رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس والثلاثون 36بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس والثلاثون 36بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٣٦ ـ
~ ساعة رملية ! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طوال طريق العودة ظلّت غارقة في صمتٍ ثقيل، لا تقوى حتى على مواجهة أفكارها. وما إن أوصلها السائق الخاص إلى بوابة منزلها وغادر متجهًا إلى الشركة من جديد، حتى سارعت إلى إيقاف سيارة أجرة، كأنها تهرب من عيونٍ ترصدها وخطواتٍ قد تفضح سرّها. فهي تعلم يقينًا أنه سينقل كل تحركاتها لعاصم، وهذه الخطوة بالتحديد لا بد أن تظل مخفية عنه.
كانت تحدق عبر نافذة السيارة بشرودٍ عميق، تسترجع كلماته الأخيرة، وتُعيد بين ذهنها معنى تلك الرسالة التي صادفتها في خزانته… مشاعر متناقضة تتقاذفها: خوفٌ ينهش قلبها، وغضبٌ يشتعل في صدرها، ضيقٌ يخنق أنفاسها، وخذلانٌ جاثم على روحها. شعرت أن الخطوة التي أقدمت عليها الآن متأخرة، متأخرة جدًا، وكان ينبغي أن تُتخذ منذ اللحظة الأولى، يوم حذّرها فريد بصراحة أن تنتبه وتكون أكثر حرصًا.
لكنها، بعنادٍ مشوب بالثقة العمياء، أصرّت أن تسير في طريقها وكأن ستحيا السعادة الأبدية التي طالما تمنتها.
وها هي الآن، بعد أن تهاوت أوهامها، وبعد أن ألقى عاصم.بها في غياهب الخذلان حين طلب منها زيارة طبيب تُنفّذ نصيحته ولكن بطريقتها الخاصة: لن تذهب لطبيبٍ نفسي، بل لطبيبة نساء… ستضع حدودًا جديدة لذاتها ولجسدها في آنٍ واحد.
توقفت السيارة أمام المركز الطبي، ترجلت ببطء وهي ترفع بصرها إلى اللافتة بخوفٍ يعتصرها، شعرت للحظة أنها عاجزة عن التنفس. وما إن خطت خطوتها الأولى داخل المكان حتى اجتاحت رأسها ذكرى من أبشع ما مرّت به: يومها الأسود حين اقتادها والدها إلى طبيبة النساء ليتأكد من "عذريتها"، ذلك الجرح الذي لم يندمل أبدًا .
دخلت بخطوات واهية تكاد تخونها، وقفت تملي بياناتها للسكرتيرة بصوتٍ خافت، ثم جلست تنتظر دورها، بينما ماضيها ينهش حاضرها ككابوس لا يعرف الرحمة.
نادتها السكرتيرة فنهضت ببطء، كأن الأرض تشدّ قدميها إلى أسفل، وشعور غامض بالثقل يطبق على صدرها. تقدّمت بخطوات واهنة نحو الباب الذي فُتح أمامها، وكلما اقتربت منه ازداد ارتجاف يديها حتى اضطرّت أن تشبك أصابعها معًا لعلّها تخفي توترها.
كان في داخلها خليط غريب من العزم والخوف؛ فهي جاءت بإرادتها، لكن الذكرى التي لا تزال تؤلمها جعلت كل حركة تشعر وكأنها تُقاد إلى مصير مجهول. رفعت رأسها للحظة، التقطت عيني الطبيبة وهي تبتسم لها ابتسامة هادئة، لكن قلبها ظل يدق بجنون وكأن تلك الابتسامة لم تُفلح في تهدئته.
ابتسمت الطبيبة ابتسامة دافئة وقالت بهدوء:
ـ أهلاً بيكي يا مدام نسيم.. تحبي تبدأي تحكيلي إيه اللي تاعبك ؟
ابتلعت نسيم ريقها بصعوبة، نظرت للأرض لحظة ثم رفعت عينيها بتردد:
ـ أنا.. أنا محتاجة وسيلة منع حمل.
رفعت الطبيبة حاجبيها قليلًا بتعاطف وسألتها:
ـ طيب، انتي متأكدة إن القرار ده مناسب ليكي دلوقتي؟ أو في أسباب معينة ورا الخطوة دي؟
أخذت نفسًا عميقًا، شعرت بحرارة تسري في وجنتيها، ثم قالت بصوت متحشرج:
ـ الموضوع شخصي شوية.. بس خليني أقولك إني مش واثقة اني جاهزة للحمل والأولاد دلوقتي.. لازم أجل الخطوة دي فترة .
ظلت الطبيبة تنظر إليها باهتمام، ثم مالت بجسدها للأمام وقالت برفق:
ـ انتي متجوزة بقالك قد إيه ؟!
ـ تقريبًا ٣ شهور ..
هزت الطبيبة رأسها وسألتها بمهنية :
ـ لجأتي لأي وسائل قبل كده ؟!
هزت رأسها ببطء وقالت :
ـ لأ ..
فأومأت بتفهم وقالت :
ـ تمام.. خليني الأول أكشف عليكي علشان نشوف الوسيلة الأنسب ليكي من غير ما نعمل حاجة تضرّك.
سكتت نسيم للحظة، ثم نظرت إلى سرير الفحص، وتقدمت منه بخوف، ساعدتها الطبيبة لتستلقي بهدوء، ولكن قلبها لم يعرف طريقًا للهدوء في تلك اللحظة .
بدأت الطبيبة بفحصها، ولكنها لم تنتبه لها، فكل ما كان يسيطر عليها الآن هو ذلك المشهد المظلم الذي يمر أمام عينيها كما لو أنه يحدث الآن !
ممددة على الفراش البارد، ترتجف وتحاول حماية نفسها، تبكي كطفلة صغيرة مرتبكة، بينما عيون أبيها المثقلة بالشك تراقبها وكأنها متهمة في قفص محاكمة.
شعرت الآن بنفس الارتجاف الذي هزّ جسدها يومها، نفس العرق الذي تساقط على جبينها، نفس الشعور بالانتهاك وهي مضطرة أن تخضع لذلك الفحص القاسي الذي لم تفهم معناه سوى أنه إعلان صريح أنها موضع اتهام.
ذلك اليوم لم يكن مجرّد كشف طبي، كان إعلانًا قاسيًا بأنها متهمة لن تثبت براءتها إلا بإقرار الطبيبة…. !
ارتسمت على وجهها لحظة الذكرى علامات قهرٍ دفين، وداخلها سؤال يتردّد من جديد: كيف لرجلٍ يُفترض أن يكون سندًا وأمانًا أن يجرّد ابنته من أبسط حقوقها في الكرامة والثقة؟
ومع كل ارتجافة تتذكّرها، ازداد قلبها خفقانًا في الحاضر، وكأن جسدها يعيد تمثيل الخوف نفسه.. فأغمضت عينيها، حاولت أن تتنفس بعمق، وتشبثت بالملاءة تحت يديها، تنتظر أن تنطق الطبيبة بأي شيء علها تنهي تلك اللحظات المريرة بأقصى سرعة.
ولكن ما سمعته جمد الهواء من حولها، وجعلها تفتح عينيها على مصراعيهما .. حيث نظرت إليها الطبيبة بهدوء بالغ، وقالت :
ـ قرارك جه متأخر يا نسيم ؛ انتي حامل !
اتسعت عيناها بذهول، بينما شفتيها ارتجفتا دون أن تنطق بحرف. شعرت بأن الدم انسحب من وجهها دفعة واحدة، وبرودة قاتلة سرت في أطرافها.
ـ حـ… حامل؟!
خرجت الكلمة منها متقطعة، كأنها لا تصدق أذنيها.
أدارت الطبيبة شاشة السونار نحوها، وأشارت بإصبعها قائلة بنبرة هادئة:
ـ شايفة النقطة السودا الصغيرة دي؟ … ده الجنين، عمره حوالي خمس أسابيع.
حدقت نسيم في الشاشة، وعيناها تتسعان شيئًا فشيئًا. النقطة السوداء الصغيرة بدت لها ككوكب مجهول عائم في فراغ مظلم، شيء لا يُصدّق أنه بداخلها. شعرت بارتجافة تسري في جسدها كله، ويداها الباردتان تشابكتا على بطنها لا إرادياً.
دمعة ساخنة انسابت على وجنتها، لم تكن تعرف هل هي دمعة خوف أم دهشة أم خليط من الاثنين معاً. في داخلها كان هناك صراع عنيف: جزء منها يرفض هذا الخبر ويصرخ "لا"، وجزء آخر أصغر، أضعف لكنه حاضر، أحس فجأة بارتباط غامض بهذا الكائن الذي لم يتجاوز حجمه رأس دبوس.
لم تستطع الكلام للحظات، فقط همست بصوت مرتعش بالكاد يُسمع:
ـ لأ.. مش هينفع … أنا مش مستعدة أبدا دلوقتي!
تنهدت الطبيبة بابتسامة متفهمة، ثم ربتت على يدها تحاول تهدئتها وتقول:
ـ إهدي يا نسيم.. مبدأيًا لازم تفهمي إن كل شيء نصيب ، والطفل ده لو ربنا كاتب له يتولد ويعيش مفيش حاجه أبدا هتمنع إرادة ربنا ..
وزادت من ضغطها على يدها كأنها تزرع فيها بعض القوة، وتابعت :
ـ جايز دلوقتي تكوني شايفة إن الموضوع كارثة، لكن صدقيني، الطفل ده ممكن يكون هو النور اللي يبدل حياتك كلها .
ارتجفت شفتاها، أرادت أن تجيب لكنها عجزت، فكانت دموعها وحدها هي الجواب، فيما ظل صدرها يعلو ويهبط بين الإنكار والخوف، وكأن قلبها يخوض معركة لم تتضح نهايتها بعد.
ساعدتها الطبيبة على النهوض، ثم سارت عائدة بخطوات هادئة نحو مكتبها، فيما لحقت بها نسيم بارتباك ظاهر ووجهٍ شاحب، كأنها تحمل على كتفيها ثِقَل العالم بأسره.
جلست نسيم متصلبة الجسد، تشبك أصابعها في حجرها بعصبية، بينما قالت الطبيبة بابتسامة ودودة:
ـ ارتاحي شوية يا نسيم.. أنا حاسة إنك متوترة جدًا.
رفعت نسيم عينيها المرتبكتين إليها، وخرج صوتها مضطربًا.:
ـ دكتورة.. أنا مش قادرة أصدق. إزاي؟! ده آخر شيء كنت متخيلة يحصل دلوقتي.
أومأت الطبيبة بتفهم، وأجابت بنبرة حانية:
ـ الحمل مش دايمًا بييجي في وقت إحنا محددينه، لكنه رزق مكتوب. صدقيني ممكن يبقى بداية جديدة لحياتك، حتى لو شايفاه دلوقتي عبء عليكي..
شهقت نسيم، ومسحت دموعها سريعًا قبل أن تنهمر، وأومأت باقتضاب، فتابعت الطبيبة وهي تعدل نظارتها بعناية:
ـ طبعا مش محتاجة أقوللك أن أهم حاجة علشان نحافظ على صحة الجنين وسلامته هي نفسيتك المستقرة !
رفعت نسيم عينيها إليها بقلق وتعجب، فتابعت الطبيبة:
ـ الجنين بيحس بالأم جدًا. مش بالشكل اللي إنتي متخيلّاه، إنما بيستقبل إشارات منك من خلال الهرمونات اللي بتفرزيها. لو إنتي متوترة أو حزينة، جسمك بيفرز هرمون الكورتيزول، وده بيوصل له عن طريق المشيمة. وساعات ممكن دقات قلبه تزيد أو حركته تتغير لو ضغطك النفسي عالي.
ارتجفت شفتا نسيم وابتلعت ريقها بصعوبة، فتابعت الطبيبة بلطف :
ـ عشان كده بقولك خلي بالك من نفسك. زي ما بتغذّي جسمك بالأكل الصحي والمية، لازم تغذّي روحك بالهدوء والراحة.. لأن كل شعور منك سواء إيجابي أو سلبي بيوصل له.
تساقطت دمعتان من عيني نسيم دون أن تشعر، فأخرجت الطبيبة منديلاً ناولتها إياه وقالت بصوت حاني:
ـ خديها قاعدة، كل مرة هتكوني مرتاحة وسعيدة ومستقرة نفسيا فيها، إنتي مش بس بتحمي نفسك، إنتي بتحميه هو كمان.
شردت نسيم في حديث الطبيبة، كأن كلماتها اخترقت جدارًا ظلّ مغلقًا في داخلها منذ زمن. تذكّرت خوفها وقلقها، ورأت بوضوح كيف يمكن أن يترك أثره على هذا الكائن الصغير الذي ينمو في أحشائها. وبعد تفكيرٍ عميق، أومأت بصمت، كأنها أخيرًا سلّمت نفسها لفكرةٍ لم تكن تتخيلها من قبل.
ابتسمت الطبيبة لالتفاتتها، ثم تابعت بهدوءٍ وهي تسرد باقي التعليمات:
ـ لازم تهتمي بالأكل، البروتين والخضار والفواكه، وتشربي مية كويس. وكمان هكتبلك على مكملات غذائية تناسب حالتك. والأهم.. ترتاحي وتنامي كويس الفترة دي..
جلست نسيم تستمع بانتباه، وكأنها تتلقى وصايا تخصّ حياتين لا حياتها وحدها. وفي عينيها ظلّ ذلك القلق القديم، لكنه بدأ يتراجع شيئًا فشيئًا أمام شعورٍ جديد بالمسؤولية.
وحين انتهت الطبيبة من حديثها، ابتسمت لها ابتسامة دافئة وقالت بصوتٍ يحمل صدقًا عميقًا :
ـ وافتكري دايمًا يا نسيم ان الجنين ده أمانة، وانتي لازم تكوني قد الأمانة.
لم تُجب نسيم، لم تنطق بحرف، فقط رمقتها بعينين ممتلئتين بالارتباك، ثم أطرقت برأسها صامتة، وقد اختلط بداخلها الخوف بالأمل، والخذلان برجفةٍ خفية من بدايةٍ لم تكن في الحسبان.
༺═────────────────═༻
حين عادت نسيم إلى البيت، بدا وكأن الهموم كلها تتثاقل فوق كتفيها. أغلقت الباب بهدوء، ثم أسندت ظهرها إليه، تستجمع أنفاسها المرتجفة كأنها عائدة من معركة لم تخرج منها منتصرة.
مدت يدها إلى حقيبتها، وأخرجت تلك الورقة الصغيرة، صورة أشعة باهتة تحمل نقطة سوداء تكاد لا تُرى، لكنها كانت الحقيقة التي قلبت كيانها: جنين يتكوّن في رحمها.
حدّقت طويلاً في تلك النقطة، وكأنها نافذة مفتوحة على مصير مجهول. اجتاحتها مشاعر متناقضة: خوف ينهش قلبها، دهشة غامرة، غضب مكتوم، وخذلان يثقل روحها.
لم تفهم لِمَ طافت ببالها صورة عائشة في هذه اللحظة تحديدًا، كأنها جرح قديم يُعاد فتحه من جديد، يذكّرها بضعفها وانكسارها أمام قسوة القدر وخيانة الحياة.
اهتز صدرها بشهقة مكتومة، ثم لم تعد تقوى على الصمود؛ انفرطت دموعها بغزارة، وانفجرت في بكاء موجع، تساقطت دموعها على الصورة وكأنها تغسلها من ذنب لم ترتكبه.
وفي ذروة انكسارها، رن الهاتف بجوارها. التقطته بيد مرتجفة، فإذا بالاسم الذي ظهر على الشاشة يعصف بمشاعرها أكثر.. فريد.
أجابت بلهفة مخنوقة، صوتها متقطع بين شهقاتها:
ـ آلو… فريد… !
فجاء صوته قلقًا، نافذًا إلى قلبها:
ـ مالك يا نسيم؟ إنتي بتعيطي ؟!
ـ فريد.. أنا حامل !
ساد صمت قصير على الطرف الآخر، كأن الكلمات شلّت قدرته على الكلام. لم تفهم هل هو صمت ذهول أم تفكير، لكن قلبها ازداد خفقانًا وهي تنتظر رده.
أغمضت عينيها واسترسلت، كأنها تعترف بجريمة:
ـ لسه جاية من عند الدكتورة حالا .. أنا مصدومة ومش قادرة أستوعب الخبر ، أنا مكنتش عاوزة حمل دلوقتي أصلا بس اتفاجئت بيه.. طبعا أنا لسه معرفتش عاصم، ومش ناوية أعرفه . ما عرفش ليه بقولك إنت بالذات.. يمكن علشان إنت أكتر حد بثق فيه.. أكتر حد بحس إنه ممكن يسمعني من غير ما يلومني، أو يجرحني بكلمة.
كان صوتها يتهدّج بين شهقات متقطعة، فيما ظل فريد صامتًا، يتنفس ببطء، يحاول أن يستوعب وقع الاعتراف.
أما هي فشعرت أنها بالراحة وهي تتحدث إليه بلا أقنعة ولا دفاعات، فقط أخت صغيرة تحتمي في ظل أخ تعرف أنه الوحيد الذي يستطيع أن يحمل عنها بعضًا من ثقلها.
وأخيرًا جاء صوته، مزيج من حنانٍ وقلقٍ ورغبة في الطمأنة، ثم بحزمٍ قال :
ـ مبدئيًا وقبل كل حاجه.. لازم يا نسيم تقولي لعاصم عن الحمل... ده حقّه .
شهقت وكأن الكلمة صفعتها، وهزّت رأسها بسرعة وهي تقول بعنادٍ مرتجف:
ـ لا… لا طبعًا! مستحيل أقول له دلوقتي.
ارتبك فريد لحظة، ثم قال بنبرةٍ أبطأ، كأنّه يحاول أن يستشف من رفضها شيئا :
ـ ليه؟! إيه اللي يمنع؟
لم تستطع أن تجيبه، ارتجفت شفتاها، وامتلأت عيناها بالدموع، واكتفت بقولٍ خافتٍ مهزوم:
ـ مش هقدر… مش دلوقتي.
ظلّ فريد صامتًا للحظات، يستمع لانفعالاتها المرتبكة، غير أنّ قلبه لم يطمئن؛ فقد أيقن أن رفضها لم يكن مجرّد انفعال عابر، بل إشارة خفية إلى مأزقٍ أعمق. كان الرفض أشبه بستارٍ يغطّي على جرحٍ غائر، ووراءه سرّ ثقيل يتعلّق بعلاقتها بعاصم، علاقة لم تعد مستقرة كما تدّعي، بل تشي بانكسارٍ خفيٍّ يوشك أن ينكشف. عندها، استبدّ به القلق أكثر، كأنّه يطلّ من نافذة صغيرة على هاوية لا يعرف قرارها.
ـ طيب ممكن بعد إذنك وبدون ما تحسي إني بتطفل على حياتك تقوليلي إيه اللي حصل خلاكي تغيري موقفك بالشكل ده؟! أنا قلقان عليكي ومحتاج أطمن مش أكتر..
ارتجفت الكلمات في صدرها قبل أن تبلغ شفتيها، لكنها لم تستطع مواجهة الحقيقة. خافت أن تبوح بما يعتصرها من شكوك ومخاوف؛ فهي لا تحتمل أن يرى فريد الصورة المظلمة التي تخشى أن يكون عاصم قد صار عليها. حبّها له ما زال يقيّدها، وخوفها منه يكمّم صوتها، أمّا وفاؤها لفريد فيجعلها عاجزة عن إخافته أو زرع القلق في قلبه.. فهي تعرف أنه لديه من المخاوف والوساوس ما يكفي .
لذا اكتفت بالصمت المرتبك، محاولة ً أن تختبئ وراء ابتسامة باهتة، بينما في داخلها معركة لا يراها سواها.. ثم تنهدت وقالت :
ـ متقلقش يا فريد أنا كويسة.. شوية لخبطة بس وبنحاول نحلها، وكنت عاوزة أخلي موضوع الحمل ده لبعدين لكن اللي حصل حصل .
لكنّه لم يُخدع، ولم تنطلِ عليه كلماتها المترددة، ولم يقتنع بتبريراتها الواهية؛ فهو يعرف نسيم كما يعرف نفسه وأكثر، يعرف صمتها المربك أكثر من معرفته بلسانها الناطق. كان واضحًا له أنّ وراء إنكارها خوفًا أكبر، وأنّ ما تُحاول إخفاءه لا يقلّ خطورة عمّا تخشى البوح به.
لكنّه، على الرغم من كل ما شعر به من ريبة وقلق، لم يستطع أن يُجبرها على الكلام، ففريد يدرك جيّدًا أنّ الضغط لن يولّد سوى مزيد من الصمت. هو يعرف أنّ نسيم تحتاج أن تختار بنفسها متى وكيف تبوح بما في داخلها. لذا ترك لها مساحتها الخاصة، لكنه في الوقت ذاته حرص أن يزرع بداخلها يقينًا راسخًا، فقال بنبرة حازمة وحنونة في آن واحد:
ـ بصي يا نسيم.. يمكن أنا مش عارف كل اللي بيحصل معاكي دلوقتي لأنك مش عايزة تتكلمي.. بس عايزك تكوني واثقة إنك مش لوحدك. أنا موجود، ووراكي، وهفضل موجود عشان أحميكي وأساعدك في أي لحظة تحتاجيني فيها.. ومش أنا وبس، عمر كمان موجود، وحسن.. كلنا بنحبك، وكلنا في ضهرك، متخافيش من حاجة أبدا، ولا من حد.. و اوعي تسمحي لحد ييجي عليكي أو يجبرك على حاجة انتي مش عايزاها مهما كان السبب.. سامعة ؟
منحه حديثها بعض الطمأنينة، فتنهد بضيق وقال:
ـ مش عارف والله أقوللك إيه بس كل المطلوب منك دلوقتي تخلي بالك من نفسك ومن البيبي..
ـ حاضر.. متقلقش عليا .
ـ لأ للأسف قلقان .. قلقان عليكي طول الوقت بس بحاول أكدب نفسي وأكدب إحساسي .. لما شفت صوركم في كوبا اللي نزلتيها على انستجرام اطمنت شوية، حاولت أراجع نفسي وأطمنها انك مع الشخص الصح لكن كلامك دلوقتي قلقني أكتر من الأول ..
ـ متخافش عليا يا فريد ، عاصم مش مؤذي بالشكل اللي إنت خايف منه.. عاصم بيحبني، وأنا كمان بحبه.. لكن ..
ـ أيوة.. هي لكن دي.. لكن إيه بقا ؟!
تنهدت وعادت لصمتها من جديد، فزفر بضيق مماثل، وقال بإيجاز :
ـ خلاص.. مش مهم تقولي دلوقتي ، حاولي تهدي نفسك كده وخلي بالك من صحتك ..
وصمت قليلًا قبل أن يتابع بصوتٍ متردّد، وكأنّه يحاول أن يُخفي ما يختلج صدره:
ـ الحقيقة أنا كلمتك علشان أعزمك على حفل الافتتاح يوم الخميس، بس مش عارف في ظروفك دي هتعرفي تيجي ولا لأ!
أطلقت تنهيدة قصيرة، تحمل ثقلًا لا يُرى، ثم قالت بنبرة مُرهَقة:
ـ هحاول بشتى الطرق، أنا محتاجة أشوفك جدا.
ساد بينهما فراغ محمّل بالارتباك، قبل أن يقطعه زفيره الحادّ وهو يتمتم:
ـ أنا كمان محتاج أشوفكم! كلكم وحشتوني.
ارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة لم تستطع منعها، وسرعان ما تسلّل سؤال ماكر من بين شفتيها، كأنها تحاول أن تفتح ثغرة في صمته:
ـ كلنا مين؟!
ابتسم هو الآخر بهدوء، وأجاب:
ـ انتي وعمر..
ـ أنا وعمر بس؟! ونغم لأ؟
اتسعت ابتسامته ولكنها كانت تحمل مرارة واضحة، وأجاب بنبرة حزينة:
ـ ونغم كمان وحشتني جدا.. يا ريت كان ينفع تيجي معاكم، وجودها معايا في يوم زي ده كان هيفرق جداا.. أنا بجد محتاج أشوفها جدا.. حاسس إني..
صمت للحظة، كأنه يبحث في داخله عن الكلمات التي تُنقذه من ثقل اعترافه، ثم قال ببطء:
ـ حاسس إني من غيرها مش عايش!
تراجعت ابتسامتها شيئًا فشيئًا، وحلّ محلها وجوم ثقيل. لم تعلم هل تصارحه بأن حال نغم لا يختلف عن حاله، وأنها هي الأخرى تشعر وكأنها جسد يمضي بلا روح، أم تترك الأيام وحدها تعالج ما فشل كلاهما في مداواته.
ـ يلا.. أنا تقلت عليكي ، هسيبك ترتاحي دلوقتي وهكلمك وقت تاني.. خلي بالك من نفسك كويس جدا.. اتفقنا ؟
تنهدت تنهيدة مثقلة ، ثم قالت :
ـ حاضر.. مع السلامة .
أنهت الاتصال، ثم أسندت رأسها إلى المقعد بإرهاقٍ شديد. أغمضت عينيها محاولة أن تمنح نفسها لحظة من السكون، لعلّها تجد في العتمة خلف جفنيها بعض الراحة.
تنفست بعمق، لكن قلبها ظل يخفق على إيقاعٍ مضطرب، ممتلئًا بقلقٍ لم تعرف له مخرجًا.
كانت على وشك أن تنساق في غفوة قصيرة، ولكنها فتحت عيناها بسرعة حين اخترق سكونها رنين جرس الباب المفاجئ !!
༺═────────────────═༻
كان سالم يجلس خلف مكتبه، منكفئًا على سطحه، يُمسك دفترًا بيده وكأنه حبل نجاةٍ يتشبث به وسط بحرٍ متلاطم الأمواج. أخذ يدوّن فيه بعناية مهووسة:
شجرة العائلة.. من الجد السابع، وأبنائهم، وزوجاتهم، وأحفادهم… إلى أبيه، ثم إخوته، لا يُسقط اسمًا ولا يتجاوز تفصيلة.
يرسم الخطوط والروابط كأنما ينسج خريطة وجوده من جديد، يخشى أن تضيع منه إذا لم يُثبّتها بالحبر.
وفي صفحة أخرى، انقلب القلم إلى سلاحٍ يحارب به تلك الحالة المضطربة التي أصبحت تهاجمه بشراسة.. كتب عن نفسه.. زوجاته، أولاده، وكل تفصيلة تخصهم.
ثم انتقل إلى ما هو أثمن عنده: أعماله، مشاريعه، شركاته، أخصامه، حساباته، خططه القريبة والبعيدة.
حتى الأرقام.. لم يتركها تفلت، أرقام هواتف، تواريخ، مواعيد، وأرقام حسابات مصرفية. كل شيء يسجله وكأنّه يخشى أن يفقده في لحظة، فلا يبقى له أثر سوى هذه الأوراق.
وفجأة، توقّف قلمه عند اسمٍ بعينه… ظل يحدق فيه طويلا، يمرر بصره عليه كأنه يراه للمرة الأولى. قلبه ارتجف للحظة، ثم عقد حاجبيه بحدة، محاولًا أن يستدعي ملامح صاحبه أو مكانه في حياته.
لكن الفراغ كان يزداد اتساعًا داخله. مدّ يده بعصبية، خطّ الاسم مرة ثانية، ثم وضع بجواره علامة استفهام. ضغط القلم بقوة حتى كاد يمزق الورق.
ارتعشت أنفاسه، وانحنت شفتاه في ابتسامة مريرة، كمن يحاول إقناع نفسه أن الأمر لا يتعدى كونه شرودًا عابرًا. ومع ذلك، تسللت إلى داخله رعشة خوف لم يعرف لها مثيلًا.. خوف رجلٍ جبّار يكتشف أن جبروته يتآكل من الداخل.
قطع رنين الهاتف سكون الغرفة، وشروده؛ فالتقطه ونظر به فإذا به نادر، فأجاب قائلا :
ـ أيوة يا نادر..
ـ باشا.. تتبعت موبايل زينب زي ما أمرتني وعرفت مكانها.. في الشقة القديمة بتاعة حسن !
زفر سالم بعمق وهو يشيح بيده في الهواء، ثم أومأ قائلاً:
ـ تمام.. توقعت أنها ستكون هناك فعلًا، على العموم شكرًا يا نادر.
ـ العفو يا باشا، أنا تحت أمرك دايمًا.
أنهى سالم الاتصال، وأغلق الدفتر بعناية قبل أن يضعه داخل خزنته الخاصة. ثم نهض مغادرًا الغرفة، فإذا بالممرضة تقف عند الباب، تتهيأ للدخول وهي تقول:
ـ ميعاد الدوا يا باشا.
توقف سالم عند عتبتها، ونظر إليها نظرة مطوّلة متفحصة، ثم قال ببرود:
ـ لأ، من دلوقتي ورايح مش هاخد برشام تاني لأي شيء.. أنا زي الفل ومش محتاج علاج!
ابتلعت الممرضة ريقها بتوتر، وقالت بصوتٍ خافت متردد:
ـ بس ممنوع توقف دوا الضغط سعادتك، ده خطر على صحتك..
اشتعلت عيناه بالغضب، وصاح بها بانفعال:
ـ جرا إيه يا بت؟! انتي نسيتي نفسك ولا إيه؟ لسه ما اتخلقش اللي يدي أوامر لسالم مرسال ويقولله ممنوع ومقبول..!
ارتبكت أكثر وطأطأت رأسها بخوف، قبل أن تهمس:
ـ اللي تشوفه حضرتك.. لكن أنا مضطرة أبلغ دكتور جمال إنك عاوز توقف الدوا..
ازداد غضبه، وفي لحظة مفاجئة دفع الصينية التي تحملها بيده فسقطت على الأرض، وهتف بعصبية عارمة:
ـ انتي اتهبلتي! انتي بتهدديني بالدكتور زفت بتاعك ده ولا إيه؟!
تركها مذعورة خلفه وانصرف مسرعًا، ثم استقل سيارته وهو يتحدث بانفعال :
ـ اطلع على الشقة القديمة بتاعت حسن!
استدار السائق نحوه مرتبكًا لما رأى ملامحه الواجمة وقال:
ـ أنهي شقة يا باشا؟!
التفت سالم نحوه بحدة، ثم قال وصوته يقطر عصبية:
ـ إنت بتسألني؟! أومال إنت شغلتك إيه؟!
رد الآخر متلعثمًا، والخوف بادٍ على وجهه:
ـ حضرتك محددتش.. البيت القديم اللي اتحرق في الحارة، ولا شقته الجديدة؟!
زمجر سالم بغضب أكبر:
ـ وأنا هروح البيت اللي اتحرق أعمل إيه؟! إنت يظهر عليك كبرت وخرفت!
ارتبك السائق، وتمتم معتذرًا وهو يدير المحرك على عجل، لتنطلق السيارة نحو شقة حسن.
في تلك اللحظة، كانت أحلام تتابع المشهد من بعيد، تحدق في السيارة حتى غابت عن ناظريها. شعرت بارتجاف يسري في أوصالها، ثم هرولت إلى غرفتها، وأمسكت بهاتفها لتجري اتصالًا سريعًا. ما إن جاءها الصوت من الطرف الآخر حتى همست بخوف:
ـ أيوة يا بيه.. سالم باشا الڤولت عنده عالي أوي النهارده، وعمال يزعق ويخانق دبان وشه من الصبح، ولما رحت أدي له الدوا قال لي مش هاخد دوا تاني.. إيه العمل؟!
ارتعش صوتها أكثر وهي تواصل:
ـ أنا بجد مرعوبة.. لو انفجر فيا تاني مش هعرف أتصرف.
ساد صمت قصير على الطرف الآخر، ثم جاءها صوته متأنيًا، عميق النبرة:
ـ طيب.. أنا هكلم دكتور جمال ونشوف حل. خليكي حذرة جدًا الفترة الجاية، وإوعي تفلتي بأي كلمة قدامه. أنا هكلمك بالليل وهقولك تعملي إيه.
أنهت أحلام المكالمة بيدٍ مرتجفة، وأغلقت الهاتف ببطء، كأنها تخشى أن يفضح ارتجاف أناملها. أسندت رأسها إلى الحائط، وأنفاسها تتلاحق في صدرها، تحاول أن تستجمع شجاعتها، لكن قلبها كان يخونها بخفقات متسارعة. أغمضت عينيها للحظة، وكل ما دار في ذهنها هو سؤال واحد يتردّد بإلحاح:
ـ ماذا سيكون رد فعل سالم وأولاده إذا فُضح أمرها ؟!
༺═────────────────═༻
جلسا متقابلين، والصمت يملأ المسافة بينهما كما لو كان جدارًا خفيًا يحول دون الكلمات. كانت نظرات عمر مثبتة عليها، يقرأ في ملامحها ما تحاول جاهدة أن تخفيه، يلحظ شحوبها وتوتر أصابعها وهي تعبث بطرف ثوبها بلا وعي. أما هي، فكانت عيناها تهرب منه كلما التقتا بعينيه، وكأنها تخشى أن ينكشف المستور.
مدّ عمر رأسه قليلًا إلى الأمام، يتأمل ملامحها بتركيزٍ لم يخلُ من القلق، ثم ارتسمت على وجهه علامات ضيقٍ صريح، وقال بنبرة متفحّصة:
ـ وبعدين يا نسيم ؟! مصممة إنك كويسة بردو ؟!
أومأت بصمت، فصاح بنفاد صبرٍ وقد غلبه التوتر:
ـ يا بنتي ما تنطقي بقا غلبتيني.. مالك ؟!
أجابت على عجل محاولة إغلاق الباب أمام قلقه:
ـ مفيش يا عمر أنا كويسة والله ..
هز رأسه مستنكرًا وأضاف:
ـ بأمارة إيه كويسه ؟! طب أنا غبي ومبفهمش، لكن مش معقول مبشوفش كمان يعني.. وشك مجهد وعينيكي دبلانة .. كأنك بقالك سنة منمتيش !
زفرت بضيق وعجزٍ ظاهر، ثم اختارت الهروب من المواجهة، فقالت بفتور:
ـ أجيب لك إيه تاكله ؟!
ابتسم بسخريةٍ خفيفة وهو يرد:
ـ عارف إنك بتتوهيني بس أنا مش هنولها لك .. اتكلمي يا نسيم لو سمحتي.. جوزك مزعلك ؟!
آثرت التملص مجددًا، فتنفست ببطء وعدّلت جلستها لتتخلص من توترها، ثم قالت محاولةً تغيير مسار الحديث:
ـ سيبك مني ..
وغمزت بمكرٍ أضافت بعده:
ـ أخبار مرار إيه ؟!
زفر بعصبيةٍ مشوبةٍ بالسخرية، وقال:
ـ والنبي تخلينا في المرار اللي أنا فيه دلوقتي مش ناقصني مرار تاني..
ونهض باضطراب، ثم جلس إلى جوارها ونظر إليها ببكاءٍ مصطنع وهو يقول :
ـ بقوللك عايز يوديني الجيش يا نسيم! انتي متخيلة ؟! ليه مش حاسة بيا ؟ ليه محدش حاسس بيا يا عالم !!
رفعت عينيها إليه، وقالت بلهجةٍ حاولت أن تكون مطمئنة:
ـ إن شاء الله يكون تهديد مش أكتر يا عمر.. وبعدين لو حتى حصل.. كلها سنة يا حبيبي وهتعدي بسرعة، مالك مكبر الموضوع ليه ؟!
أشار بيديه بحنقٍ وقال منفجرًا:
ـ سنة ! انتي عاوزاني استحمل سنة في الجيش ؟! انتي مبتشوفيش صور فريد وهو في الجيش ؟! مشوفتيش كان عامل زي خلة السنان ازاي ! عاوزاني أروح وأتمرمط زيه كده .. وبعدين دي هتبقا مرمطة special ، متفصلة على مقاسي بالمظبوط، ده لو دخلني الجيش هيوصيهم عليا وهتنفخ هناك !! لااا.. no way بجد .
وضعت رأسها بين كفيها تكبح ضحكةً خرجت منها رغمًا عنها، فالتفت إليها غاضبًا وقال محتدًا:
ـ انتي بتضحكي؟! طبعا ماهو اللي إيده في الميا .. اضحكي اضحكي !
رفعت وجهها إليه بابتسامةٍ خافتة، وقالت بهدوءٍ مشوب بالصدق:
ـ صدقني أنا حاسة بيك.. ماهو أنا جربت قبلك لما سافرت دبي ، على الأقل أنا كنت بنت وصغيرة ولوحدي في بلد غريبة ، إنما إنت قد الباب أهو ماشاءالله وكلها سنة وهتخلص .
رمقها بنظرةٍ يملؤها عدم الاقتناع، وأومأ رأسه رافضًا وهو يهمس بعنادٍ مكتوم:
ـ بردو لأ .. حتى لو حصلت أهرب وأسيب له البلد كلها هعملها .
زفرت في يأس وقالت بسخرية مشوبة بالمرارة :
ـ إنت كمان ! خلاص سافر اليونان احضر الحفلة وخليك هناك ، أقوللك ؟! اشتغل مع فريد هناك !
نظر إليها بتفكير، ثم قال :
ـ والله فكرة.. بس لأ بردو ، مقدرش أبعد عنك انتي وحسن..
وأضاف بابتسامة واسعة :
ـ وميرال .
هزت رأسها بيأس من رعونته، ثم التفتت إليه وقالت بجدية:
ـ نتكلم جد شوية بقا ، فريد صعبان عليا أوي .
نظر إليها بهدوء ، ثم أومأ وقال :
ـ وأنا كمان .. مش عارف يلاقيها منين ولا منين .. كفاية عليه الفرعة اللي اسمها سيلين ..
ردت بحزم :
ـ على فكرة، سيلين ولا حاجة بالنسبة له ، فريد مفيش في قلبه غير نغم وبس .
نظر إليها وهو يطرق بسبابته على ذقنه متقمصًا دور المحقق وتساءل :
ـ يعني هو قاللك إن مفيش في قلبه غير نغم وبس ؟
أومأت وتنهدت ثم تابعت :
ـ وقاللي كمان إنه كان نفسه نغم تسافر تحضر الحفلة وإن ده كان هيفرق معاه جداا ..
كان عمر يتابع حديثها بعينين شاردتين، ثم رفع سبابته يطرق بها على ذقنه مجددًا، محاكيًا نفس الانطباع:
ـ يعني هو قاللك إنه كان نفسه نغم تسافر تحضر الحفلة ؟!
نظرت إليه ثم هتفت بحنق ونفاذ صبر :
ـ هو إنت مكسل تفكر فبتردد ورايا زي البغبغان وخلاص ؟!
نظر إليها بامتعاض مزيف وقال بزهو :
ـ بغبغان ؟! البغبغان اللي مش عاجبك ده هو اللي هيلم الشمل ويرد الحبيب .
سألته والضحكة تغلبها :
ـ إزاي بقا يا شيخ عمر ..
ـ اتريقي.. بس وحياة شنبي ده لتشكروني بعدين ..
انفجرت نسيم ضاحكة ثم مالت عليه وعانقته وهي تقول:
ـ بجد يا عمر أنا كنت محتاجة أضحك وإنت عملت ده بكل سهولة .. أنا بحبك أوي يا مانو .
أحاط كتفها بذراعه وهو يضحك بفرحة لأنه نجح في إضحاكها، وقال :
ـ وأنا بحبك يا نوسه.. حلو نوسة ده .. أما حسن ده عليه حاجات !
أومأت بموافقة، ونظرت إليه بانتباه وقالت :
ـ صحيح .. حسن مجاش معاك ليه ؟!
تنهد ثم قال :
ـ قال إنه هيزور زينب !
قطبت جبينها بتعجب وسألته :
ـ يزورها إزاي مش فاهمه!
نظر إليها متفاجئًا ثم قال بإدراك :
ـ أه.. انتي متعرفيش إن الباشا عمل مع زينب الجلاشة ؟!.
قطبت جبينها وكأنها تحاول فك لوغاريتم معقد، فهتف شارحا :
ـ الحكايه وما فيها يا ستي إن باشا البشوات بتاعنا لما كان واخد زينب معاه كوم الأشراف وانتي في كوبا .. وهم راجعين في الطريق راحت الهوبا جات له قام منزلها على الطريق في نص الليل.. وبعدها هي اتصلت بينا روحنا لها أنا وحسن، وحسن أخدها على الشقة اللي كانت أمه عايشة فيها.. أقصد أمكم..
ظلت شاردة، قاطبةً جبينها بحزن بعيد المدى، ثم ابتلعت تلك الغصة التي تشكلت بحلقها، ونظرت إليه وقالت :
ـ علشان كده زينب مكلمتنيش من ساعة ما رجعت ! ومش بترد على اتصالاتي !! علشان متضطرش تقوللي اللي حصل!
أومأ مؤكدًا وقال :
ـ و يومها حسن حب يدافع عنك وعن زينب راح أبوه رزعه قلم مخدوش حرامي جزم !
وانفجر ضاحكًا بعبث حتى أدمعت عيناه، فضحكت نسيم بدورها وهي تنظر إليه بيأس وتقول :
ـ حسن لو عرف إنك حكيتلي هو اللي هيعمل معاك البغاشة بجد !
ـ بغاشة ؟! قالها وهو يضحك مجددًا ثم تابع : إسمها الجلاشة .
ضحكت بخفوت، ثم تنهدت وقالت :
ـ طيب ممكن نتكلم بجد وتبطل تهريج ؟! قلت إننا هنشكرك ؟! ممكن أعرف بتفكر في إيه بالظبط ؟!
تنهد وهو ينظر إليها ويقول مستعيدا جديته مرة أخرى :
ـ مش انتي بتقولي إن فريد كان نفسه نغم تسافر ؟!
أومأت ، فتابع :
ـ وبتقولي كمان إن وجودها كان هيفرق معاه جدا .
أومأت مجددا ، فقال بثقة :
ـ بسيطة .. نخلي نغم تسافر !
قطبت جبينها بتعجب وقالت :
ـ و دي هنعملها إزاي بقا ؟!
ـ بسيطة جدا ، نفهمها إننا رايحين اليونان نتفسح مثلا وعايزينها تغير جو معانا ..
ـ بجد ؟! على أساس إن نغم غبية مثلا وهتصدق اننا رايحين اليونان.. البلد اللي فريد فيها بالتحديد نتفسح.
زم شفتيه وهو يفكر وقال :
ـ ممم.. تصدقي فعلا ممكن ترفض ؟!
ـ ده مش ممكن، ده أكيد.. وبعدين نغم عمرها ما سافرت يعني مفيش معاها passport أصلا ..
ـ مممم.. تصدقي فعلا كلامك صح.
مسحت على وجهها بنفاذ صبر ، ونظرت إليه وقالت :
ـ لما كله ممم ممم اومال إنت عامل فيها أبو العريف ليه ؟!
ـ الحق عليا يعني إني نفسي أقرب المسافات بينهم وبفكر معاكي بصوت عالي !
تنهد بيأس، ثم هتف بعد قليل بلهفة :
ـ جاتلي فكرة !
ـ ممم.. ؟! اشجيني !!!
ـ طبعا انتي عارفة أمجد الريدي صاحب فريد !
قطبت جبينها وتسائلت :
ـ ده اللي شغال في مصلحة الجوازات ؟!
أومأ بابتسامة واسعة وقال :
ـ عليكي نور.. أنا بقا هكلم أمجد ده وأقول له إننا عاوزين مساعدته عشان الموضوع يخص فريد وعاوزين نلحق نخلي خطيبته تسافر له وعاملين له مفاجأة وبتاع.. وأنا واثق إنه هيتصرف .
لمعت عيناها بحماس، ثم أومأت وقالت :
ـ تصدق فكرة فعلا .. بس بردو حتى لو مشكلة جواز السفر اتحلت، وتأشيرة اليونان اللي هتاخد حوالي أسبوعين اتحلت ، نغم استحالة توافق تسافر اليونان وهتعرف إننا بنعمل عليها حوار وهتقفش جامد !
تراجع حماسه لحظة، ثم ما لبث أن هتف بعينين لامعتين:
جاتلي فكرة!.. إحنا نروح "تركيا"، ننزل في مطار "إسطنبول"، ومن هناك ناخد طيارة على "دالامان".. ومن "دالامان" نكمل لمرمريس.
ظلت تحدّق فيه بذهول كأنها لا تستوعب شيئًا، فابتسم وأردف بحماس:
ومن "مرمريس"، ساعة ونص بالفيرى.. ونكون في قلب "رودس"، في "اليونان".. وبعد ما نوصل "رودس" يدوب بالطيارة ساعة ونص نبقا في " أثينا " ..
ـ فعلا ؟!
ـ أيوة يا بنتي أومال بسرح بيكي مثلا ؟!
ـ وهل تعتقد بقا إن بعد اللفة دي كلها هنلحق الافتتاح أصلا ؟!
ـ إن شاء الله هنلحق لو اتحركنا من دلوقتي ، أنا هتكلم مع أمجد الريدي فورا وأعرض عليه الموضوع وأشوف هيساعدنا ازاي ، كل اللي عليكي بقى تتكلمي مع نغم وتقنعيها بأي شكل من الاشكال وانا بكره الصبح هفوت عليها ونروح نخلص موضوع جواز السفر والتأشيرة ونسافر الخميس الصبح …
تنهدت بقلق، ثم قالت :
ـ ربنا يسهل إن شاء الله.
أومأ، ثم نهض وقال :
ـ خلي بالك من نفسك، وأنا هشوف هيحصل معايا إيه وأكلمك..
ـ وأنا كمان هكلم نغم وأبلغك وصلت لإيه !
أومأ، ثم عانقها بحنانٍ تحتاجه كثيرا، ثم قادته نحو الباب، وبينما هي تفتح الباب تفاجئت بعاصم يهم بالدخول.. وقف ثلاثتهم يتبادلون النظرات الصامتة ، حتى تحدث عمر وقال لنسيم :
ـ زي ما اتفقنا خلينا على تليفون .
أومأت بتوتر ،فانصرف عمر، ودخل عاصم الذي تجاهلته نسيم ودلفت لتأخذ حمامًا عميقًا تهدئ به أعصابها .
༺═────────────────═༻
كانت زينب قد أصرت أن يتناول حسن الفطور مجددا برفقتها، فبعد أن تناول بضع لقيمات دخل إلى الحمام ليغسل يديه، رن جرس الباب ، فانتبه باستغراب، ولكنه توقع أن يكون الطارق عمر بما أنه الوحيد الذي يعرف أنه هنا..
خرج من الحمام ليفتح الباب ولكن زينب كانت قد سبقته، فسمعها وهي تردد اسم والده الذي يقف خلف الباب ولم يظهر بعد ..
شيئا ما جعله يتجمد في مكانه ويتريث قبل أن يظهر أمام والده أو يعلن وجوده.
اندفع سالم داخل الشقة، وأغلق الباب بعنف، ثم نظر إلى زينب منفعلا وقال :
ـ إيه اللي مقعدك في بيت إبني يا زينب ؟! هو أنا مش قلت لك مش عاوز أشوف وشك تاني.. بتحومي حوالين عيالي ليه ؟!
همت لتتحدث ولكنه هتف مجددا بانفعال أكبر :
ـ كنت عارف إن ديل الكلب عمره ما يتعدل، لقيتيني طردتك وخرجتك من حياتي دُرتي تستعطفي حسن إكمنه طيب وعلى نياته ، وخليتيه يقعدك في شقته عالنيل.. ومش بعيد تكوني عرفتيه إنك عمته المسكينة اللي أبوه طردها وافترى عليها عشان تكسبيه في صفك وتلعبي بيه ضدي !!
أغمضت عينيها بأسى، فهو لم يمهلها شيئا لتحكيه، لم يمهلها حتى وقتًا لتخبره أن ابنه موجود، وبتسرعه وقسوته أفصح هو عن كل شيء دون تدخل منها .
ـ ساكته ليه ؟! انطقي !
رفعت عينيها عن الأرض، ثم أدارتهما ببطء نحو حسن الذي يتقدم نحوهما بخطى وئيدة وكأنه يسير على شظايا زجاج، يحدق فيهما بذهول، والاستنكار يرتسم على وجهه.
ما إن رآه والده حتى شحبت ملامحه وانتفضت عروقه، لم يصدق أنه موجود بالفعل وعرف كل شيء .
بينما تقدم منهما حسن، حتى وقف أمامهما يطالعهما بصدمة، ثم نظر إلى أبيه وقال :
ـ عمتي ؟!! عمتي إزاي ؟!
ابتلع سالم ريقه بارتباك، وأشاح بعينيه بعيدا عنه، محاولا استدعاء ثباته مرة أخرى، ثم نظر إلى زينب وقال :
ـ ابعدي عني وعن عيالي يا زينب، إنتي عارفة إن اللي بيقف قدامي بدهسه من غير تفكير .. ده آخر تحذير ليكي !!
ولكن حسن، بدا وكأنه لم يسمع كل ما قاله والده، فوقف أمامه حتى أجبر زينب على التراجع خطوة للوراء ونظر إلى والده وقال :
ـ سيبك من كل الكلام ده دلوقتي وجاوبني.. يعني إيه عمتي ؟! يعني أختك ؟!!
فنظر إليه سالم بحدة وقال :
ـ لأ مش أختي، أنا مش معترف بواحدة بنت حرام زيها !! وآخر تحذير ليها لو مبعدتش عننا أنا هخلي الناس كلها تعرف حقيقتها وفضيحتها في البلد هي وأمها المرحومة هتكون بجلاجل .
أغمضت زينب عينيها بقهر وهي تحاول كتم تلك الدمعات التي تجمعت في عينيها، بينما كان حسن ينظر إليهما وهو يشعر وكأنه على وشك الجنون، ثم صاح بانفعال شديد :
ـ بنت حرام ولا بنت حلال دي مش مشكلتي .. أنا بسأل سؤال واضح.. زينب أختك ؟!!
صاح به سالم بغضب :
ـ جرا إيه يلا .. ما تاخدني قلمين أحسن !
ولكن حسن نظر إليه وابتسم ابتسامة مريرة وقال :
ـ لا لا .. سيبك من الجو ده خالص مش هتعرف تسكتني حتى لو ضربتني ١٠٠ قلم مش قلم واحد ..
وحانت منه التفاتة نحو زينب التي تعتصر دموعها بصعوبة وقال :
ـ زينب أختك ؟! الست اللي انت مشغلها خدامة عندك العمر ده كله تبقى أختك ؟! مشغل أختك خدامة عندك ؟!
انفلتت منه ضحكة قصيرة ساخرة، ثم قهقه عاليًا بمرارة أشد، وأخذ يقلب كفيه بدهشةٍ، ثم نظر إلى والده، وهتف بكل الغضب الذي يعرفه في الكون :
ـ أنا خلاص مبقيتش عارف أحترمك، مبقاش في قلبي ذرة تسامح أعاملك بيها، لما عرفت بكل البلاوي اللس عملتها سواء في نسيم ولا أمي ولا أم فريد ولا فريد ذات نفسه كنت بحاول ألاقي لك مبررات.. كنت بحاول احبك بالرغم من ان كل شيء بيقوللي أكرهك ، مكنتش عاوز أخسرك ولا أخسر صورتك الحلوة اللي كنت عمال أرمم وأعالج فيها .. لكن خلاص.. للصبر حدود ، بعد ما تعمل كده في أختك اللي من دمك.. تشغلها خدامة تحت رجليك انت وعيالك عشان تعوض فيها النقص اللس إنت حاسس بيه، خلاص أنا مش عاوز يبقالي أي صلة بيك..
ونظر إليه ثم هتف في وجهه بقسوة وعينان تتقدان كالجمر :
ـ أنا ميشرفنيش يبقالي أب زيك.. أنا بكرهك .. بكرهك يا سالم يا مرسال !!!!
بُهت وجه سالم، وأخذت عينيه تتسعان دهشة واستنكارًا، وكتفاه يرتجفان قليلًا من الغضب المكبوت، وهو يحدق في ابنه، كما لو كان يحاول استيعاب هذا التصرف والكلام الذي لم يكن يتوقعه منه.
ارتجف قلبه، وشعر بغصةٍ في صدره، مزيج من الغضب وخيبة الأمل، لكنه حاول السيطرة على نفسه، ورفع يده ينوي صفع حسن، لكن يده ارتعشت وتدلت فجأة، ثم سقط أرضًا، غائبًا عن الوعي !
༺═────────────────═༻
انتظرها عاصم بصبر إلى أن أنهت حمامها، ثم دخل الغرفة فوجدها تقف أمام المرآة، تصفف شعرها بهدوء، بينما ظل هو واقفا مستندا بكتفه إلى الباب، ينظر إليها بهدوء يخالطه الحنين والشوق..
ثم سار نحوها، حتى إذا ما وقف خلفها احتضنها وأسند رأسه إلى كتفها.
عندما لامست يداه بطنها شعرت بانقباض معدتها في شعور لأول مرة تختبره، وكأن قوة خفية تسوقه ليلمس طفله الذي ينمو في أحشاءها .. قاومت لئلا تبكي، وحاولت أن تتنفس بعمق، فقال :
ـ أنا آسف لو كلامي ضايقك وزعلك مني.. أرجوكي متزعليش مني.
الآن تهاوت دموعها بلا مقاومة، ووضعت كفيها على يديه اللتان تحيطان خصرها، فتابع :
ـ أنا فكرت في كلامك، جايز فعلا أنا كمان محتاج أروح لدكتور نفسي ، مش عيب ولا حرام.. بس أنا موافق أخد الخطوة دي لو انتي هتساعديني وتيجي معايا .
استدارت ونظرت إليه ، فلمحت في عينيه حزنًا دفينًا، عيناه كانت حمراوتين بطريقة تثير الشفقة، مما جعلها تبكي بقهر على حالها وحاله ، وللحظة قررت أن تعترف له بخبر حملها علها تريح قلبه ولو لقليل .
ـ عاصم.. أنا …
ولكن عاصم ابتلع كلماتها، وصوتها، و أنفاسها حين غمر شفتيها بقبلةٍ بث معها مشاعره كلها، ثم أحاط وجنتيها بكفيه وهو يهمس إليها:
ـ مش عاوز ييجي يوم أتخيل إنك مش معايا فيه، مجرد ما بتخيل قلبي بيوجعني.. خليكي معايا مهما حصل أرجوكي.. علشان خاطري متبعديش عني يا نسيم ..
نطق كلماته بطريقةٍ ملتاعة، بداخله كان شعورا بالذنب يفترسه، لكنه لن يطغى أبدا على شعوره بالقهر والرعبة الملحّة للثأر لكي يتخلص من ذلك الظلام الذي يكاد يبتلع روحه في كل مرة .
ـ نسيم.. أنا بحبك، أنا من غيرك مش هقدر أعيش، انتي كل عيلتي.. أنا مليش غيرك ومش عاوز غيرك..
انهمرت دموعها بانهيار، عانقته وعانقها كما لو كانت أجسادهم قد التحمت سويًا .
ـ أرجوكي اصبري عليا .. اتحمليني ومتسيبينيش لنفسي ! أنا وأنا بعيد عنك ببقى أسوأ إنسان في الدنيا .
شعرت بدموعه تتساقط فوق كتفيها، فشدته إليها أكثر، وهي تمسد ظهره وتحاول طمأنته بإيماءاتٍ متكررة، فابتعد لكي ينظر إليها، وأمسك بوجهها بين كفيه العريضين وقال :
ـ قوليلي إنك مش هتبعدي عني مهما حصل ، قوليلي إنك مش هتكرهيني أبدا .
هزت رأسها بموافقة، ورددت كالمغيبة في خضم عاصفة العشق التي حاصرتهما من كل جانب:
ـ عمري ما هبعد عنك أبدا ولا هقدر أكرهك أبدا يا عاصم .
أعادها إلى عناقه، وسحق أضلاعها بين أضلاعه، مُلقِيًا كل خوفه ومخاوفه على الأرض، راغبًا في نيل هدنة مؤقتة بين ذراعيها، يدرك تمامًا أن هذه الهدنة لن تدوم، لكنها ضرورية لتمده بحياة إضافية قد لا تمنح له الحياة مثلها مرة أخرى.
༺═────────────────═༻
ـ ها .. قولي إنك موافقة بقا زهقتيني !
نظرت نغم إلى عمر الذي يقف أمامها على الدرج وهي تقف عند عتبة الباب ، ثم شردت بعيناها بعيدا فهتف بحنق :
ـ هو أنا بكلم نفسي ؟ بقالي ساعة بحاول أقنعك .. وانتي كل شوية تسرحي وتسكتي..
تنهدت بيأس، ثم قالت بتردد :
ـ مش عارفه والله يا عمر .. موضوع السفر ده عمره ما كان في بالي .
ـ وأهي دي فرصة تخليه في بالك .. بذمتك انتي عاجبك قعدتك دي ؟! انتي عمالة تعيطي، ونسيم عمالة تعيط.. فأنا قلت أكسب فيكم ثواب وأخليكم تغيروا جو.. إيه رأيك ؟!
نظرت إليه بتردد ثم قالت :
ـ طيب هي تكاليف السفر كام ؟!
ـ يا ستي متشغليش بالك بالتكاليف، أنا الراعي الرسمي للرحلة دي .
نظرت إليه بغضب وقبل أن تنطق كان قد أجابها :
ـ ١٠ آلاف جنية تمن التذكرة .
ـ أيوة كده ..
ـ ها.. قلتي إيه ؟!
ـ إنت متأكد إن نسيم مسافرة ؟! ولا هتفاجئني يومها إن أنا وإنت بس !
ـ أنا وانتي بس هو أنا هخطفك يا نغم ؟! ربنا يصبرني بجد.. يا ستي خلاص لو مش عايزة بلاش، ده إيه الشغلانة اللي تقصر العمر دي !
ـ خلاص.. هاجي معاكم .
تنفس الصعداء ونطق الشهادتين ثم نظر إليها وقال :
ـ أخيرا .. يلا ادخلي إلبسي وتعالي نروح نجهز الورق ..
ـ دلوقتي ؟!!
ـ خلينا ننجز عشان نضمن إننا نسافر الخميس ..
ـ إشمعنا الخميس ؟!
نظر إليها بملامح باهتة، فقالت :
ـ اشمعنا الخميس بقوللك ؟
ـ إشمعنا الخميس صح.. !
ـ أيوة أنا بسألك ..
ليجيبها بتوتر وهو يحاول أن تبدو ملامحه متماسكة :
ـ الخميس يوم حلو ولطيف ، السفر بيكون حلو دايما آخر الأسبوع ، يعني تحسي بمتعة كده لما تسافري الخميس ويصبح عليكي الجمعة في بلد تانيه ، بيبقى يوم مميز أوي ..
قطبت جبينها وهي تنظر إليه بتعجب، تحاول فهم ما يهذي به، فإذ به يهتف بانفعال حانق:
ـ ما تتفضلي تنجزي هو إحنا ناقصين عطلة!
أومأت وهي تنسحب باستغراب، ثم أوصدت الباب ودخلت لترتدي ملابسها وتستعد، فيما بقي هو يحدث نفسه قائلا :
ـ يمين بالله ما حد هيودينا في داهية غيري ..
حاول الاتصال بحسن، ولكنه لم يجب، فقام بالاتصال بميرال التي ما إن وصله صوتها حتى قال مبتسمًا :
ـ وحشتيني على فكرة..
صمتت ولم تعقب، ولكنه كان يدرك أنها في تلك اللحظة تبتسم أجمل ابتسامة لديها، ابتسامة خجلى مفعمة بالحب ، لها بريق خاص يأسر العين ويسر الناظرين .
وتابع :
ـ إيه مبتفهميش عربي ولا إيه.. بقوللك وحشتيني!
ضحكت بخفوت، فابتسم وهو يتابع :
ـ طب " i miss you "…" Tu me manque " أي حاجة طيب..
ابتسمت وقالت :
ـ ليه مجيتش الدار بقالك كم يوم ؟! الأولاد بيسألوا عليك ، تقريبا كده بدأوا يتعلقوا بيك .
اتسعت ابتسامته، وقال :
ـ عقبالك يا رب لما تحسي على دمك وتبدأي تسألي عليا وتتعلقي بيا زيهم .
ـ أحس على دمي ؟!!
انطلقت ضحكاته، وقال :
ـ بنكشك بس .. على العموم سلميلي عليهم وقوليلهم إني أنا كمان بدأت أتعلق بيهم جدا جدا وبقيت أنام أحلم بيهم كمان .. وهاجي بكرة مخصوص علشان أشوفهم وأسلم عليهم .
كانت تعلم أنه يخصها هي بالقول دونًا عن غيرها، ولكنها اثرت أن تتصنع عدم الانتباه، وقالت باقتضاب:
ـ حاضر..
فاتسعت ابتسامته، وهتف بنبرة حانية:
ـ يحضر لك الخير يا أميرة يا بنت الأُمرا .. يلا ، أسيبك أنا بقا تشوفي شغلك بدل مس رئيفة ما تخصم من مرتبك بحجة مخالفة اللوائح والقوانين.. سلام .
أنهى الاتصال، وكانت نغم قد خرجت لكي ترافق عمر ويبدأان الاستعدادات للسفر .
༺═────────────────═༻
مرت لحظات طويلة، وكل ما يفعله هو أنه يحيطها بين ذراعيه بتملك غريب، جعلها تشعر كما لو كان في أسوأ حالاته، فكلما حاولت التحرك أو الفكاك من بين يديه أبدى ضيقه وتذمره، لتعود وتستكين بين ذراعيه مرة أخرى، مستسلمةً لحاجتها القهرية في الشعور بهذا الدفء وهذا الأمان .
ـ عاصم ..
همهم متساءلا ، فتنهدت وقالت بقلة حيلة :
ـ طيب محتاجة أروح التويلت من فضلك يعني سيبني.
ـ لأ ..
انتابتها موجة ضحك قصيرة وهزت رأسها بيأس وهي تقول :
ـ هو إيه اللي لأ .. مش ممكن بجد .
رفع عيناه المحتقنتين ليواجها عيناها، وسألها بجدية أضحكتها :
ـ هتيجي تاني ؟!
انفلتت ضحكاتها رغما عنها وقالت :
ـ لأ ههرب من شباك الحمام.. في إيه يا عاصم مالك ؟!
تنهد ونظر إليها ، ثم أزاح خصلاتها عن عينيها وقال مبتسما :
ـ في إني بحبك ومش عاوزك تغيبي عن عيني أبدا ..
ابتسمت، وطبعت قبلة مفعمة بالحياة على جانب شفتيه، ثم قالت :
ـ رشوة أهي.. ممكن تسيبني بقا ؟
ـ جاوبيني الأول ..
هزت رأسها بتساؤل، فقال بهدوء :
ـ عمر كان هنا ليه ؟!
قطبت جبينها بضيق ، ثم قالت بحدة خافتة :
ـ عمر ييجي وقت ما يحب يا عاصم .
فسارع بالتعديل :
ـ مش قصدي اللي فهمتيه، أقصد إنه كان بيقولك خلينا على اتصال وواضح من كلامه إنه في اتفاق بينكم بخصوص حاجة معينة .
توترت ملامحها قليلا، ثم قالت بهدوء تحاول إيهامه بثباتها المزعوم :
ـ أنا وعمر قررنا نسافر نحضر حفلة الافتتاح لشركة فريد .
ـ لالالا.. إنسي !
ألقاها بحدة، فنظرت إليه بضيق، وهتفت بحدة أشد:
ـ لا مش هنسى يا عاصم.. أنا لازم أكون جنب فريد في يوم زي ده، لازم يلاقينا جنبه وهو بيحاول يبني حياة وكيان جديد بعد ما إنت دمرته وخدت منه تعبه وشقاه كله .
قاطعها بحدة مشوبة بالضيق وقال :
ـ متحاوليش تدخلي لي من السكة دي علشان مفيش فايده يا نسيم.. ممنوع تسافري ومتحاوليش !
انتزعت نفسها من بين يديه عنوةً، ونظرت إليه بحدة وقالت :
ـ عاصم.. لو سمحت مش كل شوية تحكمات على حاجات تافهة، أنا محتاجة أغير جو، محتاجة أشوف أخويا، محتاجة أقضي وقت مع أخواتي ونغم..
اعتدل في جلسته، ونظر إليها وقال :
ـ محتاجة تغيري جو ؟! طب بالنسبة لأننا لسه راجعين من كوبا أول امبارح ؟!
ـ دي حاجه ودي حاجه.. وبعدين أنا عمري ما قضيت وقت حلو مع اخواتي.. عمري ما خرجت معاهم وسافرنا وجربنا حاجات جديدة ، فيها إيه لما أشم نفسي يومين!
رن هاتفه، فمد يده ليلتقطه بينما هو يردد بإصرار :
ـ عاوزة تشمي نفسك لما أفضي نفسي ونسافر سوا، سفر لوحدك لأ .
نظر بالهاتف فإذا به رشيد، فأجابه بهدوء:
ـ خير يا رشيد ؟!
ـ عاصم، عرفت دلوقتي إن سالم مرسال نقلوه عالنستشفى من ساعة تقريبا وحالته كانت خطيرة ، التشخيص المبدئي قال إنه حصل له شلل نصفي ، ولسه بيعملوا له إشاعات ويشوفوا الدنيا واصلة لفين معاه .
توترت ملامحه قليلا، ثم قال :
ـ إنت عامل حسابك ؟!
ليجيبه الآخر وقد فهم المغزى من سؤاله:
ـ متقلقش، كله تحت السيطرة!
فتنهد براحة وقال :
ـ تمام.. ساعة بالظبط وهكون في الشركة.
وأنهى الاتصال، ثم نظر إلى نسيم مبتسما ابتسامة مهزوزة، ومد يده يهذب خصلاتها وهو يقول :
ـ كنت بنقول إيه ؟!
فأشاحت بوجهها بعيدا عنه بضيق، وقالت :
ـ كنت بقول إني عاوزة أسافر يا عاصم !
فتنهد عاصم مطولا، ثم نظر إليها ومال يقبل وجنتها بعمق وهو يقول :
ـ وأنا موافق يا روحي.. طالما هتكوني مبسوطة وراضية عني فأنا موافق.
التفتت إليه ، تطالعه بغير تصديق! ثم سرعان ما عانقته بقوة، وقالت :
ـ أنا بحبك أوي يا عاصم.. شكرا يا حبيبي ربنا يخليك ليا .
فعانقها عاصم بقوة، وأغمض عينيه وهو يحاول تهدئة ضربات قلبه الصاخبة، وقال :
ـ أنا اللي بشكرك على كل حاجه حلوه قدمتيها ليا وكل لحظة سعادة وفرح خلتيني أعيشها .
تأثرت بكلماته بشدة، فلاذت بحضنه أكثر، وعانقته بعنفوان أكبر، ثم أغدقت عليه قبلاتها المليئة بالامتنان، وأخرى مشحونة بالشغف، إضافةً إلى الكثير غيرها من القبلات التي حملت كل مشاعر الحب والوله .
أما هو، فكان أكثر ما يثير رهبة قلبه في تلك اللحظة أن يكون هذا الحب عابرًا، وأن يتحول كل ما يعيشان معًا إلى ساعة رملية تتساقط فيها اللحظات تدريجيًا، لا يمكن توقيفها، أن تنساب كل ذكرى بينهما كحبة رمل تمر سريعًا قبل أن يُدركا قيمتها.
ومع ذلك، قرر أن يغمر نفسه في هذا السحر العابر، مستسلمًا له حتى آخر نفس، خاضعًا تحت وطأة لذته حتى الرمق الأخير .
༺═─────────────═༻
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق