رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٣٩ ـ
~ لقد وجدنا الحب ! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ أن عادوا إلى بيت فريد، خيّم على المكان جوّ أشبه بحالة طوارئ غير معلنة؛ كل زاوية في البيت تشهد صمتًا متوتّرًا، وكأن الأنفاس محبوسة في انتظار ما سيحدث بعد قليل .
كانت نغم قد صعدت مباشرة إلى الغرفة، نزعت الفستان واستبدلته بملابسها العادية، ثم وقفت تتأمله لبرهة. راودها خاطر أن تحتفظ به كذكرى ثمينة منه، لكنه سرعان ما تلاشى أمام عناد قلبها، فوضعت الفستان جانبًا وتركت الغرفة بأسى مكتوم.
نزلت إلى الطابق السفلي حيث اجتمع فريد مع عمر ونسيم وچيلان، يتبادلون الحديث حول نشاط الشركة وبعض التفاصيل عن شريكه جيرالد. وما إن وقع بصر فريد عليها حتى اعتدل في مقعده كأن تيارًا كهربائيًا مسّه، عينيه تتابعانها باهتمامٍ شديد وهي تتلفت حولها بحيرة.
لم تجد نغم مفرًا من مواجهته، فالتفتت نحوه أخيرًا وقالت ببرودٍ متعمد:
ـ ممكن كلمة؟
أعطاها انتباهه كاملًا، ونهض فورًا من مكانه مشيرًا إلى الخارج. تبعته إلى الحديقة، ورغم أن الطريق لم يتجاوز بضع خطوات، إلا أنه شعر به طويلًا ممتدًا، وكأن اللحظة ترفض أن تمنحه الوصول إليها سريعًا.
وحين وصلا، توقفت نغم مترددة، عقدت ذراعيها أمام صدرها كدرعٍ يحميها، وهي تدرك تمامًا أنه يلتهمها بنظراته المعتادة؛ تلك النظرات التي تهز ثباتها مهما حاولت الصمود.
كانت تحاول جاهدة أن تُبقي عينيها بعيدة عنه، كأن النظر إليه اعترافٌ لا تملك شجاعته، لكن ثقل الصمت كان يدفعها دفعًا، حتى وجدت نفسها مضطرة لترفع رأسها وتنظر إليه.
لمّا التقت عيناها بعينيه، شعرت كأن الزمن توقّف للحظة؛ قلبها ارتجف، وشفتيها تحركتا ببطء، وكأن كل كلمة ستخرج منها تحتاج لقوة خارقة. نظرتها كانت خليطًا بين تحدٍ هشّ واستسلام مرير، كأنها تخبره أنها رغمًا عنها تواجهه من جديد.
ابتلعت ريقها بصعوبة، وأجبرت صوتها على الخروج، لكنه خرج خافتًا مرتجفًا :
ـ ممكن أعرف عملت إيه في موضوع الحجز ؟
خابت آماله، وانكسر بريق الترقب في عينيه. إذ لم يسمع منها ما كان ينتظره، فتراجعت لهفته، فتريث قليلا، ووضع يديه بجيبي سرواله، ثم تنهد وقال :
ـ أنا شايف إنه من الأفضل تستني بكره ..
رمقته بنظرة حادة، وكأنها سهم نافذ اخترق صدره، وردت بغضب مكبوت، وعناد ظاهر :
ـ وأنا شايفه إنه من الأفضل أمشي في أقرب فرصة .
لم يشأ أن يثير غضبها أكثر، فزفر بهدوء وقال :
ـ هتمشي، أكيد مش هنحبسك هنا يعني .
فأشاحت بوجهها جانبًا ، وهي تتمتم بنزق :
ـ ماهو ده اللي ناقص .
تنهد بيأس، ثم تابع محاولا أن يتحلى بالهدوء :
ـ في حاجات مينفعش فيها عِند ، مش هينفع تسافري لوحدك.. ده غير إني صعب جدا ألاقي رحلة دلوقتي فكده كده هتضطري تستني للصبح، يبقى اصبري يومين نرجع كلنا سوا .
نظرت إليه بحدة، وهتفت بانفعال :
ـ وأنا مالي ومالكم؟ انتوا اخوات في بعض، ترجعوا بعد يومين ولا بعد شهرين أنا إيه اللي يخليني أستنى هنا !
مسح على وجهه بنفاذ صبر، ومرر إصبعيه على جسر أنفه بإرهاق واضح جعلها تتراجع عن حدتها وجدالها، بينما هو تنهد وهو يوميء ويقول :
ـ حاضر يا نغم .. اللي تشوفيه ، هحجز لك على أول رحلة لمصر .. كده كويس ؟
طالعته بصمت، ثم أومأت موافقةً وهمّت بالانسحاب، لكنه استوقفها إذ قال:
ـ استني يا نغم ..
ما إن ناداها بصوته العميق حتى تجمدت في مكانها للحظة، قلبها ارتجف بلا إذن منها، وجسدها كله ارتبك بين رغبة في التوقف، ورغبة أعنف في الهروب .
نظرت إليه فوجدت عينيه معلقتين بها، كانتا تحملان رجاءً مكتومًا، واشتياقًا فياضًا .
في عمق نظرته ترسب ألمٌ دفين، وحنين يتوسل إليها ألا تتجاهله..
ساد الصمت لقليل، ورغم أن عقله كان يصرخ بداخله بأن هذه هي اللحظة التي طالما انتظرها، اللحظة التي كان ينبغي أن يفتح فيها قلبه ويقول كل ما احتشد في صدره من كلمات، إلا أنه وجد نفسه عاجزًا عن النطق. تلاشت كل العبارات التي أعدها مرارًا، تاهت المعاني وضاعت الحروف، ولم يتبقَ له سوى نظراته. كان يحدّق فيها وكأنه يحاول أن يعوض بعينيه كل غيابها عنه، يتأمل ملامحها بولهٍ واشتياق، كأن كل ثانية يراها فيها تمحو أيامًا من البعد والحرمان.
وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، لا هو قادر على التقدم بكلمة، ولا هو راغب في قطع سحر اللحظة. عيناه تجولت ببطء عليها، كأنهما تلتقطان تفاصيلها واحدةً تلو الأخرى: ارتجافة رموشها، انحناءة شفتيها، التوتر الخفي في وقفتها، وحتى ارتعاشة أنفاسها. كان يلتهمها بعينيه، وكأنهما لم ترياها منذ دهرٍ طويل، أو كأنهما تخشى أن تغيب عنه ثانية.
لم يعد يملك من اللغة سوى لغة العيون، يكتب بها اعترافاته، ينطق بها أشواقه، يرسل إليها رجاءً صامتًا أن تبقى. أن تتخلى عن ذلك العناد ولو لمرة .
وبينما هو يتفحصها باشتياقٍ صامت، أتاه اتصال من جيرالد، فأجاب مسرعًا خوفًا من أن يكون مكروهًا قد حدث، ولكن صوت جيرالد المنفتح براحة أخبره أن الأمور تسير على ما يرام.
لم تلتفت إليه وتصنّعت اللامبالاة، وكأن وجوده لا يعنيها، بينما في الحقيقة كانت كل حواسها مشدودة نحوه. تقف متجهمة، تنظر حولها متظاهرة بالانشغال، لكنها ترهف السمع، تلتقط كلماته كلمةً كلمة، وتحاول أن تفك شيفرات نبراته: مع مَن يتحدث؟ وماذا يقول؟
لكن فريد، بعينيه المعتادتين على قراءة تفاصيلها الصغيرة، كان يراقبها من طرف خفي. وابتسامته الخفيفة لم تكن سوى علامة على أنه كشف لعبتها؛ فهو يعرف جيدًا أن كل هذا البرود المصطنع ليس إلا ستارًا هشًّا، وأن أذنها معلّقة بكل حرف يخرج من فمه.
لم يفضحها، ولم يعلّق، بل تركها تغرق في ظنها أنها تُخفي ما تشعر به، بينما هو يستمتع بصمتٍ لذيذ، كأنها تعترف له دون كلام بأنها لا تزال أسيرة اهتمامها به.
أنهى الاتصال، ثم نظر إليها وقال :
ـ ده جيرالد .
فنظرت إليه ونطقت وهي ترفع كتفيها بلا اكتراث :
ـ وأنا مطلبتش أعرف هو مين !
قالتها وتركته ودخلت إلى المنزل، فوجدت كلا من نسيم وعمر وچيلان ينظرون إليها بترقب، فذهبت إلى زاوية بعيدة، وجلست أمام النافذة الكبيرة التي تطل على الحديقة مباشرةً وظلت تنظر نحوها بشرود.
كانت في تلك اللحظة كأنها خرجت من إطار الحياة ودخلت في فراغ بارد، بلا صوت ولا لون. جلست أمام النافذة الكبيرة، والحديقة أمامها تمتد في صمتٍ كأنها مرآة لما بداخلها؛ كل شيء ساكن، وكل شيء خاوٍ.
شعرت وكأن العالم كله يقع على كتفيها، إحباط يضغط صدرها حتى يخنق أنفاسها، وفقدان شغف يطفئ حتى أبسط الرغبات في الحركة أو الكلام. كانت عيناها معلقتين بنقطة بعيدة في الأفق لكنها لا تراها؛ نظرة زجاجية، ميتة، تفضح إحساسًا عميقًا باليأس، وكأنها تتمنى أن يبتلعها هذا الفراغ، أن تتلاشى من الكون كله لتريح قلبها المنهك من الألم.
أما فريد، بالرغم من أنه في تلك اللحظة كان يشعر ببركان يغلي في صدره؛ كأن الغيظ يلتهم أنفاسه، حتى إنه تمنى لو وجد جدارًا قريبًا يدق رأسه فيه ليفرغ ما بداخله. ومع ذلك، تمالك نفسه، واكتفى بتنهيدة مطولة يخفي وراءها كل ما يعتمل داخله من غضبٍ وغيظ، وكأنه يحارب نفسه كي لا ينفجر في وجهها ويحاسبها على كل أخطائها منذ البداية وحتى الآن.
عاد للداخل بهدوء فوقعت عيناه عليها تجلس منفردة، بينما عمر ونسيم وچيلان يجلسون سويًا بصمت.. نسيم تتحرك في مقعدها بتوتر، وعمر يراقب الأجواء بتوتر أشد، أما چيلان فتتابع شيئا ما بهاتفها بانشغال.
إلى أن تحدث فريد بهدوء وقال :
ـ تحبوا نطلب عشا ولا نخرج نتعشى بره ؟
نظرت إليه نسيم وقالت:
ـ أنا عن نفسي مش هتعشى لا هنا ولا بره .. أنا طالعة أنام .
بينما نظر إليه عمر، ثم إلى چيلان وقال:
ـ إيه رأيك يا چيچي ؟
رفعت چيلان عينيها عن الهاتف، ثم قالت:
ـ أنا مش هقدر دلوقتي، بس كنت عاوزاك توصلني بعربيتك لحد " كولوناكي " في صديقة ليا عايشة هناك وحابة أقابلها قبل ما أرجع مصر .
أومأ موافقًا ، وبالرغم من أنه لم ينظر إلى نغم ولكنه على يقين لا يخطيء أنها الآن تنظر إليه والغيرة تأكلها في صمت .. إلى أن سألها عمر باهتمام :
ـ وانتي يا نغم ؟! تحبي تتعشي هنا ولا بره ؟
توقع فريد أنها ستجيب عمر بنفس حدتها وعنادها معه، ولكنها نظرت نحوهم بهدوء يعكس فقدانها طاقتها على الجدال، وقالت :
ـ شكرا .. مش عايزة .
صعدت چيلان إلى الغرفة بالطابق العلوي لتلتقط حقيبتها، بينما نهض فريد، وتقدم من نغم، ثم وقف أمامها ينتظرها أن ترفع عينيها وتنظر إليه ولكنها ظلت تنظر أمامها بشرود .. فاجتذبها من شرودها حين قال :
ـ ليه مش عاوزة تتعشي ؟
رفعت عينيها الغاضبتين نحوه وأجابته بحدة :
ـ علشان مليش نفس .
وعلى الرغم من حدّة كلماتها، بدا له المشهد مختلفًا تمامًا؛ كانت أشبه بطفلة صغيرة تتدلل بعنادها، لا بامرأة غاضبة. ذلك البريق المشتعل في عينيها لم يُخيفه بقدر ما أذاب شيئًا في داخله، وجعل صبره يتضاعف. رأى في حدة ملامحها لمحةً بريئة، ورقةً تحاول إخفاءها خلف قناع الغضب، فأدرك أن كل ما فيها ما زال يخصه، حتى عنادها.
لفت انتباهها نزول چيلان الدرج، فنظرت نحوها ثم نحوه بحنق فشلت في إخفائه، وقالت بنبرة مفعمة بالضيق :
ـ يلا يلا.. روح وصلها .
حينها لم يفلح في إخفاء ابتسامته التي تسللت إلى شفتيه عنوةً، وانسحب وهو يهز رأسه في صمت، ثم نظر إلى نسيم وقال بخفوت قبل أن يخرج :
ـ خليكي مع نغم لحد ما أرجع ، مش هتأخر .
أومأت بموافقة، فربت على ذراعها بابتسامة قصيرة، وخرج من المنزل رفقة چيلان ، بينما عينا نغم ترصد خطواتهما من خلف النافذة المطلة على الحديقة ، إلى أن ركبا السيارة سويًا وغادرا .
كانت تشعر بالغضب يفتك بها، ونظرت إلى عمر ونسيم بحدة وغضب، وتقدمت منهما وهي لا زالت تطالعهما على نفس النحو حتى بدا لهما أنها ستخوض معهما نزالا قويًا، فمال عمر يتحسس كاحلهُ المصاب، وهو يتأوه ويقول :
ـ آااه .. رجليا مش قادر .
رمقته بضيق شديد ، ثم زفرت بانفعال وأشهرت سبابتها في وجهيهما وقالت :
ـ انتوا الاتنين .. زي ما جبتوني هنا هترجعوني .. إزاي معرفش ، بس زي ما كان ليكم حيلة تجيبوني بيها، أكيد هتعرفوا تتصرفوا وترجعوني ..
نظرت نسيم إليها وقالت بهدوء :
ـ متقلقيش يا نغم إحنا هنرجع كلنا بعد يومين .. بكرة جيرالد عازمنا مع فريد على فرح قريبه ، فهنحضر الفرح ونمشي السبت .
نظرت إليها نغم بعصبية وهتفت :
ـ فرح إيه وزفت إيه .. أنا مالي أنا بكل ده ! أنا مش قادرة أقعد هنا انتوا ليه مش عاوزين تفهموني !
تهدل كتفيها فيما يشبه الهزيمة، وامتلأت عينيها بدموعٍ خانقة وهي تستطرد :
ـ أنا مش عاوزة أفضل معاه في مكان واحد ، أنا كل ما ببص له أو بيبص لي ببقا نفسي أموت من كتر ما أنا جوايا قهر محدش حاسس بيه غيري أنا وبس .. لا انت ولا هي حاسين ، ولا هو كمان حاسس.. حرام عليكم انتوا بتعذبوني وبتضغطوا عليا أكتر ما أنا مضغوطة ..
أطرق عمر برأسه أرضًا بندم، بينما سالت دمعات نسيم على تلك الحالة التي وصلت إليها نغم بسببهما ..
ـ هو انتوا جبتوني هنا على أساس إيه ؟! على أساس أنا وهو أول ما نشوف بعض هناخد بعض بالأحضان مثلا والمشكلة اتحلت ؟! انتوا ليه مش قادرين تفهموا إن المشكله أكبر من كده بكتير .. إنتوا بتصعبوها عليا ليه !
نظر إليها عمر وقال :
ـ أنا آسف يا نغم والله .. حقك عليا سامحيني .
نظرت إليه وقالت برجاء أخير :
ـ لو سمحت يا عمر .. لو عاوزني أسامحك بجد وأفضل أعتبرك أخ ليا فعلا ساعدني أمشي من هنا في أقرب وقت ، أنا وفريد مبقاش ينفع يكون بينا أي حاجه..
ثم فاضت كلماتها بحنق وغيره لم تستطع كبحها :
ـ أساسا هو ماشاء الله عليه مش ملاحق .. فالموضوع مش فارق معاه سواء نرجع أو لأ .
حاولت نسيم أن تتدخل بكلمة، ولكن نغم قاطعتها حين قالت:
ـ نسيم .. انتي عارفة إن أي كلام هيتقال زي عدمه ..
ثم وجهت نظراتها نحوهما من جديد وقالت :
ـ فريد عمال يماطل علشان أفضل وأنا بصراحة معنديش أمل فيه إنه يساعدني.. بس انتوا هتساعدوني.. وزي ما ضحكتوا عليا وجبتوني هنا هترجعوني .. اتفقنا ؟
أومأ كلاهما بصمت، قبل أن تدير لهما ظهرها وتصعد إلى الطابق العلوي، فنظر عمر إلى نسيم وقد نفد صبره وقال:
ـ هي نغم دي بتخاف تشغل مخها أحسن يسحب كهربا كتير ولا إيه مش فاهم ! يعني هي بنفسها بتقول إنه فريد عمال يماطل علشان تفضل هنا ، مسألتش نفسها بقا ليه ؟! يعني عايزها تفضل ليه ؟! سؤال مش محتاج عبقرية.. هيكون عاوزها تفضل ليه ؟! ماهو أكيد عشان بيحبها !!
وزفر بيأس وعاد ينظر أمامه من جديد، يحاول أن يبحث عن مخرج لتلك الأزمة، بينما نسيم كانت تعرف تمامًا أن نغم لا تفعل كل ذلك إلا لأنها مجروحة من الأعماق؛ تشعر أنها ضعيفة ووحيدة، وأنها أقل من أن تُحَبّ بهذا القدر. كانت تدرك أن عنادها ليس إلا درعًا هشًا تخفي وراءه خوفها من أن يُكسَر قلبها مرة أخرى، وأن كلماتها الجارحة ما هي إلا محاولة بائسة لتقنع نفسها قبل الآخرين أنها قادرة على الاستغناء، بينما الحقيقة أنها تتنفس به ولا تطيق البعد عنه لحظة.
ـ أنا جاتلي فكرة يا عمر ..
نظر إليها عمر باهتمام فاعتدلت، ونظرت إليه بهدوء وقالت بنبرة متماسكة رغم القلق الذي يسكنها:
ـ إحنا لازم نخلي فريد يتكلم بمزاجه أو غصب عنه ، لو نغم رجعت مصر قبل ما يتكلموا ويتواجهوا يبقى مش هنعرف نجمعهم ببعض من تاني.. ومين عارف، يمكن سالم مرسال يتدخل مرة تانية ويسيطر عليها من جديد، علشان كده فرصتهم الوحيدة إنهم يتكلموا هنا ..
ارتفع حاجباه بدهشة وهو يميل برأسه قليلًا نحوها متسائلًا:
ـ طب إزاي ؟! ما انتي شايفة أهو مفيش فرصة ..
زفرت بعناد، ثم شبكت يديها معًا فوق حجرها وقالت بصلابة:
ـ نخلق إحنا الفرصة دي .
قالتها بإصرار، فتنهد وهو يمرر كفه فوق جبينه بتوتر، قبل أن يجيب بتردد:
ـ طيب هنعمل إيه وهي اصلا مش راضية تديله فرصه وتسمعه!
عقدت حاجبيها مفكرة، وعيناها تتوهان في الفراغ قبل أن ترد بجدية:
ـ فريد لازم يتحرك ويتكلم معاها سواء سمحت أو لأ ، لأن طول ما هو مش عاوز يضغط عليها وسايبها تهدى عشان يعرف يكلمها هي مش هتهدى ولا هيتكلموا .
لوى فمه في حيرة، ثم قال ببطء وهو يهز رأسه:
ـ بردو مش عارف ، نعمل ٱيه ؟
ظلت شاردة لبرهة تبحث في ذهنها، حتى اتسعت عيناها فجأة وهتفت بحماس مشوب بالدهشة:
ـ زي ما كدبنا على نغم وجبناها هنا ، هنكدب على فريد ونألف حدوتة نجبره بيها إنه يتكلم معاها بأي شكل .
ارتسمت على وجهه علامات استغراب حذر وهو يحدّق بها:
ـ مش فاهم .. هنكدب عليه إزاي ؟! وبعدين فريد بالذات مينفعش نهزر معاه علشان لو قلبت جد هيمسح بينا شوارع أثينا كلها .
مالت للأمام وهي تلوّح بيدها باستخفاف، وقالت بنبرة واثقة:
ـ متخافش، لو نجحنا ووصلناهم لإنهم يتكلموا مع بعض ويحلوا المشكله اللي بينهم وقتها هيسامحنا ..
أطرق رأسه للحظة يحسبها بعقله، ثم رفع عينيه إليها وقال مترددًا:
ـ طيب مش عارف بردو هنعمل إيه ؟!
ترددت نظراتها للحظة، ثم عضّت على شفتها السفلى قبل أن تهتف بسرعة دفعة واحدة:
ـ تقول له إنك هتخطب نغم !
ارتسمت الدهشة على ملامحه واتسعت عيناه وهو يهتف بانفعال:
ـ نعم ياختي ؟!
رفعت يديها في الهواء محاولة تهدئته، وقالت بتعجل:
ـ مش بجد يعني يا عمر .. إحنا عاوزين نضغط عليه ونخليه يتكلم مش أكتر ، والغيرة بس هي اللي هتخليه مش على بعضه وهيفضل يلف حوالين نفسه لحد ما يواجهها .
أمال رأسه مترددًا وهو يعقد ذراعيه أمام صدره، ثم قال بقلق:
ـ لأ.. أنا مش ضامن رد فعله ، ده ممكن يكسر لي الرجل التانية ..
لوّحت بيدها باستهانة، وردّت بابتسامة خفيفة:
ـ متخافش ، أكيد مش هيعمل كده ، هو أصلا مش هيصدق.. بس إحنا هنوهمه إنه حقيقي، وساعتها هيتكلم معاها غصب عنه عشان يتأكد ده صح ولا غلط ..
حك ذقنه وهو يتأمل كلامها، قبل أن يرد باهتمام:
ـ و هنوهمه إزاي بقا إن شاء الله ؟
ابتسمت بثقة وأشارت إليه كأنها تستنجد بذكائه:
ـ إحنا يعني هنغلب يا عمر ؟! ده انت أبو الحوارات كلها !
ارتسمت ابتسامة فخورة على وجهه وهو يرفع حاجبيه وقال بنبرة ظافرة:
ـ أيوة صح .. خلاص ماشي ، سيبيها عليا .. بس أمانه عليكي لو قتلني تعترفي له إني كنت بضحي بنفسي في سبيل الواجب الأخوي ، وإني ضحيت براحتي وسعادتي علشان راحتهم وسعادتهم..
