القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثامن عشر 18بقلم سيلا وليد حصريه

 

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثامن  عشر  18بقلم سيلا وليد  حصريه 




رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثامن  عشر  18بقلم سيلا وليد  حصريه 




 

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثامن  عشر  18بقلم سيلا وليد  حصريه 

 


 


الفصل الثامن عشر




"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"


ليست السعادة وعدًا بعيدًا ولا لحظة عابرة، بل خيطٌ خفي ينسج بين الحب والوجع، بين العشق الذي يبني والانكسار الذي يعلّم. هي أن تنهض رغم الألم، أن تحب ذاتك حين يخذلك الآخرون، وأن تجد في حضنٍ صادق أو كلمة حق نافذةً للنور. السعادة الحقيقية أن تكون أنت؛ بكل ما فيك من ضعف وقوة، من شظايا وأحلام، وحينها فقط… لن تبحث عنها، لأنها ستكون فيك.


قبل عامٍ مضى..

في النادي الخاص بأرسلان، كان منهمكًا في أوراقه وأعماله، حين فُتح باب مكتبه بعنف دون استئذان..رفع رأسه بحدَّة، ليجد إسحاق واقفًا أمامه بكلِّ صلابته..


اعتدل أرسلان واقفًا بذهول وهو يتأمَّل ملامحه المرهَقة:

-عمُّو…في إيه، مالك؟!


خطا إسحاق نحوه، واردف بصوت يقطر غضبًا وحيرة:

-أنا بالنسبالك إيه ياابن فاروق؟


انقبض صدر أرسلان من وقع السؤال، وضاقت عيناه وهو يحاول استيعاب مقصد تلك الكلمات:

-مش فاهم قصدك..وبعدين إحنا مش خلصنا من موضوع "ابن فاروق" ده من زمان؟


اقترب إسحاق أكثر، والشرر يتطاير من عينيه:

-إنتَ بتستهبل ياولا، مش فاهم كلامي ولَّا بتتغابى، لمَّا فاروق مايبقاش أبوك..يبقى أنا عمَّك إزاي؟


تجمَّدت الكلمات في حلق أرسلان، وعجز لسانه عن الرد..أطرق برأسه إلى الأرض، هاربًا من نظراته الفاحصة، ممَّا جعل أسحاق ينقضُّ عليه، ممسكًا بتلابيبه بعنف:

-من إمتى ياأرسلان تخبِّي حاجة عنِّي، مش المفروض أنا أب ليك، ولَّا خلاص لغيتني زي مالغيت فاروق؟

ثمَّ أردف بمرارةٍ وحنق:

-ماتجيبليش سيرة القلم اللي ضربك بيه، ولا إنُّه دافع عن أمّه..دي أمُّه يابني، ومريضة سرطان..وإنتَ أكتر واحد عارف قلب فاروق الحنيِّن.


أنزل إرسلان يده ببطء، ثم تراجع ليستقرَّ على المقعد المقابل، يحمل في ملامحه ذهولًا ممزوجًا بالخذلان..

قال أرسلان بجمودٍ حاول أن يخفي خلفه انكساره:


- عمُّو إسحاق، أنا معنديش كلام جديد أقوله..حضرتك أذكى من إنَّك تحتاج شرح…أنا رجَّعت أمِّي صفية علشان ده حقَّها، تعيش في بيتها معزَّزة مكرَّمة بعد ماأفنت فيه عمرها..مينفعش واحدة غريبة، مالهاش قيمة في حياتنا، تيجي وتعيش على حساب تعبها..مع كامل احترامي لبابا، وعارف إنُّه من حقُّه يتجوِّز بدل المرَّة أربعة، ومااعترضناش وقت ماكسرها أوَّل مرَّة واتجوِّز، بس ساعتها ماكنش ليها سند..كنت لسه طفل، وحضرتك بين مصر وفرنسا..إنما دلوقتي..أنا بقيت راجل.


انعقد حاجبا إسحاق، ونطق بصوتٍ خرج حادًّا رغم محاولته السيطرة:


- يعني إيه ياأرسلان؟


ابتسم أرسلان بسخرية حزينة، ورفع عينيه نحوه بثبات:


- اسأل فاروق باشا…هوَّ اللي عنده الجواب، دا لو حضرتك فعلًا متعرفش.

- تقصد إيه؟!


ماعنديش ردِّ تاني..صدَّقني، مفيش غير بابا يقدر يجاوبك، أو حضرتك..لو عايز تعرف بطريقة تانية، هتعرف.


ساد الصمت لحظةً ثقيلةً بأنفاسٍ مختنقة، ثم أومأ إسحاق إيماءةً مقتضبة، واستدار خارجًا دون أن ينبسَّ بكلمةٍ أخرى.

أمَّا أرسلان، فجلس على مقعده، يطبق كفَّيه حتى ابيضَّت أنامله، وغامت عيناه بمرارةٍ لم يستطع حبسها، وكأنَّ كلَّ جملةٍ نطقها للتوّ أعادت إليه أحزانًا   حاول أن يطمرها بالنسيان.


فرك جبينه بأصابع مرتعشة، محاولًا السيطرة على دموعٍ عصيَّة، كادت أن تفضحه..دقائق ظلَّ فيها أسير أنفاسٍ متلاحقة، إلى أن هدأ غضبه شيئًا فشيئًا، ثم ارتمى بجسده على المقعد، مغمض العينين، وكأنَّه يغوص في ذاكرته بحثًا عن لحظاتٍ قديمة… لحظات كان فيها طفلًا يتوسَّد أحضانها، يلوذ بدفء صدرها من قسوة العالم.


قطع استغراقه ذلك الرنين المزعج للهاتف، التقطه بآليةٍ ورفعه إلى أذنه:


- أيوة.


- إنتَ فين؟!


-في الشغل..في حاجة؟


يبقى عدِّي على فيلَّا السيوفي..إيه رأيك نتجمَّع هناك الليلة؟


عقد حاجبيه متسائلًا:


- اشمعنى الليلة؟ النهاردة الاتنين.


أتاه صوت إلياس عبر الهاتف، ممزوجًا بضجيج الطريق:


النهاردة عيد ميلاد فريدة هانم..ميرال عايزة تعملَّها حفلة صغيرة، إنتَ عارف الستَّات وهبلها.


ارتجف قلب أرسلان، وانفرجت شفتاه بتمتمةٍ خافتة:


- ماما..عيد ميلادها النهاردة؟


قالها وكأنَّه يسمع عن امرأةٍ غريبة لا تقربه، بينما الحقيقة أنَّها دمَ قلبه، وروحه التي قصَّر في حقِّها حتى جهل يوم مولدها.


جاءه صوت إلياس سريعًا:


أيوة..متتأخرش، وميرال بتقولك متنساش الهدية.


- حاضر.


أغلق الهاتف ببطء، وأسنده إلى مكتبه، بينما قلبه يصفعه بندمٍ موجع..كيف وصل به الحال إلى أن يجهل تاريخ ميلاد أمه، كيف غفل عن تفاصيلها التي تستحقُّ أن تُحفظ في الذاكرة كما تُحفظ أنفاسه؟!


نهض فجأة، كأنَّ الأرض ضاقت عليه، واتَّجه بخطواتٍ متسارعة نحو سيارته، لم يعد قادرًا على البقاء لحظة واحد أخرى بعيدًا عنها..غادر النادي كمن يهرب من نفسه قبل أن يهرب من المكان.


بعد وقتٍ قصير وصل أرسلان إلى منزله، ليجد غرام قد انتهت من استعدادها للمغادرة إلى فيلَّا السيوفي..

ابتسمت له وهي تتأمَّله قائلة:


-اتأخَّرت ليه ياحبيبي؟


اقترب منها وقبَّل وجنتها قبلةً سريعة، ثم أخرج من جيبه علبةً زرقاء صغيرة وهو يقول:



كنت بجيب هدية لماما…إيه رأيك؟


فتحتها غرام، فاتَّسعت عيناها دهشةً وهي تلهث إعجابًا:


وااو…لا كدا أنا لازم أغير من ماما فريدة.


ضحك بخفَّة، وهو يحيط كتفيها بيده ويسير بها نحو غرفته:


حقِّك ياروحي، بس طبعًا مفيش حد ينفع يغير من والدته.


ألقت رأسها على صدره بابتسامةٍ عاشقة:


أكيد…أنا بس هزوِّد هديتها شوية.. وعلى فكرة، أنا كمان جبت هدية مع ميرال، بس مش هقولَّك…خلِّيها مفاجأة.


قبَّل جبينها بحنانٍ هامس:


ربِّنا مايحرمني منِّك.


تطلعت إليه بقلقٍ خافت:


- مالك ياحبيبي؟ شكلك مش على بعضك.


تنهَّد وهو ينزع جاكيت بدلته، مشيرًا إليها أن تحضر له ثيابه:


- مفيش…شوية إرهاق يلَّا بقى نجهز، بلاش نتأخَّر.


أومأت برفق، ثمَّ تحرَّكت للداخل.. دقائق عادت بعدها متألقة، لتستقلَّ السيارة إلى جواره..

قاد السيارة متَّجهًا إلى فيلَّا السيوفي:


-ليه بلال وضي راحوا مع إلياس؟


أجابت بابتسامة وهي تنظر على الطريق:


بلال مسك في يوسف، وطبعًا أنا مش هقولك على الاتنين…خفت يوسف مايروحش لو يوسف قعد عشانه..قلت خلِّي إلياس يتصرَّف، هوَّ أقدر منِّي في الحكاية دي.


أومأ أرسلان باقتناع وهو يربت على يد غرام:


صح اللي عملتيه ياحبيبتي.


لم تمر دقائق حتى توقَّفت السيارة أمام فيلَّا السيوفي..نزل أرسلان، لتستقبله أجواء الحديقة المليئة بضحكات الأطفال.


توقَّف متسائلًا وهو يجول بعينيه المكان:


مفيش حد هنا ولَّا إيه؟


ركضت ضي إليه بسرعة، تتشبَّث بيده:


- اتأخَّرت ليه يابابا؟ انطي ميرال عملت كيك حلو أوي.


ابتسم لها بحنان، ثم تساءل بلهفة خافتة:


- تيتا فين؟


هزَّت الصغيرة كتفيها علامة جهل، وردَّت ببساطة:


- معرفش..هيَّ مش هنا، بس عمُّو إلياس وطنط ميرال في المطبخ.


انعقد حاجباه وهو يرمق غرام:


-إلياس..في المطبخ؟ دا شكله بيعمل طبق اليوم.


قهقهت غرام بخفَّة وهي تتبعه إلى الداخل.


في المطبخ قبل قليل..

كان يقف بجوار ميرال وهي منشغلة بتزيين الكعكة..أشارت له بحركةٍ سريعة:


حطّ شوية فاكهة هنا.


مدَّ يده بتكاسل، وألقى بضع حبَّات كريز على السطح وهو يتذمَّر:


أنا زهقت..اللي يشوفك يقول ماسكة عليَّا ذلَّة.


ابتسمت ميرال برقَّة وهي تصلح توزيع الكريز:


إلياس..حطّ الفراولة ياحبيبي، ماتتكلِّمش كتير…قولت لازم تشارك، ومن غير اعتراض.


ألقى الطبق الذي يحمله بعنف على الطاولة، وقال بصوت يقطر غضبًا:


-خدي يابت…حطِّي اللي إنتي عايزاه، هوَّ علشان وافقت تسوقي العبط؟


شهقت ميرال بخفَّة وهي تردُّ بسخرية متوترة:


"أسوق العبط"؟ دا إلياس بيقول ملافظ سوقيَّة ياااا بيئة


في لحظة، سحبها من خصرها بقوَّة حتى ارتطمت بصدره، وتجوَّلت يداه بخشونة على خصرها، جعلتها تتأوَّه بألمٍ مكتوم..همس بصوتٍ حاد:


-اتعلِّمته في الحارة اللي جبتك منها… ودلوقتي هطلع آخد شاور..عايز أنزل ألاقي العك دا كلُّه نضف…مش عاملة شاطرة وخرَّجتي الكلِّ من المطبخ.


أشار  إلى خصلاتها المرفوعة للأعلى، وقال ساخرًا:


والـ"أريل" اللي فوق دا..نزِّليه وظبَّطي البلياتشو ياستِّ فكهات.


ضغطت ميرال بقوَّة على قدميه تحت الطاولة، فارتدَّ للخلف متألِّمًا..ردَّت بصرامة وهي تشير إلى الكعكة:


-الكيك خلصت، وإنتَ اللي هتزيِّنها… من غير ولا كلمة اعتراض..سمعتني ولَّا لأ؟


ضيَّق عينيه وهو يحدِّق بها بصمتٍ لاذع، ونظراته تنذر بشيءٍ لم تُرد له أن يخرج للعلن..أدركت مايفكِّر فيه، فانتفضت واقفةً أمام قالب الكيك كحاجز، وحاولت التخفيف من حدَّة غضبه:


- اطلع خد شاور ياحبيبي، دا حتى ريحتك تشوكليت ياحرام.


رفع حاجبه متهكِّمًا، واقترب منها بخطوةٍ بطيئة:


- والشاور دا..مش عايز بني آدم يساعدني فيه؟


اتَّسعت عيناها من وقاحته، فتراجعت إلى الوراء:


-إنتَ بتقول إيه؟!.


قاطعهم دخول أرسلان فجأة، بصوته الجهوري:


- ياإلياس..جهَّزت الغدا ولَّا لسه؟


تراجع إلياس خطوة، والتقط حجاب ميرال من على الكرسي، ثمَّ وضعه على رأسها:


غطِّي..الغبي بيدخل من غير مايخبَّط.


تصلَّبت ملامح أرسلان، ارتسمت على وجهه سخريَّة لاذعة:


آه..الحق عليَّا ماخبَّطش على طمطماية ولَّا قرن فلفل..أنا داخل مطبخ أمِّي، مش أوضة نومك..اتلمِّ بقى، ليك بيت مش الحبِّ مولَّع في غلِّة أبوك.


قهقهت ميرال بخجل من تلميحاته:

-غلِّة أبوك، والمحروس كان شغَّال إيه؟.

-كنت شغَّال تمرجي.

-تمرجي، ودا بيعمل إيه؟.

-بيدِّي حقن شرجية يابابا، هوَّ قالِّي كدا، مش كدا ياعمُّو؟.

-عمى الدبَّة الخارسة يابنِ إلياس.

ضيَّق يوسف عينيه:

-يعني إيه؟..

أشار إلياس للجميع بمغادرة المطبخ:

-يالَّه كلُّكم برَّة، دا مطبخ مش ملعب كرة.

انحنى أرسلان يتَّكئ على كفَّيه:

-والله تصدَّق كنت مفكَّره أوضة ولادة.


جذب يوسف زجاجة المياه:

-أنا كنت جاي آخد ميَّة يابابا، إحنا في الجروند..قاطعه أرسلان:

-اجهز علشان ناوي أفوز عليك يالا إنتَ وأبوك..تحرَّك يوسف دون حديث بينما


ألقى إلياس الكريزة عليه وهو يتمتم بضيق:


- يلَّا برَّة.


ضيَّق عينيه يتفحَّص قالب الكيك الموضوع أمامه، ثمَّ قال بنبرةٍ هادئة:


تسلم إيدك ياميرو، شكلها حلو وأكيد طعمها كمان…بس ليه ماجبتيش جاهز؟


ابتسمت ميرال وهي تواصل تزيين القالب:


-ميرسي ياأرسلان، أنا طول عمري بعملها بإيدي، مابحبِّش أجيبها من برَّة.


تدخَّلت غرام مقاطعةً حديثه:

-ميرو شطورة على فكرة، هيَّ أه مابتطبخش، بس عندها نفس حلو أوي.


-ماتوقَّعتش الصراحة إنِّك بتوقفي في المطبخ زي غرام.

رفع إلياس حاجبه ساخرًا على حديث أرسلان، ثم التفت إليها:


- ميرسي ياأرسلان، بتحسِّسيني إنُّه جايبلك سوليتير.


انفجر أرسلان بالضحك، ثمَّ جذب غرام وأحاطها بذراعه قائلًا:


-تعالي ياروحي نمشي، أصله بيستهبل وأنا مابحبِّش كدا.


تمتم إلياس بامتعاض:

- غبي.


ردَّ أرسلان بسرعة وهو يبتسم:


-وأخوه أغبى منُّه، متنكرش.


ضحكت ميرال على مناوشتهما وهي تضع اللمسات الأخيرة للكيك:


-طيب إيه رأيك؟


اقترب إلياس منها يرمقها طويلًا، ثم قال:


شايف الضحكة دي من الودن دي للودن دي.

نظرت إليه ومازالت تواصل عملها

- ودا إيه يعني، مش معقول تكون غيرة؟ أصلك مش وشِّ غيرة.


تأمَّلها للحظة صامتًا، فارتبكت ونزلت ببصرها لتضع آخر قطعة فاكهة:

-مش لايق عليك دور الغيرة، همشِّيها متحكِّم..قالتها ورفعت نظرها إليه وتابعت:

-إلياس غير أي شخص، يعني حاجة خاصَّة، مينفعش يتقارن بالعادي، ودا مش عيب ياحبيبي..شخصيِّتك كدا، يعني مش لايق عليك موضوع الغيرة

دا..


ظلَّ يستمع إلى كلامها ثم انسحب فجأةً من المطبخ دون كلمة..عقدت حاجبيها بدهشة وهمست:


معقول يكون زعل؟! أنا كنت بس بنكشه..

لملمت الأشياء المبعثرة، ثم تحرَّكت للخارج ، تسمح للخدم بالدخول إلى المطبخ، ثم صعدت إلى غرفة غادة أوَّلًا..

وجدتها مازالت تغطُّ في نومٍ عميق، ملَّست على خصلاتها بحنان:

-دودوي حبيبي..يالَّه ياقلبي العشا أذِّنت، قومي صلِّي، الوقت اللي طلبته من عمُّو مصطفى خلص، عايزين نخلص قبل ماماما تيجي.

فتحت عيناها بتململ، رفعت ميرال خصلاتها ووضعت قبلةً على وجنتيها:

-يالَّه بقى ياكسولة.

-الساعة كام؟.

-تسعة ياأستاذة..يالَّه قومي بسرعة.

اعتدلت تجمع خصلاتها وأومأت برأسها:

-حاضر..

خرجت ميرال واتَّجهت إلى غرفة إسلام..طرقت الباب ثم دلفت بعد سماح ملك بالدخول:

-مساء الورد ياقمراية.

-مساء الحبِّ ياميرو.

اقتربت ميرال منها ثم قالت:

-إسلام لسة مرجعش؟

ردَّت قائلة:

-زمانه على وصول، هوَّ راح خطوبة واحد زميله.

-طيب اجهزي، قبل ماماما ترجع، يالَّه هروح أجهز أنا كمان.

-تمام..قالتها ملك وتراجعت إلى الفراش، وأمسكت هاتفها تهاتفه للمرَّة التي لا تعلم عددها ولكن دون رد.



دخلت ميرال الغرفة بهدوء، التقطت أذنها صوت المياه يتساقط بالحمَّام.. نزعت جلبابها بخفَّة، ثم اتَّجهت إلى غرفة الملابس تبحث عمَّا ترتديه، توقَّفت فجأة، وارتسمت على ثغرها ابتسامة خفيفة، لتغيِّر وجهتها مسرعةً نحو الحمام..


فتحت الباب بتمهُّل، دلفت إلى الداخل، فوقع بصرها عليه واقفًا أمام المرآة، منشغلًا بحلاقة ذقنه..اقتربت في خطواتٍ متردِّدة حتى صارت خلفه، لتلفَّ ذراعيها حول خصره وتضع رأسها على ظهره العاري، هامسةً بصوتٍ يحمل رجاءً:


ماتزعلش منِّي…والله ماكان قصدي، بس صورتك اللي في قلبي مش زي أي راجل في الدنيا.


توقَّف عن الحلاقة، ووضع الماكينة جانبًا، ثم استدار بنصف جسده إليها وجذبها بين ذراعيه:


- يمكن معاكي حق..بس الراجل اللي مابيغيرش على مراته، يبقى بيمثِّل عليها ومابيحبَّهاش.


ارتسمت بسمةً صغيرةً على شفتيها، ومسَّدت على صدره بلطف:


-يعني إنتَ غيران فعلًا؟


أجابها بثبات وعيناهُ تتوهَّجان بالحب :


- ليه..أنا مش راجل، ولَّا إنتي مش مراتي؟


ارتعشت ابتسامتها وهمست بعاطفة:


لا، إنتَ مش جوزي بس…إنتَ كلِّ حياتي.


قهقه بخفَّة، ثم ضمَّها أكثر حتى غمرها بأحضانه الدافئة:


على فكرة…أنا عارف إنِّك هتيجي تساعديني، كنت متأكِّد إنِّي هصعب عليكي.


رفعت وجهها إليه بنظراتٍ ماكرة، تداعبه بابتسامة:


تصعب عليَّا ليه، هوَّ إنتَ طفل؟! أنا كنت جاية آخد البورنص بس…علشان أدخل آخد شاور في الحمَّام التاني.


لم تمهلها كلماتها، إذ انقضَّ على ثغرها، يُخرس حديثها قبل أن يبدِّد المسافة بينهما.


بعد فترة عادت فريدة بصحبة مصطفى، تتأمَّل الفيلا بارتباك وهي تهمس:


هيَّ الفيلا ضلمة كدا ليه يامصطفى؟


ابتسم وهو يحيط كتفيها بحنانٍ مردفًا:


-يمكن يكون فيه عطل في الإضاءة أو حاجة بسيطة.


لم تكد تخطو خطوتين حتى فجأةً تلألأت السماء بألوان الألعاب النارية، تزامنًا مع انبثاق الأضواء من كلِّ ركنٍ بالفيلَّا..تجمَّدت في مكانها تتابع المشهد بذهول، مع أصوات الجميع يرتفع صياحهم:

‏Happy Birthday to Farida!


اتَّسعت عيناها في صدمة، تتأمَّل جمال اللقاء، لم تصدِّق للحظة أنَّ كلَّ هذا من أجلها..هرعت ميرال أوَّلًا لترتمي بين أحضانها صارخةً وسط الدموع:


-أحسن أمِّ في الدنيا…كلِّ سنة وأنا بس بنتك وحبيبتك.


اهتزَّ قلب فريدة بعاطفةٍ جارفة، ولم تستطع السيطرة على دموعها..فمنذ سنوات اختفاء ميرال، لم يعد عيد ميلادها يومًا للاحتفال..حتى نسيت تاريخه مع غياب ميرال عنها.



ضمَّتها بقوَّة وكأنَّها تخشى أن تفلتها من بين ذراعيها مرَّةً أخرى، بينما همست ميرال ببكاء:


-كلِّ سنة كنت بحتفل بيه لوحدي..وكلِّ مرَّة بدعي بدعوة واحدة بس، أرجع لحضنك تاني.


شهقت فريدة وهي تشدُّها أكثر لصدرها:


-روح وقلب ماما إنتي..أنا من يوم غيابك ماعرفتش للسعادة باب يانور عيني.


رفعت وجهها بين كفَّيها، تزيل دموعها بقبلاتٍ حارَّة، تردِّد بصوتٍ متهدِّج:


-ربِّنا يباركلي فيكي ويسعدك ياحبيبة ماما.


ردَّت ميرال وسط انهمار الدموع:


ربِّنا يخلِّيكي لينا ياستِّ الكلّ.


وقف أرسلان على مقربة، يحاول أن يخفي ارتعاشة صوته وغمامة الدموع التي تجمَّعت بعينيه، فاقترب خطوةً يحاول تخفيف الجوَّ قائلًا:


خلاص بقى إنتي وهيَّ، ماعرفش الستَّات ليه دايمًا نكديين..ماقولنا "هابي بيرث داي" يامدام فريدة، على رأي ابنك.


ابتعدت ميرال قليلًا، لتفسح المجال أمام أرسلان..توقَّف في مواجهتها، يتأمَّلها بصمتٍ كأنَّ العمر كلُّه اختُصر في تلك اللحظة..عيناه تلمعان بالدموع كطفلٍ فقد حضن أمِّه، نعم فلقد فقد أحضانها لأعوام.


ابتلع غصَّته المتورِّمة وهمس بنبرةٍ متقطِّعة:


- مش لاقي كلام يوفِّيكي، بس اللي جوَّايا إنِّي بحبِّك أوي، آسف..آسف من قلبي، سامحي ابنك الغبي..الدنيا أخدتني لحدِّ مانسِّتني أهمِّ يوم في حياتك.


ارتعشت أجفانها، وأغمضت عينيها لتمنع سيل الدموع…لكنَّ الدموع خانتها وانهمرت بلا توقُّف..اقترب منها وانحنى بكلِّ ألمٍ يخترق روحه..يرفع كفَّيها إلى شفتيه وقال بصوتٍ مختنق:


كلِّ سنة وإنتي منوَّرة حياتنا…وربِّنا مايحرمنَّاش منِّك ياستِّ الكلّ.


هنا انبثقت دمعةً غائرةً من عينيه، سالت بحرارةٍ على وجنته، فمدَّت يديها المرتعشتينِ تحتضن وجهه، تمسح دموعه كأنَّها تمسح سنوات غيابه هامسةً من بين شهقاتها:


كلِّ سنة وإنتَ منوَّر حياتي إنتَ وإخواتك…مش عايزة من الدنيا غير كدا.


لم يحتمل، فاندفع يحتضنها بقوَّة، دفن رأسه في صدرها كطفلٍ يعود أخيرًا إلى أمانه الأوَّل..وهمهم يهدر بـ "آه" حارقة، تختلط فيها حسرة سنينٍ ضاعت، وندم ابنٍ أدرك أنَّه مهما طال العمر…سيبقى قلبه محتاجًا لدفءِ أمِّه


.رفعت ميرال عينيها إلى إلياس، وجدته جالسًا يتفحَّص هاتفه كعادته هربًا من الأجواء، لكزته بخفَّة وهمست:

-مش هتقول لمامتك كلِّ سنة وإنتي طيبة؟


رفع رأسه ببطء، تطلَّع إليها ببرود يخفي خلفه رجفةً خفيَّة، ثم قال بصوتٍ هادئ:

-كلِّ سنة وإنتي طيبة يامدام فريدة.



أفلتت ضحكةً من شفتيها رغمًا عنها واقتربت لتجلس جواره، عيناها تمسحانِ ملامحه كأمٍّ تقرأ ابنها بلا حواجز:

-لو عملت غير كده يبقى فيك حاجة غلط يابن مصطفى.


رفع يده نحو ميرال بحركةٍ مزاحية بمرحٍ مُفتعل:

-شوفتي الناس اللي بتفهم، خايفة عليَّا أعمل الغلط.


ضحك الجميع من ردِّه، بينما مدَّت فريدة يدها تمسح على خصلاته بحنانٍ أمومِّي، وابتسمت قائلة:

-كلِّ سنة وإنتَ كبير إخواتك ياحبيبي.


تصلَّب جسده للحظة، ورغم أنَّ قلبه نبض بعاصفةٍ لم يُرد لها الانفلات، أجاب بخفَّةٍ مصطنعة:

-لا حضرتك شكلك اتلخبطتي، الحفلة دي عيد ميلادك إنتي، مش أنا.


-والله إنتَ بارد ورذل.

تمتمت ميرال وهي تدفع ظهره بخفَّة ثم اتَّجهت إلى فريدة:

-تعالي ياماما، هوَّ فيه حد يروح لإلياس علشان يعايده، هوَّ الكون هينقلب ولَّا إيه؟


هنا توقَّفت غادة، عيناها تلمعانِ بالدموع، فتقدَّمت نحو أمَّها بصوتٍ مبحوح :

-أنا مش هقولِّك كلِّ سنة وإنتي طيبة… الكلمات قليلة قدَّامك ياماما..اللي هقوله إنِّ ربِّنا بيحبِّني قوي…بيحبِّني أنا وبابا وإسلام، علشان اختار لنا أمِّ عظيمة زيك..أنا بحبِّك أكتر حاجة في الدنيا كلَّها..حتى أكتر من البتِّ ميرال.


ضحك البعض بخفَّة، لكن فريدة لم تتمالك نفسها، فمدَّت ذراعيها تجذب غادة لأحضانها، تمسح على شعرها وتهمس:

-إنتي طفلة قلبي ياغادة، ومهما كبرتي هتفضلي طفلتي الجميلة.


-احم احم…يعني أنا مش موجود في العيلة دي ولَّا إيه؟! عايز حضن أنا كمان.

قالها إسلام وهو يقترب بمزاحٍ خفيف، فتدافعت ملك وغرام بدلالهما يعايدان فريدة، ليلتفَّ الجميع حولها بدفءٍ عائليٍّ نادر.


بينما إلياس، مازال جالسًا مكانه، يبتسم ببرودٍ يتستَّر به على تلك الغصَّة التي خنقته، متسائلًا في داخله:

لماذا كلَّ كلمةٍ من أمِّي تدخل قلبي كطعنة، رغم أنَّها مغموسة بالحب؟!

التفَّ الجميع حول فريدة ينهالون عليها بالتهاني والأحضان، وإلياس جالسًا مكانه، يكتفي بابتسامةٍ باهتة وصوتٍ لم يخرج..

عيناه تتنقلان بين وجوههم، بين ضحكة غادة، ومرح إسلام، ولمسة ميرال، ودموع أمِّه، لكنَّه ظلَّ محاصرًا بجدارٍ داخليٍّ لا ينهار.


أرخى رأسه للخلف متظاهرًا باللَّامبالاة، بينما داخله يصرخ يريد احتضانها بكلِّ قوَّةٍ لديه، يريد أن يغفو فوق ساقيها مثل الطفل الذي يحتاج الرعاية والحنان.


تسلَّلت أنفاسه ثقيلة، وكأنَّ صدره يضيق، ثم أطرق رأسه يخفي عينيه التي لمعت بدمعة، يلوم نفسه:

إزاي بعد السنين دي كلَّها لسه مش قادر أقولِّك كلمة واحدة من قلبي؟! كلمة يمكن تطيِّب جرحك اللي أنا جزء منُّه!..


اقتربت منه ميرال في خفَّةٍ لتقطع شروده، انحنت عليه هامسةً وهي تبتسم:

-هيَّ كمان محتاج اللي بتفكَّر فيه؟.



رمقها سريعًا، كأنَّه كُشف أمامها فجأة، ثم انحرف بوجهه ناحية الطاولة يلتقط كأس الماء، يبتسم ببرودٍ زائف:

-ادِّي الهدية ليوسف يقدِّمها لماما ياميرال.

سحبت المقعد وجلست بجواره:

-يوسف هيقدِّم هديِّته، بلاش تحرم فرحة ماما بكدا ياالياس، علشان خاطري، شوف أرسلان وإسلام عاملين إزاي حواليها، مش كفاية حتى ماوقفتش وقولتلها كلِّ سنة وإنتي طيبة.

نهض من مكانه وسحب هاتفه:

-انا هعمل مكالمة دقايق وراجع.


بعد عدَّة ساعات، جلس أمام المسبح يتناول قهوته، يتأمَّل انعكاس الأضواء على سطح الماء، حتى اخترقت سكونه خطواتٍ بطيئة متردِّدة..التفت يظنُّها ميرال، لكنَّه وجدها غادة، فالتفت مرَّةً أخرى..


اقتربت وجلست بجواره، متعمِّدةً أن تختار مقعدًا لصيقًا به..


ممكن أتكلِّم معاك شوية؟

اكتفى بإيماءةٍ صامتة، وبقي على وضعه، فبدأت كلامها وبصوتٍ يرتجف:


عارفة مهما اعتذرت، يمكن ماتقبلش اعتذاري، بس أنا زي أي بنت حبِّيت، وكان نفسي أتجوِّز اللي قلبي اختاره..من أيام المعيد في الجامعة وأنا حاسَّة إنَّك بتخنق علاقاتي.


التفت إليها بذهول، نظراته تشتعل غضبًا:


- أخنق علاقاتك، لمَّا أخاف عليكي وأحاول أحميكي أبقى بخنقك؟ أنا كنت بتعامل كأخوكي الكبير، خايف على مصلحتك..دلوقتي بقت خنقة؟!


ارتجفت شفتيها وهي تهزُّ رأسها باكية:


- ماهو كان بيحبِّني ياإلياس، وإنتَ رفضته من غير سبب..بص عليَّا دلوقتي، داخلة على التلاتين ومابقاش عندي نفس للحياة، كلِّ مرَّة أحبِّ واحد تضيَّعه منِّي.


ضاقت عيناه بعصبية، وارتفع صوته حدَّ الصاعقة:


اخرسي ياغادة، بدل ماأقوم أخنقك بإيدي وأرتاح، الحيوان اللي كنتي مفكَّرة إنُّه بيحبِّك كان طمعان فيكي، واخدك سُلَّم..كان على علاقة ببنت خالته، وأنا سكتِّ وقتها علشان ما أكسرش قلبك..وأهو بعد شهر من رفضي له اتجوِّزها.


شهقت ببكاء، مع ارتجافٍ بجسدها وأردفت من بين بكائها:


- طيب ليه ياإلياس، هوَّ أنا وحشة قوي كدا؟


استدار إليها بكامل جسده، عيونه تتأمَّلها بحرقة وشعر بانقباض صدره وكأنَّ الوجع يخنقه:


- مين يقدر يقول عنِّك كدا؟! إنتي أحسن بنت في الدنيا كلَّها..ربِّنا يمكن شايل لك حاجة أحسن من اللي ضاع.


أطرقت برأسها، ودموعها تتساقط بحرارة، ثم همست بمرارةٍ كسكِّينٍ غاص في قلبه:


-بس ياإلياس..أنا لقيت الأحسن، وبرضو كالعادة..أنتوا ماسيبتونيش أعيش حقِّي البسيط.


هنا تجمَّد وجهه، وشعر أنَّ الكلمات غرزت في صدره أعمق من أي طعنة.


سحب إلياس كمًّا من الهواء بعدما شعر باختناقه، وحاول أن يسيطر على انفعالاته:


- غادة، اسمعيني كويس..في الأوَّل لازم تقتنعي بالكلمتين اللي هقولهم، أكتر حد هيخاف عليكي إحنا أنا وإسلام وبابا..يعني مستحيل نكون شايفين سعادتك ونرفض.


رمقته بعينٍ دامعة وقالت بعناد:


- ماله طارق بس ياإلياس؟! قولِّي عيب واحد فيه..لو كان ابن راجح..طيب

ماهي ميرال بنت راجح.


انتفض بعصبية، وصوته علا كالسوط:


- اخرسي يابت وفوقي لنفسك، إنتي مش صغيرة علشان أقولِّك ألف أرنب.. إيه دليلك إنِّ ميرال بنت راجح؟ علشان شهادة الميلاد، ورِّيني إثبات..طيب ماأنا نفسي ابنِ جمال، وشوفي أنا فين ومين قاعد معايا، هتعقلي ولَّا أفتحلك سواد؟


تحدَّته بنبرةٍ متقطِّعة:


طيب فهِّمني ياعاقل ياكبير..اعتبرني غبية وعايزة أفهم الأرانب اللي بتسخر منِّي بيها.


زفر بقوَّة، حتى شعر أنَّه يريد أن يلطمها، فمسح على وجهه بغضبٍ يحاول كبح انفلات أعصابه..ثم قال بنبرةٍ حاسمة:


الأوَّل، أنا مش بعيب في طارق علشان ماأظلموش..هوَّ من حقُّه يعيش حياة سوية، ومن حقُّه يلاقي بنت الحلال.. بس مش بنت مصطفى السيوفي.


فتحت فمها لتعترض، فأشار إليها بالتوقُّف:


- ماتقطعينيش..طارق كان سوابق، بالبلدي كدا..له ملف عند الحكومة، ومش أي ملف..سيَّاسة ومخدرات، حاجات زفت على دماغه ودماغ راجح ورانيا ربِّنا يجحمهم يارب، أنا مش بقول إنُّه وحش، بالعكس..نضف وتاب، وربِّنا بيقبل التوبة، بس مش مع بنت مصطفى السيوفي..حياتك بعد كدا هتتدمَّر.


تجمَّدت في مكانها، وهو يكمل بعينين متَّقدتين بصلابته المعهودة:


أنا مش بقولِّك عيب في طارق كإنسان.. أنا بتكلِّم عن مستقبلك، عن ولادك.. عارفه يعني إيه؟ مش هيلاقوا أي فرصة في شغل محترم بالدولة..أقرب مثال..أنا وأرسلان، شفتي كنَّا فين وبقينا فين..مع إنِّنا مالناش ذنب..بس لأن راجح عمِّنا ورانيا بنت عمِّ ماما فريدة..


توقَّفت دموعه في مقلتيه وهو يهمس بحرقة:


- أنا من جوَّايا موجوع..كان نفسي ابني يدخل نيابة، أنا شغلي كان حياتي كلَّها، وإنتي مكنتيش بعيدة، وشايفة حصل إيه، حتى أقرب حقوقي إنِّ أخلِّي ابني يكمِّل مسيرتي، بس خلاص..حتى دا ما بقاش ينفع، آخره طب أو كليَّة عادية.. وياريت الموضوع يبقى تعليم ووظيفة وبس، دا نظرات الناس ياغادة.. مجتمعنا مابيقولش "إنتَ عايش لنفسك". وشفتي ميرال..إيه حصلَّها، من فكرة الناس هيعايروا ابنها بجدُّه، ماتبقيش غبية، طيب هيَّ انجبرت على الحياة دي..


حنى رأسه قليلًا، وتابع بصوتٍ انكسر داخله:


-علشان خاطري..فكَّري كويس، اعرفي إنِّك مش في سفينة لوحدك..أنا كدا كدا مش هستفيد حاجة، خلاص ضعنا ومبقاش قدَّامنا غير شغلنا الخاص، مايغرِّكيش ضحك أرسلان وهزاره، دا بيهرب من مرار وبيحاول يتعايش، إحنا انجبرنا كلِّنا، ومش هقدر أقول بسبب حدِّ معيَّن، بس دي أقدارنا ولازم نقبلها بكلِّ رضا، وبرجع وبرضه أقولِّك بحقِّ إنِّي أخوكي الكبير، وإنِّك بنت الراجل اللي مهما أشكر ربِّنا عليه مش هوفِّيه حقُّه، كفاية إنُّه عمل منِّي إلياس، بغضِّ النظر بقى عن إنُّه سيوفي أو شافعي، المهم خلَّاني راجل محترم..وأنا رفضي مش عيب في طارق..لكن دا قانون، وإنتي أكيد عارفة، لو أي قضية سياسيَّة اتفتحت... هيسحبوه من بكرة.



سحب أنفاسه محاولًا أن يخفِّف من اختناقه، ثم قال بصوتٍ حاد لكنَّه مبحوح:


وبعد دا كلُّه، مينفعش نتغاضى عن كدا، ذنب باباكي إيه تكسري فرحته بيكي؟ أنا لحدِّ دلوقتي مااتكلِّمتش قدَّامه، ولا يعرف حاجة..بس صدَّقيني..وقتها هتشوفي مصطفى السيوفي واحد تاني خالص..وممكن يتخلَّى عنِّي أنا شخصيًّا.


هزَّت رأسها بانفعال، ونطقت بصوتٍ متهدِّجٍ بالبكاء:


- يعني علشان غلط زمان..يفضل طول عمره شايل أغلاطه؟


نصيبه يابنت مصطفى..زي مانصيبنا كلِّنا اتحرمنا من حياتنا..وفرضنا على نفسنا شخصيات تانية بنتأقلم معاها.


نهضت من مكانها، تتلفَّت حولها بتيهٍ وضياع، ثم همست وكأنَّها تحدِّث نفسها:


- معقول فيه حياة تبقى كدا، معقول الشخص يفضل شايل ذنوب غصب عنُّه طول حياته؟


اقترب منها، وضع يده على كتفيها يثبِّتها أمامه:


- لو ماكنتيش بتحبِّيه..ماكنتيش قولتي كدا..بس للأسف، طارق مش مجرَّد ابن راجح الشافعي..دا كان دراعه اليمين.. ولولا تدخُّلي كان لسه في السجن لحدِّ دلوقتي..وعلشان ماتبصليش بالشكل دا..يزن برضه ابن راجح، بس فيه فرق كبير، فرق زي المشرق والمغرب..ما تخلِّيش قلبك يغمِّي عيونك عن الحقيقة..إحنا في مجتمع مابيرحمش، زي ماسمعتي من ميرال، الواحد يموت ولا يكون ابن لشخص زي دا.


صرخت بخفوتٍ يائس:


-بس أنا بحبِّه أوي ياإلياس..وهوَّ بيحبِّني..وإنتَ شوفت، ماقدرتش أكمِّل مع أي حدِّ تاني وهوَّ جوَّايا.


مدَّ يده ليمسح دموعها بحنان، نظر في عينيها المبلَّلتين وحاول ألَّا يضغط عليها:


وأنا قلبي وجعني عليكوا أنتوا الاتنين.. بس إيدي قصيرة، مش قادر أعمل حاجة..أبوكي ممكن يموت فيها.. ساعات..لازم نتنازل علشان غيرنا..هتتوجعي دلوقتي شوية أهون من وجع العمر كلُّه، أنا خايف عليكي..والله خايف عليكي.


ارتفع صوت بكائها وهي تلقي بنفسها في حضنه، فاحتواها كالأب، يربت على ظهرها بحنانٍ أخويٍّ دافئ:


- غادة مش ضعيفة...أنا متأكد إنِّك قوية وهتعرفي تعدِّي المحنة دي.


أبعدها قليلًا، واحتوى وجهها بكفَّيه يمسح دموعها، ثم قال محاولًا التخفيف:


-إنتي بتحضنيني يابت ناسية إنِّي متجوِّز.


ابتسمت من بين دموعها، وهمست:


يابَختها بيك.


-نُقِّي بقى لحدِّ مانطلَّق..


أفلتت ضحكةً مشوبةً بالدموع، قطع حديثهما دخول إسلام:


- إلياس، شوفت أرسلان؟

أشار برأسه نفيًا، وردَّ ببرودٍ متعمَّد:


-يمكن في الحديقة..شوفه ورا.



رمق غادة بنظرةٍ عابرة قبل أن يتحرَّك.. اقتربت منه بخطواتٍ متردِّدة، همست:


-زعلان منِّي..ومش عايز يكلِّمني.


حقُّه وحقُّه كمان يكسر رقبتك، يلَّا روحي شوفي ميرال فين وابعتِها لي.


أطرقت رأسها وقالت بخفوت:


- حاضر.


خطت خطوتين، فتوقَّفت بعدما قال خلفها، بنبرةٍ حاسمة:


- غادة..بكرة تروحي تتكلِّمي مع طارق لآخر مرَّة..وبعد كدا مش عايز أسمع اسمه تاني، ومش معنى إنِّي كلِّمتك دلوقتي إنِّي سامحتك. لأ..أنا بس ورِّيتك غلطتك.


أومأت بصمت، ومضت وهي تهمس لنفسها:


- عارفة ياإلياس.


بجانبٍ آخر من الحديقة، جلست ملك أمامه كالمذنبة، تستمع إلى كلماته التي كانت كالسوط يجلدها..رفعت عينيها المبلَّلتين بالدموع، همست برجاء:


اعتذرت له..بس هوَّ لسه زعلان منِّي أوي.


أجاب ببرود، وصوته يقطر قسوة:


- حقُّه، وقلتلك قبل كدا..حقُّه يطلَّقك من غير تفكير، يمكن إنتي شايفة الموضوع بسيط، بس صدَّقيني..مؤذي أوي لأي راجل.


تعلَّقت بعينيه برجاءٍ آخر:


-طيب..ممكن تكلِّمه؟


- نفث دخان سيجارته، عيناه تتابعان غرام وهي تقترب تحمل له فنجان القهوة وقال بفتور:


- هكلِّمه ياملك..مش علشان طلبتي.. علشان ماما صفية الله يرحمها كانت دايمًا توصِّيني عليكي.


انزلقت دموعها أكثر، هزَّت رأسها بمرارة:


-أنا ليه ماعدتش حاسة إنَّك أخويا، ليه بقيت حاسَّة إنَّك بتعاملني كعدوَّة؟


تدخَّلت غرام سريعًا، تضع الفنجان أمامه:


-إيه الكلام دا ياحبيبتي، أبدًا..مين قال كدا؟


أشار لها بحدَّة:


-غرام..شوفي الولاد فين.


فهمت قصده، فنهضت دون نقاش.. عاد ينظر إلى ملك، صوته يزداد حدَّة:


أنا لو بعاملك كعدوَّة..كنت صقَّفتلك على غلطك، لكن أنا مش كدا..الغلط عندي غلط، كان عندك فرص أحسن من كدا، أوَّلها..إنِّك كنتي تجيلي قبل ما تعملي مصيبتك.


ارتجفت شفتاها، بينما هو يتابع بلا رحمة:


لمَّا إنتي عارفة إنِّي موجود، ليه ما كلِّمتنيش؟ مش هقول أنا..ماما كانت موجودة، غرام كانت موجودة..لكن لا..اخترتي تستخدمِي عقلك الخبيث علشان تسكِّتي ضميرك، ورُحتي للشخص الغلط.


مال للأمام، اتَّكأ على المنضدة، عيناه تغوصانِ في عينيها حتى ارتبكت:


- وجاية دلوقتي تبرَّري جرمك، عايزة منِّي أساعدك، علشان لو ساعدتك تقتنعي إنِّك مش غلطانة، علشان عارفة أرسلان مابيسكتش عن الغلط.



تسمَّرت مكانها بذهول..كيف عرف مافي أعماقها، كيف التقط مالم تعترف به حتى لنفسها.


ارتسمت بسمةً مرَّةً على شفتيه، ثم غرز عينيه بأعينها وهو يقول ببطء:


- ملك..ماتحاوليش تستغبيني زي زمان، لمَّا شاركتي بنت عمِّتك وسقَّطوا غرام وأنا أخدتها يومها بدافع الغيرة.. غيرتك على أخوكي من مراته.


ارتعشت أنفاسها، وكاد قلبها يقفز من صدرها، وهو يواصل:


- وسكت..ودا كان أوَّل غلط ليَّا، لو كنت عاقبتك وقتها ماكنتيش اتماديتي لحدِّ ما تعملي جريمة زي دي.


شهقت ملك بفزع، ابتعدت بظهرها للخلف وهي تهمس مرتجفة:


- جريمة؟!


صاح أرسلان بغضبٍ كالرعد:


أيوة..لمَّا تقتلي روح مالهاش ذنب، تبقى إيه يامدام؟! وبلاش بقى حجِّة إنِّك صغيرة..الصغيَّرة ماتفكَّرش في شغل الشيطان دا.


انفجرت دموعها، لتسيل على وجنتيها بلا توقُّف، وفي تلك اللحظة كان إسلام قد وصل، استمع لجزءٍ من الحوار، فاتَّسعت عيناه ألمًا..انحنى إليها برفق، رفعها من فوق المقعد وهمس بصوتٍ متحشرج:


خلاص ياأرسلان..ملناش نصيب فيه.


قفز أرسلان واقفًا، وقال بوجع:


- عارف..عارف إنُّه مالكوش نصيب فيه، بس أنا بحاول أعلِّم أختي إزاي تحافظ على النِعم..مش تضيَّعها.. بحاول أنقذها من نفسها قبل أي حد.


رمقه إسلام بعينينِ دامعتين، لكنَّ أرسلان تابع بصوتٍ متصدِّع:


- وكفاية قسوة ياابن الناس..أدُّوا نفسكم فرصة تانية..وربِّنا يعوَّضكم بدل البيبي..اتنين وتلاتة.


لم تجب ملك، كانت كالعصفور المكسور في أحضان إسلام، الذي حاوط كتفيها بحمايةٍ حانيَّة، ثم تحرَّك بها مغادرًا المكان.


أمَّا أرسلان، فتراجع إلى المقعد، دفن رأسه بين كفَّيه، يئنُّ داخله نادمًا على قساوة كلماته..لكنَّه أيقن أنَّ صراحته كانت السوط الأخير الذي لا مفرَّ منه.


بعد فترة دلف إلياس إلى داخل الفيلا، ساد المكان هدوء غريب، عقد حاجبيه، تمتم متسائلًا وهو يضيق عينيه:


معقول يكونوا ناموا؟


صعد درجات السلم بخطوات ثابتة، لكن توقف فجأة عند سماع ضحكاتٍ عالية تأتي من الأعلى. شدّ أنفاسه وتابع الصعود حتى دلف إلى الصالة، ليجد الجميع يلهون مع بعضهم البعض:


كان أرسلان يجلس متكئًا والضحكة تعلو وجهه، يعفو بخفة على ساق فريدة، بينما يوسف وبلال يتنازعان بمرح وضحكات بريئة تملأ الأجواء.


تجمّد الجميع لحظة دخوله، كأنهم ارتكبوا جرمًا. توقفت ميرال عن الحديث وحدقت به بقلق:


اتأخرت ليه.. دا كله تحت!



رمق أرسلان باستخفاف متعمّد وقال ساخرًا:


-أجبلك الببرونة؟ عدّل قعدتك يا بغل.


قهقه قائلًا:


- لتكون غيران..!!


استدار إلياس يستغفر ربه، يخفي غضبه بكلماته الثقيلة:


الساعة اتنين... مش ناويين تناموا؟ إيه يا مدام فريدة؟! أومال لو مش بيقعدوا هنا أكتر من بيوتهم!


رمقته ارسلان بحدة:


دمك بارد... إيه اللي جابه دا دلوقتي؟


رفع يوسف حاجبيه بدهشة، يحاول أن يتدخل:

مش حضرتك يا عمو لِسّه بتقول لبلال لازم يسمع كلام الكبار ويحترمهم؟


اعتدل أرسلان، يرمقه بنظرة متحدّية وغمغم بحدة:


عايز إيه يا ابن إلياس؟ أنا أخلص من أبوك تطلعلي انت؟


اقترب يوسف بخطوات صغيرة، وانحنى أمامه بخجلٍ طفولي، صوته يحمل رجاءً صافياً:


يا عمو... عيب بابا اكبر من حضرتك

هب من مكانه ..ولكن ركض يوسف يضحك ..إلى أن اصطدم بضي واسقطها على الأرض ساقطًا فوقها، صرخت ..ليهب الجميع من جلوسه مهرولا للخارج

اعتدل يوسف سريعًا بخروج إلياس من غرفته على صوت بكاء ضي

-ضي انا اسف مشفتكيش

هرول ارسلان على بكاء ابنته

-حبيبتي فيه ايه..!!

كانت تضم ساقيها تتألم..رفعت عيناها إلى يوسف الذي يطالعها بأسف واردفت

-وقعت يابابا ..مااخدتش بالي وانا ماشية

استدار يوسف واتجه لغرفته دون حديث، واليأس يراقب المشهد من بعيد، إلى أن صاح

-ميرال شوفي يوسف، شمس ياله يابابا  الوقت اتأخر


مضت ساعتان حتى أقيمت صلاة الفجر. عاد إلياس من المسجد، وصعد الدرج بخطوات مرهقة، لكن عينيه التقطت ضوءًا خافتًا يتسرب من الغرفة الصغيرة التي اعتادت فريدة أن تتعبد فيها.

غيّر اتجاهه متردّدًا، ثم دفع الباب بهدوء.


كانت قد انتهت من الصلاة، وجلسَت تقرأ وردها المعتاد. التفتت مبتسمة، تظن أنه مصطفى، لكن ابتسامتها انطفأت فجأة، وجسدها تجمّد وهي تراه واقفًا عند الباب... عيناه تقولان كل ما عجز لسانه عن البوح به، نظرات حنين واحتياجٍ لم يقدر أن يخفيها عنها.

وضعت المصحف على الطاولة، وجلست صامتة تنتظره.

اقترب منها ببطء، جلس بجوارها، وصوته خرج مترددًا:


- زعلانة؟


همست وهي مازالت مثبتة نظرها على الأرض:


-يمكن.


كل سنة وانتي طيبة.


- وانت طيب.


ابتسم ابتسامة باهتة وقال:


مالك يا مدام فريدة... من شوية كان صوت ضحكك مالي الفيلا كلها.


التفتت إليه بعين دامعة:


تستمر القصة أدناه


يعني مش عايزني أكون سعيدة معاهم؟ دي مجرد دقايق استكترتهم عليّ؟ بدل ما تقولي هرجع أعيش معاكي!


- سكت طويلاً، حتى همس بنبرة ثقيلة متكسّرة:


شايفة إن دا ينفع؟


-أنا شايفة إني أمك... ومن حقي عليك. ولا أنا مش أمك يا ابن جمال؟


- رفع عينيه إليها، فالتقت عيناهما في صمتٍ موجع، وارتجفت نظراته وهو يبوح لأول مرة:


طيب لو قلتلك... أنا تعبت من كل حاجة. بقالي فترة بضغط على نفسي علشان كل اللي حواليّ، بس طاقتي خلصت. تعبان يا ماما... تعبت أوي ومش قادر أتنفس. بحاول أبان قوي... بس مش قادر.


شهقت بحرقة، ومدّت يدها تمسح على رأسه بحنان. انسحب هو ليستلقي واضعًا رأسه على ساقيها كما كان يفعل طفلًا، وهمس كالموجوع:




مخنوق... وبحاول أقاوم... بس تعبت.


داعبت خصلاته كأنها تطبطب على وجعه، ودموعها انسابت بصمت:


تعرف من إمتى ما نمتش كدا على حجري؟


أغمض عينيه، ودمعة ثقيلة تسللت رغماً عنه. تمتم مكسورًا:


- سامحيني.


انحنت تقبّل رأسه، وهمست وهي تختنق بالبكاء:


أنا عمري ما زعلت منك... يا حبيبي

قاطعهم حوارٍ عالٍ بين مصطفى وأرسلان في الخارج، فاعتدل سريعًا، مسح على وجهه، وفتح الباب ومغادر في صمت، تاركًا قلبها يصرخ من ضعفه بتلك الطريقة، همست لنفسها

-كنت عارفة موت رانيا مش اخر الوجع يابن جمال


بعد اسبوع


جلس الجميع بقاعة الحفل المقررة لاختيار المواهب، كانت القاعة قد بدأت تمتلئ  بالحضور..

دقائق معدودة..

ارتفعت الستارة ببطء، لتخرج ضي بخطواتٍ خفيفة كأنَّ الأرض لا تكاد تشعر بوطئها.

تناثرت خصلاتها حول وجهها المستدير، وابتسامتها البريئة تلمع كضوءِ القمر.

مدَّت ذراعيها الرقيقتين في الهواء، ارتفعت على أطراف أصابعها بخفَّة، كفراشةٍ تحاول التحليق بعيدًا عن قيد الأرض.


كانت تدور برشاقة، تنحني بجسدها الصغير في انسيابٍ تام، تارةً تفتح ذراعيها كطائرٍ يرفرف بجناحيه، وتارةً تضمُّهما إلى صدرها كطفلةٍ تحتضن أحلامها.

قفزاتها الصغيرة لم تكن مجرَّد حركاتٍ مدروسة، بل كانت نغمًا صامتًا ينساب مع موسيقى خياليَّة لا يسمعها سوى قلبها.


تقدَّمت بخطواتٍ قصيرة سريعة، ثم استدارت بحركةٍ لولبية، ثوبها الأبيض الخفيف يتطاير حولها كغمامةٍ هاربة..

وعندما توقَّفت فجأة، مدَّت ذراعها اليمنى إلى الأعلى ورأسها مائل بخجل، وكأنَّها أميرة صغيرة تُحيِّي جمهورها بابتسامةٍ نقية.


تصفيق الحاضرين دوى، لكنَّها ظلَّت في عالمها الصغير، لا ترى سوى فرحة والدتها، ولا تسمع إلَّا خفقة قلبها.



بعد دقائق خرجت ومازالت أصوات التصفيق تتردَّد في أذهان الجميع.


وصلت ضي بزي الباليه، تجمع خصلاتها بخجل، وابتسامتها مازالت مرتسمة على وجهها.

فتح أرسلان ذراعيه لها، ونطق بصوتٍ دافئٍ كالنسيم:

- حبيبة بابي..إيه الجمال دا؟! فراشتي الصغيرة.


احتضنته ضي بخفَّة، بينما بلال يصفِّق لها ويبتسم، مع احتضان إلياس إليها:

-برافو حبيبة عمُّو.


هنا اعتدل يوسف بخطواتٍ سريعة، واقترب بملامح مشدودة وقال بصوتٍ يقطر اعتراضًا:


-هوَّ حضرتك إزاي توافق على حاجة زي دي؟!


التفت إلياس لصوت ابنه الحادّ، ووقف بجمود:


-في إيه يايوسف؟


ارتفع صوت يوسف كأنَّه ينفجر من الداخل:


-هوَّ عادي إنِّ البنت تتحرَّك كدا قدَّام الكل!..أومال ليه بتعلِّمونا القيم والأخلاق؟!


تدخَّلت ميرال بسرعة، تحاول تهدئة عاصفة طفلها قبل أن تشتعل:


-يوسف، دي ضي صغيرة..


لكن  انتفض ورمقها قائلًا:


-صغيرة إزاي ياماما؟! عندها خمس سنين مثلًا، دي مش تلاتشر سنة، حتى لو صغيرة، أنا لو شمس عملت كدا قدَّام الناس مش هرضى.


ضمَّته ميرال من كتفيه، تحاول سحبه:


-حبيبي..دي لسة طفلة، والباليه لعبة بتحبَّها، وبعدين باباها موافق…


قهقه الياس بسخرية خفيفة، يحاول كسر حدِّة ابنه المتطفِّل:


-مالك يابن إلياس، اللي يشوفك يقول راجل ودمَّك حامي..دي لعبة يايوسف!


ارتجف يوسف من الغضب، وقال بصوتٍ أثقل من عمره:


لأ، دا مش لعب يابابا إنتوا بتحرَّفوا الكلام، أنا مش عيِّل ولا طفل..أنا راجل ومش من حق حد يقلِّل منِّي.


قاطعه صوت إلياس كالصفعة:


-يوسف على العربية حالًا، زي ماعمَّك قال..إنتَ لسة صغير، وملكش كلام على حد.


نظر يوسف إلى ضي، وجدها تدفن رأسها في حضن ميرال بخجلٍ وارتباك..

ابتسم بمرارة، وكأنَّ جمرةً تغلي في صدره:


-خلاص..إنتوا موافقين، بس أنا لسة مصرّ إنُّه اسمه رقص..باليه ولَّا غيره، في الآخر رقاصة.


هنا انفجر إلياس صارخًا، عيناهُ تتقدانِ غضبًا:


-يوسف، أشار إلى السيارة بحزم:


اركب…وكفاية تتكلِّم في اللي ما يخصكش.


استدار يوسف بصمت، عيناه تغلي، خطاه عنيفة، وصوت باب العربية وهو يُغلق خلفه كان أشبه بصرخةٍ مدفونة.


بعد فترة..

ترجَّل من سيارة والده بعنف، ثم هرول إلى الداخل بخطواتٍ سريعة، يهرب من مواجهة والده، توقَّفت ميرال عند الباب، تنظر إليه برجاء، وعيناها تتوسلان إليه:

- "علشان خاطري ياإلياس، بلاش تنكِّد عليهم."

قالتها بصوتٍ خافت.

استدار إليها بعينين تشتعلان غضبًا، وهتف بصوتٍ حاد كالسياط:

- "متعرفيش تسكتي؟ لمَّا أطلب منِّك تتكلِّمي يبقى تتكلِّمي."

تحرَّك إلى الداخل، وجسده كلَّه ينتفض كأنَّه يسير فوق بركانٍ مشتعل..

في أعلى الدرج، كان يتحرَّك متَّجهًا إلى غرفته، صاح إلياس بصوتٍ جهوري أوقفه كأنَّما صُدم بحائط:

- "اوقف عندك!"

تجمَّد في مكانه، ويده تضغط بقوَّة على سياج الدرج، كأنَّه يحاول ألَّا يواجه والده..أخذ إلياس نفسًا عميقًا، ثم ألقى كلماته بحدَّة وكأنَّها طلقات رصاص:

- "تعال، اوقف قدَّامي، بصّ في عيوني، وقولِّي إنَّك مغلطتش."

تردَّد لوهلة، ثم عضَّ شفتيه بقوَّة، مجبرًا نفسه على السير حتى وقف أمام والده مباشرة، نظر إليه بعينين تضجَّان بالتحدي رغم رعشةٍ خفيَّةٍ في أطرافه، ثم قال بصوتٍ ثابتٍ لكنَّه يحمل ارتجافًا طفيفًا:

- "أنا مغلطتش يادادي."

وكأنَّ نطقه لتلك الكلمة كانت القشَّة التي قصمت ظهره، جزَّ إلياس على أسنانه، واشتدَّت قبضته حول ذراعه، أردف بزئيرٍ غاضب:

- "من إمتى وإنتَ بتقول دادي دي؟"

أخفض عينيه للحظة قبل أن يهمس سريعًا، كأنَّه يصلح خطأه دون اقتناع:

- "سوري..بابي."

هنا انفجر إلياس غضبًا، ثم التفت إلى ميرال بغضب، يشير إلى ابنه باشمئزاز:

- "إنتي بتربِّي ولد ولَّا بنت، مين دا؟ إنتي بوَّظتي الولد "

رفعت حاجبها بسخرية خفيفة، كأنَّها تعوَّدت، فلم تحرِّك شفتيها بحرف.. لكنَّه لم يكن ليقبل صمتها، استدار إليها بجسده بالكامل، عيناه تضيقان في شك:

- "مابترديش ليه؟"

بهدوء، تقدَّمت حتى باتت قريبة منه، ثم التفتت إلى يوسف، تحدِّثه بنبرةٍ هادئة لكنَّها تحمل في طيَّاتها أمرًا خفيًّا:

- "يوسف، اعتذر من بابا، وقولُّه ليه عملت كده."

ضيَّق عينيه بحدَّة، مردِّدًا بسخرية :

- "لا والله؟"

رفعت حاجبها:

-آه والله، ممكن نتكلِّم بعدين مش قدَّام الولد.

تقدَّم يوسف خطوة، نظر مباشرةً إلى والده، ثم قال بصوتٍ ثابتٍ رغم دقَّات قلبه المتسارعة:

- "لو حضرتك قابل إنِّ بنت عمِّي تلبس بالطريقة دي، أنا مش موافق..وقلت كده لعمُّو، أنا مش موافق إنَّها تتدرَّب باليه."


اتَّسعت عينا والده، وكأنَّ الكلمات صفعةً غير متوقَّعة..رمقه بنظرةٍ باردة قبل أن يقول بسخريةٍ لاذعة:

- "نعم ياأخويا! وإنتَ مين عشان تتدَّخل في حياة بنت عمَّك؟"


ثبتت قدماه على الأرض، عيناه تشتعلانِ بإصرارٍ ونطق :

- "حضرتك جاوبت على نفسك يابابا..أنا ابن عمَّها، وحضرتك علِّمتني إنِّ الراجل الصح بيغير على أهل بيته.. وأنا طول ماهيَّ كده، مش هحترمها، وهعمل فيها أكتر من اللي عملته النهاردة."


التفت إلياس إلى ميرال، يشير إلى ابنه، خرج  صوتهِ مشدودًا كوترٍ على وشك الانقطاع:

- "الواد ده بيقول إيه؟"


تنهَّدت ميرال بصمت، لكنَّها لم تقل شيئًا، وكأنَّها تعرف أنَّ النقاش الآن لن يؤدِّي إلى نتيجة.


أمَّا يوسف، فقد انحنى لوالده بحركةٍ أشعلت نيران غضب إلياس ليردف بنبرةٍ هادئة رغم عينيه المتحدِّية:

-على السمع والطاعة إلياس باشا..قالها واستدار قائلًا:

‏bonne nuit père

ليلة سعيدة بابا..قالها وتحرَّك للأعلى وكأنَّه لم يقل شيئًا، ليلتفت الآخر إلى ميرال:

-دا شهر اللي بعدتُّه، أومال لو بعدت أكتر..ألقت حقيبتها على المقعد واقتربت منه:

-مستغرب ليه؟..ابنك وشبهك ياحبيبي، وأنا متأكدة لو إنتَ شايف كلامه غلط مكنتش سبته يطلع عادي كدا، هوَّ أنا كنت متحمِّلة واحد لمَّا يبقوا اتنين..والله العظيم المفروض يبقالي تمثال في ميادين القاهرة، يالهوي الواد وأبوه.

خطا متحرِّكًا بخطا سلحفية وعيناه ترسمها يشير إلى نفسه:

-مش عارف ليه شامم ريحة تريقة في كلامك، أبوه مش عاجبك؟.أفلتت ضحكةً رغمًا عنها تهزُّ رأسها وأردفت:

-شامم، لا والله كدا كتير، لا أنا كدا اطَّمنت على مستقبلي، قالتها لتلتفت مستديرةً إلَّا أنَّها شهقت صارخةً وهو يسحبها إلى داخل الغرفة




مساء الخير

الفصل دا فلاش للسنة اللي قبل فرح غادة..طبعا اللي متابعني من اول رواية ليا دائما بعمل فلاش

اتمنى أن ينال الفصل اعجابكم ومتنسوش الفووووت ياحلوين

تكملة الرواية من هنااااااا

 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close