رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثلاثون 30بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثلاثون 30بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ــ٣٠
~ عاصفة لا تهدأ ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فجرًا في كوبا ..
اتخذت نسيم من الشرفة ركنًا قصيًّا لتخلو بنفسها، تحدّق في الأفق الممتد أمامها، بينما تتزاحم في خاطرها صور كثيرة ومواقف شتى جمعـتها بعاصم منذ ليلة زواجهما الأولى.
يومها لم يخطر ببالها، ولا جال بخيالها، أنها ستغدو قريبة منه إلى هذا الحد، أو أن حبها له سيبلغ هذا المدى من التعلق والافتتان.
لقد أصبح عاصم، بكل ما للكلمة من معنى، برّ الأمان الذي تلوذ به، وملاذها من كل ما كانت تخشاه ولا تزال تخشاه. وجدت فيه غناها عن الدنيا بأسرها، حتى لتكاد تعترف ـ وإن كان بشيء من الضيق ـ أنّها حين تكون برفقته تنسى كل ما عدا وجوده. لا تتذكر أحدًا، حتى إخوتها الذين يمثلون لها شريان الحياة؛ إذ طغت حلاوة لحظاتها معه على كل شيء آخر.
لم يشغلها شيء، ولم يَرُد ذهنها إلى أحد، سوى أن تنتزع من الزمن لحظاتٍ لا تدري إن كان القدر سيسمح لها بمعايشتها من جديد أم لا.
غير أنّ سؤالًا مبهمًا ظلّ يعتمل في صدرها: هل يكتفي بها عاصم كما تكتفي هي به؟ هل استبدّ به حبها إلى حدٍ يجعله يصرف النظر عن ثأره القديم وانتقامه الذي طالما أقسم عليه؟
لم تطمئن نفسها إلى الجواب؛ فبين الحين والآخر تقرأ في عينيه شيئًا مغايرًا، ظلًا خفيًا لرجل آخر. نظرات محيرة كتلك النظرة بالأمس، وهو يقدّمها أمام الجمع باسم "نسيم الدالي".
أكان ذلك مجرد بادرة عفوية، اقتضاها طابع المكان الذي يتواجدون فيه؟ أم أن وراءها قصدًا دفينًا، تعمّد من خلاله أن ينزعها من جذورها، ويجرّدها من اسمها، من أهلها، من أصلها كلّه؟ ليصوغها من جديد بوصفها امتدادًا له وحده؟ هل يُعقل أن يكون قد فكّر بذلك بالفعل… أم أنّه لم يكن إلا صدىً لتوجّساتها التي لا أصل لها في الواقع؟
انتبهت لخطواته، فالتفتت، نظرت إليه وابتسمت، فانحنى وقبّل أعلى رأسها وهو يقول :
ـ ممكن أعرف سرحانة في ايه ؟
نظرت إليه وابتسمت، وتنهدت بحيرة وقالت دون مراوغة:
ـ سرحانة فيك .
ضيق ما بين حاجبيه، وقال :
ـ طب ليه ؟! ما أنا معاكي أهو يا حبيبتي.. أنا بس حسيت إنك بتتكلمي مع نفسك فقلت أسيبك شوية.
ـ إنت إزاي بقيت تفهمني وتحس بيا كده يا عاصم ؟
ابتسم عاصم، واقترب بمقعده منها أكثر، أمسك كلتا يديها وقبلهما واحدة تلو الأخرى وقال وهو ينظر داخل عينيها:
ـ لأني بحبك حب ملوش حدود، فطبيعي إني أكون فاهمك وحاسس بيكي دايما ..
تنهدت نسيم تنهيدة مثقلة، كأنها تحمل بين جنباتها عبء جبل، ونظرت إليه بعينين غارقتين في القلق الذي يعصف بداخلها كعاصفة تنذر بالخطر. همست بصوتٍ أقرب للرجاء:
ـ يعني عارف أنا بفكر في إيه دلوقتي؟
ظلّ يحدّق فيها لحظة بصمت، دون أن يظهر على ملامحه ردّ فعلٍ واضح، ثم أطلق تنهيدة قصيرة وأومأ برأسه موافقًا. ازداد عبوس جبينها حدة، بينما استرخى هو في مقعده، وأسند ظهره إليه متابعًا نظراتها بترقّب، قبل أن يقول بنبرة هادئة:
ـ مضايقة إني قدمتك للناس بإسمي.
لم تستطع أن تتحكم في تعبيراتها، فبرغم سكونها، ارتسمت الدهشة على وجهها بوضوح فشلت في إخفائه.
مال نحوها بجذعه، وأمسك يدها برفق، وأخذ يمسح على ظهر كفها بكفيه الدافئتين، قائلاً بنبرة يغمرها الحنان:
ـ أنا لاحظت من وقتها إنك متغيّرة، ومتوترة.. وساكتة طول الطريق واحنا راجعين..
أومأت برأسها وقالت بصراحة:
ـ أنا اتفاجئت!
ابتسم بأسى وأجابها بهدوءٍ يقترب من الاعتذار:
ـ أنا آسف.. مكنتش أتوقع إنها حاجة هتضايقك لما أقدمك بإسمي..
أعربت عن ضيقها بملامح جامدة وصوت منخفض:
ـ وليه متقدمنيش بإسمي؟ .. نسيم مرسال!!
أشاح بنظره بعيدًا نحو المحيط الممتد أمامهما، متنهدًا بخفة محاولًا إخفاء ضيقه، لكن نبرته فضحته. عندها قالت هي بحدة خافتة، تحاول ضبط انفعالها:
ـ مهما حصل، ومهما كان بينك وبين عيلتي.. ده ميمنعش إني هيفضل إسمي نسيم مرسال!
أومأ في صمتٍ متحفظ، فتابعت بصرامة أشدّ:
ـ أنا كان ممكن أتقبل اللي حصل.. لو مكنتش عارفة قصدك.
قاطعها وقد تسلّل الضيق إلى صوته:
ـ إيه هو قصدي يا نسيم؟
ارتجف صوتها قليلًا، وهي تجيبه بوضوح جعل ملامحها تنكمش وتزداد قسوة:
ـ قصدك واضح يا عاصم.. إنت عاوز تخلعني من جذوري.. شايف إن إسم سالم مرسال وصمة عار مينفعش ترتبط بإسم مراتك .. مش كده ؟
ـ إنتي ليه مكبّرة الموضوع بالشكل ده ووخداه من زاوية تانية ؟! كل الحكاية إن عند الأجانب طبيعي الزوجة تتقدم بإسم زوجها ، الموضوع عُرف عندهم وأنا مشيت عليه .
رفعت حاجبيها بعدم تصديق، وعينيها تلمعان بمزيج من العتاب والشك:
ـ يعني إنت شايف إن ده السبب الوحيد؟! مجرد عرف؟!
اقترب منها أكثر، وأمسك يدها بجدية وهو يضغط عليها كأنه يريد أن ينقل إليها صدق ما يقول:
ـ آه يا نسيم.. عرف.. لكن صدقيني، حتى لو كان مجرد عُرف، أنا من جوايا كنت مبسوط إنك اتقدّمتي بإسمي.. يمكن لأنّي بحس إنك كده قريبة مني أكتر، ملكي أنا وبس.. أنا مش عارف إيه اللي يضايق في كده ؟! المفروض إنك فاهماني وعارفة أنا بحبك وبموت فيكي ازاي وأي راجل بيحب بجد بيكون متملك في حبه .. وعلى العموم يا حبيبتي أنا آسف بجد لو ضايقتك ، أنا مقصدتش اللي وصلك .. مش هكررها تاني .
ارتجفت نظرتها بين حيرتها ورغبتها في تصديقه، لكنها لم تستطع أن تُسكت تلك الهمسة التي دوّت في صدرها: أهو العُرف وحده؟ أهو الحب ورغبة التملك فعلاً؟ أم أنّ وراء العُرف شيئًا أعمق، سرًّا يختبئ في قلبه ويُراد به رسم حدودها له وحده؟
سحب يدها، فنهضت ومن ثم أجلسها على ركبتيه وأحاط خصرها بذراعيه ، ثم أسند رأسه على صدرها وهو يهمس:
ـ أرجوكي متضايقيش بقا.. مش عاوز اشوفك متضايقه بسببي أبدا .
تنهدت بضعف أمامه ، وأحاطت رأسه بيديها وأسندت رأسها فوق رأسه وقالت :
ـ عاصم أنا بحبك.. بس..
رفع ناظريه إليها، وقال :
ـ بلاش تكملي.. اثبتي على عاصم أنا بحبك وبس..
ابتسمت بقلة حيلة ، مغلوبة على أمرها، وقالت :
ـ أنا بحبك ، بحبك وحبي ليك مخوفني.. مش متخيلة إني ممكن أتصدم فيك في يوم من الأيام.
تنهد وهو يتجول بعينيه في ملامحها الذي يفتتن بها كل يوم أكثر، وقال :
ـ هو أنتي طالعة حلوة كده لمين ؟
رفعت إحدى حاجبيها بتذمر، فقال :
ـ والله ما بهزر .. السؤال ده بيراودني من أول يوم شفتك فيه.. انتي حلوة كده لمين ؟! مين في العيلة زي القمر كده ؟ أعتقد مفيش .
رفعت حاجبيها الاثنين فانفجر ضاحكا، وقال وهو ينظر إلى عينيها بتركيز أشد :
ـ يعني عينيكي مثلا.. أراهنك إن كان في حد في العيلة كلها عيونه حلوة كده .
ابتسمت، فتابع بجدية شديدة :
ـ تعرفي.. غلطة واحدة في حقك عملها سالم مرسال ممكن أغفرها له ..
قطبت جبينها بتعجب وهزت رأسها باستفهام، فقال :
ـ إنه فضل مخبيكي طول السنين دي كلها لحد ما جيت أنا وخطفتك منه .
ابتسمت، و أومأت قائلة:
ـ معاك حق، مين عارف لو وضعي كان مختلف جايز كنت متجوزة من زمان ومعايا أربع اطفال كمان .
ـ ومين عارف.. يمكن لو كنت قابلتك وانتي متجوزة ومعاكي أربع أطفال كنت وقعت على بوزي وحبيتك بردو ..
ضحكت بخفوت فقال :
ـ ماهو الجمال ده مستحيل حد يشوفه وميغرمش بيه يعني..
أخذت تنظر إليه بابتسامة، تراقب ملامحه بحبٍ عميق، ثم باغتته بقبلة مجنونة فوق شفتيه ، جعلته ينظر إليها مذهولا، وابتسم وهو يقول :
ـ انتي قد جر الشكل ده ؟!
أومأت بابتسامة فهز رأسه باستسلام وقال :
ـ طيب.. انتي اللي جبتيه لنفسك ..
ونهض وهو يحملها بذراعيه القويتين، يتقدم بها للداخل وهو ينظر إليها ويقول ممازحًا :
ـ بس إيه رأيك في جوزك ؟ كنت واقف أسد مش كده ؟
ضحكت وأومأت قائلة :
ـ بصراحة كنت فخورة بيك أوي .
استعار شفتيها في قبلة ممتنة، أعقبتها قبلة شغوفة، ثم ثالثة عاشقة، قبل أن يسند جبهته على جبينها، وقال بنبرة صادقة:
ـ وأنا كنت وما زلت وهفضل دايمًا فخور بيكي يا روحي،
༺═────────────────═༻
صباحًا في مصر ..
جلس سالم محدقًا في الخبر أمامه، يتفحص الصور والعنوان العريض الذي يعلن:
"ظهور بطل الملاكمة السابق عاصم الدالي وزوجته في إحدى المحافل الدولية".
كان الحقد والغضب يتدفقان من عينيه وهو يمعن النظر في صورة عاصم المتألق، وكأنه في أفضل حالاته، ما جعل طاقته تنخفض تدريجيًا، وبدأ شعور الضيق يتسلل إلى صدره.
وأثناء تقليبه للأخبار والصور، لفت انتباهه مقطع فيديو ظهر فيه عاصم وهو يسلم الدرع لنسيم، ويقول شيئًا بلغة لم يفهمها سالم، لكنه التقط ما استوقفه وجعله يحدق في الشاشة بدهشة، كأنه يطالع عاصم أمامه مباشرة:
ـ نعم!! نسيم الدالي؟!! نسيم الدالي مين يا ابن ال****
ألقي سالم خرطوم الأرجيلة من يده، فسقطت الأرجيلة أرضًا، وعلى الفور أمسك بهاتفه، حاول الاتصال برقم نسيم، ولكنه كان مغلقًا، فاتصل بنادر، وما إن أجابه حتى قال بانفعال:
ـ أيوة يا نادر.. شفت الخبر اللي مالي المواقع ؟! بيقوللك نسيم الدالي ؟! نسيم الدالي يا نادر !! وهي واقفة جنبه فاسخه سنانها والضحكة من الودن للودن وفرحانة إن بقا اسمها نسيم الدالي!!
على الجانب الآخر، تحدث نادر بهدوئه المعتاد:
ـ اهدى يا باشا.. انت فاهم غلط !
ليصيح فيه سالم بانفعال ويهتف غاضبًا:
ـ فاهم غلط إيه بقوللك بيسلمها الدرع وبيقول نسيم الدالي… الكلمة خرمت وداني يا نادر ، أنا حتى لو مش فاهم هو بيقول إيه لكن سمعي عشرة على عشرة ..
ـ يا باشا أنا معاك، لكن دي عوايدهم هناك .. الزوجة بتتقدم بإسم زوجها .. ده كل الموضوع.
ـ لا لا لا.. سيبك من الكلام الفاضي ده، أنا فاهم دماغه كويس أوي، الواد ده مش سهل وبيلعب بيها، دلوقتي بقا اسمها نسيم الدالي وهي عدتها له، بكرة هيخليها تتبرى من أهلها وعيلتها بإرادتها .. عاصم ده ديب وأنا فاهمه كويس !
تنهد نادر وقال:
ـ طيب اهدى يا باشا.. العصبية دي غلط على صحتك.
ولكن سالم انفعل مجددًا، وهتف بغضب عاصف:
ـ هما خلوا فيا صحة ! محسوبين عليا عيال وعزوة على الفاضي وهما قلالات الأصل، أنا أربي وأكبر وفي الآخر يقولك نسيم الدالي .. اخص على ده زمن !
لم يجد نادر ما يضيفه، فصمت، بينما واصل سالم حديثه بعصبية متصاعدة:
ـ عملت إيه في الموضوع التاني ؟! وصلت لفين ؟!
ـ لسه حالا كنت بكلم فريد ونصحته يعجل بافتتاح الشركة لأن ده الخبر اللي هيغطي على الخبر المنتشر حاليا ..
صاح سالم بانفعال:
ـ ومين اللي قاللك تعمل كده ؟! مين اللي قاللك إني عاوز حاجة تغطي على الخبر الحالي … ؟؟
ليجيبه الآخر بتعقل ووعي:
ـ لأن كل شيء بيزيد عن حده ينقلب ضده يا باشا.. الأخبار اللي من النوع ده بتأثر بالسلب على سوق العمل وبتخلي المستثمرين يراجعوا نفسهم ألف مرة قبل ما يشاركوا شخص حواليه حوارات زي دي.. وبعدين إحنا خلاص حققنا الهدف والخبر انتشر وأكيد وصلها ..
وتنهد ثم قال:
ـ على العموم إحنا عندنا من الخطط البديلة ما يكفي .. متقلقش خالص أنا متابع كل خطوة بنفسي ، أهم حاجة خلي بالك انت من صحتك وهدي أعصابك .. احنا محتاجينك يا باشا .
زفر سالم أنفاسه بضيق، وقال :
ـ اللي فيه الخير يقدمه ربنا ..
أنهى سالم المكالمة ووضع الهاتف جانبًا على الطاولة، وانحنى ليلتقط خرطوم الأرجيلة. ارتفع نظره ببطء، لتصطدم عيناه بساقين ممشوقتين تقفان أمامه، تأخذانه إلى الأعلى حتى تستقر أخيرًا على وجهها، حيث بدت ملامحها مشوبة بالتوتر الخفي.
قالت بهدوء، وكأنها تحاول كبح القلق الذي يحيط بها:
ـ دوا الضغط سعادتك.
ناولته الحبة، يعقبها كأس ماء، ثم التقطت الأرجيلة من يده وهي تقول:
ـ من فضلك بلاش تدخين .. التدخين بيرفع ضغط الدم وبيجهد القلب كمان.
تناول الدواء بصمت، ثم أشاح بوجهه عنها وهو يقول بحدة:
ـ خليكي في حالك.
ناولها الكأس، فالتقطته بصمت، ثم تابع بعينين شبه مغلقتين، كأنه يزن الكلمات قبل خروجها:
ـ انتي مش هتخافى على صحتي أكتر مني.
أطرقت برأسها أرضًا، محاولةً إخفاء توترها، وقالت بطاعة:
ـ اللي تشوفه حضرتك.. عن إذنك.
وانصرفت، بينما ظل هو ينظر أمامه وهو يحدث نفسه بغضب ويقول :
ـ مستغرب ليه يا سالم.. ما انت عارف إنهم صنف نمرود مبيطمرش فيه.. إشمعنا هي يعني!
وزفر بضيق شديد، ثم أطرق رأسه إلى الأمام، كأن ثقل ما يعتمل في صدره ويضغط عليه، تاركًا قلبه يئن بين الغضب والدهشة والتفكير في وطأة ما هو قادم .
༺═────────────────═༻
كان حسن على وشك مغادرة بوابة الفيلا حين ظهرت فجأة چيلان، تخترق الطريق بسيارتها لتدخل إلى الساحة بلا سابق إنذار.
توقف للحظة، ولم يتراجع، ولم تتراجع هي أيضًا، بل أطلقت زمور السيارة معترضة طريقه، ونظرت من نافذتها قائلة:
ـ ارجع لورا خليني أدخل ..
فرد عليها من نافذته قائلاً:
ـ ما ترجعي انتي خليني أخرج .
رمقته بغضب، وصرّت على أسنانها بحدة، ثم تراجعت بهدوء إلى الخلف. ثم دفعت دواسة البنزين مجددًا، وانطلقت لتصطدم بمقدمة سيارته بعنف، ثم تراجعت وعاودت التقدم بعنف لتكرر ما فعلته، إلا أنه انسحب سريعًا، متقهقرًا إلى الوراء مستسلماً، وهو يهتف بغضب :
ـ يا مجنونة يا بنت المجانين..
صفت چيلان سيارتها وأوقفتها، ثم ترجلت منها، فتبعها هو بالمثل، وألقى نظرة خاطفة على مقدمة سيارته، قائلاً:
ـ روحي منك لله يا چيلان يا بنت أم چيلان ..
واقترب منها حتى وقف أمامها وقال بحدة :
ـ بقوللك إيه يا بت انتي.. شغل الجنان بتاعك ده مش عليا .. متفكريش إني هسكت لك كتير ..
ربعت ذراعيها أمام صدرها، ووجهت إليه نظرة مليئة بالجسارة والثقة، وقالت:
ـ أعلى ما في خيلك اركبه .
كور قبضته بغضب مكتوم، واقترب بها نحو وجهها، فارتدت برأسها إلى الخلف في حركة مفاجئة أضفت عليها لمسة من اللطافة البالغة، فقال مبتسمًا:
ـ ما انتي بتخافي أهو.. أومال مستأسدة وعاملة فيها چيلان قلب الأسد ليه ؟!
رمقته بغيظ، وتحركت من أمامه، ولكنه استوقفها حيث أمسك بمعصمها وهو يقول :
ـ استني ..
نظرت إليه ثم إلى يده بحدة ، ونزعت معصمها من قبضته بعنف وهي تقول :
ـ عايز إيه ؟
ـ عايز أسألك على حاجة .
قطبت جبينها باستغراب وقالت :
ـ حاجة إيه بالظبط اللي عايز تسألني عليها، هو أنا في بيني وبينك إيه أصلا عشان تسألني…..
ـ افصلي شوية واديني فرصة أطرش البؤين…
كرمشت ملامحها في امتعاض وقالت :
ـ اتفضل…
نظر إليها بعينين مشدودتين بالجدية، تتخللهما لمحة من التهديد الصامت، وقال:
ـ انتي اللي قلتي لنغم إني ممكن أأذي فريد ؟! مش كده ؟!
ضيقت حاجبيها بتعجب، وظلت تحدّق فيه صامتة لوهلة، ثم قالت:
ـ وأنا هقول كده لنغم ليه ؟! إيه مصلحتي من كده ؟
ـ إنك تبعديها عن فريد وتلهفيه منها !
أجابها بثقة، فارتفع حاجبها بدهشة، وصمتت للحظة، ثم تقدمت خطوة نحوه وقالت:
ـ بقوللك إيه يا حسن …. ؟
نظر إليها بعينين تلمعان بالعبث، وقال:
ـ قول يا جميل .
ـ إنت عبيط ؟!
رفع حاجبه متفاجئًا، وقال بضيق :
ـ و ليه الغلط بقا ما كنتي مؤدبة وحلوة ..
ـ لأ بكلمك بجد .. انت عبيط ؟!
ـ اللهم طولك يا روح …
ـ انت فاكر نفسك إيه إنت ولا نغم بتاعتك دي ولا حتى فريد… تطلعوا إيه كلكم علشان أشغل نفسي بيكم للدرجة دي !!
هزّت چيلان رأسها بعبوس اليأس، متراجعة خطوة خلف خطوة نحو داخل الفيلا، بينما ارتفع صوته خلفها، يتردد في أرجاء المكان كأنما يحاول مجاراتها واستفزازها مجدداً.
ـ شوفي مع انك لسانك مبرد ومتبري منك بس حسن طالعة من بؤك زي العسل ..
ضحك ضحكته العابثة، مفعمًا بالانتصار لأنه شعر بنجاحه في استفزازها مرة أخرى، ثم عاد إلى جدية مهيبة، وهمس لنفسه بصوت خافت:
ـ هيكون مين ؟! زينب ؟! طب وزينب هتقولها كده ليه ؟! عاوزة تفرق بينها وبين فريد ليه ؟! تكونش عينيها منه ! أنا شاكك فيها من يوم ما شفتها وحاسس انها بتشجع الناشئين !
ثم زفر ، وأخرج هاتفه وقام بالاتصال بعمر:
ـ اومال إنت فين يا عموره .. خبطت عليك قبل ما أخرج ملقيتكش ؟!
ـ معلش يا حسن .. عندي مشوار مهم .. هكلمك لما أخلص.
ـ مشوار إيه ده ؟!
ـ بعدين يا حسن هحكيلك .. لازم أقفل دلوقتي .
وأنهى الاتصال ، فظل حسن يرمق الهاتف بيده بتعجب، ثم أعاده إلى جيبه ، وعاد يستقل سيارته لنكلق بها نحو مكتب نادر حيث سيلتقي هناك بالمهندس الذي يقوم بتصميم المخطط المبدئي للمزرعة .
༺═────────────────═༻
دخل فريد غرفة المرسم بعد انقطاع طويل عن الرسم، فتسللت رائحة الألوان والزيت إلى أنفه، وهدأت نفسه شيئًا فشيئًا. جلس أمام اللوحة الكبيرة المعلقة على الحامل، أمسك الفرشاة بيده مترددًا، وكأن عقله متشتت بين الحنين والفراغ الذي تركه ابتعاده عن الرسم.
بدأ يخط خطوطًا عشوائية، تموجات وألوانًا تتصارع بلا هدف واضح، وكأن يده تسير بلا وعي على اللوحة وهو غير مدرك إلى أين ستقوده هذه الفوضى.
ثم، بعد دقائق من التردد والتموج العشوائي، توقف فجأة، وحرك رأسه بخفة، ليكتشف في صمت مبهر أن خطوطه وألوانه، دون قصد، قد شكلت وجهًا مألوفًا. رفع عيناه بدهشة، وابتسامة خافتة ترتسم على شفتيه، إذ أدرك أخيرًا أنه رسم نغم، دون أن يشعر، وكأن ذاكرته البصرية أخذت يده لتعيد إليها صورتها الجميلة التي طالما طغت على كل مشاعره.
ظل متحيرًا لوهلة، ينظر إلى اللوحة وكأنها تعكس شيئًا من داخله لم يجرؤ على مواجهته سابقًا. الألوان المبعثرة، والخطوط التي بدت في البداية عشوائية، اجتمعت لتكوّن ملامح نغم الدقيقة، ابتسامتها الخجولة، عينيها اللامعتين، وحتى شعاع الضوء الذي كان ينساب على وجهها بدا وكأنه ينبض بالحياة.
اقترب فريد من اللوحة، ومد يده ببطء على سطحها وكأنه يلمس ذاكرة حية.
قلبه تسارع، ومزيج من الدهشة والشوق اجتاحه، فهو لم يخطط لرسمها، لكن في كل خط، وكل لون، شعر بأن يده كانت تقوده نحو الحقيقة : أنه لم ينسَها، ولن ينساها، وأنها كانت دومًا وستظل ملهمته، حتى وإن غاب عن مرسمه أو عن حياته اليومية.. حتى وإن غابت هي عن عينيه.
استمع فريد إلى رنين هاتفه، فغادر المرسم وعاد إلى غرفته، التقط الهاتف فإذا به يجدها سيلين، فأجاب بهدوء يتخلله الانزعاج :
ـ مرحبا سيلين.
ـ مرحبا فريد، كيف حالك؟ لقد اتصلت بك لأخبرك أن المشكلة مع يافوز قد انتهت، بعد الخطاب الذي أرسله إليه محاميك… خاف وسحب تهديداته كلها، وأرسل لي بريدًا اليوم قال فيه إنه لن يعترض طريقي مرة أخرى.
تنهد فريد وقال:
ـ جيد إذًا…
ـ في الحقيقة، الفضل يرجع لك ولمحاميك الخاص، لولاكم لما استطعت عبور تلك المحنة.
ـ لا عليكِ سيلين…
ـ في الحقيقة، وددت أن أعتذر عما حدث بسببي وبسبب تهوري، لقد وضعتك في مأزق يا رجل.
تنهد فريد وقال باختصار:
ـ لا عليكِ، سيلين، كل شيء يمر.
أنهى فريد الاتصال باقتضاب، ثم حاول الاتصال بنادر، ولكنه لم يجب. فالتقط حاسوبه وبدأ يراجع تسجيلات الدار، فهي السبيل الوحيد الذي سيمكنه من رؤية نغم. وما لفت انتباهه أكثر كانت زيارتها الأخيرة، حين التقت بحسن، وكان الضيق بادياً عليها حتى أنها تركتهم وغادرت، فظهر بعدها حسن وهو يركض خلفها، وتوقفا أمام الدار يتناحران بغضب حتى أوقفت نغم سيارة أجرة.
اجتاح فريد شعور بالغضب، وكأن الدماء تتدفق بعنف في رأسه، وأيقن أن حسن هو السبب فيما حل بنغم، وهو السبب الذي حاولت هي دوماً إنكاره، فاستبد به مزيج من الغيرة والحنق والقلق، وجعل قلبه يخفق بعنف بينما عاد ليجول بخاطره كل التفاصيل التي شهدها..
وبينما كان يفكر بعمق، رن هاتفه برقم الشاب الذي كلفه بمراقبة نغم، وأخبره أن الصحفيين لا يفارقون بوابة المجمع، ويعترضون طريق نغم في كل مرة تحاول فيها الخروج.
شعر فريد حينها بالعجز والضيق؛ فقد كان بعيدًا عنها، وكان الشعور يثقل صدره لأنها تتعرض لمثل هذه المضايقات، وهو يعلم أنها وحيدة وضعيفة، ولا تملك وسيلة تدافع بها عن نفسها. لم يجد أمامه سوى الاتصال بإدارة المجمع السكني، وشرح لهم الوضع بالتفصيل، مطالبًا بتأمينها وحمايتها، والتعامل بحزم مع أي صحفي أو متطفل يحاول اختراق حياتها، مؤكدًا لهم أنه لن يتهاون في محاسبة كل من يزعجها أو يتدخل في خصوصياتها.
وما إن أنهى الاتصال، حتى قرر في قرارة نفسه أن يعود إلى مصر على وجه السرعة، فور الانتهاء من افتتاح الشركة .
༺═────────────────═༻
جلست نغم على الفراش في غرفتها، غارقة في حزن عميق، دموعها تنهمر بلا توقف، وكأن قلبها يفيض بالألم المكبوت داخلها .شعرت بارتجاف قلبها بين الحين والآخر، وكأن كل خفقة تتردد فيها تتضاعف وطأتها عليها. نهضت ببطء، واقتربت من الشباك، وأسندت رأسها عليه، تراقب بوابة المجمع من بعيد، عيناها تلاحقان كل حركة، وبينما هي مستغرقة في مراقبتها القلقة، رن جرس الباب فجأة، فأجفلت ، ولكنها ذهبت لتفتح فأذا بها تفاجأ بشخص لم تتوقع قدومه على الإطلاق!!
ـ عمر ؟!
أومأ عمر موافقا، وقال :
ـ ممكن أدخل ؟!
نظرت خلفه، وقالت:
ـ إنت دخلت إزاي أصلا ، عرفت تعدي منهم إزاي ؟
أجابها بهدوء:
ـ اتصرفت ..
أومأت باقتضاب وقالت :
ـ اتفضل ..
دخل عمر يبدو على ملامحه التوتر ، قادته نحو غرفة المعيشة، فجلس ، فجلست على مقعد في مواجهته وقالت :
ـ تشرب ايه ؟
ـ لأ أبدا أنا مش جاي أشرب ..
أومأت ، وقالت :
ـ أكيد جاي عشان تعرف إيه اللي ورا اللي بيتقال مش كده ؟
ـ بصراحة أنا عندي تساؤلات كتير يا نغم ، أولها إيه سبب بعدك عن فريد.. انا احترمت رغبتك المرة اللي فاتت انك مش عاوزة تجاوبي.. لكن بعد اللي حصل وبعد الاشاعات اللي طلعت لازم أعرف منك ايه السبب انك تبعدي عنه فجأه، وايه اللي يخلي واحده زي دي تدخل حياته بالسرعه دي..
ـ تقدر تسأله .
قالتها بحزن حاولت السيطرة عليه، فقال :
ـ أنا فعلا سألته ..
فنظرت إليه بترقب وقالت بقلب يقف على أطراف الأصابع بتوجس :
ـ وقاللك إيه ؟!
ـ مش مهم اللي قاله .. أنا عاوز أسمع منك انتي إيه السبب يا نغم .. ليه بعدتي عن فريد فجأة ؟
نظرت إليه وبدأت عيناها تتعبأ بالدموع في قهر ، فقال :
ـ لو خايفة إني أحكي لحد صدقيني والله العظيم مش هحكي أبدا.. بس صارحيني.. انتي فعلا حد قاللك إن حسن بيفكر يأذي فريد علشان كده خفتي على فريد وبعدتي ؟!!
نظرت إليه بدهشة، وقالت :
ـ عرفت منين ؟!
ـ حسن قاللي..
احتدت ملامحها عند ذكر اسمه، ولكن عمر اسرع يقول :
ـ أيًا كان اللي قاللك كده مين فهو كداب ..
طالعته باستغراب فأومأ، وكرر حديثه بثقة وقال :
ـ حسن مستحيل يفكر في أذية فريد ، حسن بنفسه قاللي واحنا في العزبة إنه نفسه علاقته بفريد تتحسن ويبقوا كويسين مع بعض.. وانه مفيش عنده أي نية يأذيه، أقسم بالله ده حصل يا نغم وأنا واثق إن حسن صادق في كل كلمة .
أجهشت نغم بالبكاء بقلة حيلة، فنظر إليها عمر بشفقة، وصمت قليلا ثم قال :
ـ سالم مرسال… ؟؟
رفعت ناظريها إليه فجأة، فزم شفتيه بأسى، وأخذ يهز رأسه ببطء وإدراك وهو يقول :
ـ كنت حاسس والله إنه هو اللي ورا اللعبة القذرة دي.. وطبعا صدقتي كلامه وبعدتي عن فريد.. نفذتي له طلبه بسهولة وبدون مجهود .
أطرقت برأسها أرضًا، وقالت وهي تنظر أمامها بحزن :
ـ أيًا كان اللي هو قاله يا عمر وأيًا كان اللي حصل، أنا وفريد خلاص كل الطرق اللي بيننا بقت مسدودة، هو كان مخدش وقت طويل وتخطاني وعاش حياته ..
لم يجد ما يقوله، فهو أيضا يشعر بالغضب الشديد تجاه فريد وإلى الآن لا يملك أي معلومة واضحة عن سبب تلك الحماقة التي ارتكبها فريد .
وتنهد ثم قال :
ـ اسمعيني يا نغم ، أنا جاي لك النهارده بصفتي عمر مرسال.. أخو فريد وحسن.. وعاوز أقوللك إني أكتر واحد عارف سالم مرسال بيعمل إيه وبيحاول يوصل لإيه.. سالم مرسال لازم دايمًا يكون المتحكم والمسيطر في شؤون الكل، لو معملش كده يتجلط.. شايف إنه لازم يدير الكون كله على مزاجه، ويرسم لكل اللي حواليه حياتهم بقلمه هو.. وطالما جالك لحد هنا، وقاللك ابعدي عن فريد يبقا تعرفي إنه بيدبر للعبة كبيرة أوي من وراكي انتي مش عارفاها، واللي أنا بقيت متأكد منه دلوقتي إن فريد هو كمان بيتعرض لنفس اللعبة وهو مش واعي.. هي دي طبيعة سالم مرسال ، ميعرفش يعيش من غير خطط ومؤامرات.
ـ ولما فريد حضنها كان بيتعرض لمؤامرة بردو ؟!
سألته ونبرة صوتها تمتزج فيها اللوعة بالقهر، فتنهد عمر وقال :
ـ مقولتش إنه مش غلطان ، بس بردو الصورة مش دليل.. ممكن جدا تكون متفبركة.. وحتى لو حقيقية فأنا متأكد إن وراها حكاية غير اللي بتتحكي وبتتقال.. صدقيني يا نغم مش كل حاجه بنشوفها بتبقا حقيقية .
شتتها حديثه، وأشعرها بالعجز أكثر ، بينما هو ظل يحدق فيها بحسرة وهو يقول :
ـ أنا خلصت اللي عندي .. كل اللي عاوز أقوله ليكي إن فريد يستحق فرصة منك تفهمي هو ليه وازاي عمل كده، وحسن كمان يستحق منك فرصة لأنه مش شخص أناني ومؤذي أبدا ولا عمره ممكن يفكر يأذي فريد.. بالعكس.. ده يفدينا بروحه وأنا واثق من كده.. وفي النهاية عاوز أحذرك.. متسمحيش لسالم مرسال يتلاعب بيكي زي ما طول عمره بيتلاعب بالكل .. انفدي بجلدك.
نهض استعدادا للمغادرة ، ثم نظر إليها قبل أن ينصرف وقال :
ـ يا رب تفكري في كلامي .
نظرت إليه بهدوء، ثم أومأت بصمت، فغادر وهو يشعر بالراحة لأنه أخيرا فعل شيئا بإمكانه أن يساعد أخويه به، بينما تركها هي في حالة من التخبط، ممزقة بين مشاعرها، تتقاذفها الأمواج المتلاطمة بين الحيرة والخوف، وقلبها يبحث عن الأمان بين عاصفة لا تهدأ .
_______
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق