القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي والثلاثون 31بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي والثلاثون 31بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات






رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي والثلاثون 31بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


ـ ٣١ ـ


~ الحب لعنة !! ~

ـــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


أخذت نسيم تتطلع عبر نافذة السيارة التي تنساب ببطء بين الأزقة الضيقة، عيناها مثقلتان بالشرود تلتقطان تفاصيل المكان بلا وعي، ويدها في يد عاصم، أصابعها ساكنة بينما أصابعه تضغط عليها بخفة كأنه يحاول أن يبث فيها الروح.


 ظل يتأمل ملامحها الواجمة، عبوسها الذي يشوه رقتها المعتادة، حتى مد يده الأخرى إلى ذقنها وهزها بخفة، كأنه يحاول أن يستفز ابتسامة من شفاهها الحزينة، وقال ضاحكًا وهو يراقبها بعينين لا تفارقها:

ـ ليه التكشيرة دي؟ أنا كده هبدأ أشك إنك حبيتي كوبا أكتر مني..


نظرت إليه وحاولت رسم ابتسامة قصيرة ولكنها بدت متأثرة للغاية، وهي تقول :

ـ مش عاوزة أرجع يا عاصم.. فكرة إننا لوحدنا في بلد محدش يعرفنا فيها مريحاني نفسيا.. 


فابتسم هو، وبصوت واثق قال :

ـ أوعدك أول ما الظروف تسمح هنشتري بيت هنا .


ابتسمت ابتسامة ممتنة، فربت على يدها وقال :

ـ ولحد ما يكون لنا بيت هنا هنيجي كل فترة نقضي هنا أسبوع ولا حاجه.. محلولة يعني يا نسومة متضايقيش نفسك بقا .


أومأت بهدوء، فقبل يدها وقال :

ـ روقي كده علشان المكان اللي احنا رايحينه دلوقتي ده هيعجبك أوي.. وبعدها هاخدك تزوري ضريح عمك جيفارا وتقري له الفاتحة ..


ابتسمت لمزحته فابتسم ومال يهمس إليها :

ـ كل لما بتضحكي ببقا عايز أبوسك بصراحة .. ضحكتك حلوة أوي .


نظرت إليه وابتسمت ثم قالت:

ـ وانت موطي صوتك ليه؟ على أساس إنه هيفهمنا يعني ؟


ـ الحرص واجب بردو.. مين عارف مش يمكن بيفهم عربي ويسمعني وأنا بتحرش بيكي لفظيًا كده !


أغمضت عينيها وهي تهز رأسها بيأس من تصريحاته الجريئة التي يمطرها بها منذ الصباح ، وتنهدت وهي تحاول تجاهل سيل تعليقاته العابثة، ثم قالت:

ـ إحنا رايحين فين دلوقتي ؟


ـ هتعرفي لما نوصل.. خليها مفاجأة.


سكتت نسيم، لكن عينيها ظلتا تلاحقانه بريبةٍ لطيفة، بينما قلبها يزداد فضولًا مع كل منعطف تسلكه السيارة. كانت تشعر أنها ذاهبة إلى شيءٍ مختلف، شيءٍ سيترك بصمة في روحها.


وبعد دقائق من السير بين الطرق المتعرجة، توقف التاكسي عند سفح تلة تطل على البحر. مدّ عاصم يده إليها وهو يقول بابتسامة واثقة:

ـ يلا ننزل… وصلنا.


ترجلت من السيارة، وقد اتسعت عيناها بدهشة ممزوجة بفضول طفولي كلما خطت خطوة للأمام.

 كان المكان أشبه بمزار صغير على التلة، يتوسطه حوض حجري دائري تتجمع فيه مياه المطر، وأرضيته مغطاة بعملات معدنية لامعة وصدئة، بعضها مغمور تحت الماء وبعضها متناثر على الأطراف.


توقفت نسيم في مكانها وهمست بدهشة:

ـ إيه ده ؟!


ابتسم عاصم وهو يتأمل المشهد حوله وقال:

ـ ده بقى يا ستي مزار الأمنيات ، مكان مشهور هنا في كوبا… 


ونظر إليها وابتسم :

ـ بيقولوا أي حد يرمي هنا عملة ويتمنى أمنية، أمنيته بتتحقق.


ضحكت بخفة وهزت رأسها:

ـ يعني كل الـ coins دي عبارة عن أمنيات !!


أومأ موافقًا بصمت، ثم نظر إليها وابتسم وهو يمد يده بجيبه ويخرج عملتين معدنيتين وناولها واحدة ثم قال:

ـ اتفضلي يا نسيم هانم.. اتمني أمنية في سرك وبعدين ارميها ..


أمسكت منه العملة، ضمتها بين قبضتيها، ثم رفعتها إلى فمها وهمست فيها بما تتمناه، ثم رمَت العملة، فارتطمت بالماء وأحدثت دوائر صغيرة تماوجت ثم اختفت. 


حين فتحت عينيها، التفتت إلى عاصم لتجده يحدق فيها مبتسما بهدوء، ثم قال :

ـ اتمنيتي إيه ؟


رفعت حاجبيها مبتسمةً وقالت :

ـ وانت مالك ! 


فابتسم وأومأ فقالت بنبرة فضولية:

ـ طب وإنت؟ مش هتتمنى أمنية ؟


أومأ صامتًا، ثم نظر إلى العملة بيده، تأملها طويلًا، وفي داخله ترددت آلاف الأمنيات، ثم ابتسم وهو يقذفها فارتطمت بالماء قبل أن تغوص في القاع .


تأملت نسيم ملامحه لحظتها، وتساءلت بفضول :

ـ يا ترى إيه اللي تمنيته ؟


فنظر إليها ورفع حاجبيه مقلدًا طريقتها وقال :

ـ وانتي مالك ؟


ضحكت فضحك بدوره ثم قال وهو ينظر إليها مبتسما:

ـ اتمنيت إنك تفضلي طول العمر معايا وجنبي وأجيب منك دستة عيال كلهم شبهك ..


غمرتها موجة جارفة من الحنين والحب والسعادة، فاندفعت إلى عناقه بشوق، تضمّه بقوة كأنها تخشى افلاته. 


ابتسم وهو يبادلها العناق، ثم مال على أذنها وقال بنبرة دافئة مازحة:

ـ مش هتقولي بقى اتمنيتي إيه؟ المفروض تقولي زي ما أنا قلت لك على فكرة .


ضحكت بخفة ونظرت إليه وقالت مغيرة مجرى الحديث :

ـ ودلوقتي بعد ما جينا مزار الأمنيات المفروض نزور ضريح چيفارا .. 


ضيق عينيه وقال مبتسما:

ـ بتتوهيني ها.. على العموم أيوة .. هنزور دلوقتي ضريح چيفارا في سانتا كلارا ، الطريق هياخد مننا حوالي ساعتين ونص، وبعدها هنرجع على هافانا نجهز حالنا علشان ميعاد الطيارة ٩ بالليل .


عادت لعبوسها من جديد فابتسم وهو وهو يحايلها كطفلة صغيرة ويقول :

ـ متزعلش يا حبيبي .. هعوضها لك تاني والله .


تنهدت مطولا فقال :

ـ يلا.. خلينا نلحق نروح ونرجع .


غادرا المزار بخطًى هادئة بعد أن التقط لها عاصم عشرات الصور بجوار كل ركن، وكأن المكان ما زال يحتفظ بقطعة من أرواحهما. ثم استوقف عاصم سيارة أجرة، فتقدما إليها وجلسا في المقعد الخلفي. أعطى السائق العنوان المطلوب، ثم مال بجسده ليستقر إلى جوارها، ومد ذراعه خلف رأسها برفق. 


استسلمت نسيم لتلك اللحظة وأسندت رأسها على كتفه، متأملة الشوارع التي أخذت السيارة تتوغل فيها ببطء.


كانت السيارة تهتز اهتزازًا خفيفًا مع كل منعطف، فيما ارتفع هدير محركها القديم ليغمر صمتهما. أمال عاصم رأسه قليلًا حتى لامس رأسها، فابتسمت في هدوء، ثم رفعت صوتها لتغطي على ضوضاء المحرك وهي تقول بخفة:

ـ عاصم… إنت واثق إن العربية دي هتستحمل مشوار ساعتين ونص؟ أنا حاسة آخرها ساعة وكل حتة فيها هتطير في ناحية!


ضحك عاصم، ثم قال :

ـ متقلقيش.. العربيات هنا قديمة فعلا لكن متينة ! وده لأن بعد الثورة الكوبية سنة ٥٩ والقطيعة اللي حصلت مع الولايات المتحدة اتفرض على كوبا حظر تجاري، وما بقوش قادرين يستوردوا عربيات أو قطع غيار أمريكية؛ عشان كده الناس هنا اضطروا يخلوا العربيات اللي عندهم تعيش أطول فترة ممكنة. فكانوا بيصلحوها بطرق بدائية، ويركبوا لها قطع غيار من شاحنات روسية أو حتى يخترعوا قطع غيار بنفسهم . والنتيجة إن العربيات دي اتحولت لرمز من رموز كوبا. ودلوقتي بقت جزء من هويتها السياحية، والسائحين اللي بيزوروا كوبا لازم بيركبوا العربيات دي عشان يعيشوا الجو الكلاسيكي بتاع الخمسينات .


ابتسمت نسيم وهي تتأمل السيارات القديمة التي تجوب الشوارع من حولهما كلما تقدما أكثر، وقالت :

ـ علشان كده كل حاجه هنا في البلد قديمة مش العربيات بس !


أومأ مؤكدًا وقال :

ـ بالظبط. كوبا لسه متأثرة بالحظر الأمريكي اللي استمر عليها سنين طويلة ، وده خلّى البلد معزولة اقتصاديًا وتقنيًا. صحيح فيه دول بتتعامل معاها زي روسيا و الصين لكن مستوى الانفتاح محدود جدًا مقارنة بأي بلد تاني.. وعلشان كده في أغلب الشوارع إن مكانش كلها تحسي إنك رجعتي لزمن الستينات .. البيوت والمحلات والمطاعم.. كل حاجة محتفظة بالطراز الإسباني القديم.


أومأت وهي تنظر حولها مبتسمة، ثم قالت:

ـ إنت أكيد كنت ممتاز في مادة التاريخ… مش كده ؟


أومأ نافيًا وقال :

ـ بالعكس.. أكتر مادة مكنتش بحب أحضرها ولا أذاكرها.


التفتت إليه بتعجب فأومأ مؤكدًا وقال :

ـ مادة وحيدة اللي كنت بقفل فيها ودايما بطلع الأول ..


هزت رأسها بتساؤل، فأجابها مبتسمًا إبتسامة عريضة واثقة تكشف عن مشاغبته المعتادة:

ـ الأحياء.


تجهم وجهها وقالت وهي تشيح بوجهها عنه، بينما ابتسامة صغيرة خانتها ظهرت على طرف شفتيها :

ـ ممم.. وقح من صغرك يعني !! 


فقهقه ضاحكًا وقال :

ـ إيه الوقاحة في كدة ! مادة زي أي مادة .. انتي اللي دماغك راحت لبعيد ..


هزت رأسها ببطء، تنفست بعمق، ثم قالت محاولة تغيير دفة الحديث:

ـ خلاص خلينا في التاريخ أحسن… يلا احكيلي.


༺═────────────────═༻


مساءًا بتوقيت القاهرة .


كان حسن جالسًا في الحديقة، يحدق في الفراغ بشرود عميق، والأفكار تتناوب على رأسه. لا يزال الأمر يشغله: هل نغم هي الفتاة المقصودة بالخبر فعلًا؟ هل ارتكبت ذلك؟ وبعيدًا عن هذا السؤال، ما زال هناك ما يطحن قلبه ليلًا ونهارًا: من الذي ألقى الوقيعة بينهما؟ وما مصلحته من ذلك؟


وحين يئس من الوصول إلى إجابة بعقله، قرر أن يهاتفها. عليه أن يسمع منها، أن يفهم القصة كاملة، لا يجوز أن يظل الأمر معلقًا أكثر من هذا.


أمسك بهاتفه عازمًا على الاتصال، لكن دخول سيارة عمر إلى الفيلا استوقفه. ترك الهاتف على الطاولة، وثبّت عينيه على أخيه وهو يصفّ السيارة ثم يترجل متجهًا نحوه قائلًا بهدوء:

ـ قاعد ليه كده؟! الوقت اتأخر؟


ـ انت بتقوللي أنا الوقت اتأخر ؟! كنت فين ؟ … 


سأله حسن بهدوء ممزوج بالحدة، فابتسم عمر ، وقال:

ـ جرا إيه يا أبو علي ؟ مالك قلبت على سالم مرسال كده ! وبعدين الوقت مش متأخر يعني !


ـ مش بهزر يا عمر .. الساعة داخلة على ١١ وإنت طول اليوم بره.. كنت بتعمل إيه كل ده ؟! 


جلس عمر بجواره وقال بعد أن تنهد :

ـ والله طول اليوم بلف بالعربية بلا هدف.. فكرت أروح الدار بس قلت بلاش .. مش شغلانة هي .


ضحك حسن بخفة تمتلأ بالشغب وقال :

ـ مرار لسه قالبة عليك ولا إيه ؟


ابتسم عمر بقلة حيلة وأومأ ، فقال حسن :

ـ البنات دول يا أخي ملهمش كتالوج .. صعب الواحد يفهمهم ويعرف هما عاوزين إيه .. الله يكون في عونك يا حبيب أخوك..


ابتسم عمر ونظر إليه قائلا :

ـ الله يكون في عوننا كلنا .. الحب ده طلع حاجة متعبة أوي يا حسن.. 


تنهد حسن وهو يعقد ساعديه خلف رأسه ويقول بعد أن أطلق تنهيدة كبيرة :

ـ ومين سمعك.. صدق اللي قال الحب بهدلة .


ابتسم عمر ونظر إليه وقال :

ـ إنت عمرك حبيت بجد يا حسن ؟! 


قطب حسن جبينه، وأشاح بوجهه قليلا وقال :

ـ وهو في حب بجد وحب كده وكده ؟


ليجيبه عمر بابتسامة مؤكدة ويقول :

ـ طبعا.. 


نظر إليه حسن مجددا بانتباه، وسأله :

ـ إنت شكلك خبير ياد انت وإحنا مستقليين بيك .. صغير بس محير .


ابتسم عمر مغلوبًا على أمره وقال :

ـ ولا خبير ولا نيلة .. ده أنا أكتر واحد فاشل في العلاقات عامةً .. لكن ده ميمنعش إني بعرف أميز يعني بين إن الواحد يكون بيحب أو موهوم إنه بيحب !


استوقفه كلام عمر، فنظر إليه بطرف عينه بهدوء، ثم التفت ليواجهه بكامل تركيزه وقال :

ـ و إيه الفرق بقا من وجهة نظرك ؟


نظر عمر أمامه، ثم ابتسم بمرارة وهو يتنهد، ثم قال:

ـ أعتقد الفرق بين الاثنين… إن الحب الحقيقي بيخلي الواحد عايز يدي أكتر ما ياخد، بيخليه صبور حتى لو اتوجع، وبيخليه يشوف عيوب التاني بوضوح بس برضه يفضل متمسك بيه. إنما الوهم… بيبقا كله اندفاع، شغف سريع، ولهفة عمرها قصير. الواحد يتصور إنه بيحب، بس في الحقيقة هو متعلق بفكرة، أو بصورة في دماغه عن الشخص ده.. مش متعلق بالشخص نفسه.


ظل الآخر صامتًا، يتأمل كلماته بعمق، كأنه يحاول إسقاطها على حاله دون أن يُظهر شيئًا. يفكر، يغوص في أعماق ذاكرته، يستعرض كل لحظة وكل تصرف صدر عنه تجاه نغم، يحاول أن يميز بين ما كان حبًا صادقًا وما كان وهمًا.


 تتقاطع أمام عينيه مشاهد التسلط، الغيرة، التحكم، الاهتمام المبالغ فيه، والمخاوف التي لم تكن إلا شعورًا بالملكية، فتختلط عليه الأمور.


شعر بالمرارة وهو يدرك ويقر في نفسه أن كثيرًا من أفعاله لم تُرتكب بدافع الحب الخالص، بل من رغبة في التحكم والسيطرة، ومن خوفه على فقدانها. ومع كل هذا، تخلل قلبه شعور بالحزن، لأنه أدرك أنه ربما لم يعرف الحب الحقيقي من قبل، وأن ما عاشه مع نغم كان مزيجًا من حب ملوث بالسيطرة والتمسك بالوهم.


ـ تفتكر يا حسن إنت حبيت نغم بجد ولا كنت موهوم إنك بتحبها ؟! 


التفت إليه حسن متفاجئا أن أخيه قرأ أفكاره، وخرج من فوهة شروده ونظر إليه بانتباه، ثم تنهد ببطء وقال :

ـ أكيد يعني مش موهوم طول السنين اللي فاتت دي كلها.. وبعدين إيه لزمة الكلام ده دلوقتي هي ناقصة غم عالمسا ..


صاح بالأخيرة حانقًا فابتسم عمر وتجاوز حنقه، ثم تابع قائلا :

ـ يا عم أدينا بندردش.. مالك قفشت ليه ؟


أجابه حسن وهو يتهرب بعينيه من نظرات أخيه التي تلاحقه، وقال :

ـ مش كده.. بس يعني حبي لنغم .. أو.. أقصد زمان يعني لما كنت بحبها …


هنا قاطعه عمر وقال مبتسما :

ـ أهو كلمة كنت دي أكبر دليل إنك موهوم يا أبو علي .


صمت حسن، وعيناه تتقلبان بين الأرض ووجه أخيه، كأن الكلمات التي سمعها للتو أثقلت قلبه ومنعته من الرد. كان يحاول أن يتشبث بإنكاره، أن يجد ثغرة ينفذ منها ليكذب ما سمع، لكن عمر لم يمنحه تلك الفرصة.


تابع عمر حديثه بنبرة هادئة، لكنها مشبعة بوعي عميق، أشبه بمن يضع مرآة أمام أخيه ليريه ما لا يريد أن يراه:

ـ اللي بيحب بجد يا حسن مستحيل يقدر يتجاوز الشخص اللي بيحبه أو ينساه بسهولة، الحب عامل زي الوشم محفور جوا القلب مهما حاولت تمحيه مش هتعرف.. مهما رحت ولا جيت.. مهما قابلت ناس وعرفت ناس.. 


وتابع وهو ينظر أمامه ويتخيل محاولا ٱيجاد وصف مناسب لما يرغب في قوله ، ثم تابع :

ـ الحب لعنة يا حسن.. بتفضل تطارد الإنسان لحد ما يموت.. فمعنى إنك تتجاوز نغم بسرعة كده يبقى إنت أصلا مكنتش بتحبها حب حقيقي . إنت كنت وحيد ونغم بالنسبة لك كانت الطريقة اللي بتملى بيها فراغك العاطفي طول حياتك.. لكن لما لقيتنا.. لما بقالك عيلة، أب وأخوات.. بقا عندك شغل ومش ناقصك أي حاجة وبقيت مرتاح نفسيا ومتحاوط بناس بتحبها وبتحبك فبدأ التعلق بنغم يقل وبدأ الوهم يتلاشى تدريجيا..


صمت حسن، والتفت إلى عمر بدهشة. كان يسمع منه نبرة لم يعتدها؛ نبرة مشبعة بوعي غريب، كأن أخاه الذي اعتاده ساخرًا مستهترًا قد غاب، وحل مكانه رجل آخر أكثر عمقًا وحكمة. وحتى عمر نفسه بدا كأنه يكتشف هذا العمق داخله لأول مرة.


ظل حسن صامتًا، كأنه يزن كل كلمة قالها عمر بعناية، وعيناه تحدقان في الفراغ وكأنهما تبحثان عن إجابة بين السطور. كان قلبه ينبض بوتيرة غير منتظمة، وخفقانه يختلط بالارتباك والدهشة. شعور غريب انتابه: مزيج من الإنكار والاعتراف، من التردد والرغبة في الموافقة، لكنه لم يجرؤ على النطق بأي رد. وتساؤلات عدة تتصاعد في رأسه: هل ما يقوله عمر حقيقي؟ هل فعلاً كل ما شعر به نحو نغم كان مجرد وهم؟ أم أنه كان حبًا بديهيًا متأخر الفهم؟ تنهد ببطء، وكأن تجربته السابقة مع نغم كانت تُعاد صياغتها في عقله، لحظة تلو الأخرى، ليكشف لنفسه الحقيقة المؤلمة: ربما كان كل ما شعر به مجرد انعكاس لفراغه، لا للحب الحقيقي.


نظر إليه عمر، فوجده غارقًا في شروده، وعلى ملامحه خليط من الحيرة والتشتت، كأن الأفكار تتصارع في رأسه بلا نهاية. بدت عيناه زائغتين تبحثان عن يقين ضائع، وشفتيه مزمومتين في صمت مرتبك. عندها قال عمر بصوت خافت يحمل مزيجًا من القلق والاطمئنان:

ـ بتفكر في إيه يا حسن؟


ـ مستغرب ؛ يعني أنا كل ده مش بحب نغم ؟! وكل الأذية اللي أذيتها لها دي كانت من غير داعي !! لأني بس كنت موهوم ؟!!! 


تنهد عمر ولم يجب، فتابع حسن بتخبط :

ـ أنا ظلمتها كتير أوي يا عمر.. لما براجع نفسي دلوقتي ببقا مستغربني .. إزاي كل ده حصل مني !! 


ربت عمر على كتفه وهو يحاول مساندته قائلًا:

ـ كلنا بنغلط يا حسن.. المهم إننا نحاول نصلح أخطائنا ومنكررهاش.


رفع حسن رأسه ببطء، وفي عينيه غصة ثقيلة كأنها شوكة مغروسة في قلبه لا تُنتزع، ثم قال بصوت مبحوح:

ـ واللي أنا عملته ده يتصلح إزاي ؟! أنا كنت السبب في كل اللي حصل لها يا عمر، ولحد دلوقتي أنا السبب في حزنها وضياعها.. أنا السبب إن فريد يبعد عنها.. حتى لو مليش يد في اللي حصل بس بردو هي بعدت عنه بسببي..


ارتسمت على وجهه ملامح العجز، عينان زائغتان تبحثان عن مخرج، يداه تمسكان بعضهما بقوة حتى بدت مفاصلهما مشدودة. كان كطفل تائه يطلب من أخيه دليلًا على أن ما ارتكبه لا يساوي وزرًا أبديًا.


أطرق عمر قليلًا، ثم رفع بصره بثبات وهو يقول:

ـ لأ يا حسن.. إنت مش السبب. إنت معملتش حاجة، إنت لا كان عندك نية تأذي فريد ولا تبعدهم عن بعض.. اللي بيحصل دلوقتي بعيد عنك تمامًا.


لكن حسن لم يقتنع بسهولة، ظل وجهه مشدودًا، وصدره يعلو ويهبط في أنفاس متلاحقة، كأن كلماته لم تصل إلى أعماقه بعد. كانت الهواجس تحاصره من كل صوب، بينما بدا عمر أكثر هدوءًا، ينظر إليه بثبات الأخ الذي يمد يده لينتشله من مستنقع جلد الذات.


أطبق حسن شفتيه بأسى، كأن الكلمات تختنق في حلقه ولا تجد سبيلًا للخروج. ارتد للخلف في جلسته، عيونه تدور في المكان بضيق كأن الجدران تقترب منه لتطبق على صدره. رفع كفيه المرتجفتين، ومسح وجهه بعصبية، ثم مررهما في شعره بقهر مكتوم وهو يردد بصوت مبحوح يختلط بالغضب:

ـ ياما نفسي أعرف مين اللي قالها الكلمتين الخايبين دول.. نفسي أمسكه بإيدي وأطبق في زمارة رقبته..!


صمت عمر قليلا يفكر ، ثم قال بهدوء :

ـ للأسف مش هتعرف !


انتفض حسن، ونظر إليه بانتباه، وقال :

ـ ليه ؟! مات ؟!


ضحك عمر بمرارة وقال :

ـ للأسف لسه ! حي يرزق بيرازي في خلق الله .


ـ أنت تعرفه ؟!


أومأ عمر وفي عينيه لمحة من الحزن والحسرة ، فبادر حسن قائلا بإصرار :

ـ هو مين ؟! 


نظر إليه عمر بهدوء ، ثم زفر وأجابه وهو يشيح بعيدا :

ـ السيد الوالد… سالم باشا مرسال .


كانت جملته مشبعة بسخرية مرة، لكن وقعها على مسامع حسن كان أشبه بصاعقة مزقت سكون الليل. تجمد في مكانه كأن جسده انغرس في الأرض، عيناه اتسعتا بذهول، وشفتيه تفرقتا عن بعضهما بلا كلمة، كأن النطق قد خان لسانه. للحظة شعر أن الزمن توقف، وأن الهواء ثقل من حوله، فلا هو قادر على استيعاب ما سمع، ولا على إنكار الصدمة التي اجتاحت كيانه دفعة واحدة.


ـ سالم مرسال !! أبونا !! 


أومأ عمر وتابع بنفس الحسرة :

ـ أبونا مع الأسف الشديد.


تجمدت ملامح حسن وتصلبت، ثم تجهم وجهه حتى بدا كأنه قناع من الغضب، وانبعث من عينيه بريق شرير متقد، بريق لو خرج من محيطه لأحرق البيت بما فيه. غلت الدماء في عروقه، وهتف بصوت مرتجف مشوب بالذهول والرفض:

ـ لأ.. مستحيل يكون هو..!


وكأن عقله يرفض تقبّل الحقيقة، يدفعها بعيدًا بكل ما أوتي من إنكار، وكأن كلمة "مستحيل" هي الحاجز الأخير بينه وبين هاوية الانكسار.


ـ هو يا حسن .. أنا سألت نغم وأكدتلي إنه هو .


نظر إليه حسن من جديد ونفس الصدمة ترافق معالمه ، وتمتم :

ـ نغم !


أومأ عمر وقال :

ـ أيوة.. قلت أزورها وأتكلم معاها جايز أفهم إيه سبب اللي حصل بينها وبين فريد فجأة خصوصا بعد اللي حصل مع فريد في أثينا ، ولما سألتها مين اللي قالها الكلام اللي قالتهولك بصراحة الإجابة كانت واضحة من غير كلام ..


ونظر أمامه واستطرد:

ـ الإجابة هي نفس الإجابة اللي ورا كل الأسئلة ، سالم مرسال.. كابوس حياتنا .. الشر اللي عمرنا ما هنتخلص منه حتى بعد موته.. عارف ليه ؟! 


نظر إليه حسن وهو لا يزال واجمًا، عيناه زائغتان كأنهما تبحثان عن مهرب من الحقيقة، فقال عمر بصوت هادئ لكنه مشبع بالمرارة:

ـ لأنه حتى لما يموت هيسيب تأثيره علينا.. هيسيب ذكراه محاصرانا.. وأفعاله اللي زي الزفت بتطاردنا منين ما نروح، هيفضل فارض سيطرته علينا وعلى مشاعرنا حتى بعد ما يموت . 


نهض حسن فجأة، كأن الأرض لم تعد تسعه، عيناه متقدتان بلهيب الغضب والخذلان، وملامحه متغيرة حتى كأنها لا تخصه. التفت إليه عمر بخوف ممزوج بالحذر وسأله:

ـ رايح فين يا حسن ؟!


أجابه حسن بصوت متحشرج يفيض بالانفعال:

ـ رايح لنغم.. لازم أعرف منها، لازم تقوللي هو قاللها إيه بالظبط! مش هرتاح غير لما أسمع منها .


لم ينتظر ردًا، انطلق بخطوات متوترة نحو سيارته، وكل حركة منه تكشف عن بركان يغلي داخله. حاول عمر اللحاق به، رفع صوته يناديه محاولًا أن يوقفه، لكن حسن كان قد أشعل المحرك وانطلق مسرعًا، يبتلع الطريق بعجلاته كأنه يبتلع الغضب الذي يكاد يمزقه.


جلس عمر في سيارته على عجل، تنهد بقلق، ثم تبعه دون تفكير. لم يكن يدري بالضبط ما الذي سيدور، لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا: أنه لا يستطيع أن يترك حسن وهو في تلك الحالة.


༺═────────────────═༻


قال حمدان وهو يرافق سالم حتى السيارة، بابتسامةٍ متودّدة:

ـ ما لسه بدري يا باشا.. ملحقناش نشبع منك والله.


أجابه سالم باقتضاب، كعادته حين يريد أن ينهي أي حديث سريعًا:

ـ ورايا أشغال يا حمدان ولازم أمشي .. هاجي في فرح بنتك متقلقش!


لكن حمدان صحّح مبتسمًا:

ـ فرح ابني مش بنتي يا باشا.. الخميس الجاي إن شاء الله عقبال ولادك.


توقف سالم لحظة، ونظر إليه بتمعّن للحظة، اكتفى بابتسامة باهتة وقال وهو يفتح باب السيارة:

ـ إن شاء الله.


جلست زينب إلى جوار الممرضة أحلام في المقعد الخلفي، بينما انطلق السائق عائدًا في أدراجه نحو القاهرة.


مرت نصف ساعة تقريبًا.. حين أخرج سالم هاتفه محاولًا الاتصال بنسيم مجددًا، لكن الهاتف ظلّ مغلقًا. زمّ شفتيه بغيظ، ثم التفت إلى زينب قائلاً:

ـ حاولي تكلمي نسيم .. بكلمها تليفونها مقفول.


نظرت إليه بدهشة لم تستطع إخفاءها وقالت:

ـ ماهو التليفون مقفول ، هكلمها ازاي؟


فجّر سالم غضبه فجأة، وهدر بصوتٍ حاد ارتجفت معه زينب:

ـ اتصرفي .. ما يمكن عملالي حظر .. رني عليها وانتي ساكتة!


ابتلعت زينب غصتها في صمتٍ مهين، ثم مدّت يدها المرتجفة وأخرجت هاتفها، حاولت الاتصال بنسيم فسمعت الرسالة المسجّلة ذاتها: الهاتف مغلق. وضعت الاتصال على مكبّر الصوت كي يسمع سالم بنفسه، ثم قالت بفتور:

ـ بردو مقفول.


حينها لم يعد سالم قادرًا على تقييد غضبه أكثر، فانفجر صوته وهو يتطاير شررًا:

ـ طبعااا.. قافلة تليفونها ومش عاوزة تعرف حد، هتعوز مننا إيه هي ؟! ماهي معاها اللي مكفيها .. عاصم بيه الدالي بنفسه اللي عمل لها غسيل مخ وخلاها تنسى أهلها وعيلتها كلهم وتقفل تليفونها بقالها أسبوع واللي يتحرق يتحرق .. قليلة الأصل اللي نست أبوها وسمحت لواحد كلب زي ده يتحكم فيها بالشكل ده، أكيد هو اللي واخد منها التليفون ومانعها تكلم حد.. ده واحد حقير ووسخ ومن عيلة واطية…


لم تستطع زينب أن تتحمّل أكثر. كأن جروحها القديمة انبجست دفعةً واحدة. فصاحت بصوتٍ دوّى داخل السيارة:

ـ ما كفاية بقا !!!!!


كانت تلك الصرخة أقرب إلى عويلٍ مكتوم حُبس أربعين عامًا ثم انطلق فجأة، فأربك الجميع. اهتزّ جسدها وهي تتابع بانفعال:

ـ كفاية يا أخي إنت إيه !! مستكتر عليها تعيش يومين فرحانة ! ما انت طول عمرها حابسها في قمقم ومانعها تخرج منه ..


تدفقت دموعها كالسيل، تحرق وجنتيها بحرارة القهر، ثم أردفت بصوتٍ متهدّج:

ـ كفاية جبروت وقسوة وافترا …. حرام عليك !


ارتسم الذهول على ملامح سالم، صدمة حقيقية جمدت لسانه للحظة. ثم فجأة، وبقسوةٍ صرخ بالسائق:

ـ وقف العربية حالًا!


توقفت السيارة على جانب الطريق في صمتٍ ثقيل، وحده أنفاس زينب المتقطعة تملأ الجو. التفت إليها سالم بعينين متصلبتين، وألقى أمره كالسيف:

ـ انزلي!


ارتجفت زينب، لم تصدّق ما تسمع. نظرت إليه بذهول ممزوج بكسرة قلب، بينما الممرضة تحدّق في المشهد مرتعبة، تكاد تبتلع لسانها من الخوف.


صرخ سالم مجددًا بصوتٍ مدوٍّ لا يقبل نقاشًا:

ـ انزلـــــــــــــي بقوللك !!!!!!


امتدت يد زينب تلقائيًا نحو مقبض الباب، فتحته ببطء وهي تنظر إلى الطريق الموحش حولها. الليل كان قد أسدل ستائره على المكان، والظلام يلفّ الطريق الممتدّ كوحش صامت. وضعت قدمها على الأرض بارتجاف، بينما قلبها يهوى في هاويةٍ بلا قرار.


ترددت زينب لحظةً، تباطأت في النزول لعلّه يتراجع عن قراره الجائر، لكنّه لم يفعل. ظلّ يرمقها ببرودٍ قاسٍ، حتى إذا ما وضعت قدميها خارج السيارة وأغلقت الباب خلفها، أعطى إشارة سريعة للسائق الذي انطلق كالسهم، يبتلع الطريق بعجلاته، تاركًا إيّاها وحيدة في عتمة الليل.


وقفت مذهولة، تحدّق في الفراغ من حولها بعينين دامعتين. لم يكن هناك سوى الأراضي الزراعية الممتدة بلا نهاية، والليل الذي أحكم قبضته على كل شيء، والهدوء المخيف الذي يزيد الوحشة في قلبها. ارتعشت يداها، وابتلعت ريقها بصعوبة وهي تتلفت يمنة ويسرة، تبحث عن أي بصيص أمان، لكن لا أحد.. لا ظل إنسان ولا بريق ضوء.


انفجرت دموعها فجأة، تبكي بكاء طفلة صغيرة ضلّت طريقها، تقطعت بها السبل ووجدت نفسها وحدها في عالمٍ قاسٍ. التصقت قدماها بالأرض كأنها عاجزة عن الحركة، وارتجف قلبها من الخوف الذي أحاط بها من كل صوب.


مرّت الدقائق بطيئة كالأبد، عشر دقائق كاملة كانت كعشر سنوات من الرعب. وأخيرًا، بعد صراعٍ طويل مع نفسها، دفعت يدها المرتجفة إلى حقيبتها، أخرجت الهاتف بعزمٍ يائس، وأيقنت أن لا مفرّ لها سوى الاتصال بحسن…


༺═────────────────═༻


لم تدرك نغم كيف انقضت عليها الساعات وهي ممسكة بهاتفها في صراعٍ داخلي لا ينتهي.. عقلها ينهشها بأسئلة لا ترحم، وقلبها يثقلها كصخرةٍ تجثم فوق صدرها. كانت تضع الهاتف على الطاولة لتعود فتلتقطه من جديد، تفكر: هل ترفع الحظر وتهاتفه لتسمع منه وتقطع الشك باليقين؟ أم تبقي الوضع كما هو عليه، وكأنها تختبئ من مواجهة الحقيقة؟ أصابعها لم تسلم من قسوة التردد، قضمتها بعصبية حتى سال الألم، ثم ألقت الهاتف بعيدًا عنها كأنها تلقي بثقل لا يُحتمل، دون أن تصل إلى قرارٍ يريحها.


رن جرس المنزل فجأة، فارتج قلبها كعادته كلما دوّى الصوت في الأرجاء، ارتابت أن يكون أحد الصحفيين المتطفلين الذين يحومون حول أسوار الكومباوند منذ يومين، وربما هذه المرة تسلل أحدهم حتى بابها. اقتربت بخطواتٍ متوجسة، ألصقت عينها بالثقب الصغير لتفاجأ بوجه حسن!


انكمش قلبها في صدرها، وترددت قبل أن تسأله من خلف الباب بصوت مرتجف:

ـ جاي ليه يا حسن؟


ـ افتحي يا نغم..


ازدردت ريقها من جديد، وكأن حلقها قد جف، ثم سألته في وجل:

ـ عاوز إيه؟


طرق الباب بعصبية تفضح اضطرابه وقال:

ـ افتحي يا نغم، هتكلم معاكي.


ـ عاوز إيه يا حسن؟ الوقت متأخر!


ـ خايفة من إيه؟ هو أنا هاكلك؟


هدر صوته بحدة جعلتها ترتجف، لكنه سرعان ما تدارك نفسه، مسح وجهه بكفيه بعصبية، ثم قال بصوتٍ أقل حدّة، ممزوج برجاء غريب:

ـ متخافيش.. ورحمة أمي ما تخافي مني. أنا بس عاوز أتكلم معاكي كلمتين وأمشي.


توقفت للحظة عند ذكر خالتها، تلك الكلمة أيقظت في داخلها قدرًا من الطمأنينة، فمدّت يدها ببطء إلى المقبض وأدارته بتردد، وما إن فتح الباب حتى اندفع حسن للداخل كالعاصفة، وجهه مشدود بالغضب، وصفق الباب خلفه بقوة حتى ارتجف قلبها، قبل أن يحدق فيها طويلاً بعينين يملؤهما التوتر. تنهد بعمق، ثم قال :

ـ اللي قالك إني عاوز أخلص من فريد.. مين؟


نظرت إليه بثباتٍ مصطنع، تخفي وراءه ارتيابها، ثم لفظت الكلمة التي هوت كسيف في صدره:

ـ سالم مرسال… أبوك!


أغمض عينيه بأسى، كأن كل خلية في جسده كانت تتمنى سماع اسمٍ آخر غير هذا. طأطأ رأسه بحزنٍ ثقيل، ثم قال بصوتٍ متهدج:

ـ قاللك إيه بالظبط؟ قوليلي الحوار من أوله لآخره.


أشاحت بوجهها عنه، يقتلها الضيق، قبل أن تعود وتنظر إليه بعينين مثقلتين بالغضب:

ـ قال اللي قاله يا حسن! إنت جاي توجع في قلبي زيادة ليه؟ أنا أصلا غلطت لما صدقت عمر العيل ده وقلتله.


ضغط حسن على قبضته بقوة حتى ابيضّت مفاصله، واندفع صوته غاضبًا، يزلزل المكان:

ـ اتكلمي يا نغم! بالله عليكي متوجعيش في قلبي إنتي كمان، أنا على آخرّي. قاللك إيه بالظبط؟!


شبكت ذراعيها أمام صدرها، تحاول أن تبدو متماسكة رغم الدموع التي تتلألأ في عينيها، وقالت بحدة:

ـ مستعد تسمع قاللي إيه يا حسن؟


ضاق عينيه باستغراب، فأجابت والدموع تنهمر كالسيل:

ـ قاللي ابعدي عن ولادي علشان محدش فيهم يقتل التاني بسببك. قاللي إنه سمعك وإنت بتقول إنك كل ما بتشوف فريد جنبي بتحقد عليه وتبقى عاوز تخنقه!


ثم صرخت بمرارة وهي تحدق في عينيه:

ـ عاوز تعرف قاللي إيه كمان؟ قاللي لو مبعدتش بالذوق، هيبعدني هو بطريقته. و رمالي سيديهايه عليها فيديو ليا وأنا بسرق فيفي!


ارتخت ملامحه دفعة واحدة، وانخفض رأسه كمن تلقى صفعة قاتلة. ارتعشت تفاحة حلقه وهو يبتلع الغصة المهينة التي خنقته، فتح فمه ليقول شيئًا، لكن الكلمات اختنقت وماتت فوق شفتيه.


تابعت هي، بصوت يقطر حقدًا وخزيًا:

ـ أديك عرفت كل حاجة.. هتعمل إيه بقا؟ هتواجهه؟ هتسأله إزاي قال كده؟ هتقولله إزاي يهددني؟ هتقولله أنا اللي علمتها تنشل الناس إزاي وتحط ايديها في جيبهم ؟!


لم يملك سوى أن يدير وجهه عنها، خزيه ينهشه، غضبه من نفسه ومن أبيه يقتله، لكنه لم يستطع حتى النظر في عينيها.


ـ مفيش عندك إجابة، صح؟ مفيش حاجة تتغير. أنا عملت المطلوب وبعدت. مبقاش في داعي للكلام خلاص ، أنا مش هكدب عليك ولا على نفسي يا حسن.. لو خوفي منك على فريد خلاني أبعد مرة، فخوفي من إن فريد يعرف أنا كنت إيه زمان خلاني أبعد ألف مرة.


خفض رأسه أرضًا، يتجرع ندمًا كالسم، وقال بصوتٍ متكسر:

ـ بس لا إنتي ولا فريد ليكم ذنب.. الذنب ذنبي أنا، ولازم أصلحه.


ـ مفيش حاجة هتتصلح.. أنا وفريد خلاص. بقى بينا حواجز بتكبر كل يوم، مش هنعرف نتخطاها. أنا وهو مش لبعض من البداية، ودي حقيقة كان لازم أقتنع بيها زمان.


في تلك اللحظة، دوّت طرقات على الباب، فعلم حسن أن عمر قد لحق به. تنهد وهو يستعد للخروج وقال:

ـ أنا آسف يا نغم.. آسف على كل حاجة.


مسحت دموعها بارتجاف، فاقترب من الباب، وقبل أن يفتحه توقف فجأة وسألها دون أن يلتفت:

ـ إنتي اللي كنتي في الحفلة يومها، مش كده؟


كلماته سقطت فوقها كحجر، كادت أن تنهار من الخجل، امتلأت عيناها بدموع الاعتراف الصامت. لم تجب، لكن صمتها كان أبلغ من أي كلمة. أطبق جفنيه بأسى وقال:

ـ خلاص.. الإجابة وصلت.


فتح الباب ليجد عمر واقفًا يتأملهما بريبة، ينقل نظره بين وجه حسن المثقل بالحزن، ودموع نغم المنهمرة. فقال بقلق:

ـ حسن.. زينب كلمتني. بتقول إنها رنت عليك وانت مش بترد.


تحسس حسن جيبه فلم يجد هاتفه، فأجاب بشرود وهو ينزل درجات السلم:

ـ نسيته في البيت.


ـ إنت كويس؟ سأل عمر بقلق.


أومأ حسن بصوتٍ خافت:

ـ كويس.


سار نحو سيارته بخطواتٍ مثقلة، لكن عمر لحق به سريعًا وقال:

ـ زينب…


التفت حسن نصف التفاتة وقال بحدة وشرود:

ـ والنبي يا عمر مش فايقلك انت وزينب.


لكن عمر أمسك بذراعه وقال بلهجةٍ جدية:

ـ زينب عاوزانا نروحلها.. سالم نزلها في الطريق وهما راجعين من العزبة، وهي دلوقتي لوحدها ومفيش مواصلات هناك!


تجمد حسن للحظة، ثم نظر إلى عمر وعيناه اتسعتا بذهول، فأومأ عمر مؤكدًا بأسف. انطلق حسن مسرعًا داخل سيارته وقال:

ـ خد عربيتك وارجع الفيلا.. متقولش لحد على اللي حصل لحد ما أفهم منها.


أصر عمر وهو يفتح الباب المجاور:

ـ أنا مش هسيبك تروح لوحدك، رجلي على رجلك.


ـ عمرررر…


ـ مفيش عمر.. رجلي على رجلك!


زفر حسن باستسلام، وأدار المحرك، بينما عمر جلس بجواره تاركًا سيارته أمام منزل فريد ، وانطلقا سويًا في طريقهما لكي يصلا إلى زينب !!!!


༺═────────────────═༻


كان فريد يقود سيارته في شوارع أثينا كالتائه بلا وجهة، عجلات السيارة تدور كما لو كانت تهرب به من شيءٍ يسكن داخله، لكنه يعلم يقينًا أن لا مفر. أنوار الشوارع تتعاقب على زجاج السيارة، ألوان المصابيح تنعكس على وجهه المرهق فيمنح ملامحه مزيجًا من الحزن والشرود. المدينة من حوله تنبض بالحياة: مقاهٍ ما زالت عامرة بالناس، أزقة ضيقة تصعد وتهبط على تلالها، جدران عتيقة تحمل آثار الزمن.. لكنه لا يرى منها شيئًا؛ كل ما يراه هو وجهها.


ملامح نغم تطارده في كل زاوية، ودموعها تتساقط في ذاكرته، وكلماتها الأخيرة تخترق أذنيه بلا رحمة: "يا ريتني ما عرفتك."

شدّ قبضته على المقود حتى ابيضّت أنامله، كأنه يحاول خنق هذا الصدى المؤلم.


أحاسيس متضاربة تتناوب داخله:

غضب منها لأنها لا تمنحه فرصة ليتكلم، ولا تسمع دفاعه كما ينبغي.

حزنٌ عليها لأنها تحرق نفسها بالظنون والهواجس.

حزنٌ منه عليها لأنها في كل مرة تدفعه بعيدًا، ولا تعطي قلبه المساحة ليثبت صدقه.


تتساقط أنفاسه متقطعة وهو يدرك الحقيقة التي لا مهرب منها: أنه، مهما فعلت، ومهما قالت، ومهما طعنته بكلماتها القاسية.. لا يملك إلا أن يحبها. يحبها حتى آخر نفسٍ فيه. بل وجد نفسه يبرر لها كل مرة، يفتش عن مخرج لها من ذنب لم ترتكبه أصلًا. يقول في نفسه: كيف لا تشك؟ وهي التي لم تعرف في حياتها إلا الخديعة؟ كيف لا تسيء الظن؟ وهي التي لم تذق يومًا طعم الأمان الحقيقي؟ كيف لا تخاف؟ وهي التي وُلدت في قلب القهر وتربت على يد الظلم؟


كل طيشة منها يجد لها مبررًا. كل اندفاع، كل كلمة جارحة، كل جدار ترفعه بينهما.. يغفره، يعذره، يحتمله. لأنها ليست مثل الآخرين. هي جرح يسير على قدمين، وهو يعرف ذلك جيدًا.


أدار المقود ببطء عند شارعٍ جانبي خافت الضوء، وأوقف السيارة قرب رصيفٍ صامت. أغمض عينيه للحظة، مستسلماً لدوامة من الألم والحب معًا. في داخله صراعٌ ينهشه، لكنه صراع بلا فائز.. لأن النهاية دائمًا واحدة: حبيبته الاستثنائية التي لم يُخلق قلبه إلا لتسكنه !


انتشله من غيبوبة شروده رنينٌ مفاجئ اخترق سكون السيارة. فتناول الهاتف ببطء وأجاب بصوت متثاقل:

ـ نعم؟


أتاه صوت الشاب الموكل بمراقبة نغم:

ـ فريد بيه، من شوية حسن بيه وعمر بيه كانوا في الكومباوند.. حسن بيه وصل الأول وبعدها عمر، وبعدها خرجوا هما الاتنين بعربية حسن بيه وعربية عمر بيه لسه جوه .


تجمّدت أنفاس فريد في صدره، وانقبضت قبضته على المقود حتى شحب لون مفاصله. لم يرد بكلمة، وبعد صمت مطبق دام لدقيقتين تقريبًا أغلق الخط بعنف، ليغرق في صمت ثقيل كالطوفان.


لم يعد يرى أضواء أثينا المتناثرة ولا الشوارع التي تمتد أمامه؛ غابت المدينة بأسرها ولم يبق في عقله سوى صورة واحدة تطارده: حسن عند نغم.


وهنا بدأ الوسواس يزحف إلى رأسه، كأفعى سامة تلف حول عقله وتغرز أنيابها في قلبه.

ربما كانت تبكي في حضنه… ربما أفضت له بما لم تُبح به لك… ربما وجدت عنده الأمان الذي لم تجده بين ذراعيك… ربما أحبت فيه ما لم تره فيك…


ازدحمت الصور في ذهنه حتى كادت أن تتحول إلى حقائق. خيالات مسمومة تتراقص أمام عينيه: نغم تميل برأسها على كتف حسن، تبوح له بأسرارها،  تبتسم له تلك الابتسامة التي كان يظنها له وحده.


فضرب المقود بقبضته، وأنفاسه تتلاحق بحرارة، ثم تمتم في عناد يائس:

ـ لأ.. مستحيل ..


ظلّ مشدودًا إلى المقود، أنفاسه تتلاحق كمن يطارده شبح لا يراه. كان في داخله يقينٌ راسخ لا يتزعزع: نغم لا يمكن أن تحب حسن… مستحيل.

هو يعرفها أكثر من نفسها؛ يعرف أن قلبها انعقد على حبه وحده، وأنها إن تنفّست فباسمه، وإن بكت فدموعها عليه، وإن صمتت فصمتها نداء خفي له. كان يدرك أن روحها معلّقة بروحه، وأنها ـ رغم كل خصوماتها وعنادها ـ لم تعرف حبًّا سواه ولن تعرف.


لكن… أيقن كذلك أن الإنسان قد ينهار أحيانًا أمام أوهامه، وأن قلبه أضعف من أن يقاوم هجوم الصور المتخيلة. فكلما حاول أن يصد تلك الظنون السوداء، باغته صوته الداخلي يوسوس له:

لكنها بكت أمام حسن… ربما لمست يده… ربما سمحت له بما لم تسمح لك…


فأحس بخزي هائل يجتاحه، كأنما يخون نفسه ويخونها في آن واحد. كيف يسمح لعقله أن يتخيل هذا الهراء وهو الذي يعرفها، وهو الذي جرّب عينيها حين تنظر إليه، ولمس ارتجاف صوتها حين تذكر اسمه، وشهد اضطراب أنفاسها حين يقترب منها؟ كيف يمكن بعد كل ذلك أن يظن، ولو للحظة، أنها لغيره؟


مدّ يده إلى عنقه وهو يلهث بضيق، فكاد يمزّق أزرار قميصه كأن الهواء ينقطع عنه. تساقطت قطرات عرق بارد من جبينه رغم برودة الليل، وانحنى قليلًا فوق المقود ليخفي ارتجاف أنامله، بينما قلبه يقرع ضلوعه كطبول حرب.


غطّى وجهه بكفّه بمرارة، كأنما يريد أن يمحو تلك الصور التي رسمها خياله المريض ، وأخذ يؤنب نفسه ويلومها،

ومع ذلك، لم ينجُ من ذلك الشعور الممضّ بالضعف، ذلك الخزي الذي يثقل صدره لأنه غير قادر على كبح وساوسه، ولأنه أدرك أن غيرته ليست منطقية، لكنها أقوى منه. كطفل صغير لا يملك إلا أن يبكي إذا خاف، ظلّ قلبه يختنق ما بين يقين مطمئن ووسواس قاتل.


أغمض عينيه وأسند جبهته إلى المقود، كأنما يلوذ به من طوفان داخلي لا يُحتمل. ثم همس بصوت منكسر، أقرب إلى المناجاة منه إلى الكلام:

ـ يا الله.. يا ولي الصابرين .


رن هاتفه، فاندفع ينظر به فإذا به جيرالد، تجاهل مكالمته، ثم قام بالاتصال بعمر، لكنه لم يجب، حينها تفاقمت الأزمة أكثر وشعر وكأنه على وشك الانفجار، لذا أدار محرك السيارة بعصبية، ليكمل رحلته نحو المجهول.


༺═────────────────═༻


في كوبا ـ سانتا كلارا .


كانت الشمس تميل إلى المغيب، تلقي بخيوطها الذهبية فوق مدينة سانتا كلارا، فتضفي على ميدانها الواسع رهبة مهيبة. توقفت السيارة على مقربة من الضريح، ونزلت نسيم تتأمل الباحة الفسيحة الممتدة، تتوسطها تمثال برونزي شامخ لتشي جيفارا، يحمل بندقيته ويمدّ بصره نحو الأفق كمن لا يزال يقود ثورته. ارتجف قلبها للحظة؛ أحسّت أن الأرض التي تقف عليها مشبعة بصدى الحناجر التي هتفت يومًا "الثورة أو الموت".


اقتربت ببطء، كأن خطواتها تحسب حسابها أمام التاريخ، بينما عاصم يمشي إلى جوارها، يراقب وجومها في صمت. كان الضريح يقف شامخًا كحصن من الخرسانة البيضاء، جدرانه العريضة تحيط بهالة من القداسة الثورية، والأعلام الكوبية ترفرف حوله في هيبة تزيد من رهبة المكان.


لمّا دلفا إلى الداخل، ساد الصمت أكثر. الجدران الرمادية تحكي، بلا صوت، عن رجال سقطوا في سبيل فكرة، وأسماء محفورة تخلّد من غابوا. وقفت نسيم أمام صورة جيفارا، تلك الملامح الصلبة والعينان المشتعلتان بإيمان مطلق، فشعرت برجفة عميقة تسري في جسدها. كأن النظرة الخارجة من الإطار تخترقها وتحادثها .


أطرقت برأسها للحظة، بينما يدها تنقبض داخل راحة يد عاصم الذي مدّها بهدوء. نظرت إليه فوجدت في عينيه نفس الانعكاس؛ مزيج من الانبهار والرهبة.


أمسكت بيد عاصم بقوة هذه المرة، وتأملت الضريح للحظات، والسكوت يطبق على المكان إلا من وقع خطوات الزوّار، ثم همست بصوت منخفض كأنها تخشى أن يعلو:

ــ المكان له رهبة غريبة يا عاصم… 


ابتسم عاصم ابتسامة خفيفة، وقال وهو ينظر إلى الجدران التي تحمل صور جيفارا:

ــ طبيعي يا نسيم، الرهبة جاية من اللي المكان ده بيمثّله للناس. جيفارا مش مجرد تمثال أو اسم محفور في الكتب، لأ… هو رمز لثورة غيّرت كوبا كلها.


ثم أضاف وهو يشير بيده نحو النقوش:

ــ عارفة إن الرفات اللي مدفون هنا ده فضّلوا يدوروا عليه ٣٠ سنه بحالهم لحد ما لقوه سنة 1997 ورجعوه بكامل المهابة دي. علشان كده الناس هنا بيشوفوا المكان ده كأنه قلب الثورة النابض، مش مجرد مزار.


تأملت نسيم كلامه، فازدادت الرهبة التي شعرت بها، لكنها هذه المرة كانت ممتزجة بإجلال ووعي مختلف.


بعد قليل ، خرجا إلى الباحة مجددًا، كان التمثال البرونزي يقف شامخًا أمام السماء، فتوقفت نسيم تتأمله بإعجاب لم تخفه، والهواء يحرّك خصلات شعرها، فابتسم عاصم وهو يحاول أن يخفف من ثقل اللحظة قائلا :

ـ بقوللك إيه يلا خليني أصوّره جنبك .


ـ تقصد تصورني جنبه..


هز رأسه نافيًا، وقال :

ـ لأ.. أصوره هو جنبك.. انتي الأسطورة الحقيقية بالنسبة لي .


قالها بنبرة مازحة، لكن في عينيه ظلّت بقايا الجدّ، كأنه يريد بالفعل أن يخلّد لها تلك اللحظة بجوار الثائر الخالد. فضحكت بخجل وهي تردّ:

ـ أنا هبقى إيه جنبه بس يا عاصم؟


رفع هاتفه وأشار إليها بحماس :

ـ إنتِ تبقي نسيم حبيبة روحي… وده كفاية.


استوقفتها كلماته التي لامست شغاف قلبها، فوقفت بجوار القاعدة الضخمة للتمثال وعلى شفتيها ابتسامة متألقة، تحاول أن تتخذ وضعًا يليق بالمشهد، ثم التفتت نحوه مبتسمة بحماس. التقط عاصم الصورة، ثم نظر إليها بإعجاب صامت، ثم اقترب منها وهو يريها الشاشة، وقال وهو يضحك:

ـ بصراحة… تشي چيفارا اتصور صورة للتاريخ ..


صفعته على كتفه بخفة وهي تضحك، فأحاط كتفها بذراعه ومال نحوها قبل جبينها سريعا، وغادرا الصالة معًا، بينما الغروب يكتمل في الخارج، والسماء تصطبغ بلون الدم القاني، كأنها تستعيد ذكرى الثائر الذي لم يمت قط.


༺═────────────────═༻


قاد حسن على أعلى سرعة، فيما الصمت يخيّم على السيارة كغيمة ثقيلة، يطبق على صدريهما في آن واحد. لا أحد منهما اهتم أن يكسر هذا السكون، حيث أن في داخل كلٍّ منهما عاصفة تساؤلات لا تهدأ.


حسن، كان يضغط على أسنانه بقوة، يحاول أن يفهم بأي قلب يمكن لرجل أن يترك امرأة وحيدة على الطريق في ليل موحش كهذا. ظل يتساءل: هل فقد أبي عقله؟ أم أن الغضب أعماه إلى هذا الحد؟ لكن سرعان ما كان يهرب من السؤال لأنه يخشى الإجابة، يخشى أن يكون سالم فعلها عن قصد وبدم بارد، وكأنها مجرد عقوبة يراها مستحقة.


وعمر، وهو يجلس بجانبه متصلّب الملامح، كان غارقًا في سيناريوهات أخرى. 


كانت أنفاسهما مسموعة في سكون الأجواء من حولهما، ومحرك السيارة يئن تحت وطأة السرعة، لكن عقليهما كانا في مكان آخر: في مواجهة سؤال واحد ينهشهما من الداخل — أي وحشية هذه التي تجعل رجلًا يلقي بامرأة في هذا الليل في طريق موحش كهذا ؟ وليست أي امرأة.. إنها خادمته المخلصة التي عاشت بين جدران بيته أكثر مما عاشت أيًا من زوجاته !


وحين انحنى الضوء الكاشف للسيارة على الطريق الترابي، ظهرت هي… واقفة هناك، متيبسة الجسد كظلٍ ضائع، الدموع ما زالت تبلل وجهها، وارتجافتها تتضح حتى من بعيد. 


في تلك اللحظة، ارتفع الصمت بينهما إلى ذروته، إذ أدرك كلٌّ منهما أنه مهما تخيل، فإن الحقيقة أشد قسوة مما رسمها خياله.


فتح حسن باب السيارة دفعة واحدة، كأن الصمت الذي خيّم عليه طوال الطريق قد انفجر في تلك اللحظة. خطواته كانت سريعة، متوترة، حتى وصل إليها. وما إن رآها واقفة باهتة الوجه، تغالب دموعها، تنظر إليه بانكسار وخذلان، حتى اندفع نحوها يحيطها بذراعيه بقوة، كأنما يريد أن يحجب عنها الليل كله، أو أن ينتزعها من براثن الوحدة التي التهمتها ساعة كاملة !


بمجرد أن لامست حضنه، انفجرت بالبكاء أكثر، بكاء متقطع مخنوق، كأنها طفلة صغيرة وجدت أخيرًا من يأخذ بيدها، فيما هو يشد عليها بحنان لم يعهده في نفسه إلا عندما كان يحتضن أمه، حنان يختلط بدهشة غريبة.. هل هذه زينب نفسها؟ أحقًا هذه المرأة التي طالما رآها صلبة صامتة هي ذاتها التي تبكي الآن بهذا الضعف؟


من خلفهما، ظل عمر واقفًا عند السيارة، عيناه متسعتان بالدهشة وهو يتابع المشهد. لم يتخيل للحظة أن زينب يمكن أن تظهر بهذا الانكسار أمام أحد. تبادلت عيناه نظرة مع حسن، نظرة صامتة محمّلة بالاستفهام: ما الذي يجري؟


لكن حسن لم يُعِر نظراته انتباهًا، كل ما فعله أنه أمسك بيد زينب المرتجفة برفق، وساقها نحو السيارة كأنها طفل يحتاج لمن يقوده. فتح لها الباب الخلفي، وأجلسها في الداخل بحذر، قبل أن يغلق الباب عليها، بينما في داخله إحساس غريب مختلط: مزيج من حنان، وشفقة صادقة، واستغراب من والده وجبروته الذي يبدو وكأنه بدأ ينكشف عنه الستار شيئا فشيئا.


ركبا السيارة، وظلّ الصمت يخيّم عليهما لدقائق، بينما الحيرة تنهش رأس حسن كذئبٍ جائع.


حاول أن يلجم فضوله قدر استطاعته، لكنه لم يتمكّن، فنظر عبر المرآة إلى زينب وسأل:

ـ هو إيه اللي حصل؟


رفعت نظرها إليه، وقد بدا أنها تستعد للكلام، كأنها تهيّئ نفسها للسؤال كما للإجابة، ثم قالت بصوت متقطع بين شهقات البكاء:

ـ اللي حصل إني اعترضت على طريقة كلامه عن نسيم وجوزها، وقولتله كفاية قسوة وافترا.


انعقد جبين حسن بدهشة، والتفت إلى عمر كأنه يستوضح الأمر، فقال عمر بمرارة:

ـ وطبعا كان لازم تتعاقبي فورًا.. ماهو سالم باشا بيتبع سياسة العقاب لا يُؤجَّل.. واللي يغلط يتعاقب وقتي.


أومأت بتأكيد، فهزّ عمر رأسه بيأس وأسقطه للخلف، فيما ظلّ حسن بجواره متوتراً، يقاوم في داخله، لا يصدّق، أو بالأحرى لا يريد أن يصدّق. كان يبحث عن أي ثغرة تمنحه الأمل كي لا يواجه حقيقة أبيه المظلمة. فقال بصوت أقرب للرجاء:

ـ بس كده؟! ده كل اللي حصل؟! علشان عملتي كده بس قام وقف العربية ونزلك؟


انفجر عمر غاضبًا، وقال بحدة:

ـ هو إنت لسه بتدور على مبرر وبتشكك في كلامها كمان؟! إنت عاوز تعيش طول عمرك مختوم على قفاك ولا إيه يا حسن؟! ما تفوق بقى!


التفت إليه حسن بصدمة، وضغط فجأة على المكابح بعنف، فتوقفت السيارة بقسوة جعلتهم يندفعون للأمام. 


ظل حسن يحدّق في عمر بعينين داميتين، عتاب قاسٍ وتحذير مبطن يتوعده إن تجرّأ وتجاوز حدّه ثانية. أما زينب في الخلف فارتجف قلبها قلقًا، فسارعت إلى التدخل محاولة صرف نظر حسن عن أخيه:

ـ أيوة يا حسن.. ده بس اللي حصل، زي ما قال عمر.. الباشا مبيتقبلش أبدًا إن حد يعارضه أو يراجعه في أي حاجة، وأنا زودتها شويتين..


أشاح حسن بوجهه عن عمر ببطء ثقيل، ثم أعاد نظره إلى الطريق، وتنهد بانفعال وهو يعيد السيارة إلى مسيرها. وعاد الصمت يحلّق فوقهم من جديد.


حين وصلوا إلى القاهرة ، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، حينها ارتفع صوت زينب بخفوت:

ـ معلش يا حسن.. ودّيني عند نغم، مش هينفع أرجع الڤيلا.


انعقد حاجباه وهو ينظر إليها عبر المرآة:

ـ وتروحي عند نغم ليه؟! بيتك موجود.


بدت ملامحها متحيرة، لم تفهم ما يقصد. لكنه سلك فجأة طريقًا آخر، حتى توقفت السيارة أمام عمارة تعرفها جيدًا. ارتجفت ذاكرتها حين تذكرت أن هذه شقته التي عاشت فيها والدته عائشة ثم ماتت فيها.


ترجّل حسن، ولحقته زينب بخطوات حائرة. صعدا الدرج، وفي كل درجة كانت صورة والدته تتقافز أمام عينيه. أخذ الحنين يغمره، فيتنهد سرًّا وهو يدعو لها بالرحمة والمغفرة. 


حين وصلا فتح الباب وأفسح لها الطريق. فدخلت بتردد، وتبعها، ثم أشعل الأضواء. ومن ثم جال بعينيه على الأركان، فلمعت عيناه بدموع خفية، وابتلع غصته ونظر إليها، فتمتمت بعطف:

ـ تعيش وتفتكر يا بني.


ابتسم ابتسامة حزينة وأومأ، ثم ربت على كتفها قائلاً:

ـ خدي راحتك.. البيت من النهارده بيتك.


ابتسمت بمثلها وقالت بحرارة:

ـ ربنا يجبر بخاطرك يا حسن.


مدّ إليها المفتاح وهو يقول:

ـ يلا.. هنزل أجيبلك شوية حاجات لأن البيت فاضي..


ـ لأ، ملوش داعي.. أنا محتاجة أنام بس.


ـ طيب.. من الصبح بدري هتلاقيني عندك.


ـ هتفطر معايا؟


ابتسم وهو يومئ ضاحكًا:

ـ هفطر معاكي.


ـ هستناك.


ـ إن شاء الله.. يلا أسيبك ترتاحي، تصبحي على خير.


تركها تنظر حولها بصمت مبكٍ، وهمست وهي تتفحص المكان:

ـ ربنا يرحمك يا عيشة.


ثم دخلت الغرفة، وتمددت على السرير كطفلة صغيرة انكمشت حول نفسها تبكي كل شيء، حتى غلبها النوم وهي تدعو الله في سرّها ألا يقبض روحها إلا بعد أن ترى في سالم آية تشفي صدرها.


ـــــ


جلس حسن خلف المقود مجددًا، ثم التفت إلى عمر قائلاً دون أن ينظر إليه:

ـ هاخدك لحد الكمباوند تجيب عربيتك وتبقى تحصلني.


رمقه عمر بطرف عينه، فرأى في وجهه الشرّ يتأجج، وأدرك في داخله أن أخاه سيشعل المدينة فوق رؤوس ساكنيها هذه الليلة ، فقال:

ـ مش لازم الليلة.. الوقت اتأخر. خلينا نرجع على الڤيلا والصبح أبقى أجيبها.


لم يُجب حسن إلا بإيماءة صامتة.. ثم تحرك من جديد قاصدًا الڤيلا…


أراد عمر أن يعتذر، أن يمد يده بكلمةٍ تُطفئ ما أشعله بينهما، لكن لم يبقَ في صدره ذرة طاقةٍ لسجالٍ جديد، ولا في قلبه مساحة لاحتمال شرارة أخرى؛ لقد أثقلته الليلة حتى انحنت روحه، فما عاد يقوى إلا على الصمت.


سارا في صمت حتى وصلا الڤيلا. ألقى عمر نظرة خاطفة على حسن، فرآه يوقف السيارة ببطء، ثم يفتح الباب ويترجل منها، والعزم المتقد والشرّ يلمعان في عينيه.


أسرع عمر يلحق به محاولًا منعه، قائلاً بقلق:

ـ حسن.. اهدى واتكلم بالعقل.


لكن حسن لم يُجِبه. لم يكن يسمع أصلًا. عبر باب الفيلا كإعصارٍ عاتٍ، يتقدّم بخطواتٍ مشتعلة، والنية المظلمة في التدمير تسكن عينيه كبرقٍ قبل العاصفة. 


༺═────────────────═༻


جلس سالم في مكتبه بعد عودته من العزبة، متوتّرًا على غير عادته. كان يذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا بخطوات قصيرة متوترة، ثم يجلس قليلًا قبل أن ينهض من جديد، كأنّ شبحًا خفيًا يطارده ولا يتركه يلتقط أنفاسه. لم يكن يفهم ما الذي يعتمل في داخله بالضبط؛ كل ما كان يشعر به أنّ بركانًا يتأجّج في صدره، نارًا حارقة تكاد تلتهمه من الداخل. كان مرتبكًا، فاقدًا لزمام السيطرة، وهي سابقة لم يعرفها من قبل.


لأول مرة منذ سنوات طويلة يحسّ أن قبضته ليست محكمة كما اعتاد، وأن الخيوط التي طالما شدّها لتسير الدنيا على هواه بدأت تنفلت من بين يديه. في داخله خوفٌ مبطّن، إحساس مربك يصرخ بأن الأرض لم تعد ثابتة تحت قدميه، وأن هيبته تتصدّع من حيث لا يدري.


ارتجفت نفسه وهو يتذكّر كلمات زينب، تلك الكلمات التي نزلت عليه كصفعة مدوية أيقظته على حقيقةٍ طالما تهرّب منها. شعر وكأنها جرّدته من كل أوهامه، وفضحته أمام ذاته العارية من القوة، أمام ضعفه المدفون منذ عقود. لقد هزّت ثقته، كسرت شيئًا عميقًا في داخله، فأخذ يتحسس جدار نفسه المتصدّع ويشعر فيه بشقوقٍ لم يعرفها يومًا.


أمسك رأسه بكفّيه وأغمض عينيه، يلهث بأنفاس متقطعة، كأنّه يطارد ظلًّا يفرّ منه كلما حاول الإمساك به. وفي اللحظة نفسها دوّى صوت خطوات غاضبة خارج الباب، خطوات ثقيلة لا تخطئها الأذن، تبعها طرقتان صارمتان ، ليستا استئذان، بل كانت أقرب إلى إعلان حرب. وقبل أن يتحرّك أو يستعيد أنفاسه، اندفع الباب بعنف واقتحم حسن الغرفة كإعصارٍ هادر.


رفع سالم رأسه ببطء، شدّ ظهره في جلسته محاولًا استدعاء هيبته القديمة. غير أنّ عينيه ما لبثتا أن اصطدمتا بعيني ابنه، فوجد فيهما شيئًا لم يره من قبل: شرر الغضب، وسيف التمرّد، ورفضًا لم يعرفه قطّ من هذا الابن بالذات .


أطبق الصمت بينهما كسيفٍ مصلت، كلٌّ منهما يحدّق في الآخر، كأنّ الكلمات تتأهّب للانفجار، والقدر يحبس أنفاسه منتظرًا أول شرارة.


ــ ليه قلت لنغم كده ؟! ليه تبعدها عن فريد ؟! إيه الداعي ؟! خايف عليه مني ؟! للدرجة دي شايفني شخص مؤذي ؟! وبعدين أنا إمتى قلت إني بكره فريد أو عاوز أموته ؟!


ـ إنت إزاي تدخل الأوضة بالطريقة الهمجية دي ؟! إنت مش متربي !!!


انفجر سالم بتلك الكلمات، صوته اهتزّ له جدار الغرفة، حتى الهواء بينهما ارتجف. هرعت نادية وابنتها من غرفتيهما ظنًّا أن المقصود هو عمر، لكنّهما فوجئتا بعمر يقف عند باب المكتب المفتوح يرقب المشهد، متأهّبًا للتدخل في اللحظة التي يستدعيها الموقف.


غادرت فم حسن ضحكة قصيرة عابثة، وقال ساخرًا:

ـ أنا مش متربي ؟! وضحك مجددًا وتابع: ومين قالك إني متربي ؟! مانا عارف كويس أوي إني مش متربي! إيه الجديد ؟!


ـ اطلع برا !


رمقه حسن بتعجب، لكنه ظل ثابتًا وقال:

ـ مش هطلع قبل ما أعرف إنت ليه بتعمل كده ؟! نغم عملت لك إيه عشان تعمل معاها كده ؟! بتبعدها عن فريد ليه وإنت عارف إنه بيحبها وهي بتحبه ؟! بتحطني في النص ليه؟؟ بتخلي أخويا يكرهني أكتر ما هو كارهني .. ليــــــــــــه ؟!


انتفض سالم، واشتعلت عيناه غضبًا:

ـ انت بتحاسبني ياد انت !!! إنت نسيت إنك واقف قدام أبوك ؟! الشويتين دول تعملهم في أي حتة، بس تيجي قدامي و إياك ترفع عينك في عيني !


لم يتزحزح حسن خطوة، بل اقترب حتى صار قبالته وقال:

ـ بلاش نغم.. عملت كده في زينب ليه ؟! الست الغلبانة اللي محيلتهاش حد غيرنا.. اللي بتعاملنا وكأننا ولادها، إيه اللي يخليك توقفها في نص الطريق وتسيبها بالليل لوحدها في مكان مقطوع مفيش فيه صريخ ابن يومين ؟! كل ده ليه ؟!


صرخ سالم بصوت غليظ:

ـ لأنها تستاهل! غلطت، وكان لازم تتعاقب!


اشتدّت ملامح حسن، والغضب تدفّق في خلايا جسده كلها فصاح بعصبية :

ـ هو إحنا في مدرسة ؟! عقاب إيه وحساب إيه ؟! كل ده علشان قالتلك بلاش تتكلم على نسيم وجوزها ؟!


أشهر سالم سبّابته في وجه حسن وصاح:

ـ متجيبليش سيرة البت دي .. أنا متبرّي منها ليوم الدين!


ارتجّت الصدمة في وجه حسن، حتى عمر نفسه تجمّد في مكانه. لكن حسن لم يمهله، وصاح مذهولًا:

ـ متبري منها ؟! متبري من بنتك ؟!!!!


ـ زي ما هي اتبرت مني وبقت اسمها نسيم الزفت.. أنا كمان متبري منها ومش عاوز أشوف وشها تاني!


أخذ حسن يقلب كفيه باستنكار، يتلقّى الصدمات كما لو كانت صفعات متلاحقة. ثم هتف غاضبًا:

ـ ليه كل ده ؟! هي عملتلك إيه ؟! مش كفاية العذاب اللي شافته على إيدك سنين؟ مش نسيم دي اللي حبستها ونبذتها وسفرتها وهي طفلة صغيرة لوحدها؟ مش نسيم دي اللي حرمتها من أمها ونسبتها لأم غيرها طول عمرها؟ مش نسيم دي اللي رميتها في الملجأ وقتلت حبيبها ؟!


كل كلمة كان يقذفها حسن في وجه أبيه كانت كأنها رصاصة يذكّره بها ببشاعته، لكنه في الحقيقة يذكّر نفسه أيضا. وما أن انتهى حتى صاح في وجهه:

ـ ومستكتر عليها بعد كل ده تفرح يومين؟! وآخرة المتمة كمان تتبرّى منها؟! ومستكتر على زينب تقوللك بلاش قسوة وافترا…. ؟!


هنا أظلمت عينا سالم، وارتفع كفّه فجأة ثم هبط على وجه حسن بقسوة، في صفعةً غادرة لم يتوقعها حسن أبدًا..


ارتدّ حسن خطوة للوراء، وعيناه تتسعان من الذهول، بينما اندفع نحوه، ينظر إلى أبيه بغضب عاصف. لكن سالم صرخ في وجهه:

ـ جرى إيه يا حيلتها إنت كمان !! مش عاجبك ؟!


ثم رفع رأسه درجة ، وارتفع صوته صاعقًا الجميع:

ـ اللي مش عاجبه يتفضّل.. الباب يفوّت جمل! اللي مش هيعيش في بيت سالم مرسال باحترامه ويحط جزمة في بؤه، يتفضّل من هنا.. والكلام للجميع!


ثم أشار بيده بعنف إلى حسن وعمر:

ـ وانتوا أول الناس.. اللي منكم فاكر نفسه كبر وبقى شحط ورجليه شيلاه وهيعمل راجل عليا، يفوق! ده أنا أفعصكم تحت رجلي! فاهمين ولا مش فاهمين؟!!


دخلت نادية مسرعة، جذبت عمر من ذراعه وهمست برجاء:

ـ يلا يا عمر.. اتحرك على أوضتك!


تبادل عمر وحسن النظرات، لكن الأول أجبر أخاه على الابتعاد.فانسحب حسن أخيرًا، غادر الغرفة، ومنها إلى الحديقة.


لحق به عمر، لكن حسن استوقفه عند الباب وهو يقول بحدّة:

ـ سيبني يا عمر..


عرف عمر أن صدر أخيه يحترق الآن بجمر الغضب، فلم يجد ما يقوله.. ظل واقفًا عند عتبة الباب، يراقبه بعجز وهو يستقل سيارته وينطلق مسرعًا، بينما يقف هو مشدوهًا، عاجزًا عن اللحاق به أو ردعه؛ فقط عيناه تتبعتاه وفي داخله إحساس ثقيل، كأن حجرًا هبط في قاع صدره.


أما حسن، فقد جلس خلف المقود كمن أُلقِيَ في لجّة لا قرار لها. ضغط على دواسة البنزين بقسوة، والسيارة تهتزّ معه كوحشٍ جامح، لكن داخله كان الأشدّ ارتجافًا. عيناه تحدّقان في الطريق الممتد أمامه بلا نهاية، بينما رأسه يضجّ بأصوات أبيه، صفعة يده، وصرخاته التي ما زالت ترنّ في أذنه حتى اللحظة كطعنات لا تلتئم. وكل كلمة قالها تسقط على قلبه كحجرٍ على زجاج هشّ !


#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع