القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع والثلاثون 37بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع والثلاثون 37بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع والثلاثون 37بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ٣٧ ـ


~ متاهة ! ~

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


جلس حسن منكفئ الرأس، والدموع تنحدر من عينيه بلا توقف. كان صدره يعلو ويهبط كأن أنفاسه تتصارع داخله، والندم ينهش قلبه نهشًا مؤلمًا. شعر أن كل ما آل إليه حال والده إنما كان بسببه هو لا غيره .


كان يتأرجح بين ندمٍ يثقل صدره حتى يكاد يخنقه، وبين صدمةٍ موجعة من والده الذي طالما رآه مثالا للأب المشرف، كيف له أن يكتشف الآن أن صورة الأب التي بناها في قلبه كانت مليئة بالشقوق؟


غطى وجهه بكفيه، وظل يبكي كطفلٍ ضلّ طريقه، ممزقًا بين لوعةٍ على حال أبيه، ومرارةٍ من حقيقةٍ صادمة لم يكن مستعدًا لمواجهتها. كان يشعر أنه خاسر في كل الأحوال؛ خسر أبيه، وخسر سلامه الداخلي، وربما خسر نفسه في ذات اللحظة.


أما زينب فكانت جالسةً إلى جواره، تتابع انهياره بصمتٍ يشطر قلبها شطرين. 

وعيناها لا تفارق ملامحه التي انكسرت فجأة، وكأنها ترى لأول مرة ضعف حسن الحقيقي. 


كانت نظراتها مشبعة بالشفقة والحنان، تدرك في أعماقها ما يعانيه دون أن يبوح، تعرف أنه ممزق بين ندمٍ قاتل وصدمةٍ جارحة من أبيه.


مدّت يدها برفق، تطبطب على كتفه بحنانٍ صامت. كانت تشعر بكل ما يختلج داخله وكأن قلبها صار مرآةً لقلبه، حتى أن صمته الجارح وصلها أوضح من ألف كلمة.


ورغم أن الكلمات خانتها، إلا أن لمستها الحانية وعيونها الممتلئة بالرحمة كانت أبلغ عزاء له، وكأنها تحاول أن تقتسم عنه ثقل الألم والخذلان الذي يسحق روحه.


رنَّ هاتفه فاختار أن يتجاهله، إذ كان يعلم جيّدًا أن المتصل هو عمر، ولأنه لم يجد ما يمكن أن يقوله له، آثر الصمت على إجابةٍ مرتبكة قد تفضحه.


وما إن غادر الطبيب الغرفة التي يرقد فيها والده، حتى نهض حسن وزينب مسرعين نحوه، والقلق يعلو وجهيهما. هتف حسن بصوتٍ مرتجف يغلب عليه الخوف:

ـ أبويا جراله إيه يا دكتور؟


أجاب الطبيب بنبرةٍ مطمئنة وهو يحاول تهدئتهما:

ـ والدك مرَّ بجلطة أثرت على النصف الشمال من جسمه، لكن متقلقوش.. حالته دلوقتي مستقرة، والأهم هو الالتزام بالعلاج والتمارين التأهيلية. مع المتابعة الدقيقة والدعم النفسي، إن شاء الله حالته تتحسن تدريجيًا.


ثم أضاف وهو ينظر إلى حسن بثبات:

ـ المهم في المرحلة دي إنكم تكونوا جنبه، وتساعدوه يتجاوز الإحباط والحالة النفسية السيئة اللي ممكن يمر بيها... العلاج مش دواء بس، العلاج كمان دعم نفسي وتحفيز معنوي.


تردد حسن قليلًا، ثم قال بنبرة قلقة :

ـ طيب هل نقدر نطلعه من هنا ونوديه لدكتور تاني بره؟ يمكن يكون أحسن !


تغير وجه الطبيب قليلًا، لكنه سرعان ما تمالك نفسه ورد بسرعة:

ـ لا، خروجه في المرحلة دي خطر كبير عليه. أي حركة أو انتقال ممكن يضاعف حالته. الأفضل على الإطلاق إنه يفضل هنا تحت ملاحظتنا، لأن كل التجهيزات موجودة، وأي طارئ لا قدر الله نقدر نتعامل معاه فورًا.


ثم أضاف وهو يركز النظر في عيني حسن، كأنه يريد أن يحسم النقاش:

ـ صدقني.. مصلحة والدك إننا ما نخاطرش ونسيبه في رعايتنا هنا.. وبعدين لو قلقان أو خايف نكون مقصرين معاه، أقدر أرشحلك دكتور مخ وأعصاب ممتاز جدا تعرض عليه حالة الوالد وهو هيطمنك إننا هنا قايمين بواجبنا على أكمل وجه .


تنهد حسن بعجز وقلة حيلة، ثم أومأ وقال:

ـ خلاص اللي تشوفه يا دكتور .


أومأ الطبيب بهدوء، ثم غادر بخطواتٍ واثقة، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلًا ؛ فوقف حسن في مكانه، ينظر حوله بعينين تائهتين، كأن الجدران تضيق عليه شيئًا فشيئًا. كان يشعر بالحزن يعتصر قلبه، والندم ينهش روحه، والخزي يثقل كتفيه، والعار يتدفق في عروقه كلما تذكر كيف كان فظًّا وقاسيًا مع والده.


جلس على مقعدٍ قريب، وأسند رأسه بين كفيه، يتنفس ببطء متقطع، وكأن كل شهيق وزفير يحمل معه جمرًا يلسع صدره. لم يستطع أن يطرد من ذهنه آخر لحظات المواجهة بينهما، الكلمات الجارحة التي قالها، النظرات الغاضبة التي تبادلاها، قبل أن ينهار والده أمام عينيه.


اقتربت زينب وجلست بجواره، وضعت يدها برفق على كتفه، كأنها تحاول أن تنتشله من قاع الظلام الذي يغرق فيه. لم تتكلم، فقد كانت تعرف أن الكلمات لن تغيّر شيئًا، لكنها تركت صمتها الحنون يحيط به، علّه يجد فيه قليلًا من الطمأنينة.


رفع حسن رأسه إليها، بعينين محمّلتين بالدموع، وهمس بصوتٍ متحشرج:

ـ أنا السبب.. لو مكنتش قلت اللي قلته يمكن مكانش ده كله حصل..


فأجابته زينب بلطف وهي تمسح على يده:

ـ متشيلش نفسك فوق طاقتها يا حبيبي، ده نصيبه وكده ولا كده كان هيجراله .


سقطت دموعه رغماً عنه، وعاد يشيح بوجهه، محاولًا أن يخفي ضعفه، لكن يده التي ارتجفت بين يديها كانت تعترف بصدق ما يعيشه في داخله. 


ـ أنا جيت عليه أوي، حتى لو فيه العِبر بس مكانش ينفع أقوله في وشه إني بكرهه.. يا ريت كان يتقطع لساني قبل ما أنطقها .


ـ بعد الشر عليك يا حبيبي، صدقني كله مقدر ومكتوب.. وأديك سامع الدكتور بيقول انه هيتحسن بالعلاج، يعني في أمل إن شاء الله يبقا كويس.


أومأ بغير اقتناع، ثم رفع رأسه شاردًا، يتأمل الفراغ بعينين مثقلتين بالضيق والتفكير. أخذت تتزاحم في ذهنه تفاصيل الحوار الذي دار بينهم وما نتج عنه من حقائق، حقائق قاسية لم يكن يومًا يرغب في معرفتها، بل ولم يكن ليصدقها لو قُدِّر له أن يعيش عمرين فوق عمره. وأول تلك الحقائق، أن زينب ليست إلا عمته.


في تلك اللحظة وحدها انحلّ اللغز الذي حيّره طويلًا، وأدرك السبب وراء ذلك الحنان الفيّاض وذلك العطاء غير المحدود الذي أغدقته عليه زينب دائمًا؛ لأنه من دمها، لأنه في عينيها ابنٌ حقيقي.


حتى هو نفسه، ذلك الإحساس الغامض الذي كان يساوره دومًا نحوها صار مفهومًا الآن؛ كان يرى أمه متجلية في كل هيئة من هيئاتها: في نبرة صوتها الدافئ، وفي لمسة يدها الحانية، وفي دفء قلبها، وحتى في أبسط ما تطهوه له من طعام. كان يرى أمه في كل حركة، في كل تفصيلة، وكأنها عادت إلى الحياة عن طريقها.


الآن فقط زال الغموض، ولم يعد في الأمر ما يلتبس عليه بعد اليوم. ثم، وبدون مقدمات سألها :

ـ ليه خبيتي عني ؟! كان قدامك فرص كتير تعرفيني الحقيقة، ليه خبيتي ؟


تنهدت زينب ، ونظرت في الفراغ بدورها، ثم قالت بصوتٍ يملؤه الشجن :

ـ كان مانعني حد يعرف الحقيقة، فمكانش ينفع أخابف الأوامر .


نظر إليها مستاءًا، ثم هتف بضيق :

ـ ليه سمعتي كلامه ؟! إيه اللي يجبرك تعيشي خدامة عند أخوكي ؟! كل ده علشان تلاقي بيت تعيشي فيه ؟!


ابتسمت ابتسامة حزينة، ثم أومأت برفض، وقالت :

ـ يا ريت كانت دي المشكلة بس.. كنت مشيت من زمان، أنا قعدت علشان فريد وعمر ونسيم.. كنت حاسة إنهم مسؤولين مني، خصوصا نسيم .. مكانش ينفع أسيبها كده منها ليه لنادية ، أينعم مكنتش قادرة أحميها من شره بس كنت بقنع نفسي إنه على الأقل ليها حد في البيت بتحبه وتثق فيه .. 


في تلك اللحظة أصابه الضيق من والدته كثيرا، حتى أنه لأول مرة يشعر مثل ذلك الشعور.. وهتف بقسوة :

ـ هي السبب.. هي اللي اتخلت عنها وعرّضتها لكل العذاب اللي شافته.. لو كانت خافت عليها زي أي أم بتخاف على عيالها مكانش كل ده حصل .


ونظر إلى زينب وسألها سؤال بدا في غاية اليأس :

ـ هي ليه مموتتش نفسها وموتتنا وكنا إرتحنا كلنا ؟! إيه اللي يخليها تكمل في القرف ده؟! 


ـ استغفر ربنا يبني.. حرام اللي بتقوله .


ـ واللي بيجرا فينا ده هو اللي حلال ؟! هو احنا عايشين ليه أصلا ؟! أنا اكتشفت بعد ما بقيت شحط ٣٢ سنه إني اتخدعت في أمي اللي كنت عامل لها تمثال وشايفها أعظم ست في الدنيا.. قلت أدي فرصة لأبويا اكتشفت أنه أمرّ منها .. ناس أنانيين كان كل همهم نفسهم ومصلحتهم وبس.. مفرقش معاهم عيالهم هيعيشوا ازاي وهيجرالهم إيه !! أنا اتربيت وبقيت زي ولاد الشوارع وبقيت بلطجي ليه ؟! ماهو بسببها !! لو كنت اتربيت زي أخواتي من صغري تفتكري كنت هبقى حسن العقرب ؟! ولا حسن بيه مرسال المتعلم المثقف صاحب الشركات اللي أتخن تخين بيضرب له تعظيم سلام ؟!!


امتلأت عيناها بالدموع وهي تراه في تلك الحالة، ثم قالت وهي تحاول كبح دموعها :

ـ صدقني يا حسن.. نار عيشة ولا جنة سالم .. ميغرّكش فريد وعمر المتعلمين المثقفين اللي بيتضرب لهم تعظيم سلام.. طب ما نسيم اتربت مع سالم ، جرالها إيه ؟! داقت الويل والعذاب ألوان على ايديه.. فريد اللي جاله ده مهو بسبب أبوه ، عمر اللي ماشي تايه مش عارف هو عايز إيه ولا عنده هدف يعيش علشانه.. مهو كل ده بسبب تربية سالم وظلمه وجبروته .. صدقني لو هتحسبها صح هتلاقي إنك إنت الكسبان فيهم ، أينعم خسرت العيشة اللي هم عاشوها ، لكن كسبت نفسك.. اللي اتربى وعاش مع سالم قلبه بقا زي القصر المهجور.. تشوفه من بره حاجة فخمة وشيك وتخطف الأنظار.. وهو من جوة خراب وعتمة وفراغ ملوش آخر ..


ظل حسن ينظر إليها بدهشة ممزوجة بالمرارة، كأنه لأول مرة يسمع الحقيقة منطوقة بتلك الصراحة. شعر بأن كلماتها اخترقت قلبه، تزلزل داخله وتوقظ وجعًا كان يحاول دفنه. رفع بصره إليها في صمت، والدموع تتحجر في عينيه، كأن نفسه تتصارع بين أن ينهار أو يتمالك ذاته. ابتسم ابتسامة باهتة، أقرب للوجع منها للابتسام، ثم هز رأسه ببطء، وكأنّه يقرّ في داخله بصدق كلماتها، حتى وإن كان لا يريد الاعتراف بذلك.


ارتفع آذان الفجر ، فربتت مجددًا على كتفه وقالت :

ـ قوم روّح البيت ارتاح إنت بقالك كم ساعة على الحال ده وأكيد تعبت ومحتاج ترتاح .


لكنه أومأ رافضًا وقال :

ـ لأ أنا هوصلك على البيت وأرجع .. هفضل قاعد هنا جايز يفوق في أي وقت ويحتاج حاجة، وكمان هكلم عمر أعرفه.. واحتمال ييجي ونقعد نستنى سوا .


ولكن زينب نظرت إليه وقالت :

ـ أنا من رأيي بلاش حد يعرف حاجة دلوقتي ، الباشا مبيحبش حد يشوفه في الحالة دي أبدًا خصوصا بعد اللي حصل ، ولو عمر عرف الباقيين كلهم هيعرفوا ، ده غير إن فريد عنده افتتاح قريب ولو عرف حاجة زي ظي ممكن يلغي كل حاجه وينزل مصر وإحنا ما صدقنا أنه شاف مصلحته وشغله استقر من تاني.. عشان كده بقول نستنى لحد ما يفوق ويقول بنفسه إذا كنا نقوللهم ولا لأ.


غاص في كلماتها يفكر بها بعقلانية، وما لبث أن أدرك صدقها، فلو علم الناس بأمر إصابته سيقابلونه بالشفقة، وهو يعرف أن والده لا يقبل أبدًا معاملة تقوم على العطف والشفقة.. غير أنه يعرف أنها محقة بشأن التفكير في فريد، هو أيضًا يتمنى أن يستقر فريد ويبدأ من جديد دون تعقيدات أو تأجيلات، عندها لم يجد بُدًا من الإذعان، فأومأ برأسه موافقًا وقال:

ـ تمام.. يلا بينا ..


استقلت السيارة برفقته، وانطلقا في طريقهما إلى شقة حسن الذي ظل صامتًا، يبتلع الطريق بسيارته في صمت لم يخترقه سوى اتصال من عمر .


حينها نظر حسن إلى زينب وقال :

ـ ده عمر .. أقولله إيه ؟


ـ أكيد كلهم هيستغربوا إختفاء الباشا وتأخيرك إنت كمان..


وأخذت تفكر قليلا، ثم قالت وقد اهتداها عقلها لذريعةٍ قد تبدو مقنعة :

ـ  قوللهم إنه راح العزبة فجأة عشان فرح ابن حمدان وإنت كمان هتقعد معاه لحد ما يخلص الفرح وترجعوا ..


نظر إليها وأومأ ، ثم أجاب الاتصال :

ـ أيوة يا عمر ..


ـ أيوة يا حسن؛ إنت فين ؟


ـ أنا في العزبة مع أبوك .. هنحضر فرح ابن حمدان واحتمال نيجي الجمعة .


ـ تمام يا برو .. أنا لولا إني مسافر كنت جيتلكم على هناك ، بس ملحوقة .


تنهد حسن، وبالرغم من أنه ليس في حال يسمح إلا أنه تسائل باهتمام :

ـ مسافر فين ؟!


ـ اليونان .. أنا ونسيم… ونغم !! رايحين علشان نحضر حفلة الافتتاح لشركة فريد.


تعجب كثيرا، فهو يعرف أن العلاقة بين نغم وفريد شبه منتهية ، إذًا كيف ستذهب لحضور حفل الافتتاح وبأي صفة ! ولكن ما قاله عمر جعل الصورة ترتسم أمامه واضحة :

ـ طبعا نغم مش عارفة إننا رايحين اليونان ، احنا مفهمينها إننا رايحين تركيا علشان توافق تيجي معانا .


فتنهد حسن ثم قال :

ـ لما تعرف إنكوا عملتوا عليها حوار مش هتعديها على فكرة .. 


فتنهد عمر بدوره وقال :

ـ عارف .. بس عندي أمل إن السفرية دي تيجي بفايدة وهي وفريد يرجعوا لبعض .. وبعدها أنا مستعد يا سيدي لأي رد فعل تعمله .


أطلق حسن زفرة مهمومة، ثم تابع :

ـ ربنا يقدم اللي فيه الخير.. على العموم خلي بالك منهم.


ـ متقلقش يا أبو علي، في عنيا .. خلي بالك إنت من نفسك .


هكذا أنهى حسن الاتصال، وزفر براحةٍ خفيفة وقد اطمأن إلى أن أخاه ابتلع تلك الذريعة الهشّة التي اختلقها. ثم تابع طريقه في صمت، حتى أوصل زينب إلى شقته، قبل أن يعود أدراجه إلى المستشفى ليقضي ليلته إلى جوار والده، مثقلًا بما ينهش صدره من هموم.


༺═────────────────═༻


جلس فريد في مرسمه، والصمت يملأ المكان. عيناه متوهجتان، وكل خط يرسمه على اللوحة يحمل شغفًا مكتومًا وارتجافة قلبٍ محب.


أمامه ارتسمت صورة نغم في خياله لا تفارقه: عروسًا في فستانٍ أبيض ناصع، ينسدل حولها كنسمة طاهرة، فيترفق وهو يخط تفاصيل ابتسامتها المشرقة، ولمعان عينيها الآسر، وتلك الخصلات المتناثرة على كتفيها كأنها تيجان من حرير.


 وكان، كلما أمعن النظر في ملامحها على اللوحة، يشعر وكأنه يطارد حلمًا يبتعد كلما اقترب منه. كان يرسمها بعين المحب وعقل الخائف؛ يخشى أن يظل كل ما بينه وبين نغم مجرد صورة على قماش، لا حياة حقيقية تجمعهما.


 كان قلبه يهمس له أن الفستان الأبيض الذي يتخيله ربما لن تراه هي إلا في خياله، ومع ذلك ظل يرسم، كأن الألوان هي الوسيلة الوحيدة ليُمسك بالحلم قبل أن يتبخر.


رنّ هاتفه فجأة، فقطع شروده مع اللوحة. التقطه على عجل، فجاءه صوت جيرالد مرحًا يقول:

ـ مرحبًا فريد، أردت أن أبلغك أنّني مدعو إلى حفل زفاف صديقٍ لي يوم الجمعة المقبل، وأتشرف كثيرًا إن رافقتني إليه.. 


فارتسمت على وجه فريد ابتسامة مترددة، بينما عينيه ما زالتا معلّقتين بملامح نغم المرسومة على القماش.. ثم تنهد وقال :

ـ أقدر دعوتك يا جيرالد، لكن يؤسفني أنني لن أتمكن من الحضور، فالغالب أنني سأكون مشغولًا بأخي وأختي في ذلك اليوم.


ليجيبه جيرالد بإصرار :

ـ إذن، فليأتوا برفقتك، لن أقبل منك عذرًا، صدقني .


فابتسم فريد ابتسامة هادئة وقال:

ـ حسنًا، سأطرح عليهم الأمر.


فردّ جيرالد بحماس:

ـ رائع، ستكون فرصة أوسع للتعارف، فحتى عائلتي ستكون حاضرة.


بعدها أنهى فريد الاتصال، وحاول أن يتصل بعمر، لكن دون جدوى، فأعاد هاتفه إلى الطاولة بهدوء، ثم عاد يحدق في صورة نغم بولهٍ خالص. تنهد بعمق، قبل أن يهمس:

ـ وحشتيني يا نغم… والله وحشتيني.


سكت لحظة، ثم ابتسم بأسى كأنه يسمع صوتها في خياله، وردّ عليها:

ـ عارف… عارف إنك زعلانة ومجروحة ومقتنعة تمام الاقتناع بإني خنتك وحبيت غيرك، وعارف قد إيه محتاجة لي وأنا بعيد بالرغم من إنك بتحاولي تكرهيني ومش عارفه. 


أطرق برأسه قليلًا، ثم أكمل وكأنه يرد على اعتراضها الوهمي :

ـ لأ، ما تنكريش… إنتِ كمان لسه بتحبيني، عينيكي عمرها ما كانت بتعرف تخبي.. وقلبك ملكي أنا وبس، وصدقيني… مفيش يوم مرّ عليا إلا وأنا شايلك في قلبي… انتي جوايا وقدامي دايما.. محافظ على مكانك لحد ما ترجعي لي من تاني يا استثنائية.


ابتسم وهو يتخيل ملامحها الحانقة عندما يذكرها بذلك اللقب حيث أنها تعرف أنه هناك مغزى من وراءه، ومدّ يده ليلامس ملامحها على الورق، وهمس بصوت مرتجف:

ـ ارجعيلي… أرجوكي ارجعي .


༺═────────────────═༻


بعد يومين .. 


غادر عمر غرفته وخطواته السريعة تشي بالاستعجال، فيما كان يتحدث في الهاتف ويقول :

ـ تمام يا بشمهندس أمجد ، متشكر جدا تعبتك معايا ..


ليجيبه الآخر بودٍ ويقول :

ـ لا شكر على واجب يا عمر ، فريد خدمني كتير وكنت أتمنى أرد له جزء من أفضاله عليا .. تروحوا وتيجوا بالسلامة إن شاء الله.


أنهى عمر الاتصال عندما انفرج باب غرفة والدته، التي نادته قائلةً :

ـ عمر، عاوزة أتكلم معاك .


التفت إليها وهو يخطو نحو الدرج مسرعا ويقول :

ـ بعدين بعدين.. مش فاضي دلوقتي..


لتجيبه وهي تهتف بضيق وانفعال استوقفاه :

ـ هو إيه اللي بعدين ، هو أنا كل ما أكلم حد منكم يقوللي بعدين ؟! للدرجة دي خلاص حياتكم بقت كلها أشغال ومفيش عندكم وقت ليا ؟!


نظر إليها عمر وتنهد محاولا كبح انفعاله، ثم عاد أدراجه وتوقف أمامها وقال :

ـ خير يا ماما ؟! حضرتك عاوزة إيه ؟!


ـ عاوزاك تروح العزبة لباباك.. النهارده السواق جه خد أحلام الممرضة وراح على العزبة.. 


ـ طب وفيها إيه يعني ؟! 


سألها عمر ببرود، فأجابته بحدة :

ـ فيها إنه ممكن يكون تعبان ومخبيين علينا !! أو بمعنى أصح ممكن حسن مخبي عليك علشان يراعيه هو لوحده والله أعلم جايز باباك مفكر إنك عارف ومطنش.. وبكده حسن يكسب قلبه ويظهر في صورة الابن المطيع، وانت كالعادة نايم في العسل ومش داري بحاجة.


رمقها عمر بمنتهى اللامبالاة، ثم اقترب منها، وفجأة.. مال وقبّل وجنتها وقال :

ـ أنا مسافر تركيا بالليل.. أجيبلك حاجة من هناك ؟! 


نظرت إليه بغيظ ورفعت عيناها للأعلى وكأنها تستمد عونًا من السماء على برود ولامبالاة ابنها، ليستطرد هو قائلاً بنفس الهدوء الذي أثار أعصابها أكثر :

ـ أنا عرفت هجيبلك إيه.. هناك في زيوت عطرية حلوة أوي هتساعدك تتخلصي من التوتر والتفكير الزيادة.. أوعدك هجيبلك أكبر قدر ممكن من الزيوت دي.. 


وابتسم ابتسامة قصيرة، ثم ربت على يدها، وهم بالانصراف .


فتحت چيلان بابها، وبالرغم من أنها استمعت إلى حوارهما الصاخب، لم تُعرهما أي انتباه، وغادرت بصمت. 


لحق بها عمر مسرعًا، تاركًا والدته واقفة عند بابها ترمقهما بيأسٍ موجع، كأمٍ فقدت زمام السيطرة على أبنائها، تراهم يتناثرون من بين يديها كما يتناثر الرمل من كفٍ مفتوحة، عاجزة عن جمعه أو إعادته إلى موضعه من جديد.


لحق عمر بچيلان، فاستوقفها، وقال مبتسما :

ـ الجمال ده كله رايح فين ؟


نظرت إليه وابتسمت، ثم أجابته على عجل وكلا منهما يخطو نحو سيارته :

ـ في بيت مناسب هروح أشوفه وبعدين أروح الشركة .. وإنت ؟


ـ أنا بخلص شوية مشاوير، مسافر النهارده بالليل .


التفتت، ونظرت إليه باهتمام وقالت :

ـ على فكرة، فريد بعتلي دعوة !


نظر إليها متفاجئًا، وقال :

ـ وانتي أكيد مش هتسافري، صح ؟!


رفعت كتفيها بلا اكتراث، وقالت :

ـ وليه لأ ؟! طالما بعتلي دعوة لازم أحضر .


أومأ ببطء وهدوء، فلوّحت قائلة :

ـ يلا see you.


ـ see you.


استقل كلا منهما سيارته، فأخذ عمر يتمتم قائلا بقلة حيلة:

ـ چيلان وسيلين ونغم ؟؟؟ .. ربنا يستر  !


قام بالاتصال بنسيم، فأجابته على الفور قائلة :

ـ كنت هكلمك .. عملت إيه ؟


ـ أمجد لسه مكلمني حالا، قاللي إن كل حاجة جاهزة وحجز لنا على رحلة الساعة ٢ بالليل ..


ـ فعلا ؟!! مش كان المفروض نمشي بكرة الصبح ؟!


ـ بما إن كل حاجة بقت جاهزة يبقا نكسب وقت أحسن ، على الأقل نرتاح بعد ما نوصل اسطنبول والصبح كفاية علينا المرمطة اللي هنشوفها علشان نوصل أثينا .


تنهدت نسيم ثم قالت :

ـ يا رب بس ييجي بفايدة ..


ليجيبها بقلقٍ يساوره :

ـ ربنا يستر ؛ أنا عرفت إن چيچي كمان هتكون موجودة وهتحضر الحفلة !


فسألته نسيم بدهشة :

ـ فعلا ؟!!


ـ للأسف فعلا جدا .. ومش قادر أتخيل لحظة اجتماع چيلان وسيلين ونغم هتكون عاملة إزاي .. 


وتابع بسخرية :

ـ ده عامل ولا لقاء فتيات القوة.. الله يكون في عون فريد .


ـ متقلقش .. الخوف كله من البتاعة اللي اسمها سيلين دي شكلها مش سهلة ، يارب متحاولش تستفز نغم وتضايقها ..


ـ ربنا يستر .. على العموم أنا بخلص شوية مشاوير، كلمي انتي نغم وبلغيها إننا هنتحرك على المطار الساعة ١١ .


ـ تمام .. مع السلامة 


༺═────────────────═༻


جلس حسن في ركنٍ من أركان المستشفى، منكفئ الرأس، يسند جبينه إلى كفّيه، والحزن يسيطر على ملامحه.


عيناه غائرتان، لا تفارقهما غشاوة القلق، يترقب أي خبر قد يبدد ظلمة الانتظار، أو على الأقل يخفف من وطأة الذنب الذي يثقله.


 كل دقيقة تمرّ كانت كأنها ساعة كاملة، صمت المكان يزيده اختناقًا، وأصوات خطوات المارة من حوله لا تصل إلى أذنه إلا باهتة، وكأن الزمن قد توقف عنده وحده.


وفجأة، فُتح باب الغرفة، لتخرج منه الممرضة أحلام، بملامحها الجادة، تتقدّم نحوه بخطوات ثابتة. رفع حسن رأسه بسرعة، وقد تسارعت أنفاسه، والقلق يسبق كلماته:

ـ خير … طمنيني!


ابتسمت ابتسامة مطمئنة وقالت بهدوءٍ :

ـ الحمد لله… الباشا فاق، وصحته بدأت تستقر. وهو دلوقتي طالب يشوفك .


شعر حسن لوهلة كأن صخرة هائلة أزيحت عن صدره، ارتجف جسده واغرورقت عيناه بالدموع، ثم نهض على الفور، ولسانه يتمتم بلا وعي:

ـ الحمد لله… الحمد لله!


سار نحو الغرفة، وهو يشعر بالخوف والترقب؛ فدخل بخطوات مترددة، يكاد قلبه يسبق جسده شوقًا وقلقًا. وما إن وقعت عيناه على والده، حتى تجمد في مكانه للحظة، عاجزًا عن الحركة أو الكلام. 


كان سالم ممدّدًا على السرير، شاحب الوجه، عيناه غائرتان كأنهما تحملان في عمقهما أثقال لا تحتمل.


نصف جسده بدا خامدًا لا يستجيب، كأن الحياة انسحبت منه فجأة، بينما النصف الآخر يحاول التمسك بما بقي من قوة.


يدٌ مرتخية لا تتحرك، ووجه تائه تتخلله رعشة خفيفة، وفي عينيه مزيج غريب من الألم والرجاء. بدا سالم وكأنه أُجبر على مواجهة ضعف لم يعتد عليه قط، رجل اعتاد الصلابة والجبروت، ها هو الآن أسير جسده، لا يقوى إلا على النظر.


اقترب حسن ببطء، والدموع تكاد تخنقه، ثم جلس بجواره، ممسكًا بيده الساكنة التي لم تضغط على كفه كما كانت تفعل من قبل. في تلك اللحظة شعر حسن بمرارةٍ لا توصف؛ مرارة الندم، وصدمة رؤية والده مكسورًا بهذا الشكل أمام عينيه.


تنهد سالم بعمق، محاولًا جمع شجاعته، ثم فتح عينيه الغائرتين نحو حسن، نطق وصوته قد خرج بصعوبة، مرتعشًا:

ـ حسن…


ارتجف قلب حسن لحظة سماع صوت والده، فاقترب أكثر، ممسكًا بيده المرتعشة، وجلَس بجانبه على السرير، واضعًا يده على كتف أبيه بحذر، صامتًا للحظة، يراقب كل ارتعاشة وكل حركة صغيرة، قبل أن يهمس:

ـ نعم يا حاج ؟! أنا هنا جنبك أهو .. محتاج حاجة ؟


أكمل سالم بصعوبة، وكل كلمة تخرج من فمه بدت وكأنها تستلزم منه جهد جسدي هائل:

ـ إيه اللي حصل ؟! أنا اتشليت ؟


ارتجف قلب حسن لحظة سماع سؤال والده، وكأن صاعقة قد أصابته من شدة إحساسه بالذنب والندم. حاول أن يحبس دموعه، لكنه لم يستطع، فتهاوت دفعةً واحدة.


اقترب أكثر، ثم أحاط بيد أبيه المرتعشة بين يديه، وحاول أن يبتسم ابتسامة مطمئنة رغم انكساره الداخلي، وقال بصوت مختنق:

ـ الدكتور قال إنهم شوية تعب صغيرين وهيروحوا لحالهم .. بس أنا جنبك، وههتم بيك متخافش، ومش هتحرك من هنا غير لما إنت تطلب مني أمشي .


تلك الكلمات خرجت بصعوبة، لكنها كانت صادقة، تحمل كل مشاعر الخوف والندم والحب في آن واحد. حاول حسن أن يخفف عن أبيه العبء ولو بالكلمات، بينما قلبه ينفطر على حاله وما أصابه من ألم وعجز.


أما سالم فأخذت عيناه تحاولان التحديق بعيدًا، لكنهما لا تستطيعان الهروب من الواقع الذي يحيط به. تنهد ببطء، محاولًا استدعاء قوة لم تعد موجودة، ثم قال بصوت مرتعش:

ـ أنا… أنا مش عايزك تقول لحد ، أي حد .. مش لازم حد يعرف إني اتشليت ، مينفعش حد يشوفني وأنا عاجز كده أبدًا .. 


ارتعش قلب حسن، وامتلأت عينيه بالدموع وهو يسمع والده يحاول صدّ الواقع عنه، ويتابع بهيستيرية :

ـ أوعى تقول لحد يا حسن… مش عايز حد يشوفني في الحالة دي… 


وقف حسن متجمدًا للحظة، ممسكًا بيد أبيه المرتجفة بين يديه، محاولا تهدئته بصوت خافت مرتعش :

ـ حاضر .. هعملك كل اللي إنت عايزُه .. بس اهدى !


كاد قلبه ينفطر وهو يرى والده يحاول إخفاء ضعفه عن العالم، في حين أنه يعرف جيدًا أن هذا الضعف أصبح جزءًا من الواقع، وأن على كل منهما مواجهة الأمر معًا، رغم كل شيء .


أما سالم، فحاول أن يحرك جسده، يرفع ذراعه أو يحرك قدمه، لكن جسده ظل صامتًا رافضًا أي استجابة. ارتعشت عضلاته بلا جدوى، وكل حركة كانت تمر بصعوبة هائلة، كأن جسده نسي تمامًا كيف يخضع لإرادته، وكأن قوة الحياة انسحبت من أطرافه فجأةخ.


انسابت حبات العرق على جبينه، وعيناه امتلأت بوميض ألم داخلي لم يشعر به من قبل.


أغمض عينيه بقوة، كأنه يحاول أن يهرب من الواقع، من شعور مرير لأول مرة في حياته أنه عاجز، أنه لم يعد الرجل القوي الذي عرفه العالم وهابهُ الجميع .


كل نفس خرج منه كان ثقيلًا، مليئًا بالخذلان والصدمة، ثم نظر إلى حسن وقال :

ـ هو إيه اللي حصل بالظبط ؟! حصللي كده إزاي ؟!


نظر إليه حسن متعجبًا، وقال :

ـ إنت مش فاكر ؟!


ـ لأ.. مش فاكر إيه اللي حصل بالظبط ؟!


فتنهد حسن وأطرق برأسه أرضًا وقد غمرته حالة أقسى وأظلم ، الأمر لا يطمئن بالمرة !


نظر إلى والده، التقط يده الحرة وقبلها وكأنه يطبع فوقها قبلة اعتذار ، وأقرّ قائلا :

ـ أنا آسف .. أوعدك هعمل كل اللي أقدر عليه علشان تتحسن وترجع زي الأول وأحسن كمان .


لم يجب، فنهض حسن، وغادر المكان بصمت، وهو يشعر بالحزن قد أثقل كاهله وجعله يفوق الاحتمال. كان قلبه يفيض بالأسى، وكل خطوة يخطوها كأنها تثقل قلبه أكثر من السابقة.


ودّ أن ينفجر باكيًا، أن يقف على طرف تلة ويصرخ كما لم يفعل من قبل، علّ تلك النيران المستعرة بداخله تنطفئ ولو قليلًا، لكن الصمت حوله كان أقسى من أي صراخ، يلتهم صوته قبل أن يصل، ويتركه محاصرًا بألمه وذاته الممزقة بين الخوف على والده وبين شعوره بالعجز التام.


ما إن رأته زينب حتى أسرعت نحوه، وسألته باهتمام :

ـ طمني يا حسن .


لكنه لم يجب، بل مد يده وأزال دمعاته سريعا وقال بإيجاز :

ـ أنا هلف شوية بالعربية وراجع ، لو حصل حاجه كلميني فورا .


خرج من المستشفى مسرعًا، وما أن جلس في سيارته حتى أخرج علبة سجائره، استل واحدة وأشعلها، علها تخفف ولو قليلًا من الضغط الذي يفتك بصدره. 


أدار المحرك، وانطلق بالسيارة في شوارع المدينة بلا هدف محدد، محاولا أن يفرّ من تلك الدوامة الداخلية التي يشعر بها تضغط عليه من كل جانب: ما حدث لوالده، شعوره بالعجز نحوه ، وذنب لم يستطع التخلص منه…. كل ذلك يلتف حول قلبه مثل حبل مشنقة، لا يترك له فرصة للراحة أو الهروب.


ولكنه اكتشف في النهاية أنه يدور داخل متاهة.. متاهة لا جدران لها سوى طرق متشابكة، تتشابه كلها حتى يظن أن كل طريق يسلكه يعيده إلى نقطة البداية. 


حتى الإشارات المعلقة على جانبي الطريق بدت كأنها إشارات مضللة، تقوده لا إلى الخروج، بل إلى أعماق أعمق من التيه.


وكلما استمر في القيادة، ازداد يقينه أن المتاهة الحقيقية لم تكن في الطرق، بل في داخله.. في ذاكرته القاسية، في ندمه، في خوفه من مواجهة نفسه.


وازداد يقينه أيضًا أنه إذا أحب أن يتخلص من هذه المتاهة عليه أن يفتح الأبواب المغلقة في داخله واحدًا تلو الآخر، وأن يتوقف عن حمل وزره وأوزار الآخرين، أن يواجه أشباح الذكريات مهما كانت قاسية، وأن يعترف أولًا لنفسه بالحقيقة قبل أن يبحث عنها في الآخرين.


༺═────────────────═༻


مساءًا ..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ـ هتوحشيني .


قالها عاصم وهو يشدها إلى صدره، وكأنه يحاول أن يختزن أنفاسها في قلبه قبل أن تغيب، والتفت ذراعه حولها بقوة تشي بخوفه من وداعها، بينما راحت أنفاسه تختلط بخصلات شعرها.


 لم يضف شيئًا، فالكلمات في تلك اللحظة بدت أضعف من أن تترجم ما بداخله، لكنها هي من أضافت، حين ابتعدت، ونظرت إليه مبتسمةً بسعادة وامتنان، فأعربت عن جزيل شكرها له بقبلةٍ تركت معها كل حبها وعرفانها .


تلّقى قبلتها بارتباكٍ صامت، وكأنها لامست شيئًا أعمق من شفتيه، شيئًا يسكن أعماقه منذ زمن. أغمض عينيه في استسلام، فانبثقت في صدره مشاعر متناقضة؛ ألم الفراق، وحنينٌ لا يريد أن ينتهي، وإدراك مرّ أن هذه اللحظة هي ذروة اللقاء ونهايته معًا.


مسح على شعرها بحنان، ثم قال :

ـ اوعي تقفلي تليفونك.. هتلاقيني فوق دماغك هناك .


ابتسمت، وقالت:

ـ متقلقش، هكلمك وأطمنك عليا كل شوية .


أومأ ، وأمسك بيدها، ضمها بين كفيه بحنان وقال :

ـ خلي بالك من نفسك كويس جدا ، أرجوكي .


ربتت على وجنته بحنان وقالت :

ـ متخافش يا حبيبي ، عمر معايا وهيخلي باله مننا أكيد .


أومأ بشبه سخرية وهو يقول :

ـ عمر محتاج اللي يخلي باله منه …


رمقته بغيظ وتحذير، فضحك بخفوت، ومال نحوها، يقبل وجنتها قبلةً عميقة، ثم قال :

ـ متتضايقيش .. بهزر معاكي.. على العموم هستنى منك تليفون أول ما توصلي بالسلامة تطمنيني .


أومأت بموافقة، وعانقته من جديد بحرارة، إلى أن فصل عناقهما رسالة واردة من عمر، يخبرها فيها أنه ينتظرها بالخارج .


حينها جرت حقيبتها وغادرت المنزل، تمشي بخطواتٍ مترددة، وقلبها ينقسم بين جبهتين متصارعتين؛ فرحٌ طاغٍ لأنها أخيرًا سترى أخاها الذي اشتاقته كثيرًا، وحزنٌ دفين لأن عينيها ستفقدان دفء عاصم وطمأنينة حضوره.


رأت سيارة عمر، فاستقلت المقعد الأمامي بجواره، فنظر إليها وقال وهو يمد يده إليها ويقول :

ـ حطي ايدك على ايدي..


نظرت إليه بتعجب، ثم وضعت كفها فوق كفه المفرود، فقال:

ـ قولي ورايا .. أقسم بالله.. 


نظرت إليه بتعجب أكبر، فقال بإصرار :

ـ اخلصي يا نسيم .. 


ضحكت وهي تردد وراءه قائلة :

ـ أقسم بالله..


ـ أن أعمل ما في وسعي كاملا.. وألا أدخر جهدًا في حل النزاع القائم بين فريد ونغم، والله على ما أقول شهيد.


رددت ما قاله وهي تكبح ضحكتها، بينما هو كان قد انطلق في طريقه ليصطحبا نغم من منزلها، ومن ثم يذهبون إلى المطار ..


#يتبع

تكملة الرواية من هناااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close