رن هاتفها فجأة، فقامت مترددة وهي تنظر له بسرعة، ثم قالت :
ـ خلاص بقا إنت هتمثل ! أنا هخرج أكلم عاصم وراجعه .. فكر بقا على ما أرجعلك .
أومأ برأسه موافقًا بجدية، بينما خرجت هي مسرعة لتجيب الهاتف وقالت بلهفة:
ـ عاصم .. وحشتني .
أتاها صوته الدافئ عبر السماعة، ممتلئًا بالصدق:
ـ انتي كمان يا روحي وحشتيني، يا ريتني ما سيبتك تسافري .
ارتسمت ابتسامة رقيقة على شفتيها وقالت بحنان:
ـ معلش يا حبيبي ، كلها يومين وراجعة ان شاء الله.
سألها بنبرة مشتاقة تخفي خلفها رغبة في الاطمئنان:
ـ إن شاء الله ، قوليلي يومك كان ماشي إزاي ؟!
ابتسمت وهي تسند رأسها إلى الحائط كمن يستعيد تفاصيل يوم طويل وقالت بارتياح:
ـ والله اليوم كان طويل بس حلو ، أحلى ما فيه إني شفت فريد طبعا .. والحفلة كمان كانت ماشية حلو جدا .
أطلق همهمة راضية وهو يتنفس بعمق ثم قال:
ـ ممم.. طيب كويس، أهم حاجة إنك مبسوطة يا حبيبي.
أضاءت عيناها بالحب وهي ترد بسرعة :
ـ أنا مبسوطة جدا ، وبحبك جدا جدا جدا ..
ارتعشت نبرته بالعاطفة وهو يرد مؤكدًا بإحساس صادق:
ـ وأنا كمان بحبك يا نسيم ، بحبك أكتر مما تتخيلي .
ابتسمت ، ثم أطرقت رأسها قليلًا قبل أن تسأله:
ـ كلمتك أكتر من مرة ، ليه تليفونك كان مقفول ؟
عدل جلسته ومرر يده على جبهته كمن يبرر تقصيره وقال بهدوء:
ـ كان عندي أكتر من اجتماع ورا بعض ، علشان كده كنت قافل التليفون.. عاوز أستغل اليومين اللي انتي بعيدة فيهم وأركز في الشغل علشان لما ترجعي بالسلامة هاخد أجازة مفتوحة .
ضحكت نسيم بخفوت وهي تتحاشى أن يكشف صوتها سر ارتجاف قلبها، ثم قالت كمن تخفي في كلماتها ما هو أكبر من مجرد مفاجأة:
ـ لما " نرجع " بالسلامة هتلاقيني محضرة لك مفاجأة حلوة جدا.
كانت عيناها تتلألآن بوميض خاص، وابتسامتها تحمل سرًا لم تفصح عنه بعد، وكأنها عن قصد تركت الجمع في الكلمة دلالةً خفية على ذلك الكائن الصغير الذي تحمله في أحشائها.
في تلك اللحظة اختلط عليها الخوف بالشوق، الترقب بالحنان، لكنها تماسكت وبدت طبيعية، بينما قلبها كان يكاد يقفز من بين أضلعها لتفصح عن الحقيقة.
أما هو فأطلق تنهيدة قصيرة ممزوجة بالشوق وقال بحرارة:
ـ إني أشوفك وأخدك في حضني أهم عندي من كل مفاجآت الكون .. ومع ذلك حمستيني للمفاجأة ومتأكد إنها هتعجبني جدا جدا.
تنهدت وهي تغمض عينيها للحظة ثم قالت بخوف خفي:
ـ إن شاء الله..
شدّد صوته وهو يحاول إخفاء قلقه عنها:
ـ خلي بالك من نفسك كويس أوي ، اتفقنا ؟
أومأت في صمت ثم قالت بهدوء مطيع:
ـ حاضر .. وانت كمان .
ابتسم ابتسامة واثقة رغم التعب وقال بنبرة مطمئنة:
ـ متقلقيش عليا يا حبيبي ، ارجعيلي انتي بسرعة وأنا هبقا كويس .
ـ بإذن الله.. مع السلامة .
بعد أن أنهت المكالمة، ظلت لثوانٍ ممسكة بالهاتف بين يديها، كأنها لا تريد أن تفلت أثر صوته من أذنيها. كانت أنفاسها ما تزال دافئة بحبه، وقلبها يخفق بنبض مختلف.
كل التردد الذي كان ينهشها قبل لحظات، كل الخوف من المجهول ومن رد فعله، تبخر أمام تلك الجرعة الصافية من الحب والحنان التي أغرقها بها. شعرت وكأن قلبها استعاد يقينه بأن الرجل الذي أحبها بهذا الصفاء يستحق أن يعرف الحقيقة كاملة، أن يشاركها السر الذي لم يعد مجرد سر بل حياة جديدة تنبض داخلها.
رفعت يدها تلقائيًا إلى بطنها، وأغمضت عينيها بحنان يغمرها، وفي داخلها تسلل يقين عميق همس لها أنه لا مجال للخوف بعد الآن، هذا الرجل المخلص، الزوج الحنون، حتمًا سيكون أبًا رائعًا.
ابتسمت ابتسامة صافية، وقد بدا بريق الطمأنينة يملأ ملامحها، ثم نهضت ببطء ودخلت المنزل بخطوات هادئة.
كانت تتوقع أن تجد عمر غارقًا في التفكير، يحيك لها خطة ما أو يخرج من جعبته حيلة جديدة كعادته. لكنها توقفت فجأة، وقد ارتسمت على وجهها ملامح الدهشة ممزوجة بالابتسام، حين وقعت عيناها عليه ممددًا فوق الأريكة، غارقًا في سبات عميق، وصوته بدا وكأنه جرار عتيق يتسابق في حقل قمح، لا يتوقف ولا يرحم .
اقتربت نسيم منه بخطوات بطيئة، تتأمل هيئته المستكينة، بينما رأسها تهتز يمينًا ويسارًا في مزيج من استسلام ويأس. وقفت أمامه أخيرًا، متأملة صوته المزعج الخارج من أعماق نومٍ ثقيل، ثم أطلقت زفرة طويلة قبل أن تمد يدها لتوقظه، كأنها أم تُعيد إحياء طفلٍ شقيّ مشاغب :
ـ عمر .. انت يبني !
انتفض عمر فجأة كمن لدغه عقرب، فتح عينيه نصف مفتوحتين وهو يهتف بفزع:
ـ هو فين؟!
كانت ملامحه مرتبكة وكأن أحدًا سرق منه حلمًا كان يعيش تفاصيله بعمق، فابتسمت نسيم بامتعاض وهي تضع يديها على خصرها وترددت بين أن تعيده للواقع أو تتركه يتيه في دوامة نومه المضحكة.
ثم ضحكت بخفوت وهي تهز رأسها بأسى مفتعل وقالت بسخرية لاذعة:
ـ فين إيه ؟! على أساس إننا كنا بنفكر في خطة محكمة علشان نرجع بيها فريد ونغم لبعض، أجي ألاقيك في سابع نومه!
فرك عينيه ليزول عنهما أثر النعاس، وقال بنبرةٍ يغشاها النوم:
ـ ماهو أنا مطبق بقالي يومين منمتش وكل ده علشان أرجعهم لبعض بردو..
فقالت تحايله كطفلٍ صغير :
ـ معلش يا مانو اتعب معانا كمان يومين بس لحد ما تتم المهمة بنجاح وبعد كده نام براحتك .
فنظر إليها بطرف عينه بامتعاض وقال :
ـ هو انتوا عيلة اللي يعرفكم ينام ولا يدوق طعم الراحة!
تنهدت بيأس، ونظرت إليه وقالت :
ـ قدم السبت علشان تلاقي الحد .. بكرة تحتاج اللي يقربك من ميرال ومش هتلاقي غيرنا.
اتسعت ابتسامته وهو يقول :
ـ أيوة صح معاكي حق.. إذا كان كده ماشي .
وشرد قليلا يفكر ، ثم قال :
ـ أنا عرفت هنعمل إيه .
༺═────────────────═༻
بعد أن تظاهرت باللامبالاة وصعدت إلى الغرفة، وقفت عند النافذة كالتمثال، تحدّق في الطريق بعينين متحفزتين، كأنهما تبحثان عن خيط ضوء يعلن عودة سيارته. ورغم ثبات ملامحها، كانت الغيرة تنهش قلبها في صمت، ترسم في خيالها صورًا موجعة له إلى جوار چيلان، يشاركها الضحك أو الحديث في عزلةٍ لا يحق لغيرها أن تشارك فيها. عندها ضمّت ذراعيها إلى صدرها بقوة، كأنها تحاول احتواء طوفان مشاعرها، فيما روحها تتأرجح بين خوفٍ وغضب.
انتبهت فجأة إلى ما يحيطها في الغرفة العصرية الفخمة؛ جدران أنيقة، وأثاث فاخر يوحي بالراحة، لكن قلبها لم يعرف الراحة؛ أخذت تدور بنظرها بين تفاصيل المكان كأنها تبحث عن مهرب من نفسها، تهمس في أعماقها بحزن أنها لا يحق لها أن تغار عليه... لقد أوصدت بينها وبينه كل الأبواب، ورسمت حدودًا صارمة لا ينبغي له تجاوزها، فالأجدر بها الآن أن تقبل بهذا الواقع وتستسلم له.
ولكنها ما لبثت أن انهارت أمام ذاتها، فكيف لها أن تستسلم وتُذعن للأمر الواقع، وهي تدرك أنها تحتاج إليه لتتنفّس، كحاجة الزرع للماء، تدرك أن حياتها لا تكتمل إلا بظلّه القريب وهمسه الدافئ؟
أما على الجانب الآخر، فقد كان فريد يقود السيارة بعينين معلّقتين بالفراغ، وإلى جواره جلست چيلان تنتظر منه كلمة أو حتى التفاتة عابرة. لكن قلبه كان مأخوذًا بالكامل إلى حيث نغم؛ يسترجع ملامحها الغاضبة، وشرودها الحزين، والغيرة التي لم تُخفها عنه. كان يشعر وكأن مسافة لا تُقاس تفصل بينه وبينها، رغم أن أقرب طريق يمكن أن يعيده إليها لا يتطلب إلا قرارًا واحدًا.
ومع كل دقيقة تمر، كان الحنين يشتد في صدره حتى يكاد يخنقه، يتوق إليها كمن يتوق لأنفاس الحياة ذاتها، وكأن كل ما حوله لا وجود له إلا بقدر ما يقربه منها.
وبعد أن يئست چيلان أن يتحدث، قالت :
ـ إنت ناوي تستقر في أثينا ولا إيه يا فريد ؟!
التفت إليها، وأجابها بهدوء وهو ينعطف بالسيارة يمينًا :
ـ لا أبدا مفيش نية لحاجة زي كده ، كل ما في الموضوع إنها كانت فترة كلها ترتيبات واستعدادت وانتي عارفة بقا التحضيرات اللي زي دي بتاخد وقت ازاي.. لكن أكيد مش هستقر هنا ، هانت إن شاء الله وأرجع مصر وبعدها هتابع معاهم كل فترة .
أومأت موافقة، وتابعت :
ـ معاك حق ، شغلنا صعب جدا وبياخد وقتنا كله ..
أومأ بصمت وهو ينظر إلى الطريق أمامه بتركيز، إلى أن عادت وقالت :
ـ بيتك حلو جدا على فكرة .. طول عمرك ذوقك بيرفكت .
ابتسم ابتسامة هادئة وقال :
ـ متشكر يا چيلان ، انتي كمان ذوقك حلو جدا .
ابتسمت بدورها، وقالت :
ـ أنا كمان بدور على بيت على فكرة ، بس الموجود مش مناسب ليا .
نظر إليها متعجبًا، وقال :
ـ ليه ؟! حصل حاجة خلتك تسيبي الڤيلا ؟
تنهدت بهدوء ثم قالت :
ـ أبدا .. بس أنا وحسن أخوك no way نتفق مع بعض في مكان واحد .. علشان كده الأحسن أمشي ، وبعدين إنت عارف .. الواحد كل ما يكبر بيكون حابب ينعزل ويفضي دماغه من كل حاجه.
أومأ مؤيدًا، والتزم الصمت من جديد، إلى أن وصل إلى كولوناكي ، وبالتحديد إلى المقهى الفاخر الذي ستلتقي صديقتها فيه، فنظرت إليه وشكرته :
ـ ميرسي يا فريد ، تعبتك معايا .
ـ لا أبدا ولا يهمك .. لما تخلصي معاها كلميني هبعتلك تاكسي ياخدك ويرجعك على البيت .
أومأت بموافقة، فأومأ بابتسامة هادئة ، ثم انصرف عائدًا أدراجه نحو المنزل يمنّي نفسه برؤيتها .
༺═────────────────═༻
في العاصمة الإسبانية مدريد.
بعد أن أنهى عاصم مكالمته مع نسيم، غادر سيارته وترجل ثم دلف المنزل بخطوات واثقة ، فما إن رآه أيمن حتى رحب به ترحيبا بالغا وقال :
ـ حمدالله على السلامه ، ليك وحشه والله.
ربت عاصم على كتفه وقال :
ـ الله يخليك يا أيمن .
ونظر نظرةً متوعدة نحو الغرفة المقابلة وقال :
ـ إيه الأخبار ؟
ـ كله تمام ، دكتور الأطفال كان هنا من شوية بيفحص الطفل وقال إنه كله تمام .
أومأ عاصم بارتياح وقال :
ـ عال .. عن إذنك .
تركه خلفه وسار نحو الغرفة بخطواتٍ متأنية كأنها موزونة على إيقاعٍ خفيّ، حتى بلغ الباب. مدّ يده إلى المقبض وأداره ببطء، فانفتح الباب .
كانت لاتويا واقفة في الداخل، بين ذراعيها طفلٌ ضئيل لا يتجاوز حجمه كف اليد، بينما تسنده بذراعها وتغذّيه من زجاجة حليب تمسكها بالأخرى. لحظة التقت عيناها بعينيه، ارتجف جسدها كله كمن صُفع بغتة، واهتزّت حدقتاها بخوف عارم، خوفٍ صامت لكنه أفصح عن يقينٍ مرير: أن اللحظة التي كانت تهرب منها وتدعو ألا تأتي.. قد أتت الآن، وها هي تقف أمامها وجهاً لوجه.
نظر عاصم إلى الطفل، وهو يتقدم حتى دلف وأغلق الباب خلفه، ثم رفع عينيه ونظر إليها وتفحص وجهها الشاحب، وملامح الإرهاق البادية عليه، ثم قال بهدوء ناطقًا بالإسبانية :
ـ كيف حالك لاتويا ؟
وقبل أن تجب، قاطعها حيث قال :
ـ أرى أنكِ وطفلكِ بخير .
ـ لا، لسنا بخير .. الطفل يعاني من ضيق في التنفس ، والأطباء أكدوا أن السفر الآن مستحيل .
ظلّ عاصم صامتًا للحظات، يحدّق في وجهها بعينين ثاقبتين كأنهما تنقبان داخلها، ثم هزّ رأسه ببطء وقال بصرامة لا تحتمل جدالًا:
ـ لاتويا.. لا تكذبين.
بُهتت وهي تحتضن الطفل بقوة أكبر، وحاولت أن تتماسك وهي تردّ بصوت مرتعش:
ـ ولماذا أكذب؟! أيمكن أن أعرّض طفلي للخطر؟ لقد قال الأطباء إن السفر في هذه المرحلة كارثة محققة!
اقترب منها خطوة، وصوته يخرج ثابتًا، أشبه بحكم نهائي لا يقبل الاستئناف:
ـ بل قال الطبيب الذي يتابع حالة ابنك عكس ذلك تمامًا. لقد تحدثتُ إليه بنفسي، وأكد لي أن الصغير يتمتع بصحة ممتازة، وأن الرحلة القصيرة بالطائرة لن تؤثر عليه في شيء.
اتسعت عيناها دهشةً، وارتبك تنفّسها، كمن انكشفت حجته الهزيلة أمام محكمة عادلة، فخفضت بصرها تتشبث بالطفل وكأنها تستمد منه ساترًا تخفي به ضعفها.
تابع عاصم بلهجة أكثر صرامة:
ـ كان عليكِ أن تعرفي أنني لن أترك أمرًا بهذه الخطورة للصدفة أو كلامٍ مرسل. أردتِ حجةً تبقين بها هنا، لكنني لن أسمح بالأكاذيب. الطفل بخير .
وتابع متهكمًا :
ـ إنه من نسل سالم مرسال ، لذا لا داعي للقلق.
رفعت وجهها إليه ببطء، وعيناها تلمعان بمزيج من التحدي واليأس، لكنها لم تجد ما تقول. فقد سقطت ورقتها الأخيرة ولم يعد أمامها طريقًا للفرار.
ـ غدًا ستأتين معي أنتِ وطفلكِ إلى مصر ، ستبقين بفندق إلى أن أخبركِ باللحظة المناسبة التي ستنفذين فيها الخطوة الأخيرة .
اهتز صوتها المرتجف وهي تسأله بقلق:
ـ وماذا لو انتزعوا الطفل مني ثم طردوني بعد ذلك؟! لا أحتمل فكرة الابتعاد عن صغيري.
ابتسم بسخرية وقال:
ـ وماذا عن محاولاتك السابقة للتخلص منه؟! أهو صغيرك الآن فجأة؟!
أدارت وجهها بعيدًا عنه بضيق، وهتفت بانفعال:
ـ لن تستطيع أن تفهم إحساسي كأم مهما تحدثت، فلا تحاول استفزازي.
أومأ برأسه ثم قال بنبرة جادة:
ـ اطمئني… القانون يضمن لكِ أن تكوني مع طفلكِ ما دمتِ مؤهلةً ومسؤولة عنه. لن يُنتزع منكِ ما دام لكِ حق الحضانة الشرعية.
كان من المفترض أن تجد في كلماته شيئًا من الطمأنينة، لكنها لم تستطع. القلق ظل ينهش قلبها، والريبة تُثقل روحها، فهي لا تثق به تمامًا، ولا تدري إن كان ما يعدها به مجرد كلامٍ لتهدئتها أم واقعًا سيتحقق. الشيء الوحيد الذي تدركه يقينًا أنها لن تتخلى عن طفلها مهما حدث.
قالت بصوت متوجس، والارتباك يكسو ملامحها:
ـ لكنني سمعت الكثير عن سالم مرسال… وما سمعته أكد لي أنه لن يقبل بوجودي بينهم.
رد عاصم ببرود وإيجاز:
ـ هذا يتوقف عليكِ… هنا يبدأ امتحانك الحقيقي كأم. عليكِ أن تثبتي لهم أنكِ تستحقين البقاء، وحينها فقط… سيجدون أنفسهم مجبرين على القبول بكِ.
شهقت أنفاسها في صمت، ثم أطلقت زفرة عجز ثقيلة، وكأنها تفرغ من صدرها ثقلًا لا يزول. تابع عاصم وهو ينهض متجهًا نحو الباب:
ـ استعدي… سنغادر في الثالثة فجرًا.
تركها وغادر، وصوت خطواته يتلاشى في الممر، بينما جلست هي على حافة السرير، تحدق في طفلها الصغير بعينين غارقتين في الحزن والخوف، تضمه إلى صدرها كأنها تحاول أن تخبئه من العالم بأسره، همست بصوت متهدج:
ـ لن يأخذوك مني… لن يأخذوك أبدًا .
التقى عاصم بأيمن عند مدخل المنزل، فنظر إليه قائلا :
ـ جهز نفسك يا أيمن هنرجع مصر سوا ..
زفر أيمن وقال :
ـ أخيرا .. ده أنا حاسس إني كنت أنا اللي حامل وولدت ، بقالي تسع شهور هنا لا بشوف حد ولا حد بيشوفني لما خللت .
ابتسم عاصم ابتسامة موجزة وقال وهو يربت على كتفه:
ـ بكره لما ترجع مصر وتشوف الشغل اللي مستنيك هتعرف إنك كنت في رفاهية ملهاش حدود .
هم بالمغادرة، ولكن أيمن استوقفه وهو ينظر إليه ويقول :
ــ ناوي على إيه بالظبط، ومتقولليش مش عارف لأنك عارف ومرتب كل حاجه من زمان .
نظر إليه عاصم مبتسما، ثم ربت على كتفه وقال :
ـ سيب كل حاجه لوقتها أفضل يا أيمن .. يلا خلي بالك منها، و وصيهم يفتحوا عنيهم كويس أوي بدل ما تعمل أي حاجه في نفسها ولا في الولد .
أومأ أيمن إشارةً إلى موافقته، فتركه عاصم وغادر، ثم استقل سيارته، وأسند رأسه إلى المقعد، ليغرق في شروده. أخذ ذهنه يتقلب بين التساؤلات: أترى تلك الخطوة كافية لتحطيم سالم مرسال؟ هل ستكفي لإغضابه، وإحزانه، وإذلاله أمام الجميع؟ أم أن شيئًا ما قد غاب عنه، تفصيلة صغيرة كان بوسعه أن يجعل بها الفضيحة أعمق، وأثرها أوسع صدى؟
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه، كمن يتلذذ بطعم الانتصار قبل أن يتحقق، لكنه ما لبث أن عقد حاجبيه بضيق.
لقد عرف سالم طيلة حياته كيف يُفلت من المآزق، وكيف يلمّ شتاته مهما تكاثرت عليه الطعنات.
فهل يمكن لمجرد خطوة كهذه أن تكسره أخيرًا؟
أشعل سيجارة، وسحب منها نفسًا عميقًا، ثم أطلق الدخان ببطء وهو يهمس في داخله أنه لن يكتفي بما هو عابر.. يريده انهيارًا كاملًا، لا رجعة بعده.
༺═────────────────═༻
عاد فريد إلى الفيلا وقلبه يخفق بشوقٍ جارف، كطفلٍ تائهٍ وجد أخيرًا طريقه إلى حضنٍ يفتقده.. بالرغم من معرفته أن صاحبة هذا الحضن غاضبة الآن، وبشدة.. ولكنه يوقن أنه بمجرد أن يزول غضبها سينجح في استعادتها إليه من جديد.
كان يركن السيارة على عجل، يكاد لا يرى أمامه من فرط اللهفة، وعيناه تلمعان بتوقٍ إلى لحظة رؤيتها.
ترجل مسرعًا، وخطواته تتسابق على أرضية المدخل،
لكن ما إن فتح الباب ودخل، حتى تجمّد مكانه كتمثالٍ حجري، اتسعت عيناه وتوقف نَفَسه للحظة.
لقد اخترق أذنيه صوت عمر الواضح والحاسم، جملة قصيرة لكنها كفيلة بزلزلة قلبه واقتلاعه من جذوره :
ـ بصراحة مش عارف رد فعله هيكون عامل ازاي لو عرف إني بحب نغم وعاوز أخطبها !
ذهل فريد وتوقفت خطواته فجأة ، ووقف يحاول استيعاب ما سمعه، بينما تحدثت نسيم وقالت :
ـ إنت متأكد يا عمر من الخطوة دي ؟!
ليجيبها الآخر بثقة :
ـ طبعا متأكد .. أنا كنت متردد من فترة وبهرب من الإحساس ده لكنه كان بيطاردني كل شوية ، كل ما كنت بشوفها حزينة ووحيدة ومكسورة إزاي بعد اللي عمله فريد وقت الصور بتاعته هو وسيلين اللي اتسربت ، كنت بلاقي نفسي مضايق من فريد، ومضايق عشانها، بجد نغم اتحملت اللي محدش اتحمله .. عشان كده كنت بحاول أكون جنبها قد ما أقدر وأهون عليها ، لحد ما لقيتني فجأة وقعت في حبها ..
ثم تنهد بصوت مسموع وتابع هائما :
ـ وهو الانسان مننا إيه غير شوية مشاعر وأحاسيس !
شعر فريد وكأن شيئا ما صفع رأسه من الخلف، لا يمكن أن يكون شيئا وهميا لأنه بالفعل شعر بالألم في رأسه، وتلك القبضة التي اعتصرت قلبه وجعلته يشعر وكأن قدميه لم تعد تحملانه .
ـ بس فريد لو عرف مش هيسامحك أبدا يا عمر .. إنت عارف إنه بيحب نغم جدا وهي كمان بتحبه ، ومشاعرك ليها دي تعتبر خيانة .
هكذا شاركت نسيم بنبرةٍ هادئة، ليجيبها المختل الآخر وهو يقول بإصرار :
ـ بيحبها ؟! متهيألك .. هو بنفسه قاللي إنه بيحب سيلين، لما سألته وقت موضوع الصور وقولتله إنت فعلا بتحب سيلين رد عليا بمنتهى البجاحة وقاللي أه بحب سيلين ، يبقا بيحب نغم ازاي بقا ؟! إلا إذا كان مخصص لكل بلد حبيبة بقا فدي فيها كلام تاني .. وبعدين نغم بطلت تحبه أصلا .. انتي مش شيفاها هتتجنن إزاي من ساعة ما جينا هنا ؟! مش طايقه تبص في وشه طبعا.
ارتجف قلب فريد، وانقبض صدره كأن يدًا خفية ضغطت عليه بكل قسوة. عيناه ظلتا شاخصتين، تتنقلان بذهول بين مصدر الصوت والفراغ من حوله، وكأن المكان قد انقلب فجأة إلى ساحةٍ غريبة لا ينتمي إليها.
شعور بالخذلان اجتاحه، امتزجت فيه الغيرة بالصدمة، والرغبة في الاقتحام بالخوف من مواجهة الحقيقة. أصابعه انقبضت لا إراديًا، حتى بدا وكأنه يقبض على الهواء، فيما نبضات قلبه راحت تطرق أضلعه بعنف، كطبول حرب لم يستعد لها.
لحظة واحدة كانت كافية لتجعل كل ما بناه في خياله من أمل ودفء يتهاوى، حتى أن خطواته التي جاءت مسرعة قبل قليل بدت الآن مثقلة، متيبسة، كأن الأرض تأبى أن تحمله خطوة أخرى.
في داخله، بدأ تدفق الذكريات ينهال بلا رحمة: كل مرة أخبره فيها الشاب المكلف بمراقبتها أن عمر قد زارها، وفي المقابل لم يفصح عمر عن تلك الزيارة، تلك المرة التي ذهبا سويًا إلى الدار، ويومها عرف من كاميرات المراقبة، كل لحظة بدأت تتكرر في ذهنه كفيلم سريع، تلوح أمامه وكأنها تُعيد فتح كل الجروح المخفية.
ثم خطرت له حقيقة مُرة: عمر كان متعمدا أن يخفي عنه لقائه بها، والآن بدأ يدرك سبب هذا الإخفاء، سبب الصمت الذي أحاط بالموقف، وكل الأمور التي بدت غامضة سابقًا.
الصدمة امتدت لتصبح مزيجًا من الغضب والدهشة والحيرة، بينما داخله كان كالعاصفة الهوجاء، لا يعرف من أين يبدأ ولا كيف يسيطر على مشاعره. كل شيء بدا وكأنه انهار: شعوره بالخذلان من أخيه، صدمة اكتشافه أن يحب نفس الفتاة التي تسكن قلبه، وغضبه العارم لأنه لم يعد أمامه خيار سهل.
كان يتساءل بلا توقف: هل يدخل على عمر الآن ويواجهه بعنف ويطلق كل مشاعره المتفجرة، أم يتظاهر بعدم المعرفة ويحتفظ بالصمت المرّ، محاولًا أن يسيطر على الوضع حتى يجد الطريقة المناسبة للتصرف؟ كل خيار بدا محفوفًا بالمخاطر، وكل خطوة ستترك أثرًا عميقًا، لا يعرف أيهما أصعب: المواجهة المباشرة أم الصمت الذي يقتل داخله شيئًا فشيئًا.
ولما استحضر كلام عمر، تلك الكلمات التي أشار فيها إلى أن نغم لم تعد تحمل أي مشاعر تجاهه، شعر بشيء ينكسر داخله، كأن جزءًا من قلبه قد تحطم فجأة. صمت، وأحس بثقل هائل يضغط على صدره، يربكه ويعصر قلبه بين موجات من الألم، الأسى، والخيبة، تاركًا إياه عاجزًا عن استيعاب ما حدث أو إيجاد رد فعل مناسب.
شعر بألم حقيقي يخترق قلبه، كل نبضة صارت وكأنها سكين تنغرس في صدره. لم يعد قادرًا على البقاء في مكانه، فاندفع إلى سيارته، وبدأ يقود بلا هدف في الشوارع، محاولةً أن يفرغ ضيق صدره. لكن الألم تصاعد بسرعة، ومع كل منعطف كان يشعر وكأن قلبه ينهار أكثر، فمد يده يدلك موضع قلبه بتعب أصبح لا يحتمل، فقرر التوجه مباشرة إلى المستشفى .
دخل وهو يكاد يلهث من شدة الألم النفسي والجسدي، ملامحه شاحبة ويداه ترتجفان. اقترب منه المسعفون بسرعة، واصطحبوه إلى غرفة الطوارئ حيث جلس على المقعد المخصص للانتظار .
بعد لحظات، جاء طبيب الطوارئ، وبدت ملامحه جادة، وهو يتساءل :
ـ أخبرتي، ما هي الأعراض التي تشعر بها؟
تلعثم فريد لحظة وهو يرد:
ـ صداع، وخفقان شديد… وألم في الصدر لا يحتمل .
نظر الطبيب إليه بعناية، وأمر فورًا بعمل بعض الفحوصات السريعة: تخطيط القلب، وضغط الدم، وتحليل الدم الأساسي.
بعد دقائق قليلة، عاد الطبيب ومعه نتائج الفحوصات، وقال :
ـ لحسن الحظ، لا توجد مشكلة عضوية خطيرة. القلب سليم، الضغط ضمن المعدل الطبيعي، ولا يوجد أي خطر مباشر على حياتك. لكن يبدو أنك تعاني من حالة شديدة من الإجهاد النفسي والصدمة العصبية .
ارتجف فريد قليلاً، شعر بالارتياح لكونه بخير جسديًا، لكنه لم يشعر بالراحة النفسية، فالألم الداخلي لم يزل، وكان الطبيب يضيف:
ـ أوصي بالراحة التامة، والابتعاد عن أي ضغط نفسي لفترة، وربما جلسة مع مستشار نفسي ستساعدك على تجاوز هذه الحالة الصادمة.
أومأ فريد بصمت، وعيناه مسمرتان على الأرض، بينما تتدفق كلمات عمر وصور نغم في ذهنه كرصاص متتابع يخترق صدره. حتى شعر بكل شيء داخله يتفتت؛ الحب، الثقة، والطمأنينة، حتى صارت الدنيا كلها باهتة حوله، ولم يبقَ إلا هو ووجعه.
………..
أما على الجانب الآخر ، في الڤيلا ..
كانا كلا من عمر ونسيم ينظران إلى بعضهما البعض بتوجس، فقالت نسيم :
ـ إحنا شكلنا زودناها أوي .. ده أخد عربيته ومشي تاني .
بينما نظر إليها عمر بثقة وقال :
ـ متقلقيش، ده اللي هيجيب معاه من الآخر ..
تنهدت نسيم بتردد وخوف، ثم تمتمت بقلق :
ـ ربنا يستر ..
ثم عادت تنظر إليه بامتعاض وهي تقول :
ـ وإيه الانسان مننا عبارة عن مشاعر وأحاسيس دي كمان ؟! إيه الأوفر اللي انت فيه ده !
ـ أوڤر ؟! بكرة تشوفي الأوڤر ده هيعمل إيه ؟! إن مكانوش يلبسوا دبل ويقروا فاتحة بالكتير أوي بعد بكرة أبقا مبفهمش .
تنهدت وهي تهز رأسها بيأس، وتقول :
ـ ربنا يستر .. مش مرتاحة للي حصل .
ـ متقلقيش .. هو دلوقتي هيقعد مع نفسه ويفكر وهيقرر انه لازم يواجهها باللي سمعه ..
ـ وافرض محصلش ؟!
ـ هنزود الجرعة لحد ما يحصل .. أنا وراهم وراهم والزمن طويل .
أومأت وكررت بيأس للمرة الثالثة :
ـ ربنا يستر .
بقوللك إيه يا نسيم.. روحي نامي .. وأنا كمان هكلم چيلان أشوفها هتعمل إيه وهروح أنام قبل فريد ما يرجع .. بصراحة مرعوب منه .. ربنا يستر .
……….
أما في الغرفة عند نغم ..
كانت ما تزال واقفة خلف النافذة، تتابعه بعينين مثقلتين بالخذلان بعدما رأته يعود بسيارته ثم يبتعد فجأة من جديد، فتسرّب إليها إحساس باليأس يغلف قلبها كطبقة من الجليد. وأخذت تهمس في أعماقها بلا توقف بأن وجودها لم يعد يعني له شيئًا، وها هو يرحل مرة أخرى وكأن وجودها من عدمه لا يهم، بعدما ظنّت أنه يشتاق إليها كما تشتاق إليه.
تلاطمت الظنون في رأسها، واضطربت الشكوك في صدرها، حتى امتلأت عيناها بالدموع التي دفعتها لاتخاذ قرارها الحاسم بالرحيل في أقرب وقت.
༺═────────────────═༻
في صباح اليوم التالي ..
عاد فريد إلى المنزل بعد ليلة كاملة قضاها يتجوّل في الشوارع بعد خروجه من المستشفى، مستغرقًا في التفكير بما سمعه، غير قادر على إيجاد حل سوى الالتزام بالصمت إلى أن يجمع قواه للمواجهة.
دخل غرفته ليبدل ملابسه ويأخذ دشًا، فلاحظ عمر الحركات الصغيرة داخل الغرفة، فاستيقظ ونظر إليه، وقال بهدوء:
ـ صباح الخير يا فريد .
ـ صباح الخير.
قالها فريد باقتضاب، والتقط ملابسه ودخل إلى الحمام، بينما ظل عمر ينظر في أثره متعجبّا ذلك الرد المقتضب، وأخذ يبحث في نفسه عن سبب ذلك التحول المفاجيء، إلى أن اتسعت عيناه دهشةً وهو يتذكر ذلك الاتفاق الذي أبرمه مع نسيم وشرعا في تنفيذه بالأمس فعلا .
فتنهد وهو يمسح على وجهه بتوتر، وهو يقول :
ـ ده حقه يضربني بالقبقاب مش بس يبص لي بقرف ، على الله بس ييجي بفايدة .
نهض وجهز ملابسه، وبمجرد أن خرج فريد من الحمام دلف هو متفاديًا أي مواجهة بينهما، فاستعد فريد وبعدها غادر الغرفة، فوقعت عيناه على نغم التي تنزل الدرج بهدوء .
وقف يحدق فيها بملامح غامضة يصعب عليها تفسيرها، فلاحظت فورًا أن نظراته ليست كما كانت بالأمس؛ فبالأمس كانت عيناه تتوهجان بحب وشوق، فهل أخطأت هي في فهم ما كانت تشير إليه نظراته؟! لا بد أنها أساءت التقدير!
تركها وتوجه نحو المطبخ وشرع في تحضير الفطور لهما، فنزلت نسيم لتجد نغم لازالت واقفة في منتصف الدرج بشرود ، فقالت :
ـ صباح الخير يا نغم .
نظرت إليها نغم بصمت، ثم أطلقت تنهيدة خفيفة كأنها منحت قدميها الإذن للتحرك، فواصلت نزول السلم وهي تتمتم بهدوء:
ـ صباح الخير .
رأت نسيم فريد يقف بالمطبخ ويقوم بنقل الأطباق إلى الطاولة، فلحقت به، وبدأت تساعده، بينما تقدمت نغم نحو المقاعد التي تطل نافذتها على الحديقة، وجلست هناك بصمت ، بينما فريد يختلس النظر إليها وهو يقوم بإعداد المائدة.
في تلك اللحظة غادر عمر الغرفة مستندًا إلى عصاه، وقال ببسمة مبتهجة :
ـ صباح الخير على القمامير ..
لم يحظَ سوى بنظرة ثاقبة من فريد، إذ جعلت ابتسامته تتداعى على شفتيه، تلتها نظرة حادة من نسيم تحذره من التمادي، فقد لمحت الشر يتوهج في عيني فريد، وكان واضحًا أن غضبه قد يشتعل ويطال الجميع بلا رحمة.
نزلت چيلان بدورها، ألقت تحية الصباح فرد الجميع باقتضاب عدا نغم التي بدت وكأنها في كوكب منفصل عنهم .
انتهى فريد وبرفقته نسيم من تحضير الفطور ، فقال فريد باقتضاب :
ـ اتفضلوا ..
جلس على مقعده، وجلس عمر بجواره، ونسيم أمامه ، ثم في مقابلها جلست چيلان ..
نظر فريد نحو نغم التي لم تحضر لتجلس برفقتهم، وفتح فمه ليناديها ولكن عمر كان قد سبقه قائلا:
ـ مش هتفطري يا نغم ؟!
حدقت نغم إليهم بهدوء، ثم نهضت على مضض، مدركة أنه إذا رفضت سيصرون، وحينها ستبدو في غاية السخف، لذا فضلت ألا تعرض نفسها لهذا الموقف مرة أخرى، خصوصًا أمام تلك الشقراء الماكرة.
راقب فريد الموقف بترقب، وقد بدت دقات قلبه تتسارع من جديد، فمد يده ليلتقط كوب الماء ويرتشف منه رشفة، ثم أعاده إلى الطاولة وشرع في تناول طعامه وهو لا يزيح عينيه عنها لحظةً واحدة.
كانت النظرات هي المسيطرة على الجو، يتبادل كل طرف فيها صمتًا طويلًا مع الآخر، إلى أن جاء صوت چيلان ليكسر الصمت، متوجهةً بكلامها نحو فريد:
ـ يظهر وشك حلو عليا .. بعد ما اتكلمنا امبارح عن البيت لقيت سمسار بيكلمني بيقولي إنه شاف بيت حلو جدا وبنفس المواصفات اللي طلبتها ، أول ما أرجع النهارده هشوفه .
كانت نغم تستمع إلى ما تقوله والدماء تكاد تنفجر من رأسها لشدة غضبها، حاولت أن تتجاهل شعورها ولكنها لم تنجح، فما قاله فريد أشعل فتيل غضبها أكثر:
ـ انتي بتقولي ترجعي النهارده ؟!
أومأت چيلان وقالت :
ـ مانا قلتلك الشغل واخد كل وقتنا للأسف .
أومأ بهدوء، وتابع :
ـ ولو ، جيرالد عزمني على فرح قريبه وأصر إنكم تحضروا معايا .. احضري معانا الفرح وبكرة سافري معاهم .
ترددت چيلان للحظة، فيما توجهت أنظار فريد نحو نغم، وكأن عينيه تقول لها: "ها أنا نفذت مطلبك"، قبل أن يجذب انتباهه صوت نسيم وهي تقول:
ـ وانت مش هترجع معانا يا فريد ؟
تعلقت عينا نغم به في انتظار إجابة، لكنه أطرق ينظر في طبقه، وهز رأسه بنفي وقال :
ـ غالبًا لأ .
نظرت إليه كلا من نغم وچيلان بتعجب! فبالأمس أخبر چيلان أنه سيعود إلى مصر، وبالأمس أيضا أخبر نغم أنهم سيعودون سويًا ، ما الذي حدث فجأة وجعله يتراجع عن قراره ؟!
الوحيدين اللذين كانا يمتلكان إجابة هذا السؤال هما عمر ونسيم ، فهما يعرفان جيدا ما سبب ذلك الانقلاب المفاجئ! أما نغم، فأيقنت أنه وجد هنا ما هو أهم وأولى .. لذا تراجع عن قراره سريعا، شعرت وأنها فقدت شهيتها فجأة، فتنهدت وقالت :
ـ أنا شبعت الحمدلله.
نهضت حاملةً طبقها، ثم دخلت به إلى المطبخ، ووقفت تحاول أن تمنع الدموع التي تجمعّت في عينيها بسرعة من الانهمار، ثم غسلت وجهها وغادرت إلى غرفتها.
قضت نصف النهار تقريبًا حبيسة غرفتها، تتنقل بين النافذة والفراش، ذهابًا وإيابًا، حتى لمحَت عمر ونسيم وچيلان جالسين في الحديقة، بينما هو غائب. اجتاحها الفضول، فقررت الخروج بحجة جلب كوب ماء. نزلت إلى المطبخ وهي تراقب المكان بعينين متفحّصتين بلا جدوى.
تنهدت بمرارة، التقطت كوب الماء، وما أن كانت على وشك الانصراف حتى اصطدمت به عند خروجه، لدرجة اهتز معها الكوب وانسكب الماء على ملابسها بالكامل.
هتف سريعا :
ـ أنا آسف .. مخدتش بالي منك .
تجمدت في مكانها، وظلت تنظر إليه بعينيها الآسرتين،
بينما هو وقف ينظر إليها وحينها تذكر حين اصطدم بها سابقا في غرفته، وأسقطت كوب العصير أرضا، حينها كان حبهما يتشكل بتؤدة .
سرح في عينيها قليلا، وعندما استمع الى صوت عمر يقتحم الڤيلا نظر تلقائيا إلى ملابسها المبتلة بفعل الماء فقال :
ـ اطلعي غيري هدومك ..
ألقاها باقتضاب، فانخفضت عيناها نحو قميصها المبتل، فاحمر وجهها خجلاً، وأسرعت على الفور إلى الغرفة لتغيير ملابسها. ثم عادت بعد ذلك لتجلس خلف النافذة من جديد، تلعن سوء حظها وغبائها ونفسها، وتلعن الجميع من حولها.
༺═────────────────═༻
بعد قليل .. وبالتحديد في الثانية مساءًا ..
طرقت نسيم الباب ، ودخلت وهي تحمل مغلفين من القماش تعرفت نغم على محتواهما فورا ، ونظرت نسيم إليها وقالت:
ـ فريد جابلي أنا وانتي الفساتين دي علشان نحضر بيها الفرح ..
وتقدمت من الداخل وهي تقول :
ـ الفرح كمان ساعة تقريبا ..
نظرت إليها نغم بضيق وقالت:
ـ ملوش داعي ، مش هحضر الفرح .
تنهدت نسيم بنفاذ صبر، وقالت :
ـ نغم يا حبيبتي ، أرجوكي كفاية عناد بقى إحنا مش في المدرسة لسه ..
نظرت إليها نغم بحدة وهتفت بغضب :
ـ تقصدي إيه ؟! تقصدي إني عيلة صغيرة يعني ؟!
فأجابتها نسيم بحدة وقالت :
ـ بصراحة حتى العيال الصغيرة مش بيعندوا ويعترضوا على كل حاجه كده !
ـ والله ؟! معاكي حق .. مليش حق أعترض على كل حاجه فعلا ، المفروض أوافق إنكم تستغفلوني وأبقى في قمة سعادتي .. إزاي اعترض ؟! ممنوع طبعا .
في الأسفل، استمع كل من فريد وعمر وجيلان إلى الصخب العائد من الطابق العلوي، وإلى صوت المشاجرة الحادة بين نسيم ونغم. أسرع فريد إلى الأعلى، يتبعه عمر بخطوات متأنية.
مررت نسيم يدهاعلى وجهها بضيق ونفاذ صبر، وقالت:
ـ انتي عارفة كويس إحنا عملنا ليه كده ! أوكي كنا غلط بس ملوش داعي ردود الفعل دي كلها !
فأجابتها نغم بتهكم :
ـ بجد ! معلش نسيت أسألك إيه هي ردود الفعل المناسبة اللي مسموح لي بيها علشان بعد كده أعملها.
فتح فريد الباب فجأة، ونظر إليهما متعجبا وهو يقول :
ـ في إيه ؟! بتزعقوا ليه ؟
أشاحت نغم بعصبية، بينما قالت نسيم :
ـ نغم مش عايزة تحضر الفرح .
نظر إليها فريد وقال بهدوء :
ـ ليه ؟!
فنظرت إليه وهتفت بحنق ثائر :
ـ أنا حرة !
ـ أوكي حرة مختلفناش، بس مش هينفع تقعدي في البيت لوحدك !
نظرت إليه بغضب متراكم وقالت :
ـ هو كل حاجه بالعافية ولا إيه ؟! مكنتش عاوزة أحضر الافتتاح و صممت، دلوقتي بردو هتصمم إني أحضر الفرح ؟! هو انتوا شايفيني إيه بالظبط ؟! للدرجة دي رأيي ورغبتي ملهمش لزمة !
كان عمر قد وصل إلى الغرفة ، فنظر إليهما وقال :
ـ في إيه مالكم ؟!
ـ إنت بالذات تسكت خالص !
قالتها نغم بانفعال، فتراجع عمر خطوة للخلف، فيما نظرت نغم إليهم وهي تتابع وقد انهارت كل قواها على التحمل :
ـ أنا هحضر الفرح، وهنمشي من هنا بكرة ، بس بعدها مش عاوزة أعرفكم نهائي ، تمام ؟! و أوعدكم لا هتشوفوني تاني ولا حتى هتسمعوا عني .. وياريت تسيبوني في حالي زي ما أنا ناوية أسيبكم في حالكم .
التقطت ذلك المغلف القماشي الموجود به الفستان، ودخلت الحمام وصفقت الباب بوجه الجميع، فتنهد فريد وقد بلغ به الأسى منتهاه، وغادر الغرفة بصمت، يتبعه عمر ، بينما ظلت نسيم تنظر أمامها وهي تتنفس بعمق، تفكر .. إلى أين ستؤول الأمور !
༺═────────────────═༻
بعد قليل، كان الجميع قد استعد ، فخرج فريد إلى الحديقة وأدار محرك السيارة، فلحق به عمر، جلس إلى جواره في المقعد الأمامي وظل ملتزما الصمت، بينما فريد كان يشعر بالغضب يفترسه، وكلما حاول تهدئة نفسه ازداد الأمر سوءا ، لذا قال مباشرةً وبدون مراوغة :
ـ أنا سمعتك امبارح وانت بتتكلم مع نسيم ، ممكن أعرف إيه اللي أنا سمعته ده!
اصطنع عمر نظرةٍ آسفة، وقال :
ـ أنا آسف يا فريد ، مكنتش أحب إنك تعرف بالطريقة دي !
قطب فريد حاجبيه بصدمة، ونظر إليه باستفهام، يطلب تبريرًا، شرحًا يفسر له تلك الدناءة والوقاحة .. ثم هتف بغير تصديق :
ـ من بين بنات الكون كله يا عمر ملقيتش غير نغم ؟! أنا لا يمكن أصدق إنك تعمل كده !!
نظر إليه عمر وقال بحدة مصطنعة :
ـ أنا ذنبي ايه يا فريد ؟! ما انت بعدت وسيبتها، وأنا غصب عني قربت وحبيتها، وبعدين هو الإنسان مننا إيه يعني غير شوية مشاعر وأحاسيس !
كان فريد يهز رأسه برفض، يراقب انفعالات أخيه الباردة، وهو يشعر بالموت يزحف ببطء نحو قلبه .
أغمض عينيه وهو يعيدهما إلى الأمام، بينما عمر يتابع بهدوء:
ـ وبعدين ما انت قلت إنك بتحب سيلين، معنى كده إن نغم بالنسبة لك كانت مشاعر عابرة مش أكتر ، فين المشكلة بقى !
ـ المشكلة إني …
ـ واوووو ..
نظر إلى عمر الذي قاطعه حين أبدى إعجابه الشديد بشيء ما، فنظر حيث ينظر، فتجمد الدم بعروقه حين رآها تخرج رفقة نسيم، ترتدي الفستان الذي اختاره لها، هذه المرة كان فستانًا باللون بالأسود ، فبدت فيه وكأنها تجسد سحر الليل وغموضه، كل حركة لها كانت تحمل هدوءًا مشحونًا بالنعومة والجاذبية، بينما شعر فريد بقلبه يخفق بعنف، وارتسم على وجهه مزيج من الدهشة والانبهار والاضطراب، وظل يراقبها صامتًا، عاجزًا عن إيجاد كلمات تعبّر عما يعتمل في صدره من مشاعر متناقضة.
أما نسيم، فكان فريد قد اختار لها فستانا من اللون الأزرق يلائمها كثيرًا ، ولكن المفاجأة كانت حين ظهرت چيلان وهي ترتدي نفس فستان نسيم بنفس اللون، غادرت المنزل وهي تبدو غير مرتاحة، وما أزاد ذلك الشعور حين رأت نسيم ترتدي نفس الفستان بينما نغم هي الوحيدة المميزة بينهم.
نظرت چيلان إلى نسيم، ثم إلى نغم، ثم إلى فريد وقد التقطت المغزى من ذلك التصرف الذي اعتبرته مهينًا بالنسبة لها، وعلى الفور عادت إلى المنزل، وصعدت إلى الغرفة، ثم أبدلته بفستانها الذي ارتدته بحفل الافتتاح، ونزلت مرة أخرى ، استقلت السيارة، فعقّب عمر قائلا بهدوء:
ـ غيرتي الفستان ليه ؟! كان أحلى على فكرة .
نظرت إليه بهدوء وقالت محاولةً إخفاء غضبها:
ـ كان مقفل زيادة عن اللازم ، مش ستايلي خالص .
انطلق فريد بسيارته نحو القاعة المقام بها الحفل، وبعد أن قاد الطريق لنصف ساعة في صمت مطبق من الجميع كان قد وصل إلى وجهته .
خرجوا من السيارة، وتقدموا نحو الداخل، فكان جيرالد في استقبالهم، رحب كثيرا بفريد ، ومن ثم بعمر ، ثم رحب بچيلان وأثنى على جمالها، ثم مد يده إلى نسيم التي اضطرت لمصافحته بالرغم من أنها كانت تشعر بالنفور منه، أما نغم، فلم تنظر نحوه من الأساس وتجاوزته مما جعله ينظر إلى فريد ويعقب :
ـ أووه .. ما بالِ هذه الفاتنة غاضبة ؟!
ليجيبه فريد باقتضاب يخفي خلفه ضيقه :
ـ هي كذلك دائما .
وربت على كتفه بجدية مفرطة وكأنه يحذره من المبالغة، ثم تقدم نحو الطاولة التي أشار إليها جيرالد وبدأوا بالجلوس حولها .
بدأت أجواء الزفاف تشتعل حماسًا بوصول العروسين ، ومن ثم مشاركة الأهل والأصدقاء لهم في الاحتفال، بينما يجلسون هم يتابعون بصمت، وكلا منهم هائمًا في وادٍ غير الآخر .
نسيم، كانت تنظر نحو العروسين بابتسامة حزينة، وفي هذه اللحظة اكتشفت أنها كانت تتمنى أن تختبر ذلك الشعور، كانت تتمنى لو أنها أعدت زفافًا ولم تتجوز بتلك الطريقة ، ولكن حزنها قد انقشع عندما تذكرت أن القدر أهداها حبًا يجعلها تتغاضى عن كل ملاذ ومتع الحياة .
أما چيلان، فكانت تنظر حولها بملل، فتلك الأجواء لا تناسبها بتاتا ..
بينما نغم فكانت تجلس شاردة، عيناها ترمقان العروسين بحسرة، حيث يبدوان في غاية الانسجام والتناغم، يتراقصان والحب يتقافز من أعينهما ويكاد يصلها بمكانها، يتبادلان القبلات كل دقيقتين مرة، والعريس يعانق عروسه وكأنها أثمن كنز قد حصل عليه على الإطلاق.
غامت عيناها بدموع حاولت كبحها، أليس من حقها أن تحصل على لحظات كهذه يومًا ما؟ بما أنها لم تحقق يومًا شيئا مما اختاره قلبها، ولم تجرؤ على قول لا لأي شخص، وعاشت حياتها في دوامة أبديّة من التمنّي، وبقلْبٍ واقفٍ على أطراف الأصابع، تتمنى فُرصة، موقِف عابر يرفعها عاليًا من فرط السعادة، شخص يهديها وردة، يشاركها رقصة، يزيل دمعتها، يهديها عناقًا دافئًا ويحيط قلبها المذعور بذراعيه، يخبرها كم هي جميلة، وأنها أحلى نساء العالم بعينيه. ولكن كل هذه ظلت في النهاية أمنيات، تعلم جيدًا أنها لن تتحقق.
امتلأت عينيها بالدموع وهي تقر في قرارة نفسها أنها لن تعيش أشياءً مثل هذه أبدًا، هي حتى أبعد من أن تحلم بها.
فها هي في كل مرة ترغم على القبول بشيءٍ لا رغبة لها فيه، لذا عليها أن تتوقف عن الأحلام وتهبط من سماء أمنياتها إلى أرض الواقع المرير .
أزالت دمعتها سريعا لكي لا تفسد زينتها، وحتى لا يلاحظها أيًا مما يجلسون حولها، ولم تكن تعلم أنها قد تأخرت كثيرا، فهو لم يحد عن عيناها الجميلتين أبدًا، منذ الوهلة الأولى عندما جلسوا حول تلك الطاولة، وبالرغم من أنه جاهد لئلا ينظر إليها ولكنه لا يجد نفسه إلا وهو غارقًا في عينيها اللتين تفيضان بالحزن في كل آن، وبالطبع لم يغفل عن تلك الدمعة التي تم وأدها سريعا، وود في تلك اللحظة لو كان بقربها وترك لها مكانها قبلة، وأخبرها أن الأمر سيزول.. وضمها إليه بكل ما أوتي من قوة..
اللعنة… ما ذلك التفكير المنحرف يا فريد ؟ لقد تأخرت كثيرا.. كثيرا جدا.
صرف انتباهه عنها بقدر الإمكان وحاول الانشغال بتلك الأجواء من حوله، إلى أن وقعت عينيه على العروسين العاشقين، وللحظة رأى نفسه يشرد بهما وهو يفكر بدوره، ما سر ذلك التناغم العجيب؟ هل هو الحب؟ أم أن ثمة شيء أعمق يربطهما ؟!
ـ فريد..
انتبه على وخزة بكتفه من اصبع شقيقه، فنظر إليه منتبهًا، ثم هز رأسه مستفهمًا بصمت، فأشار عمر نحو نغم وهو يقول:
ـ قوم ارقص مع نغم.
ارتفع حاجبي فريد بتعجب، لا بل بذهول، هذا الغبي ماذا يطلب منه؟ أن يراقص الفتاة التي كان يقول بالأمس أنها حبيبته وستكون خطيبته ؟!
لم يعد الأمر مفهومًا أبدًا بالنسبة له، لذا تراجع حاجبيه باستياء، وتهدل كتفيه وهو يطلق زفرةً مهمومة، ثم تمتم بخفوت:
ـ بطل سخافة .
ليتابع عمر بإصرار :
ـ بجد مش بهزر، مش شايفها قاعدة حزينة إزاي؟
واستطرد وهو يتصنع الحزن ويقول :
ـ أكيد لأنها نفسها ترقص معايا وأنا متنيل مش عارف أرقص معاها بسبب رجليا، أرجوك ممكن ترقص معاها انت؟
أدار فريد وجهه وزفر مطولا بنفاذ صبر، فالأمر قد فاق كل الحدود ، وتخطى كل المحظورات.
ذلك اللعين! المعتوه.. كيف يفكر ؟ ما كل هذه الثقة التي يتحدث بها؟ كيف يمكنه أن يكون غافلا عن نظرة الفقد بعينيها إلى هذا الحد ؟ وكيف يدعي أنه يحبها ومتيمًا بها إذًا وهو لم ينجح في تفسير نظرتها ـ الواضحة للأعمى ـ بطريقة صحيحة ؟!
تلك النظرة الباكية أكبر من كونها نظرة، أكبر من رغبتها في الرقص معه، تلك النظرة تملؤها الحسرة على أشياء فاتتها، وأشياء لم تفتها ولكنها لن تعيشها لسبب أو لآخر، كيف لم يستطع تفسيرها؟ أي حب هذا ؟!
نظر إليه عمر وقال:
ـ يلا بقا متبقاش غتت..
ـ عمر.. أنا على أخري .. لو سمحت اسكت خالص .
ـ يا عم يلا ما الدنيا هنا حلوة أهو، إحنا في أثينا مش في كوم الأشراف، يعني محدش هيبلغ الخبر للباشا متقلقش!
وقبل أن يعترض فريد من جديد، تحدث عمر قائلا :
ـ نغم.. فريد هيرقص معاكي..
قالها عمر بطريقة جذبت انتباه جميع الجالسين على الطاولة، وأثارت تعجبهم وفضولهم، وجعلت نغم تحدق بهم بغير استيعاب!
ـ عمر بطل لعب العيال بتاعك ده …
قالها فريد وهو يضغط أحرفه بغيظ وتوتر، بينما تجاهله عمر وهو يقول:
ـ يلا يا نغم.
هنا علت صيحة مستنكرة من چيلان وقالت متعجبة من قول أخيها الأرعن:
ـ بجد يا عمر إنت بقيت لا تطاق، نغم مين اللي ترقص مع فريد؟ هي نغم بتعرف ترقص أصلا؟
بلمحة خاطفة، أدرك فريد كيف ابتلعت نغم الإهانة والتقليل من شأنها، وكيف تجاهلت كلام چيلان، لكنها لم تستطع تجاوز طلب عمر بعد!
نهض فجأة واقفًا، فارتسمت الدهشة على وجوه الجميع وهم يترقبون خطواته القادمة، ما عدا عينيها الجميلتين اللتين تهربان من مرمى نظره، تتجنبان لقائه خوفًا من أن تصيبها سهام عينيه فتتردى صريعة في الحال .
مد يده يغلق زر منتصف حلته السوداء الفاخرة، واستدار حول الطاولة وصولا لعندها، ثم وقف أمامها تمامًا ومد يده إليها بلطفٍ صامت.
تعلقت عيناها به بضياع، ثم جالت على أوجه الناظرين حولها، وتبينت مشاعر كل واحد منهم على حدة، حيث لم يفلح أيا منهم في إخفاء مشاعره تلك اللحظة..
هناك مثلا كان يجلس عمر متحمسًا والابتسامة تعلو وجهه وتصل لأذنيه، بجواره چيلان المتحفزة الغاضبة وعينيها الزرقاوتين يتوهجان بضيقٍ وفضول، وبجوارها نسيم التي تبتسم ببشاشة وكأنها تنتظر تلك اللحظة منذ زمن!
وفي النهاية نظرت إليه وذلك الألَق البارق يفيض من عينيها البنيتين اللتان جعلتاه يرزح تحت وطأتهما، فرأته يهز رأسه باستفهام، وإن كانت تعرفه ولو بقدر ضئيل فيمكنها معرفة أنه الآن متوتر بشدة، لذا لم تترك كفه الممدود إليها فارغًا لفترة أطول، بل استجابت لنداء قلبها المتخاذل ووضعت كفها الرقيق بكفه ..
كفه الذي احتواها كليًا، لم يحتوِ كفها فقط، مجرد أن انتقل دفء يده منه إليها شعرت بالحرارة تسري في جسدها، والدفء يتغلغل منه إلى روحها، يتوقف في قلبها تمامًا، هل هذا هو الاحتواء الذين يتحدثون عنه؟! أن يحتويك أحدهم بلمسة؟ يحتوي روحك ويترسخ داخل ثناياك بلمسة؟ لا.. بكل تأكيد هذا ليس ما يسمى بالاحتواء..
هذا شعور لم يعرفون له اسمًا بعد.
شعور من نسيجهما هما فقط، ذبذبات خاصة هما من اخترعاها وكانا هما أول من يخضعان لتطبيقها.
تنهد تنهيدة حارة وهو يستقبل دفء يدها الذي سرى في جسده كما تسري الكهرباء ، وحثها على النهوض بأن رفع كفه الذي يقبض على كفها للأعلى فاستجابت له ونهضت، قادها نحو ساحة الرقص، حيث سيشارك كل ثنائي بالحفل رقصةً رومانسية مع العروسين.
سارت إلى جواره وهو ممسكًا يدها اليمنى بيده اليسرى ويرفعها قليلا، ورافقها نحو المسرح وهو يملأ صدره بالزهو لكونها جواره.
عليه أن يعيش تلك اللحظات التي ربما لن تعوض ثانية.
وصلا إلى الساحة المخصصة للرقص، اتخذا مكانهما ووقفا يطالعان بعضهما بصمت، إلى أن قطعته هي وتحدثت بتوتر وهي تشيح بنظرها بعيدا عن عينيه:
ـ أنا.. أنا مش بعرف أرقص لكن اتكسفت أقول كده قدامهم .
أومأ بهدوء ولاح على شفتيه شبح ابتسامة ثم قال بصوته الذي يشبه في دفئه لمسته:
ـ عارف..
وتابع بنبرةٍ رخيمة:
ـ متقلقيش الموضوع بسيط.. اعملي اللي هقولك عليه.
أومأت بتوتر وهي تشعر بالصقيع يغلف نبضاتها، فنظر إليها وقال جاذبًا انتباهها، وقلبها:
ـ أهم حاجة عينيكي معايا..
رفرفت بأهدابها مرارا بتوتر ما لبث أن ازداد، وفجأة شعرت بيده ترتكز أعلى منتصف ظهرها، فتيبست واهتز قلبها، ارتعشت أطرافها برفق تحت لمسة يده، وارتفعت دقات قلبها كأنها تريد الهرب من صدرها .
ثم تنهدت بطريقة أوحت له بمدى توترها، لم تستطع الهروب حينها من حصار عينيه ورضخت لرغبته دون وعي، فرأت مقلتيه تتحركان لليسار فنظرت تلقائيا حيث ينظر، فرأته يرفع يدها اليمنى لمستوى ذراعه، ويمسك بها بلطف، ثم قال بهدوء وهو لايزال ينظر إليها:
ـ ايدك الشمال على كتفي.
أسندت يدها على كتفه كما أخبرها، فرأته يوميء برأسه بتأييد، ثم أخذ نفسًا عميقًا يريد به أن يُخرس ضجيج عقله الذي يفسد عليه متعته بوجودها بذلك القرب منه.
انطلقت موسيقى أغنية رومانسية باسم " لقد وجدتُ الحب " وأخذ كلا منهما نفسًا عميقًا ثم أطلقا جسديهما للموسيقى تسوقهما بأنغامها حيث شاءت.
كان يدفع يدها برفق في الاتجاه الذي يريد أن يسلكه، ويحرك جسده أيضا في نفس الاتجاه، بينما هي بين يديه كالفتاة المطيعة تستجيب لحركة يده وجسده، يتبعان الموسيقى ويتحركان على الإيقاع وكأنهما رقصا سويًا آلاف المرات.
لقد وجدت الحب بالنسبة لي
I found a love for me
أوه، عزيزتي، فقط قومي بالغوص واتبع خطواتي
Oh, darling, just dive right in and follow my lead
حسنًا، لقد وجدت فتاة جميلة وحلوة
Well, I found a girl, beautiful and sweet
أوه، لم أكن أعلم أبدًا أنك الشخص الذي ينتظرني
Oh, I never knew you were the someone waitin' for me
لأننا كنا مجرد أطفال عندما وقعنا في الحب، ولم نكن نعرف ما هو
'Cause we were just kids when we fell in love, not knowin' what it was
لن أتخلى عنك هذه المرة
I will not give you up this time
أوه، عزيزتي، فقط قبليني ببطء، قلبك هو كل ما أملكه
Oh, darling, just kiss me slow, your heart is all I own
وفي عينيك، أنت تحملني
And in your eyes, you're holding mine
حبيبتي، أنا أرقص في الظلام وأنت بين ذراعي
Baby, I'm dancin' in the dark with you between my arms
انفصلا تمامًا عن الواقع المحيط بهما، وغرقا سويًا في حالة من التناغم، ونظراتهما تحكي الكثير والكثير مما يعتريه قلب كلا منهما.
ذاب قلبها أمام نظراته، وأسرت لمحة الدفء بعينيها قلبه..
يا إلهي.. إنه يمسك بيدها الآن، يتراقصان في مشهد آسر، عصيّ عن الوصف، يتحركان سويا بخفة وكأنهما جسد واحد، ضاربًا بشكوكه وهواجسه ووسواسه القهري عرض الحائط، لا يهم ما يشعر به من توتر وارتباك لأنه لأول مرة يرقص معها ويكون قريبا منها بذلك الشكل، كل ما يهمه الآن أنها بين يديه، يسرق منها لحظة، يسرق من عينيها نظرة، ومن يدها لمسة دافئة..
عندما قلت أنك تبدو في حالة من الفوضى، همست تحت أنفاسي
When you said you looked a mess, I whispered underneath my breath
لكنك سمعتها، "عزيزتي، تبدو مثالية الليلة"
But you heard it, "Darling, you look perfect tonight"
حسنًا، لقد وجدت امرأة أقوى من أي شخص أعرفه
Well, I found a woman, stronger than anyone I know
إنها تشاركني أحلامي، وآمل أن أشاركها منزلها يومًا ما
She shares my dreams, I hope that someday, I'll share her home
لقد وجدت حبًا يحمل أكثر من مجرد أسراري
I found a love to carry more than just my secrets
أن نحمل الحب، أن نحمل أطفالنا
To carry love, to carry children of our own
ما زلنا أطفالًا، لكننا واقعون في الحب، ونقاتل ضد كل الصعاب
We are still kids, but we're so in love, fightin' against all odds
أعلم أننا سنكون بخير هذه المرة
I know we'll be alright this time
عزيزتي، فقط أمسكي بيدي، كوني فتاتي، سأكون رجلك
Darling, just hold my hand, be my girl, I'll be your man
أرى مستقبلي في عينيك
I see my future in your eyes
أوه، يا عزيزي، أنا أرقص في الظلام معك بين ذراعي
Oh, baby, I'm dancin' in the dark with you between my arms
تراجع خطوة للوراء وحمل ذراعها اليسرى في الهواء ووجهها للدوران فدارت حول نفسها دورةً تحررت معها من كل آلامها، فتلقاها مجددا بين يديه وأكملا رقصتهما وهما يتبادلان النظرات المشبعة بالشغف.
أراد لو أنه قال لها كوني لي، لأجلي، ظلي بين ذراعيّ للأبد.
أرادت أن ترجوه أن يخطفها من هذا العالم الظالم ويجعلها له، لن تمانع أبدا..
قلبه قال لها ابقِ ، كوني لي نغم.. أريدك أنتِ وليس سواكِ.. لم أرغب في إمرأة كما رغبت فيكِ..
وقلبها أجابه أنقذني فريد، حررني من قيودي واجعلني لك وحدك.. أريدك أنت وليس سواك.. لم ولن أرغب في رجل كما رغبتُ فيك ..
حين انتهت الرقصة، ظل فريد ونغم واقفين للحظة، وكأن العالم بأسره اختفى حولهما، ولم يبق سوى أنفاسهما المتلاحقة ونظراتهما المشحونة بالشغف. تصفيق الحاضرين بدأ يتصاعد تدريجيًا، لكنه بدا بعيدًا عنهما، مجرد صوت بعيد يقتحم صمت اللحظة الخاصة بينهما.
أمسك فريد بيدها برفق وهو يبتسم، لكن ابتسامته كانت مشوبة بالرهبة من شدة ما شعر به، بينما نغم شعرت بدفء قلبها يتسارع، وكأن كل نبضة منه تُخبرها أنها لا تريد أن تنتهي هذه اللحظة أبدًا.
ببطء تراجع الحضور، والتقط العروسان الأنفاس، لكن فريد ونغم ظلّا يتبادلان نظرات مليئة بالكلمات غير المنطوقة: حب، شوق، ألم، أمل. كان كل منهما يشعر بأن هذه الرقصة لم تكن مجرد حركة على إيقاع الموسيقى، بل كانت إعلانًا صامتًا عن مشاعر دفينة، عن رغبة في البقاء معًا رغم كل القيود والحواجز.
༺═──────────────═༻
#يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق