القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن والثلاثون 38بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن والثلاثون 38بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات




رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن والثلاثون 38بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


ـ ٣٨ ـ


~ عواصف من حب ! ~


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


صباح يوم الخميس …

في فندق " ميريال " في اسطنبول.


استيقظت كلا من نسيم ونغم على طرقات عالية على باب غرفتهما، تزامنًا مع رنين هاتف نسيم برقم عمر، فأجابت الاتصال ليصلها صوته من خلف باب الغرفة ومن الهاتف معًا :

ـ Günaydın … يعني صباح الخير بالتركي علشان عارف فهمك على قدك .


ابتسمت نسيم وقالت :

ـ صباح النور يا بروفيسور عمر .. في حد يقلق حد كده على الصبح ؟!


ـ يلا في الإنجاز.. ورانا لفة ما يعلم بيها الا ربنا، الطيارة هتفوتنا .


 ـ حاضر ، نص ساعه ونكون جاهزين .


أنهت الاتصال، ونظرت إلى نغم التي تجاهد لإبقاء جفنيها مفتوحين، وقالت:

ـ يلا يا نغم ، عمر بيستعجبلنا .. 


ـ على فين ؟! 


ـ دالامان ، ساعة بالطيارة ونبقى هناك .. 


نظرت إليها نغم بتعجب، ثم تساءلت :

ـ إشمعنا ؟!.


لتجيبها الأخرى باقتضاب متوتر :

ـ بيقولوا هناك في قرى ساحلية حلوة جداا، وأماكن جديدة عمر بيقترح إننا نزورها ..


لم تبدِ نغم استياءًا،.فكل الأماكن بالنسبة لها ستبدو جديدة وتستحق الاكتشاف، لذا نهضت مسرعةً، وبدأت بالاستعداد،.فيما أجرت نسيم اتصالا مرئيًا بعاصم .


ثوانٍ وأجاب عاصم الاتصال، وما إن رآها أمامه حتى اتسعت ابتسامته وقال :

ـ وحشتيني .


ابتسمت بدورها، وقالت :

ـ انت كمان يا حبيبي وحشتني جدا، أخبارك إيه ؟


أدار الكاميرا لكي تلتقط المكان من حوله، حيث يتواجد في البيت الملاصق لشركته، وقال :

ـ مقدرتش أنام لوحدي الصراحة، حسيت البيت من غيرك عامل زي بيت الأشباح فقضيت الليلة اللي فاتت هنا، ودلوقتي بستعد وخارج على الشركة.. انتي أخبارك إيه؟ نمتي كويس ؟


أومأت وقالت :

ـ كويس إلى حدٍ ما، ودلوقتي رايحين على دالامان زي ما قولتلك .


ـ ربنا معاكم .. لما توصلوا أثينا طمنيني .


ـ حاضر.. خلي بالك من نفسك.


أنهت الاتصال، ونهضت لتستعد، ثم غادرت الغرفة رفقة نغم، ليجدا عمر واقفًا في بهو الفندق في انتظارهما، وما إن رآهما حتى ابتسم باتساع وهو يقول :

ـ يا صباح العسل.. إيه الحلاوة دي كلها .. ها… جاهزين ؟


نظرت نسيم إلى نغم فوجدتها توميء بحماس، فردد عمر :

ـ ربنا يستر .. يلا اتفضلوا ، أنا وقفت تاكسي هيوصلنا للمطار .


استقل ثلاثتهم السيارة، والتي انطلقت بهما في طريقها نحو المطار، أنهى عمر إجراءات الرحلة، ومن ثم صعدا إلى الطائرة حيث ستحملهم إلى دالامان .


جلست نغم إلى جوار النافذة، تحدّق في جناح الطائرة الممتد كطائرٍ معدني ضخم يشقّ الغيوم. كان قلبها يخفق بشدّة، مزيج من رهبة وفضول مكتوم. حيث بدت لها الأرض البعيدة أسفلها كلوحة مُبهمة الألوان، تتداخل فيها الخضرة بزرقة البحر، والقرى الصغيرة تبدو كحبات ضوء متناثرة.


كانت أصابعها متشابكة في حجرها، ترتجف بخفة، وكل اهتزاز للطائرة كان يضاعف توترها. ومع ذلك، كان في عينيها بريق لمعة طفولية، وكأنها تعيش حلمًا طال انتظاره. بين الحين والآخر، كانت تلتفت إلى نسيم بجوارها، تبحث في ملامحها عن طمأنينة، فتجد ابتسامة دافئة تردّ على قلقها، فتعود لتسند رأسها إلى المقعد بارتياح نسبي.


داخلها، كان يتصارع شعوران متناقضان: فرح غامر لأنها تخوض مغامرة جديدة، وحزن خفي لأنها لا تدري تمامًا إلى أين يأخذها هذا الطريق، وما الذي ينتظرها عند الوصول.


أما نسيم، فكانت غارقة في شرودها، تفكر فيما سيؤول إليه حالها، ومتى ينبغي عليها أن تخبر عاصم بحملها، كما تفكر في رد فعل كلا من نغم وفريد عند رؤية بعضهما البعض.


بينما جلس عمر في المقعد الخلفي، ذقنه مسنودة إلى كفه، وعيناه معلقتان بزجاج النافذة، وداخل رأسه كانت الأفكار تدور بلا توقف: كيف يجعل فريد يتخلى عن عناده؟ كيف يقنع نغم أن قلبها ما زال يخصه؟

كان يعرف أن الحب بينهما ما زال موجودًا، لكنه مغطّى بطبقات من الجرح والخذلان، تمامًا كما يُغطّي الغبار مرآة لا تفقد قدرتها على العكس.


شدّ قبضته فوق ركبته، وعزم بداخله أنه لن يسمح لهذه السخافة أن تستمر. لن يدع أخاه يضيع أجمل ما في حياته بسبب كبرياء أحمق، ولن يترك نغم تغرق في حزن لا تستحقه.

كان كمن يرمي سهمًا في الظلام، عازمًا أن يصيب الهدف ولو بعد محاولات عدة، وكل ما يفكر فيه هو اللحظة التي سيرى فيها أخاه ونغم متفاهمين، وقد سقطت كل الجدران التي تفصل بينهما.


بعد ساعة وربع تقريبّا.. هبطت الطائرة في مطار دالامان، خرج الركاب إلى الساحة الخارجية، حيث كان الهواء مشبعًا بنسيم دافئ يحمل معه رائحة البحر والجبال.


 وقفت نغم مترددة، عيناها تتنقلان بين وجوه الغرباء ومعالم المكان الجديد، بينما حاولت نسيم أن تبعث الطمأنينة في قلبها بابتسامة صامتة. خلفهما كان عمر يسير بخطوات ثابتة، يحمل حقيبته، وعقله منشغل بتلك الخطة التي يعوِّل عليها كثيرًا..


ركبوا السيارة التي كانت في انتظارهم، وانطلقت بهم في طريق متعرج تحيطه غابات الصنوبر الكثيفة. الأشجار العالية بدت وكأنها تصطف في حراسة للطريق، وكلما تقدمت السيارة، اتسعت الرؤية ليطل البحر من بعيد بلونه الأزرق المتلألئ، كزمردة ضخمة تحت أشعة الشمس.


نظرت نغم إلى النافذة، تحدق في المشهد بدهشة ممتزجة بشيء من الراحة، كأن الطبيعة تمد لها يدها لتنتشلها من توترها. كان عمر يتابعها من حين لآخر عبر مرآة السيارة الجانبية، وعيناه تحملان رجاءً صامتًا في أن تزل صامتة، هادئة، كما هي الآن حتى بعد معرفة ما يخبئونه لها … بينما في داخله يخطط.. أنه لا بد أن يتحقق ما يطمح إليه.


وحين بدأت السيارة تقترب من المنحدرات المؤدية إلى مرمريس، انكشف المشهد الساحر: الجبال تعانق البحر، والبيوت البيضاء الصغيرة تتناثر على السفوح، بينما المراكب الشراعية تنتظر في الميناء كأنها تهيئ لهم استقبالاً خاصًا.


تبادلت نَسيم ونَغْم النظرات للحظة، وكأن كلتاهما تعترف للأخرى بما عجز لسانهما عن قوله. ارتسمت على وجه نسيم ابتسامة صافية، ممزوجة بدهشة طفولية وحبّ للحياة، بينما امتلأت عينا نغم ببريقٍ هادئ، كأن الطبيعة لامست جرحها الخفي وربّتت عليه. 


أما عمر، فأخذ ينظر إليهما بفرحة، فنظراتهم المندهشة كانت كافية ليوقن أن هذا الجمال الساحر قادر على أن يفتح مغاليق القلوب، ويبعث في النفس السكينة والهدوء.


بعد قليل، توقفت السيارة في ميناء مرمريس، خرجوا من السيارة والبحر قد بدا لهم أقرب من أي وقت مضى، المراكب مصطفة على طول المرسى، وأصوات النوارس تختلط بنداءات الباعة والسياح. كان الجو يحمل خليطًا من الإثارة والترقب، كأن عبور البحر إلى الضفة الأخرى سيحمل معه بداية جديدة أو سرًّا مخفيًا.


ـ أهلا بيكم يا كتاكيت في ميناء مرمريس .. 


نطقها عمر بنبرة رسمية مصطنعة،.فنظرت كلا من نغم ونسيم نحوه فتابع وكأنه مرشد سياحي محترف:

ـ دلوقتي ميعادنا مع الفقرة الأمتع والأكثر حماسا، هناخد لفة بالفيري في عرض البحر، ساعة تقريبا ونبقى في جزيرة تانية إسمها رودس.. 


وقفت نغم للحظة، تتطلع بذهول نحو تلك العبّارة الضخمة البيضاء، لا تكاد تصدق أنها ستعبر بها البحر إلى بلد آخر. قلبها يخفق بين الخوف والحماس.


خطت خطوة للأمام، ثم تراجعت مرة أخرى، ونظرت إليهما بتردد وقالت :

ـ لأ أنا خايفة ممكن نغرق !


نظر إليها عمر متعجبًا، وتمتم حانقًا :

ـ لا إله إلا الله بتفوّلي في وشنا ليه بس يا نغم.. سيبيها لله .. يلا بينا .


ـ لأ معلش اركبوا انتوا وأنا هستنى هنا لحد ما ترجعوا ..


نظر عمر إلى نسيم يرجوها بعينيه أن تتدخل، فنظرت إلى نغم وقالت بلين :

ـ تستني هنا إيه بس يا نغم ! مش هينفع طبعا، لازم نتحرك بدل ما الحجز يروح علينا.


أومأ عمر مؤكدًا :

ـ أيوة .. ده أنا دافع فلوس كتير جدا في الحجز ده .. يلا بقا يا نغم بلاش تأخير كده الحفلة هتفوتنا !


نظرت إليه نغم بتعجب، بينما رمقته نسيم بعينين متسعتين فأدرك فداحة ما تفوه به، فيما سألته نغم باستفهام :

ـ حفلة إيه ؟!


حانت منه التفاتة سريعة نحو نسيم التي أخذت تلعن غباءه في سرها، فتلعثم قليلا قبل أن يقول :

ـ الحفلة اللي هيعملوها عالمركب .. بيعملوا حفلات حلوة أوي يلا بقا قبل ما يمشوا ويسيبونا .


شعرت نغم بنظراتهم التي يتبادلانها بتوتر، ولكنها سارت رفقتهما على كل حال، بينما سار عمر أمامهما، وهو يتمتم لاعنًا تحت أنفاسه:

ـ أنا قلت محدش هيودينا في داهية غيري محدش صدقني ..


دخلت نغم إلى داخل العبّارة بخطوات مترددة، وعيناها تجولان في المكان كأنها تبحث عن مخرج للهروب في أي لحظة. أصوات المحرك وارتجاج الأرضية تحت قدميها جعلت قلبها يقفز في صدرها بعنف، حتى شعرت أن أنفاسها تتلاحق سريعًا. تشبثت بذراع نسيم بيد، وباليد الأخرى أمسكت بذراع عمر كأنها تخشى أن تنفلت وتبتلعها الأمواج.


كانت أصابعها باردة ومرتجفة، وملامحها مشدودة بقلق ظاهر، كأنها طفلة تواجه خوفًا أكبر من قدرتها على الاحتمال. كل خطوة داخل العبّارة بدت لها كأنها تعبر إلى عالم مجهول.


البحر يحيط بها من كل جانب، وسماءً شاسعة لا تعرف لها آخرًا من الأعلى، كأنها عالقة في فراغ لا ينتهي .


بدأت العبّارة تتحرّك ببطء، تتهادى أول الأمر كأنها تتلمّس طريقها وسط الموج، ثم راحت سرعتها تزداد شيئًا فشيئًا. عندها اشتدّ ارتجاف نغم، فعقدت أصابعها بقوة أكبر حول يدي نسيم، ونظرت إليها بعينين متسعتين من الهلع، وخرج صوتها هامسًا مرتعشًا:

ـ أنا خايفة… مش قادرة… أقسم بالله مرعوبة .


ضغطت نسيم على كفها بحنو، في محاولة لبعث الطمأنينة في قلبها، بينما هتف عمر يائسًا :

ـ أقسم بالله إحنا مرعوبين أكتر منك اسكتي بقا وترتيني.


ارتعش صدرها مع أول اهتزاز قوي، وزادت ضربات قلبها مع كل دفعة من الأمواج التي تعلو وتهبط بالعبّارة، كأنها لعبة صغيرة بين أيدٍ غامضة لا ترحم. 


حاول عمر أن يلهيها بابتسامة وبكلمات طمأنة مقتضبة، فيما وضعت نسيم ذراعها حول كتفها لتشعرها ببعض الأمان، لكن عيني نغم بقيتا معلقتين بالمياه الممتدة بلا نهاية، يكسوهما خليط من الذهول والفزع.. وهي تتمتم بصوتٍ خافت :

ـ أنا دايخة .. معدتي قلبت، هو ده دوار البحر اللي بيقولوا عليه ولا إيه ؟! 


نظر إليها عمر كابحًا غيظه، بينما تابعت نغم وهي تنظر إليه باتهام صريح :

ـ هو إنت كنت خدت رأيي أصلا قبل ما تجيبني هنا ؟! مين اللي قالك إني عاوزة أركب مركب في البحر ؟! 


ليرد بنزقٍ وجد في نفسه رغبة ملحة لإطلاقه :

ـ أنا آسف، المرة الجاية هجيبلك مركب صغيرة تلعبي بيها قدام بيتكم .


طالعته بغيظٍ مستعر، ونظرت إلى نسيم وهتفت بغضب: 

ـ سكتي أخوكي ده خالص !


التفتا كلاهما نحو نسيم، فإذا بملامحها قد تغيّرت على نحو واضح؛ وجهها شاحب كقطعة ورق، وجبينها بدأ يتصبّب عرقًا باردًا. عيناها نصف مغمضتين، تبحثان عن نقطة تثبّت فيها نظرها كي لا تنجرف أكثر في تلك الدوامة التي باغتتها منذ اللحظة الأولى لانطلاق العبّارة.


مدّت يدها لتستند إلى السور المعدني القريب، محاوِلةً أن تلتقط أنفاسها ببطء، لكن خطواتها بدت متعثّرة. أدرك عمر ونغم على الفور أن الإعياء قد أخذ منها مأخذًا، فتبادلا نظرة سريعة ممزوجة بالقلق، ثم اقتربا منها يحيطانها بذراعيهما، وتسائلت نغم بلهفة :

ـ مالك يا نسيم ؟


حاولت نسيم أن تستجمع القليل المتبقي من ثباتها وقالت بخفوت :

ـ مفيش، دايخة شوية .


فتمتم حانقًا والضيق يعتصره :

ـ انتي كمان جالك دوار البحر ؟! ده إيه الحظ المهبب ده؟! 


ثم نهض، وهو ينظر إليهما وقال بسخط يتخلل حديثه :

ـ ضموا على بعض كده لحد ما أشوف لكم حل ، غالبًا الService crew بيكونوا عاملين حساب الحالات اللي زيكم في برشام أو حاجة .


فأشارت إليه نسيم برفض، وقالت :

ـ لأ مش هينفع أخد حاجة ..


نظر كلا من عمر ونغم إليها باستغراب، ثم تسائلت نغم بهدوء :

ـ نسيم، انتي حامل ؟


حانت منها التفاتة سريعة نحو كلا من عمر ونغم، ثم أومأت أن نعم باقتضاب، فتهلل وجه عمر بابتسامة واسعة، وقال :

ـ إيه ده حامل بجد ؟! يعني هبقى خالو ؟ الله … !


فحدجته نغم بنظرات ساخطة، وهتفت بانفعال :

ـ هو ده وقته ؟! تعالى اقعد جنبها واسندها .


أسرع عمر يجلس إلى جوارها، وشدها إليه بحنو، وأراح رأسها على كتفه برفق، وفي تلك اللحظة، تلاشى ضيقه السابق، ليحل محله شعور غامر بالمسؤولية والحنان.


بينما من الجهة الأخرى، تجلس نغم، ممسكةً بيديها، تربت عليها بشرود، ومع أن هذا الخبر جاء يحمل بين طياته فرحة عارمة، إلا أن ظل القلق لم يفارق وجوههم لحظة .


༺═────────────────═༻


جلس حسن في ركن هادئ من المستشفى، بجوار نافذة تطل على الطريق، يحدّق في الفراغ بعينين غارقتين في شرود بعيد، والأفكار تتدافع في رأسه كالأمواج. 


كان يدرك أنّ نغم قد سافرت برفقة عمر ونسيم في محاولة منهما لرأب الصدع بينها وبين فريد، فتنازعت مشاعره بين غيرةٍ لاذعةٍ تورثه شعورًا بالخزي من نفسه، وفرحٍ خفيّ من أجل نغم، إذ يعلم تمام العلم كم تحب فريد، وكم أن هذا الحب سيشفي الكثير من الجراح التي خلّفها هو… وفرحٌ آخر من أجل فريد، الذي يراه جديرًا بذلك الحب النقي.


غير أنّ فكرةً أخرى كانت تفتك به في صمت: كيف ستكون مواجهة نغم مع فريد؟ هل ستجرؤ على أن تضع الحقيقة بين يديه، تلك الحقيقة التي شاطرها حسن قسوتها وبشاعتها، أم أنّ لسانها سينعقد في اللحظة الحاسمة فلن تقوى على البوح؟ 


ظلّ يتأمل وجوهًا متخيّلة؛ فريد وهو يسمع، ونغم وهي تتردّد بين الانكسار والجرأة، وصدى تلك اللحظة التي لا يعرف أحد إلى أين قد تقودهم.


وفي الوقت نفسه، لم يكن ذلك هو الهم الوحيد الذي يؤرقه، حيث كانت صورة والده تتسلّل إلى ذهنه كطيفٍ ثقيل، فما يزال الغموض يكتنف حالته، ولا أحد من إخوته يدري شيئًا عن حقيقة ما آل إليه. أخذ يتخيل وجوههم عند لحظة المواجهة، كيف ستتبدل ملامحهم حين يكتشفون تدهور حال أبيهم بتلك الصورة الموجعة.


 لم يستطع أن يجزم بردّ فعلهم؛ أسيحزنون بصدقٍ على الرجل الذي كان يومًا رمزًا للقوة والهيبة؟ أم سيمرّ الأمر أمامهم ببرود ولا مبالاة ؟!


هذا السؤال ظلّ يثقل صدره، كشوكة عالقة بين قلبه وعقله، فلا هو قادر أن يصدّق أنهم قد يلتفّون حول أبيهم بالرحمة والشفقة، ولا هو مطمئن إلى فكرة أنهم ربما يستقبلون الأمر ببرودٍ يوجعه أكثر من خبر المرض نفسه.


وبينما كان يغوص في دوّامة أفكاره، باغت رنين الهاتف صمته، فأجفل قليلًا، نظر إلى الشاشة، فإذا هو اسم زينب يسطع أمامه… 


ـ ألو ..  ؟


ـ أيوة يا حسن، صباح الخير يا حبيبي .


ـ صباح النور .. 


ـ طمني إيه الأخبار ؟


سحب نفسًا من سيجارته وقال :

ـ زي ما هو مفيش جديد!


ـ أجيلك ؟! جايز تحب ترجع البيت تغير هدومك أو ترتاح شوية !


ـ لأ ملوش داعي .. أنا تمام .


ـ طيب يا حبيبي ربنا يقويك ، لولا إنه مش عاوز حد يعرف باللي حصل أنا مكنتش سيبتك لوحدك أبدا في المستشفى.


تنهد حسن ثم قال :

ـ متقلقيش عليا أنا كويس ، ممكن على آخر اليوم أرجع البيت أرتاح ساعتين وأجي تاني .


ـ خلي بالك من نفسك يا حبيبي ، ربنا يكتبلك في كل خطوة سلامة يابني .


ابتسم ابتسامةٍ مهزومة رغمًا عنه، وتمتم متأثرًا :

ـ ربنا يخليكي لينا .


ما إن سمعَت زينب جملة حسن حتى تجمّدت لثوانٍ، كأن الكلمة لم تصل أذنها فقط، بل اخترقت قلبها مباشرة. تهلّل وجهها بضياءٍ لم يعرفه من قبل، وارتسمت ابتسامة واسعة ارتجفت معها شفتيها، كأنها تخشى أن تبوح بما يفيض في داخلها. 


آه.. لو أنه يراها في تلك اللحظة ويرى كيف أضاءت ملامحها، فقد كانت كلمة عابرة بالنسبة له، لكنها بالنسبة لها كانت حياة كاملة.


عاشت عمرها منبوذة، غريبة، لا يُعترف بها، وها هو حسن الآن يضمّها إليهم بكلمةٍ واحدة طالما حلمت أن تسمعها. 


أخيرًا شعرت أن لها مكانًا، أن لها سندًا، وأنها ليست مجرد ظلّ يتسكع على أطراف حياتهم. حاولت أن ترد، لكن صوتها خانها من فرط التأثر، فابتلعت دموعها بسرعة، وتمتمت بصوتٍ مرتجف :

ـ ويخليكم ليا يا حبيبي .


أنهى حسن اتصاله مع زينب، وما زال صدى كلماتها يرنّ في أذنه. وقبل أن يلتقط أنفاسه، جاءه اتصال آخر، هذه المرة من المشرف المسؤول عن المزرعة، يبلغه بوصول الخيول الجديدة.


 تجلّت الحيرة على ملامحه لبرهة، فهو لم يكن يرغب في مغادرة المستشفى وترك والده في تلك الحالة، لكن الأمر كان ملحًّا ولا يحتمل التأجيل. أغمض عينيه بعمق، ثم نهض على مضض، وغادر المستشفى بخطوات مثقلة، وكأن قلبه ظلّ عالقًا هناك، إلى جوار والده.


قبل أن يغادر حسن المستشفى لمح الطبيب المشرف يخرج من مكتبه، فتقدّم نحوه متلهفًا وسأله بقلقٍ ظاهر:

ـ دكتور جمال .. حضرتك شايف حالة الحج بتتحسن؟ أنا حاسس إن مافيش أي تحسن من ساعة ما فاق.


توقف الطبيب لحظة، وكأنه يلتقط أنفاسه قبل أن يجيب، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة لا تبلغ عينيه، وقال بنبرةٍ حاول أن يكسوها بالثقة:

ـ الأمور تحت السيطرة يا أستاذ حسن، كل شيء ماشي في مجراه الطبيعي.. كل الحكايه إننا محتاجين شوية صبر بس.


ظل حسن يحدق فيه بقلق وكأنه يحاول أن يخترق طبقات تلك الطمأنة المتكررة ليصل إلى الحقيقة، لكن الطبيب لم يزد كلمة واحدة، واكتفى بإيماءة سريعة قبل أن ينصرف.


لم يجد حسن سبيلًا أمام هذا الإصرار إلا أن يلوذ بالصمت ويغادر المستشفى، وقلبه مثقل بالشكوك.


وما إن خطا إلى البوابة حتى كانت العيون تترصده من بعيد.

رجل يجلس في سيارة سوداء مركونة على مقربة من المدخل، يراقب بدقة لا تخطئ.

أشعل سيجارته بعجل، ثم التقط هاتفه وضغط الأرقام بسرعة.

وحين جاءه الرد، قال بصوت خافتٍ متحفظ:

ـ أيوه يا باشا.. ابنه لسه خارج دلوقتي حالًا.. ومفيش حد معاه جوه… حضرتك جاي ؟! تمام يا باشا في انتظارك .


ثم أنهى الاتصال على عجل، وألقى نظرة مطوّلة تجاه البوابة، قبل أن يغرق في صمتٍ مريب .


༺═────────────────═༻


ما إن توقفت العبارة عند الميناء، حتى ارتفعت أصوات الركاب المتداخلة، وبدأت حركة النزول في نظام فوضوي يملؤه الارتباك المعتاد لمثل هذه الرحلات.


 تقدّم عمر أولًا، وعيناه تلمعان بشيء من الانتصار الداخلي؛ فخطته بدأت تقترب من لحظة الحسم.


تتبعه نغم ونسيم بخطوات مترددة، حتى خرجوا جميعًا إلى الرصيف الحجري الذي يطوقه البحر من كل جانب.


كانت اللوحات الزرقاء الكبيرة معلّقة على الميناء تحمل اسم المكان باليونانية والإنجليزية: "Ρόδος — Rhodes". 

كما اصطفت الحافلات السياحية عند المخرج، وزُيّنت نوافذ المتاجر القريبة بعبارات ترحيب بلغات مختلفة، كلها تشير بوضوح إلى أنهم على أرض رودس اليونانية.


لكن عمر كان مطمئنًا إلى أن نغم، التي لا تُجيد أي لغة سوى العربية، لن تفطن إلى تلك التفاصيل. 


اكتفت هي بالنظر حولها بعينين متسعتين من الدهشة، تُطارد بعينيها ألوان المباني البيضاء والقباب الزرقاء التي تعكسها أشعة الشمس على صفحة البحر.


أما نسيم فكانت تتأمل بعناية، لكن التعب ما زال يسيطر عليها.. بينما عمر يوجّههما بحزم، وكأنه لا يريد منح نغم فرصة للتفكير العميق أو ملاحظة اللوحات التي قد تكشف الحقيقة.


نظرت إليهما نغم بحماس، وهتفت إلى نسيم قائلة :

ـ المكان هنا شكله حلو أوي .. أما تركيا دي طلعت حلوة بشكل !! أحلى مليون مرة من المناظر اللي بنشوفها في المسلسلات.


في تلك اللحظة، نظر كل من عمر ونسيم لبعضهما البعض وقد شعرا بوخز ضمير خفيف، إذ أدركا أن ما فعلاه لم يكن بريئًا بالمرة. لقد خدعا قلبها الطيب بغير قصد، وكانت براءتها وعفويتها تجعلانها غير مدركة تمامًا أنهم قد انتقلوا من بلد إلى آخر. تضاعف شعور الذنب داخلهما، انتابهما مزيج من الإحراج والشفقة، وكأن قلب كل منهما يرزح تحت وطأة الحقيقة التي أخفياها عن نغم، تلك الفتاة البريئة التي أظهرت حبًا للمغامرة رغم حذرها الطبيعي.


كل حركة لها، وكل ابتسامة صغيرة، كانت تزيد شعورهما بالمسؤولية تجاهها، وتدفعهما للتساؤل: هل الطريق الذي رسمناه لها هو الصائب، أم أننا أخطأنا عندما قمنا باستغلال طيبتها وتلك الثقة التي وضعتها فينا ؟!


وبينما كانا يلتزمان الصمت، نظرت إليهما نغم وقالت بحماس لم يخفت بعد :

ـ إحنا رايحين فين دلوقتي ؟! المفروض نسيم ترتاح شوية.


أومأ عمر باهتمام، فقد أدرك صحة ما تقوله نغم، فهو قد خطط لتلك الرحلة دون أن يعلم أن أخته حامل، لكنهما مضطران للتحرك سريعًا، فالوقت ليس في صالحهم. وكانت نسيم على وعي تام بذلك، لذلك حاولت التخفيف عنه ورفع الحرج، فقالت بابتسامة خفيفة:

ـ ما تقلقوش، أنا كويسة وكله هيكون تمام.. 


ونظرت إلى عمر وقالت بتوتر :

ـ ها يا عمر ؟! هتودينا فين دلوقتي ؟


فنظر عمر إليهما بتوتر من رد فعل نغم، وقال بنبرة حازمة، ولكنها هادئة :

ـ آخر محطة بقا .. بالطيارة ساعة زمن نكون هناك .


تعمّد ألا يذكر أي تفاصيل أكثر، ليحمي نفسه من الاضطرار للكذب، وفي الوقت نفسه ليتجنب الإفصاح عن الحقيقة. كان يعلم أن الصمت في هذه اللحظة أكثر أمانًا من أي شرح قد يثير الشكوك، وأن لكل كلمة وزنها الذي قد يُقحمهم في موقف لا يحسدون عليه.


لكن نغم لم تستطع تجاهل الإحساس الغريب الذي دبّ في نفسها؛ شعرت أن ثمة شيئًا غير طبيعي، وأن هناك سرًّا يكتنف ما يحدث. كان قلبها يطرق صدرها بعنف لا تعرف سببه، وعيناها تتفحّصان ملامح نسيم وعمر باهتمام، محاولةً التقاط أي علامة تدلّ على أن شعورها صائبًا .


استقلا سيارة أجرة متجهة إلى وجهتهما الأخيرة، المطار. تبادل نسيم وعمر نظرات قصيرة، يفهم كل منهما الآخر دون حاجة للكلمات، بينما جلست نغم متوجسة، لم تدرك تمامًا ما يجري حولها.


فتح عمر هاتفه، فرأى رسائل عدة من فريد ومكالمات لم تصله، فأرسل له رسالة سريعة كتب فيها:

ـ استنانا بعد ساعة ونص في المطار.


بعد أن أرسل عمر الرسالة إلى فريد، ازداد القلق في قلبه، وتملكه شعور متشابك من التوتر وعدم اليقين. لم يكن يعلم هل الحيلة التي خطط لها في ذهنه ستثمر بالنتيجة المرجوة أم لا، وفي نفس الوقت كان يخشى من رد فعل نغم عندما تلتقي بفريد وتدرك أنها قد خُدعت بواسطتهم .


كان قلبه يتقاذف بين الخوف من فضح الأمر وبين الأمل أن تنجح هذه الحيلة في إعادة إحياء العلاقة بين فريد ونغم.


بعد مرور نصف ساعة، وصلوا إلى المطار، وبدأ الخوف يتسرب إلى قلب عمر شيئًا فشيئًا. 


طلب من نغم ونسيم الانتظار بهدوء حتى ينتهي من ترتيب الأمور، مستندًا إلى حجة تعب نسيم وحاجتها للراحة.


استقرت الفتاتان على المقاعد المخصصة لهما، بينما دخل عمر إلى صالة الإجراءات ليُنجز كل ما يخص التذاكر والرحلة، حريصًا على ألا تشك نغم في أي أمر، متخبطًا بين القلق من اكتشاف خدعته، والأمل في نجاح خطته.


وبعد أن أتم عمر كل الإجراءات بدقة، توجه الجميع صوب الطائرة، فصعدوا على متنها، وانطلقت بهم في أجواء صافية نحو أثينا، وكلٌ منهم غارق في مشاعره التي لا تضاهي غيرها .


༺═────────────────═༻


كان سالم ممددًا على سريره في غرفة المستشفى، يغمره شعور بالعجز وفقدان السيطرة على كل شيء حوله، حزينًا على جسده الذي لم يعد تحت طوعه كما كان.


كما أن ومضات من الماضي كانت تتقافز في ذهنه بلا رحمة، مشاهد وأصوات وأحاديث عابرة، تأتي وتذهب وكأنها أشباح تطارده. ارتعش قلبه من الداخل، شعر بخوف من تلك الجدران المظلمة التي تضيق عليه أكثر، كما شعر بحاجته لأولاده علهم يؤنسون وحدته أو ينقذونه من تلك الأشباح التي تحاصره من كل جانب.


وعندما فُتح باب الغرفة، خفق قلبه سريعًا، متوقعًا رؤية حسن، فغمره شعورًا بالارتياح الشديد. ولكن صدمته كانت أشد عندما التقت عينيه بعيني عاصم، فارتسم على وجهه مزيج من الدهشة والرعب، وكأن الظلام الذي يحيط به أصبح أكثر كثافة وإحكامًا.


دخل عاصم الغرفة بخطوات ثابتة، وعيناه تتفحصان المكان بدقة، حتى وقع بصره على سالم الممدّد على سريره، عاجزًا، ضعيفًا، وقد انهارت سيطرته على جسده.


ارتسمت على وجه عاصم ابتسامة ضيقة، بارعة في القسوة، تمتلئ بالشماتة والتشفي. فكل ارتعاشة في يد سالم، وكل لمحة ضعف في عينيه كانت بالنسبة لعاصم كالهدية التي طال انتظارها؛ لم يشعر حينها بأي شفقة، لم يشعر بذرة ندم، بل بلذة غريبة من رؤية عدوه اللدود محطّمًا هكذا، كما لو أن الألم ذاته أصبح متعة تملأ قلبه.


 أما سالم، فقد شعر بأن روحه تتفكك، وأن جسده صار عبئًا ثقيلًا عليه. وأن كل جزء منه كان يصرخ بالعجز، كل حركة كانت تمر بصعوبة هائلة. حتى انزلاق ريقه أشبه بمعركةٍ ضارية تحتاج أبسل الجنود .


 ورغم كل ألمه النفسي والجسدي، كان هناك شعور غريب، قاسي، متجذر يملؤه في تلك اللحظة .. ألا وهو تمني الموت، ليس من أجل الرحمة لنفسه، بل حتى لا يرى عدوّه عاصم أنه ما بقي منه سوى حطام، تمني أن تختصر الحياة قسوة هذا المشهد قبل أن يشاهد تلك النظرة المشبعة بالتشفي والشماتة في عينيّ عاصم .


كانت الغرفة تشهد صمتًا ثقيلًا، صمتًا محملًا بتشابك مشاعر الانتقام والمهانة، الغضب والخذلان، حتى بدا أن كل نفس فيهما يحمل صراعًا أبديًا بين الانكسار والتشفي، إلى أن قطع هذا الصمت صوت سالم الذي بادر متسائلا بغضب :

ـ جاي ليه ؟! جاي تشمت فيا مش كده ؟


تقدم عاصم نحو سرير سالم بعد أن أغلق الباب خلفه، وسحب المقعد المجاور ليجلس عليه بهدوء وكأنها مناورة محسوبة. نظر إلى سالم بعينين تتلألأان بسخرية خفية، وقال بصوت هادئ لكنه ثاقب:

ـ الحقيقة أه.. جاي أشمت فيك.


ابتلع سالم ريقه بتوتر، يشعر بثقل كل كلمة، بينما يراقب عاصم وهو يفحص ذراعه المشلولة ونصف وجهه المقهور، كأن كل تفاصيل جسده هي مجرد مادة للسخرية. 


ارتسمت ابتسامة باردة على ثغر عاصم، وأكمل قائلاً بنبرة زادت من ثقل اللحظة:

ـ مع إني كنت مأجل الزيارة دي لحد ما تتدمر كليًا، ووقتها أقدر أشمت فيك أكتر، لكن مقدرتش بصراحة. حسيت إن هرمون السعادة عندي في النازل الفترة الأخيرة، ففضلت أفكر أرفعه إزاي، وفي الآخر ملقيتش قدامي غيرك.


ظل سالم ساكنًا، جسده يرفض الاستجابة، وعيونه تبحث عن ملجأ، بينما كلماته لم تعد كافيةً لكبح شعور الانكسار الذي تمكن منه ، كما أن كل نفس يلتقطه بات بمثابة تذكير آخر بالهزيمة التي لا مفر منها.


ـ أقوللك على حاجة ؟ 


تساءل عاصم بجدية تهكمية، فنظر إليه سالم بانتباه، فتابع عاصم محذرًا بسخرية :

ـ بس اوعى ضغطك يعلى بعد الكلمتين دول وتموت !! إمسك نفسك، لسه بدري !


وصمت قليلا، متعمدا إثارة غضب وضيق سالم، ثم اقترب منه وهمس بفحيح يملؤه الكره :

ـ شكلك حلو أوي وانت نايم قدامي مذلول كده .. لا حول ولا قوة .


ارتجف جسد سالم، وتسارعت دقاته، لكنه حاول أن يحافظ على تماسكه قدر الإمكان، متجنبًا النظر إلى عاصم أو إبداء أي اهتمام، بينما استمر الأخير في الحديث بنبرة قاسية:

ـ سبحان المعز المذل .. سالم باشا مرسال بجلالة قدره بقا مشلول ومحتاج اللي يسنده، بعد ما كنت ديكتاتور وشايف نفسك فوق الكل ، بقيت هوا .. ولا ليك أي لزمة 


ثم ابتعد وأومأ مؤكدا ما قاله، وتابع :

ـ أيوة زي ما بقولك كده.. إنت بقيت هوا يا سالم يا مرسال ، من النهارده بح خلاص .. مفيش حاجه إسمها سالم مرسال!! زمانك ولى يا باشا .


رمقه سالم بنظرات ثابتة، مشحونة بالعناد والرفض، فابتسم عاصم بسخرية وتهكم، وقال :

ـ مش قادر تصدق مش كده ؟! تمام براحتك.. الأيام هتثبت لك إنك خلاص بقيت لا مؤاخذة بالونة كبيرة .. منفوخ هوا عالفاضي … القريب قبل الغريب مش هيعمل لك اعتبار ، و أولهم ولادك.. تقدر تقوللي كده ولادك فين في الظروف دي؟ مش حواليك ليه ؟! 


ابتلع سالم ريقه بانكسار، ولم يجب، فتابع عاصم :

ـ ولادك ولا في دماغهم اصلا ! فريد ونسيم وعمر .. في اليونان بيحضروا حفلة ومبسوطين عالآخر ، ولا فاكرينك.. مفيش غير الغلبان حسن اللي مجبر يفضل جنبك ، لكن صدقني هييجي عليه الدور اللي يبيعك هو كمان ويشتري نفسه زي ما اخواته عملوا .


ـ مش هيحصل !


نطقها سالم محاولا أن يبث فيها كل ثباته وجموده، وتابع :

ـ ولادي عمرهم ما يبيعوني أبدا .. كل الحكاية إني مخبي عليهم، لأني عارف لو عرفوا هلاقيهم كلهم حواليا وأنا مش عاوز كده .. تاني حاجة ، الدكتور أكد لي إني بتحسن والحالة دي مؤقتة وهتعدي.. 


كتم عاصم ضحكته بصعوبة، و أومأ وقال :

ـ أتمنى ! رغم إني أتمنالك كل شر، لكن أتمنى فعلا إنك تقوم منها كويس لأن حسابنا لسه مخلصش، لسه في حاجات كتير أوي عملتها لازم تتحاسب عليها يا سالم .


وأضاف بسخرية لاذعة :

ـ طبعا مبقاش له داعي أقوللك يا باشا ولا بيه .. أنا شايف بعد اللي حصلك تنزل بمستواك شوية وتخلي البساط أحمدي ، إحنا خلاص بقينا أهل .. ولا إنت ناسي إني جوز بنتك ؟! 


رمقه سالم بغضب أشد، وتحفز أكبر ، فتابع عاصم :

ـ لأ من نظرتك تأكدت إنك مش ناسيني، ماهو بصراحة معاك حق .. هو ده وش يتنسي ؟!! 


صمت لبرهة، ثم نهض وأدخل يديه في جيوبه، ليطوف حول السرير بنظراته المتفحصة، متوقفًا عند المعلق الوريدي المتصل بوريد سالم، وقال:

ـ أظن لو حطيت حقنة هوا هنا الموضوع كله هيخلص مش كده ؟! 


ابتلع سالم ريقه بخوف، بينما تابع عاصم بتسلية أكبر وهو ينحني نحو سالم وينظر داخل عينيه وهو يقول:

ـ وممكن أموتك بنفس الطريقة اللي قتلت بيها حازم، إيه رأيك ؟!


ارتسم الفزع في عيني سالم، فضحك عاصم ضحكة كاملة، ثم قال :

ـ متخافش .. أكيد أنا مش تافه للدرجة دي علشان أموتك بالطريقة بتاعة الهواة دي، ما هو الأسطورة سالم مرسال مينفعش ينتهي بسهولة كده ! لازم تموت موتة مميزة تليق بتاريخك الإجرامي الغير مشرّف .. ولا إيه ؟! 


بدأ جسد سالم يتشنج، وتسرّعت نبضات قلبه، فيما ارتفع صوت جهاز المراقبة مصدرًا تحذيراته، فمال عاصم نحوه وقال باختصار:

ـ اهدا .. مش عاوزك تخاف من حاجة، إنت هنا في أمان، بس قبل ما امشي عاوز أقولّك اوعى تنساني.. أنا بالذات مينفعش تنساني.. لأن عاصم الدالي هيكون كابوسك من هنا ورايح يا سالم يا مرسال.


غادر عاصم الغرفة بحذر، بينما اندفع الأطباء نحو سالم ليفحصوه على الفور.


انبسطت تفاصيل المشهد على جسد سالم كما لو أن الموت اقترب ليغلق كل الأبواب أمامه؛ قلبه توقف لوهلة قصيرة، نبضاته تجمدت، والبرودة اجتاحت أطرافه؛  فاندفع الأطباء نحو سريره بسرعة البرق، وتحركت أيديهم بحرفية ليقومون بإنعاشه على الفور .


 وكل ثانية كانت كأنها معركة بين الحياة والموت. وبعد جهد متواصل، عاد قلبه ليخفق بانتظام، لكن عينيه أخذتا تلمعان برهبة مرعبة، وكل خفقة من قلبه الذي عاد للحياة للتو أصبحت تذكيرًا بأنه قريب جدًا من فقدان كل شيء، وأن هشاشة الإنسان أمام قدره لا يمكن التهرب منها، وأن كل محاولة للسيطرة على المصير هي مجرد وهم زائل أمام جبروت الزمن الذي يفرض نفسه بلا رحمة.


༺═────────────────═༻


بمجرد وصول رسالة عمر، ارتجف قلب فريد شوقًا لرؤية أخواته بعد طول غياب، وكأن كل لحظة انتظار تضاعفت حدتها في صدره.


بعد أن أتم استعداداته، خرج من المنزل، فتح باب سيارته، وركب خلف عجلة القيادة، وأدار المحرك، ثم توقف فجأة، وأوقف المحرك مرة أخرى، قبل أن يترجل ويعود إلى الداخل. أنزل كل اللوحات التي تحمل صور نغم، والتي غمرت جدران المنزل بالكامل، إذ لم يرَ أنه من اللائق أن يكتشف أخوته هوسه بها إلى هذا الحد. وضع جميع اللوحات في غرفة المرسم وأغلقها بالقفل، ثم خرج مرة أخرى، وركب سيارته متجهًا نحو المطار، حيث كانت تنتظره لحظة اللقاء المرتقبة مع من افتقدهم بشدة.


عند وصوله المطار، ترجل من سيارته واقفًا بجانبها، معلنًا عن وجوده حتى يلحظه إخوتُه فور خروجهم من صالة الوصول، بينما كان توتره يشتد في داخله، والوساوس تحاصره، إذ شعر أن هذا اليوم لن يمر مرور الكرام، فقد اعتاد دائمًا أن يكون هناك من يتربص به، مستعدًا لتشويه لحظات فرحه ونجاحه.


وعندما ازدادت حالة القلق عليه، لجأ إلى طريقته المعتادة لطمأنة ذهنه، فخلق موضع ألم د ليصرف تفكيره عن تلك المخاوف في هذا الوقت بالذات.


على الجانب الآخر، هبطت الطائرة في مطار أثينا، وخرج منها كل من نسيم ونغم وعمر، الذي بدا وكأنه يتقدم لأداء مهمة وطنية.


أنهى عمر إجراءات الخروج سريعًا، وحث الخطى نحو بوابة المطار، عينيه تبحثان بلهفة عن فريد، بينما كانت نسيم تشعر أن قلبها يخفق بشدة شوقًا لرؤية أخيها، وخوفًا من لحظة المواجهة الحتمية.


كان عمر يشق صفوف الحشود متعجّلًا، وما إن لمح فريد واقفًا بكامل هيبته ورصانته المعتادة، حتى اندفع نحوه، وعانقه بحماس قبل أن يستوعب فريد الأمر، وهو يهتف بحرارة:

ـ فريــــــــــــــــد… وحشتني يا بروووو !


عانقه فريد بلهفة مماثلة، وشوق صادق يملأ صدره، وفجأة.. شعور بالدهشة اجتاحه حتى كاد الدم يتجمد في عروقه.


لقد كانت هي.. نغم! حقيقة لا خيال، تتقدم نحوه برفقة نسيم، نغم، بلا بديل، بلا وهم.


ارتجف قلبه وكاد يتوقف عن النبض، واختفى العالم من حوله، صار كل شيء ضبابيًا، كأن حواسه الأخرى توقفت، ولم يعد يرى شيئًا سوى وجودها أمامه، واقعًا ملموسًا يملأ كل أركان وجدانه.


كان يظن للحظة أنه غارق في وهم أو حلم يخرجه عن توازنه من شدة شوقه لرؤيتها، لكن كل لحظة اقتربت فيها نغم منه كانت تثبت له الحقيقة .


خاصةً تلك النظرات التي حملت مزيجًا من الدهشة والارتباك والحنين التي صُوبت نحوه فجأة، لم تكن من نسج خياله، بل حقيقة صارخة تهز كيانه. 


شعر بدقات قلبه تتسارع وكأن الزمن توقف من حوله، وكل الأصوات اختفت، وكأن العالم اختزل في عينيها فقط، وفي تلك اللحظة، لم يعد يرى سوى نغم، كأن الكون بأسره تلاشى، ولم يتبقى منه إلا دقات قلبه المرتجفة أمامها، وحرارة شوقه التي امتزجت بخوفه من أن تفلت منه هذه اللحظة التي طال انتظارها.


أما هي، فأسرتها الدهشة فجمّدتها في موضعها، وشلت حركتها تمامًا، ظلت واقفةً تنظر إليه بصمت، وكأنها في حلم لا يُصدَّق. 


غشى الضباب عوالمها، وتلاشت كل المعالم من حولها، وما بقي أمامها سوى عينيه اللتين تقدحان عتابًا و لهفة.


تقدم نحوهما كالمغمور بغيبوبة، لكن خطواته توقفت حين لاحظها تتفحص المكان حولها، محاولةً استيعاب موقعها وما يدور من حولها.


ثم التفتت بنظرات مشوبة بالاتهام نحو عمر ونسيم، ثم صوبت عينيها نحو فريد.


رأى فريد حاجبيها وقد انقبضا من الدهشة، وتلاشت على وجهها ابتسامة كانت قد ارتسمت على شفتيها، ثم سحبت يدها من يد نسيم، ونظرت إليها بحدة، قائلة:

ـ ممكن أفهم إيه اللي بيحصل بالضبط؟


وقفت نسيم تنظر حولها بخزي، عيناها تتجنبان النظر مباشرة لنغم، وكأنها تبحث عن كلمات تصف الموقف لكنها عجزت عن إيجادها.


أما عمر، فقد اقترب منها بلطف وحاول أن يشرح لها الموقف، فبرز صوته منخفضا لكنه حازما:

ـ بصي يا نغم، إحنا مكانش قصدنا نخدعك والله، بس كان لازم ..


ـ كان لازم إيه ؟!


صاحت بها نغم بانفعال والدموع تنهمر من عينيها بغزارة، وتابعت بحدة أكبر :

ـ كان لازم تستغفلوني وتستغبوني مش كده ؟! كان لازم تعملوا عليا التمثيلية دي كلها وتستغلوا جهلي وغبائي وتجيبوني معاكم من بلد لبلد علشان تعملوا اللي انتوا عاوزينه، ومش مهم اللي أنا عاوزاه، مش كده؟


ثم نظرت إلى فريد بحدة، وصرخت في وجهه بانفعال مقهور :

ـ إنت اللي قلت لهم يعملوا كده ، صح ؟! 


تنهد فريد ولم يجب، بينما تحدثت نسيم مسرعةً :

ـ لا والله .. فريد اتفاجيء زيه زيك بوجودك هنا ، أنا وعمر اللي خططنا لكل ده من غير ما نعرف حد .


نظرت إليها نغم نظرة يفوح منها معنى الخذلان، ثم تساءلت بانكسار :

ـ ليه يا نسيم ؟! عملتي كده ليه ؟! 


تهدلت ملامح نسيم بخزي، وتهدج صوتها خافتًا :

ـ أنا آسفة والله يا نغم ، كان قصدي أساعدكم .


لكن نغم عادت وصاحت بانفعال أشد :

ـ تساعدينا ؟! ومين اللي كان طلب منك مساعدة أصلا !! انتوا عملتوا كده علشان تساعدوا أخوكم.. لكن محدش فيكم فكر فيا ولو للحظة .. !


امتلأ قلب فريد بالقهر، فاقترب خطوة، وحاول تهدئتها :

ـ نغم .. 


ـ انت بالذات متتكلمش معايا .. !


ألقتها في وجهه بحدة، فأومأ موافقا بمنتهى الهدوء والثبات، وقال :

ـ حاضر .. بس من فضلك خلينا نكمل كلامنا في البيت لأن الناس بتتفرج علينا !


ـ بيت !! إنتوا فاكرين إني هاجي معاكم في أي مكان أصلا ؟!! أنا هرجع مصر النهارده.. 


تحركت، لكنه أسرع إليها وأمسك بيدها محاولًا كبح اندفاعها، لكنها فلتت يده بعنف، وصرخت بأقصى درجات الانهيار، قائلة:

ـ متلمسنيش لو سمحت !!! قولتلك إنت بالذات متتكلمش معايا !


ليجيبها بانفعال أشد، هاتفًا بحدة أعلى :

ـ ماشي مش هتكلم معاكي.. بس أفهم انتي رايحة فين ؟


ـ رايحة في ستين داهية ! 


قالتها بصوتٍ مرتجف، وتابعت :

ـ مش عاوزة أتكلم مع حد منكم لو سمحتوا سيبوني في حالي .. ! 


اندفعت في طريقها لا تعلم أي طريق تسلك ، تسير والدموع تغشي عينيها، بينما لحق بها عمر، يناديها محاولا أن يستوقفها، وهو يقول :

ـ نغم..  نغم لو سمحتي اقفي وكلميني.. 


لكنها لم تعره اهتماما، فهي لم تسمعه من الأساس حيث أن صوت بكاؤها في تلك اللحظة قد طغى على كل شيء آخر .


ـ نغم أنا آسف، لو في حد يستاهل تزعلي منه يبقى أنا ، فريد ملوش ذنب والله .


التفتت إليه بحدة، ونظرت إليه بغضب وقالت:

ـ مش فارقة أزعل من مين، أنا غلطانة أصلا إني وثقت في عيل زيك !


همّت لتعبر الشارع، فاندفع نحوها من جديد، وبينما ركض ليلحق بها انزلقت قدمه فجأة عند حافة الرصيف عند زاوية المنعطف، وفقد توازنه للحظة قبل أن يسقط أرضًا.


هرع كل من نسيم وفريد إليه، فيما هو يصرخ متألماً، فتوقفت نغم، ونظرت لتجدهم يحيطون به، ما أجبرها على التوقف دون حركة، وقد غشيها صمت مرير ودهشة من المشهد المفاجئ أمامها.


نظر فريد إليه، وقال بقلق :

ـ حاسس بحاجة؟ نروح مستشفى ؟ 


فأجابه عمر وهو يمسك بكاحله بألم ويقول:

ـ مش عارف ، حاسس بوجع شديد ! أااه… مش قادر أحركها ، أنا اتشليت ولا إيه يا فريد ! شكلي اتشليت والله !


ونظر إلى نغم التي تراقب ذلك المشهد الهزلي عن بعد، وقال : 

ـ أنا اتشليت يا نغم .. شايفة ربنا جابلك حقك بسرعة إزاي ! أنا اتشليـــــــــت .. مش هقدر أمشي على رجليا من تاني.. رضيت بحكمك يا رب .


نظر إليه فريد بعصبية وصاح غاضبًا :

ـ اسكت شوية بقا وترتني يا أخي ! 


ـ أنا اتشليت يا فريد !


ـ اتشليت إيه يابني إنت كل الحكاية رجليك اتلوت !


ـ بجد ! أومال أنا مش عارف أحركها ليه ؟ 


نظر إليه كابحًا غضبه، ثم قال :

ـ اسكت .. اسكت خالص .


حمله فريد على الفور، ثم سار نحو سيارته ووضعه بالمقعد الأمامي، ثم نظر إلى نغم التي لازالت تتابع ذلك المشهد بلا تعليق، وقال :

ـ يلا يا نغم ..


ـ يلا على فين ؟! أنا مش جاية معاك في مكان!


أغمض عينيه بغضب ونفاذ صبر، ثم صاح والدم يغلي بعروقه :

ـ يلا يا نغم بقوللك .


تقدمت على مضض من السيارة، استقلت المقعد الخلفي المجاور لنسيم، ومن ثم انطلق فريد على الفور نحو المشفى .


༺═────────────────═༻.


توقفوا أمام بوابة المستشفى، وترجل فريد بسرعة وهو يشير لأفراد طاقم الطوارئ لكي ينقلوا عمر على الفور إلى الداخل، بينما نسيم تتبعه بخطوات قلقة، أما نغم فظلت بالسيارة .


دخلوا إلى قسم الطوارئ على عجل، وهرع الطاقم الطبي لاستقبالهم فور رؤيتهم، وأخذوا عمر إلى غرفة الكشف، بينما وقف فريد ونسيم عند المدخل مترقبين.


قام الطبيب بفحص منطقة الكاحل بعناية، ثم أجرى الأشعة اللازمة، وبعد لحظات أطل على الجميع بوجه جاد وقال بالإنجليزية:

ـ الحالة عبارة عن التواء بسيط في الكاحل، لكن يحتاج لتثبيت جيد لمدة أسبوع على الأقل، وتجنب أي مجهود قد يزيد الألم أو يفاقم الإصابة.


تنفس عمر بصعوبة، وأخذ يمسك بكاحله بحذر، بينما نظر إلى الطبيب وتساءل :

ـ دكتور، من فضلك كن صريحًا معي، هل تعرضت للشلل أو ما شابه ؟


نظر إليه الطبيب باسمًا، ثم قال بضحكة لم يستطع كبحها :

ـ لا، أبدًا، الأمر أبسط بكثير مما تظن … مجرد التواء بسيط.. كل شيء سيكون على ما يرام.


تنهد عمر براحة، بينما تابع الطبيب:

ـ حالا سيقومون بعمل جبيرة خفيفة لتثبيت الكاحل، وسنقوم بفحصك بعد أسبوع لنرى ما إذا كانت حالة الكاحل أصبحت أفضل أم سنحتاج لتثبيته فترة أطول .


أومأوا ثلاثتهم براحة نسبية، وانصرف الطبيب، ثم نظر فريد إلى نسيم وقال :

ـ روحي انتي يا نسيم على العربية .. 


ونظر إلى عمر وأشهر سبابته بوجهه محذرًا، وقال :

ـ وانت .. حسابي معاك بعدين .


ـ فريد .. أنا ..


ولكن فريد قاطعه، قائلا :

ـ بعدين يا عمر .


أخرج هاتفه وأجرى اتصالا ضروريًا بسيلين ليسألها عن آخر ترتيبات الحفل، ثم اتصالاتٍ عدة ببعض المدعوين، ومن ثم قام بالاتصال بنادر الذي كان من المفترض أن يصل إلى أثينا من ساعة تقريبًا، ليخبره أنه اضطر لظروفٍ ما تأجيل رحلته للسابعة مساءًا، وأنه سيصل على الحفلة مباشرةً.


عادت نسيم إلى السيارة، لتجد نغم لازالت تجلس بمكانها، تعقد ذراعيها أمام صدرها بثباتٍ واهٍ، وتنظر من النافذة المجاورة بصمت.


جلست نسيم بجوارها، وتنهدت بهدوء قبل أن تقول :

ـ نغم.. أنا آسفة .


أغمضت نغم عينيها بهدوء، فتسللت تلك العبرات المختبئة خلف جفنيها إلى خديها ببطء، بينما تابعت نسيم :

ـ عارفة إنك مش طيقاني حاليًا، بس صدقيني كان كل همنا إننا نعمل حاجة تقربكم من بعض .


التفتت إليها نغم بحدة، وبعد أن طالعتها بضيق قالت:

ـ ليه ؟! هو أنا كنت طلبت منك مساعدة ؟! بطلي تتحججي وتقولي إنك عملتي كده علشاني يا نسيم، انتوا عملتوا كده علشان خاطر فريد وبس.. كان كل همك انتي وعمر تساعدوا أخوكم، ومش مهم نغم بقا هي يعني هتعمل إيه .. نجيبها و نوديها من بلد لبلد ونعمل عليها فيلم طويل عريض ونكدب كدبة ملهاش آخر وفي الآخر المبرر موجود ومقنع .


ثم هتفت بانفعال، فخرج صوتها مرتجفًا :

ـ مش مهم نغم عاوزة كده ولا لأ ، مش مهم هي أصلا مستعدة للحظة زي دي ولا لأ .. مش مهم رد فعلها هيكون عامل إزاي ، عادي.. كل حاجه بالنسبة لها عادي وتعدي ونضحك عليها بكلمتين والدنيا تمشي، أهم حاجة أخوكم يكون مبسوط .


تنهدت نسيم وأطرقت برأسها أرضًا، تقر بالندم وتعترف بالذنب، بينما الأخرى تتابع بلومٍ حاد كالسيف :

ـ حصل خير يا نسيم ، بس كان نفسي متبقيش على الأقل انتي كمان أنانية بالشكل ده .


كانت نسيم تدرك موقفها تمامًا، وتعي صدق شعورها، فتتفهمه بكل جوارحها، مُقِرة لها بالحق في كل ما شعرت به، وكأن قلبها يشاطرها كل نبضة من شعورها بالألم والخذلان.


التزمتا صمتًا، لم يخلُ من نحيب نغم المتقطع، التي شعرت أنه ما إن وقع بصرها عليه حتى انتعشت جراحها القديمة، كأن كل ألمٍ دفين عاد ليطرق قلبها من جديد.


وبينما هي تنظر من النافذة، رأت فريد يغادر المشفى وهو يسند عمر الذي يتكيء إلى عصا طبية ، ويقتربان من السيارة ، فأشاحت بوجهها لئلا تتلاقى أعينهما فتنفضح الأشواق وتبوح عينيها بما يخفيه قلبها من لوعةٍ واحتياج؛ فهي تعرف أنه دائمًا ما يطّلع على قلبها كالكتاب المفتوح، فيكتشف ما تخفيه بين طيات الصمت وما يختلج في أعماقها دون الحاجة للإفصاح عنه .


ساعد فريد عمر ليستقل السيارة، ثم اتخذ مكانه خلف المقود، وانطلق بهم سريعًا في طريقه نحو المنزل وهو يشكر وسواسه القهري الذي ألّح عليه بنزع صورها من على جدران المنزل وتخبأتها، وإلا كان سيبدو كالمجذوب من وجهة نظرهم، حتى أنه كان من الممكن أن يلقبونه بمجنون نغم .


༺═────────────────═༻


وصلوا بعد نصف ساعة تقريبًا إلى منزل فريد، وبالرغم من إصرار نغم على موقفها على ألا تبقى برفقتهم، ولكنها أذعنت في النهاية وترجلت من السيارة على مضض .


كان هو يقف بجوار بابه، فوقفت، ترمقه بعينين متردّدتين، تكافح لئلا تطلّ النظرات الملتاعة منهما، لئلا تقطر عيناها شوقًا واحتياجًا، لكنها سرعان ما تخونها عينيها وتستسلم للحظة، فتلتقي بعينيه، لتجده ينظر إليها بطريقة تُشعل في قلبها رغبةً جامحة في الركض إليه واحتضانه، وتتركها على حافة الانهيار فتنفجر بين ذراعيه ببكاءٍ يمحو كل ما قلبها من آلام .


ارتجفت شفتاها، وارتفع صوت أنفاسها في صمتٍ مكتوم، كأن قلبها يريد أن يصرخ باسمه، لكن عقلها يقاوم. كل مرة تلتقي فيها عيناه بعينيها، تشعر بأن الأرض تتلاشى من تحت قدميها، وأن كل ما حولها يذوب في ظل حضوره، فتتمنى لو يمكنها الهروب من شعورها أو التوقف عن النظر إليه كالمحروم هكذا، لكنها عاجزة، عاجزة تمامًا .


أما هو، فلم يكن حاله أفضل منها، فكل ما أراده في تلك اللحظة أن يجذبها إليه، ليحتجزها ها هنا بالتحديد… بين ذراعيه، أن يضمها بقوة، ليشعر بوجودها قربه، لكي يثبت لقلبه بما لا يدع مجالا للشك أو الالتباس، أن معذبة روحه ومهلكة فؤاده، ها هي أمامه بكل تأكيد، وأنه لا يتوهم أو يظن .


ظل يحدق فيها بصمت، سامحًا لعينيه أن تنهل من نعيم رؤيتها بعد أن أضناها الشوق أيامًا وأسابيعًا طوال، متأملاً ملامحها التي طالما نسجت في ذاكرته كلوحة نادرة، سامحًا لقلبه أن يغوص في بحورها العميقة، يسترق كل تفصيلة كمن يفتش عن منارة في ظلمة روحه، يلتقط كل ارتعاشة، كل بريق في عينيها، كأن النظر إليها وحده يحيي ذكريات مشتعلة بالشوق والحنين، ويكشف عن الهوة العميقة بين ما يشعر به وما يستطيع قوله.


ولما طال صمتهما، اضطر أن يقطعه عمر، الذي قال:

ـ فريد ، تعالى ساعدني !


التفت فريد إليه بغيظٍ مكتوم، فقد كان التواصل البصري بينهما كلحظة مسحورة من الشوق واللوعة، ولكن سرعان ما انقطع هذا الاتصال اللعين، فوجدت نغم نفسها تتهرب منه، كأنما غيبها سحر اللحظة، بينما كان صوت عمر المزعج هو الذي أيقظها من غفلة شعورها، وأعادها فجأة إلى الواقع الملموس.


خطت نحو المنزل لتدخل، لكن مشهد الواجهة أسرع إلى ذهنها، فتذكرتها مباشرة من الصور التي انتشرت لفريد مع سيلين وهما يتعانقان بكل وقاحة.


 ابتلعت غصةً خفية، وحاولت أن تروض أفكارها، أن تطمئن نفسها أنها لن تقضي سوى بضع ساعات هنا، وأنها ستغادر بعد ذلك، عاقدةً العزم على أن تبقى كل الجراح الماضية محجوبة خلف ستار الصمت؛ فلا داعي للنبش في الجراح القديمة، ولا استدعاء الذكريات التي حاولت أن تدفنها في صمت، فكل ما عليها الآن هو التماسك وقبول اللحظة كما هي .


توجه فريد نحو عمر، وساعده على النزول من السيارة، ومن ثم أسنده حتى دخلوا سويًا المنزل، فنظر إليهم فريد وقال بهدوء يناقض ثورة مشاعره :

ـ أهلا بيكم .. البيت نوّر .


ليجيبه عمر وهو يتمدد على الأريكة، بالرغم من أنه يعرف أنه ليس بالتحديد المعني بالأمر :

ـ منور بوجودك يا برو .. 


نظر فريد إلى ساعة معصمه، ثم إليهم وقال :

ـ الساعة دلوقتي ٥ .. الحفلة هتبدأ ٨ ، قدامنا وقت بسيط.. يدوب نطلب الغدا ونبدأ نستعد .


أول من برز صوتها كانت تلك الاستثنائية دومًا وأبدًا، التي أبدت اعتراضها قائلةً :

ـ أنا مش هحضر الحفلة .


نظر الإخوة إلى بعضهم البعض، ثم إليها، فقالت نسيم:

ـ ليه يا حبيبتي ؟


اتسعت عينيها، واتقدت كجمرٍ غاضب، وهتفت :

ـ حبيبتك ؟! انتوا بجد مصدقين نفسكم ؟! مفكرين إن اللي عملتوه ده المفروض يعدي بالساهل كده ولا كإن حاجة حصلت ؟


تنهد كلا من عمر ونسيم بصمت، ولم يجدا ما قد يضيفانه فيخفف من وطأة الذنب الذي يغرق كاهلهما .


بينما نظر إليها فريد، وسألها بنبرة افتقدتها كثيرا ، نبرة حنونة تحمل في طياتها شوقًا مكبوتًا ولهفةً لم يجد لها متنفسًا منذ زمن بعيد .


ـ إيه اللي يرضيكي يا نغم وأنا أعملهولك ؟


أصابت نبرتها قلبه، فقالت وهي تتفادى سهام عينيه :

ـ عايزة أمشي من هنا .


أومأ بهدوء، وقال :

ـ حاضر .. هحجز لك في فندق تقعدي فيه .


ولكنها احتجت من جديد ، فهتفت بانفعال أشد :

ـ انت بتاخدني على قد عقلي ولا إيه إنت كمان ؟! أنا عايزة من البلد كلها، عاوزة أرجع مصر .


فأومأ مجددًا بصبرٍ عميق، امتاز به طيلة المرات التي تعامل معها فيها، كمن يحتضن عاصفة في صمت، محافظًا على هدوءه رغم اضطراب قلبه، وقال :

ـ حاضر .. من فضلك بس اصبري لحد ما الحفلة تعدي على خير وأنا بنفسي هحجزلك وأخليكي تسافري .. خلاص ؟


لانت تقطيبة حاجبيها قليلا، وكأن كلماته هدأت من روعها، وكالعادة، بدا كأنه يمتلك القدرة على احتواء عاصفة غضبها وجنونها، كمن يربت على نار محتدمة لتخفف وهجها دون أن تنطفئ تمامًا.


أومأت أخيرًا بموافقة، ثم عادت فجأة وسألته بنفس الحدة :

ـ بس لو رجعت في كلامك ؟!


لم تحصل منه سوى على نظرة صامتة، ألقاها وهو يخطو من جوارها، فكانت كفيلة بأن تخترق أعماق قلبها وتوقظ فيه أصداء شعورٍ عميق، ثم قال :

ـ أنا عمري ما رجعت في كلامي معاكي .


تركهم وسار نحو غرفته، ولكن بعد أن شتتها وبعثرها ومزقها إلى أشلاء .. 


تلك الرائحة التي ميزته بها دومّا، تسللت إلى قلبها قبل أنفها فأيقظت بداخلها بدلا من العاصفة عواصف ، ولكنها عواصف من شوق، عواصف من حب، عواصف من حنين دفين وولهٍ لا يطاق، جعلت قلبها يخفق بعنف، وتدفق في صدرها دفء لم تهنأ به منذ رحيله، وكأن كل شيء في داخلها قد أصبح حياً من جديد.


༺═────────────────═༻


بعد قليل .. جلسوا سويًا حول مائدة الغداء في صمت، لم يمنعه من أن يختلس النظرات نحوها من فينةٍ لأخرى، يحاول أن يعوض كل لحظة مرت بدونها، وكل ثانية احتاجها فيها ولم يجدها، بينما هي، رغم صمتها الظاهر، شعرت بثقل تلك النظرات يضغط على أعماقها، فيزيد خفقان قلبها، ويثير مشاعر لم تستطع كبحها.


رن جرس الباب ، فنهض مسرعًا، التقط الأغراض التي أحضرها مندوب التوصيل من متجر فخم جدا ذو علامة تجارية رائجة في أثينا، ودخل ثم وقف أمامهم ونظر إليهم وهو يمد نحوهم كل واحد على حدة، مغلفًا أنيقًا من القماش، ويقول باهتمام :

ـ فكرت في إنكم أكيد مش عاملين حسابكم في لبس للحفلة علشان كده حاولت أتصرف ..


ونظر إلى نغم وقال :

ـ يا رب ذوقي يعجبكم .


تناولته منه بصمت، ثم أشاحت بوجهها مجددّا في صمت، فتنهد فريد بيأس، بينما كان عمر يراقبهما، محاولًا كبح ضحكاته وابتساماته، كبحًا شاقًا أثقل على قلبه من مجرد التحكم في النفس .


ـ أعتقد يدوب نجهز !


قالها فريد بحزم وهو ينظر إلى ساعته مجددًا، وقال :

ـ الساعة بقت ٦ .. معانا ساعة نجهز ونتحرك من هنا على ٧ .


ثم نظر إلى عمر، وقال :

ـ اتفضل يا عمر على اوضتي .. ونسيم ونغم هيقعدوا في الاوضة التانية .


لتنظر إليه نغم وتهتف بإصرار :

ـ أنا مش هقعد ، انت وعدتني هترجعني مصر بعد الحفلة!


أومأ بإرهاق وقال :

ـ معاكي حق، نسيت أقول " مؤقتًا " هتقعدي في الاوضة التانية مع نسيم " مؤقتًا " .. حلو كده ؟


أومأت برضا، وتقدمت نحو الطابق العلوي حيث أشار، بينما هو أخذ يمسح على وجهه بقلة حيلة وقد شعر بارتفاع ضغط الدم لديه، فأخذ يتمتم:

ـ يا الله .. يا ولي الصابرين .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كانت نغم تتقدم نحو الغرفة، وعيناها تلتقطان كل تفصيل بدقة، وكل زاوية وكل ركن من أركان البيت يبوح بشخصية ساكنه. فالأثاث المرتّب بشكل متقن، الأشياء المصطفة على الطاولات، النظافة الفائقة، حتى رائحة المكان، كل شيء يشي بهوسه بالنظام، بوسواسه القهري الذي يسيطر على حياته. كان كمن ينسج من كل تفصيل جزءًا من ذاته، متشبثًا بكل شيء حوله، متملصًا من الفوضى، مسيطرًا على أصغر تفاصيل يومه، حتى أن المكان نفسه امتداد لشخصيته المهووسة بالنظام والدقة .


بدأت تستعد، ففتحت ذلك المغلف القماشي، لينسدل منه فستانًا خاطفًا يشبه فستان الأميرات في فخامته ورقته على حد سواء.. يصحبه حذاءًا ذو كعب متوسط بنفس اللون .


لم تشك يومًا في ذوق فريد، ولم يخطر لها أنه قد يخطئ في اختيار شيء يناسبها، لكنها لم تنتبه أبدًا إلى معرفته بلونها المفضل. ها هو الآن قد أحضر لها فستانًا باللون الذهبي الداكن، يشبه أشعة الشمس الغاربة في لحظة هادئة، يحتضن دفء ضوئها ويشع بها إشراقةً ورونقًا، كأن فريد أراد أن يحيطها بهالة من الفخامة والتميز بصمت تام، دون أن ينطق بكلمة واحدة.


كانت نسيم قد انتهت قبلها، وغادرت الغرفة، ثم نزلت إلى الطابق السفلي حتى يتسنى لها مهاتفة عاصم بحرية، قامت بالاتصال به ولكنه لم يجب اتصالاتها المتكررة، فوقفت تتأمل المكان من حولها، فإذ بباب غرفة فريد ينفرج ويظهر فريد متأنقا في حلته السوداء ، وربطة عنقه باللون الذهبي الداكن .


 وما إن رأى نسيم تقف في هدوء ، حتى ابتسم وهو يقترب منها، ومال نحوها، مقبلا جبينها وقال :

ـ إيه الحلاوة دي بس يا نسوم .. وحشتيني جدا يا حبيبتي.


عانقته نسيم بحرارة وقالت :

ـ انت كمان وحشتني يا فريد ، أنا آسفة إني ضايقتك .


تنهد وهو يبتعد، ثم نظر إليها وقال :

ـ المشكلة مش فيا أنا يا نسيم، المشكلة في نغم .. مكانش يصح أبدا اللي عملتوه ده، ومهما عملت ومهما قالت هي معاها حق. 


ـ بس أنا كان كل همي أساعدكم وأقرب بينكم !


ـ وافرضي هي مش عايزة ! هو بالعافية يا نسيم ولا إيه ؟! نغم مش لعبة في ايدينا علشان نتصرف معاها كده ! هي مش طفلة علشان تستخفوا بيها بالشكل ده وتخلوها تسافر من بلد لبلد وهي متعرفش .. مهما كان المبرر إيه بس ده تصرف غير مقبول بالمرة وهيفضل اسمه غش وخداع .


أومأت بتأييد، ثم نظرت إليه وقالت :

ـ معاك حق ، أنا هعتذر لها تاني وإن شاء الله تقبل اعتذاري .


تنهد مطولا، ثم هز رأسه ببطء، وقال:

ـ إن شاء الله .. 


ثم تابع بعتاب أكبر :

ـ وبعدين انتي مش حامل ؟! إزاي توافقي على الهبل ده ؟! يعني إيه تعرضي نفسك للتعب ده وانتي في ظروف زي دي ؟! كان واجب عليكي تفكري بحكمة وعقل أكتر من كده .


هزت رأسها موافقةً، مدركةً صحة ما يقول، لكن حديثهما قُطع بصوت خطوات نغم وهي تنزل، فرفع فريد نظره إليها وكأن سحرًا أحاطه.


رآها تمامًا كما تخيلها حين كان يختار الفستان: ملكة متوجة على عرش قلبه، حورية من نور تجسدت أمام عينيه، كل تفصيلة فيها تشع أناقة وسحرًا، وعينيها تحملان البريق ذاته الذي أسر روحه وأوقد فيه لهفةً لا تنطفيء.


حاولت نغم جاهدة أن تحافظ على تماسكها، فأبعدت بصرها عنهم، وهي مدركة تمامًا أن نظراته الثاقبة ستتبعها بلا شك، وأن أي لقاء عابر بين أعينهما قد يزعزع صلابتها ومن الممكن أن يجعلها تتعثر الآن .


غادر عمر الغرفة في نفس اللحظة، مستندا إلى عصاه، وما إن لمح نغم حتى أطلق صفيرا عفويًا بإعجاب، وهو يقول:

ـ ايه الحلاوة دي!


ولكن نظرة فريد القاتمة هي من أخرسته وجعلته يبتلع كلماته على الفور .


لم تتوقف نغم، بل سارت نحو الباب متجاهلةً إياهم، مما جعل فريد يهز رأسه بيأس من حنقها الفائض الذي وعلى ما يبدو لن يتوقف عند حد .


اتخذ كلا منهم مقعده بالسيارة، ثم انطلق فريد في طريقه نحو الحفل .


༺═────────────────═༻


بعد نصف ساعة من الطريق قضوها في صمت، وصلوا أخيرًا إلى مقر الشركة، حيث كانت أجواء الاحتفال قد بلغت ذروتها. غادروا السيارة، وتلاقت أعين فريد ونغم للحظة، لكنها سرعان ما أزاحت بصرها عنه لتتمالك نفسها.


دخلوا معًا إلى بهو الشركة حيث سيُقام الحفل، وأصبحت الأنظار مسلطة عليهم بلا مجهود. قادهم فريد إلى طاولة مميزة، ثم التفت إلى نغم وكأن حديثه موجه لها رغم كونه عامًا:

ـ هراجع شوية حاجات ضرورية وجاي… عن إذنكم.


لم تبدِ أي تفاعل، وهو بالمقابل لم يكن ينتظر، فقد اعتاد صبره اللانهائي على عنادها المستمر.


توجه فريد بعد ذلك نحو جيرالد الذي كان واقفًا وسط مجموعة من رجال الأعمال، تصافحا متمنيين لبعضهما النجاح، إلا أن جيرالد أصر على لقاء عائلة فريد والترحيب بهم.


اصطحبه فريد إلى الطاولة، وبدأ بتقديمهم:

ـ أقدم لك عائلتي الصغيرة: عمر، نسيم، ونغم.


صافح جيرالد الجميع بابتسامة ودودة، وعندما وصل إلى نغم رمقها بتفحص، ثم قال لفريد وهو يمعن النظر نحو نغم :

ـ هنيئًا لك بعائلتك، لورد فريد، إنها حقًا عائلة فائقة الجمال.


لم يخفى على فريد تلك النبرة المتلاعبة التي يتحدث بها جيرالد وهو ينظر إلى نغم، لكنه قبل أن يرد، اندفعت سيلين نحوه فجأة من حيث لا يدري، أمسكت بمرفقه محاولة سحبه معها قائلة:

ـ فريد، هناك أمر طارئ يحتاج مراجعتك.


توقف فريد بهدوء، فك وثاق قبضتها برفق من حول يده وابتسم ابتسامة عملية لم تصل إلى عينيه، وقال:

ـ جيرالد يمكنه متابعة كل شيء بالنيابة عني، سيلين.


وأشار نحو الطاولة قائلاً:

ـ أنا الآن منشغل بعائلتي.


تصنعت سيلين الدهشة، وكأنها تراهم لأول مرة، رغم ملاحظتها لوجودهم منذ البداية، ورسمت ابتسامة مصطنعة على شفتيها، ثم قالت:

ـ معذرةً، لم ألحظ وجودكم من قبل، أهلاً وسهلاً بكم.


عرفها فريد إليهم من باب اللباقة، وقال ضاغطًا على كلماته لإيصال رسالة مبطنة إلى نغم :

ـ سيلين، المسؤولة عن تنظيم الحفلة…


ثم نظر إلى سيلين وتابع باليونانية، لئلا يفهمه سواها:

ـ أخي عمر، أختي نسيم، وفتاتي الجميلة نغم… حبي الاستثنائي وعشقي الوحيد.


رمقته سيلين بهدوء، لكنها لم تستطع كبح الانفعال الذي شعرت به حينها، وهزت رأسها ببطء وهي تبتسم ابتسامة مقتضبة، ثم استأذنت وانصرفت .


بينما كان عمر يراقبها بعينيه وهي تتمايل كالخيل مبتعدةً، وتمتم بعبث لا مفر منه :

ـ القطع المستوردة غير بردو ..


رمقته نسيم بغضب، بينما ضغط فريد على كتفه بقوة تشي بالتحذير، وقال :

ـ هو إنت مبتحرمش ؟! هيجرالك إيه تاني أكتر من كده أنا مش عارف !


وقبل أن يتمكن عمر من الإجابة، صُدم بدخول چيلان إلى المكان، تتهادى بخطوات واثقة، عارضةً أناقتها وجمالها اللذان سيثيران الجدل لا محالة.


لفتت النظر إلى تفاصيل فستانها الأبيض المصنوع من الساتان، الذي يلتف على جسدها الرشيق، مبرزًا كل منحنى بدقة وأناقة.


ما إن لمحت فريد، حتى اقتربت منه، صافحته ووضعت قبلة خفيفة على خده؛ قبلةٍ واهية في ظاهرها، لكنها كانت كافية لإضرام النيران في قلب نغم، التي شعرت في تلك اللحظة وكأن الكون كله قد تآمر عليها.


ـ فريد .. ألف مبروك، واثقة إنك هتكسر الدنيا نجاح .


ابتسم فريد بارتباك وحانت منه التفاتة سريعة نحو نغم التي كانت ملامحها تشع نفورًا وضيق، ثم ردد بهدوء:

ـ متشكر يا چيچي.. اتفضلي .. 


جلست چيلان إلى جوار عمر، بعد أن حيتهم بابتسامة هادئة مقتضبة، وما إن اكتشفت إصابة عمر حتى هتفت بقلق :

ـ عمر ، إيه اللي جرالك ؟


ليجيبها بضيق لم تفطن لسببه قائلا :

ـ مفيش، بسيطة متقلقيش .


بعد لحظات من الارتباك الذي سببه وصول چيلان، هدأت الأجواء تدريجيًا، وبدأت فعاليات حفل الافتتاح تتخذ مسارها الرسمي. ارتفعت الأضواء، وتوافد الحضور إلى مقاعدهم، فيما تزينت القاعة بإضاءة خافتة معلنة بدء الاحتفال على أتم وجه.


صعد فريد إلى المنصة وسط تصفيق خافت في البداية، سرعان ما تحول إلى تصفيق حار مع تركيز الأنظار عليه، فرفع يده محييًا الحضور، ثم بدأ كلمته بنبرة رسمية واضحة، تتسم بالرصانة والفصاحة:

ـ السيدات والسادة، أيها الحضور الكريم، يسرني أن أرحب بكم جميعًا، أشكركم جميعا لتلبية دعوتنا، كما أتوجه بالشكر إلى عائلتي الجميلة التي شكل حضورها فارقًا كبيرًا بالنسبة لي في هذا اليوم الاستثنائي، يوم افتتاح شركتنا الجديدة، التي لطالما كانت حلمًا وشغفًا يتجسد اليوم بين أيديكم، فلتكن بداية رحلة مليئة بالنجاح والإنجاز، ولتكن هذه اللحظة شاهدة على تعاوننا وإبداعنا المشترك.


صافح فريد جيرالد بحرارة، ثم تقدم الأخير نحو الميكروفون ليخاطب الحضور بنبرة رسمية ودافئة:

ـ أيها السيدات والسادة، أتشرف اليوم بالوقوف أمامكم للاحتفاء بهذه الخطوة المهمة، خطوة تمثل ثمرة جهدٍ وعملٍ دؤوب. إنها لحظة فخر لكل من شارك في هذا المشروع، وفرصة لنبني معًا مستقبلًا مزدهرًا يسوده التعاون والابتكار.. ـ لذا أود أن أخص بالشكر شريكي الرجل الناجح فريد، ولا أنسى أن أخص بالذكر السيدة الجميلة التي كانت سببًا في ظهور هذا الحفل بهذه الروعة، والتي أضفت بوجودها لمسة من الأناقة والبهجة على هذا الحدث، فلتصفقوا لها جميعًا.


  تقدمت سيلين بخطوات واثقة نحو المنصة، تسير بين الضيوف وكأنها تعرف تمامًا كيف تجذب الأنظار، بملامحها المصقولة وابتسامتها المدروسة، ترتدي فستانًا أنيقًا ينسدل بانسيابية على جسدها.


وعندما بلغت منتصف المنصة، قدّمت التحية بيدها لكل من جيرالد وقبّلته، ثم امتدت لتصافح فريد، لكنه تجنّب قبلاتها برزانة وحذر، مسرعًا في تفادي أي تماس مباشر معها.


 توقفت لتتصور معهم، ووضعَت يدها على كتف فريد بشكل شبه تلقائي، وكأنها تحاول إظهار القرب أو الانتماء.. لكن فريد، وبسرعة خاطفة، التفت نحو نغم بنظرة سريعة مليئة بالانتباه والحرص، ليجدها تنظر نحوه بجدية أرعبته؛ فرفع يد سيلين بلطف عن كتفه، مبتعدا عنها بمستفة آمنة، متجنبًا أي إيحاء من سيلين، مؤكدًا ضمنيًا على حدود العلاقة بينهما، وما لنغم من مكانه في قلبه.


بعد قليل ..

مع اختتام مراسم الافتتاح، ومع تصاعد ضجيج الحفل وتجمع الضيوف حول المأكولات والمشروبات، شعر فريد بضغطٍ داخلي لا يطاق، كأن شيئًا ما في الجو من حوله يتوعد سير الأمور نحو الفوضى. 


لم يستطع تجاهل تلك الوساوس المتكررة التي تسيطر على تفكيره، وتحذرُه من أن اليوم لن يمر بسلام.

فقرّر على الفور أنه من الأفضل أن يغادر قبل أن تقع أي كارثة. التفت إلى أخواته، وأومأ لهم بجدية، متجنبًا أي مواجهات أو تأجيلات، فانسحبوا من المكان قبل أن تشتعل أي مشكلات أو أحداث غير مرغوبة، وعاد بهم إلى المنزل وهو يفكر فيما هو قادم وكيف ستمر الأمور في ظل وجود نغم وچيلان في مكان واحد … !


༺═──────────────═༻


#يتبع


تكملة الرواية من هناااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close