بصمت.


وأخذت التخيلات تتدفق إلى ذهنه: كيف كانت ملامحها وهي ترى الصورة؟ هل شعرت بالخذلان؟ هل بكت؟ ماذا كانت تكتب قبل أن تتراجع؟ هل كان عتابًا، أم تساؤلًا، أم حكمًا بالإقصاء النهائي من حياتها؟


ابتسم بسخرية جافة وهمس لنفسه: وكأننا نعيش في قصة عشق حالمة!


رن الهاتف، فوثب إليه لعلها هي، لكنه وجد اسم جيرالد يسطع على الشاشة. تجاهل الاتصال الأول، ثم أجاب الثاني بصوت متكلف الهدوء:

ـ مرحبا جيرالد..


ـ مرحبا شريكي العزيز كيف حالك ؟


ـ أنا بخير .. شكرا لك.


ردّ جيرالد بحماس:

ـ أردت أن أخبرك أننا على متن اليخت، والأجواء صاخبة وحماسية للغاية… لا تدعها تفوتك!


أجاب فريد بنبرة مرنة أخفى وراءها ضيقه قدر الإمكان:

ـ أعتذر جيرالد… لست في مزاج يسمح بالمشاركة الآن، سنعوضها لاحقًا.


وأنهى المكالمة دون انتظار رد جيرالد حتى، ثم نهض وبدأ يتمشى في الغرفة بضيق، كانت خطواته الغاضبة تنطلق كالسهم ذهابًا وإيابًا، حتى توقفت أمام المرآة الكبيرة في الردهة. تأمل وجهه، فرأى ملامح رجل يدرك متأخرًا ثمن حماقة لا رجعة عنها.


وفجأة، ألقى الهاتف بكل ما أوتي من قوة، فاصطدم بالمرآة، وانفجرت إلى شظايا متناثرة، كما لو أنها تعكس قلبه حينها، مكسورًا إلى ما لا يُجمع.


༺═────────────────═༻


#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع