القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات




ـ٣٢ـ


~ ساحة محاكمة! ~


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


خرج حسن من الفيلا كمن يُساق إلى هاويةٍ بلا قاع، خطواته مترنّحة على الطريق، وعقله يرفض استيعاب ما جرى.


الآن بدأ شريط الذكريات ينفتح أمامه.


 لم يكن وحده في هذا الجحيم. فريد، ذلك الذي يختبئ خلف صلابته الدائمة، وعمر، الذي يلوذ دائمًا بالبرود واللامبالاة… فجأة فقط أدرك حسن أنّ ما يراه فيهما لم يكن صلابة ولا جفاء عبثيًا، بل ندوبًا قديمة صنعها أبوه نفسه.


 تذكّر نظرات عمر التي تفيض حدة كلما ذُكر اسم سالم، وتذكر كذلك حديثه عن فريد الذي لا يبالي بأي شيء يخص والده ، والآن أدرك أن كلاهما عاش الجفاء نفسه، كلاهما تجرّع من الكأس المرة ذاتها، لكنه هو لم يفهم… لم يستوعب إلا الآن.


أحسّ حسن للحظة أنه صغير جدًا أمام هذه الحقيقة، وأنه لم يكن يرى إلا جانبه من الظلم. أبوه لم يخذله وحده، بل خذلهم جميعًا، نزع عنهم حنان الأبوة كما تُنزع الثياب عن الجسد، وتركهم عراةً في وجه الحياة.


ازدادت أنفاسه اضطرابًا، وتشنّجت قبضته حتى أبيضّت مفاصله. كان يشعر أن قلبه يتفتّت.


أي قلبٍ ذاك الذي لم يرتجف وهو يُلقي بأبنائه في جحيم القسوة؟ 


كانت الكلمات تتناوب في رأسه كصواعق متلاحقة، والهواء يضيق في صدره، فلا يعرف إلى أين يتجه ولا بأي يدٍ يمسك كي لا يسقط.


لكن فجأة، وبلا وعيٍ منه، وجد الحنين يقوده إلى الطريق الذي يعرفه قلبه أكثر من قدميه.. الطريق إلى البيت القديم، بيت الطفولة الذي طالما جمعه بأمه ونغم تحت سقف واحد.


قاد إليه، حتى إذا ما بلغه ترجل ووقف أمامه شعر وكأنه يقف أمام شاهد قبر ضخم، قبر لعائلته ولطفولته ولجزءٍ من نفسه. أحسّ أن البيت يرمقه بنظرات لائمة، كأن جدرانه المظلمة تقول له: أنت خرجت حيًّا… لكنني احترقت وبقيتُ شاهدًا على كل وجعك.


حينها تسلّل إلى داخله مزيج عجيب من الانكسار والحنين والغضب. لم يعد يدري هل يريد أن يبكي على الأطلال، أم يلعن اليد التي دفعت بهم جميعًا إلى هذا المصير.


 أشعل ضوء الهاتف ودخل بخطوات حذرة؛ فإذا به يرمقه بحسرة حيث لم يبقَ من بيت اتسم بالدفء ذات يوم إلا هيكلٌ أسود يئنّ بالصمت. 


غير أنّ حسن، وهو يتأمل الخراب، لم يرَ الرماد بقدر ما استعاد الصور التي لم تنطفئ أبدًا.


دخل بين الجدران المتفحمة، وكأنّه يسير في ذاكرة حيّة. هنا، كان صوت أمّه يتردّد وهي تناديه بحنانٍ لم يعرف مثله قط. وهناك، ظلّ نغم وهي تصرخ بوجهه تارة ويصرخ بوجهها تارةً أخرى. 


رأى نفسه طفلًا يلهو، وشابًا يحلم، وإنسانًا لم يفقد يومًا يقينه أنّ هذا الركام ما زال مأوى الروح.


تساءل وهو يمرّر يده على الحائط المحترق: كيف احترق البيت ولم تحترق ذكرياتنا؟ كيف ابتلع اللهب الأبواب والنوافذ، لكنّه لم يقدر أن يطفئ الضحكة التي ما زالت عالقة في قلبه؟


كان واقفًا وسط الخراب، لكن داخله كان يعجّ بالحياة. شعر أنّه ينهار وفي الوقت نفسه يُبعث من جديد.. فذلك البيت المحترق كان شاهدًا على قهرهم جميعًا، لكنه أيضًا الشاهد الوحيد على ما بقي في قلبه من دفء.


جلس حسن فوق درجٍ متآكل، ألقى رأسه بين كفّيه، يطارد صورًا تتقافز في عقله، وازدحمت الأسئلة في صدره حتى ضاق به التنفّس. 


وبينما هو غارق في دوّامة من الأسئلة والذكريات، انبثق في ذهنه خيطٌ واضح. 


السبب في كل ما يحدث الآن، في الوجع الذي يفتك بروح نغم، في الحقيقة التي صارت سيفًا مُسلطًا على عنقها… 


فيفي... تلك التي فتحت الباب لفضيحة لم تُغلق بعد، وبمحلها انطلقت الشرارة الأولى، التي تسللت منها مقاطع نغم لتستقر في أيدٍ آثمة.


رفع حسن رأسه بعزمٍ يشبه الانتفاض، وعيناه تلتمعان بوهجٍ حاد. شعر أنّ النار التي تأكل قلبه وجدت لها مسارًا؛ فنهض واقفًا وقد قرر أن يذهب إليها الآن… عليه أن يعرف منها، وجهًا لوجه، كيف وصلت تلك المقاطع إلى أبيه؟ ومن الذي تجرّأ على فتح الباب أمام خزيٍ كهذا؟


 كانت خطواته نحو السيارة أشبه بخطوات محاربٍ عازم، لم يعد في قلبه سوى يقين واحد: أن ساعة المواجهة قد حانت، وأن الحقيقة، مهما كانت قاسية عليه، لا بد أن تُنتزع من بين أنيابها.


انطلق حسن بالسيارة كمن يهرب من شبحٍ يطارده، قدماه تضغطان على دواسة الوقود بجنون، والعالم من حوله يمرّ كشريطٍ ضبابي لا يراه ولا يشعر به. لم يكن يقود إلى مكان محدد بقدر ما كان يهرب من اختناق داخلي يوشك أن يفتك به، حتى استقرت بوصلة الغضب فجأة عند وجهة واحدة: فيفي.


لم يمضِ وقت طويل حتى توقّف بعنف أمام صالون التجميل. أطفأ المحرك، ترجل سريعًا، ودفع الباب باندفاعةٍ لم تخلُ من تهديد.


داخل الصالون، كان كل شيء يسير في هدوء روتيني، لكن بمجرد أن ظهر حسن عند العتبة بملامحه المتصلّبة، بثيابه التي تحمل وقارًا جديدًا لم يعتادوا عليه، وبهالة الغضب التي تلفّه، تجمّد المكان.


انقطعت الأحاديث، وتجمدت النظرات عليه. ارتبك العاملون، وتبادلت النسوة النظرات في دهشةٍ مشوبة بالرهبة.


كان كالإعصار، عيناه مشتعلة بلهيبٍ لا يهدأ. لكن ما لم يكن يتوقّعه أن تقع عيناه على وجهٍ آخر مألوف.. نهال. تجمّد للحظة من وقع الصدمة، جحظت عيناه وهو يحدّق بها غير مصدّق، وكأن الزمن توقّف لحظة ليكشف له سرًّا كان غائبًا عنه.


نهال هنا.. مع فيفي. عندها فقط انكشفت أمامه الصورة كاملة؛ الشرّ اجتمع في مكانٍ واحد، الخراب تلاقت أركانه، واللغز الذي حيّره طويلًا صار أوضح من الشمس: هما الاثنتان وراء الكارثة التي هوت على رأس نغم.


اندفع ناحيتها دون كلمة، قبض على ذراعها بقوة، وجذبها بعنف جعلها تصرخ وتتعثر في خطواتها. لم يلتفت لرجائها ولا لنظرات المذهولين في الصالون، بل ظل يجرّها نحو مكتب فيفي كأنها غنيمة انتزعها من قلب معركة.


كانت فيفي جالسة في مكتبها الوثير، متكئة للخلف على الكرسي وهي تتأرجح ببطء يمينًا ويسارًا، سيجارة نصف مشتعلة بين أصابعها، والهاتف ملتصق بأذنها. صوتها ينساب ببرودٍ وراحة، وكأنها في جلسة نميمة معتادة، تضحك تارة، وتتنهد تارة أخرى.


لكن في لحظةٍ خاطفة تبدّل كل شيء.  اندفع الباب بعنف حتى ارتطم بالجدار، فشعرت وكأن المكتب قد اهتز من شدّة الارتطام. قفز قلبها إلى حلقها وهي تجفل مكانها، جمد الدم في عروقها، وسقط الهاتف من يدها على سطح المكتب بارتطامٍ مكتوم.


وقفت مشدوهة، عيناها اتسعتا بذهول. لم تكن الصدمة في دخول حسن وحده، بل في أنه لم يأتِ وحده؛ كان يجرّ خلفه نهال بعنف، يسحبها كما يُسحب الأسير إلى ساحة محاكمة.


تسمرت فيفي في مكانها، لم تعرف أتهبّ واقفة لتواجهه أم تهرب، كل ما استطاعت فعله أنها ابتلعت ريقها بصعوبة، والارتجاف يسيطر على جسدها، والذعر يطل من عينيها وهي ترى الغضب متجسدًا في ملامحه كوحشٍ خرج من بين ألسنة النيران ليبتلعها.


دفع حسن نهال للداخل دفعًا جعلها تختلّ وتسقط أرضًا، ثم دخل خلفها وأغلق الباب بعنفٍ هزّ جدران المكان، وأدار المفتاح ليضعه في جيبه بحركةٍ قاطعة.


وقف قبالتهما، عيناه تقدحان شررًا، وصمته المطبق أشدّ قسوة من أي تهديد. التقت نظراته المتوعّدة بالمرعوبتين، فيفي متسمّرة في مكانها كمن فقد القدرة على الحركة، ونهال ترتجف على الأرض تحاول النهوض.


