القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن وعشرون 28بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن وعشرون 28بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات






رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن وعشرون 28بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ٢٨ ـ


~ قفص اتهام !! ~

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في صباح اليوم التالي..


وقف حسن أمام سيارة والده التي تنتظر وصول سالم لتقله إلى العزبة. حينها ظهرت زينب، تدنو من السيارة وهي تحمل حقيبة جلدية متوسطة الحجم، وعلى وجهها ترتسم علامات الجد والصرامة. لمحها حسن فابتسم بخفة وقال:

ـ الله !! على فين يا جميل؟


ابتسمت ابتسامة خاطفة سرعان ما أخفتها وهي تستعيد كلمات سالم وأوامره لها بألا تتعامل مع حسن بود زائد، فأجابت بتحفظ واقتضاب:

ـ الباشا أمر أسافر معاهم أنا كمان.


أومأ حسن متفهمًا وردّ:

ـ خير ما عمل..


ثم همس لنفسه وهو يرمق الممرضة الجالسة في المقعد الخلفي للسيارة:

ـ الشيطان شاطر بردو.


وبالرغم من أنه لم يقصد أن يسمعه أحد، إلا أن زينب التقطت كلماته، فارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وقالت:

ـ ياريتك تيجي معانا؟! أنا بسمع إن الجو في العزبة عجبك أوي.


أجابها حسن مؤكدًا:

ـ معاكي حق، بس مش هينفع المرة دي، ورايا شغل كتير.. مرة تانية إن شاء الله.


ابتسمت برضا ورددت بهدوء:

ـ ربنا يجبر بخاطرك ويجعل لك في كل خطوة سلامة.


تلاقت نظراتهما لبرهة، تبادلا خلالها صمتًا مثقلاً بالاستفهام. عيناها كانتا تحملان فيضًا من الحنان الغامض، فيما لم يجد حسن تفسيرًا لتلك النظرات. اكتفى في النهاية بإيماءة هادئة وتمتم موافقًا.


في تلك اللحظة خرج سالم من المنزل، خطواته متباطئة يثقلها الوهن. أسرع حسن إليه، وأمسك بيده ليسنده، فأحس سالم بالرضا، وقال بنبرة يغلبها الاطمئنان:

ـ البيت في أمانتك يا حسن لحد ما أرجع.


ـ متقلقش يا حج.


ـ خلي بالك من عمر، عينك عليه بدل ما يمشي تاني.


ـ حاضر، متشغلش بالك.


ـ وبلاش توجع دماغك مع نادية وبنتها، دول فاضيين للمشاكل وانت مش هتاخد منهم حق ولا باطل.. ركز في شغلك وسيبك منهم.


ـ تحت أمرك يا حج، توصل بالسلامة إن شاء الله.


وصلا معًا إلى السيارة، فاستقل سالم المقعد الأمامي بجوار السائق، وجلست زينب في الخلف إلى جوار الممرضة، ثم انطلقت السيارة في طريقها إلى العزبة.


أما حسن، فبقي واقفًا يراقب السيارة حتى اختفت عن ناظريه، ثم زفر ببطء محاولًا ترتيب أفكاره. غير أن تلك الشقراء لم تمهله طويلًا، إذ ظهرت فجأة تتجه نحوه بخطوات واثقة، تضرب الأرض بخيلاء لافتة.


كانت ترتدي بذلة بيضاء أنيقة، تتكامل مع حذاء وحقيبة باللون الذهبي، فيما أسدلت شعرها للخلف بحرية تزيدها حضورًا طاغيًا. أما شفاهها المصبوغة بلون النبيذ القانِ فبدت كجمرٍ متّقد يتوهج في وجهٍ بارد، يسرق العين رغمًا عنها ويترك في الذاكرة أثرًا لا يُمحى.


كانت كل تفصيلة في هيئتها تصرخ بالسيطرة، وكأنها جاءت لتعلن أنوثتها المجبولة بالكبرياء لا لتستعيرها. 


مشيتها نُسجت من خيوط غرورٍ صريح، وصوت خطواتها على الأرض بدا كأنه إيقاع مقصود ليُسمع.


لم يتمكن حسن من صرف بصره عنها، إذ صنعت حول نفسها هالة من الهيبة تستحوذ على الحواس وتجذب الانتباه قسرًا. 


تبادلا نظرات حادة، أشبه بمبارزة صامتة، قبل أن يكسر هو الصمت بنبرة ساخرة:

ـ على فين يا شرّاني؟


رمقته بحدة وهي تفتح باب سيارتها. مرّت أمامه بخطوات متحفزة، تشتعل عيناها بالغضب، ثم جلست وأغلقت الباب بعنف. فهتف حسن متهكمًا:

ـ قدك ده؟! ده انتي الله يكون في عون اللي هيتجوزك! هيصرف اللي وراه واللي قدامه على تصليح باب العربية كل شوية.


أدارت المحرك بعصبية محاولة الانطلاق، لكن السيارة أبت أن تتحرك. أغمضت عينيها قهرًا، فيما انفجر حسن ضاحكًا بعبث، و دس يديه في جيبيه وقال مستفزًا:

ـ جربي تصفي نيتك علشان ربنا يسهل لك أمورك.


ترجلت من السيارة مغتاظة، تكاد أعصابها تنفلت. أخذت تغلق الباب وتفتحه مرارًا بعنف وكأنها تفرغ غضبها في ذلك الباب المسكين. أما حسن فارتد خطوة للخلف مذهولًا من جنونها المفاجئ، وتمتم لنفسه:

ـ يخربيت جنانك!


كانت أنفاسها تتلاحق سريعًا، وصدرها يعلو ويهبط باضطراب، وعيناها تقدحان شررًا وهي ترمقه بنظرات تكاد تفتك به. بدت كأنها وحش جريح يبحث عن متنفس لغضبه، بينما حسن يراقبها بدهشة ممتزجة بمتعة خفية، وكأن ما يراه يزيده رغبة في استفزازها أكثر.


ذلك الباب صار ساحة معركة، وهي تكرر إغلاقه وفتحه كأنها تسعى لبعثرة ما بداخلها من توتر، ثم صاحت بأعلى صوتها وهي تشير إلى أحد الحراس:

ـ خرج عربية نادية هانم.


تحرك الحارس سريعًا، فيما وقفت هي تضع يدًا على خصرها والأخرى على جبينها محاولة استجماع هدوئها. لكن حسن لم يرحمها، بل تابع باستفزاز أكبر:

ـ كويس إنك اتصرفتي، مكانش عندي نية أوصلك المرة دي كمان بعربيتي بصراحة.


اقترب منها، متعمدًا المرور أمامها بدلًا من خلفها، وكأنه يقصد مضايقتها، وأضاف ساخرًا:

ـ وبعدين ما تجيبي لك عربية جديدة، بلاش بخل بقا دا انتي سيدة أعمال قد الدنيا.


اكتفت بنظرة نارية كادت تحرقه، لكنها تماسكت وصعدت في سيارة والدتها الفارهة التي حضرت لتوها، فانطلقت بها مسرعة.


في المقابل، كان عمر قد خرج ليستقل سيارة أخيه. جلس بجواره قائلاً:

ـ صباح الخير.


ـ صباح الفل يا عموره.. ها.. جاهز؟!


أومأ عمر بحماس:

ـ جاهز.


فانطلق حسن يقود السيارة في طريقهما نحو الأرض، حيث ينتظرهما الكثير من التخطيط والعمل.



بعد ساعة تقريبًا ..

توقف حسن بسيارته عند أطراف الأرض، ترجل منها بخطوات بطيئة، وتبعه عمر الذي ما إن داس الأرض بقدمه حتى رفع رأسه، يحدّق في الاتساع الممدود أمامه بانبهار ، وأخذ يتمتم مدهوشًا :

ـ الله !! إيه الجمال ده ؟! 


نظر إليه حسن مبتسمًا، وقال :

ـ إيه رأيك ؟! 


ـ أكيد مش محتاجة رأي !! المكان تحفة والموقع كمان مناسب جدًا ..


وفرك يديه ببعضهما وهو يقول :

ـ بصراحة أنا تحمست من دلوقتي.


ابتسم حسن وهو يوميء مؤكدًا ويقول :

ـ متقلقش كلها أيام بسيطة ونبدأ الشغل، أستاذ نادر كتر خيره واخد الموضوع بجدية وعارف هو بيعمل إيه .