في تلك اللحظة، بدا كأنه قاضٍ دخل ليحاكم مذنبتين، لا يُسمع سوى دويّ غضبه، ولا يُرى سوى انتقام يتربّص خلف جفنيه.


༺═────────────────═༻


كانت الطائرة تشقّ السماء بهدوء، فيما كانت نسيم جالسة إلى جوار النافذة، تحدّق في العتمة الممتدة خلف الغيوم كأنها تبحث عن آخر خيطٍ من الضوء الذي يربطها بالأرض التي تركتها.


 عيناها غارقتان في دموعٍ متواصلة، دموع لم تكن مجرّد حزن عابر، بل كانت نحيب روحٍ تُقتلع من مكانٍ تعلّقت به.


بداخلها كان صراعٌ محتدم؛ قلبها يرفض العودة، يرفض الانغماس مجددًا في الدائرة التي ظنّت أنها أفلتت منها. ففي كوبا وجدت شيئًا من ذاتها، نسيمًا لم تذقْه في القاهرة قط، لحظاتٍ قصيرة لكنها منحتها إحساسًا بالحياة. 


والآن، وهي فوق السحاب، تشعر أنها تُساق من جديد إلى قفصٍ قديم.


بينما عاصم إلى جوارها، يجلس بصمتٍ مُثقل، يراقب انحناءة رأسها، وارتجاف كتفيها كلّما حاولت كتم شهقتها. كان يعرف تمامًا ما يدور في داخلها، فهذه الدموع لم تكن على مكانٍ فحسب، بل على لحظات لم تذق في حلاوتها قط.


أحسّ عاصم بعجزٍ قاسٍ، كأن كل الكلمات التي يمكن أن يقولها تحوّلت رمادًا قبل أن تصل إلى شفتيه. اكتفى بأن مدّ يده ببطء، ووضع كفّه فوق يدها المرتجفة. حين التقت يداهما، رفعت عينيها نحوه ثم استسلمت لحنانه وأسندت رأسها على كتفه، كأنها تبحث في حضوره عن وطنٍ آخر غير الذي تُساق إليه.


التفتت نحوه للحظة، بعينين دامعتين، نظرة واحدة كانت تحمل مزيجًا من العتاب والتوسّل في آنٍ واحد. لم تتكلم، لكنه قرأ في عينيها سؤالاً مؤلماً: "لماذا يجب أن نعود؟ لماذا لا نستطيع أن نبقى حيث وجدنا أنفسنا؟"


ربت على يدها برفق، ثم رفعها إلى فمه وقبّلها ببطء، محاولًا أن يزرع بعض الطمأنينة في قلبها. كانت عيناها مثقلتين بالدموع، وهو يكره أن يراها على هذه الحال. قال لها بصوتٍ خفيض وهو يحاول أن يرسم ابتسامة خفيفة:

ـ روقي بقا مبحبش أشوفك زعلانة .. صدقيني والله لولا إني ورايا حاجات مهمة كنت فضلنا كمان أسبوع، وبعدين مانا وعدتك إننا هنسافر تاني ..


أومأت بصمتٍ مستسلم، فحاول أن يبدّد ثقل اللحظة ببعض المزاح، وقال:

ـ وممكن نجرب بلد تانية أحلى من كوبا.. إيه رأيك نسافر صربيا مثلا ؟!


رفعت رأسها من على كتفه في دهشة، تنظر إليه باستغراب، قبل أن ترد بسخرية ممزوجة بالعجب:

ـ ممكن أعرف لندن وباريس ومدريد قصروا معاك في إيه ؟! إنت بتجيب الأماكن دي منين بجد !


قهقه ضاحكًا، وصوته يحمل خفة غابت عنها للحظة:

ـ يا حبيبي متعة السفر في إنك تكتشفي أماكن انتي متعرفيش عنها حاجه ، وبعدين تقدري تنكري إنك اتبسطتي في كوبا ؟


أخفضت بصرها للحظة، وملامحها تنطق بالرفض والقبول في آن واحد، ثم همست:

ـ لأ ..


فأكمل بثقة هادئة، ونبرة تحمل وعدًا لا يقبل الانكسار:

ـ طيب.. يبقا تأكدي إني عمري ما هخليكي تخوضي تجربة أقل من اللي قبلها أبدا .. إديني بس أسبوع ولا اتنين أظبط أموري وأوعدك برحلة جاحدة .. وهتكون رحلة طويلة كمان .. اتفقنا ؟


تراخت كتفاها بضيقٍ صامت، لكنها أومأت في النهاية موافقة، ثم عادت تسند رأسها من جديد على كتفه، فاسترخت قسماته قليلًا وهو يسند رأسه للخلف، ويقول:

ـ وبعدين عاوزك تفهمي حاجة وتقتنعي بيها كويس.. الحياة يا نسيم مش بتتقاس بالمدى ، بتتقاس بالعمق.. يعني ممكن حد يعيش في مكان زي اللي كنا فيه شهور طويلة لكن كلها ملل و روتين، في حين إن إحنا قضينا أيام قليلة لكن مليانة تجارب جديدة ومشاعر حلوة.. فلو هنقارن نبقا إحنا الكسبانين .. مش كدة ولا إيه ؟


هزّت رأسها مؤكدةً، فابتسم ورفع يدها مجددًا إلى فمه، وقبّلها قبلة أطول هذه المرة. ثم أردف بصوتٍ أكثر دفئًا:

ـ وبعدين مفترض تكوني مبسوطة عشانك راجعة وهتشوفي نغم اللي دوشتيني بيها .


أومأت بابتسامة خفيفة وهي تقول:

ـ معاك حق، كلهم وحشوني.. نغم وعمر .. وحسن كمان.


زفر زفرةً طويلة ولم يُعقّب. لكن حين التفتت إليه فجأة، كانت في عينيها ومضة لهفة، وهي تهتف:

ـ إيه رأيك نعمل لهم عزومة عندنا في البيت ؟! ونتجمع كلنا .


لم ترَ في ملامحه حماسةً للفكرة، ومع ذلك ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة وهو يقول:

ـ البيت بيتك يا حبيبتي اعملي اللي انتي عايزاه.. أنا عن نفسي من الطيارة على الشركة .. مفيش وقت لأي حاجة تانية.. لكن لو عايزة تعزميهم وتتجمعوا سوا اعملي كده .


خفت بريقها رويدًا رويدًا، وأومأت ببطء، كمن يقيس وقع خيبة خفية. لاحظ ذلك، فربّت على يدها برفق، وقال بنبرةٍ أكثر دفئًا:

ـ لو شايفة إن اللمة دي هتفرق معاكي و هتخليكي مبسوطة بلاش تترددي.. كلميهم وخليهم ييجوا يقضوا معاكي اليوم وتتغدوا سوا كمان .. إيه رأيك ؟


ارتسمت على شفتيها ابتسامة جديدة، تلمع فيها شرارة فرح صغيرة، فهزّت رأسها بحماس مرددة:

ـ فكرة حلوة طبعا ..


ابتسم حين رأى البهجة ترتسم على محياها، ثم همس مداعبًا:

ـ والله انتي اللي حلوة وجميلة وتتاكلي أكل .


فاتسعت ابتسامتها بخجلٍ ودلال، قبل أن تعود لتغفو برأسها على كتفه، وتغلق عينيها في صمتٍ مطمئن. 


أما هو، فظل يطالعها بنظرةٍ طويلة، يمرر كفه على شعرها بحنانٍ صامت، وفي داخله بركان ثائر ، يشعر أنه يخونها مرتين؛ مرةً حين يُحبها بهذا العمق ويقسم أن يحفظها من كل أذى، ومرةً حين يكتم عنها ما قد يحطمها إن عرفته. 


وكأنه.. بين رغبته في البوح ورعبه من الفقد يقف ممزقًا كخيطٍ بين نصلين. 


༺═────────────────═༻


وقف حسن في منتصف الغرفة كالصخرة الراسخة، لا يتزحزح ولا يطرف له جفن. كان صمته أثقل من أي كلمات، ونظراته الموجهة نحو نهال وفيفي أشبه بسياط خفية تجلد الأرواح قبل الأجساد. لم تكن عيناه تنظران فحسب، بل كانتا تخترقان الحجب، تسبر أعماق النفوس وتكشف المستور.


ارتجفت نهال لحظة التقت عيناها بعينيه، كأن خنجرًا من برد اخترق صدرها. أحسّت أن الدم قد تجمّد في عروقها، وأن الكلمات التي كانت تستعد للتفوه بها ذابت على لسانها قبل أن تولد.


 أما فيفي، فحاولت أن تتوارى خلف ابتسامة مصطنعة، وقالت بلهجة متصنعة:

ـ حسن بيه مرسال بنفسه في الصالون عندي! ده أكيد يوم حظنا النهارده.


نظر إليها بحدة، وصوته خرج كريح باردة تخترق العظام:

ـ لأ مش يوم حظكم للأسف، لأني هطربقها على دماغكم انتوا الاتنين وهخليها ليلة طين عليكم..


شعرت فيفي فجأة بخوف شديد منه، لا تعلم لمَ. فهي طالما رأته في الماضي ضعيفًا، ضئيلاً، قليل الحيلة. أما الآن، فيكفي أنه ابن سالم مرسال؛ رجل له من السلطة والهيبة ما يجعل القلوب ترتجف قبل الأجساد.


التفت حسن بعينيه نحو نهال، وعاد لينظر إلى فيفي، وقال بصرامة:

ـ سؤال و رد غطاه … مين فيكم اللي كان ليه كلام مع أبويا ؟! عاوز الصراحة من غير لف ولا دوران عشان ماقلّش أدبي عليكوا انتوا الاتنين..


أشارتا معًا في اللحظة ذاتها، وكلٌّ منهما تسعى جاهدة لإلصاق التهمة بالأخرى، كأنهما مرآتان تعكسان الخيانة في اتجاهين متقابلين.


تصلب حسن في موضعه، يذرع بنظراته بينهما في حيرةٍ قاسية. كان وجهه ممتقعًا بدهشة لا تقلّ عن غضبه، كأنّ الأرض انشقت أمامه لتُخرِج له نسختين متناحرتين من الشرّ، كلتاهما تدّعي البراءة وتدفع بالعار نحو الأخرى. حدّق فيهما طويلًا، وعيناه تتوهان بين الاتهام والإنكار، حتى بدا كمن فقد بوصلته، غير قادر أن يميّز أيّهما تقول الحق وأيّهما تغزل شباك الكذب.


ارتبكت نهال حين رأت الشرر يتطاير من عيني حسن، وأدركت في أعماقها أن لحظة الحسم قد اقتربت، وأنها إن بقيت صامتة ستُسحق بين قدميه وبين مكائد فيفي. شعرت أن الخوف يطوّق صدرها وأن أنفاسها تتسارع، لكن غريزة النجاة دفعتها لأن تسبق غيرها بالكلام. رفعت صوتها على عجل، وكأنها تتشبث بآخر خيط للنجاة، وقالت بلهفة مرتبكة:

ـ بص يا حسن.. أنا هفهمك كل حاجة من الأول للآخر.. لما إنت وأمك الله يسامحها طردتوني من البيت أنا قلبي كان محروق منكم، ومنك بالذات، وكنت عاوزة أكسرك بأي طريقة، عشان كده رحت لسالم باشا و قلت له إني عارفة مكان چيلان.. 


وصمتت نهال فجأة، وقد تلعثمت الكلمات على شفتيها وهي تتجنب النظر مباشرةً إلى عينيه، كأنها تخشى أن يفضح بصره المرتعد ما تخفيه. بدت لحظات الصمت ثقيلة، تتساقط كسكاكين على صدرها، حتى لم تعد تقوى على احتمالها.


عندها دوّى صوته القاطع كالرعد، يحمل في نبرته الغضب والوعيد، فارتجفت أوصالها:

ــ وبعدين؟! كمِّلي!!


فتابعت بنبرة مهزوزة :

ـ يومها سألني تتوقعي حسن يكون مستخبي فين.. قلت له انك متجوز فيفي وممكن تكون مستخبي عندها وقلت له على العنوان، وهو وعدني إني لو رحت معاه القسم وقلت اللي أعرفه هناك هيديني الفلوس اللي طلبتها.. اللي هما ١٠٠ ألف جنيه.. وانا سمعت كلامه ورحت معاه على القسم، وبعد ما نفذت الاتفاق من جهتي اداني على قفايا ونصب عليا في الفلوس، وانت عارف اني موتي وسمي حد ينصب عليا ويستعبطني.. ما كانش عندي حل وقتها غير اني اجي اشتغل مع فيفي بعد ما الدنيا كلها جت عليا.. وبالفعل جيت واشتغلت مع فيفي، حكيت لها كل اللي حصل ومن ضمن الكلام قلت لها على الفيديو بتاع نغم في الأسانسير.. 


ارتسمت الدهشة على وجه حسن للحظة، وانعقد حاجباه في حيرة واضحة، قبل أن يهتف بشبه همس يقطر دهشة وغضبًا في آن:

ــ فيديو إيه؟


ارتجفت أناملها، وتجنّبت عينيه باضطراب، فمضت تحدّق في الفراغ كمن يفتّش عن مهربٍ لا وجود له. ثم قالت:

ـ نغم في مره كانت جايه تزورني والكاميرات صورتها وهي بتسرق راجل في الأسانسير ..


تصلّب وجه حسن فجأة، كأن الكلمات سقطت عليه كالصاعقة.

انعقد حاجباه في غضبٍ دفين، غير موجَّه إلى أحد سواه،

وغامت عيناه بظلالٍ قاتمة تُخفي وراءها نارًا تتأجّج في صدره.


ظلّ يحدّق في نهال صامتًا للحظات، كأنما يحاول قراءة ما بين كلماتها، أو التأكد من أنها لا تخادعه، فيما تابعت هي :

ـ لما قلت قدام فيفي على الفيديو بتاع الأسانسير هي كمان قالت لي أنها ماسكه عليها فيديوهات.. ومن هنا فكرت اروح لأبوك مره تانيه و أساومه على الفيديوهات دي جايز اطول ال 100 الف اللي نصب عليا فيهم المره الأولانية ... 


اتسعت عيناه بذهولٍ غاضب، وارتعشت أنفاسه كمن يحاول أن يمنع نفسه من الانفجار.


رفع يده إلى جبينه، وضغط بأصابعه بعنف كأنه يريد أن يسحق الأفكار التي تتزاحم في رأسه.


وتردّد صوته أجشًّا، مبحوحًا من شدّة الغضب والأرق :

ـ وبعدين ؟!


هنا نطقت فيفي بغضب وقالت:

ـ أقوللك أنا وبعدين.. لما الخسيسة خاينة العيش والملح اللي واقفة قدامك دي راحت تقابل أبوك وقالت له على موضوع الفيديوهات طردها للمرة التانية .. لكن  بعت وراها رجالة بلطجية لحد السنتر هنا،  هددوني و خدوا مني الفيديو بالقوة .. يعني هي أساس كل البلاوي.. وفي الآخر لا طالت بلح الشام ولا عنب اليمن ..


التفت حسن ببطء نحو نهال، وعيناه تقدحان شررًا، حدجها بنظرة تحمل كل ما يمكن أن يجتمع من غضبٍ واشمئزازٍ واتهام؛ فارتجفت نهال تحت وقع هذه النظرات، كأن الأرض تبتلعها رويدًا، بينما خطف حسن نفسًا عميقًا واقترب نحوها فجأة، ثم قال بصوتٍ غليظٍ يقطر حنقًا:

يعني انتي السبب في كل ده !


أطبق حسن فكّيه بعنف حتى برزت عروقه وتصلّبت ملامحه، ثم اندفع نحوها كالعاصفة، وأحكم قبضته على عنقها بقسوة. ارتجف جسدها تحت وطأة يده، فيما عيناه تصرخان بالجنون :

ـ كل ده ليه ؟! علشان الفلوس ؟! ولا لأنك بتكرهيها وبتغيري منها ؟!


كانت نهال تحاول إبعاده عنها، أصابعها المرتعشة تنشب في يديه لتفك قبضته، وصوتها يخرج متقطّعًا، ممزوجًا بالرجاء والاختناق:

ـ إنت بتعمل إيه … هتموتني يا حسن !


كانت يد حسن تزداد قسوة كلما زاد صراخ نهال المكتوم، وجهها يزرقّ شيئًا فشيئًا، وعيناها تتسعان في هلعٍ أشبه بالاحتضار. في تلك اللحظة اندفعت فيفي بجنون، صرخت وهي تمسك بذراع حسن بكل ما أوتيت من قوة:

ــ سيبها يا حسن! هتموت في إيدك!


شدّت على ذراعه محاولة أن تُضعف قبضته، لكنّه ظل متشبّثًا بعنق نهال كأنّه يثأر من ماضٍ ثقيل ينهشه.


ــ سيبها بقولك! هتضيّع نفسك عشان واحدة زي دي !


صرخة فيفي اخترقت جمجمته كالرعد، فأفاق قليلًا من غيابه، نظر إليها بعينين حمراوين تتأجج فيهما النار، ثم إلى نهال التي كادت تسقط مغشيًّا عليها، فارتجف جسده فجأة وتراخت أصابعه. أفلتها بحدة وكأنّه يطرد عنها سمًّا عالقًا بيديه.


تراجعت نهال وهي تسعل بعنف، تمسك بعنقها الملتهب وقد انهارت قواها تمامًا، بينما حسن يقف في مكانه متصلّبًا، صدره يعلو ويهبط في غضبٍ مكتوم .


ووقف ينظر إليهما بحدة ، ويوجه حديثه إلى كلاهما ويقول :

ـ يمين بالله.. اللي منكم هتفتح بؤها بحرف عن نغم مرة تانية ولا هتفكر بس تجيب سيرة الموضوع ده تاني هنسفها نسف.. 


ونظر إلى نهال ، وتابع بحدة :

ـ خصوصًا انتي.. لو مشيلتيش نغم من دماغك وبطلتي تغلّي منها أنا هندمك على اليوم الي نزلتي من بطن أمك فيه .. سمعاني !!!


صاح بالكلمة الأخيرة صيحة هزّت أركان الغرفة، فارتجفت نهال بكامل جسدها، وأومأت برأسها سريعًا وهي تتحسّس عنقها المتورم، تتنفس بصعوبة، كمن أفلت للتو من حبل المشنقة.


بينما ظلّت عين حسن مسمّرة عليها، لا يزحزحه عنها شيء، كأنه يتأكد أن وعيده قد حُفر في أعماقها حفرًا لا يُمحى.


أما فيفي، فظلت واقفة في مكانها مذهولة، تحدّق في حسن بعيون متسعة، وكأنها ترى لأول مرة وجهه الحقيقي.. وجه لا يعرف التردد ولا الرحمة. ارتجفت أصابعها بلا وعي، وأحسّت بقشعريرة تسري في أوصالها؛ فالقوة التي كانت تراها ضعفًا في الماضي انقلبت أمامها جبروتًا مخيفًا لم تتوقعه يومًا.


ظل حسن واقفًا شامخًا، أنفاسه متلاحقة من فرط الغضب، ونظراته الحادة تتنقّل بين المرأتين كمن يفرض سيطرته الكاملة عليهما، حتى خُيّل إليهما أن مجرد التحديق فيه قد يكون سبب هلاكهما.


خرج حسن من الغرفة كمن يجرّ قدميه فوق أشواك، جسده يمضي بينما روحه مثقلة بعاصفة لا تهدأ. الهواء في الخارج لم يمنحه حرية ولا طمأنينة، بل زاد من ارتباكه، وكأن كل نسمة تحمل في طياتها سؤالًا جديدًا لا يجد له جوابًا.


كان كمن يسير في نفق مظلم بلا نهاية، يعلم أن الضوء موجود في مكان ما، لكنه عاجز عن تحديد طريقه. الخوف ينهش داخله، والتوتر يشدّ أوصاله، والشك يزرع في قلبه بذورًا مسمومة.. ومع كل ذلك، يقف على حافة الهاوية. 


أطبق جفنيه للحظة، فتهافتت الصور أمامه: وجه نغم البريء وقد صار مادة لابتزازهم، صفعة أبيه القاسية التي لا تزال ترن في ذاكرته، خيانة نهال، ومكر فيفي.. كأن شياطين الماضي والحاضر اجتمعت لتتآمر عليه في وقت واحد.


فتح عينيه على اتساعهما، يحدّق في الفراغ بعينين يملؤهما التيه. لم يعد يعرف أي طريق يسلك، ولا من يثق به. كل ما يعرفه أنه عالق في دائرة من الخوف والشك والغضب، دائرة تضيق عليه أكثر فأكثر حتى تكاد تخنقه.


༺═────────────────═༻


عندما بدأت خيوط الفجر تتسلل إلى السماء، كان جسده منهكًا وروحه أثقل من أن تُحمل. فقاد سيارته نحو الفيلا، توقّف أمام البوابة الكبيرة، ظلّ جالسًا في السيارة للحظات، أنفاسه متقطعة وعيناه شاخصتان نحو المكان الذي لم يعد يشعر فيه بالراحة ولا الأمان.


وأخيرًا، ترجّل من السيارة بخطوات مترددة، كأنما يسير نحو قدرٍ محتوم. دخل الفيلا بصمتٍ خانق، يحاول ألّا يلفت انتباه أحد، فقد جاء وهو لا ينوي سوى أن يجمع بعض الأغراض ويرحل. لم يكن يعرف أين سيتجه أو أين سيستقر، كل ما يعرفه أنه سيغادر ولن يعود إلى هذا المكان مجددًا.


صعد إلى الطابق العلوي، وقبل أن يبلغ غرفته، استوقفه باب غرفة والده المفتوح. ألقى نظرة خاطفة، فأصابه التعجب؛ إذ وجد سالم جالسًا في مقعده الوثير، مسبحته في يده، وساعداه مستقرّان على مسندي المقعد بثبات. وما إن لمح حسن حتى قال بهدوء آمر:

ـ تعالى يا حسن.


توقف حسن عند العتبة، نظر إليه بتعجب وضيق عينيه قليلًا، ثم اقترب خطوة وقال:

ـ نعم؟


سأله سالم ببرودٍ غريب:

ـ كنت فين لحد دلوقتي؟


قطّب حسن جبينه باستنكار ممزوج بالدهشة، وردّ ساخرًا:

ـ بتسأل ليه؟!


تغضن جبين سالم، وأخذ يحرّك حبات المسبحة بين أصابعه، ثم رفع عينيه نحوه قائلًا بلهجة هادئة:

ـ بسأل لأني أبوك ولازم أعرف عنك كل حاجة.. وبعدين إنت من إمتى بتسهر بره لحد دلوقتي؟ مش شايف إنك راجع متأخر حبتين؟


حدّقه حسن بذهول من بروده، كيف يتحدث وكأن شيئًا لم يكن بينما العاصفة قد هزّت البيت قبل ساعات معدودة؟ زفر بحدة وقال مقاطعًا:

ـ لا متأخر ولا بدري.. أنا كده كده ماشي. خلاص مليش قعاد في البيت ده بعد اللي حصل!


اشتد بريق سالم في عينيه ونهض فجأة، لكنه ما لبث أن ارتج جسده وهاجمه دوار مفاجئ، فسقط من جديد فوق المقعد مغمض العينين، واضعًا يده على رأسه. فهرع حسن نحوه يهتف بقلق:

ـ في إيه مالك؟! حاسس بإيه؟!


أسند سالم كفه فوق كتف ابنه، محاولًا النهوض وهو يجيب:

ـ مش عارف دايخ ليه كده.


ارتبك حسن، وقال بلهجة يغلبها القلق:

ـ إنت مش بتاخد علاجك ولا إيه؟!


أجاب سالم بصوت متعب:

ـ بقولك إيه يا حسن.. ساعدني أدخل السرير وأنام.. جايز لو نمت أرتاح.


تأمل حسن ملامحه بقلقٍ وحيرة، ثم ساعده حتى بلغ الفراش، وأسنده حتى تمدد فوقه، ثم دثره بغطائه قائلًا:

ـ أنادي لك الممرضة تشوف علاجك ولا تقيس لك الضغط؟


لكن سالم أشار بيده في إعياء وقال:

ـ لأ.. ملوش لازمة. أنا لما أنام هرتاح.


أومأ حسن بصمت، وغادر الغرفة متثاقل الخطى، يلقي نظرات مترددة على أبيه الذي ظل يحدّق فيه بثباتٍ غامض، كأنما في داخله حديثٌ يريد أن يبوح به لكنه عاجز.


أغلق حسن الباب خلفه بهدوء، ثم توقّف أمامه شاردًا. كان من المفترض أن يتوجه إلى غرفته ليجمع أغراضه ويغادر.. ولكن لمَ تراجع فجأة؟! لمَ انقلب قراره أدراج الرياح؟


تنهد بضيقة صدر وتشتتٍ خانق، ثم هبط الدرج ببطء. خرج إلى الحديقة واتجه إلى المكان الذي جلس فيه ليلًا، فوجد هاتفه لا يزال في موضعه. التقطه ونظر في الشاشة، فإذا بعدّة مكالمات فائتة من زينب، كانت قد استنجدت به حين فعل بها سالم ما فعل.


تجدد غضبه من أبيه، لكن الحيرة ما لبثت أن اعتصرته. هو غاضب من تصرفاته، ناقم عليه، لكنّه في الوقت نفسه يحاول التغاضي عنها، يخشى أن يستسلم لمشاعر الكره تمامًا.. وهو لا يريد أن يكرهه، لا يريد أن يخسره، فقد بالكاد أصبح له أبًا.


أسقط رأسه للخلف بتعب، وعيناه معلّقتان في فضاءٍ مظلم، تتزاحم فيه كل الأحداث التي مرّت في الساعات الأخيرة. ظل يفكر ويفكر، حتى أثقله النعاس وغفا وهو جالس، يجر وراءه إرهاقًا لا يعرف له نهاية.


༺═────────────────═༻


لم يغمض لها جفن طوال الليل. جلست على طرف الفراش، تحدّق في شاشة الهاتف بعيون مثقلة، تتنقّل من إعلان إلى آخر، تبحث عن بيتٍ تشتريه وكأنها تبحث عن طوق نجاة تنتشل به نفسها من الغرق.


كل كلمة قالها سالم ترددت في أذن چيلان كصفعة لا تهدأ، خاصة حين أعلن ببرود أن البيت بيته، وأن على الجميع الطاعة العمياء.


كانت تشعر أن الأرض ضاقت بها بما رحبت، وأن وجودها في تلك الفيلا لم يعد إلا عبئًا عليها. أصابعها المرتجفة كانت تنقر على الشاشة بإلحاح، بينما قلبها يئن في صمت.


لم تكن تبحث عن بيت فحسب، بل كانت تبحث عن مخرج، عن مكانٍ تستعيد فيه ما تبقّى من كرامتها وهدوءها بعيدًا عن تسلط النظرات وحدّة الكلمات.


وحين مرّت الساعات، وجدت نفسها عند الفجر منهكة الجسد، متعبة الروح، لم تذق للنوم طعمًا، ولم تجد للراحة سبيلًا.. كأنها تجرّ الليل فوق كتفيها وتدخُل به إلى يوم جديد.


غادرت الغرفة بضيق، مرتديةً منامتها، وفوقها وشاح خفيف يقيها نسيم الصباح البارد. كانت خطواتها متثاقلة، كأنها تبحث في الهواء عن راحة ضائعة، فتقدّمت إلى الحديقة حيث السكون يلف المكان.


وما إن دارت بعينيها حتى وقع بصرها على حسن، ممددًا على المقعد، رأسه مائل إلى جانب، ملامحه منهكة، والنوم قد غلبه وهو لا يزال يرتدي همومه كعبء ثقيل. 


توقفت چيلان في موضعها، تراقبه بصمت، وشعرت بارتجافة غريبة تتسلل إلى قلبها؛ مزيج من الشفقة والحيرة، وكأنها تراه لأول مرة هشًّا بهذا الشكل، عارياً من كل صلابته المعتادة.


تقدمت منه بهدوء، ووقفت تتأمله… ملامحه قاسية كأنها نُحتت من صخر، لكن خلف تلك الخشونة يطلّ بريق مختلف، جاذبية لا تشبه أحدًا، ووسامة غير مألوفة، فيها صدق الحياة وقسوتها معًا.


وما إن عادت إلى ذاكرتها مواقفه المشاكسة التي تكاد تودي بحياتها حتى تسلّل الغضب من جديد إلى صدرها، فشدّت الوشاح على كتفيها وهمّت بالانصراف بحنق. غير أنّ عينيها وقعتا على أثر الصفعة المرتسم بخفة على وجهه، فتوقفت لحظة واقتربت منه أكثر لتطالعه عن قرب أكثر .. و فورًا تذكّرت كيف كانت تلجأ إلى ذلك الدهان الملطّف حين صفعتها أمها، وكيف استخدمه عمر يوم صفعه سالم أيضًا … عندها عادت بخطوات مترددة إلى غرفتها، وفور أن غادرت بخطواتها المترددة، تحرّكت أجفانه ببطء كمن يفيق من حلم طويل، ثم فتح عينيه ليلتقط بقايا عطرها العالق في الهواء. كان كأنه ما زال غارقًا في حضورها، يتنفسه بكل جوارحه. ولأول مرة منذ لقائهما، لم يجد في نفسه قدرة على مشاكستها أو استفزازها؛ بدا ساكنًا، هشًّا، كأن دفء قربها قد نزَع منه كل أقنعته الصلبة وتركه مجرد رجل مُنهك لا يملك سوى أن يستسلم لذلك الأثر الذي خلّفته في روحه.


دخلت جيلان غرفتها، التقطت الزجاجة بخفّة، وعادت بها مسرعة، ثم وضعتها بجوار حسن الذي كان يسبل جفنيه كالنائم في صمتٍ مطبق، قبل أن تمضي عائدة إلى غرفتها من جديد.


ولا تعرف أنّه كان يراقبها من خلف ستار إغماضه، يستشعر دفءَ حضورها وارتباك خطواتها، ويعي تمامًا أنّ ما فعلته لم يكن بدافع الشفقة وحدها، بل كان خيطًا خفيًا من العناية التي حاولت إنكارها حتى عن نفسها.

༺═─────────────═

#يتبع

تكملة الرواية من هنااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close