أومأ عمر وقال بهدوء :

ـ ربنا يستر ..


لم يعقب حسن، وأخذ يشير بيده :

ـ بص يا عمر.. هنا بالظبط، على الصف ده، هيكون في أول إسطبل.. عبارة عن عشر عيون جنب بعض، كل عين تاخد حصان بالمرتاح.. وعلى اليمين هنا، هنزرع مساحة برسيم، وفي الخلف، ناحية الغرب، هنجهز المخازن.. علشان نخزن العلف والشعير وكل المستلزمات.


اقترب أكثر، وراح يرسم بخطواته كأنه يقيس الأرض:

ـ هنا بقى هنعمل ساحة مفتوحة للتدريب.. واسعة تكفي أكتر من حصان، نقدر نعلّم فيها الخيل الجري الحر، وهنا، ناحية الشمال، هنبني مساحة كدة داير ما يدور تكون مخصصة للجري والتمرينات، علشان اللي ييجي يتدرب يلاقي كل حاجة مجهزة.


توقف لحظة، أخذ نفسًا عميقًا ثم أشار إلى أبعد نقطة في الأرض:

ـ أما هناك بقا فعاوز أبني استراحة… مكان صغير وبسيط لكن نقدر نستقبل فيه أي ضيوف أو حتى نقضي فيه وقت حلو .. إيه رأيك ؟


 ابتسم عمر وهو يلف حوله متخيلاً، وقال بابتسامة:

ـ هايل طبعا.. واضح إنك مخطط لكل حاجة ومش سايب حاجة للصدفة ، انت أبهرتني يا أبو علي ..


ابتسم حسن وهو يحيط ذراع أخيه ويقول :

ـ عقبال ما تبهرني إنت كمان وتحط الفلوس اللي معاك في مشروع كده تدوره وتكبره ويبقالك إسمك في السوق ..


ـ هو أنا لسه هدور ، ما أدخل معاك شريك أسهل لي.


ـ لاا يا حلو.. أنا لسه يعتبر بشتري سمك في ميا.. مش عارف أنا هنجح ولا لأ.. يبقا حرام عليا لما أخد فلوسك أحطها في مشروع أنا مش ضامنه مية في المية.. إمتا نبقا شركا ..؟ لما أكبر وأقف على رجليا والمشروع ينجح ويسمع ، وقتها أقوللك نتشارك بقلب جامد .


ابتسم عمر عن اقتناع، وربت على كتف حسن بثقة وهو يقول :

ـ في كل الأحوال فلوسي كلها تحت أمرك ومفيش حاجه تغلى عليك يا أبو علي .


ابتسم حسن وقال :

ـ حبيب أخوك يا عمورة .. تصدق بالله ، إنت اللي مصبرني على العيشة في الڤيلا ، إنت لو مكنتش موجود كان زماني طفشت بسبب أختك وجنانها .


ضحك عمر وقال :

ـ متفكرنيش بقا .. أنا في حياتي كلها مشفتش چيلان متعصبة غير ٥ مرات .. منهم ٣ بسببك ..


قهقه حسن عاليًا، وهو يعدل لياقة قميصه بزهو مصطنع ويقول :

ـ ما هي اللي فاكرة نفسها عشان حلوة وملفوفة كده و..


ـ هو إيه اللي حلوة وملفوفة ما تاخد بالك من كلامك يا عم حسن.. اللي بتتكلم عليها دي تبقا أختي !


قاطعه عمر بصرامة خفيفة، فعاجله حسن وقد ارتسمت على وجهه ملامح التدارك سريعًا وقال:

ـ جرا إيه يا عمورة عيب عليك يا جدع هو أنا هبص لأختك بردو ؟! وبعدين أختك زي أختي بالظبط.. 


ابتسم عمر لكنه شدد بنبرة شبه جادة:

ـ أه إذا كان كده ماشي.. بس بردو، مش لازم أوصاف يعني.. حلوة وملفوفة ومش عارف إيه .. خلي بالك أنا عموره أه بس راجل أوي .


تعالت ضحكاتهما سويًا ، وقال عمر :

ـ طب بقولك ٱيه، بالمرة في طريقنا وإحنا راجعين خلينا نزور الدار ونطمن على الولاد.. فريد سايبها في أمانتي بعد ما سافر وبصراحة مش عاوز أقصر .


أومأ حسن بترحيب بالفكرة وقال :

ـ وماله ، أهو كله بثوابه.. وبالمرة أجيبلهم شوية لعب وهدايا ؟


ثم طرق بسبابته على ذقنه بتفكير وهو يقول :

ـ ولا إيه رأيك أديهم فلوس في اديهم ؟!


ـ تديهم فلوس في أيديهم إيه يا حسن إنت كمان هو إنت رايح تزور واحدة والدة ؟! دول أطفال يا عم هيعملوا ايه بالفلوس ؟! 


أومأ حسن مؤيدًا وأشار إليه وقال :

ـ إنت صح ؟! يلا بينا.. وبالمرة تعرفني على الحتة بتاعتك .. كان إسمها إيه ؟! مرار باين ؟!


أومأ عمر بجدية وقال :

ـ هي مرار فعلا ، مرار طافح ربنا ما يبتليك .


صعدا سويًا إلى السيارة ، وانطلق حسن في طريقه نحو الدار، وبجواره عمر شاردا يفكر : كيف ستستقبله ميرال بعد ما حدث ؟! 


༺═────────────────═༻


وقفت نغم في المطبخ تعد الكعك والحلوى بيدين مفعمتين بالنشاط، لكن هذه المرة أعدّت كميات وفيرة بعدما لاقت وصفاتها استحسان الجميع؛ من الأطفال الصغار حتى المديرة التي لم تخفِ إعجابها. وحين انتهت، رتبت الأطباق بعناية، ثم طلبت سيارة أجرة لتأخذها مباشرة إلى الدار.


ما إن وصلت حتى استقبلها الجميع بترحاب دافئ، وسرعان ما اندفع الأطفال نحوها بضحكات عالية، يحيطون بها من كل جانب وينتزعون من بين يديها الحلوى والكعك كما لو كانوا يتقاسمون كنزًا ثمينًا. راحت عيونهم تلمع بالسعادة، بينما تتناثر الفتات على ثيابهم وهم يتناولونها بنهم طفولي لا يخلو من البراءة.


انسحبت بهدوء وجلست في ركنٍ قصيّ من الحديقة، تراقبهم وهم يركضون بأقدام صغيرة لا تعرف التعب، يملأون المكان ضجيجًا وضحكًا. كان المشهد لوحة من بهجة صافية، ومع كل قهقهة تنطلق من أحدهم كانت تشعر بشيء يربت على قلبها المنهك.


هناك، بين صخبهم البريء، تسللت إليها أمنية قديمة، أمنية أن يعود بها الزمن لتكون طفلة مثلهم، تركض بلا قيود، وتضحك بلا سبب، وتكتفي من الحياة بحلوى في كفّ ورفاق يشاركونها اللعب. 


شعرت بغصّة صغيرة وهي تسترجع ما فاتها، لكنها في اللحظة ذاتها أحسّت بدفء مختلف: أن القدر عوّضها الآن بأن تكون شاهدة على سعادتهم، مشاركة في رسم ابتساماتهم، كأنها نالت نصيبها المؤجّل من الطفولة عبرهم.


كانت غارقة في ضحكات الصغار حين باغتتها لكزة خفيفة على كتفها، فالتفتت لتجد "بدر" تقف خلفها، وشعرها المبعثر يتدلّى على نصف وجهها، فيما تلطّخت يداها بالسكر من أثر الحلوى.


ارتسمت ابتسامة عذبة على وجه نغم، فما كان منها إلا أن فتحت ذراعيها تضم الصغيرة إلى صدرها بقوة وهي تهمس بشوق:

ـ وحشتِني يا بدر..


رفعت الطفلة رأسها بدهشة صافية وقالت بعفوية:

ـ لسه فاكرة اسمي؟


ضحكت نغم بحنو وهي تشدد من عناقها أكثر، ثم همست كأنها تبوح بسرّ ثمين:

ـ طبعًا.. اسمك بالذات ما يتنسيش أبدًا.


أخذت يدها الصغيرة وأجلستها فوق ساقها، ثم نظرت في عينيها وسألت:

ـ ها.. الكيك عجبك؟


أومأت بدر بحماسة وهي تقول بفمٍ مغطى ببقايا السكر:

ـ أوي أوي!


ابتسمت نغم ابتسامة دافئة وربّتت على شعرها:

ـ يا روحي.. بألف هنا وشفا.. أوعدك كل ما أجي أجيب لك منه مخصوص.


هزت بدر رأسها موافقة، ثم سألت ببراءة طفولية فجّرت في صدر نغم براكين صامتة:

ـ وأنكل فريد.. مش هييجي معاكي؟


ارتجفت ابتسامة نغم وتجمّد الكلام على شفتيها، فشردت بعينيها للحظة، وابتلع قلبها مرارة السؤال الذي لم تجد له جوابًا.


 الصمت الذي خيّم عليها قطعه صوت المديرة "رئيفة" وهي تقترب بخطوات هادئة وابتسامة ودودة:

ـ آنسة نغم.. إزيك؟


أفاقت نغم من شرودها وأجابت سريعًا:

ـ الحمد لله..


جلست رئيفة جوارها وقالت وهي تراقب الأطفال يركضون في الحديقة:

ـ واضح إن الولاد هنا ارتاحوا لك جدًا.. وده نادر يحصل. عمري ما شفتهم بيتعلقوا بحد بالطريقة دي غير فريد بيه.. يمكن لأنك من ريحته.


تلك الكلمة اخترقت قلب نغم كسهم، شعرت بها تثقل صدرها حتى كادت تختنق. غاصت في صمت موجع، تحدّق في الأفق بعينين تغيمهما الدموع، بينما بدر لا تزال تحتضنها ببراءة، غير مدركة أنها لمست أوجع ما في قلبها.


تنهّدت "رئيفة" وهي تنظر إلى الأطفال الذين يركضون في أنحاء الحديقة بضحكات لا تنقطع، ثم قالت بصوت خافت أقرب إلى الفضفضة :

ـ بصراحة من ساعة ما الدار هنا اتفتحت وفريد بيه يعتبر أب حقيقي ليهم، مش مجرد صاحب الدار أو راعي ليها، كان بمجرد ما يدخل يجروا عليه ويخطفوا الألعاب من ايديه، وكان بيجيب لكل طفل اللعبة اللي تناسبه..


تابعت رئيفة وهي تنظر إلى نغم التي تتابعها وعيناها بهما دموع مكبوتة :

ـ عمره ما بخل على حد بحاجة، وكان دايمًا ليه طريقة مميزة في التعامل معاهم، بصراحة يا بختك بيه ويا بخت أولادكم المستقبليين إن شاء الله بأب حنون وجميل زيه.


استسلمت نغم لحزنها العميق، حيث أن كلمات المديرة أخذت تتردد في ذهنها مرارًا وتكرارًا، كل عبارة منها كانت كنبراس يسلط الضوء على الفراغ الذي تركه فريد في حياة الأطفال وحياتها بالأكثر، وكأنها تلتقط خيوط الألم المختبئة في الزوايا المظلمة من قلبها. تنهدت ببطء، وتشابكت مشاعرها بين الحنين والمرارة، والدموع تنساب بهدوء على وجنتيها كما لو كانت تحمل معها كل خيبة الأمل والفقدان الذي شعرت به منذ غياب وجهه.


 شعرت بأنها تُسحب إلى عمق ذكرياتها، حيث كل لحظة سعيدة كانت مع فريد تتحول الآن إلى شعاع من الألم، حتى بدا لها أن دموعها ليست إلا صدى لصوت قلبها الذي لا يزال يتألم في صمت.


مسحت دموعها بهدوء، حريصةً على ألا تثير انتباه المديرة، التي لاحظت حالتها وقالت باهتمام:

ـ أنا كمان شايفة إنك اتعلقتي بالأولاد جدًا، وخصوصًا بدر.


أومأت نغم موافقة وقالت:

ـ أيوة، دي الحقيقة. وأتمنى يكون عندي فرصة أزورهم وقت ما أحب… لأني عارفة إن الزيارات هنا لها قوانين معينة.


ابتسمت رئيفة، وقالت:

ـ طبعًا يا حبيبتي، وقت ما تحبي تزوريهم مفيش مانع أبدا… ولو حابة، تقدري تشتغلي معانا كمشرفة في الدار، بحيث تكوني مع الأولاد طول الوقت، مفيش أي مانع.


تهلل وجه نغم بابتسامة متحمسة وقالت:

ـ بجد ينفع؟!


ـ طبعًا ينفع… إحنا بالفعل محتاجين مشرفات، لأن العدد قليل مقارنة بعدد الأطفال، ووجودك هيكون دعم كبير ليهم ولكل الفريق.


رفعت نغم يدها إلى صدرها بتأثر، وقالت وهي تبتسم بامتنان:

ـ بجد شكرا يا مس رئيفة مش عارفة أشكرك إزاي على الفرصة دي.. أنا فعلا محتاجة الشغل جدًا وخصوصًا لو في مكان زي ده.


أومأت رئيفة بحزم ودفء وقالت :

ـ طيب على بركة الله.. ميرال وياسمين وليلى هيكونوا معاكي ويفهموكي كل حاجة محتاجة تعرفيها عن عملك كمشرفة على الأطفال ، عموما الموضوع بسيط ومش محتاج شرح كتير ، أهم حاجة إن الأولاد يحسوا بالاهتمام والمحبة منك .


ـ متقلقيش عليهم أبدًا ، أنا هشيلهم في عنيا من جوة .


نهضت رئيفة، وأشارت لميرال لتقترب منها، ثم التفتت إلى نغم وقالت:

ـ ميرال هتشرحلك كل حاجة بالتفصيل، أنا دلوقتي لازم أرجع لمكتبي لإن عندي شوية مهام لازم أخلصها، ومن بكرة إن شاء الله تكوني موجودة الساعة ٨ الصبح علشان تستعدي.


أومأت نغم بحزم، فأكدت رئيفة مجددًا:

ـ مش بعد ٨ يا نغم، الانضباط هنا أهم شيء. انتي هتكوني مسؤولة عن الأطفال، فلازم تكوني أد المسؤولية.


ابتسمت نغم بثقة، وقالت:

ـ حاضر، متقلقيش .


ـ لأ مش قلقانة أبدا، أنا واثقة فيكي وواثقة إنك بإذن الله هتكوني إضافة قوية للفريق.


ثم ودعتها رئيفة وخرجت من الغرفة، بينما بقيت نغم تقف متطلعة نحو الأطفال الذين يركضون ويلعبون في الحديقة، وهي تشعر بمزيج من الحماس والرهبة تجاه مسؤوليتها الجديدة.


ألقت رئيفة تعليماتها الأخيرة على ميرال وانصرفت، تاركة وراءها جوًا من الهدوء المؤقت، فتقدمت ميرال نحو نغم، وعلى وجهها علامات الضيق واضحة، خلاف المرة السابقة، وقالت:

ـ إزيك يا آنسة نغم.


ردت نغم بابتسامة لطيفة :

ـ إزيك يا ميرال، مفيش داعي لكلمة آنسة والكلام الرسمي ده، احنا زي بعض .


أومأت ميرال بهدوء وجلست على المقعد المقابل لها، ثم دخلت في صلب الموضوع مباشرة قائلة:

ـ مس رئيفة قالتلي إنك هتكوني معانا في فريق الإشراف من النهاردة.


ابتسمت نغم بحماس، رغم أنها لم تفهم بعد سبب تعبير ميرال المتجهم ونبرتها الجدية، وردت:

ـ أيوة.. إن شاء الله.


أومأت ميرال مؤيدة، ثم شرعت في سرد المهام الأساسية:

ـ تمام.. أول حاجة لازم تعمليها هي متابعة الأطفال طول اليوم، التأكد من سلامتهم، متابعة وجباتهم، نومهم، وأنشطتهم التعليمية والترفيهية، دي كلها حاجات أساسية.


أومأت نغم بتفهم، فواصلت ميرال:

ـ طبعًا هيكون فيه جدول مرتب لكل حاجة، بحيث تعرفي إمتى الأنشطة، إمتى الوجبات، وإمتى وقت الراحة.. وكمان هتتعلمي طريقة التعامل مع كل طفل حسب شخصيته، وده أهم حاجة.


نغم أومأت بحماس:

ـ فاهمة، يعني مش بس أراقبهم، لكن أشاركهم وأنظم يومهم؟


ـ بالضبط، وكمان هتكوني حلقة وصل بين الإدارة والأطفال، لو فيه أي مشاكل بتحصل بين الأطفال أو أي مشاكل بتواجههم من أي نوع، أو لقيتي إن عندهم أي طلبات بتبلغي مس رئيفة وفريق الإدارة بالكلام ده كله... وهم بيتصرفوا ..  وكمان، لازم تدوّني أي ملاحظات مهمة عن سلوكهم أو أي حاجة غير معتادة، علشان نقدر نتصرف بسرعة لو حصل أي موقف غير متوقع.


وتابعت :

ـ وبعدين في نهاية اليوم هتحضري معانا الاجتماعات الصغيرة اللي بنتناقش فيها ونناقش كل التفاصيل اليومية، وكل مشكلة وكل حدث، علشان كده لازم تكوني متابعة كل حاجة بتحصل عشان نضمن إن كل حاجة ماشية بشكل سلس وآمن، وإن الأطفال مرتاحين وسعيدين طول الوقت.


أومأت نغم بتفهم، وابتسمت بحماس وقالت:

ـ تمام.. إن شاء الله أكون قد الثقة .


أومأت ميرال بهدوء، وقالت وهي تنهض :

ـ إن شاء الله ، عن إذنك .


همت لتنصرف، ولكن نغم استوقفتها قائلة :

ـ ميرال، هو انتي زعلانة مني في حاجه ؟!


توقفت ميرال، والتفتت نحوها بصمت طويل، ثم أطلقت تنهيدة متثاقلة وقالت بصرامة مقتضبة:

ـ بصراحة… أيوة.


تجعد وجه نغم بدهشة، ثم سألت برجاء:

ـ طيب ممكن أعرف زعلانة مني ليه؟


ثبتت ميرال بصرها عليها وقالت دون مواربة:

ـ لأنك ساعدتي عمر في كذبته. قلتيلي إنك اللي اخترتي الهدية، وبناءً على كلامك صدقتك وخدتها، وبعدها اكتشفت إنك خدعتيني وإنه هو اللي اختارها.


أطرقت نغم رأسها، وزمت شفتيها بأسف صادق، ثم همست باعتراف واضح:

ـ معاكي حق.. ليكي حق تزعلي .. أنا آسفة.


تفاجأت ميرال من سرعة اعترافها، واعتذارها الذي لم تكن تتوقعه، فتلاشى بعض من غضبها، وردت بصرامة أخف:

ـ حصل خير .. على العموم أنا قلت له اللي يستحقه، ومتأكدة إنه مش هيجيله عين يدخل الدار هنا تاني.


ولكن فجأة قاطعهما صوت مرح خلفهما:

ـ هااي.. ميرال.. نغم.. أخباركم إيه؟


التفتتا معًا، وإذا بهما يتجمدان في أماكنهما؛ حيث عمر يتقدم نحوهما بخطوات واثقة، وخلفه يسير حسن صامتًا.


 أزاح عمر نظارته الشمسية بابتسامة متعجرفة وهو يقول:

ـ إزيك يا ميرال؟


رمقته ميرال ببرود وغيظ، ثم استدارت دون كلمة وغادرت. ارتسمت ابتسامة جانبية على وجهه أخفى بها حرجه، ووجه حديثه إلى نغم:

ـ طب وإنتي يا نغم، إزيك؟


لكن نغم حدجته بنظرة غضب لاذعة مماثلة، ثم أدارت ظهرها وتركتهم دون كلمة وخرجت من الدار، غير أن حسن لحق بها بسرعة، وهو يناديها بإلحاح:

ـ نغم! استني!


توقفت أمام الطريق، تمد يدها لتستوقف سيارة أجرة، قبل أن تلتفت إليه، عيناها تقدحان شررًا، وصوتها يخرج حادًا:

ـ عاوز إيه يا حسن؟


رفع عينيه إليها للحظة خاطفة، وكأن قلبه يصرخ شوقًا لملامحها التي افتقدها طويلًا، ملامح كانت تسكنه أكثر مما أراد أن يعترف. لكنّه لم يسمح لنفسه أن يطيل النظر، كأنه يخشى أن يفضحه الحنين، أو أن ينكشف ضعفه أمامها.


شدّ على نفسه بقوة، كابحًا ذلك الصراع الذي يعتمل بداخله، ثم أشاح بوجهه بعيدًا وكأن الهروب أسهل من المواجهة، وقال بنبرة حاول جاهدًا أن يجعلها ثابتة:

ـ عاوز أعرف مالك؟ ليه واخدة مني جنب؟! هو أنا عملتلك إيه.. زعلتك في حاجة؟


كلماته خرجت وكأنها استجواب، لكنها في الحقيقة كانت أقرب إلى استغاثة، استجداء غير معلن أن تمنحه تفسيرًا يبرئه من وجع يجهل سببه.


ضحكت بمرارة، ورفعت حاجبيها بدهشة ساخرة وقالت:

ـ بجد؟ إنت كمان بتسأل؟


ـ طبعًا بسأل! أنا مش فاهم حاجة!


اندفعت كلماتها من داخل جرح لا يلتئم :

ـ لا إنت فاهم كل حاجه يا حسن، وعارف إنك ضحكت عليا وسرحت بيا لما قعدت تقوللي فريد أخويا وعمري ما أفكر إني أأذيه.. لكن الحقيقة عكس كده.. إنت من جواك لسه بتكرهه وبتحقد عليه ومستني الفرصة علشان تخلص منه .


تجمد مكانه، عينيه تتسعان من الصدمة، وصوته يتهدج بالاستنكار:

ـ إيه؟! إيه الكلام ده؟! مين الكداب اللي لعب في دماغك وقاللك كده؟


حبست دموعها للحظة، لكن سرعان ما خانتها، فانهمرت على وجنتيها وهي تهتف بانكسار:

ـ مش هتفرق مين اللي قاللي ، المهم إني عرفتك على حقيقتك وعرفت إن السواد اللي جواك عمره ما هينضف .. أنا كنت غبية لما صدقتك ودافعت عنك ، إنت هتفضل طول عمرك مؤذي وشرّك طايل الكل.


التفتت بقسوة، وصعدت إلى السيارة وهي تبكي بحرقة، تاركة إياه جامدًا كتمثال، يحدق في أثرها بذهول .


كان وقع كلماتها عليه كطعنة نافذة، خنجر مسموم غاص في قلبه دون رحمة، يقتلع أنفاسه ويتركه يترنح بلا سند. وكل كلمة منها كانت كأنها صدى لحكم أبدي لا رجعة فيه.


ظل واقفًا، يراقب السيارة وهي تبتعد حاملةً نغم، بينما صدى بكائها يجلجل داخله أكثر من أي صوت آخر.


خرج عمر يبحث عنه، حتى لمح حسن واقفًا في مكانه، عيناه شاردتان، وملامحه تائهة كمن فقد طريقه. اقترب منه بخطوات مترددة، وقال بصوت يحمل قلقًا واضحًا:

ـ مالك يا حسن؟ إيه اللي حصل؟


لكن حسن لم ينطق بكلمة، اكتفى بأن زفر أنفاسه بحدة ثم أدار جسده متوجهًا نحو سيارته المركونة على جانب الطريق. فتح الباب بخطوات متعجلة، وقبل أن ينحني للجلوس قال بصوت منخفض متحشرج:

ـ معلش يا عمر.. مش قادر أتكلم دلوقتي.


جلس خلف المقود وأدار المحرك، فانطلق مسرعًا، بينما لحقه عمر على عجل، قفز إلى المقعد المجاور قبل أن تتحرك السيارة، فاندفعت بهما في الطريق حيث لا يعرفان وجهة، يقودهما حسن فقط بهروب أعمى من نفسه ومن كل ما يثقل صدره.


༺═────────────────═༻


" منذ غاب عني وجهكِ أصبحتُ أتيه في زوايا الليل الطويل، أبحث عن صدى صوتكِ في هواء الغياب، وأجد نفسي أتنفس فراغكِ كما لو أن كل شيءٍ من حولي بلا وزن، بلا روح. 


كنتِ نوري، وغيابكِ أظلم عليّ كل الطرق، وجعل قلبي سجناً من ذكرياتٍ لم تُكمل، وأحلامٍ ضاعت بين يديّ قبل أن تُولد.


صرتُ أكتب عنكِ في صمت، عنكِ في كل كلمةٍ لم أجرؤ على نطقها، عنكِ في كل نظرةٍ صامتة صوب البحر الذي لم يعرف أن يحمل دمعي، وعنكِ في كل خطوةٍ أتعثر بها دون أن أراكِ تمسحين عني العناء. يا ليت الغياب كان مجرد لحظة، لا دهرًا يُرهق القلب ويذكي الاشتياق بلا نهاية. "


بعد أن فرغ فريد من سكب كلماته على الشاشة، ضغط زر النشر في مدونته الإلكترونية، علّها تكون الجسر الوحيد الذي يمكن أن يصل إليها بعد أن أغلقت في وجهه كل الأبواب وحظرته من كل وسائل التواصل.


بعدها أغلق حاسوبه، ووضعه بجواره، محاولًا أن يهدأ قليلًا بعدما نزف ما في داخله على الورق. أسند رأسه للخلف وأغمض عينيه، لكن صوت الإشعارات المتتالية من هاتفه قطع عليه سكونه.


قطّب جبينه بضيق، التقط الهاتف من الطاولة، فإذا بعشرات الرسائل تنهال في وقت واحد: تنبيهات من مواقع إخبارية، إشعارات من منصات التواصل، ورسائل من أرقام يعرفها وأخرى غريبة.


فتح أول إشعار، فتجمّد مكانه.

كانت صورته هو وسيلين متصدّرة العناوين الإلكترونية، ، والعنوان العريض يصرخ:

" بعد أنباء عن علاقته بفتاة فضيحة دار الأيتام … هل يقع فريد مرسال في الحب مرة أخرى " 


شعر بدمائه تتجمد في عروقه، ثم اندفعت إلى رأسه بسرعة أربكته، ارتعشت أصابعه وهو يمسح على وجهه بارتباك، وعقله لم يلتقط سوى فكرة واحدة كالسهم النافذ: "نغم… كيف سيكون رد فعلها عندما ترى تلك الصورة وتقرأ ذلك العنوان ؟! "


تخيل عينيها الممتلئتين بالخذلان، نظرتها التي ستظن أنه خائن أو كاذب، قلبها الذي لن يحتمل صدمة جديدة. تلعثمت أفكاره، فتح هاتفه بسرعة ليبحث عن وسيلة ليتواصل معها، ولكن دون جدوى.


ضغط كفيه بعنف على رأسه، ثم قفز واقفًا وبدأ يتمشى في الردهة بجنون، لا يعرف كيف يتصرف، لكنه يعلم أن كل دقيقة تمر تعني أن الخبر سينتشر أكثر.


 فتح المواقع واحدًا تلو الآخر، فوجدها كلها تردد نفس القصة وتنشر نفس الصورة.


كانت أول فكرة خطرت على عقله هي الاتصال بمحاميه فورًا، عسى أن يجد منفذًا قبل أن يتحول الأمر إلى عاصفة لا تهدأ. التقط هاتفه بسرعة واتصل بنادر، وما إن أجاب حتى اندفع صوته حادًا مضطربًا :

ـ أستاذ نادر، إنت شفت الخبر  ؟!


جاءه صوت نادر مثقلًا بالضيق، جادًا كعادته:

ـ للأسف شفته، وكنت لسه هكلمك دلوقتي.


رفع فريد يده إلى جبهته، يضغط عليها كمن يحاول منع رأسه من الانفجار، وقال بلهجة متوترة:

ـ طب والعمل يا متر ؟! الخبر لازم يتمسح فورًا، مش بس علشاني، ده فيه ضرر كبير على نغم .


رد نادر بحزم، وإن كان صوته يعكس انشغالًا:

ـ إهدى يا فريد.. أنا من ساعة ما شفت الخبر وأنا already شغال على الموضوع.


فسأله فريد عسى أن يجد في إجابته شيئًا يطمئنه :

ـ عملت إيه ؟


تنحنح نادر وأخذ يشرح بخبرة المحامي المخضرم:

ـ أول خطوة رفعت بلاغ رسمي لمباحث الإنترنت بخصوص التشهير، لأن استخدام صورك ونشر أخبار كاذبة يدخل في بند الجرائم الإلكترونية. وفي نفس الوقت بعت إنذارات قانونية للمواقع اللي نشرت الخبر عشان تسحب المقالات فورًا، ولو رفضوا، هنرفع عليهم قضايا تعويض.


ـ كويس… بس ده بياخد وقت أكيد.. 


ـ عارف.. علشان كده عملت حاجة تانية أسرع، كلمت شركة متخصصة في إدارة الطوارئ الألكترونية على الإنترنت، دول بيقدروا يخاطبوا منصات التواصل مباشرة ويدفعوا عشان يتم حذف الصور من السيرفرات بأسرع وقت. ده غير إننا ممكن نغرق الأخبار الكاذبة دي بأخبار بديلة لحد ما تختفي من التريند.


جلس فريد على أقرب مقعد، وقد غابت ملامحه خلف ستارٍ من الكمد، عيناه تحدّقان في الفراغ بجمود، فيما يتردد صوت نادر في أذنيه كأنّه بعيد، بلا معنى، إذ لم يعد قلبه مشغولًا إلا بهاجس واحد يأكل روحه:

"هل وقعت عينا نغم على تلك الفضيحة.. أم ما زالت في مأمنٍ منها؟"


أنهى اتصاله بنادر، فإذا بهاتفه يضج باتصال آخر، واسم سيلين يتوهّج أمامه. نظر إلى الشاشة بامتعاض، تأفف بعمق، ثم أجاب بصوت ثقيل:

ـ نعم سيلين؟


جاءه صوتها متهدّجًا، غارقًا في البكاء والانهيار:

ـ فريد… هل قرأت الخبر المنشور عنا؟ يا إلهي، لا أستطيع تصديق ما يحدث! لماذا تتم ملاحقتي هكذا؟! منذ رأيت الصور وأنا لا أتوقف عن التفكير… من الذي يترصّدني، ويتتبعني، ويصوّرني بهذه الوقاحة؟!


ازدادت نبرتها ارتجافًا وهي تنتحب:

ـ لم أعد أشعر بأي أمانٍ في هذا البلد… سأحجز أول طائرة وأعود إلى فرنسا، لا طاقة لي باحتمال هذا الجنون.


أطبق فريد جفنيه بإرهاق، كأنّ ثقلاً هبط على كتفيه، وزفر ببطء قبل أن يجيبها ببرود:

ـ لا تقلقي سيلين. أنتِ لستِ الهدف في هذه اللعبة… أنا وحدي المقصود.


ـ ومن الذي يؤكّد لك ذلك؟!


فتح عينيه على اتساعهما، وأجابها بوجومٍ عابس، وصوتٍ غليظ يخالطه الغيظ:

ـ صياغة الخبر السخيفة وحدها تكفي لتثبت لي أنني المقصود، ليست هذه المرة الأولى التي أحاصر فيها بمثل هذه التفاهات.


ثم أردف، وقد تسلّل القَسَم إلى نبرته كالحديد، حتى وصل إلى قلبها المرتجف:

ـ لكنني أقسم لكِ، أنني لن أتوانى عن سحق من تجرّأ على إشعال هذه المهزلة.


لم يمنحها فرصة للرد، وأغلق الخط بعنف، ثم رفع يديه إلى رأسه يقبض على خصلاته بعصبية مكبوتة، ثم اندفع فجأة وركل الطاولة أمامه بقوة، فتداعت ساقاها تحت وطأة الضربة، وارتطمت بالأرض متكسّرة، متناثرة كحال صدره المشتعل غضبًا وغيظًا.


༺═────────────────═༻


المكان : شاطئ فراديرو ـ كوبا 

الزمان : الثانية مساءًا بتوقيت هافانا .. التاسعة مساءًا بتوقيت القاهرة .


وقفت نسيم عند حافة الشاطئ، عيناها تتسعان باندهاش طفولي وهي تتأمل امتداد البحر الكاريبي أمامها. اللون الأزرق الصافي يتدرج حتى يذوب في الأفق، والنوارس تحلق في دوائر واسعة كأنها ترقص فوق الموج. أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تحاول أن تحتفظ بكل هذا الجمال في صدرها، ثم همست بدهشة لا تخلو من رهبة:

ـ هو في جمال كده بجد؟ المنظر خيالي يا عاصم.. 


اقترب عاصم ببطء، يقف بجانبها ويترك الصمت يسبق كلماته، عيناه تتنقلان بينها وبين البحر، ثم قال بابتسامة هادئة:

ـ ده جمالك هو اللي خيالي .


نظرت إليه وابتسمت، فأحاطها بذراعه فقالت :

ـ خلصت مكالماتك ؟


شعرت به يوميء بصمت، ثم قال :

ـ أيوة خلصت مكالماتي .. كنت بظبط شوية حاجات مع رشيد بخصوص افتتاح الدار .


نظرت إليه فرأته يطالعها بصمت، وبعينيه ابتسامه هادئة يتخللها الحزن، فقالت :

ـ ليه مأجلتش الافتتاح لحد ما نرجع مصر ؟


تنهد وهو يشرد بنظره نحو الأفق البعيد ، وقال :

ـ ملوش داعي يا نسيم، أنا مش عاوز الناس تفهم إني بعمل كده علشان أتصدر المشهد، أنا مش صاحب الدار عشان أكون موجود وقت الافتتاح والتصوير والشو .. الأرض بتاعتك.. الكيان كله في الأساس ملكك انتي.. الدار بإسم حازم الله يرحمه.. وعملناها علشان الثواب يروح له هو .. أنا دوري يتمثل في إني أتابع من بعيد علشان أضمن إن كل حاجة تمشي مظبوطة، والدار تقدر تخدم الأطفال اللي محتاجينها .


تنهدت مطولا، وأومأت بهدوء، وحولت ناظريها من عليه الى المشهد الخلاب من أمامها، فاستطاع أن يخمن ما يدور بخلدها الآن، فقال محاولا تشتيت انتباهها :

ـ وبعدين البطولة بكرة.. ولازم أحضرها مش هينفع أعتذر عن الدعوة، لأن اللي أقدر أساعد الأطفال بيه من خلال البطولة دي أكبر وأهم بكتير من حضوري الافتتاح .


نظرت إليه باستفهام، فسحب يدها وعاد نحو المظلة الخاصة بهما، جلس وأجلسها فوق قدميه كعادته المحببة، وبدأ يشرح لها وجهة نظره قائلا :

ـ بصي يا ستي.. حضوري في بطولة عالمية كممثل لمصر أو كضيف شرف ده بيدي لي مكانة اجتماعية وإعلامية وسمعة كويسة جدا أقدر أستثمرها في إني أحصل على رعاة مختلفين للدار ، زائد إن الشركات اللي بترعى البطولات الرياضية زي البطولة دي غالبًا عندها جزء مخصص للمسؤولية الاجتماعية، وممكن فيما بعد أعرض عليهم رعاية جزئية للدار ضمن نشاطاتهم الخيرية.. 


هزت رأسها بهدوء ، ثم عادت تتسائل :

ـ طيب انت ليه متعتمدش على نفسك في رعاية الدار أو التكفل بيها.. ليه تدخل حد معاك شريك في حاجة زي دي.. ؟


ـ لأن ببساطة المشروع ده عشان يفضل كيان حي محتاج دعم كبير جدا .. ولو اعتمدت على فلوسي أنا بس الدار ممكن تنهار بعد فترة قصيرة..


أخذ عاصم نفس عميق، وكأنه قرر يفتح لها دفتر الحسابات بصراحة:

ـ بصي يا نسيم، أنا دخلي الشهري ثابت.. وليكن مثلاً ٢ مليون جنيه. أنا بتبرع بنصه كامل للدار كل شهر.. يعني مليون جنيه. المليون ده ممكن يكون رقم كبير في نظرك، لكن على أرض الواقع مش كفاية.


رفع أصابعه يعدّد أمامها:

ـ عندك ٢٠٠ طفل.. أقل تقدير الطفل الواحد محتاج ٥ آلاف جنيه في الشهر.. أكل، لبس، علاج، تعليم. يعني بنتكلم في مليون جنيه للأطفال بس.


توقف لحظة، ثم أكمل:

ـ ولسه عندك مرتبات المدرسين، المشرفين، الأطباء، عمال النظافة، الأمن.. دول أقل حاجة نص مليون.

ـ وكمان مصاريف تشغيل: كهرباء، ميّه، صيانة، أنشطة، كل ده ممكن يوصل لـ ٧٠٠ أو ٨٠٠ ألف.


نظر إليها بثبات وقال:

ـ يعني ببساطة، حتى وأنا متبرع بنص مرتبي.. العجز الشهري يقارب ٥٠٠ ألف. وده معناه إن الدار من غير دعم مستمر هتنهار بعد شهور.


وتابع :

ـ ده وأنا متبرع بنص مرتبي… طب افرضي بقا حصلي ظرف في أي وقت، أو لا قدر الله مبقيتش موجود أصلا ! الأطفال دي هيكون مصيرها ايه ؟! 


لمح الغضب في عينيها، فأمسك بيدها وقبلها بحب وتابع:

ـ أنا بوضح لك الصورة كاملة بس.. أنا عايز الدار تعيش وتفضل مؤسسة قوية ويكون ليها ضهر وليها داعمين، علشان كده البطولة دي فرصة مش بس للشو.. دي ساحة فيها رجال أعمال، رعاة، منظمات دولية. لو قدرت ألفت انتباه ٣ أو ٤ منهم يخصصوا دعم شهري ثابت.. يبقى الأطفال في أمان حتى لو أنا مش موجود.


ابتسمت ابتسامة هادئة ، ومدت يدها تلمس ذراعه بامتنان وهي تقول :

ـ أنا فخورة بيك جدا .


أمسك وجهها بكلتا يديه، وقربه منه وقبّل خدها قبلة عميقة تحمل كل ما في قلبه من امتنان، وهو يتمتم بحب:

ـ مش أكتر مني.. أنا فخور مليون مرة إنك مراتي وعلى اسمي.


ألقت بنفسها بين ذراعيه في عناق دافئ، تبحث عن الأمان في صدره، ثم ما لبثت أن ابتعدت قليلًا، وعيناها لا تزالان مأخوذتين بسحر البحر الممتد أمامها. فظلت صامتة للحظات، تتأمل المشهد بدهشة، فيما كان هو يراقبها في انبهار؛ شعرها يتطاير مع النسيم، يرسم هالة ذهبية حول وجهها، حتى بدا له وكأنها لوحة حيّة، صنعتها يد الخالق لتكتمل بها بهجة المكان.


ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يتأملها؛ فالتفتت إليه فجأة، وكأنها التقطت ومضة من أفكاره بعينيها، ثم ابتسمت ابتسامة هادئة وقالت:

ـ في إيه؟ بتبصلي كده ليه؟


اقترب منها أكثر، و صوته يخرج عميقًا هادئًا:

ـ ببص على الجمال اللي عمري ما كنت أحلم بيه.


ضحكت بخفة وهي تطرق برأسها ناحية البحر محاولة إخفاء ابتسامتها المشبعة بالرضا ؛ فقال مازحًا وهو يشبك يديه خلف عنقه باستمتاع :

ـ بمناسبة الأجواء اللي مش هتتعوض دي.. غنيلي !


ـ أغني لك ؟!


أومأ مؤكدًا وقال :

ـ غنيلي أه .


ضحكت بخفوت وهزت رأسها في تعجب وقالت :

ـ مش هعرف طبعا.. صوتي بشع !


قطب حاجبيه وهز رأسه باستنكار وهو يقول :

ـ صوتِك بشع ؟! مش ممكن ! ده انتي أرق صوت سمعته في حياتي ! وبعدين حتى لو مش حلو زي ما بتقولي أنا هسمعه زي الكروان .. 


وأضاف بمزح :

ـ يلا يا نجمة.. المايك معاكي .


ابتسمت بخجل وهي ترفع يدها لتزيح خصلة شعر تطايرت على وجهها، ثم أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تحشد شجاعتها، وقالت بصوت منخفض:

ـ خلاص هغني.. بس ماتضحكش عليا.


أومأ عاصم بحماس وقال :

ـ و دي تيجي ؟! 


أغمضت نسيم عينيها قليلًا، وتركت صوتها ينساب رقيقًا متناغمًا مع حفيف الموج وصرير النوارس في السماء. 


ـ أنا بعشق البحر .. زيك يا حبيبي حنون، وساعات زيك مجنون، ومهاجر ومسافر.. وساعات زيك حيران، وساعات زيك زعلان، وساعات مليان بالصبر.. أنا بعشق البحر !


نبراتها كانت صافية تحمل دفئًا يليق بالمكان، وكأنها جزء من المشهد، كأن البحر نفسه يصغي إليها.


وعاصم، لم يحاول مقاطعتها، بل ظل يراقبها مأخوذًا، عيناه تلمعان بفخر ودهشة، يبتسم في كل مقطع كأنه يسمع الأغنية لأول مرة.


توقفت، ولكنه فاجأها إذ تابع قائلا :

ـ وأنا بعشق السما.. علشان زيِك مسامحه، مزروعه نجوم وفرحه.. وحبيبة و غريبة، وعشان زيِك بعيدة، وساعات زيِك قريبة بعيون متنغمة… أنا بعشق السما .


وعندما انتهى، علت وجنتاها حمرة الخجل، وأشاحت بوجهها للحظة قبل أن تعود لتنظر إليه مازحة:

ـ إيه ده؟ مكنتش أعرف إن صوتك حلو كده!


ابتسم بخفة، وقال وهو يرفع حاجبيه بتفاخر مصطنع:

ـ زورونا تجدوا ما يسركم.


انفجرت ضحكتها الصافية، فشاركها الضحك، ثم أردف وهو يرمقها بنظرة مليئة بالمرح والدفء:

ـ وانتي كمان صوتك حلو أوي.. بصراحة كل يوم بتفاجئيني بمواهبك المدفونة.


ابتسمت، لكنها لم تجب، واكتفت بأن تمسك ذراعه بحنو وتستند عليه وهي تنظر إلى الأفق، فيما كان هو يطيل النظر إليها بحب، وفجأة لمحت من بعيد مجموعة من الخيول تتهادى بخطوات رشيقة على رمال الشاطئ الناعمة، يقودها بعض الشباب الكوبيين بابتسامات ودودة. انعكست الشمس على جلودها اللامعة، فبدت وكأنها لوحات مرسومة تتحرك.


شهقت نسيم بدهشة طفولية وهي تشير بيدها:

ـ بص يا عاصم! 


ابتسم عاصم وهو يتأمل انبهارها، ثم قال بنبرة هادئة مليئة بالمرح:

ـ مكتوبالك يا بنت المحظوظة .


التفتت إليه بعينين تلمعان حماسًا، وقالت بسرعة:

ـ بس أنا عمري ما ركبت خيل .. وبعدين أخاف يوقعنا في المية !


نظر إليها وهو يضرب صدره بقبضة واثقة في تفاخر هزلي ويقول :

ـ تخافي وانتي معايا ؟! طب دي حتى تبقا عيبة في حقي.. قدامي .


سارا معًا نحو صف الخيول المصطفة عند حافة الشاطئ، حتى لفت انتباههما حصان بني بديع، يلمع جلده تحت أشعة الشمس وتبرق عيناه الواسعتان بعنفوان آسر.


اقترب عاصم منه بثبات، ثم التفت إلى نسيم ومد كفه أسفل يدها، بينما يده الأخرى تستقر خلف ظهرها ليمنحها الدعم. ترددت لحظة وهي تضحك بخجل طفولي، لكنه حسم ترددها حين جذبها نحوه برفق ودفعها بخفة لتجد نفسها جالسة على السرج، يسبق قلبها خطوات الحصان.


امتطت نسيم صهوة الجواد وقد ما زال الضحك يرقص على شفتيها المرتبكتين، فاعتلى عاصم الحصان من خلفها بثباتٍ يفيض ثقة، وأحاطها بذراعيه في حركة حانية توشّحها بالأمان. أحسّت بحرارة أنفاسه تلامس وجنتها، فاضطرب قلبها في خفقٍ خفيّ لم تستطع إخفاءه.


أمسك هو بلجام الحصان بيدٍ قوية، فيما استقرت يده الأخرى برفقٍ حول خصرها، كأنها صمام طمأنينة يثبتها ويحتويها في آنٍ واحد. التفتت نحوه قليلًا، تومئ بابتسامة صغيرة كزهرة تنفرج في أول الندى، بينما الحصان يمضي بخطوات متزنة فوق الرمال الذهبية. وترافق صهيله مع هدير الموج، ليشكّلا معًا سيمفونية بحرية لا تُمحى من الذاكرة.


༺═────────────────═༻


مع حلول المساء، جلست نغم تتصفح كتابًا بين يديها، لكن عيناها سرعان ما ارتدّتا عن السطور بملل، فألقته بإعياء على الطاولة أمامها، وأسندت رأسها إلى الخلف، تستسلم لتلك الهواجس التي أخذت كلمات مديرة الدار تبعثها في عقلها رويدًا رويدًا…


كانت تستعيد حديثها عن فريد؛ عن رقيّ أخلاقه، وعن هيبته التي لم تنتقص من تواضعه، وعن احترامه للجميع، وعن ذلك القلب الذي جمع الأطفال حوله كأبٍ حنون لا يتركهم إلا وقد ترك في أرواحهم أثرًا من الطمأنينة والدفء.


تسرب كلامها إلى قلب نغم فأيقظ فيه أشواقًا كادت أن تمزقها؛ شوقًا جارفا ينهش صدرها كما لو أنّ روحها تُسحب منها نحوه، بلا حولٍ منها ولا قوة.


مدّت يدها إلى هاتفها مترددة، ثم غلبها الحنين، ففتحته لتغوص في صوره، وصورهما معًا، وفي رسائلها القديمة منه؛ كلماتٍ كانت يومًا قبسًا من حياته يتدفق إلى أعماقها، فإذا بها تبعث فيها من جديد دموعًا وارتجافًا في الأنفاس.


اشتعلت بها الرغبة الجامحة لسماع صوته، ذاك الحنين القاسي المهين الذي يستعبدها ويجرّها إلى حافة الاستسلام .


ترددت… ألقت الهاتف بعيدًا وكأنها تفرّ من ضعفها، لكنها سرعان ما عادت إليه بارتجاف يديها، حائرة بين كرامتها الجريحة وقلبها الذي يُصرّ على الارتماء بين يديه.


كانت تدرك في أعماقها أنّه حتمًا حاول الوصول إليها بشتّى الطرق، ولكن هل يشفع له ذلك؟! هل يمحو ما فعل؟!

ذاك المشهد اللعين الذي جمعه بتلك المرأة، تلك الهيفاء المتصنعة، ما زال غصّة في حلقها… هزيمة لم تبرأ جراحها بعد، مهما قالت لها الروح عكس ذلك.


أخذت تُحدّق في شاشة الهاتف بتردد، وأصابعها ترتجف فوق زرّ إلغاء الحظر، تتناوبها مشاعر متناقضة؛ كرامتها تصرخ أن لا تفعل، لكن قلبها يوشك أن ينهار من ثقل الشوق.


وفي اللحظة التي عزمت فيها على حسم الأمر، دوّى إشعار مفاجئ في هاتفها. جمدها مكانها، وجعل قلبها يطرق صدرها بعنف، فضغطت بارتباك لتفتح الخبر.


عيناها اتسعتا كمن صُعق بالكهرباء، الدم جف في عروقها، إذ وجدت صور فريد متصدّرة العناوين، عناوين تلطّخت بكلمات جارحة:

" بعد أنباء عن علاقته بفتاة فضيحة دار الأيتام … هل يقع فريد مرسال في الحب مرة أخرى " !!!


انفلت الهاتف من يدها وهبط على الأريكة، فيما أسندت وجهها إلى كفّيها في ذهولٍ عاجزةً عن التصديق. كان قلبها في تلك اللحظة ينزف، وعقلها يتناثر إلى شظايا تتصادم بداخل رأسها بلا رحمة.


أخذت تقرأ الخبر مرةً بعد أخرى، تعيد العنوان وتتمعن في السطور كأنها تبحث عن ثغرة تكذب بها ما ترى عيناها، لكنها في كل مرة كانت تصطدم بالحقيقة ذاتها: أن الفتاة المقصودة بفضيحة دار الأيتام ليست سواها. ارتجف جسدها، وغمرتها صدمة لا تقاوم، فانهارت باكيةً بكاءً مرًّا، تتقطع فيه أنفاسها بين دموع لا تنضب.


حتى بعدما استوعبت أن العنوان يطعنها هي شخصيًا ويشير إليها بوضوح، لم تكن تلك الطعنة أشد وقعًا عليها من فكرة أن فريد ربما أحب غيرها فعلًا. ذلك الاحتمال وحده سحق روحها، وأشعل في صدرها نارًا لا تُحتمل. 


وما إن أغلقت الهاتف وهي ما تزال تبكي بحرقة، حتى ارتجف قلبها من جديد مع وابل إشعارات جديدة ينهال على شاشتها. رفعت الهاتف بيد مرتعشة، وعيناها تلمعان بدموع لم تجف بعد، لتتفاجأ بصور أخرى تتصدر المواقع: فريد وسيلين في عناق واضح، كأنها لحظة مسروقة لا لبس فيها.


تسمرت في مكانها، اتسعت عيناها في ذهول، وكأن الأرض قد انسحبت من تحت قدميها. شعرت أن الهواء يثقل صدرها، وأن العالم من حولها ينهار لبنةً لبنة. 


لم تكن الصدمة فقط في تلك الصورة، بل في الفكرة المرعبة التي أخذت تغرز أنيابها في قلبها: ألم يكن يكفي ما قيل عنها؟! أما كان يكفي العنوان الموجع؟! الآن الصور أيضًا تؤكد ما تخشاه؟!


لم تستطع أن تكبح شهقتها العالية وهي تضع يدها على فمها، وكأنها تمنع صوت قلبها المكسور من أن يفضحها. والأدهى من ذلك أن صورة واحدة، في لحظة واحدة، كانت كفيلة بأن تحطم ما تبقى لها من يقين بفريد.


تحسست الهاتف بألم كمن يحمل جمرة، وألقت به بعيدًا على الأريكة، ثم أجهشت بالبكاء، تبكي كأنها تحاول أن تغسل بالدموع كل لحظة وثقت فيها بأنه لن يخونها.


كان وجع الخيانة أشد إيلامًا من أي فضيحة علنية.


وبين دموعها المرتجفة، وبيد مرتعشة ألغت الحظر عنه، وضغطت زر الاتصال، وما إن استمعت إلى اسمها يصدر عنه بنبرةٍ ملتاعة :

ـ نغم …


حتى لم تستطع أن تقول سوى كلمة واحدة، خرجت يائسةً من قلبٍ يئن تحت وطأة الخذلان:

ــ يا ريتني ما عرفتك..


ارتبك فريد،  أسرع يردّ بصوت مضطرب:

ــ نغم، اسمعيني بس، أنا هفهمك كل حاجة، أرجوكِ متقفليش..


لكن كلماتها جاءت كالسيف تقطع آخر خيط بينهما:

ــ مش عايزة أفهم حاجة.. ومش عايزة أعرفك تاني.


ما إن أغلقت نغم الهاتف بيد مرتجفة، حتى غلبها الانهيار لحظة، ثم اندفعت واقفةً وهي تمسح دموعها بعشوائية. راحت تجمع بعض ثيابها على عجل، وضعتها في حقيبة صغيرة كأنها تبحث عن مهربٍ من كل ما يحيط بها. 


قلبها كان يخفق بجنون، لا تدري إلى أين ستذهب، لكنها أيقنت أنها لم تعد تحتمل البقاء بين جدران بيته الذي أصبح يضيق عليها كالسجن.


خرجت مسرعة، وانطلقت صوب بوابة الكومباوند بعزمٍ يائس. وما إن اقتربت حتى فوجئت بما لم يخطر لها على بال: عشرات الصحفيين والمصورين مصطفّين أمام البوابة، وكاميراتهم مشرعة كسهام تنتظر فريستها، وأصواتهم تتعالى بالنداءات والأسئلة المسمومة:


ـ "أنسة نغم! هل صحيح الكلام اللي اتقال في الخبر؟"

ـ "ايه تعليقك على علاقة فريد مرسال حبيبك السابق بسيلين اندرياس ؟"

ـ "هل فعلا كنتِ السبب في فضيحة دار الأيتام اللي حصلت قبل تمن شهور تقريبا ؟!"


تجمدت للحظة، عيناها اتسعتا في ذهول، والدموع انسابت بلا إرادة منها. أخذت تتراجع خطوة بعد خطوة، يختلط في صدرها الرعب بالصدمة، حتى وجدت نفسها فجأة تجري بجنون، تتخبط في خطواتها، تلتفت خلفها بوجلٍ وكأن الجموع ستقتحم البوابة وتطاردها إلى الداخل، كانت تلهث وكأنها تهرب من كابوس يلاحقها.


لم تتوقف إلا حين وصلت إلى باب المنزل، دخلت و أغلقته خلفها بعنف، وأسندت ظهرها إليه محاولة التقاط أنفاسها، لكن جسدها كان يرتجف بعنف. سقطت على الأرض، يديها تعانقان صدرها، وأنفاسها تتسارع بشكل مخيف. اختنقت عبراتها مع شهقات متلاحقة، وزاغت عيناها في الفراغ…


اجتاحتها نوبة هلع عاتية، فأحكمت قبضتها على صدرها وهي تشعر أن أنفاسها تتسرب منها، وكأن رئتيها قد ضاقتا عن استيعاب الهواء. ارتجفت أطرافها بلا وعي، وبرقت في رأسها أفكار مشوشة متلاحقة، حتى بدا لها أن الأرض تميد تحت قدميها، وأن العالم من حولها ينهار دفعة واحدة فوق كاهلها العاجز.


༺═────────────────═༻


أما فريد.. فانقضّ على هاتفه محاولًا الاتصال بها مرة أخرى، مرة واثنتين وثلاثًا.. لكن كما توقع، عاودت حظره بلا تردد.


أسند جبينه إلى كفه، زفر بحدة، كأن صدره يشتعل بنيران لا يعرف كيف يخمدها. كان يشعر أنه يختنق، أن كل شيء يتداعى حوله بلا رحمة. تحرك بخطوات متخبطة، ثم أمسك هاتفه من جديد، أرسل عشرات الرسائل التي لن تصل، وكتب عشرات الكلمات التي لن تُقرأ.


وبينما كان جالسًا، يحدّق في شاشة هاتفه التي لا تكفّ عن الارتجاف، إشعارات تتوالى كالسياط على جسده، عناوين متشابهة وصور مكرّرة، حتى شعر أن كل كلمة تُنشر هناك تُسحب من روحه.

وفجأة، انبعث رنين مختلف.. رقم عمر.

أجاب فريد بسرعة، عسى أن يجد عند أخيه سندًا أو كلمة تطمأنه، لكن صوت عمر جاء محمَّلًا بالاستنكار:

ـ فريد.. إيه اللي أنا قريته وشفته ده؟! إيه حكايتك مع البنت دي؟! هو إنت صحيح بتحبها؟! 


تجمّد فريد للحظة، وعينيه اتسعتا على آخرهما غير مصدّقًا أن هذا هو أول سؤال يسمعه من عمر. كان ينتظر منه كلمة ثقة، جملة تهون عليه مرارة ما يشعر به الآن، لكنه بدلًا من ذلك وجد نفسه في قفص اتهام جديد.


ارتفع غليانه في داخله حتى بلغ الحلق، فأجاب بحدةٍ اختلطت بالمرارة:

ـ أيوه يا عمر.. بحبها!


ـ إيه !!!! طب ونغم ؟! وبعدين إيه موضوع فضيحة فتاة الدار ده ؟! أنا مش فاهم حاجه !!


ـ عنك ما فهمت يا أخي !! ده إيه القرف ده !!


صاح بها فريد بانفعال قاتل، ثم أغلق الخط بعصبية قبل أن يسمح لأخيه برد، وألقى الهاتف بعيدًا كأنما يحاول التخلص من كل ما يطوق صدره من غيظ وخذلان.

༺═──────────────═

#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close